مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم

هداية القرآن

[هِدَايَةُ الْقُرْآنِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَإِلَهُ الْمُرْسَلِينَ، وَقَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ، الْفَارِقُ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَالشَّكِّ وَالْيَقِينِ، أَنْزَلَهُ لِنَقْرَأَهُ تَدَبُّرًا، وَنَتَأَمَّلَهُ تَبَصُّرًا، وَنَسْعَدَ بِهِ تَذَكُّرًا، وَنَحْمِلَهُ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِهِ وَمَعَانِيهِ، وَنُصَدِّقَ بِهِ وَنَجْتَهِدَ عَلَى إِقَامَةِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَنَجْتَنِي ثِمَارَ عُلُومِهِ النَّافِعَةِ الْمُوصِلَةِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ أَشْجَارِهِ، وَرَيَاحِينَ الْحِكَمِ مِنْ بَيْنِ رِيَاضِهِ وَأَزْهَارِهِ، فَهُوَ كِتَابُهُ الدَّالُّ عَلَيْهِ لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَتَهُ، وَطَرِيقُهُ الْمُوَصِّلَةُ لِسَالِكِهَا إِلَيْهِ، وَنُورُهُ الْمُبِينُ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَرَحْمَتُهُ الْمُهْدَاةُ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالسَّبَبُ الْوَاصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ إِذَا انْقَطَعَتِ الْأَسْبَابُ، وَبَابُهُ الْأَعْظَمُ الَّذِي مِنْهُ الدُّخُولُ، فَلَا يُغْلَقُ إِذَا غُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا تَمِيلُ بِهِ الْآرَاءُ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَالنُّزُلُ الْكَرِيمُ الَّذِي لَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلَا تُقْلِعُ سَحَائِبُهُ، وَلَا تَنْقَضِي آيَاتُهُ، وَلَا تَخْتَلِفُ دِلَالَاتُهُ، كُلَّمَا ازْدَادَتِ الْبَصَائِرُ فِيهِ تَأَمُّلًا وَتَفْكِيرًا، زَادَهَا هِدَايَةً وَتَبْصِيرًا، وَكُلَّمَا بَجَسَتْ مَعِينُهُ فَجَّرَ لَهَا يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ تَفْجِيرًا، فَهُوَ نُورُ الْبَصَائِرِ مِنْ عَمَاهَا، وَشِفَاءُ الصُّدُورِ مِنْ أَدْوَائِهَا وَجَوَاهَا، وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ، وَلَذَّةُ النُّفُوسِ، وَرِيَاضُ الْقُلُوبِ، وَحَادِي الْأَرْوَاحِ إِلَى بِلَادِ الْأَفْرَاحِ، وَالْمُنَادِي بِالْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ: يَا أَهْلَ الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، نَادَى مُنَادِي الْإِيمَانِ عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31] .

أَسْمَعَ وَاللَّهِ لَوْ صَادَفَ آذَانًا وَاعِيَةً، وَبَصَّرَ لَوْ صَادَفَ قُلُوبًا مِنَ الْفَسَادِ خَالِيَةً، لَكِنْ عَصَفَتْ عَلَى الْقُلُوبِ هَذِهِ الْأَهْوَاءُ فَأَطْفَأَتْ مَصَابِيحَهَا، وَتَمَكَّنَتْ مِنْهَا آرَاءُ الرِّجَالِ فَأَغْلَقَتْ أَبْوَابَهَا وَأَضَاعَتْ مَفَاتِيحَهَا، وَرَانَ عَلَيْهَا كَسْبُهَا فَلَمْ تَجِدْ حَقَائِقُ الْقُرْآنِ إِلَيْهَا مَنْفَذًا، وَتَحَكَّمَتْ فِيهَا أَسْقَامُ الْجَهْلِ فَلَمْ تَنْتَفِعْ مَعَهَا بِصَالِحِ الْعَمَلِ. وَا عَجَبًا لَهَا! كَيْفَ جَعَلَتْ غِذَاءَهَا مِنْ هَذِهِ الْآرَاءِ الَّتِي لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وَلَمْ تَقْبَلِ الِاغْتِذَاءَ بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَنُصُوصِ حَدِيثِ نَبِيِّهِ الْمَرْفُوعِ، أَمْ كَيْفَ اهْتَدَتْ فِي ظُلَمِ الْآرَاءِ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ، وَخَفِيَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ مِنَ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ؟ . وَاعَجَبًا! كَيْفَ مَيَّزَتْ بَيْنَ صَحِيحِ الْآرَاءِ وَسَقِيمِهَا، وَمَقْبُولِهَا وَمَرْدُودِهَا، وَرَاجِحِهَا وَمَرْجُوحِهَا، وَأَقَرَّتْ عَلَى أَنْفُسِهَا بِالْعَجْزِ عَنْ تَلَقِّي الْهُدَى وَالْعِلْمِ مِنْ كَلَامِ مَنْ كَلَامُهُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ الْكَفِيلُ بِإِيضَاحِ الْحَقِّ مَعَ غَايَةِ الْبَيَانِ وَكَلَامِ مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاسْتَوْلَى كَلَامُهُ عَلَى الْأَقْصَى مِنَ الْبَيَانِ؟ . كَلَّا، بَلْ هِيَ وَاللَّهِ فِتْنَةٌ أَعْمَتِ الْقُلُوبَ عَنْ مَوَاقِعِ رُشْدِهَا، وَحَيَّرَتِ الْعُقُولَ عَنْ طَرَائِقِ قَصْدِهَا، يُرَبَّى فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ. وَظَنَّتْ خَفَافِيشُ الْبَصَائِرِ أَنَّهَا الْغَايَةُ الَّتِي يَتَسَابَقُ إِلَيْهَا الْمُتَسَابِقُونَ، وَالنِّهَايَةُ الَّتِي تَنَافَسَ فِيهَا الْمُنَافِسُونَ، وَتَزَاحَمُوا عَلَيْهَا، وَهَيْهَاتَ، أَيْنَ السُّهَى مِنْ شَمْسِ الضُّحَى؟ وَأَيْنَ الثَّرَى مِنْ كَوَاكِبِ الْجَوْزَاءِ؟ وَأَيْنَ الْكَلَامُ الَّذِي لَمْ تُضْمَنْ لَنَا عِصْمَةُ قَائِلِهِ بِدَلِيلٍ مَعْلُومٍ، مِنَ النَّقْلِ الْمُصَدَّقِ عَنِ الْقَائِلِ الْمَعْصُومِ؟ وَأَيْنَ الْأَقْوَالُ الَّتِي أَعَلَا دَرَجَاتِهَا أَنْ تَكُونَ سَائِغَةَ الِاتِّبَاعِ، مِنَ النُّصُوصِ الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ تَقْدِيمُهَا وَتَحْكِيمُهَا وَالتَّحَاكُمُ إِلَيْهَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ؟ وَأَيْنَ الْآرَاءُ الَّتِي نَهَى قَائِلُهَا عَنْ تَقْلِيدِهِ فِيهَا وَحَذَّرَ، مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي فَرَضَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَهْتَدِيَ بِهَا وَيَتَبَصَّرَ؟ وَأَيْنَ الْمَذَاهِبُ الَّتِي إِذَا مَاتَ أَرْبَابُهَا فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ، مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي لَا تَزُولُ إِذَا زَالَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ؟ سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا حُرِمَ الْمُعْرِضُونَ عَنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ، وَاقْتِبَاسِ الْعِلْمِ مِنْ مِشْكَاتِهِ مِنْ كُنُوزِ الذَّخَائِرِ؟ ! وَمَاذَا فَاتَهُمْ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَاسْتِنَارَةِ الْبَصَائِرِ؟ قَنَعُوا بِأَقْوَالٍ اسْتَنْبَطَتْهَا مَعَاوِلُ الْآرَاءِ فِكْرًا، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا زُبُرًا، وَأَوْحَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، فَاتَّخَذُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقُرْآنَ مَهْجُورًا. دَرَسَتْ مَعَالِمُ الْقُرْآنِ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَيْسُوا يَعْرِفُونَهَا، وَدُثِرَتْ مَعَاهِدُهُ عِنْدَهُمْ فَلَيْسُوا يَعْمُرُونَهَا، وَوَقَعَتْ أَلْوِيَتُهُ وَأَعْلَامُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَلَيْسُوا يَرْفَعُونَهَا، وَأَفَلَتْ كَوَاكِبُهُ النَّيِّرَةُ مِنْ

آفَاقِ نُفُوسِهِمْ فَلِذَلِكَ لَا يُحِبُّونَهَا، وَكَسَفَتْ شَمْسُهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ ظُلَمِ آرَائِهِمْ وَعَقْدِهَا فَلَيْسُوا يُبْصِرُونَهَا. خَلَعُوا نُصُوصَ الْوَحْيِ عَنْ سُلْطَانِ الْحَقِيقَةِ، وَعَزَلُوهَا عَنْ وِلَايَةِ الْيَقِينِ، وَشَنُّوا عَلَيْهَا غَارَاتِ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، فَلَا يَزَالُ يَخْرُجُ عَلَيْهَا مِنْ جُيُوشِهِمْ كَمِينٌ بَعْدَ كَمِينٍ، نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ نُزُولَ الضَّيْفِ عَلَى أَقْوَامٍ لِئَامٍ، فَعَامَلُوهَا بِغَيْرِ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَتَلَقَّوْهَا مِنْ بَعِيدٍ، وَلَكِنْ بِالدَّفْعِ فِي صُدُورِهَا وَالْأَعْجَازِ، وَقَالُوا: مَا لَكِ عِنْدَنَا مِنْ عُبُورٍ، وَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ، فَعَلَى سَبِيلِ الِاجْتِيَازِ، أَنْزَلُوا النُّصُوصَ مَنْزِلَةَ الْخَلِيفَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، لَهُ السَّكَّةُ وَالْخُطْبَةُ وَمَا لَهُ حُكْمٌ نَافِذٌ وَلَا سُلْطَانٌ، الْمُتَمَسِّكُ عِنْدَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ صَاحِبُ ظَوَاهِرَ، مَبْخُوسٌ حَظُّهُ مِنَ الْمَعْقُولِ، وَالْمُقَلِّدُ لِلْآرَاءِ الْمُتَنَاقِضَةِ الْمُتَعَارِضَةِ وَالْأَفْكَارِ الْمُتَهَافِتَةِ لَدَيْهِمْ هُوَ الْفَاضِلُ الْمَقْبُولُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، الْمُقَدِّمُونَ لِنُصُوصِهَا عَلَى غَيْرِهَا جُهَّالٌ لَدَيْهِمْ مَنْقُوصُونَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] . حُرِمُوا وَاللَّهِ الْوُصُولَ، بِعُدُولِهِمْ عَنْ مَنْهَجِ الْوَحْيِ، وَتَضْيِيعِهِمُ الْأُصُولَ، وَتَمسَّكُوا بِأَعْجَازٍ لَا صُدُورَ لَهَا، فَخَانَتْهُمْ أَحْرَصَ مَا كَانُوا عَلَيْهَا، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ أَسْبَابُهَا أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا، حَتَّى إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، وَتَمَيَّزَ لِكُلِّ قَوْمٍ حَاصِلُهُمُ الَّذِي حَصَّلُوهُ، وَانْكَشَفَتْ لَهُمْ حَقِيقَةُ مَا اعْتَقَدُوهُ، وَقَدِمُوا عَلَى مَا قَدَّمُوهُ {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] وَسَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ عِنْدَ الْحَصَادِ لَمَّا عَايَنُوا غَلَّةَ مَا بَذَرُوهُ. فَيَا شِدَّةَ الْحَسْرَةِ عِنْدَمَا يُعَايِنُ الْمُبْطِلُ سَعْيَهُ وَكَدَّهُ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَيَا عُظْمَ الْمُصِيبَةِ عِنْدَمَا يَتَبَيَّنُ بَوَارِقَ أَمَانِيهِ خُلَّبًا، وَآمَالَهُ كَاذِبَةً غُرُورًا، فَمَا ظَنُّ مَنِ انْطَوَتْ سَرِيرَتُهُ عَلَى الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ لِلْآرَاءِ بِرَبِّهِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ؟ وَعُذْرُ مَنْ نَبَذَ الْوَحْيَيْنِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فِي يَوْمٍ لَا تَنْفَعُ الظَّالِمِينَ فِيهِ الْمَعَاذِرُ؟ أَفَيَظُنُّ الْمُعْرِضُ عَنْ كِتَابِ رَبِّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ رَبِّهِ بِآرَاءِ الرِّجَالِ؟ أَوْ يَتَخَلَّصَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ بِكَثْرَةِ الْبُحُوثِ وَالْجِدَالِ، وَضُرُوبِ الْأَقْيِسَةِ وَتَنَوُّعِ الْأَشْكَالِ؟ أَوْ بِالْإِشَارَاتِ وَالشَّطَحَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْخَيَالِ؟

هَيْهَاتَ وَاللَّهِ، لَقَدْ ظَنَّ أَكْذَبَ الظَّنِّ، وَمَنَّتْهُ نَفْسُهُ أَبْيَنَ الْمُحَالِ، وَإِنَّمَا ضُمِنَتِ النَّجَاةُ لِمَنْ حَكَّمَ هُدَى اللَّهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَتَزَوَّدَ التَّقْوَى وَائْتَمَّ بِالدَّلِيلِ، وَسَلَكَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْوَحْيِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَبَعْدُ، فَلَمَّا كَانَ كَمَالُ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا هُوَ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُمَا الْهُدَى وَدِينُ الْحَقِّ، وَبِتَكْمِيلِهِ لِغَيْرِهِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ خَاسِرٌ إِلَّا مَنْ كَمَّلَ قُوَّتَهُ الْعِلْمِيَّةَ بِالْإِيمَانِ، وَقُوَّتَهُ الْعَمَلِيَّةَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَكَمَّلَ غَيْرَهُ بِالتَّوْصِيَةِ بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ، فَالْحَقُّ هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ، وَلَا يَتِمَّانِ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَيْهِمَا، وَالتَّوَاصِي بِهِمَا كَانَ حَقِيقًا بِالْإِنْسَانِ أَنْ يُنْفِقَ سَاعَاتِ عُمْرِهِ بَلْ أَنْفَاسَهُ فِيمَا يَنَالُ بِهِ الْمَطَالِبَ الْعَالِيَةَ، وَيَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَاسْتِخْرَاجِ كُنُوزِهِ وَإِثَارَةِ دَفَائِنِهِ، وَصَرْفِ الْعِنَايَةِ إِلَيْهِ، وَالْعُكُوفِ بِالْهِمَّةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ الْكَفِيلُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَالْمُوَصِّلُ لَهُمْ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ، فَالْحَقِيقَةُ وَالطَّرِيقَةُ، وَالْأَذْوَاقُ وَالْمَوَاجِيدُ الصَّحِيحَةُ، كُلُّهَا لَا تُقْتَبَسُ إِلَّا مِنْ مِشْكَاتِهِ، وَلَا تُسْتَثْمَرُ إِلَّا مِنْ شَجَرَاتِهِ. وَنَحْنُ بِعَوْنِ اللَّهِ نُنَبِّهُ عَلَى هَذَا بِالْكَلَامِ عَلَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَأُمِّ الْقُرْآنِ، وَعَلَى بَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَطَالِبِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَمَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ وَسَائِلِهَا وَغَايَاتِهَا، وَمَوَاهِبِهَا وَكَسْبِيَّاتِهَا، وَبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُ هَذِهِ السُّورَةِ مَقَامَهُا، وَلَا يَسُدُّ مَسَدَّهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ الْتُكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

اشتمال الفاتحة على أمهات المطالب

[اشْتِمَالُ الْفَاتِحَةِ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمَطَالِبِ] اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ أَتَمَّ اشْتِمَالٍ، وَتَضَمَّنَتْهَا أَكْمَلَ تَضَمُّنٍ. فَاشْتَمَلَتْ عَلَى التَّعْرِيفِ بِالْمَعْبُودِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ، مَرْجِعُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلْيَا إِلَيْهَا، وَمَدَارُهَا عَلَيْهَا، وَهِيَ: اللَّهُ، وَالرَّبُّ، وَالرَّحْمَنُ، وَبُنِيَتِ السُّورَةُ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ، وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَالرَّحْمَةِ، فَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ، {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ، وَطَلَبُ الْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، وَالْحَمْدُ يَتَضَمَّنُ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ، فَهُوَ الْمَحْمُودُ فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَالثَّنَاءُ وَالْمَجْدُ كَمَالَانِ لِجَدِّهِ. وَتَضَمَّنَتْ إِثْبَاتَ الْمَعَادِ، وَجَزَاءَ الْعِبَادِ بِأَعْمَالِهِمْ، حَسَنِهَا وَسَيِّئِهَا، وَتَفَرُّدَ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْحُكْمِ إِذْ ذَاكَ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَكَوْنَ حُكْمِهِ بِالْعَدْلِ، وَكُلُّ هَذَا تَحْتَ قَوْلِهِ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] . وَتَضَمَّنَتْ إِثْبَاتَ النُّبُوَّاتِ مِنْ جِهَاتٍ عَدِيدَةٍ: أَحَدُهَا: كَوْنُهُ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَلَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَتْرُكَ عِبَادَهُ سُدًى هَمَلًا لَا يُعَرِّفُهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ فِيهِمَا، فَهَذَا هَضْمٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَنِسْبَةُ الرَّبِّ تَعَالَى إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَمَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ نَسَبَهُ إِلَيْهِ.

الثَّانِي: أَخْذُهَا مِنَ اسْمِ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَأْلُوهُ الْمَعْبُودُ، وَلَا سَبِيلَ لِلْعِبَادِ إِلَى مَعْرِفَةِ عِبَادَتِهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ رُسُلِهِ. الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: مِنِ اسْمِهِ الرَّحْمَنِ فَإِنَّ رَحْمَتَهُ تَمْنَعُ إِهْمَالَ عِبَادِهِ، وَعَدَمَ تَعْرِيفِهِمْ مَا يَنَالُونَ بِهِ غَايَةَ كَمَالِهِمْ، فَمَنْ أَعْطَى اسْمَ الرَّحْمَنِ حَقَّهُ عَرَفَ أَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، أَعْظَمَ مِنْ تَضَمُّنِهِ إِنْزَالَ الْغَيْثِ، وَإِنْبَاتَ الْكَلَأِ، وَإِخْرَاجَ الْحَبِّ، فَاقْتِضَاءُ الرَّحْمَةِ لِمَا تَحْصُلُ بِهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ أَعْظَمُ مِنِ اقْتِضَائِهَا لِمَا تَحْصُلُ بِهِ حَيَاةُ الْأَبْدَانِ وَالْأَشْبَاحِ، لَكِنِ الْمَحْجُوبُونَ إِنَّمَا أَدْرَكُوا مِنْ هَذَا الِاسْمِ حَظَّ الْبَهَائِمِ وَالدَّوَابِّ، وَأَدْرَكَ مِنْهُ أُولُو الْأَلْبَابِ أَمْرًا وَرَاءَ ذَلِكَ. الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ: مِنْ ذِكْرِ يَوْمِ الدِّينِ فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يُدِينُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِيهِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَيُثِيبُهُمْ عَلَى الْخَيْرَاتِ، وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ أحَدًا قَبْلَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَالْحُجَّةُ إِنَّمَا قَامَتْ بِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، وَبِهِمُ اسْتُحِقَّ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَبِهِمْ قَامَ سُوقُ يَوْمِ الدِّينِ، وَسِيقَ الْأَبْرَارُ إِلَى النَّعِيمِ، وَالْفُجَّارُ إِلَى الْجَحِيمِ. الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ: مِنْ قَوْلِهِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] فَإِنَّ مَا يُعْبَدُ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَعِبَادَتُهُ وَهِيَ شُكْرُهُ وَحُبُّهُ وَخَشْيَتُهُ فِطْرِيٌّ وَمَعْقُولٌ لِلْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، لَكِنَّ طَرِيقَ التَّعَبُّدِ وَمَا يُعْبَدُ بِهِ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا بِرُسُلِهِ وَبَيَانِهِمْ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الْعُقُولِ، يَسْتَحِيلُ تَعْطِيلُ الْعَالَمِ عَنْهُ، كَمَا يَسْتَحِيلُ تَعْطِيلُهُ عَنِ الصَّانِعِ، فَمَنْ أَنْكَرَ الرَّسُولَ فَقَدْ أَنْكَرَ الْمُرْسِلَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكُفْرَ بِرُسُلِهِ كُفْرًا بِهِ. الْمَوْضِعُ السَّادِسُ: مِنْ قَوْلِهِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فَالْهِدَايَةُ: هِيَ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ، ثُمَّ التَّوْفِيقُ وَالْإِلْهَامُ، وَهُوَ بَعْدَ الْبَيَانِ وَالدَّلَالَةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْبَيَانِ وَالدَّلَالَةِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ، فَإِذَا حَصَلَ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ وَالَتَّعْرِيفُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ، وَجَعْلُ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَتَحْبِيبُهُ إِلَيْهِ، وَتَزْيِينُهُ فِي الْقَلْبِ، وَجَعْلُهُ مُؤْثِرًا لَهُ، رَاضِيًا بِهِ، رَاغِبًا فِيهِ. وَهُمَا هِدَايَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ، لَا يَحْصُلُ الْفَلَاحُ إِلَّا بِهِمَا، وَهُمَا مُتَضَمِّنَتَانِ تَعْرِيفَ مَا لَمْ نَعْلَمْهُ مِنَ الْحَقِّ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا، وَإِلْهَامَنَا لَهُ، وَجَعْلَنَا مُرِيدِينَ لِاتِّبَاعِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، ثُمَّ خَلْقُ الْقُدْرَةِ لَنَا عَلَى الْقِيَامِ بِمُوجَبِ الْهُدَى بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْعَزْمِ، ثُمَّ إِدَامَةُ ذَلِكَ لَنَا وَتَثْبِيتُنَا عَلَيْهِ إِلَى الْوَفَاةِ. وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ اضْطِرَارُ الْعَبْدِ إِلَى سُؤَالِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ، وَبُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِذَا كُنَّا مُهْتَدِينَ، فَكَيْفَ نَسْأَلُ الْهِدَايَةَ؟ فَإِنَّ الْمَجْهُولَ لَنَا مِنَ الْحَقِّ أَضْعَافُ

الْمَعْلُومِ، وَمَا لَا نُرِيدُ فِعْلَهُ تَهَاوُنًا وَكَسَلًا مِثْلُ مَا نُرِيدُهُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ دُونَهُ، وَمَا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ مِمَّا نُرِيدُهُ كَذَلِكَ، وَمَا نَعْرِفُ جُمْلَتَهُ وَلَا نَهْتَدِي لِتَفَاصِيلِهِ فَأَمْرٌ يَفُوتُ الْحَصْرَ، وَنَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْهِدَايَةِ التَّامَّةِ، فَمَنْ كَمُلَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمُورُ كَانَ سُؤَالُ الْهِدَايَةِ لَهُ سُؤَالَ التَّثْبِيتِ وَالْوِئَامِ. وَلِلْهِدَايَةِ مَرْتَبَةٌ أُخْرَى وَهِيَ آخِرُ مَرَاتِبِهَا وَهِيَ الْهِدَايَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهَا، فَمَنْ هُدِيَ فِي هَذِهِ الدَّارِ إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، هُدِيَ هُنَاكَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الْمُوَصِّلِ إِلَى جَنَّتِهِ وَدَارِ ثَوَابِهِ، وَعَلَى قَدْرِ ثُبُوتِ قَدَمِ الْعَبْدِ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ يَكُونُ ثُبُوتُ قَدَمِهِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمَنْصُوبِ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَعَلَى قَدْرِ سَيْرِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّرَاطِ يَكُونُ سَيْرُهُ عَلَى ذَاكَ الصِّرَاطِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالطَّرْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرِّكَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى سَعْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبُو حَبْوًا، وَمِنْهُمُ الْمَخْدُوشُ الْمُسَلَّمُ، وَمِنْهُمُ الْمُكَرْدَسُ فِي النَّارِ، فَلْيَنْظُرِ الْعَبْدُ سَيْرَهُ عَلَى ذَلِكَ الصِّرَاطِ مِنْ سَيْرِهِ عَلَى هَذَا، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، جَزَاءً وِفَاقًا {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] . وَلْيَنْظُرِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تَعُوقُهُ عَنْ سَيْرِهِ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِنَّهَا الْكَلَالِيبُ الَّتِي بِجَنَبَتَيْ ذَاكَ الصِّرَاطِ، تَخْطَفُهُ وَتَعُوقُهُ عَنِ الْمُرُورِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَثُرَتْ هُنَا وَقَوِيَتْ فَكَذَلِكَ هِيَ هُنَاكَ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] . فَسُؤَالُ الْهِدَايَةِ مُتَضَمِّنٌ لِحُصُولِ كُلِّ خَيْرٍ، وَالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ شَرٍّ. الْمَوْضِعُ السَّابِعُ: مِنْ مَعْرِفَةِ نَفْسِ الْمَسْئُولِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَلَا تَكُونُ الطَّرِيقُ صِرَاطًا حَتَّى تَتَضَمَّنَ خَمْسَةَ أُمُورٍ: الِاسْتِقَامَةَ، وَالْإِيصَالَ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَالْقُرْبَ، وَسَعَتَهُ لِلْمَارِّينَ عَلَيْهِ، وَتَعَيُّنَهُ طَرِيقًا لِلْمَقْصُودِ، وَلَا يَخْفَى تَضَمُّنُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ.

فَوَصْفُهُ بِالِاسْتِقَامَةِ يَتَضَمَّنُ قُرْبَهُ، لِأَنَّ الْخَطَّ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ أَقْرَبُ خَطٍّ فَاصِلٍ بَيْنَ نُقْطَتَيْنِ، وَكُلَّمَا تَعَوَّجَ طَالَ وَبَعُدَ، وَاسْتِقَامَتُهُ تَتَضَمَّنُ إِيصَالَهُ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَنَصْبُهُ لِجَمِيعِ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ يَسْتَلْزِمُ سَعَتَهُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وَوَصْفُهُ بِمُخَالَفَةِ صِرَاطِ أَهْلِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ يَسْتَلْزِمُ تَعَيُّنَهُ طَرِيقًا. وَالصِّرَاطُ تَارَةً يُضَافُ إِلَى اللَّهِ، إِذْ هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ وَنَصَبَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 153] وَقَولِهِ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52] وَتَارَةً يُضَافُ إِلَى الْعِبَادِ كَمَا فِي الْفَاتِحَةِ، لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ سُلُوكِهِ، وَهُوَ الْمَنْسُوبُ لَهُمْ، وَهُمُ الْمَارُّونَ عَلَيْهِ. الْمَوْضِعُ الثَّامِنُ: مِنْ ذِكْرِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَتَمْيِيزِهِمْ عَنْ طَائِفَتَيِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ. فَانْقَسَمَ النَّاسُ بِحَسَبِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحَقِّ، وَإِمَّا جَاهِلًا بِهِ، وَالْعَالِمُ بِالْحَقِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِمُوجَبِهِ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ، فَهَذِهِ أَقْسَامُ الْمُكَلَّفِينَ لَا يَخْرُجُونَ عَنْهَا الْبَتَّةَ، فَالْعَالِمُ بِالْحَقِّ الْعَامِلُ بِهِ هُوَ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي زَكَّى نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُوَ الْمُفْلِحُ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] وَالْعَالِمُ بِهِ الْمُتَّبِعُ هَوَاهُ هُوَ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ، وَالْجَاهِلُ بِالْحَقِّ هُوَ الضَّالُّ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ ضَالٌّ عَنْ هِدَايَةِ الْعَمَلِ، وَالضَّالُّ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ لِضَلَالِهِ عَنِ الْعِلْمِ الْمُوجِبِ لِلْعَمَلِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا ضَالٌّ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ تَارِكَ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ أَوْلَى بِوَصْفِ الْغَضَبِ وَأَحَقُّ بِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ الْيَهُودُ أَحَقَّ بِهِ، وَهُوَ مُتَغَلِّظٌ فِي حَقِّهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90] وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60] وَالْجَاهِلُ بِالْحَقِّ أَحَقُّ بِاسْمِ الضَّلَالِ، وَمِنْ هُنَا وُصِفَتِ النَّصَارَى بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]

فَالْأُولَى فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ مَعَ الْيَهُودِ، وَالثَّانِيَةُ فِي سِيَاقِهِ مَعَ النَّصَارَى، وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَصَحِيحِ ابْنِ حَبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ» . فَفِي ذِكْرِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَاتَّبَعَهُ وَالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مَنْ عَرَفَهُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَالضَّالِّينَ وَهُمْ مَنْ جَهِلَهُ مَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، لِأَنَّ انْقِسَامَ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ هُوَ الْوَاقِعُ الْمَشْهُودُ، وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ إِنَّمَا أَوْجَبَهَا ثُبُوتُ الرِّسَالَةِ. وَأَضَافَ النِّعْمَةَ إِلَيْهِ، وَحَذَفَ فَاعِلَ الْغَضَبِ لِوُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنَّ النِّعْمَةَ هِيَ الْخَيْرُ وَالْفَضْلُ، وَالْغَضَبَ مِنْ بَابِ الِانْتِقَامِ وَالْعَدْلِ، وَالرَّحْمَةَ تَغْلِبُ الْغَضَبَ، فَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ أَكْمَلَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَسْبَقَهُمَا وَأَقْوَاهُمَا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي إِسْنَادِ الْخَيْرَاتِ وَالنِّعَمِ إِلَيْهِ، وَحَذْفِ الْفَاعِلِ فِي مُقَابَلَتِهِمَا، كَقَوْلِ مُؤْمِنِي الْجِنِّ {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَضِرِ فِي شَأْنِ الْجِدَارِ وَالْيَتِيمَيْنِ {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف: 82] وَقَالَ فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] وَقَوْلَهُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] وَقَوْلَهُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ثُمَّ قَالَ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] .

وَفِي تَخْصِيصِهِ لِأَهْلِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِالنِّعْمَةِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ النِّعْمَةَ الْمُطْلَقَةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْفَلَاحِ الدَّائِمِ، وَأَمَّا مُطْلَقُ النِّعْمَةِ فَعَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَكُلُّ الْخَلْقِ فِي نِعْمَةٍ، وَهَذَا فَصْلُ النِّزَاعِ فِي مَسْأَلَةِ: هَلْ لِلَّهِ عَلَى الْكَافِرِ مِنْ نِعْمَةٍ أَمْ لَا؟ . فَالنِّعْمَةُ الْمُطْلَقَةُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمُطْلَقُ النِّعْمَةِ تَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] . وَالنِّعْمَةُ مِنْ جِنْسِ الْإِحْسَانِ، بَلْ هِيَ الْإِحْسَانُ، وَالرَّبُّ تَعَالَى إِحْسَانُهُ عَلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَأَمَّا الْإِحْسَانُ الْمُطْلَقُ فَلِلَّذِينِ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالنِّعَمِ {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] فَأُضِيفَ إِلَيْهِ مَا هُوَ مُنْفَرِدٌ بِهِ، وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى غَيْرِهِ فَلِكَوْنِهِ طَرِيقًا وَمَجْرًى لِلنِّعْمَةِ، وَأَمَّا الْغَضَبُ عَلَى أَعْدَائِهِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى، بَلْ مَلَائِكَتُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ يَغْضَبُونَ لِغَضَبِهِ، فَكَانَ فِي لَفْظَةِ " {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] " بِمُوَافَقَةِ أَوْلِيَائِهِ لَهُ مِنَ الدِّلَالَةِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِنْعَامِ، وَأَنَّ النِّعْمَةَ الْمُطْلَقَةَ مِنْهُ وَحْدَهُ، هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِهَا مَا لَيْسَ فِي لَفْظَةِ " الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ ". الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِي حَذْفِ فَاعِلِ الْغَضَبِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِإِهَانَةِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، وَتَحْقِيرِهِ وَتَصْغِيرِ شَأْنِهِ مَا لَيْسَ فِي ذِكْرِ فَاعِلِ النِّعْمَةِ مِنْ إِكْرَامِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ وَالْإِشَادَةِ بِذِكْرِهِ، وَرَفْعِ قَدْرِهِ مَا لَيْسَ فِي حَذْفِهِ، فَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ قَدْ أَكْرَمَهُ مَلِكٌ وَشَرَّفَهُ وَرَفَعَ قَدْرَهُ، فَقُلْتَ: هَذَا الَّذِي أَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مَا تَمَنَّاهُ، كَانَ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ مِنْ قَوْلِكَ: هَذَا الَّذِي أُكْرِمَ وَخُلِعَ عَلَيْهِ وَشُرِّفَ وَأُعْطِيَ. وَتَأَمَّلْ سِرًّا بَدِيعًا فِي ذِكْرِ السَّبَبِ وَالْجَزَاءِ لِلطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَخْصَرِهِ، فَإِنَّ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ إِنْعَامَهُ بِالْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهِيَ الْهُدَى وَدِينُ الْحَقِّ، وَيَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْإِنْعَامِ بِحُسْنِ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ، فَهَذَا تَمَامُ النِّعْمَةِ، وَلَفْظُ " {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] " يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ. وَذِكْرُ غَضَبِهِ عَلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ أيْضًا أَمْرَيْنِ: الْجَزَاءُ بِالْغَضَبِ الَّذِي مُوجَبُهُ غَايَةُ الْعَذَابِ وَالْهَوَانِ، وَالسَّبَبُ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ غَضَبَهُ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ أَرْحَمُ وَأَرْأَفُ

فصل الصراط المستقيم

مِنْ أَنْ يَغْضَبَ بِلَا جِنَايَةٍ مِنْهُمْ وَلَا ضَلَالٍ، فَكَأَنَّ الْغَضَبَ عَلَيْهِمْ مُسْتَلْزِمٌ لِضَلَالِهِمْ، وَذِكْرُ الضَّالِّينَ مُسْتَلْزِمٌ لِغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ وَعِقَابِهِ لَهُمْ، فَإِنَّ مَنْ ضَلَّ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي هِيَ مُوجَبُ ضَلَالِهِ وَغَضَبِ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَاسْتَلْزَمَ وَصْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ لِلسَّبَبِ وَالْجَزَاءِ أَبْيَنَ اسْتِلْزَامٍ، وَاقْتَضَاهُ أَكْمَلَ اقْتِضَاءٍ فِي غَايَةِ الْإِيجَازِ وَالْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ، مَعَ ذِكْرِ الْفَاعِلِ فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَحَذْفِهِ فِي أَهْلِ الْغَضَبِ، وَإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى السَّبَبِ فِي أَهْلِ الضَّلَالِ. وَتَأَمَّلِ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الْهِدَايَةِ وَالنِّعْمَةِ، وَالْغَضَبِ وَالضَّلَالِ، فَذِكْرُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُهْتَدِينَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، يَقْرِنُ بَيْنَ الضَّلَالِ وَالشَّقَاءِ، وَبَيْنَ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ، فَالثَّانِي كَقَوْلِهِ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] وَقَوْلِهِ {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] وَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] وَقَوْلِهِ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7] وَقَدْ جَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ فِي قَوْلِهِ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] فَهَذَا الْهُدَى وَالسَّعَادَةُ، ثُمَّ قَالَ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124] فَذَكَرَ الضَّلَالَ وَالشَّقَاءَ. فَالْهُدَى وَالسَّعَادَةُ مُتَلَازِمَانِ، وَالضَّلَالُ وَالشَّقَاءُ مُتَلَازِمَانِ. [فَصْلٌ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ] فَصْلٌ وَذَكَرَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ مُفْرَدًا مُعَرَّفًا تَعْرِيفَيْنِ: تَعْرِيفًا بِاللَّامِ، وَتَعْرِيفًا بِالْإِضَافَةِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ تَعَيُّنَهُ وَاخْتِصَاصَهُ، وَأَنَّهُ صِرَاطٌ وَاحِدٌ، وَأَمَّا طُرُقُ أَهْلِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَجْمَعُهَا وَيُفْرِدُهَا، كَقَوْلِهِ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فَوَحَّدَ لَفْظَ الصِّرَاطِ وَسَبِيلِهِ، وَجَمَعَ السُّبُلَ الْمُخَالِفَةَ لَهُ،

«وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا، وَقَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَقَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] » وَهَذَا لِأَنَّ الطَّرِيقَ الْمُوَّصِلَ إِلَى اللَّهِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، لَا يَصِلُ إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَلَوْ أَتَى النَّاسُ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ، وَاسْتَفْتَحُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ، فَالطُّرُقُ عَلَيْهِمْ مَسْدُودَةٌ، وَالْأَبْوَابُ عَلَيْهِمْ مُغَلَّقَةٌ إِلَّا مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ الْوَاحِدِ، فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِاللَّهِ، مُوَصِّلٌ إِلَى اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41] قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ صِرَاطٌ إِلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ إِقَامَةِ الْأَدَوَاتِ بَعْضِهَا مَقَامَ بَعْضٍ، فَقَامَتْ أَدَاةُ " عَلَى " مَقَامَ " إِلَى "، وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ التَّفْسِيرَ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِطَرِيقِ السَّلَفِ، أَيْ صِرَاطٌ مُوَّصِلٌ إِلَيَّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَقُّ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ، لَا يُعَرَّجُ عَلَى شَيْءٍ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ

الْحَسَنِ وَأَبْيَنُ مِنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَصَحِّ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ، وَقِيلَ: عَلَيَّ فِيهِ لِلْوُجُوبِ، أَيْ عَلَيَّ بَيَانُهُ وَتَعْرِيفُهُ وَالدِّلَالَةُ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلَانِ نَظِيرُ الْقَوْلَيْنِ فِي آيَةِ النَّحْلِ، وَهِيَ {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9] وَالصَّحِيحُ فِيهَا كَالصَّحِيحِ فِي آيَةِ الْحِجْرِ: أَنَّ السَّبِيلَ الْقَاصِدَ وَهُوَ الْمُسْتَقِيمُ الْمُعْتَدِلُ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، وَيُوَصِّلُ إِلَيْهِ، قَالَ طُفَيْلٌ الْغَنَوِيُّ: مَضَوْا سَلَفًا قَصْدُ السَّبِيلِ عَلَيْهِمُ ... وَصَرْفُ الْمَنَايَا بِالرِّجَالِ تُشَقْلَبُ أَيْ مَمَرُّنَا عَلَيْهِمْ، وَإِلَيْهِمْ وُصُولُنَا، وَقَالَ الْآخَرُ: فَهُنَّ الْمَنَايَا أَيُّ وَادٍ سَلَكْتُهُ ... عَلَيْهَا طَرِيقِي أَوْ عَلَيَّ طَرِيقُهَا فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ الْأَلْيَقُ بِهِ أَدَاةَ إِلَى الَّتِي هِيَ لِلِانْتِهَاءِ، لَا أَدَاةَ عَلَى الَّتِي هِيَ لِلْوُجُوبِ، ألَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ الْوُصُولَ قَالَ {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25] وَقَالَ {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} [يونس: 70] وَقَالَ {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ} [الأنعام: 108] وَقَالَ لَمَّا أَرَادَ الْوُجُوبَ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26] وَقَالَ {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] وَقَالَ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وَنَظَائِرُ ذَلِكَ. قِيلَ: فِي أَدَاةِ عَلَى سِرٌّ لَطِيفٌ، وَهُوَ الْإِشْعَارُ بِكَوْنِ السَّالِكِ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ عَلَى هُدًى، وَهُوَ حَقٌّ، كَمَا قَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] وَقَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79] وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْحَقُّ، وَصِرَاطُهُ حقٌّ، وَدِينُهُ حَقٌ، فَمَنِ اسْتَقَامَ عَلَى صِرَاطِهِ فَهُوَ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى، فَكَانَ فِي أَدَاةِ " عَلَى " عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَا لَيْسَ فِي أَدَاةِ إِلَى فَتَأَمَّلْهُ، فَإِنَّهُ سِرٌّ بَدِيعٌ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ عَلَى فِي ذَلِكَ أَيْضًا؟ وَكَيْفَ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُسْتَعْلِيًا عَلَى الْحَقِّ، وَعَلَى الْهُدَى؟ .

قُلْتُ: لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِعْلَائِهِ وَعُلُوِّهِ بِالْحَقِّ وَالْهُدَى، مَعَ ثَبَاتِهِ عَلَيْهِ، وَاسْتِقَامَتِهِ إِلَيْهِ، فَكَانَ فِي الْإِتْيَانِ بِأَدَاةِ " عَلَى " مَا يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّهِ وَثُبُوتِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الضَّلَالِ وَالرَّيْبِ، فَإِنَّهُ يُؤْتَى فِيهِ بِأَدَاةِ " فِي " الدَّالَّةِ عَلَى انْغِمَاسِ صَاحِبِهِ، وَانْقِمَاعِهِ وَتَدَسُّسِهِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45] وَقَوْلِهِ {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 39] وَقَوْلِهِ {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 54] وَقَوْلِهِ {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [هود: 110] . وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] فَإِنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ تَأْخُذُ عُلُوًّا صَاعِدَةً بِصَاحِبِهَا إِلَى الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، وَطَرِيقَ الضَّلَالِ تَأْخُذُ سُفْلًا، هَاوِيَةً بِسَالِكِهَا فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41] قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ إِنَّهُ عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] كَمَا قَالَ: تَقُولُ طَرِيقُكَ عَلَيَّ، وَمَمَرُّكَ عَلَيَّ، لِمَنْ تُرِيدُ إِعْلَامَهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ فَائِتٍ لَكَ، وَلَا مُعْجِزٍ، وَالسِّيَاقُ يَأْبَى هَذَا، وَلَا يُنَاسِبُهُ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، فَإِنَّهُ قَالَهُ مُجِيبًا لِإِبْلِيسَ الَّذِي قَالَ {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82] فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لِي إِلَى إِغْوَائِهِمْ، وَلَا طَرِيقَ لِي عَلَيْهِمْ. فَقَرَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ أَتَمَّ التَّقْرِيرِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِخْلَاصَ صِرَاطٌ عَلَيْهِ مُسْتَقِيمٌ،

فَلَا سُلْطَانَ لَكَ عَلَى عِبَادِي الَّذِينَ هُمْ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ، لِأَنَّهُ صِرَاطٌ عَلَيَّ، وَلَا سَبِيلَ لِإِبْلِيسَ إِلَى هَذَا الصِّرَاطِ، وَلَا الْحَوْمِ حَوْلَ سَاحَتِهِ، فَإِنَّهُ مَحْرُوسٌ مَحْفُوظٌ بِاللَّهِ، فَلَا يَصِلُ عَدُوُّ اللَّهِ إِلَى أَهْلِهِ. فَلْيَتَأَمَّلِ الْعَارِفُ هَذَا الْمَوْضِعَ حَقَّ التَّأَمُّلِ، وَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَيُوَازِنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ، أَيُّهُمَا أَلْيَقُ بِالْآيَتَيْنِ، وَأَقْرَبُ إِلَى مَقْصُودِ الْقُرْآنِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ؟ . وَأَمَّا تَشْبِيهُ الْكِسَائِيِّ لَهُ بِقَوْلِهِ {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] فَلَا يَخْفَى الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا سِيَاقًا وَدِلَالَةً، فَتَأَمَّلْهُ، وَلَا يُقَالُ فِي التَّهْدِيدِ: هَذَا طَرِيقٌ مُسْتَقِيمٌ عَلَيَّ، لِمَنْ لَا يَسْلُكُهُ، وَلَيْسَتْ سَبِيلُ الْمُهَدَّدِ مُسْتَقِيمَةً، فَهُوَ غَيْرُ مُهَدَّدٍ بِصِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَسَبِيلُهُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا لَيْسَتْ مُسْتَقِيمَةً عَلَى اللَّهِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْقَوْلُ الْبَتَّةَ. وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَهُ بِالْوُجُوبِ، أَيْ عَلَيَّ بَيَانُ اسْتِقَامَتِهِ وَالدِّلَالَةُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى صَحِيحٌ، لَكِنْ فِي كَوْنِهِ هُوَ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ حَذْفٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الدِّلَالَةِ، وَلَمْ يُؤَلَّفِ الْحَذْفُ الْمَذْكُورُ لِيَكُونَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ إِذَا حُذِفَ، بِخِلَافِ عَامِلِ الظَّرْفِ إِذَا وَقَعَ صِفَةً فَإِنَّهُ حَذْفٌ مَأْلُوفٌ مَعْرُوفٌ، حَتَّى إِنَّهُ لَا يُذْكَرُ الْبَتَّةَ، فَإِذَا قُلْتَ: لَهُ دِرْهَمٌ عَلَيَّ، كَانَ الْحَذْفُ مَعْرُوفًا مَأْلُوفًا، فَلَوْ أَرَدْتَ: عَلَيَّ نَقْدُهُ، أَوْ عَلَيَّ وَزْنُهُ وَحِفْظُهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ وَحَذَفْتَ لَمْ يَسُغْ، وَهُوَ نَظِيرُ: عَلَيَّ بَيَانُهُ الْمُقَدَّرِ فِي الْآيَةِ، مَعَ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ السَّلَفُ أَلْيَقُ بِالسِّيَاقِ، وَأَجَلُّ الْمَعْنَيَيْنِ وَأَكْبَرُهُمَا. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ تَقِيَّ الدِّينِ أَحْمَدَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: وَهُمَا نَظِيرُ

فصل الصراط المستقيم هو صراط الله

قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [الليل: 12] قَالَ: فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ فِي الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. قُلْتُ: وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يَذْكُرْ فِي سُورَةِ " {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] " إِلَّا مَعْنَى الْوُجُوبِ، أَيْ عَلَيْنَا بَيَانُ الْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى كَالْبَغَوِيِّ، وَذَكَرَ فِي الْحِجْرِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي بَسِيطِهِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، وَاخْتَارَ شَيْخُنَا قَوْلَ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ فِي السُّوَرِ الثَّلَاثِ. [فَصْلٌ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ] فَصْلٌ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ، وَهُوَ يُخْبِرُ أَنَّ الصِّرَاطَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَيُخْبِرُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهَذَا فِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ: فِي هُودٍ، وَالنَّحْلِ، قَالَ فِي هُودٍ {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] وَقَالَ فِي النَّحْلِ {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]

فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ، وَلَا تَنْطِقُ وَلَا تَعْقِلُ، وَهِيَ كَلٌّ عَلَى عَابِدِهَا، يَحْتَاجُ الصَّنَمُ إِلَى أَنْ يَحْمِلَهُ عَابِدُهُ، وَيَضَعَهُ وَيُقِيمَهُ وَيَخْدِمَهُ، فَكَيْفَ يُسَوُّونَهُ فِي الْعَادَةِ بِاللَّهِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ؟ وَهُوَ قَادِرٌ مُتَكَلِّمٌ، غَنِيٌّ، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، فَقَوْلُهُ صِدْقٌ وَرُشْدٌ وَنُصْحٌ وَهُدًى، وَفِعْلُهُ حِكْمَةٌ وَعَدْلٌ وَرَحْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ، هَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَذْكُرْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرَهُ، وَمَنْ ذَكَرَ غَيْرَهُ قَدَّمَهُ عَلَى الْأَقْوَالِ، ثُمَّ حَكَاهَا بَعْدَهُ كَمَا فَعَلَ الْبَغْوِيُّ، فَإِنَّهُ جَزَمَ بِهِ، وَجَعَلَهُ تَفْسِيرَ الْآيَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَدُلُّكُمْ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. قُلْتُ: وَدِلَالَتُهُ لَنَا عَلَى الصِّرَاطِ هِيَ مِنْ مُوجَبِ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِنَّ دِلَالَتَهُ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ، وَهُوَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، فَلَا يُنَاقِضُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. قَالَ: وَقِيلَ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. قُلْتُ: وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَاقِضُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، فَالَلَّهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَرَسُولُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَفْعَلُ إِلَّا مُقْتَضَاهُ وَمُوجَبَهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَثَلُ مَضْرُوبًا لِإِمَامِ الْكُفَّارِ وَهَادِيهِمْ، وَهُوَ الصَّنَمُ الَّذِي هُوَ أَبْكَمُ، لَا يَقْدِرُ عَلَى هُدًى وَلَا خَيْرٍ، وَلِإِمَامِ الْأَبْرَارِ، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: يَكُونُ مَضْرُوبًا لِمَعْبُودِ الْكُفَّارِ وَمَعْبُودِ الْأَبْرَارِ، وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ، فَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ هَذَا، وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ هَذَا، وَكِلَاهُمَا مُرَادٌ مِنَ الْآيَةِ، قَالَ، وَقِيلَ: كِلَاهُمَا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، يَرْوِيهِ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْأَبْكَمُ

أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ: حَمْزَةُ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ. قُلْتُ: وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُهُ، وَلَا يُنَاقِضُ الْقَوْلَيْنِ قَبْلَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَرَسُولَهُ وَأَتِّبَاعَ رَسُولِهِ، وَضِدُّ ذَلِكَ: مَعْبُودُ الْكُفَّارِ وَهَادِيهِمْ، وَالْكَافِرُ التَّابِعُ وَالْمَتْبُوعُ وَالْمَعْبُودُ، فَيَكُونُ بَعْضُ السَّلَفِ ذَكَرَ أَعْلَى الْأَنْوَاعِ، وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ الْهَادِيَ، وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ الْمُسْتَجِيبَ الْقَابِلَ، وَتَكُونُ الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةً لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا آيَةُ هُودٍ: فَصَرِيحَةٌ لَا تَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ أَحَقُّ مَنْ كَانَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّ أَقْوَالَهُ كُلَّهَا صِدْقٌ وَرُشْدٌ وَهُدًى وَعَدْلٌ وَحِكْمَةٌ {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا مَصَالِحُ وَحِكَمٌ، وَرَحْمَةٌ وَعَدْلٌ وَخَيْرٌ، فَالشَّرُّ لَا يَدْخُلُ فِي أَفْعَالِ مَنْ هُوَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، أَوْ أَقْوَالِهِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي أَفْعَالِ مَنْ خَرَجَ عَنْهُ وَفِي أَقْوَالِهِ. وَفِي دُعَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى تَفْسِيرِ مَنْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: وَالشَّرُّ لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْكَ، أَوْ لَا يَصْعَدُ إِلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَعْنَى أَجَلُّ مِنْ ذَلِكَ، وَأَكْبَرُ وَأَعْظَمُ قَدْرًا، فَإِنَّ مَنْ أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا حُسْنَى، وَأَوْصَافُهُ كُلُّهَا كَمَالٌ، وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا كَمَالٌ، وَأَقْوَالُهُ كُلُّهَا صِدْقٌ وَعَدْلٌ يَسْتَحِيلُ دُخُولُ الشَّرِّ فِي أَسْمَائِهِ أَوْ أَوْصَافِهِ، أَوْ أَفْعَالِهِ أَوْ أَقْوَالِهِ، فَطَابِقْ بَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى وَبَيْنَ قَوْلِهِ {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] وَتَأَمَّلْ كَيْفَ ذَكَرَ هَذَا عَقِيبَ قَوْلِهِ {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56] أَيْ هُوَ رَبِّي، فَلَا يُسَّلِمُنِي وَلَا يُضَيِّعُنِي، وَهُوَ رَبُّكُمْ فَلَا يُسَلِّطُكُمْ عَلَيَّ وَلَا يُمَكِّنُكُمْ مِنِّي، فَإِنَّ نَوَاصِيَكُمْ بِيَدِهِ، لَا تَفْعَلُونَ شَيْئًا بِدُونِ مَشِيئَتِهِ، فَإِنَّ نَاصِيَةَ كُلِّ دَابَّةٍ بِيَدِهِ، لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَتَحَرَّكَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ فِي تَصَرُّفِهِ فِيهَا وَتَحْرِيكِهِ لَهَا، وَنُفُوذِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فِيهَا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، لَا يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِحِكْمَةٍ

فصل رفيق طالب الصراط المستقيم هم الذين أنعم الله عليهم

وَعَدْلٍ وَمَصْلَحَةٍ، وَلَوْ سَلَّطَكُمْ عَلَيَّ فَلَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ مَا لَهُ الْحَمْدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَسْلِيطُ مَنْ هُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، لَا يَظْلِمُ وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا عَبَثًا بِغَيْرِ حِكْمَةٍ. فَهَكَذَا تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ، لَا مَعْرِفَةَ الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ، وَالْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ، نُفَاةِ الْحُكْمِ وَالْمَصَالِحِ وَالتَّعْلِيلِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ سُبْحَانَهُ. [فَصْلٌ رَفِيقُ طَالِبِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ هُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ] فَصْلٌ وَلَمَّا كَانَ طَالِبُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ طَالِبَ أَمْرٍ أَكْثَرُ النَّاسِ نَاكِبُونَ عَنْهُ، مُرِيدًا لِسُلُوكِ طَرِيقٍ مُرَافِقُهُ فِيهَا فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَالْعِزَّةِ، وَالنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى وَحْشَةِ التَّفَرُّدِ، وَعَلَى الْأُنْسِ بِالرَّفِيقِ، نَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الرَّفِيقِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] فَأَضَافَ الصِّرَاطَ إِلَى الرَّفِيقِ السَّالِكِينَ لَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، لِيَزُولَ عَنِ الطَّالِبِ لِلْهِدَايَةِ وَسُلُوكِ الصِّرَاطِ وَحْشَةُ تَفَرُّدِهِ عَنْ أَهْلِ زَمَانِهِ وَبَنِي جِنْسِهِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ رَفِيقَهُ فِي هَذَا الصِّرَاطِ هُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَكْتَرِثُ بِمُخَالَفَةِ النَّاكِبِينَ عَنْهُ لَهُ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَأَقَلُّونَ قَدْرًا،

وَإِنْ كَانُوا الْأَكْثَرِينَ عَدَدًا، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: " عَلَيْكَ بِطَرِيقِ الْحَقِّ، وَلَا تَسْتَوْحِشْ لِقِلَّةِ السَّالِكِينَ، وَإِيَّاكَ وَطَرِيقَ الْبَاطِلِ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ "، وَكُلَّمَا اسْتَوْحَشْتَ فِي تَفَرُّدِكَ فَانْظُرْ إِلَى الرَّفِيقِ السَّابِقِ، وَاحْرِصْ عَلَى اللَّحَاقِ بِهِمْ، وَغُضَّ الطَّرْفَ عَمَّنْ سِوَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَإِذَا صَاحُوا بِكَ فِي طَرِيقِ سَيْرِكَ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّكَ مَتَى الْتَفَتَّ إِلَيْهِمْ أَخَذُوكَ وَعَاقُوكَ. وَقَدْ ضَرَبْتُ لِذَلِكَ مَثَلَيْنِ، فَلْيَكُونَا مِنْكَ عَلَى بَالٍ: الْمَثَلُ الْأَوَّلُ: رَجُلٌ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى الصَّلَاةِ، لَا يُرِيدُ غَيْرَهَا، فَعَرَضَ لَهُ فِي طَرِيقِهِ شَيْطَانٌ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ كَلَامًا يُؤْذِيهِ، فَوَقَفَ وَرَدَّ عَلَيْهِ، وَتَمَاسَكَا، فَرُبَّمَا كَانَ شَيْطَانُ الْإِنْسِ أَقْوَى مِنْهُ، فَقَهَرَهُ، وَمَنَعَهُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ، حَتَّى فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ، وَرُبَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَقْوَى مِنْ شَيْطَانِ الْإِنْسِ، وَلَكِنِ اشْتَغَلَ بِمُهَاوَشَتِهِ عَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَكَمَالِ إِدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنِ الْتَفَتَ إِلَيْهِ أَطْمَعَهُ فِي نَفْسِهِ، وَرُبَّمَا فَتَرَتْ عَزِيمَتُهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ وَعِلْمٌ زَادَ فِي السَّعْيِ وَالْجَمْزِ بِقَدْرِ الْتِفَاتِهِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ أَعْرَضَ عَنْهُ وَاشْتَغَلَ لِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَخَافَ فَوْتَ الصَّلَاةِ أَوِ الْوَقْتِ لَمْ يَبْلُغْ عَدُوُّهُ مِنْهُ مَا شَاءَ. الْمَثَلُ الثَّانِي: الظَّبْيُ أَشَدُّ سَعْيًا مِنَ الْكَلْبِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا أَحَسَّ بِهِ الْتَفَتَ إِلَيْهِ فَيَضْعُفُ سَعْيُهُ، فَيُدْرِكُهُ الْكَلْبُ فَيَأْخُذُهُ. وَالْقَصْدُ: أَنَّ فِي ذِكْرِ هَذَا الرَّفِيقِ مَا يُزِيلُ وَحْشَةَ التَّفَرُّدِ، وَيَحُثُّ عَلَى السَّيْرِ وَالتَّشْمِيرِ لِلَّحَاقِ بِهِمْ. وَهَذِهِ إِحْدَى الْفَوَائِدِ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ " «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ» " أَيْ أَدْخِلْنِي فِي هَذِهِ الزُّمْرَةِ، وَاجْعَلْنِي رَفِيقًا لَهُمْ وَمَعَهُمْ. وَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَوَسُّلٌ إِلَى اللَّهِ بِنِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالْهِدَايَةِ أَيْ قَدْ أَنْعَمْتَ بِالْهِدَايَةِ عَلَى مَنْ هَدَيْتَ، وَكَانَ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنْكَ، فَاجْعَلْ لِي نَصِيبًا مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَاجْعَلْنِي وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ تَوَسُّلٌ إِلَى اللَّهِ بِإِحْسَانِهِ.

فصل علم الله عباده كيفية سؤاله الهداية إلى الصراط المستقيم

وَالْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: كَمَا يَقُولُ السَّائِلُ لِلْكَرِيمِ: تَصَدَّقْ عَلَيَّ فِي جُمْلَةِ مَنْ تَصَدَّقْتَ عَلَيْهِمْ، وَعَلِّمْنِي فِي جُمْلَةِ مَنْ عَلَّمْتَهُ، وَأَحْسِنْ إِلَيَّ فِي جُمْلَةِ مَنْ شَمِلْتَهُ بِإِحْسَانِكَ. [فَصْلٌ عَلَّمَ اللَّهُ عِبَادَهُ كَيْفِيَّةَ سُؤَالِهِ الْهِدَايَةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ] فَصْلٌ وَلَمَّا كَانَ سُؤَالُ اللَّهِ الْهِدَايَةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَجَلَّ الْمَطَالِبِ، وَنَيْلُهُ أَشْرَفَ الْمَوَاهِبِ: عَلَّمَ اللَّهُ عِبَادَهُ كَيْفِيَّةَ سُؤَالِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ حَمْدَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ، وَتَمْجِيدَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ عُبُودِيَّتَهُمْ وَتَوْحِيدَهُمْ، فَهَاتَانِ وَسِيلَتَانِ إِلَى مَطْلُوبِهِمْ، تَوَسُّلٌ إِلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَتَوَسُّلٌ إِلَيْهِ بِعُبُودِيَّتِهِ، وَهَاتَانِ الْوَسِيلَتَانِ لَا يَكَادُ يُرَدُّ مَعَهُمَا الدُّعَاءُ، وَيُؤَيِّدُهُمَا الْوَسِيلَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي حَدِيثَيِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ اللَّذَيْنِ رَوَاهُمَا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْوًا أَحَدٌ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. فَهَذَا تَوَسُّلٌ إِلَى اللَّهِ بِتَوْحِيدِهِ، وَشَهَادَةِ الدَّاعِي لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَثُبُوتِ صِفَاتِهِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِاسْمِ الصَّمَدِ وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " الْعَالِمُ الَّذِي كَمُلَ عِلْمُهُ، الْقَادِرُ الَّذِي كَمُلَتْ قُدْرَتُهُ "، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: " هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ السُّؤْدُدِ "، وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: " هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى سُؤْدَدُهُ "، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الْكَامِلُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، وَبِنَفْيِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ " {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] " وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالتَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِذَلِكَ، وَالشَّهَادَةُ بِهِ هُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ. وَالثَّانِي: حَدِيثُ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْمَنَّانُ، بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ» فَهَذَا تَوَسُّلٌ إِلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.

فصل اشتمال الفاتحة على أنواع التوحيد

وَقَدْ جَمَعَتِ الْفَاتِحَةُ الْوَسِيلَتَيْنِ، وَهُمَا التَّوَسُّلُ بِالْحَمْدِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَتَمْجِيدِهِ، وَالتَّوَسُّلُ إِلَيْهِ بِعُبُودِيَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، ثُمَّ جَاءَ سُؤَالُ أَهَمِّ الْمَطَالِبِ، وَأَنْجَحِ الرَّغَائِبِ وَهُوَ الْهِدَايَةُ بَعْدَ الْوَسِيلَتَيْنِ، فَالدَّاعِي بِهِ حَقِيقٌ بِالْإِجَابَةِ. وَنَظِيرُ هَذَا دُعَاءُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ يَدْعُو بِهِ إِذَا قَامَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكُ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَلَكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» فَذَكَرَ التَّوَسُّلَ إِلَيْهِ بِحَمْدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَبِعُبُودِيَّتِهِ لَهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ الْمَغْفِرَةَ. [فَصْلٌ اشْتِمَالُ الْفَاتِحَةِ عَلَى أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ] فَصْلٌ اشْتِمَالُ الْفَاتِحَةِ عَلَى أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ فِي اشْتِمَالِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. التَّوْحِيدُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ فِي الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ، وَنَوْعٌ فِي الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ: التَّوْحِيدَ الْعِلْمِيَّ، وَالثَّانِي: التَّوْحِيدَ الْقَصْدِيَّ الْإِرَادِيَّ، لِتَعَلُّقِ الْأَوَّلِ بِالْأَخْبَارِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالثَّانِي بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ، وَهَذَا الثَّانِي أَيْضًا نَوْعَانِ: تَوْحِيدٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ. فَأَمَّا تَوْحِيدُ الْعِلْمِ: فَمَدَارُهُ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَعَلَى نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَالْمِثَالِ،

وَالتَّنْزِيهِ عَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا شَيْئَانِ: مُجْمَلٌ، وَمُفَصَّلٌ. أَمَّا الْمُجْمَلُ: فَإِثْبَاتُ الْحَمْدِ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا الْمُفَصَّلُ: فَذِكْرُ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَالرَّحْمَةِ وَالْمُلْكِ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعِ مَدَارُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. فَأَمَّا تَضَمُّنُ الْحَمْدِ لِذَلِكَ: فَإِنَّ الْحَمْدَ يَتَضَمَّنُ مَدْحَ الْمَحْمُودِ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، مَعَ مَحَبَّتِهِ وَالرِّضَا عَنْهُ، وَالْخُضُوعِ لَهُ، فَلَا يَكُونُ حَامِدًا مَنْ جَحَدَ صِفَاتِ الْمَحْمُودِ، وَلَا مَنْ أَعْرَضَ عَنْ مَحَبَّتِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ، وَكُلَّمَا كَانَتْ صِفَاتُ كَمَالِ الْمَحْمُودِ أَكْثَرَ كَانَ حَمْدُهُ أَكْمَلَ، وَكُلَّمَا نَقَصَ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ نَقَصَ مِنْ حَمْدِهِ بِحَسَبِهَا، وَلِهَذَا كَانَ الْحَمْدُ كُلُّهُ لِلَّهِ حَمْدًا لَا يُحْصِيهِ سِوَاهُ، لِكَمَالِ صِفَاتِهِ وَكَثْرَتِهَا، وَلِأَجْلِ هَذَا لَا يُحْصِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ ثَنَاءً عَلَيْهِ، لِمَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَنُعُوتِ الْجَلَالِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا سِوَاهُ، وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى آلِهَةَ الْكُفَّارِ، وَعَابَهَا بِسَلْبِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ عَنْهَا، فَعَابَهَا بِأَنَّهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَهْدِي، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَهَذِهِ صِفَةُ إِلَهِ الْجَهْمِيَّةِ، الَّتِي عَابَ بِهَا الْأَصْنَامَ، نَسَبُوهَا إِلَيْهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُحَاجَّتِهِ لِأَبِيهِ {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42] فَلَوْ كَانَ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالْمَثَابَةِ لَقَالَ لَهُ آزَرُ: وَأَنْتَ إِلَهُكَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، فَكَيْفَ تُنْكِرُ عَلَيَّ؟ لَكِنْ كَانَ مَعَ شِرْكِهِ أَعْرَفَ بِاللَّهِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ، وَكَذَلِكَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ كَانُوا مَعَ شِرْكِهِمْ مُقِرِّينَ بِصِفَاتِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَقَالَ تَعَالَى {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148] فَلَوْ كَانَ إِلَهُ الْخَلْقِ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ، وَاسْتِدْلَالٌ عَلَى بُطْلَانِ الْإِلَهِيَّةِ بِذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّمُ عِبَادَهُ.

قِيلَ: بَلَى، قَدْ كَلَّمَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، مِنْهُ إِلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَمُوسَى، وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ الْمَلَكِيِّ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَكَلَّمَ اللَّهُ سَائِرَ النَّاسِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كَلَامَهُ الَّذِي بَلَّغَتْهُ رُسُلُهُ عَنْهُ، وَقَالُوا لَهُمْ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ، وَأَمَرَنَا بِتَبْلِيغِهِ إِلَيْكُمْ، وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ السَّلَفُ: مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَ اللَّهِ مُتَكَلِمًا فَقَدْ أَنْكَرَ رِسَالَةَ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا تَبْلِيغُ كَلَامِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ إِلَى عِبَادِهِ، فَإِذَا انْتَفَى كَلَامُهُ انْتَفَتِ الرِّسَالَةُ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه عَنِ السَّامِرِيِّ {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 88] وَرَجْعُ الْقَوْلِ: هُوَ التَّكَلُّمُ وَالتَّكْلِيمُ، وَقَالَ تَعَالَى {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76] فَجَعَلَ نَفْيَ صِفَةِ الْكَلَامِ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطَرِ وَالْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ: أَنَّ فَاقِدَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَا يَكُونُ إلَهًا، وَلَا مُدَبِّرًا، وَلَا رَبًّا، بَلْ هُوَ مَذْمُومٌ، مَعِيبٌ نَاقِصٌ، لَيْسَ لَهُ الْحَمْدُ، لَا فِي الْأُولَى، وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ لِمَنْ لَهُ صِفَاتُ الْكَمَالِ، وَنُعُوتُ الْجَلَالِ، الَّتِي لِأَجْلِهَا اسْتَحَقَّ الْحَمْدَ، وَلِهَذَا سَمَّى السَّلَفُ كُتُبَهُمُ الَّتِي صَنَّفُوهَا فِي السُّنَّةِ وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَكَلَامِهِ وَتَكْلِيمِهِ تَوْحِيدًا، لِأَنَّ نَفْيَ ذَلِكَ وَإِنْكَارَهُ وَالْكُفْرَ بِهِ إِنْكَارٌ لِلصَّانِعِ وَجَحْدٌ لَهُ، وَإِنَّمَا تَوْحِيدُهُ: إِثْبَاتُ صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَتَنْزِيهُهُ عَنِ التَّشْبِيهِ وَالنَّقَائِصِ، فَجَعَلَ الْمُعَطِّلَةُ جَحْدَ الصِّفَاتِ وَتَعْطِيلَ الصَّانِعِ عَنْهَا تَوْحِيدًا، وَجَعَلُوا إِثْبَاتَهَا لِلَّهِ تَشْبِيهًا وَتَجْسِيمًا وَتَرْكِيبًا، فَسَمَّوُا الْبَاطِلَ بِاسْمِ الْحَقِّ، تَرْغِيبًا فِيهِ، وَزُخْرُفًا يُنْفِقُونَهُ بِهِ، وَسَمَّوُا الْحَقَّ بِاسْمِ الْبَاطِلِ تَنْفِيرًا عَنْهُ، وَالنَّاسُ أَكْثَرُهُمْ مَعَ ظَاهِرِ السِّكَّةِ، لَيْسَ لَهُمْ نَقْدُ النُّقَّادِ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] وَالْمَحْمُودُ لَا يُحْمَدُ عَلَى الْعَدَمِ وَالسُّكُوتِ الْبَتَّةَ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ سَلْبَ عُيُوبٍ وَنَقَائِصَ، تَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ أَضْدَادِهَا مِنَ الْكِمَالَاتِ الْثُبُوتِيَّةِ، وَإِلَّا فَالسَّلْبُ الْمَحْضُ لَا حَمْدَ فِيهِ، وَلَا

فصل دلالة على توحيد الأسماء والصفات

مَدْحَ وَلَا كَمَالَ. وَكَذَلِكَ حَمْدُهُ لِنَفْسِهِ عَلَى عَدَمِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ الْمُتَضَمِّنِ لِكَمَالِ صَمَدِيَّتِهِ وَغِنَاهُ وَمُلْكِهِ، وَتَعْبِيدِ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ، فَاتِّخَاذُ الْوَلَدِ يُنَافِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68] . وَحَمْدُ نَفْسِهِ عَلَى عَدَمِ الشَّرِيكِ، الْمُتَضَمِّنِ تَفَرُّدَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، وَتَوَحُّدَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا يُوصَفُ بِهَا غَيْرُهُ، فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُ، فَلَوْ عُدِمَهَا لَكَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ أَكْمَلَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمَوْجُودَ أَكْمَلُ مِنَ الْمَعْدُومِ، وَلِهَذَا لَا يَحْمَدُ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بِعَدَمٍ إِلَّا إِذَا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِثُبُوتِ كَمَالٍ، كَمَا حَمِدَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ لَا يَمُوتُ لِتَضَمُّنِهِ كَمَالَ حَيَاتِهِ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، لِتَضَمُّنِ ذَلِكَ كَمَالَ قَيُّومِيَّتِهِ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ، لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا، لِكَمَالِ عَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، لِكَمَالِ عَظَمَتِهِ، يَرَى وَلَا يُدْرَكُ، كَمَا أَنَّهُ يَعْلَمُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا، فَمُجَرَّدُ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ لَيْسَ بِكَمَالٍ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يُرَى، فَلَيْسَ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ لَا يُرَى كَمَالٌ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا الْكَمَالُ فِي كَوْنِهِ لَا يُحَاطُ بِهِ رُؤْيَةً وَلَا إِدْرَاكًا، لِعَظَمَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَتَعَالِيهِ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَخْلُوقِ لَهُ، وَكَذَلِكَ حَمِدَ نَفْسَهُ بِعَدَمِ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ، لِكَمَالِ عِلْمِهِ. فَكُلُّ سَلْبٍ فِي الْقُرْآنِ حَمِدَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَلِمُضَادَّتِهِ لِثُبُوتِ ضِدِّهِ، وَلِتَضَمُّنِهِ كَمَالَ ثُبُوتِ ضِدِّهِ. فَعَلِمْتُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَمْدِ تَابِعَةٌ لِثُبُوتِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ، وَأَنَّ نَفْيَهَا نَفْيٌ لِحَمْدِهِ، وَنَفْيُ الْحَمْدِ مُسْتَلْزِمٌ لِثُبُوتِ ضِدِّهِ. [فَصْلٌ دِلَالَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ] فَصْلٌ فَهَذِهِ دِلَالَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَأَمَّا دِلَالَةُ الْأَسْمَاءِ الْخَمْسَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ " اللَّهُ، وَالرَّبُّ، وَالرَّحْمَنُ، وَالرَّحِيمُ، وَالْمَلِكُ " فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَسْمَاءَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى دَالَّةٌ عَلَى صِفَاتِ كَمَالِهِ، فَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ

الصِّفَاتِ، فَهِيَ أَسْمَاءٌ، وَهِيَ أَوْصَافٌ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ حُسْنَى، إِذْ لَوْ كَانَتْ أَلْفَاظًا لَا مَعَانِيَ فِيهَا لَمْ تَكُنْ حُسْنَى، وَلَا كَانَتْ دَالَّةً عَلَى مَدْحٍ وَلَا كَمَالٍ، وَلَسَاغَ وُقُوعُ أَسْمَاءِ الِانْتِقَامِ وَالْغَضَبِ فِي مَقَامِ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَبِالْعَكْسِ، فَيُقَالُ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ الْمُنْتَقِمُ، وَاللَّهُمَّ أَعْطِنِي، فَإِنَّكَ أَنْتَ الضَّارُّ الْمَانِعُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَنَفْيُ مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مِنْ أَعْظَمِ الْإِلْحَادِ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَدُلَّ عَلَى مَعَانٍ وَأَوْصَافٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبَرَ عَنْهَا بِمَصَادِرِهَا وَيُوصَفُ بِهَا، لَكِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَصَادِرِهَا، وَأَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ، وَأَثْبَتَهَا لَهُ رَسُولُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] فَعَلِمَ أَنَّ الْقَوِيَّ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَمَعْنَاهُ الْمَوْصُوفُ بِالْقُوَّةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] فَالْعَزِيزُ مَنْ لَهُ الْعِزَّةُ، فَلَوْلَا ثُبُوتُ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ لَهُ لَمْ يُسَمَّ قَوِيًّا وَلَا عَزِيزًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] ، {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14] ، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] . وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» فَأُثْبِتَ الْمَصْدَرُ الَّذِي اشْتُقَّ مِنْهُ اسْمُهُ الْبَصِيرُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ ".»

وَفِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ الِاسْتِخَارَةِ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسَتُخَيِّرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ» فَهُوَ قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ. وَقَالَ تَعَالَى لِمُوسَى {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] فَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ. وَهُوَ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ الْعَظَمَةٌ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الْعَظَمَةُ إِزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي» وَهُوَ الْحَكِيمُ الَّذِي لَهُ الْحُكْمُ {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12] وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِحَيَاةِ اللَّهِ، أَوْ سَمْعِهِ، أَوْ بَصَرِهِ، أَوْ قُوَّتِهِ، أَوْ عِزَّتِهِ أَوْ عَظَمَتِهِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ، وَكَانَتْ مُكَفِّرَةً، لِأَنَّ هَذِهِ صِفَاتُ كَمَالِهِ الَّتِي اشْتُقَّتْ مِنْهَا أَسْمَاؤُهُ. وأَيْضًا لَوْ لَمْ تَكُنْ أَسْمَاؤُهُ مُشْتَمِلَةً عَلَى مَعَانٍ وَصِفَاتٍ لَمْ يَسُغْ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُ بِأَفْعَالِهَا، فَلَا يُقَالُ: يَسْمَعُ وَيَرَى، وَيَعْلَمُ وَيَقْدِرُ وَيُرِيدُ، فَإِنَّ ثُبُوتَ أَحْكَامِ الصِّفَاتِ فَرْعُ ثُبُوتِهَا، فَإِذَا انْتَفَى أَصْلُ الصِّفَةِ اسْتَحَالَ ثُبُوتُ حُكْمِهَا. وأَيْضًا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ أَسْمَاؤُهُ ذَوَاتِ مَعَانٍ وَأَوْصَافٍ لَكَانَتْ جَامِدَةً كَالْأَعْلَامِ الْمَحْضَةِ، الَّتِي لَمْ تُوضَعْ لِمُسَمَّاهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى قَامَ بِهِ، فَكَانَتْ كُلُّهَا سَوَاءَ، وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ مَدْلُولَاتِهَا، وَهَذَا مُكَابَرَةٌ صَرِيحَةٌ، وَبُهْتٌ بَيِّنٌ، فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ مَعْنَى اسْمِ الْقَدِيرِ هُوَ مَعْنَى اسْمِ السَّمِيعِ الْبَصِيرِ، وَمَعْنَى اسْمِ التَّوَّابِ هُوَ مَعْنَى اسْمِ الْمُنْتَقِمِ، وَمَعْنَى اسْمِ الْمُعْطِي هُوَ مَعْنَى اسْمِ الْمَانِعِ فَقَدْ كَابَرَ الْعَقْلَ وَاللُّغَةَ وَالْفِطْرَةَ.

فصل اسم الله يدل على الصفة بمفردها ويدل على الذات المجردة

فَنَفْيُ مَعَانِي أَسْمَائِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْإِلْحَادِ فِيهَا، وَالْإِلْحَادُ فِيهَا أَنْوَاعٌ هَذَا أَحُدُهَا. الثَّانِي: تَسْمِيَةُ الْأَوْثَانِ بِهَا، كَمَا يُسَمُّونَهَا آلِهَةً، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: عَدَلُوا بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ، فَسَمَّوْا بِهَا أَوْثَانَهُمْ، فَزَادُوا وَنَقَصُوا، فَاشْتَقُّوا اللَّاتَ مِنَ اللَّهِ، وَالْعُزَّى مِنَ الْعَزِيزِ، وَمَنَاةَ مِنَ الْمَنَّانِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ بِالْمَعْنَى. وَحَقِيقَةُ الْإِلْحَادِ فِيهَا الْعُدُولُ بِهَا عَنِ الصَّوَابِ فِيهَا، وَإِدْخَالُ مَا لَيْسَ مِنْ مَعَانِيهَا فِيهَا، وَإِخْرَاجُ حَقَائِقِ مَعَانِيهَا عَنْهَا، هَذَا حَقِيقَةُ الْإِلْحَادِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، فَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْإِلْحَادَ بِالْكَذِبِ، أَوْ هُوَ غَايَةُ الْمُلْحِدِ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ إِذَا أَدْخَلَ فِي مَعَانِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَخَرَجَ بِهَا عَنْ حَقَائِقِهَا، أَوْ بَعْضِهَا، فَقَدْ عَدَلَ بِهَا عَنِ الصَّوَابِ وَالْحَقِّ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الْإِلْحَادِ. فَالْإِلْحَادُ إِمَّا بِجَحْدِهَا وَإِنْكَارِهَا، وَإِمَّا بِجَحْدِ مَعَانِيهَا وَتَعْطِيلِهَا، وَإِمَّا بِتَحْرِيفِهَا عَنِ الصَّوَابِ، وَإِخْرَاجِهَا عَنِ الْحَقِّ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَإِمَّا بِجَعْلِهَا أَسْمَاءً لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَصْنُوعَاتِ، كَإِلْحَادِ أَهْلِ الِاتِّحَادِ، فَإِنَّهُمْ جَعَلُوهَا أَسْمَاءَ هَذَا الْكَوْنِ، مَحْمُودَهَا وَمَذْمُومَهَا، حَتَّى قَالَ زَعِيمُهُمْ: وَهُوَ الْمُسَمَّى بِكُلِّ اسْمٍ مَمْدُوحٍ عَقْلًا، وَشَرْعًا وَعُرْفًا، وَبِكُلِّ اسْمٍ مَذْمُومٍ عَقْلًا وَشَرْعًا وَعُرْفًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْمُلْحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. [فَصْلٌ اسْمُ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ بِمُفْرَدِهَا وَيَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ] فَصْلٌ الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْمَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَمَا يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالصِّفَةِ الَّتِي اشْتُقَّ مِنْهَا بِالْمُطَابَقَةِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ بِالتَّضَمُّنِ وَاللُّزُومِ، فَيَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ بِمُفْرَدِهَا بِالتَّضَمُّنِ، وَكَذَلِكَ عَلَى الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الصِّفَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ الْأُخْرَى بِاللُّزُومِ، فَإِنَّ اسْمَ السَّمِيعِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ وَسَمْعِهِ بِالْمُطَابَقَةِ، وَعَلَى الذَّاتِ وَحْدَهَا، وَعَلَى السَّمْعِ وَحْدَهُ بِالتَّضَمُّنِ، وَيَدُلُّ عَلَى اسْمِ الْحَيِّ وَصِفَةِ الْحَيَاةِ بِالِالْتِزَامِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَكِنْ يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي مَعْرِفَةِ اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ، وَمِنْ هَاهُنَا

فصل اسم الله يدل على الأسماء الحسنى

يَقَعُ اخْتِلَافُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَحْكَامِ، فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ لَازِمٌ لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لَازِمٌ لِلْحَيَاةِ الْكَامِلَةِ، وَأَنَّ سَائِرَ الْكَمَالِ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ الْكَامِلَةِ أَثْبَتَ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ مَا يُنْكِرُهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ لُزُومَ ذَلِكَ، وَلَا عَرِفَ حَقِيقَةَ الْحَيَاةِ وَلَوَازِمَهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ صِفَاتِهِ. فَإِنَّ اسْمَ الْعَظِيمِ لَهُ لَوَازِمُ يُنْكِرُهَا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ عَظْمَةَ اللَّهِ وَلَوَازِمَهَا. وَكَذَلِكَ اسْمُ الْعَلِيِّ، وَاسْمُ الْحَكِيمِ وَسَائِرُ أَسْمَائِهِ، فَإِنَّ مِنْ لَوَازِمِ اسْمِ الْعَلِيِّ الْعُلُوَّ الْمُطْلَقَ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، فَلَهُ الْعُلُوُّ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ: عُلُوُّ الْقَدْرِ، وَعُلُوُّ الْقَهْرِ، وَعُلُوُّ الذَّاتِ، فَمَنْ جَحَدَ عُلُوَّ الذَّاتِ فَقَدْ جَحَدَ لَوَازِمَ اسْمِهِ الْعَلِيِّ. وَكَذَلِكَ اسْمُهُ الظَّاهِرُ مِنْ لَوَازِمِهِ: أَنْ لَا يَكُونَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ» بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ جَحَدَ فَوْقِيَّتَهُ سُبْحَانَهُ فَقَدْ جَحَدَ لَوَازِمَ اسْمِهِ الظَّاهِرِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الظَّاهِرُ هُوَ مَنْ لَهُ فَوْقِيَّةُ الْقَدْرِ فَقَطْ، كَمَا يُقَالُ: الذَّهَبُ فَوْقَ الْفِضَّةِ، وَالْجَوْهَرُ فَوْقَ الزُّجَاجِ; لِأَنَّ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالظُّهُورِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْمُفَوَّقُ أَظْهَرَ مِنَ الْفَائِقِ فِيهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ ظَاهِرًا بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، لِمُقَابَلَةِ الِاسْمِ بِ " الْبَاطِنِ " وَهُوَ الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ، كَمَا قَابَلَ الْأَوَّلَ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، بِ " الْآخِرِ " الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ. وَكَذَلِكَ اسْمُ " الْحَكِيمِ " مِنْ لَوَازِمِهِ ثُبُوتُ الْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ الْمَقْصُودَةِ لَهُ بِأَفْعَالِهِ، وَوَضْعُهُ الْأَشْيَاءَ فِي مَوْضِعِهَا، وَإِيقَاعُهَا عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، فَإِنْكَارُ ذَلِكَ إِنْكَارٌ لِهَذَا الِاسْمِ وَلَوَازِمِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى. [فَصْلٌ اسْمُ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى] فَصْلٌ إِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ، فَاسْمُ اللَّهِ دَالٌّ عَلَى جَمِيعِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتِ

الْعُلْيَا بِالدِّلَالَاتِ الثَّلَاثِ، فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى إِلَهِيَّتِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِثُبُوتِ صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لَهُ مَعَ نَفْيِ أَضْدَادِهَا عَنْهُ. وَصِفَاتُ الْإِلَهِيَّةِ: هِيَ صِفَاتُ الْكَمَالِ، الْمُنَزَّهَةُ عَنِ التَّشْبِيهِ وَالْمِثَالِ، وَعَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ، وَلِهَذَا يُضِيفُ اللَّهُ تَعَالَى سَائِرَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى إِلَى هَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] وَيُقَالُ: الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ، وَالْقُدُّوسُ، وَالسَّلَامُ، وَالْعَزِيزُ، وَالْحَكِيمُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَلَا يُقَالُ: اللَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّحْمَنِ، وَلَا مِنْ أَسْمَاءِ الْعَزِيزِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَعُلِمَ أَنَّ اسْمَهُ اللَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِجَمِيعِ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، دَالٌّ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَالِ، وَالْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى تَفْصِيلٌ وَتَبْيِينٌ لِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي اشْتُقَّ مِنْهَا اسْمُ اللَّهِ، وَاسْمُ اللَّهِ دَالٌّ عَلَى كَوْنِهِ مَأْلُوهًا مَعْبُودًا، تُؤَلِّهُهُ الْخَلَائِقُ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَخُضُوعًا، وَفَزَعًا إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ وَالنَّوَائِبِ، وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ رُبُوبِيَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ، الْمُتَضَمِّنَيْنِ لِكَمَالِ الْمُلْكِ وَالْحَمْدِ، وَإِلَهِيَّتُهُ وَرُبُوبِيَّتُهُ وَرَحْمَانِيَّتُهُ وَمُلْكُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ كَمَالِهِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُ ذَلِكَ لِمَنْ لَيْسَ بِحَيٍّ، وَلَا سَمِيعٍ، وَلَا بَصِيرٍ، وَلَا قَادِرٍ، وَلَا مُتَكَلِّمٍ، وَلَا فَعَّالٍ لِمَا يُرِيدُ، وَلَا حَكِيمٍ فِي أَفْعَالِهِ. وَصِفَاتُ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ: أَخَصُّ بِاسْمِ اللَّهِ. وَصِفَاتُ الْفِعْلِ وَالْقُدْرَةِ، وَالتَّفَرُّدِ بِالضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَنُفُوذِ الْمَشِيئَةِ وَكَمَالِ الْقُوَّةِ، وَتَدْبِيرِ أَمْرِ الْخَلِيقَةِ أَخَصُّ بِاسْمِ الرَّبِّ. وَصِفَاتُ الْإِحْسَانِ، وَالْجُودِ وَالْبِرِّ، وَالْحَنَانِ وَالْمِنَّةِ، وَالرَّأْفَةِ وَاللُّطْفِ أَخَصُّ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ، وَكُرِّرَ إِيَذَانًا بِثُبُوتِ الْوَصْفِ، وَحُصُولِ أَثَرِهِ، وَتَعَلُّقِهِ بِمُتَعَلِّقَاتِهِ. فَالرَّحْمَنُ الَّذِي الرَّحْمَةُ وَصْفُهُ، وَالرَّحِيمُ الرَّاحِمُ لِعِبَادِهِ، وَلِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] ، {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117] وَلَمْ يَجِئْ: رَحْمَنُ بِعِبَادِهِ، وَلَا رَحْمَنُ بِالْمُؤْمِنِينَ، مَعَ مَا فِي اسْمِ الرَّحْمَنِ الَّذِي هُوَ عَلَى وَزْنِ فَعْلَانِ مِنْ سِعَةِ هَذَا الْوَصْفِ، وَثُبُوتِ جَمِيعِ مَعْنَاهُ الْمَوْصُوفِ بِهِ. ألَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: غَضْبَانُ، لِلْمُمْتَلِئِ غَضَبًا، وَنَدْمَانُ وَحَيْرَانُ وَسَكْرَانُ وَلَهْفَانُ

فصل ارتباط الخلق بأسماء الله

لِمَنْ مُلِئَ بِذَلِكَ، فَبِنَاءُ فَعْلَانِ لِلسَّعَةِ وَالشُّمُولِ، وَلِهَذَا يَقْرِنُ اسْتِوَاءَهُ عَلَى الْعَرْشِ بِهَذَا الِاسْمِ كَثِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59] فَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ، لِأَنَّ الْعَرْشَ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ قَدْ وَسِعَهَا، وَالرَّحْمَةُ مُحِيطَةٌ بِالْخَلْقِ وَاسِعَةٌ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] فَاسْتَوَى عَلَى أَوْسَعِ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَوْسَعِ الصِّفَاتِ، فَلِذَلِكَ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ عِنْدَهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» وَفِي لَفْظٍ «فَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ» . فَتَأَمَّلِ اخْتِصَاصَ هَذَا الْكِتَابِ بِذِكْرِ الرَّحْمَةِ، وَوَضْعَهُ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ، وَطَابِقْ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَقَوْلِهِ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] يَنْفَتِحُ لَكَ بَابٌ عَظِيمٌ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنْ لَمْ يُغْلِقْهُ عَنْكَ التَّعْطِيلُ وَالتَّجَهُّمُ. وَصِفَاتُ الْعَدْلِ، وَالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَالْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ، وَالْقَهْرِ وَالْحُكْمِ، وَنَحْوُهَا أَخَصُّ بِاسْمِ الْمَلِكِ وَخَصَّهُ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَهُوَ الْجَزَاءُ بِالْعَدْلِ، لِتَفَرُّدِهِ بِالْحُكْمِ فِيهِ وَحْدَهُ، وَلِأَنَّهُ الْيَوْمُ الْحَقُّ، وَمَا قَبْلَهُ كَسَاعَةٍ، وَلِأَنَّهُ الْغَايَةُ، وَأَيَّامُ الدُّنْيَا مَرَاحِلُ إِلَيْهِ. [فَصْلٌ ارْتِبَاطُ الْخَلْقِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ] فَصْلٌ وَتَأَمَّلِ ارْتِبَاطَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ اللَّهُ، وَالرَّبُّ، وَالرَّحْمَنُ كَيْفَ نَشَأَ عَنْهَا الْخَلْقُ، وَالْأَمْرُ، وَالثَّوَابُ، وَالْعِقَابُ؟ وَكَيْفَ جَمَعَتِ الْخَلْقَ وَفَرَّقَتْهُمْ؟ فَلَهَا الْجَمْعُ، وَلَهَا الْفَرْقُ.

فصل ذكر أسماء الله بعد الحمد

فَاسْمُ الرَّبِّ لَهُ الْجَمْعُ الْجَامِعُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَهُوَ رَبُّ كُلَّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ، لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ رُبُوبِيَّتِهِ، وَكُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَبْدٌ لَهُ فِي قَبْضَتِهِ، وَتَحْتَ قَهْرِهِ، فَاجْتَمَعُوا بِصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَافْتَرَقُوا بِصِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَأَلَّهَهُ وَحْدَهُ السُّعَدَاءُ، وَأَقَرُّوا لَهُ طَوْعًا بِأَنَّهُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ، وَالْحُبُّ وَالْإِنَابَةُ وَالْإِخْبَاتُ وَالْخَشْيَةُ، وَالتَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ إِلَّا لَهُ. وَهُنَا افْتَرَقَ النَّاسُ، وَصَارُوا فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا مُشْرِكِينَ فِي السَّعِيرِ، وَفَرِيقًا مُوَحِّدِينَ فِي الْجَنَّةِ. فَالْإِلَهِيَّةُ هِيَ الَّتِي فَرَّقَتْهُمْ، كَمَا أَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ هِيَ الَّتِي جَمَعَتْهُمْ. فَالدِّينُ وَالشَّرْعُ، وَالْأَمْرُ وَالَنَّهْيُ مَظْهَرُهُ، وَقِيَامُهُ مِنْ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ وَالتَّدْبِيرُ وَالْفِعْلُ مِنْ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْجَزَاءُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ صِفَةِ الْمُلْكِ، وَهُوَ مَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ، فَأَمَرَهُمْ بِإِلَهِيَّتِهِ، وَأَعَانَهُمْ وَوَفَّقَهُمْ وَهَدَاهُمْ وَأَضَلَّهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَأَثَابَهُمْ وَعَاقَبَهُمْ بِمُلْكِهِ وَعَدْلِهِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْأُخْرَى. وَأَمَّا الرَّحْمَةُ فَهِيَ التَّعَلُّقُ، وَالسَّبَبُ الَّذِي بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، فَالتَّأْلِيهُ مِنْهُمْ لَهُ، وَالرُّبُوبِيَّةُ مِنْهُ لَهُمْ، وَالرَّحْمَةُ سَبَبٌ وَاصِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، بِهَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ، وَبِهَا هَدَاهُمْ، وَبِهَا أَسْكَنَهُمْ دَارَ ثَوَابِهِ، وَبِهَا رَزَقَهُمْ وَعَافَاهُمْ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ سَبَبُ الْعُبُودِيَّةِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ سَبَبُ الرَّحْمَةِ. وَاقْتِرَانُ رُبُوبِيَّتِهِ بِرَحْمَتِهِ كَاقْتِرَانِ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ بِرَحْمَتِهِ، فَ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ {رَبِّ الْعَالَمِينَ - الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 2 - 3] فَإِنَّ شُمُولَ الرُّبُوبِيَّةِ وَسِعَتْهَا بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْهَا أَقْصَى شُمُولِ الرَّحْمَةِ وَسِعَتِهَا، فَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ بِرَحْمَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، مَعَ أَنَّ فِي كَوْنِهِ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ مَا يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَكَوْنِهِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. [فَصْلٌ ذِكْرُ أَسْمَاءِ اللَّهِ بَعْدَ الْحَمْدِ] فَصْلٌ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ بَعْدَ الْحَمْدِ، وَإِيقَاعِ الْحَمْدِ عَلَى مَضْمُونِهَا وَمُقْتَضَاهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُودٌ فِي إِلَهِيَّتِهِ، مَحْمُودٌ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، مَحْمُودٌ فِي رَحْمَانِيَّتِهِ، مَحْمُودٌ فِي مُلْكِهِ، وَأَنَّهُ إِلَهٌ مَحْمُودٌ، وَرَبٌّ مَحْمُودٌ، وَرَحْمَنٌ مَحْمُودٌ، وَمَلِكٌ مَحْمُودٌ، فَلَهُ بِذَلِكَ جَمِيعُ أَقْسَامِ الْكَمَالِ: كَمَالٌ مِنْ هَذَا الِاسْمِ بِمُفْرَدِهِ، وَكَمَالٌ مِنَ الْآخَرِ بِمُفْرَدِهِ، وَكَمَالٌ مِنِ اقْتِرَانِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ.

مِثَالُ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: 6] ، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26] ، {وَاللَّهُ قَدِيرٌ} [الممتحنة: 7] ، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] فَالْغِنَى صِفَةُ كَمَالٍ، وَالْحَمْدُ صِفَةُ كَمَالٍ، وَاقْتِرَانُ غِنَاهُ بِحَمْدِهِ كَمَالٌ أَيْضًا، وَعِلْمُهُ كَمَالٌ، وَحِكْمَتُهُ كَمَالٌ، وَاقْتِرَانُ الْعِلْمِ بِالْحِكْمَةِ كَمَالٌ أَيْضًا، وَقُدْرَتُهُ كَمَالٌ وَمَغْفِرَتُهُ كَمَالٌ، وَاقْتِرَانُ الْقُدْرَةِ بِالْمَغْفِرَةِ كَمَالٌ، وَكَذَلِكَ الْعَفْوُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43] وَاقْتِرَانُ الْعِلْمِ بِالْحِلْمِ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12] . وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ: اثْنَانِ يَقُولَانِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَاثْنَانِ يَقُولَانِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ، فَمَا كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَفَا، وَلَا كُلُّ مَنْ عَفَا يَعْفُو عَنْ قُدْرَةٍ، وَلَا كُلُّ مَنْ عَلِمَ يَكُونُ حَلِيمًا، وَلَا كُلُّ حَلِيمٍ عَالِمٌ، فَمَا قُرِنَ شَيْءٌ إِلَى شَيْءٍ أَزْيَنُ مِنْ حِلْمٍ إِلَى عِلْمٍ، وَمِنْ عَفْوٍ إِلَى قُدْرَةٍ، وَمِنْ مُلْكٍ إِلَى حَمْدٍ، وَمِنْ عِزَّةٍ إِلَى رَحْمَةٍ {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 9] وَمِنْ هَاهُنَا كَانَ قَوْلُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، أَيْ إِنْ غَفَرْتَ لَهُمْ كَانَ مَصْدَرُ مَغْفِرَتِكَ عَنْ عِزَّةٍ، وَهِيَ كَمَالُ الْقُدْرَةِ، وَعَنْ حِكْمَةٍ، وَهِيَ كَمَالُ الْعِلْمِ، فَمَنْ غَفَرَ عَنْ عَجْزٍ وَجَهْلٍ بِجُرْمِ الْجَانِي، فَأَنْتَ لَا تَغْفِرُ إِلَّا عَنْ قُدْرَةٍ تَامَّةٍ، وَعِلْمٍ تَامٍّ، وَحِكْمَةٍ تَضَعُ بِهَا الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، فَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ ذِكْرِ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الدَّالِّ ذِكْرُهُ عَلَى التَّعْرِيضِ بِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ فِي غَيْرِ حِينِهَا، وَقَدْ فَاتَتْ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، كَانَ فِي هَذَا مِنَ الِاسْتِعْطَافِ وَالتَّعْرِيضِ بِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ مَنْصِبُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا سِيَّمَا وَالْمَوْقِفُ مَوْقِفُ عَظَمَةٍ وَجَلَالٍ، وَمَوْقِفُ انْتِقَامٍ مِمَّنْ جَعَلَ لِلَّهِ وَلَدًا، وَاتَّخَذَهُ إِلَهًا مِنْ دُونِهِ، فَذِكْرُ الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ فِيهِ أَلْيَقُ مِنْ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 35]

فصل مراتب الهداية الخاصة والعامة

وَلَمْ يَقِلْ: فَإِنَّكَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ اسْتِعْطَافٍ وَتَعْرِيضٍ بِالدُّعَاءِ، أَيْ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ وَتَرْحَمْهُمْ، بِأَنْ تُوَفِّقَهُمْ لِلرُّجُوعِ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَمِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» . وَفِي هَذَا أَظْهَرُ الدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ الرَّبِّ تَعَالَى مُشْتَقَّةٌ مِنْ أَوْصَافٍ وَمَعَانٍ قَامَتْ بِهِ، وَأَنَّ كُلَّ اسْمٍ يُنَاسِبُ مَا ذُكِرَ مَعَهُ، وَاقْتَرَنَ بِهِ، مِنْ فِعْلِهِ وَأَمْرِهِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. [فَصْلٌ مَرَاتِبُ الْهِدَايَةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ] [الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى تَكْلِيمُ اللَّهِ] فَصْلٌ: فِي مَرَاتِبِ الْهِدَايَةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَهِيَ عَشْرُ مَرَاتِبَ: فِي مَرَاتِبِ الْهِدَايَةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَهِيَ عَشْرُ مَرَاتِبَ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: مَرْتَبَةُ تَكْلِيمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِعَبْدِهِ يَقَظَةً بِلَا وَاسِطَةٍ، بَلْ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ أَعْلَى مَرَاتِبِهَا، كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] فَذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَحْيَهُ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ خَصَّ مُوسَى مِنْ بَيْنِهِمْ بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ كَلَّمَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيمَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْوَحْيِ الَّذِي ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ كَلَّمَ وَهُوَ التَّكْلِيمُ رَفْعًا لِمَا يَتَوَهَّمُهُ الْمُعَطِّلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ

مِنْ أَنَّهُ إِلْهَامٌ، أَوْ إِشَارَةٌ، أَوْ تَعْرِيفٌ لِلْمَعْنَى النَّفْسِيِّ بِشَيْءٍ غَيْرِ التَّكْلِيمِ، فَأَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ الْمُفِيدِ تَحْقِيقَ النِّسْبَةِ وَرَفْعَ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تُسَمِّي مَا يُوصَلُ إِلَى الْإِنْسَانِ كَلَامًا بِأَيِّ طَرِيقٍ وَصَلَ، وَلَكِنْ لَا تُحَقِّقُهُ بِالْمَصْدَرِ، فَإِذَا حَقَّقَتْهُ بِالْمَصْدَرِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا حَقِيقَةَ الْكَلَامِ، كَالْإِرَادَةِ، يُقَالُ: فُلَانٌ أَرَادَ إِرَادَةً، يُرِيدُونَ حَقِيقَةَ الْإِرَادَةِ، وَيُقَالُ: أَرَادَ الْجِدَارُ، وَلَا يُقَالُ: إِرَادَةً، لِأَنَّهُ مَجَازٌ غَيْرُ حَقِيقَةٍ، هَذَا كَلَامُهُ، وَقَالَ تَعَالَى {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] وَهَذَا التَّكْلِيمُ غَيْرُ التَّكْلِيمِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَرْسَلَهُ بِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَفِي هَذَا التَّكْلِيمِ الثَّانِي سَأَلَ النَّظَرَ لَا فِي الْأَوَّلِ، وَفِيهِ أُعْطِيَ الْأَلْوَاحَ، وَكَانَ عَنْ مُوَاعَدَةٍ مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَالتَّكْلِيمُ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ عَنْ مُوَاعَدَةٍ، وَفِيهِ قَالَ اللَّهُ لَهُ {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] أَيْ بِتَكْلِيمِي لَكَ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ. وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ نَادَاهُ وَنَاجَاهُ، فَالنِّدَاءُ مِنْ بُعْدٍ، وَالنِّجَاءُ مِنْ قُرْبٍ، تَقُولُ الْعَرَبُ: إِذَا كَبُرَتِ الْحَلْقَةُ فَهُوَ نِدَاءٌ، أَوْ نِجَاءٌ، وَقَالَ لَهُ أَبُوهُ آدَمُ فِي مُحَاجَّتِهِ: «أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ؟» ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ لَهُ أَهْلُ

فصل المرتبة الثانية مرتبة الوحي المختص بالأنبياء

الْمَوْقِفِ إِذَا طَلَبُوا مِنْهُ الشَّفَاعَةَ إِلَى رَبِّهِ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فِي رُؤْيَةِ مُوسَى فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ أَوِ السَّابِعَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ، قَالَ: وَذَلِكَ بِتَفْضِيلِهِ بِكَلَامِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ التَّكْلِيمُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ مِنْ جِنْسِ مَا حَصَلَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّخْصِيصِ لَهُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَعْنًى، وَلَا كَانَ يُسَمَّى كِلِيمَ الرَّحْمَنِ وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] فَفَرَّقَ بَيْنَ تَكْلِيمِ الْوَحْيِ، وَالتَّكْلِيمِ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ، وَالتَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. [فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مَرْتَبَةُ الْوَحْيِ الْمُخْتَصِّ بِالْأَنْبِيَاءِ] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] وَقَالَ {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] الْآيَةَ، فَجَعَلَ الْوَحْيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قِسْمًا مِنْ أَقْسَامِ التَّكْلِيمِ، وَجَعَلَهُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ قَسِيمًا لِلتَّكْلِيمِ، وَذَلِكَ باعْتِبَارَيْنِ، فَإِنَّهُ قَسِيمُ التَّكْلِيمِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقِسْمٌ مِنَ التَّكْلِيمِ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ إِيصَالُ الْمَعْنَى بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَالْوَحْيُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِعْلَامُ السَّرِيعُ الْخَفِيُّ، وَيُقَالُ فِي فِعْلِهِ: وَحَى، وَأَوْحَى،

فصل المرتبة الثالثة إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري

قَالَ رُؤْبَةُ: وَحَى لَهَا الْقَرَارُ فَاسْتَقَرَّتْ . وَهُوَ أَقْسَامٌ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ. [فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ إِرْسَالُ الرَّسُولِ الْمَلَكِيِّ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ] فَيُوحَى إِلَيْهِ عَنِ اللَّهِ مَا أَمَرَهُ أَنْ يُوَصِّلَهُ إِلَيْهِ. فَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الثَّلَاثُ خَاصَّةٌ بِالْأَنْبِيَاءِ لَا تَكُونُ لِغَيْرِهِمْ. ثُمَّ هَذَا الرَّسُولُ الْمَلَكِيُّ قَدْ يَتَمَثَّلُ لِلرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ رَجُلًا، يَرَاهُ عِيَانًا وَيُخَاطِبُهُ، وَقَدْ يَرَاهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، وَقَدْ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَكُ، وَيُوحِي إِلَيْهِ مَا يُوحِيهِ، ثُمَّ يَفْصِمُ عَنْهُ، أَيْ يُقْلِعُ، وَالثَّلَاثَةُ حَصَلَتْ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ مَرْتَبَةُ التَّحْدِيثِ] وَهَذِهِ دُونَ مَرْتَبَةِ الْوَحْيِ الْخَاصِّ، وَتَكُونُ دُونَ مَرْتَبَةِ الصِّدِّيقِينَ، كَمَا كَانَتْ لِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّهُ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ» . وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: جَزَمَ بِأَنَّهُمْ كَائِنُونَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَنَا، وَعَلَّقَ وُجُودَهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِ " إِنْ " الشَّرْطِيَّةِ، مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ الْأُمَمِ، لِاحْتِيَاجِ الْأُمَمِ قَبْلَنَا إِلَيْهِمْ، وَاسْتِغْنَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْهُمْ بِكَمَالِ نَبِيِّهَا وَرِسَالَتِهِ، فَلَمْ يُحْوِجِ اللَّهُ الْأُمَّةَ بَعْدَهُ إِلَى مُحَدَّثٍ وَلَا مُلْهَمٍ، وَلَا صَاحِبِ كَشْفٍ وَلَا مَنَامٍ، فَهَذَا التَّعْلِيقُ لِكَمَالِ الْأُمَّةِ وَاسْتِغْنَائِهَا لَا لِنَقْصِهَا. وَالْمُحَدَّثُ: هُوَ الَّذِي يُحَدِّثُ فِي سِرِّهِ وَقَلْبِهِ بِالشَّيْءِ، فَيَكُونُ كَمَا يُحَدِّثُ بِهِ.

فصل المرتبة الخامسة مرتبة الإفهام

قَالَ شَيْخُنَا: وَالصِّدِّيقُ أَكْمَلُ مِنَ الْمُحَدَّثِ، لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِكَمَالِ صَدِّيقِيَّتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ عَنِ التَّحْدِيثِ وَالْإِلْهَامِ وَالْكَشْفِ، فَإِنَّهُ قَدْ سَلَّمَ قَلْبَهُ كُلَّهُ وَسِرَّهُ وَظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ لِلرَّسُولِ، فَاسْتَغْنَى بِهِ عَمَّا مِنْهُ. قَالَ: وَكَانَ هَذَا الْمُحَدَّثُ يَعْرِضُ مَا يُحَدِّثُ بِهِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَإِنْ وَافَقَهُ قَبِلَهُ، وَإِلَّا رَدَّهُ، فَعُلِمَ أَنَّ مَرْتَبَةَ الصِّدِّيقِيَّةِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ التَّحْدِيثِ. قَالَ: وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْخَيَالَاتِ وَالْجَهَالَاتِ: حَدَّثَنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي، فَصَحِيحٌ أَنَّ قَلْبَهُ حَدَّثَهُ، وَلَكِنْ عَمَّنْ؟ عَنْ شَيْطَانِهِ، أَوْ عَنْ رَبِّهِ؟ فَإِذَا قَالَ: حَدَّثَنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي، كَانَ مُسْنِدًا الْحَدِيثَ إِلَى مَنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ حَدَّثَهُ بِهِ، وَذَلِكَ كَذِبٌ، قَالَ: وَمُحَدَّثُ الْأُمَّةِ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ ذَلِكَ، وَلَا تَفَوَّهَ بِهِ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، وَقَدْ أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، بَلْ كَتَبَ كَاتِبُهُ يَوْمًا: هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: لَا، امْحُهُ وَاكْتُبْ: هَذَا مَا رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنْ عُمَرَ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيءٌ، وَقَالَ فِي الْكَلَالَةِ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، فَهَذَا قَوْلُ الْمُحَدَّثِ بِشَهَادَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ تَرَى الِاتِّحَادِيَّ وَالْحُلُولِيَّ وَالْإِبَاحِيَّ الْشَطَّاحَ، وَالسَّمَاعِيَّ مُجَاهِرًا بِالْقِحَةِ وَالْفِرْيَةِ، يَقُولُ: " حَدَّثَنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي ". فَانْظُرْ إِلَى مَا بَيْنَ الْقَائِلَيْنِ وَالْمَرْتَبَتَيْنِ وَالْقَوْلَيْنِ وَالْحَالَيْنِ، وَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَلَا تَجْعَلِ الزَّغَلَ وَالْخَالِصَ شَيْئًا وَاحِدًا. [فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ مَرْتَبَةُ الْإِفْهَامِ] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78] فَذَكَرَ هَذَيْنِ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ، وَخَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ سُئِلَ " هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ؟ " فَقَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ، وَمَا فِي هَذِهِ

فصل المرتبة السادسة مرتبة البيان العام

الصَّحِيفَةِ، وَكَانَ فِيهَا الْعَقْلُ، وَهُوَ الدِّيَاتُ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ "، وَفِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَالْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ، فَالْفَهْمُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَنُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ، يَعْرِفُ بِهِ، وَيُدْرِكُ مَا لَا يُدْرِكُهُ غَيْرُهُ وَلَا يَعْرِفُهُ، فَيَفْهَمُ مِنَ النَّصِّ مَا لَا يَفْهَمُهُ غَيْرُهُ، مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي حِفْظِهِ، وَفَهْمِ أَصْلِ مَعْنَاهُ. فَالْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عُنْوَانُ الصِّدِّيِقِيَّةِ، وَمَنْشُورُ الْوِلَايَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَفِيهِ تَفَاوَتَتْ مَرَاتِبُ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدٍ، فَانْظُرْ إِلَى فَهْمِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ سَأَلَهُ عُمَرُ، وَمَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَغَيْرِهِمْ عَنْ سُورَةِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] وَمَا خُصَّ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ فَهْمِهِ مِنْهَا أَنَّهَا نَعْيُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَإِعْلَامُهُ بِحُضُورِ أَجَلِهِ، وَمُوَافَقَةِ عُمَرَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَخَفَائِهِ عَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَابْنُ عَبَّاسٍ إِذْ ذَاكَ أَحْدَثُهُمْ سِنًّا، وَأَيْنَ تَجِدُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْإِعْلَامَ بِأَجَلِهِ، لَوْلَا الْفَهْمُ الْخَاصُّ؟ وَيَدِقُّ هَذَا حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَرَاتِبَ تَتَقَاصَرُ عَنْهَا أَفْهَامُ أَكْثَرِ النَّاسِ، فَيُحْتَاجُ مَعَ النَّصِّ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَقَعُ الِاسْتِغْنَاءُ بِالنُّصُوصِ فِي حَقِّهِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ صَاحِبِ الْفَهْمِ فَلَا يُحْتَاجُ مَعَ النُّصُوصِ إِلَى غَيْرِهَا. [فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ مَرْتَبَةُ الْبَيَانِ الْعَامِّ] وَهُوَ تَبْيِينُ الْحَقِّ وَتَمْيِيزُهُ مِنَ الْبَاطِلِ بِأَدِلَّتِهِ وَشَوَاهِدِهِ وَأَعْلَامِهِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ مَشْهُودًا لِلْقَلْبِ، كَشُهُودِ الْعَيْنِ لِلْمَرْئِيَّاتِ. وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، الَّتِي لَا يُعَذِّبُ أحَدًا وَلَا يُضِلُّهُ إِلَّا بَعْدَ

فصل المرتبة السابعة البيان الخاص

وُصُولِهِ إِلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] فَهَذَا الْإِضْلَالُ عُقُوبَةٌ مِنْهُ لَهُمْ، حِينَ بَيَّنَ لَهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا مَا بَيَّنَهُ لَهُمْ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ، فَعَاقَبَهُمْ بِأَنْ أَضَلَّهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَمَا أَضَلَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَرَفْتَ سِرَّ الْقَدَرِ، وَزَالَتْ عَنْكَ شُكُوكٌ كَثِيرَةٌ، وَشُبَهَاتٌ فِي هَذَا الْبَابِ، وَعَلِمْتَ حِكْمَةَ اللَّهِ فِي إِضْلَالِهِ مَنْ يُضِلُّهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْقُرْآنُ يُصَرِّحُ بِهَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كَقَوْلِهِ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] ، {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] فَالْأَوَّلُ: كُفْرُ عِنَادٍ، وَالثَّانِي: كُفْرُ طَبْعٍ، وَقَوْلِهِ {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110] فَعَاقَبَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِهِ حِينَ تَيَقَّنُوهُ وَتَحَقَّقُوهُ، بِأَنْ قَلَّبَ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا لَهُ. فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ حَقَّ التَّأَمُّلِ، فَإِنَّهُ مَوْضِعٌ عَظِيمٌ. وَقَالَ تَعَالَى {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] فَهَذَا هُدًى بَعْدَ الْبَيَانِ وَالدِّلَالَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ لَا مُوجِبٌ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ هُدًى آخَرُ بَعْدَهُ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ كَمَالُ الِاهْتِدَاءِ، وَهُوَ هُدَى التَّوْفِيقِ وَالْإِلْهَامِ. وَهَذَا الْبَيَانُ نَوْعَانِ: بَيَانٌ بِالْآيَاتِ الْمَسْمُوعَةِ الْمَتْلُوَّةِ، وَبَيَانٌ بِالْآيَاتِ الْمَشْهُودَةِ الْمَرْئِيَّةِ، وَكِلَاهُمَا أَدِلَّةٌ وَآيَاتٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَكَمَالِهِ، وَصِدْقِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا يَدْعُو عِبَادَهُ بِآيَاتِهِ الْمَتْلُوَّةِ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ وَيَحُضُّهُمْ عَلَى التَّفْكِيرِ فِي هَذِهِ وَهَذِهِ، وَهَذَا الْبَيَانُ هُوَ الَّذِي بُعِثَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَجُعِلَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى الْعُلَمَاءِ بَعْدَهُمْ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4] فَالرُّسُلُ تُبَيِّنُ، وَاللَّهُ هُوَ الَّذِي يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ. [فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ الْبَيَانُ الْخَاصُّ]

فصل المرتبة الثامنة مرتبة الإسماع

وَهُوَ الْبَيَانُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْهِدَايَةِ الْخَاصَّةِ، وَهُوَ بَيَانٌ تُقَارِنُهُ الْعِنَايَةُ وَالتَّوْفِيقُ وَالِاجْتِبَاءُ، وَقَطْعُ أَسْبَابِ الْخِذْلَانِ وَمَوَادِّهَا عَنِ الْقَلْبِ، فَلَا تَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْهِدَايَةُ الْبَتَّةَ، قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] وَقَالَ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] فَالْبَيَانُ الْأَوَّلُ شَرْطٌ، وَهَذَا مُوجِبٌ. [فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الثَّامِنَةُ مَرْتَبَةُ الْإِسْمَاعِ] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 19] وَهَذَا الْإِسْمَاعُ أَخَصُّ مِنْ إِسْمَاعِ الْحُجَّةِ وَالتَّبْلِيغِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لَهُمْ، وَبِهِ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، لَكِنَّ ذَاكَ إِسْمَاعُ الْآذَانِ، وَهَذَا إِسْمَاعُ الْقُلُوبِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ لَهُ لَفْظٌ وَمَعْنًى، وَلَهُ نِسْبَةٌ إِلَى الْأُذُنِ وَالْقَلْبِ وَتَعَلُّقٌ بِهِمَا، فَسَمَاعُ لَفْظِهِ حَظُّ الْأُذُنِ، وَسَمَاعُ حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ وَمَقْصُودِهِ حَظُّ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَفَى عَنِ الْكُفَّارِ سَمَاعَ الْمَقْصُودِ وَالْمُرَادِ الَّذِي هُوَ حَظُّ الْقَلْبِ، وَأَثْبَتَ لَهُمْ سَمَاعَ الْأَلْفَاظِ الَّذِي هُوَ حَظُّ الْأُذُنِ فِي قَوْلِهِ {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 2] وَهَذَا السَّمَاعُ لَا يُفِيدُ السَّامِعَ إِلَّا قِيَامَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، أَوْ تُمَكِّنُهُ مِنْهَا، وَأَمَّا مَقْصُودُ السَّمَاعِ وَثَمَرَتُهُ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ فَلَا يَحْصُلُ مَعَ لَهْوِ الْقَلْبِ وَغَفْلَتِهِ وَإِعْرَاضِهِ، بَلْ يَخْرُجُ السَّامِعُ قَائِلًا لِلْحَاضِرِ مَعَهُ {مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16] . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَمَرْتَبَةِ الْإِفْهَامِ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِوَاسِطَةِ الْأُذُنِ،

فصل المرتبة التاسعة مرتبة الإلهام

وَمَرْتَبَةُ الْإِفْهَامِ أَعَمُّ، فَهِيَ أَخَصُّ مِنْ مَرْتَبَةِ الْفَهْمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمَرْتَبَةُ الْفَهْمِ أَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهِيَ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ وَلَوَازِمِهِ وَمُتَعَلَّقَاتِهِ وَإِشَارَاتِهِ، وَمَرْتَبَةُ السَّمَاعِ مَدَارُهَا عَلَى إِيصَالِ الْمَقْصُودِ بِالْخِطَابِ إِلَى الْقَلْبِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا السَّمَاعِ سَمَاعُ الْقَبُولِ. فَهُوَ إِذَنْ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: سَمَاعُ الْأُذُنِ، وَسَمَاعُ الْقَلْبِ، وَسَمَاعُ الْقَبُولِ وَالْإِجَابَةِ. [فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ التَّاسِعَةُ مَرْتَبَةُ الْإِلْهَامِ] [الْإِلْهَامُ هُوَ مَقَامُ الْمُحَدِّثِينَ] فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ التَّاسِعَةُ مَرْتَبَةُ الْإِلْهَامِ قَالَ تَعَالَى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِ حُصَيْنِ بْنِ مُنْذِرٍ الْخُزَاعِيِّ لَمَّا أَسْلَمَ «قُلِ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي» . وَقَدْ جَعَلَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ الْإِلْهَامَ هُوَ مَقَامُ الْمُحَدَّثِينَ، قَالَ: وَهُوَ فَوْقَ مَقَامِ الْفِرَاسَةِ، لِأَنَّ الْفِرَاسَةَ رُبَّمَا وَقَعَتْ نَادِرَةً، وَاسْتُصْعِبَتْ عَلَى صَاحِبِهَا وَقْتًا، أَوِ اسْتَعْصَتْ عَلَيْهِ، وَالْإِلْهَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي مَقَامٍ عَتِيدٍ. قُلْتُ: التَّحْدِيثُ أَخَصُّ مِنَ الْإِلْهَامِ، فَإِنَّ الْإِلْهَامَ عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ بِحَسَبِ إِيمَانِهِمْ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ فَقَدْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ رُشْدَهُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ بِهِ الْإِيمَانُ، فَأَمَّا التَّحْدِيثُ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ «إِنْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَحَدٌ فَعُمَرُ» يَعْنِي مِنَ الْمُحَدَّثِينَ، فَالتَّحْدِيثُ إِلْهَامٌ خَاصٌّ، وَهُوَ الْوَحْيُ إِلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ إِمَّا مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7] وَقَوْلِهِ {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة: 111] وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] فَهَذَا كُلُّهُ وَحَيُّ إِلْهَامٍ.

فصل درجات الإلهام

وَأَمَّا جَعْلُهُ فَوْقَ مَقَامِ الْفَرَاسَةِ فَقَدِ احْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْفَرَاسَةَ رُبَّمَا وَقَعَتْ نَادِرَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ، وَرُبَّمَا اسْتَعْصَتْ عَلَى صَاحِبِهَا وَاسْتُصْعِبَتْ عَلَيْهِ فَلَمْ تُطَاوِعْهُ، وَالْإِلْهَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي مَقَامٍ عَتِيدٍ، يَعْنِي فِي مَقَامِ الْقُرْبِ وَالْحُضُورِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ " الْفِرَاسَةِ " وَ " الْإِلْهَامِ " يَنْقَسِمُ إِلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ، وَخَاصُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَوْقَ عَامِّ الْآخَرِ، وَعَامُّ كُلِّ وَاحِدٍ قَدْ يَقَعُ كَثِيرًا، وَخَاصُّهُ قَدْ يَقَعُ نَادِرًا، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ الصَّحِيحَ أَنَّ الْفِرَاسَةَ قَدْ تَتَعَلَّقُ بِنَوْعِ كَسْبٍ وَتَحْصِيلٍ، وَأَمَّا الْإِلْهَامُ فَمَوْهِبَةٌ مُجَرَّدَةٌ، لَا تُنَالُ بِكَسْبٍ الْبَتَّةَ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْإِلْهَامِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى نَبَأٌ يَقَعُ وَحْيًا قَاطِعًا مَقْرُونًا بِسَمَاعٍ] فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْإِلْهَامِ قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: نَبَأٌ يَقَعُ وَحْيًا قَاطِعًا مَقْرُونًا بِسَمَاعٍ، إِذْ مُطْلَقُ النَّبَأِ الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ، فَلَيْسَ كُلُّ خَبَرٍ نَبَأً، وَهُوَ نَبَأُ خَبَرٍ عَنْ غَيْبٍ مُعَظَّمٍ. وَيُرِيدُ بِالْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ: الْإِعْلَامَ الَّذِي يَقْطَعُ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ بِمُوجَبِهِ، إِمَّا بِوَاسِطَةِ سَمْعٍ، أَوْ هُوَ الْإِعْلَامُ بِلَا وَاسِطَةٍ. قُلْتُ: أَمَّا حُصُولُهُ بِوَاسِطَةِ سَمْعٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ إلْهَامًا، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْخِطَابِ، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ الَّذِي خُصَّ بِهِ مُوسَى، إِذْ كَانَ الْمُخَاطِبُ هُوَ الْحَقَّ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا مَا يَقَعُ لِكَثِيرٍ مِنْ أَرْبَابِ الرِّيَاضَاتِ مِنْ سَمَاعٍ فَهُوَ مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ لَا رَابِعَ لَهَا، أَعْلَاهَا: أَنْ يُخَاطِبَهُ الْمَلَكُ خِطَابًا جُزْئِيًّا، فَإِنَّ هَذَا يَقَعُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُخَاطِبُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ بِالسَّلَامِ، فَلَمَّا اكْتَوَى تَرَكَتْ خِطَابَهُ، فَلَمَّا تَرَكَ الْكَيَّ عَادَ إِلَيْهِ خِطَابٌ مَلَكِيٌّ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: خِطَابٌ يَسْمَعُهُ بِأُذُنِهِ، وَهُوَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالثَّانِي: خِطَابٌ يُلْقَى فِي قَلْبِهِ يُخَاطِبُ بِهِ الْمَلَكُ رُوحَهُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «إِنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً بِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ، وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ الْمَلَكِ: إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالْوَعْدِ،

وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْوَعْدِ» ثُمَّ قَرَأَ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268] وَقَالَ تَعَالَى {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا: قَوُّوا قُلُوبَهُمْ، وَبَشَّرُوهُمْ بِالنَّصْرِ، وَقِيلَ: احْضُرُوا مَعَهُمُ الْقِتَالَ، وَالْقَوْلَانِ حَقٌّ، فَإِنَّهُمْ حَضَرُوا مَعَهُمُ الْقِتَالَ، وَثَبَّتُوا قُلُوبَهُمْ. وَمِنْ هَذَا الْخِطَابِ وَاعِظُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَمَسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى كَنَفَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ، لَهُمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ، وَدَاعٍ يَدْعُو فَوْقَ الصِّرَاطِ، فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَلَا يَقَعُ أَحَدٌ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ حَتَّى يَكْشِفَ السِّتْرَ، وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ» فَهَذَا الْوَاعِظُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْإِلْهَامُ الْإِلَهِيُّ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا وُقُوعُهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ بَعْدُ، وَالْجَزْمُ فِيهِ بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْخِطَابِ الْمَسْمُوعِ: خِطَابُ الْهَوَاتِفِ مِنَ الْجَانِّ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُخَاطِبُ جِنِّيًّا مُؤْمِنًا صَالِحًا، وَقَدْ يَكُونُ شَيْطَانًا، وَهَذَا أَيْضًا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَاطِبَهُ خِطَابًا يَسْمَعُهُ بِأُذُنِهِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ عِنْدَمَا يُلِمُّ بِهِ، وَمِنْهُ وَعْدُهُ وَتَمْنِيَتُهُ حِينَ يَعِدُ الْإِنْسِيَّ وَيُمَنِّيهِ، وَيَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120] وَقَالَ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] وَلِلْقَلْبِ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ نَصِيبٌ، وَلِلْأُذُنِ أَيْضًا مِنْهُ نَصِيبٌ، وَالْعِصْمَةُ مُنْتَفِيَةٌ إِلَّا عَنِ الرُّسُلِ، وَمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ. فَمِنْ أَيْنَ لِلْمُخَاطَبِ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ رَحِمَانِيٌّ، أَوْ مَلَكِيٌّ؟ بِأَيِّ بُرْهَانٍ؟ أَوْ بِأَيِّ دَلِيلٍ؟ وَالشَّيْطَانُ يَقْذِفُ فِي النَّفْسِ وَحْيَهُ، وَيُلْقِي فِي السَّمْعِ خِطَابَهُ، فَيَقُولُ الْمَغْرُورُ الْمَخْدُوعُ: قِيلَ لِي وَخُوطِبْتُ، صَدَقْتَ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الْقَائِلِ لَكَ وَالْمُخَاطِبِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمَّا طَلَّقَ نِسَاءَهُ، وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ: إِنِّي لَأَظُنُّ الشَّيْطَانَ فِيمَا يَسْتَرِقُ مِنَ السَّمْعِ سَمِعَ بِمَوْتِكَ، فَقَذَفَهُ فِي نَفْسِكَ. فَمَنْ يَأْمَنُ الْقُرَّاءَ بَعْدَكَ يَا شَهْرُ؟ . فَصْلٌ: النَّوْعُ الثَّالِثُ: خِطَابٌ حَالِيٌّ، تَكُونُ بِدَايَتُهُ مِنَ النَّفْسِ، وَعَوْدُهُ إِلَيْهَا، فَيَتَوَهَّمُهُ مِنْ خَارِجٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ نَفْسِهِ، مِنْهَا بَدَأَ وَإِلَيْهَا يَعُودُ. وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ لِلسَّالِكِ، فَيَغْلَطُ فِيهِ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ، كَلَّمَهُ بِهِ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَسَبَبُ غَلَطِهِ أَنَّ اللَّطِيفَةَ الْمُدْرِكَةَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِذَا صَفَتْ بِالرِّيَاضَةِ، وَانْقَطَعَتْ عُلَقُهَا عَنِ الشَّوَاغِلِ الْكَثِيفَةِ صَارَ الْحَكَمُ لَهَا بِحُكْمِ اسْتِيلَاءِ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ عَلَى الْبَدَنِ، وَمَصِيرُ الْحُكْمِ لَهُمَا، فَتَنْصَرِفُ عِنَايَةُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ إِلَى تَجْرِيدِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِهِمَا، وَتَشْتَدُّ عِنَايَةُ الرُّوحِ بِهَا، وَتَصِيرُ فِي مَحَلِّ تِلْكَ الْعَلَائِقِ وَالشَّوَاغِلِ، فَتَمْلَأُ الْقَلْبَ، فَتَنْصَرِفُ تِلْكَ الْمَعَانِي إِلَى الْمَنْطِقِ وَالْخِطَابِ الْقَلْبِيِّ الرُّوحِيِّ بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَيَتَّفِقُ تَجَرُّدُ الرُّوحِ، فَتُشَكَّلُ تِلْكَ الْمَعَانِي لِلْقُوَّةِ السَّامِعَةِ بِشَكْلِ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ، وَلِلْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ بِشَكْلِ الْأَشْخَاصِ الْمَرْئِيَّةِ، فَيَرَى صُوَرَهَا، وَيَسْمَعُ الْخِطَابَ، وَكُلُّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَحْلِفُ أَنَّهُ رَأَى وَسَمِعَ، وَصَدَّقَ، لَكِنْ رَأَى وَسَمِعَ فِي الْخَارِجِ، أَوْ فِي نَفْسِهِ؟

فصل الدرجة الثانية إلهام يقع عيانا

وَيَتَّفِقُ ضَعْفُ التَّمْيِيزِ، وَقِلَّةُ الْعِلْمِ، وَاسْتِيلَاءُ تِلْكَ الْمَعَانِي عَلَى الرُّوحِ، وَتَجَرُّدُهَا عَنِ الشَّوَاغِلِ. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ هِيَ وُجُوهُ الْخِطَابِ، وَمَنْ سَمَّعَ نَفْسَهُ غَيْرَهَا فَإِنَّمَا هُوَ غُرُورٌ، وَخَدْعٌ وَتَلْبِيسٌ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَقْطَعُ الْقَوْلِ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْمَوَاضِعِ لِمَنْ حَقَّقَهُ وَفَهِمَهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ إِلْهَامٌ يَقَعُ عِيَانًا] فَصْلٌ قَالَ: " الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: إِلْهَامٌ يَقَعُ عِيَانًا، وَعَلَامَةُ صِحَّتِهِ أَنَّهُ لَا يَخْرِقُ سِتْرًا، وَلَا يُجَاوِزُ حَدًّا، وَلَا يُخْطِئُ أَبَدًا ". الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْإِلْهَامِ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى: أَنَّ ذَلِكَ عِلْمٌ شَبِيهٌ بِالضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ عَنِ الْقَلْبِ، وَهَذَا مُعَايَنَةٌ وَمُكَاشَفَةٌ، فَهُوَ فَوْقَهُ فِي الدَّرَجَةِ، وَأَتَمُّ مِنْهُ ظُهُورًا، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ نِسْبَةُ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ، وَذَكَرَ لَهُ ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ: إِحْدَاهَا: أَنَّهُ لَا يَخْرِقُ سِتْرًا، أَيْ صَاحِبُهُ إِذَا كُوشِفَ بِحَالٍ غَيْرِ الْمَسْتُورِ عَنْهُ لَا يَخْرِقُ سِتْرَهُ وَيَكْشِفُهُ، خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا، أَوْ أَنَّهُ لَا يَخْرِقُ مَا سَتَرَهُ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ عَنِ النَّاسِ، بَلْ يَسْتُرُ نَفْسَهُ، وَيَسْتُرُ مَنْ كُوشِفَ بِحَالِهِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ حَدًّا، يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَتَجَاوُزِ حُدُودِ اللَّهِ، مِثْلَ الْكُهَّانِ، وَأَصْحَابِ الْكَشْفِ الشَّيْطَانِيِّ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى خِلَافِ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ يَتَجَسَّسَ بِهِ عَلَى الْعَوْرَاتِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ عَلَيْهَا وَتَتَبُّعِهَا، فَإِذَا تَتَبَّعَهَا وَقَعَ عَلَيْهَا بِهَذَا الْكَشْفِ، فَهُوَ شَيْطَانِيٌّ لَا رَحِمَانِيٌّ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَا يُخْطِئُ أَبَدًا، بِخِلَافِ الشَّيْطَانِيِّ، فَإِنَّ خَطَأَهُ كَثِيرٌ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ صَائِدٍ «مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى صَادِقًا وَكَاذِبًا، فَقَالَ: لَبَّسَ عَلَيْكَ» فَالْكَشْفُ الشَّيْطَانِيُّ لَا بُدَّ أَنْ يَكْذِبَ، وَلَا يَسْتَمِرُّ صِدْقُهُ الْبَتَّةَ.

فصل الدرجة الثالثة إلهام يجلو عين التحقيق صرفا

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ إِلْهَامٌ يَجْلُو عَيْنَ التَّحْقِيقِ صَرْفًا] فَصْلٌ قَالَ: " الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: إِلْهَامٌ يَجْلُو عَيْنَ التَّحْقِيقِ صَرْفًا، وَيَنْطِقُ عَنْ عَيْنِ الْأَزَلِ مَحْضًا، وَالْإِلْهَامُ غَايَةٌ تَمْتَنِعُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا ". عَيْنُ التَّحْقِيقِ عِنْدَهُ هِيَ الْفَنَاءُ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ، بِحَيْثُ يَضْمَحِلُّ كُلُّ مَا سِوَاهَا فِي ذَلِكَ الشُّهُودِ، وَتَعُودُ الرُّسُومُ أَعْدَامًا مَحْضَةً، فَالْإِلْهَامُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَجْلُو هَذَا الْعَيْنَ لِلْمُلْهَمِ صَرْفًا، بِحَيْثُ لَا يُمَازِجُهَا شَيْءٌ مِنْ إِدْرَاكِ الْعُقُولِ وَلَا الْحَوَاسِّ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ إِدْرَاكٌ عَقْلِيٌّ أَوْ حِسِّيٌّ لَمْ يَتَمَحَّضْ جَلَاءُ عَيْنِ الْحَقِيقَةِ، وَالنَّاطِقُ عَنْ هَذَا الْكَشْفِ عِنْدَهُمْ لَا يَفْهَمُ عَنْهُ إِلَّا مَنْ هُوَ مَعَهُ، وَمُشَارِكٌ لَهُ، وَعِنْدَ أَرْبَابِ هَذَا الْكَشْفِ أَنَّ كُلَّ الْخَلْقِ عَنْهُ فِي حِجَابٍ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ وَالْحَالَ حُجُبٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ خِطَابَ الْخَلْقِ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى لِسَانِ الْحِجَابِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ لُغَةَ مَا وَرَاءَ الْحِجَابِ مِنَ الْمَعْنَى الْمَحْجُوبِ، فَلِذَلِكَ تَمْتَنِعُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ وَالْعِبَارَةَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْمَحْسُوسِ وَالْمَعْقُولِ، وَهَذَا أَمْرٌ وَرَاءَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ. وَحَاصِلُ هَذَا الْإِلْهَامِ أَنَّهُ إِلْهَامٌ تَرْتَفِعُ مَعَهُ الْوَسَائِطُ وَتَضْمَحِلُّ وَتُعْدَمُ، لَكِنْ فِي الشُّهُودِ لَا فِي الْوُجُودِ، وَأَمَّا الِاتِّحَادِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ اضْمِحْلَالًا وَعَدَمًا فِي الْوُجُودِ، وَيَجْعَلُونَ صَاحِبَ الْمَنَازِلِ مِنْهُمْ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ عَقْلًا وَدِينًا وَحَالًا وَمَعْرِفَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الْعَاشِرَةُ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ] فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ مَرَاتِبَ الْهِدَايَةِ: الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ وَهِيَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» .

وَقَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ هَذَا التَّخْصِيصِ الْمَذْكُورِ: إِنَّ أَوَّلَ مُبْتَدَأِ الْوَحْيِ كَانَ هُوَ الرُّؤيَا الصَّادِقَةُ، وَذَلِكَ نِصْفُ سَنَةٍ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى وَحْيِ الْيَقَظَةِ مُدَّةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، مِنْ حِينِ بُعِثَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَنِسْبَةُ مُدَّةِ الْوَحْيِ فِي الْمَنَامِ مِنْ ذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا، وَهَذَا حَسَنٌ، لَوْلَا مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةِ " «إِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا» ". وَقَدْ قِيلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا: إِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ الرَّائِي، فَإِنَّ رُؤْيَا الصِّدِّيِقِينَ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَرُؤْيَا عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقَةَ مِنْ سَبْعِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالرُّؤْيَا مَبْدَأُ الْوَحْيِ، وَصِدْقُهَا بِحَسَبِ صِدْقِ الرَّائِي، وَأَصْدَقُ النَّاسِ رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ حَدِيثًا، وَهِيَ عِنْدَ اقْتِرَابِ الزَّمَانِ لَا تَكَادُ تُخْطِئُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِبُعْدِ الْعَهْدِ بِالنُّبُوَّةِ وَآثَارِهَا، فَيَتَعَوَّضُ الْمُؤْمِنُونَ بِالرُّؤْيَا، وَأَمَّا فِي زَمَنِ قُوَّةِ نُورِ النُّبُوَّةِ فَفِي ظُهُورِ نُورِهَا وَقُوَّتِهِ مَا يُغْنِي عَنِ الرُّؤْيَا. وَنَظِيرُ هَذَا الْكَرَامَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِمْ، لِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهَا بِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ، وَاحْتِيَاجِ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَيْهَا لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ

عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عَبْدَهُ فِي الْمَنَامِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ، قِيلَ: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ» وَإِذَا تَوَاطَأَتْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِينَ لَمْ تَكْذِبْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ لَمَّا أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، قَالَ «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» . وَالرُّؤْيَا كَالْكَشْفِ، مِنْهَا رَحِمَانِيُّ، وَمِنْهَا نَفْسَانِيُّ، وَمِنْهَا شَيْطَانِيُّ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: رُؤْيَا مِنَ اللَّهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ الرَّجُلُ نَفْسَهُ فِي الْيَقَظَةِ، فَيَرَاهُ فِي الْمَنَامِ» . وَالَّذِي هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ: هُوَ الرُّؤْيَا الَّتِي مِنَ اللَّهِ خَاصَّةً. وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، فَإِنَّهَا مَعْصُومَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَلِهَذَا أَقْدَمَ الْخَلِيلُ عَلَى ذَبْحِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِالرُّؤْيَا. وَأَمَّا رُؤْيَا غَيْرِهِمْ فَتُعْرَضُ عَلَى الْوَحْيِ الصَّرِيحِ، فَإِنْ وَافَقَتْهُ وَإِلَّا لَمْ يُعْمَلْ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ إِذَا كَانَتْ رُؤْيَا صَادِقَةٌ، أَوْ تَوَاطَأَتْ؟ .

فصل في بيان اشتمال الفاتحة على الشفاءين شفاء القلوب وشفاء الأبدان

قُلْنَا: مَتَّى كَانَتْ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ مُخَالَفَتُهَا لِلْوَحْيِ، بَلْ لَا تَكُونُ إِلَّا مُطَابِقَةً لَهُ، مُنَبِّهَةً عَلَيْهِ، أَوْ مُنَبِّهَةً عَلَى انْدِرَاجِ قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ فِي حُكْمِهِ، لَمْ يَعْرِفِ الرَّائِي انْدِرَاجَهَا فِيهِ، فَيَتَنَبَّهُ بِالرُّؤْيَا عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ تُصَدَّقَ رُؤْيَاهُ فَلْيَتَحَرَّ الصِّدْقَ وَأَكْلَ الْحَلَالِ، وَالْمُحَافَظَةَ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلْيَنَمْ عَلَى طِهَارَةٍ كَامِلَةٍ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَغْلِبَهُ عَيْنَاهُ، فَإِنَّ رُؤْيَاهُ لَا تَكَادُ تَكْذِبُ الْبَتَّةَ. وَأَصْدَقُ الرُّؤْيَا: رُؤْيَا الْأَسْحَارِ، فَإِنَّهُ وَقْتُ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ، وَاقْتِرَابِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَسُكُونِ الشَّيَاطِينِ، وَعَكْسُهُ رُؤْيَا الْعَتْمَةِ، عِنْدَ انْتِشَارِ الشَّيَاطِينِ وَالْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عَبْدَهُ فِي الْمَنَامِ. وَلِلرُّؤْيَا مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهَا، يُرِيهَا الْعَبْدَ فِي أَمْثَالٍ تُنَاسِبُهُ وَتُشَاكِلُهُ، فَيَضْرِبُهَا لِكُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: " الرُّؤْيَا مِنَ الْوَحْيِ وَحْيٌ "، وَزَجَرَ عَنْ تَفْسِيرِهَا بِلَا عِلْمٍ، وَقَالَ: أَتَتَلَاعَبُ بِوَحْيِ اللَّهِ؟ وَلِذِكْرِ الرُّؤْيَا وَأَحْكَامِهَا وَتَفَاصِيلِهَا وَطُرُقِ تَأْوِيلِهَا مَظَانُّ مَخْصُوصَةٌ بِهَا، يُخْرِجُنَا ذِكْرُهَا عَنِ الْمَقْصُودِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ اشْتِمَالِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْشِفَاءَيْنِ شِفَاءِ الْقُلُوبِ وَشِفَاءِ الْأَبْدَانِ] [اشْتِمَالُهَا عَلَى شِفَاءِ الْقُلُوبِ] فَصْلٌ فِي بَيَانِ اشْتِمَالِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْشِفَاءَيْنِ شِفَاءِ الْقُلُوبِ وَشِفَاءِ الْأَبْدَانِ فَأَمَّا اشْتِمَالُهَا عَلَى شِفَاءِ الْقُلُوبِ: فَإِنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَتَمَّ اشْتِمَالٍ، فَإِنَّ مَدَارَ اعْتِلَالِ الْقُلُوبِ وَأَسْقَامِهَا عَلَى أَصْلَيْنِ: فَسَادِ الْعِلْمِ، وَفَسَادِ الْقَصْدِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا دَاءَانِ قَاتِلَانِ، وَهُمَا الضَّلَالُ وَالْغَضَبُ، فَالضَّلَالُ نَتِيجَةُ فَسَادِ الْعِلْمِ، وَالْغَضَبُ نَتِيجَةُ فَسَادِ الْقَصْدِ، وَهَذَانَ الْمَرَضَانِ هُمَا مِلَاكُ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ جَمِيعِهَا، فَهِدَايَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ تَتَضَمَّنُ الشِّفَاءَ مِنْ مَرَضِ الضَّلَالِ، وَلِذَلِكَ كَانَ سُؤَالُ هَذِهِ الْهِدَايَةِ أَفْرَضَ دُعَاءٍ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ، وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، لِشِدَّةِ ضَرُورَتِهِ وَفَاقَتِهِ إِلَى الْهِدَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُ هَذَا السُّؤَالِ مَقَامَهُ. وَالتَّحَقُّقُ بِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] عِلْمًا وَمَعْرِفَةً، وَعَمَلًا وَحَالًا يَتَضَمَّنُ الشِّفَاءَ مِنْ مَرَضِ فَسَادِ الْقَلْبِ وَالْقَصْدِ، فَإِنَّ فَسَادَ الْقَصْدِ يَتَعَلَّقُ بِالْغَايَاتِ وَالْوَسَائِلِ، فَمَنْ طَلَبَ غَايَةً مُنْقَطِعَةً مُضْمَحِلَّةً فَانِيَةً، وَتَوَسَّلَ إِلَيْهَا بِأَنْوَاعِ الْوَسَائِلِ الْمُوَّصِلَةِ إِلَيْهَا كَانَ كِلَا نَوْعِي

قَصْدِهِ فَاسِدًا، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنْ كَانَ غَايَةُ مَطْلُوبِهِ غَيْرَ اللَّهِ وَعُبُودِيَّتِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمُتَّبِعِي الشَّهَوَاتِ، الَّذِينَ لَا غَايَةَ لَهُمْ وَرَاءَهَا، وَأَصْحَابِ الرِّيَاسَاتِ الْمُتَّبِعِينَ لِإِقَامَةِ رِيَاسَتِهِمْ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ مِنْ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، فَإِذَا جَاءَ الْحَقُّ مُعَارِضًا فِي طَرِيقِ رِيَاسَتِهِمْ طَحَنُوهُ وَدَاسُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ دَفَعُوهُ دَفْعَ الصَّائِلِ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ حَبَسُوهُ فِي الطَّرِيقِ، وَحَادُوا عَنْهُ إِلَى طَرِيقٍ أُخْرَى، وَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لِدَفْعِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا مِنْهُ بُدًّا أَعْطَوْهُ السِّكَّةَ وَالْخُطْبَةَ وَعَزَلُوهُ عَنِ التَّصَرُّفِ وَالْحُكْمِ وَالتَّنْفِيذِ، وَإِنْ جَاءَ الْحَقُّ نَاصِرًا لَهُمْ وَكَانَ لَهُمْ صَالُوا بِهِ وَجَالُوا، وَأَتَوْا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، لَا لِأَنَّهُ حَقٌّ، بَلْ لِمُوَافَقَتِهِ غَرَضَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ، وَانْتِصَارِهِمْ بِهِ {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: 48] . وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ قَصْدَ هَؤُلَاءِ فَاسِدٌ فِي غَايَاتِهِمْ وَوَسَائِلِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ إِذَا بَطَلَتِ الْغَايَاتُ الَّتِي طَلَبُوهَا، وَاضْمَحَلَّتْ وَفَنِيَتْ، حَصَلُوا عَلَى أَعْظَمِ الْخُسْرَانِ وَالْحَسَرَاتِ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ نَدَامَةً وَتَحَسُّرًا إِذَا حَقَّ الْحَقُّ وَبَطَلَ الْبَاطِلُ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ أَسْبَابُ الْوَصْلِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَتَيَقَّنُوا انْقِطَاعَهُمْ عَنْ رَكْبِ الْفَلَاحِ وَالسَّعَادَةِ، وَهَذَا يَظْهَرُ كَثِيرًا فِي الدُّنْيَا، وَيَظْهَرُ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الرَّحِيلِ مِنْهَا وَالْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ، وَيَشْتَدُّ ظُهُورُهُ وَتَحَقُّقُهُ فِي الْبَرْزَخِ، وَيَنْكَشِفُ كُلَّ الِانْكِشَافِ يَوْمَ اللِّقَاءِ، إِذَا حَقَّتِ الْحَقَائِقُ، وَفَازَ الْمُحِقُّونَ وَخَسِرَ الْمُبْطِلُونَ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ، وَكَانُوا مَخْدُوعِينَ مَغْرُورِينَ، فِيَالَهُ هُنَاكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ عَالِمَهُ، وَيَقِينٍ لَا يُنْجِي مُسْتَيْقِنَهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ طَلَبَ الْغَايَةَ الْعُلْيَا وَالْمَطْلَبَ الْأَسْمَى، وَلَكِنْ لَمْ يَتَوَسَّلْ إِلَيْهِ بِالْوَسِيلَةِ الْمُوَصِّلَةِ لَهُ وَإِلَيْهِ، بَلْ تَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِوَسِيلَةٍ ظَنَّهَا مُوَصِّلَةً إِلَيْهِ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْقَوَاطِعِ عَنْهُ، فَحَالُهُ أَيْضًا كَحَالِ هَذَا، وَكِلَاهُمَا فَاسِدُ الْقَصْدِ، وَلَا شِفَاءَ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ إِلَّا بِدَوَاءِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ". فَإِنَّ هَذَا الدَّوَاءَ مُرَكَّبٌ مِنْ سِتَّةِ أَجْزَاءٍ (1) عُبُودِيَّةِ اللَّهِ لَا غَيْرِهِ (2) بِأَمْرِهِ وَشَرْعِهِ (3) لَا بِالْهَوَى (4) وَلَا بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَأَوْضَاعِهِمْ، وَرُسُومِهِمْ، وَأَفْكَارِهِمْ (5) بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَى عُبُودِيَّتِهِ بِهِ (6) لَا بِنَفْسِ الْعَبْدِ وَقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ.

تضمنها لشفاء الأبدان

فَهَذِهِ هِيَ أَجْزَاءُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَإِذَا رَكَّبَهَا الطَّبِيبُ اللَّطِيفُ، الْعَالِمُ بِالْمَرَضِ، وَاسْتَعْمَلَهَا الْمَرِيضُ، حَصَلَ بِهَا الشِّفَاءُ التَّامُّ، وَمَا نَقَصَ مِنَ الشِّفَاءِ فَهُوَ لِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. ثُمَّ إِنَّ الْقَلْبَ يَعْرِضُ لَهُ مَرَضَانِ عَظِيمَانِ، إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُمَا الْعَبْدُ تَرَامَيَا بِهِ إِلَى التَّلَفِ وَلَا بُدَّ، وَهُمَا الرِّيَاءُ، وَالْكِبْرُ، فَدَوَاءُ الرِّيَاءِ بِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وَدَوَاءُ الْكِبْرِ بِ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وَكَثِيرًا مَا كُنْتُ أَسْمَعُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] تَدْفَعُ الرِّيَاءَ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] تَدْفَعُ الْكِبْرِيَاءَ. فَإِذَا عُوفِيَ مِنْ مَرَضِ الرِّيَاءِ بِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وَمِنْ مَرَضِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعُجْبِ بِ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَمِنْ مَرَضِ الضَّلَالِ وَالْجَهْلِ بِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] عُوفِيَ مِنْ أَمْرَاضِهِ وَأَسْقَامِهِ، وَرَفَلَ فِي أَثْوَابِ الْعَافِيَةِ، وَتَمَّتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ، وَكَانَ مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ فَسَادِ الْقَصْدِ، الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَعَدَلُوا عَنْهُ وَالضَّالِّينَ وَهُمْ أَهْلُ فَسَادِ الْعِلْمِ، الَّذِينَ جَهِلُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ. وَحُقَّ لِسُورَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى هَذَيْنِ الْشِفَاءَيْنِ أَنْ يُسْتَشْفَى بِهَا مِنْ كُلِّ مَرَضٍ، وَلِهَذَا لَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَى هَذَا الشِّفَاءِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْشِفَاءَيْنِ، كَانَ حُصُولُ الشِّفَاءِ الْأَدْنَى بِهَا أَوْلَى، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، فَلَا شَيْءَ أَشَفَى لِلْقُلُوبِ الَّتِي عَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ، وَفَهِمَتْ عَنْهُ فَهْمًا خَاصًّا، اخْتَصَّهَا بِهِ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ السُّورَةِ. وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَضَمُّنَهَا لِلرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْبِدَعِ بِأَوْضَحِ الْبَيَانِ وَأَحْسَنِ الطُّرُقِ. [تَضَمُّنُهَا لِشِفَاءِ الْأَبْدَانِ] فَصْلٌ وَأَمَّا تَضَمُّنُهَا لِشِفَاءِ الْأَبْدَانِ فَنَذْكُرُ مِنْهُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَمَا شَهِدَتْ بِهِ قَوَاعِدُ الطِّبِّ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ التَّجْرِبَةُ. فَأَمَّا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ: فَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرُّوا بِحَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَلَمْ يُقْرُوهُمْ، وَلِمَ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ الْحَيِّ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رُقْيَةٍ، أَوَ هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، وَلَكِنَّكُمْ لَمْ تُقِرُّونَا، فَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَجَعَلُوا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَطِيعًا مِنَ الْغَنَمِ، فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنَّا يَقْرَأُ عَلَيْهِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَقَامَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ قَلْبَةٌ، فَقُلْنَا: لَا تَعْجَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْنَاهُ، فَذَكَرْنَا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا يُدْرِيكَ

أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ كُلُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ.» فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ حُصُولَ شِفَاءِ هَذَا اللَّدِيغِ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَيْهِ، فَأَغْنَتْهُ عَنِ الدَّوَاءِ، وَرُبَّمَا بَلَغَتْ مِنْ شِفَائِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّوَاءُ. هَذَا مَعَ كَوْنِ الْمَحَلِّ غَيْرَ قَابِلٍ، إِمَّا لِكَوْنِ هَؤُلَاءِ الْحَيِّ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، أَوْ أَهْلَ بُخْلٍ وَلُؤْمٍ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا. فَصْلٌ: وَأَمَّا شَهَادَةُ قَوَاعِدِ الطِّبِّ بِذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّدْغَةَ تَكُونُ مِنْ ذَوَاتِ الْحُمَاتِ وَالسُّمُومِ، وَهِيَ ذَوَاتُ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي تَتَكَيَّفُ بِكَيْفِيَّةٍ غَضَبِيَّةٍ، تُثِيرُ فِيهَا سُمِيَّةً نَارِيَّةً، يَحْصُلُ بِهَا اللَّدْغُ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ خُبْثِ تِلْكَ النُّفُوسِ وَقُوَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا، فَإِذَا تَكَيَّفَتْ أَنْفُسُهَا الْخَبِيثَةُ بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الْغَضَبِيَّةِ أَحْدَثَ لَهَا ذَلِكَ طَبِيعَةً سُمِّيَّةً، تَجِدُ رَاحَةً وَلَذَّةً فِي إِلْقَائِهَا إِلَى الْمَحَلِّ الْقَابِلِ، كَمَا يَجِدُ الشِّرِّيرُ مِنَ النَّاسِ رَاحَةً وَلَذَّةً فِي إِيصَالِ شَرِّهِ إِلَى مَنْ يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَهْنَأُ لَهُ عَيْشٌ فِي يَوْمٍ لَا يُؤْذِي فِيهِ أَحَدًا مِنْ بَنِي جِنْسِهِ، وَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ تَأَذِّيًا بِحَمْلِ تِلْكَ السُّمِّيَّةِ وَالشَّرِّ الَّذِي فِيهِ، حَتَّى يُفَرِّغَهُ فِي غَيْرِهِ، فَيَبْرُدَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنِينُهُ، وَتَسْكُنَ نَفْسُهُ، وَيُصِيبُهُ فِي ذَلِكَ نَظِيرُ مَا يُصِيبُ مَنِ اشْتَدَّتْ شَهْوَتُهُ إِلَى الْجِمَاعِ، فَيَسُوءُ خُلُقُهُ، وَتَثْقُلُ نَفْسُهُ حَتَّى يَقْضِيَ وَطَرَهُ، هَذَا فِي قُوَّةِ الشَّهْوَةِ، وَذَاكَ فِي قُوَّةِ الْغَضَبِ. وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ السُّلْطَانَ وَازِعًا لِهَذِهِ النُّفُوسِ الْغَضَبِيَّةِ، فَلَوْلَا هُوَ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَخَرِبَتْ {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] وَأَبَاحَ اللَّهُ بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ لِهَذِهِ النُّفُوسِ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ مَا يَكْسِرُ حِدَّتَهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ الْغَضَبِيَّةَ إِذَا اتَّصَلَتْ بِالْمَحَلِّ الْقَابِلِ أَثَّرَتْ فِيهِ، وَمِنْهَا مَا

يُؤَثِّرُ فِي الْمَحِلِّ بِمُجَرَّدِ مُقَابَلَتِهِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهُ، فَمِنْهَا مَا يَطْمِسُ الْبَصَرَ، وَيُسْقِطُ الْحَبَلَ. وَمِنْ هَذَا نَظَرُ الْعَائِنِ، فَإِنَّهُ إِذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْمَعِينِ حَدَثَتْ فِي نَفْسِهِ كَيْفِيَّةٌ سُمِّيَّةٌ أَثَّرَتْ فِي الْمَعِينِ بِحَسَبِ عَدَمِ اسْتِعْدَادِهِ، وَكَوْنِهِ أَعْزَلَ مِنَ السِّلَاحِ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ تِلْكَ النَّفْسِ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ النُّفُوسِ يُؤَثِّرُ فِي الْمَعِينِ إِذَا وُصِفَ لَهُ، فَتَتَكَيَّفُ نَفْسُهُ وَتُقَابِلُهُ عَلَى الْبُعْدِ فَيَتَأَثَّرُ بِهِ، وَمُنْكِرُ هَذَا لَيْسَ مَعْدُودًا مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا بِالصُّورَةِ وَالشَّكْلِ، فَإِذَا قَابَلَتِ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ الْعَلَوِيَّةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي فِيهَا غَضَبٌ وَحَمِيَّةٌ لِلْحَقِّ هَذِهِ النُّفُوسَ الْخَبِيثَةَ السُّمِّيَّةَ، وَتَكَيَّفَتْ بِحَقَائِقِ الْفَاتِحَةِ وَأَسْرَارِهَا وَمَعَانِيهَا، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَذِكْرِ أُصُولِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَذِكْرِ اسْمِهِ الَّذِي مَا ذُكِرَ عَلَى شَرٍّ إِلَّا أَزَالَهُ وَمَحَقَهُ، وَلَا عَلَى خَيْرٍ إِلَّا نَمَّاهُ وَزَادَهُ، دَفَعَتْ هَذِهِ النَّفْسُ بِمَا تَكَيَّفَتْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ أَثَرَ تِلْكَ النَّفْسِ الْخَبِيثَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، فَحَصَلَ الْبُرْءُ، فَإِنَّ مَبْنَى الشِّفَاءِ وَالْبُرْءِ عَلَى دَفْعِ الضِّدِّ بِضِدِّهِ، وَحِفْظِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ، فَالصِّحَّةُ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ، وَالْمَرَضُ يُدْفَعُ بِالضِّدِّ، أَسْبَابٌ رَبَطَهَا بِمُسَبِّبَاتِهَا الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ خَلْقًا وَأَمْرًا، وَلَا يَتِمُّ هَذَا إِلَّا بِقُوَّةٍ مِنَ النَّفْسِ الْفَاعِلَةِ، وَقَبُولٍ مِنَ الطَّبِيعَةِ الْمُنْفَعِلَةِ، فَلَوْ لَمْ تَنْفَعِلْ نَفْسُ الْمَلْدُوغِ لِقَبُولِ الرُّقْيَةِ، وَلَمْ تَقْوَ نَفْسُ الرَّاقِي عَلَى التَّأْثِيرِ، لَمْ يَحْصُلِ الْبُرْءُ. فَهُنَا أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ: مُوَافَقَةُ الدَّوَاءِ لِلدَّاءِ، وَبَذْلُ الطَّبِيبِ لَهُ، وَقَبُولُ طَبِيعَةِ الْعَلِيلِ، فَمَتَى تَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنْهَا لَمْ يَحْصُلِ الشِّفَاءُ، وَإِذَا اجْتَمَعَتْ حَصَلَ الشِّفَاءُ وَلَا بُدَّ بِإِذْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَمَنْ عَرَفَ هَذَا كَمَا يَنْبَغِي تَبَيَّنَ لَهُ أَسْرَارُ الرُّقَى، وَمَيَّزَ بَيْنَ النَّافِعِ مِنْهَا وَغَيْرِهِ، وَرَقَى الدَّاءَ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الرُّقَى، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الرُّقْيَةَ بِرَاقِيهَا وَقَبُولِ الْمَحَلِّ، كَمَا أَنَّ السَّيْفَ بِضَارِبِهِ مَعَ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِلْقَطْعِ، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ مُطْلِعَةٌ عَلَى مَا وَرَاءَهَا لِمَنْ دَقَّ نَظَرُهُ، وَحَسُنَ تَأَمُّلُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا شَهَادَةُ التَّجَارِبِ بِذَلِكَ فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَقَدْ جَرَّبْتُ أَنَا مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِي وَفِي غَيْرِي أُمُورًا عَجِيبَةً، وَلَا سِيَّمَا مُدَّةَ الْمُقَامِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ لِي آلَامٌ مُزْعِجَةٌ، بِحَيْثُ تَكَادُ تَقْطَعُ الْحَرَكَةَ مِنِّي، وَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ وَغَيْرِهِ، فَأُبَادِرُ إِلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَأَمْسَحُ بِهَا عَلَى مَحَلِّ الْأَلَمِ فَكَأَنَّهُ حَصَاةٌ تَسْقُطُ، جَرَّبْتُ ذَلِكَ مِرَارًا عَدِيدَةً، وَكُنْتُ آخُذُ قَدَحًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمٍ فَأَقْرَأُ عَلَيْهِ الْفَاتِحَةَ مِرَارًا، فَأَشْرَبُهُ فَأَجِدُ بِهِ مِنَ النَّفْعِ وَالْقُوَّةِ مَا لَمْ أَعْهَدْ مِثْلَهُ فِي الدَّوَاءِ، وَالْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَصِحَّةِ الْيَقِينِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

فصل في اشتمال الفاتحة على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل

[فَصْلٌ فِي اشْتِمَالِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ الْمُبْطِلِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ] [الْمُجْمَلُ] ِ وَالنِّحَلِ، وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهَذَا يُعْلَمُ بِطَرِيقَيْنِ، مُجْمَلٍ وَمُفَصَّلٍ: أَمَّا الْمُجْمَلُ: فَهُوَ أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ مُتَضَمِّنٌ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، وَإِيثَارَهُ، وَتَقْدِيمَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَحَبَّتَهُ وَالِانْقِيَادَ لَهُ، وَالدَّعْوَةَ إِلَيْهِ، وَجِهَادَ أَعْدَائِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَالْحَقُّ: هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَمَا جَاءَ بِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا فِي بَابِ صِفَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَأَسْمَائِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَفِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ، الَّتِي هِيَ مَنَازِلُ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ ذَلِكَ مُسَلَّمٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُونَ آرَاءِ الرِّجَالِ وَأَوْضَاعِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ وَاصْطِلَاحَاتِهِمْ. فَكُلُّ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ حَقِيقَةٍ، أَوْ حَالٍ أَوْ مَقَامٍ خَرَجَ مِنْ مِشْكَاةِ نُبُوَّتِهِ، وَعَلَيْهِ السِّكَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، بِحَيْثُ يَكُونُ مِنْ ضَرْبِ الْمَدِينَةِ، فَهُوَ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ صِرَاطِ أَهْلِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ، فَمَا ثَمَّ خُرُوجٌ عَنْ هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثِ: طَرِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَطَرِيقِ أَهْلِ الْغَضَبِ، وَهِيَ طَرِيقُ مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَعَانَدَهُ، وَطَرِيقِ أَهْلِ الضَّلَالِ وَهِيَ طَرِيقُ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: " الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: هُوَ الْإِسْلَامُ "، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " هُوَ الْقُرْآنُ "، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: " طَرِيقُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ "، وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ: " طَرِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عِلْمًا وَعَمَلًا وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَتَقْدِيمُهُ، وَإِيثَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ دَالَّةٌ عَلَيْهِ جَامِعَةٌ لَهُ. فَبِهَذَا الطَّرِيقِ الْمُجْمَلِ يُعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَهُ فَبَاطِلٌ، وَهُوَ مِنْ صِرَاطِ الْأُمَّتَيْنِ: الْأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، وَأُمَّةِ أَهْلِ الضَّلَالِ.

فصل المفصل

[فَصْلُ الْمُفَصَّلِ] فَصْلُ وَأَمَّا الْمُفَصَّلُ: فَبِمَعْرِفَةِ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ، وَاشْتِمَالِ كَلِمَاتِ الْفَاتِحَةِ عَلَى إِبْطَالِهَا، فَنَقُولُ: النَّاسُ قِسْمَانِ: مُقِرٌّ بِالْحَقِّ تَعَالَى، وَجَاحِدٌ لَهُ، فَتَضَمَّنَتِ الْفَاتِحَةُ إِثْبَاتَ الْخَالِقِ تَعَالَى، وَالرَّدَّ عَلَى مَنْ جَحَدَهُ، بِإِثْبَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى لِلْعَالَمِينَ. وَتَأَمَّلْ حَالَ الْعَالَمِ كُلِّهِ، عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ، بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ: تَجِدُهُ شَاهِدًا بِإِثْبَاتِ صَانِعِهِ وَفَاطِرِهِ وَمَلِيكِهِ، فَإِنْكَارُ صَانِعِهِ وَجَحْدُهُ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ بِمَنْزِلَةِ إِنْكَارِ الْعِلْمِ وَجَحْدِهِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، بَلْ دِلَالَةُ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَالْفَعَّالِ عَلَى الْفِعْلِ، وَالصَّانِعِ عَلَى أَحْوَالِ الْمَصْنُوعِ عِنْدَ الْعُقُولِ الزَّكِيَّةِ الْمُشْرِقَةِ الْعُلْوِيَّةِ، وَالْفِطَرِ الصَّحِيحَةِ أَظْهَرُ مِنَ الْعَكْسِ. فَالْعَارِفُونَ أَرْبَابُ الْبَصَائِرِ يَسْتَدِلُّونَ بِاللَّهِ عَلَى أَفْعَالِهِ وَصُنْعِهِ، إِذَا اسْتَدَلَّ النَّاسُ بِصُنْعِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَيْهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمَا طَرِيقَانِ صَحِيحَانِ، كُلٌّ مِنْهُمَا حَقٌّ، وَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِمَا. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالصَّنْعَةِ فَكَثِيرٌ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالصَّانِعِ فَلَهُ شَأْنٌ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ بِقَوْلِهِمْ لِأُمَمِهِمْ {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10] أَيْ أَيُشَكُّ فِي اللَّهِ حَتَّى يُطْلَبَ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِهِ؟ وَأَيُّ دَلِيلٍ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْمَدْلُولِ؟ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْأَظْهَرِ بِالْأَخْفَى؟ ثُمَّ نَبَّهُوا عَلَى الدَّلِيلِ بِقَوْلِهِمْ {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14] . وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: كَيْفَ يُطْلَبُ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟ وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ: وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ ... إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلٍ

فصل والمقرون بالرب سبحانه وتعالى أنه صانع العالم نوعان

وَمَعْلُومٌ أَنَّ وُجُودَ الرَّبِّ تَعَالَى أَظْهَرُ لِلْعُقُولِ وَالْفِطَرِ مِنْ وُجُودِ النَّهَارِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ فِي عَقْلِهِ وَفِطْرَتِهِ فَلْيَتَّهِمْهُمَا. وَإِذَا بَطَلَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ بَطَلَ قَوْلُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ، الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ وُجُودٌ قَدِيمٌ خَالِقٌ وَوُجُودٌ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ، بَلْ وُجُودُ هَذَا الْعَالَمِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ اللَّهِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ وُجُودِ هَذَا الْعَالَمِ، فَلَيْسَ عِنْدَ الْقَوْمِ رَبٌّ وَعَبْدٌ، وَلَا مَالِكٌ وَمَمْلُوكٌ، وَلَا رَاحِمٌ وَمَرْحُومٌ، وَلَا عَابِدٌ وَمَعْبُودٌ، وَلَا مُسْتَعِينٌ وَمُسْتَعَانٌ بِهِ، وَلَا هَادٍ وَلَا مَهْدِيٌّ، وَلَا مُنْعِمٌ وَلَا مُنْعَمٌ عَلَيْهِ، وَلَا غَضْبَانُ وَمَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، بَلِ الرَّبُّ هُوَ نَفْسُ الْعَبْدِ وَحَقِيقَتُهُ، وَالْمَالِكُ هُوَ عَيْنُ الْمَمْلُوكِ، وَالرَّاحِمُ هُوَ عَيْنُ الْمَرْحُومِ، وَالْعَابِدُ هُوَ نَفْسُ الْمَعْبُودِ، وَإِنَّمَا التَّغَايُرُ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ بِحَسَبِ مَظَاهِرِ الذَّاتِ وَتَجَلِّيَّاتِهَا، فَتَظْهَرُ تَارَةً فِي صُورَةِ مَعْبُودٍ، كَمَا ظَهَرَتْ فِي صُورَةِ فِرْعَوْنَ، وَفِي صُورَةِ عَبْدٍ، كَمَا ظَهَرَتْ فِي صُورَةِ الْعَبِيدِ، وَفِي صُورَةِ هَادٍ، كَمَا فِي صُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْعُلَمَاءِ، وَالْكُلُّ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ، فَحَقِيقَةُ الْعَابِدِ وَوُجُودُهُ أَوْ أَنِّيَّتُهُ: هِيَ حَقِيقَةُ الْمَعْبُودِ وَوُجُودُهُ وأَنِّيَّتُهُ. وَالْفَاتِحَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا تُبَيِّنُ بُطْلَانَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ وَضَلَالَهُمْ. [فَصْلٌ وَالْمُقِرُّونَ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ صَانِعُ الْعَالَمِ نَوْعَانِ] فَصْلٌ وَالْمُقِرُّونَ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ صَانِعُ الْعَالَمِ نَوْعَانِ:

فصل المثبتون للخالق تعالى

نَوْعٌ يَنْفِي مُبَايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ، وَيَقُولُونَ: لَا مُبَايِنَ وَلَا مُحَايِثَ، وَلَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَلَا فَوْقَهُ وَلَا تَحْتَهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ، وَلَا خَلْفَهُ وَلَا أَمَامَهُ، وَلَا فِيهِ وَلَا بَائِنَ عَنْهُ. فَتَضَمَّنَتِ الْفَاتِحَةُ الرَّدَّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى لِلْعَالَمِ، فَإِنَّ الرُّبُوبِيَّةَ الْمَحْضَةَ تَقْتَضِي مُبَايَنَةَ الرَّبِّ لِلْعَالَمِ بِالذَّاتِ، كَمَا بَايَنَهُمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَبِالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، فَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ رَبًّا مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ، فَمَا أَثْبَتَ رَبًّا، فَإِنَّهُ إِذَا نَفَى الْمُبَايَنَةَ لَزِمَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ، لُزُومًا لَا انْفِكَاكَ لَهُ عَنْهُ الْبَتَّةَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ نَفْسَ هَذَا الْعَالَمِ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ قَوْلُهُ، فَإِنَّ الْعَالَمَ لَا يُبَايِنُ ذَاتَهُ وَنَفْسَهُ، وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ أَهْلُ الْوَحْدَةِ، وَكَانُوا مُعَطِّلَةً أَوَّلًا، وَاتِّحَادِيَّةً ثَانِيًا. وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: مَا ثَمَّ رَبٌّ يَكُونُ مُبَايِنًا وَلَا مُحَايِثًا، وَلَا دَاخِلًا وَلَا خَارِجًا، كَمَا قَالَتْهُ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ لِلصَّانِعِ. وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى جَمْعِ النَّقِيضَيْنِ: إِثْبَاتِ رَبٍّ مُغَايِرٍ لِلْعَالَمِ مَعَ نَفْيِ مُبَايَنَتِهِ لِلْعَالَمِ، وَإِثْبَاتِ خَالِقٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ، لَا فِي الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَ الْعَالَمِ، وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَا تَحْتَهُ، وَلَا خَلْفَهُ وَلَا أَمَامَهُ، وَلَا يَمْنَتَهُ وَلَا يَسْرَتَهُ فَقَوْلٌ لَهُ خَبِيءٌ، وَالْعُقُولُ لَا تَتَصَوَّرُهُ حَتَّى تُصَدِّقَ بِهِ، فَإِذَا اسْتَحَالَ فِي الْعَقْلِ تَصَوُّرُهُ، فَاسْتِحَالَةُ التَّصْدِيقِ بِهِ أَظْهَرُ وَأَظْهَرُ، وَهُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ، وَالنَّفْيِ الصِّرْفِ، وَصِدْقُهُ عَلَيْهِ أَظْهَرُ عِنْدَ الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ مِنْ صِدْقِهِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَضَعْ هَذَا النَّفْيَ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ عَلَى الْعَدَمِ الْمُسْتَحِيلِ، ثُمَّ ضَعْهَا عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا، الَّتِي لَمْ تَحِلَّ فِي الْعَالَمِ، وَلَا حَلَّ الْعَالَمُ فِيهَا، ثُمَّ انْظُرْ أَيَّ الْمَعْلُومِينَ أَوْلَى بِهِ؟ وَاسْتَيْقِظْ لِنَفْسِكَ، وَقُمْ لِلَّهِ قَوْمَةَ مُفَكِّرٍ فِي نَفْسِهِ فِي الْخَلْوَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، مُتَجَرِّدٍ عَنِ الْمَقَالَاتِ وَأَرْبَابِهَا، وَعَنِ الْهَوَى وَالْحَمِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ، صَادِقًا فِي طَلَبِ الْهِدَايَةِ مِنَ اللَّهِ، فَالَلَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُخَيِّبَ عَبْدًا هَذَا شَأْنُهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ إِثْبَاتِ رَبٍّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ، مُبَايِنٍ لِخَلْقِهِ، بَلْ هَذَا نَفْسُ تَرْجَمَتِهَا. [فَصْلٌ الْمُثْبِتُونَ لِلْخَالِقِ تَعَالَى] فَصْلٌ

ثُمَّ الْمُثْبِتُونَ لِلْخَالِقِ تَعَالَى نَوْعَانِ: أَهْلُ تَوْحِيدٍ، وَأَهْلُ إِشْرَاكٍ، وَأَهْلُ الْإِشْرَاكِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَهْلُ الْإِشْرَاكِ بِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ، كَالْمَجُوسِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مَعَ اللَّهِ خَالِقًا آخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا: إِنَّهُ مُكَافِئٌ لَهُ، وَالْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ تُثْبِتُ مَعَ اللَّهِ خَالِقِينَ لِلْأَفْعَالِ، لَيْسَتْ أَفْعَالُهُمْ مَقْدُورَةً لِلَّهِ، وَلَا مَخْلُوقَةً لَهُمْ، وَهِيَ صَادِرَةٌ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَا هُوَ الَّذِي جَعَلَ أَرْبَابَهَا فَاعِلِينَ لَهَا، بَلْ هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ شَائِينَ مُرِيدِينَ فَاعِلِينَ. فَرُبُوبِيَّةُ الْعَالَمِ الْكَامِلَةُ الْمُطْلَقَةُ الشَّامِلَةُ تُبْطِلُ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي رُبُوبِيَّتَهُ لِجَمِيعِ مَا فِيهِ مِنَ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْحَرَكَاتِ وَالْأَفْعَالِ. وَحَقِيقَةُ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ رَبًّا لِأَفْعَالِ الْحَيَوَانِ، وَلَا تَنَاوَلَتْهَا رُبُوبِيَّتُهُ، وَكَيْفَ تَتَنَاوَلُ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ؟ مَعَ أَنَّ فِي عُمُومِ حَمْدِهِ مَا يَقْتَضِي حَمْدَهُ عَلَى طَاعَاتِ خَلْقِهُ، إِذْ هُوَ الْمُعِينُ عَلَيْهَا وَالْمُوَفِّقُ لَهَا، وَهُوَ الَّذِي شَاءَهَا مِنْهُمْ كَمَا قَالَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] فَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى أَنْ شَاءَهَا لَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ فَاعِلِيهَا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمَحْمُودُونَ عَلَيْهَا، وَلَهُمُ الْحَمْدُ عَلَى فِعْلِهَا، وَلَيْسَ لِلَّهِ حَمْدٌ عَلَى نَفْسِ فَاعِلِيَّتِهَا عِنْدَهُمْ، وَلَا عَلَى ثَوَابِهِ وَجَزَائِهِ عَلَيْهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ فَاعِلِيَّتَهَا بِهِمْ لَا بِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ الْجَزَاءَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَهُوَ مَحْضُ حَقِّهِمْ، الَّذِي عَاوَضُوهُ عَلَيْهِ.

فصل في تضمنها الرد على الجهمية معطلة الصفات

وَفِي قَوْلِهِ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] رَدٌّ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ، إِذِ اسْتِعَانَتُهُمْ بِهِ إِنَّمَا تَكُونُ عَنْ شَيْءٍ هُوَ بِيَدِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَكَيْفَ يَسْتَعِينُ مَنْ بِيَدِهِ الْفِعْلُ وَهُوَ مُوجِدُهُ، إِنْ شَاءَ أَوْجَدَهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُوجِدْهُ بِمَنْ لَيْسَ ذَلِكَ الْفِعْلُ بِيَدِهِ، وَلَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَلَا مَشِيئَتِهِ؟ . وَفِي قَوْلِهِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] أَيْضًا رَدٌّ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ الْمُطْلَقَةَ التَّامَّةَ هِيَ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِحُصُولِ الِاهْتِدَاءِ، وَلَوْلَا أَنَّهَا بِيَدِهِ تَعَالَى دُونَهُمْ لَمَا سَأَلُوهُ إِيَّاهَا، وَهِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْإِرْشَادِ وَالْبَيَانِ، وَالتَّوْفِيقِ وَالْإِقْدَارِ، وَجَعْلِهِمْ مُهْتَدِينَ، وَلَيْسَ مَطْلُوبُهُمْ مُجَرَّدَ الْبَيَانِ وَالدِّلَالَةِ كَمَا ظَنَّتْهُ الْقَدَرِيَّةُ، لِأَنَّ هَذَا الْقَدَرَ وَحْدَهُ لَا يُوجِبُ الْهُدَى، وَلَا يُنْجِي مِنَ الرَّدَى، وَهُوَ حَاصِلٌ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَاشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى. فَصْلٌ: النَّوْعُ الثَّانِي: أَهْلُ الْإِشْرَاكِ بِهِ فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَهُمُ الْمُقِرُّونَ بِأَنَّهُ وَحْدَهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ، وَأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَرَبُّ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ، وَرَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَهُمْ مَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وَيَعْدِلُونَ بِهِ سِوَاهُ فِي الْمَحَبَّةِ وَالطَّاعَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يُوَفُّوا " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " حَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ " نَعْبُدُكَ " لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ الْمُتَضَمِّنِ مَعْنَى: لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ حُبًّا وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَطَاعَةً وَتَعْظِيمًا، فَ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " تَحْقِيقٌ لِهَذَا التَّوْحِيدِ، وَإِبْطَالٌ لِلشِّرْكِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، كَمَا أَنَّ " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " تَحْقِيقٌ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِبْطَالٌ لِلشِّرْكِ بِهِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6] فَإِنَّهُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ، وَهُمْ أَهْلُ تَحْقِيقِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " وَأَهْلُ الْإِشْرَاكِ هُمْ أَهْلُ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ. [فَصْلٌ فِي تَضَمُّنِهَا الرَّدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ مُعَطِّلَةِ الصِّفَاتِ] وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مِنْ قَوْلِهِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] فَإِنَّ إِثْبَاتَ الْحَمْدِ الْكَامِلِ لَهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ كُلِّ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ، مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، إِذْ مَنْ عُدِمَ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَلَيْسَ بِمَحْمُودٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَغَايَتُهُ: أَنَّهُ مَحْمُودٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَلَا يَكُونُ مَحْمُودًا بِكُلِّ وَجْهٍ،

فصل في تضمنها للرد على الجبرية

وَبِكُلِّ اعْتِبَارٍ، بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَمْدِ إِلَّا مَنِ اسْتَوْلَى عَلَى صِفَاتِ الْكَمَالِ جَمِيعِهَا، فَلَوْ عُدِمَ مِنْهَا صِفَةً وَاحِدَةً لَنَقَصَ مِنْ حَمْدِهِ بِحَسَبِهَا. وَكَذَلِكَ فِي إِثْبَاتِ صِفَةِ الرَّحْمَةِ لَهُ مَا يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُهَا مِنَ الْحَيَاةِ، وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ، وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَغَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ صِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ تَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَصِفَةُ الْإِلَهِيَّةِ تَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْكَمَالِ ذَاتًا وَأَفْعَالًا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَكَوْنُهُ مَحْمُودًا إِلَهًا رَبًّا، رَحْمَانًا رَحِيمًا، مَلِكًا مَعْبُودًا، مُسْتَعَانًا، هَادِيًا مُنْعِمًا، يَرْضَى وَيَغْضَبُ مَعَ نَفْيِ قِيَامِ الصِّفَاتِ بِهِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ مَنْ أَمْحَلِ الْمُحَالَ. وَهَذِهِ الطَّرِيقُ تَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ كَمَالِهِ الْمُطْلَقِ، فَإِنَّ اسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ مِنْ لَوَازِمِ عُلُوِّهِ، وَنُزُولَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي نِصْفِ اللَّيْلِ الثَّانِي مِنْ لَوَازِمِ رَحْمَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ السَّمْعَ وَرَدَ بِهَا، ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ وَمَدْحًا لَهُ، وَتَعَرُّفًا مِنْهُ إِلَى عِبَادِهِ بِهَا، فَجَحْدُهَا وَتَحْرِيفُهَا عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَعَمَّا أُرِيدَ بِهَا مُنَاقِضٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ، فَلَكَ أَنْ تَسْتَدِلَّ بِطَرِيقِ السَّمْعِ عَلَى أَنَّهَا كَمَالٌ، وَأَنْ تَسْتَدِلَّ بِالْعَقْلِ كَمَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ فِي تَضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ] وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مِنْ إِثْبَاتِ عُمُومِ حَمْدِهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُعَاقِبَ عَبِيدَهُ عَلَى مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ مِنْ فِعْلِهِمْ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ أَلْوَانِهِمْ، وَطُولِهِمْ وَقِصَرِهِمْ، بَلْ هُوَ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى نَفْسِ فِعْلِهِ بِهِمْ، فَهُوَ الْفَاعِلُ لِقَبَائِحِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ الْمُعَاقِبُ لَهُمْ عَلَيْهَا، فَحَمْدُهُ عَلَيْهَا يَأْبَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِبَاءِ، وَيَنْفِيهِ أَعْظَمَ النَّفْيِ، فَتَعَالَى مَنْ لَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، بَلْ إِنَّمَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَى نَفْسِ أَفْعَالِهِمُ الَّتِي فَعَلُوهَا حَقِيقَةً، فَهِيَ أَفْعَالُهُمْ لَا أَفْعَالُهُ، وَإِنَّمَا أَفْعَالُهُ الْعَدْلُ، وَالْإِحْسَانُ وَالْخَيْرَاتُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: إِثْبَاتُ رَحْمَتِهِ وَرَحْمَانِيَّتِهِ يَنْفِي ذَلِكَ إِذْ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ هَذَيْنِ

فصل في تضمنها الرد على القائلين بالموجب بالذات دون الاختيار والمشيئة

الْأَمْرَيْنِ قَطُّ أَنْ يَكُونَ رَحْمَانًا رَحِيمًا وَيُعَاقِبُ الْعَبْدَ عَلَى مَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ مِنْ فِعْلِهِ، بَلْ يُكَلِّفُهُ مَا لَا يُطِيقُهُ، وَلَا لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ الْبَتَّةَ، ثُمَّ يُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا ضِدُّ الرَّحْمَةِ، وَنَقْضٌ لَهَا وَإِبْطَالٌ؟ وَهَلْ يَصِحُّ فِي مَعْقُولِ أَحَدٍ اجْتِمَاعُ ذَلِكَ وَالرَّحْمَةِ التَّامَّةِ الْكَامِلَةِ فِي ذَاتٍ وَاحِدَةٍ؟ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِثْبَاتُ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ لَهُمْ، وَنِسْبَتُهَا إِلَيْهِمْ، بِقَوْلِهِمْ " نَعْبُدُ، وَنَسْتَعِينُ " وَهِيَ نِسْبَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَا مَجَازِيَّةٌ، وَاللَّهُ لَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ عَبِيدِهِ، بَلِ الْعَبْدُ حَقِيقَةً هُوَ الْعَابِدُ الْمُسْتَعِينُ، وَاللَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ الْمُسْتَعَانُ بِهِ. [فَصْلٌ فِي تَضَمُّنِهَا الرَّدَّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالْمُوجِبِ بِالذَّاتِ دُونَ الِاخْتِيَارِ وَالْمَشِيئَةِ] فَصْلٌ: فِي بَيَانِ تُضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالْمُوجَبِ بِالذَّاتِ دُونَ الِاخْتِيَارِ وَالْمَشِيئَةِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مِنْ إِثْبَاتِ حَمْدِهِ، إِذْ كَيْفَ يُحْمَدُ عَلَى مَا لَيْسَ مُخْتَارًا لِوُجُودِهِ، وَلَا هُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَفِعْلِهِ؟ وَهَلْ يَصِحُّ حَمْدُ الْمَاءِ عَلَى آثَارِهِ وَمُوجَبَاتِهِ؟ أَوِ النَّارِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهَا فِي عَقْلٍ أَوْ فِطْرَةٍ؟ وَإِنَّمَا يُحْمَدُ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ عَلَى أَفْعَالِهِ الْحَمِيدَةِ، هَذَا الَّذِي لَيْسَ يَصِحُّ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ سِوَاهُ، فَخِلَافُهُ خَارِجٌ عَنِ الْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ وَهُوَ لَا يُنْكِرُ خُرُوجَهُ عَنِ الشَّرَائِعِ وَالنُّبُوَّاتِ، بَلْ يَتَبَجَّحُ بِذَلِكَ وَيَعُدُّهُ فَخْرًا. الثَّانِي: إِثْبَاتُ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى يَقْتَضِي فِعْلَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَتَدْبِيرِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي عَقْلٍ وَلَا فِطْرَةٍ رُبُوبِيَّةُ الشَّمْسِ لِضَوْئِهَا، وَالْمَاءِ لِتَبْرِيدِهِ، وَلِلنَّبَاتِ الْحَاصِلِ بِهِ، وَلَا رُبُوبِيَّةُ شَيْءٍ أَبَدًا لِمَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا تَصْرِيحٌ بِجَحْدِ الرُّبُوبِيَّةِ؟ فَالْقَوْمُ كَنَّوْا لِلْأَغْمَارِ، وَصَرَّحُوا لِأُولِي الْأَفْهَامِ.

فصل في تضمنها للرد على منكري تعلق علمه تعالى بالجزئيات

الثَّالِثُ: إِثْبَاتُ مِلْكِهِ، وَحُصُولُ مِلْكٍ لِمَنْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا فِعْلَ وَلَا مَشِيئَةَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، بَلْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ مَشِيئَةٌ وَاخْتِيَارٌ وَفِعْلٌ أَتَمُّ مِنْ هَذَا الْمَلِكِ وَأَكْمَلُ {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] . الرَّابِعُ: مِنْ كَوْنِهِ مُسْتَعَانًا، فَإِنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِمَنْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا مَشِيئَةَ وَلَا قُدْرَةَ مُحَالٌ. الْخَامِسُ: مِنْ كَوْنِهِ مَسْئُولًا أَنْ يَهْدِيَ عِبَادَهُ، فَسُؤَالُ مَنْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ مُحَالٌ، وَكَذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِ مُنْعِمًا. [فَصْلٌ فِي تَضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي تَعَلُّقِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْجُزْئِيَّاتِ] فَصْلٌ: فِي بَيَانِ تَضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي تَعَلُّقِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْجُزْئِيَّاتِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: كَمَالُ حَمْدِهِ، وَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ مَنْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الْعَالَمِ وَأَحْوَالِهِ وَتَفَاصِيلِهِ، وَلَا عَدَدَ الْأَفْلَاكِ، وَلَا عَدَدَ النُّجُومِ، وَلَا مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَلَا مَنْ يَدْعُوهُ مِمَّنْ لَا يَدْعُوهُ؟ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا مُسْتَحِيلٌ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، وَأَنْ يَكُونَ رَبَّا، فَلَا بُدَّ لِلْإِلَهِ الْمَعْبُودِ،

فصل في بيان تضمنها للرد على منكري النبوات

وَالرَّبِّ الْمُدَبِّرِ، مِنْ أَنْ يَعْلَمَ عَابِدَهُ، وَيَعْلَمَ حَالَهُ. الثَّالِثُ: مِنْ إِثْبَاتِ رَحْمَتِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَرْحَمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ. الرَّابِعُ: إِثْبَاتُ مِلْكِهِ، فَإِنَّ مَلِكًا لَا يَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ رَعِيَّتِهِ الْبَتَّةَ، وَلَا شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ مَمْلَكَتِهِ الْبَتَّةَ، لَيْسَ بِمَلِكٍ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. الْخَامِسُ: كَوْنُهُ مُسْتَعَانًا. السَّادِسُ: كَوْنُهُ مَسْئُولًا أَنْ يَهْدِيَ سَائِلَهُ وَيُجِيبَهُ. السَّابِعُ: كَوْنُهُ هَادِيًا. الثَّامِنُ: كَوْنُهُ مُنْعِمًا. التَّاسِعُ: كَوْنُهُ غَضْبَانَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ. الْعَاشِرُ: كَوْنُهُ مُجَازِيًا، يَدِينُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الدِّينِ. فَنَفْيُ عِلْمِهِ بِالْجُزْئِيَّاتِ مُبْطِلٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ تَضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ] ِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: إِثْبَاتُ حَمْدِهِ التَّامِّ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي كَمَالَ حِكْمَتِهِ، وَأَنْ لَا يَخْلُقَ خَلْقَهُ عَبَثًا، وَلَا يَتْرُكَهُمْ سُدًى، لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ، وَلِذَلِكَ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ وَأَنْ يَكُونَ مَا أُنْزِلَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُ مَا عَرَفَهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا عَظَّمَهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، وَلَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ، بَلْ نَسَبَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَيَأْبَاهُ حَمْدُهُ وَمَجْدُهُ. فَمَنْ أَعْطَى الْحَمْدَ حَقَّهُ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَبَصِيرَةً اسْتَنْبَطَ مِنْهُ " أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " كَمَا يَسْتَنْبِطُ مِنْهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَعَلِمَ قَطْعًا أَنَّ تَعْطِيلَ النُّبُوَّاتِ فِي مُنَافَاتِهِ لِلْحَمْدِ، كَتَعْطِيلِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَكَإِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ. الثَّانِي: إِلَهِيَّتُهُ، وَكَوْنُهُ إِلَهًا، فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِهِ مَعْبُودًا مُطَاعًا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يُعْبَدُ بِهِ وَيُطَاعُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ رُسُلِهِ. الثَّالِثُ: كَوْنُهُ رَبًّا، فَإِنَّ الرُّبُوبِيَّةَ تَقْتَضِي أَمْرَ الْعِبَادِ وَنَهْيَهُمْ، وَجَزَاءَ مُحْسِنِهِمْ

بِإِحْسَانِهِ، وَمُسِيئِهِمْ بِإِسَاءَتِهِ، هَذَا حَقِيقَةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ. الرَّابِعُ: كَوْنُهُ رَحْمَانًا رَحِيمًا، فَإِنَّ مِنْ كَمَالِ رَحْمَتِهِ أَنْ يُعَرِّفَ عِبَادَهُ نَفْسَهُ وَصِفَاتِهِ وَيَدُلَّهُمْ عَلَى مَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ، وَيُبَاعِدُهُمْ مِنْهُ، وَيُثِيبَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، وَيَجْزِيَهُمْ بِالْحُسْنَى، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَكَانَتْ رَحْمَتُهُ مُقْتَضِيَةً لَهَا. الْخَامِسُ: مِلْكُهُ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَقْتَضِي التَّصَرُّفَ بِالْقَوْلِ، كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ يَقْتَضِي التَّصَرُّفَ بِالْفِعْلِ، فَالْمَلِكُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ بِأَمْرِهِ وَقَوْلِهِ، فَتَنْفُذُ أَوَامِرُهُ وَمَرَاسِيمُهُ حَيْثُ شَاءَ، وَالْمَالِكُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي مُلْكِهِ بِفِعْلِهِ، وَاللَّهُ لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْمِلْكُ، فَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَتَصَرُّفُهُ بِقَوْلِهِ نَوْعَانِ: تَصَرُّفٌ بِكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ، وَتَصَرُّفٌ بِكَلِمَاتِهِ الدِّينِيَّةِ، وَكَمَالُ الْمُلْكِ بِهِمَا. فَإِرْسَالُ الرُّسُلِ مُوجَبُ كَمَالِ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُلْكُ الْمَعْقُولُ فِي فِطَرِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ، فَكُلُّ مَلِكٍ لَا تَكُونُ لَهُ رُسُلٌ يَبُثُّهُمْ فِي أَقْطَارِ مَمْلَكَتِهِ فَلَيْسَ بِمَلِكٍ. وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ يُعْلَمُ وُجُودُ مَلَائِكَتِهِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِمْ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ بِمُلْكِهِ، فَإِنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ. السَّادِسُ: " ثُبُوتُ يَوْمِ " الدِّينِ وَهُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ الَّذِي يَدِينُ اللَّهُ فِيهِ الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمْ خَيْرًا وَشَرًّا، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ الَّتِي بِسَبَبِهَا يُدَانُ الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي. السَّابِعُ: كَوْنُهُ مَعْبُودًا، فَإِنَّهُ لَا يُعْبَدُ إِلَّا بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَلَا سَبِيلَ لِلْخَلْقِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ رُسُلِهِ، فَإِنْكَارُ رُسُلِهِ إِنْكَارٌ لِكَوْنِهِ مَعْبُودًا. الثَّامِنُ: كَوْنُهُ هَادِيًا إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَهُوَ أَقْرَبُ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ الْخَطَّ الْمُسْتَقِيمَ: هُوَ أَقْرَبُ خَطٍّ مُوَصِّلٍ بَيْنَ نُقْطَتَيْنِ، وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ، فَتَوَقُّفُهُ عَلَى الرُّسُلِ ضَرُورِيٌّ، أَعْظَمُ مِنْ تَوَقُّفِ الطَّرِيقِ الْحِسِّيِّ عَلَى سَلَامَةِ الْحَوَاسِ. التَّاسِعُ: كَوْنُهُ مُنْعِمًا عَلَى أَهْلِ الْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ: فَإِنَّ إِنْعَامَهُ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا تَمَّ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَجَعْلِهِمْ قَابِلِينَ الرِّسَالَةَ، مُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَتِهِ، وَبِذَلِكَ ذَكَّرَهُمْ مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ وَإِنْعَامَهُ فِي كِتَابِهِ. الْعَاشِرُ: انْقِسَامُ خَلْقِهِ إِلَى مُنْعَمٍ عَلَيْهِمْ، وَمَغْضُوبٍ عَلَيْهِمْ، وَضَالِّينَ، فَإِنَّ هَذَا

فصل إذا ثبتت النبوات والرسالة ثبتت صفة التكلم والتكليم

الِانْقِسَامَ ضَرُورِيٌّ بِحَسَبِ انْقِسَامِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَالْعَمَلِ بِهِ إِلَى عَالِمٍ بِهِ، عَامِلٍ بِمُوجَبِهِ، وَهُمْ أَهْلُ النِّعْمَةِ، وَعَالِمٍ بِهِ مُعَانِدٍ لَهُ، وَهُمْ أَهْلُ الْغَضَبِ، وَجَاهِلٍ بِهِ وَهُمُ الضَّالُّونَ، هَذَا الِانْقِسَامُ إِنَّمَا نَشَأَ بَعْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، فَلَوْلَا الرُّسُلُ لَكَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، فَانْقِسَامُهُمْ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ مُسْتَحِيلٌ بِدُونِ الرِّسَالَةِ، وَهَذَا الِانْقِسَامُ ضَرُورِيٌّ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ، فَالرِّسَالَةُ ضَرُورِيَّةٌ. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكَ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ وَالَّتِي قَبْلَهَا بَيَانُ تَضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْمَعَادَ الْجُسْمَانِيَّ، وَقِيَامَةَ الْأَبْدَانِ، وَعَرَفْتَ اقْتِضَاءَهَا ضَرُورَةً لِثُبُوتِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي خُلِقَتْ بِهِ وَلَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَنَفْيُهُ نَفْيٌ لَهُمَا. [فَصْلٌ إِذَا ثَبَتَتِ النُّبُوَّاتُ وَالرِّسَالَةُ ثَبَتَتْ صِفَةُ التَّكَلُّمِ وَالتَّكْلِيمِ] فَإِنَّ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ تَبْلِيغُ كَلَامِ الْمُرْسِلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ كَلَامٌ فَمَاذَا يُبَلِّغُ الرَّسُولُ؟ بَلْ كَيْفَ يُعْقَلُ كَوْنُهُ رَسُولًا؟ وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا، أَوْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كَلَامَهُ: فَقَدْ أَنْكَرَ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ وَرِسَالَةَ جَمِيعِ الرُّسُلِ الَّتِي حَقِيقَتُهَا تَبْلِيغُ كَلَامِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ مُنْكِرُو رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقُرْآنِ {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 24] إِنَّمَا عَنَوُا الْقُرْآنَ الْمَسْمُوعَ الَّذِي بُلِّغُوهُ، وَأُنْذِرُوا بِهِ. فَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ، فَقَدْ ضَاهَأَ قَوْلُهُ قَوْلَهُمْ: تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ تَضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ] ِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: إِثْبَاتُ حَمْدِهِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ أَفْعَالِهِ لَاسِيَّمَا وَعَامَّةُ مَوَادِّ الْحَمْدِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ كُلُّهَا إِنَّمَا هِيَ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَكَذَلِكَ هُوَ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ،

فصل في بيان تضمنها للرد على الرافضة

الْمُتَضَمِّنَةِ لِأَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَمِنَ الْمُسْتَحِيلِ مُقَارَنَةُ الْفِعْلِ لِفَاعِلِهِ، هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي كُلِّ عَقْلٍ سَلِيمٍ، وَفِطْرَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ، فَالْفِعْلُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ فَاعِلِهِ بِالضَّرُورَةِ. وأَيْضًا فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقُ الْإِرَادَةِ وَالتَّأْثِيرِ وَالْقُدْرَةِ، وَلَا يَكُونُ مُتَعَلِّقُهَا قَدِيمًا الْبَتَّةَ. الثَّانِي: إِثْبَاتُ رُبُوبِيَّتِهِ لِلْعَالَمِينَ، وَتَقْرِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْعَالَمُ كُلُّ مَا سِوَاهُ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مَرْبُوبٌ، وَالْمَرْبُوبُ مَخْلُوقٌ بِالضَّرُورَةِ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِذًا رُبُوبِيَّتُهُ تَعَالَى لِكُلِّ مَا سِوَاهُ تَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَهُ عَلَيْهِ، وَحُدُوثَ الْمَرْبُوبِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْعَالَمُ قَدِيمًا وَهُوَ مَرْبُوبٌ أَبَدًا، فَإِنَّ الْقَدِيمَ مُسْتَغْنٍ بِأَزَلِيَّتِهِ عَنْ فَاعِلٍ لَهُ، وَكُلُّ مَرْبُوبٍ فَهُوَ فَقِيرٌ بِالذَّاتِ، فَلَا شَيْءَ مِنَ الْمَرْبُوبِ يُغْنِي وَلَا قَدِيمَ. الثَّالِثُ: إِثْبَاتُ تَوْحِيدِهِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ مُشَارَكَةِ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ لَهُ فِي خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْقُدْرَةُ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَالتَّوْحِيدُ يَنْفِي ثُبُوتَهُ لِغَيْرِهِ ضَرُورَةً، كَمَا يَنْفِي ثُبُوتَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ لِغَيْرِهِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ تَضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى الرَّافِضَةِ] ِ وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] إِلَى آخِرِهَا. وَوَجْهُ تَضَمُّنِهِ إِبْطَالَ قَوْلِهِمْ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُنْعَمٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوهُ، وَمَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ

وَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَرَفَضُوهُ، وَضَالُّونَ وَهُمُ الَّذِينَ جَهِلُوهُ فَأَخْطَئُوهُ. فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ لِلْحَقِّ، وَأَتْبَعَ لَهُ كَانَ أَوْلَى بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُمْ أَوْلَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الرَّوَافِضِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَهِلُوا الْحَقَّ وَعَرَفَهُ الرَّوَافِضُ، أَوْ رَفَضُوهُ وَتَمَسَّكَ بِهِ الرَّوَافِضُ. ثُمَّ إِنَّا رَأَيْنَا آثَارَ الْفَرِيقَيْنِ تَدُلُّ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ مِنْهُمَا، فَرَأَيْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحُوا بِلَادَ الْكُفْرِ، وَقَلَبُوهَا بِلَادَ إِسْلَامٍ، وَفَتَحُوا الْقُلُوبَ بِالْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ وَالْهُدَى، فَآثَارُهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَرَأَيْنَا الرَّافِضَةَ بِالْعَكْسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَإِنَّهُ قَطٌّ مَا قَامَ لِلْمُسْلِمِينَ عَدُوٌّ مِنْ غَيْرِهِمْ إِلَّا كَانُوا أَعْوَانَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَمْ جَرُّوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مِنْ بَلِيَّةٍ؟ وَهَلْ عَاثَتْ سُيُوفُ الْمُشْرِكِينَ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ مِنْ عَسْكَرِ هُولَاكُو وَذَوِيهِ مِنَ التَّتَارِ إِلَّا مِنْ تَحْتِ رُءُوسِهِمْ؟ وَهَلْ عُطِّلَتِ الْمَسَاجِدُ، وَحُرِّقَتِ الْمَصَاحِفُ، وَقُتِلَ سَرَوَاتُ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاؤُهُمْ وَعُبَّادُهُمْ وَخَلِيفَتُهُمْ، إِلَّا بِسَبَبِهِمْ وَمِنْ جَرَّائِهِمْ؟ وَمُظَاهَرَتُهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَآثَارُهُمْ فِي الدِّينِ مَعْلُومَةٌ. فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؟ وَأَيُّهُمْ أَحَقُّ بِالْغَضَبِ وَالضَّلَالِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ وَلِهَذَا فَسَّرَ السَّلَفُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَأَهْلَهُ: بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ كَمَا فَسَّرُوهُ، فَإِنَّهُ صِرَاطُهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ عَيْنُ صِرَاطِ نَبِيِّهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَغَضِبَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَحُكِمَ لِأَعْدَائِهِمْ بِالضَّلَالِ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ رَفِيعٌ الرِّيَاحِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَهُمَا مِنْ أَجَلِّ التَّابِعِينَ

فصل سر الخلق والأمر والشرائع

: " الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَاهُ "، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ " {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] ": هُمْ آلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ "، وَهَذَا حَقٌّ، فَإِنَّ آلَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ، وَمُوَالَاةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَثَنَاؤُهُمْ عَلَيْهِمَا، وَمُحَارَبَةُ مَنْ حَارَبَا، وَمُسَالَمَةُ مَنْ سَالَمَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ خَاصِّهَا وَعَامِّهَا، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ هُمْ أَتْبَاعُهُ، وَالْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ هُمُ الْخَارِجُونَ عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَأَتْبَعُ الْأُمَّةِ لَهُ وَأَطْوَعَهُمْ أَصْحَابُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَأَتْبَعُ الصَّحَابَةِ لَهُ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ، أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَأَشَدُّ الْأُمَّةِ مُخَالَفَةً لَهُ هُمُ الرَّافِضَةُ، فَخِلَافُهُمْ لَهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ فِرَقِ الْأُمَّةِ، وَلِهَذَا يُبْغِضُونَ السُّنَّةَ وَأَهْلَهَا، وَيُعَادُونَهَا وَيُعَادُونَ أَهْلَهَا، فَهُمْ أَعْدَاءُ سُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَتْبَاعُهُ مِنْ بَنِيهِمْ أَكْمَلُ مِيرَاثًا؟ بَلْ هُمْ وَرَثَتُهُ حَقًّا. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ طَرِيقُ أَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَطَرِيقُ أَهْلِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ طَرِيقُ الرَّافِضَةِ. وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ بِعَيْنِهَا يُرَدُّ عَلَى الْخَوَارِجِ، فَإِنَّ مُعَادَاتَهُمُ الصَّحَابَةَ مَعْرُوفَةٌ. [فَصْلٌ سِرُّ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَالشَّرَائِعِ] وَسِرُّ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ انْتَهَى إِلَى هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَعَلَيْهِمَا مَدَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ، حَتَّى قِيلَ: أَنْزَلَ اللَّهُ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، جَمَعَ مَعَانِيَهَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَجَمَعَ مَعَانِيَ هَذِهِ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَجَمَعَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ، وَجَمَعَ مَعَانِيَ الْمُفَصَّلِ فِي الْفَاتِحَةِ، وَمَعَانِيَ الْفَاتِحَةِ فِي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وَهُمَا الْكَلِمَتَانِ الْمَقْسُومَتَانِ بَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَ عَبْدِهِ نِصْفَيْنِ، فَنَصِفُهُمَا لَهُ تَعَالَى، وَهُوَ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " وَنِصْفُهُمَا لِعَبْدِهِ وَهُوَ " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ". وَسَيَأْتِي سِرُّ هَذَا وَمَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْعِبَادَةُ تَجْمَعُ أَصْلَيْنِ: غَايَةُ الْحُبِّ بِغَايَةِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ أَيْ مُذَلَّلٌ، وَالتَّعَبُّدُ: التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ، فَمَنْ أَحْبَبْتَهُ وَلَمْ تَكُنْ خَاضِعًا لَهُ، لَمْ

تَكُنْ عَابِدًا لَهُ، وَمَنْ خَضَعْتَ لَهُ بِلَا مَحَبَّةٍ لَمْ تَكُنْ عَابِدًا لَهُ حَتَّى تَكُونَ مُحِبًّا خَاضِعًا، وَمِنْ هَاهُنَا كَانَ الْمُنْكِرُونَ مَحَبَّةَ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ مُنْكِرِينَ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْمُنْكِرُونَ لِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا لَهُمْ، بَلْ هُوَ غَايَةُ مَطْلُوبِهِمْ، وَوَجْهُهُ الْأَعْلَى نِهَايَةُ بُغْيَتِهِمْ مُنْكِرِينَ لِكَوْنِهِ إِلَهًا، وَإِنْ أَقَرُّوا بِكَوْنِهِ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ وَخَالِقًا لَهُمْ، فَهَذَا غَايَةُ تَوْحِيدِهِمْ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَلَمْ يَخْرُجُوا بِهِ عَنِ الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] وَقَالَ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} [المؤمنون: 84] إِلَى قَوْلِهِ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] وَلِهَذَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِهِ عَلَى تَوْحِيدِ إِلَهِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. وَالِاسْتِعَانَةُ تَجْمَعُ أَصْلَيْنِ: الثِّقَةُ بِاللَّهِ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَثِقُ بِالْوَاحِدِ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي أُمُورِهِ مَعَ ثِقَتِهِ بِهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ، وَقَدْ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ ثِقَتِهِ بِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَلِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهَ، فَيَحْتَاجُ إِلَى اعْتِمَادِهِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاثِقٍ بِهِ. وَالتَّوَكُّلُ مَعْنًى يَلْتَئِمُ مِنْ أَصْلَيْنِ: مِنَ الثِّقَةِ، وَالِاعْتِمَادِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " وَهَذَانَ الْأَصْلَانِ وَهُمَا التَّوَكُّلُ، وَالْعِبَادَةُ قَدْ ذُكِرَا فِي الْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِيهَا، هَذَا أَحَدُهَا. الثَّانِي: قَوْلُ شُعَيْبٍ {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] . الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] . الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُؤْمِنِينَ {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4] . الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 8] .

السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] . فَهَذِهِ سِتَّةُ مَوَاضِعَ يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ، وَهُمَا " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ". وَتَقْدِيمُ " الْعِبَادَةِ " عَلَى " الِاسْتِعَانَةِ " فِي الْفَاتِحَةِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْغَايَاتِ عَلَى الْوَسَائِلِ، إِذِ " الْعِبَادَةُ " غَايَةُ الْعِبَادِ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا، وَ " الِاسْتِعَانَةُ " وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " مُتَعَلِّقٌ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَاسْمِهِ " اللَّهِ " " {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَاسْمِهِ " الرَّبِّ " فَقَدَّمَ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " عَلَى " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " كَمَا قَدَّمَ اسْمَ " اللَّهِ " عَلَى " الرَّبِّ " فِي أَوَّلِ الْسُورَةِ، وَلِأَنَّ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " قَسْمُ " الرَّبِّ "، فَكَانَ مِنَ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ، الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِكَوْنِهِ أَوْلَى بِهِ، وَ " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " قَسْمُ الْعَبْدِ، فَكَانَ مِنَ الشَّطْرِ الَّذِي لَهُ، وَهُوَ " {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] " إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَلِأَنَّ " الْعِبَادَةَ " الْمُطْلَقَةَ تَتَضَمَّنُ " الِاسْتِعَانَةُ " مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَكُلُّ عَابِدٍ لِلَّهِ عُبُودِيَّةً تَامَّةً مُسْتَعِينٌ بِهِ وَلَا يَنْعَكِسُ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَغْرَاضِ وَالشَّهَوَاتِ قَدْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى شَهَوَاتِهِ، فَكَانَتِ الْعِبَادَةُ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ، وَلِهَذَا كَانَتْ قَسْمَ الرَّبِّ. وَلِأَنَّ " الِاسْتِعَانَةَ " جُزْءٌ مِنِ " الْعِبَادَةِ " مِنْ غَيْرٍ عَكْسٍ، وَلِأَنَّ " الِاسْتِعَانَةَ " طَلَبٌ مِنْهُ، وَ " الْعِبَادَةَ " طَلَبٌ لَهُ. وَلِأَنَّ " الْعِبَادَةَ " لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ مُخْلِصٍ، وَ " الِاسْتِعَانَةَ " تَكُونُ مِنْ مُخْلِصٍ وَمِنْ غَيْرِ مُخْلِصٍ. وَلِأَنَّ " الْعِبَادَةَ " حَقُّهُ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ، وَ " الِاسْتِعَانَةُ " طَلَبُ الْعَوْنِ عَلَى " الْعِبَادَةِ "، وَهُوَ بَيَانُ صَدَقَتِهِ الَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْكَ، وَأَدَاءُ حَقِّهِ أَهَمُّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِصَدَقَتِهِ. وَلِأَنَّ " الْعِبَادَةَ " شُكْرُ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ، وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَشْكُرَ، وَالْإِعَانَةُ فِعْلُهُ بِكَ وَتَوْفِيقُهُ لَكَ، فَإِذَا الْتَزَمْتَ عُبُودِيَّتَهُ، وَدَخَلْتَ تَحْتَ رِقِّهَا أَعَانَكَ عَلَيْهَا، فَكَانَ الْتِزَامُهَا وَالدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّهَا سَبَبًا لِنَيْلِ الْإِعَانَةِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَتَمَّ عُبُودِيَّةً كَانَتِ الْإِعَانَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُ أَعْظَمَ.

وَالْعُبُودِيَّةُ مَحْفُوفَةٌ بِإِعَانَتَيْنِ: إِعَانَةٍ قَبْلَهَا عَلَى الْتِزَامِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا، وَإِعَانَةٍ بَعْدَهَا عَلَى عُبُودِيَّةٍ أُخْرَى، وَهَكَذَا أَبَدًا، حَتَّى يَقْضِيَ الْعَبْدُ نَحْبَهُ. وَلِأَنَّ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " لَهُ، وَ " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " بِهِ، وَمَا لَهُ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا بِهِ، لِأَنَّ مَا لَهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، وَمَا بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ، وَمَا تَعَلَّقَ بِمَحَبَّتِهِ أَكْمَلُ مِمَّا تَعَلَّقَ بِمُجَرَّدِ مَشِيئَتِهِ، فَإِنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْكُفَّارُ، وَالطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي، وَالْمُتَعَلِّقُ بِمَحَبَّتِهِ: طَاعَتُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ، فَالْكُفَّارُ أَهْلُ مَشِيئَتِهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ أَهْلُ مَحَبَّتِهِ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَقِرُّ فِي النَّارِ شَيْءٌ لِلَّهِ أَبَدًا، وَكُلُّ مَا فِيهَا فَإِنَّهُ بِهِ تَعَالَى وَبِمَشِيئَتِهِ. فَهَذِهِ الْأَسْرَارُ يَتَبَيَّنُ بِهَا حِكْمَةُ تَقْدِيمِ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " عَلَى " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ". وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمَعْبُودِ وَالْمُسْتَعَانِ عَلَى الْفِعْلَيْنِ، فَفِيهِ: أَدَبُهُمْ مَعَ اللَّهِ بِتَقْدِيمِ اسْمِهِ عَلَى فِعْلِهِمْ، وَفِيهِ الِاهْتِمَامُ وَشِدَّةُ الْعِنَايَةِ بِهِ، وَفِيهِ الْإِيذَانُ بِالِاخْتِصَاصِ، الْمُسَمَّى بِالْحَصْرِ، فَهُوَ فِي قُوَّةٍ: لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، وَلَا نَسْتَعِينُ إِلَّا بِكَ، وَالْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ ذَوْقُ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفِقْهُ فِيهَا، وَاسْتِقْرَاءُ مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ مُقَدَّمًا، وَسِيبَوَيْهِ نَصَّ عَلَى الِاهْتِمَامِ، وَلَمْ يَنْفِ غَيْرَهُ. وَلِأَنَّهُ يَقْبُحُ مِنَ الْقَائِلِ أَنْ يُعْتِقَ عَشَرَةَ أَعْبُدٍ مَثَلًا، ثُمَّ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: إِيَّاكَ أَعْتَقْتُ، وَمَنْ سَمِعَهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَالَ: وَغَيْرَهُ أَيْضًا أَعْتَقْتَ، وَلَوْلَا فَهْمُ الِاخْتِصَاصِ لَمَا قُبِّحَ هَذَا الْكَلَامُ، وَلَا حَسُنَ إِنْكَارُهُ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] ، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41] كَيْفَ تَجِدُهُ فِي قُوَّةِ: لَا تَرْهَبُوا غَيْرِي، وَلَا تَتَّقُوا سِوَايَ، وَكَذَلِكَ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " هُوَ فِي قُوَّةِ: لَا نَعْبُدُ غَيْرَكَ، وَلَا نَسْتَعِينُ بِسِوَاكَ، وَكُلُّ ذِي ذَوْقٍ سَلِيمٍ يَفْهَمُ هَذَا الِاخْتِصَاصَ مِنْ عِلَّةِ السِّيَاقِ. وَلَا عِبْرَةَ بِجَدَلِ مَنْ قَلَّ فَهْمُهُ، وَفُتِحَ عَلَيْهِ بَابُ الشَّكِّ وَالتَّشْكِيكِ، فَهَؤُلَاءِ هُمْ آفَةُ

فصل أقسام الناس في العبادة والاستعانة

الْعُلُومِ، وَبَلِيَّةُ الْأَذْهَانِ وَالْفُهُومِ، مَعَ أَنَّ فِي ضَمِيرِ " إِيَّاكَ " مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى نَفْسِ الذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ مَا لَيْسَ فِي الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، فَفِي: إِيَّاكَ قَصَدْتُ وَأَحْبَبْتُ مِنَ الدِّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى حَقِيقَتِكَ وَذَاتِكَ قَصْدِي، مَا لَيْسَ فِي قَوْلِكَ: قَصَدْتُكَ وَأَحْبَبْتُكَ، وَإِيَّاكَ أَعْنِي فِيهِ مَعْنَى: نَفْسَكَ وَذَاتَكَ وَحَقِيقَتَكَ أَعْنِي. وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ النُّحَاةِ: إِنَّ " إِيَّا " اسْمٌ ظَاهِرٌ مُضَافٌ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، وَلَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ بِرَدٍّ شَافٍ. وَلَوْلَا أَنَّا فِي شَأْنٍ وَرَاءَ هَذَا لَأَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَكَرْنَا مَذَاهِبَ النُّحَاةِ فِيهَا، وَنَصَرْنَا الرَّاجِحَ، وَلَعَلَّنَا أَنْ نَعْطِفَ عَلَى ذَلِكَ بِعَوْنِ اللَّهِ. وَفِي إِعَادَةِ " إِيَّاكَ " مَرَّةً أُخْرَى دَلَالَةٌ عَلَى تَعَلُّقِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، فَفِي إِعَادَةِ الضَّمِيرِ مِنْ قُوَّةِ الِاقْتِضَاءِ لِذَلِكَ مَا لَيْسَ فِي حَذْفِهِ، فَإِذَا قُلْتَ لِمَلِكٍ مَثَلًا: إِيَّاكَ أُحِبُّ، وَإِيَّاكَ أَخَافُ، كَانَ فِيهِ مِنَ اخْتِصَاصِ الْحُبِّ وَالْخَوْفِ بِذَاتِهِ وَالِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ، مَا لَيْسَ فِي قَوْلِكِ: إِيَّاكَ أُحِبُّ وَأَخَافُ. [فَصْلٌ أَقْسَامُ النَّاسِ فِي الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَالنَّاسُ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَهُمَا الْعِبَادَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:

أَجَلُّهَا وَأَفْضَلُهَا: أَهْلُ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِالَلَّهِ عَلَيْهَا، فَعِبَادَةُ اللَّهِ غَايَةُ مُرَادِهِمْ، وَطَلَبُهُمْ مِنْهُ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَيْهَا، وَيُوَفِّقَهُمْ لِلْقِيَامِ بِهَا، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُسْأَلُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْإِعَانَةُ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِبِّهِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ «يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَلَا تَنْسَ أَنْ تَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» . فَأَنْفَعُ الدُّعَاءِ طَلَبُ الْعَوْنِ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَأَفْضَلُ الْمَوَاهِبِ إِسْعَافُهُ بِهَذَا الْمَطْلُوبِ، وَجَمِيعُ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ مَدَارُهَا عَلَى هَذَا، وَعَلَى دَفْعِ مَا يُضَادُّهُ، وَعَلَى تَكْمِيلِهِ وَتَيْسِيرِ أَسْبَابِهِ، فَتَأَمَّلْهَا. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: تَأَمَّلْتُ أَنْفَعَ الدُّعَاءِ فَإِذَا هُوَ سُؤَالُ الْعَوْنِ عَلَى مَرْضَاتِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي الْفَاتِحَةِ فِي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وَمُقَابِلُ هَؤُلَاءِ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُمُ الْمُعْرِضُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، فَلَا عِبَادَةَ وَلَا اسْتِعَانَةَ، بَلْ إِنْ سَأَلَهُ أَحَدُهُمْ وَاسْتَعَانَ بِهِ فَعَلَى حُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ، لَا عَلَى مَرْضَاةِ رَبِّهِ وَحُقُوقِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَسْأَلُهُ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ وَيَمُدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَأَبْغَضُ خَلْقِهِ عَدُّوُهُ إِبْلِيسُ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ سَأَلَهُ حَاجَةً فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَمَتَّعَهُ بِهَا، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ عَوْنًا لَهُ عَلَى مَرْضَاتِهِ، كَانَتْ زِيَادَةً لَهُ فِي شِقْوَتِهِ، وَبُعْدِهِ عَنِ اللَّهِ وَطَرْدِهِ عَنْهُ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنِ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى أَمْرٍ وَسَأَلَهُ إِيَّاهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَوْنًا عَلَى طَاعَتِهِ كَانَ مُبْعِدًا لَهُ عَنْ مَرْضَاتِهِ، قَاطِعًا لَهُ عَنْهُ وَلَا بُدَّ. وَلْيَتَأَمَّلِ الْعَاقِلُ هَذَا فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ إِجَابَةَ اللَّهِ لِسَائِلِيهِ لَيْسَتْ لِكَرَامَةِ السَّائِلِ عَلَيْهِ، بَلْ يَسْأَلُهُ عَبْدُهُ الْحَاجَةَ فَيَقْضِيهَا لَهُ، وَفِيهَا هَلَاكُهُ وَشِقْوَتُهُ، وَيَكُونُ قَضَاؤُهُ لَهُ مِنْ هَوَانِهِ عَلَيْهِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِهِ، وَيَكُونُ مَنْعُهُ مِنْهَا لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ، فَيَمْنَعُهُ حِمَايَةً وَصِيَانَةً وَحِفْظًا لَا بُخْلًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَفْعَلُهُ بِعَبْدِهِ الَّذِي يُرِيدُ كَرَامَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ، وَيُعَامِلُهُ بِلُطْفِهِ، فَيَظُنُّ بِجَهْلِهِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يُكْرِمُهُ، وَيَرَاهُ يَقْضِي حَوَائِجَ غَيْرِهِ، فَيُسِيءُ ظَنَّهُ

بِرَبِّهِ، وَهَذَا حَشْوُ قَلْبِهِ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، وَالْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَعَلَامَةُ هَذَا حَمْلُهُ عَلَى الْأَقْدَارِ وَعِتَابُهُ الْبَاطِنُ لَهَا، كَمَا قِيلَ: وَعَاجِزُ الرَّأْيِ مِضْيَاعٌ لِفُرْصَتِهِ ... حَتَّى إِذَا فَاتَ أَمْرٌ عَاتَبَ الْقَدَرَا فَوَاللَّهِ لَوْ كَشَفَ عَنْ حَاصِلِهِ وَسِرِّهِ لَرَأَى هُنَاكَ مُعَاتَبَةَ الْقَدَرِ وَاتِّهَامَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ مَا حِيلَتِي، وَالْأَمْرُ لَيْسَ إِلَيَّ؟ وَالْعَاقِلُ خَصْمُ نَفْسِهِ، وَالْجَاهِلُ خَصْمُ أَقْدَارِ رَبِّهِ. فَاحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ أَنْ تَسْأَلَهُ شَيْئًا مُعَيَّنًا خِيرَتُهُ وَعَاقِبَتُهُ مُغَيَّبَةٌ عَنْكَ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنْ سُؤَالِهِ بُدًّا، فَعَلِّقْهُ عَلَى شَرْطِ عِلْمِهِ تَعَالَى فِيهِ الْخِيَرَةَ، وَقَدِّمْ بَيْنَ يَدَيْ سُؤَالِكَ الِاسْتِخَارَةَ، وَلَا تَكُنِ اسْتِخَارَةٌ بِاللِّسَانِ بِلَا مَعْرِفَةٍ، بَلِ اسْتِخَارَةُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَصَالِحِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَا اهْتِدَاءَ لَهُ إِلَى تَفَاصِيلِهَا، وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا، بَلْ إِنْ وُكِّلَّ إِلَى نَفْسِهِ هَلَكَ كُلَّ الْهَلَاكِ، وَانْفَرَطَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ. وَإِذَا أَعْطَاكَ مَا أَعْطَاكَ بِلَا سُؤَالٍ تَسْأَلُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَوْنًا لَكَ عَلَى طَاعَتِهِ وَبَلَاغًا إِلَى مَرْضَاتِهِ، وَلَا يَجْعَلَهُ قَاطِعًا لَكَ عَنْهُ، وَلَا مُبْعِدًا عَنْ مَرْضَاتِهِ، وَلَا تَظُنُّ أَنَّ عَطَاءَهُ كُلَّ مَا أَعْطَى لِكَرَامَةِ عَبْدِهِ عَلَيْهِ، وَلَا مَنْعَهُ كُلَّ مَا يَمْنَعُهُ لِهَوَانِ عَبْدِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ عَطَاءَهُ وَمَنْعَهُ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ، يَمْتَحِنُ بِهِمَا عِبَادَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ - وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ - كَلَّا} [الفجر: 15 - 17] أَيْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَعْطَيْتُهُ وَنَعَّمْتُهُ وَخَوَّلْتُهُ فَقَدْ أَكْرَمْتُهُ، وَمَا ذَاكَ لِكَرَامَتِهِ عَلَيَّ، وَلَكِنَّهُ ابْتِلَاءٌ مِنِّي، وَامْتِحَانٌ لَهُ أَيَشْكُرُنِي فَأُعْطِيَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، أَمْ يَكْفُرُنِي فَأَسْلُبَهُ إِيَّاهُ، وَأُخَوِّلَ فِيهِ غَيْرَهُ؟ وَلَيْسَ كُلُّ مَنِ ابْتَلَيْتُهُ فَضَيَّقْتُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَجَعَلْتُهُ بِقَدَرٍ لَا يُفَضَّلُ عَنْهُ، فَذَلِكَ مِنْ هَوَانِهِ عَلَيَّ، وَلَكِنَّهُ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ مِنِّي لَهُ أَيَصْبِرُ فَأُعْطِيَهُ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مَا فَاتَهُ مِنْ سَعَةِ الرِّزْقِ، أَمْ يَتَسَخَّطُ فَيَكُونَ حَظُّهُ السُّخْطَ؟ . فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ سَعَةَ الرِّزْقِ إِكْرَامٌ، وَأَنَّ الْفَقْرَ إِهَانَةٌ، فَقَالَ: لَمْ أَبْتَلِ عَبْدِي بِالْغِنَى لِكَرَامَتِهِ عَلَيَّ، وَلَمْ أَبْتَلِهِ بِالْفَقْرِ لِهَوَانِهِ عَلَيَّ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِكْرَامَ وَالْإِهَانَةَ لَا يَدُورَانِ عَلَى الْمَالِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ وَتَقْدِيرِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُوَسِّعُ عَلَى الْكَافِرِ لَا لِكَرَامَتِهِ، وَيُقَتِّرُ عَلَى الْمُؤْمِنِ لَا لِإِهَانَتِهِ، إِنَّمَا يُكْرِمُ مَنْ يُكْرِمُهُ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَيُهِينُ مَنْ يُهِينُهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَمَعْصِيَتِهِ، فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.

فَعَادَتْ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ لَهُ نَوْعُ عِبَادَةٍ بِلَا اسْتِعَانَةٍ، وَهَؤُلَاءِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَدَرِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ بِالْعَبْدِ جَمِيعَ مَقْدُورِهِ مِنَ الْأَلْطَافِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي مَقْدُورِهِ إِعَانَةٌ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَعَانَهُ بِخَلْقِ الْآلَاتِ وَسَلَامَتِهَا، وَتَعْرِيفِ الطَّرِيقِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَتَمْكِينِهِ مِنَ الْفِعْلِ، فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا إِعَانَةٌ مَقْدُورَةٌ يَسْأَلُهُ إِيَّاهَا، بَلْ قَدْ سَاوَى بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ فِي الْإِعَانَةِ، فَأَعَانَ هَؤُلَاءِ كَمَا أَعَانَ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنَّ أَوْلِيَاءَهُ اخْتَارُوا لِنُفُوسِهِمُ الْإِيمَانَ، وَأَعْدَاءَهُ اخْتَارُوا لِنُفُوسِهِمُ الْكُفْرَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَفَّقَ هَؤُلَاءِ بِتَوْفِيقٍ زَائِدٍ أَوْجَبَ لَهُمُ الْإِيمَانَ، وَخَذَلَ هَؤُلَاءِ بِأَمْرٍ آخَرَ أَوْجَبَ لَهُمُ الْكُفْرَ، فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ نَصِيبٌ مَنْقُوصٌ مِنَ الْعِبَادَةِ، لَا اسْتِعَانَةَ مَعَهُ، فَهُمْ مَوْكُولُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، مَسْدُودٌ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوْحِيدِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَكَذَّبَ بِقَدَرِهِ نَقَضَ تَكْذِيبُهُ تَوْحِيدَهُ. النَّوْعُ الثَّانِي: مَنْ لَهُمْ عِبَادَاتٌ وَأَوْرَادٌ، وَلَكِنَّ حَظَّهُمْ نَاقِصٌ مِنَ التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ، لَمْ تَتَّسِعْ قُلُوبُهُمْ لِارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْقَدَرِ، وَتَلَاشِيهَا فِي ضِمْنِهِ، وَقِيَامِهَا بِهِ،

وَأَنَّهَا بِدُونِ الْقَدَرِ كَالْمَوَاتِ الَّذِي لَا تَأْثِيرَ لَهُ، بَلْ كَالْعَدَمِ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ، وَأَنَّ الْقَدَرَ كَالرُّوحِ الْمُحَرِّكِ لَهَا، وَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْمُحَرِّكِ الْأَوَّلِ. فَلَمْ تَنْفُذْ قُوَى بَصَائِرِهِمْ مِنَ الْمُتَحَرِّكِ إِلَى الْمُحَرِّكِ، وَمِنَ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبَّبِ، وَمِنَ الْآلَةِ إِلَى الْفَاعِلِ، فَضَعُفَتْ عَزَائِمُهُمْ وَقَصُرَتْ هِمَمُهُمْ، فَقَلَّ نَصِيبُهُمْ مِنْ " {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " وَلَمْ يَجِدُوا ذَوْقَ التَّعَبُّدِ بِالتَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَإِنْ وَجَدُوا ذَوْقَهُ بِالْأَوْرَادِ وَالْوَظَائِفِ. فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ التَّوْفِيقِ وَالنُّفُوذِ وَالتَّأْثِيرِ، بِحَسَبِ اسْتِعَانَتِهِمْ وَتَوَكُّلِهِمْ، وَلَهُمْ مِنَ الْخُذْلَانِ وَالضَّعْفِ وَالْمَهَانَةِ وَالْعَجْزِ بِحَسَبِ قِلَّةِ اسْتِعَانَتِهِمْ وَتَوَكُّلِهِمْ، وَلَوْ تَوَكَّلَ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ فِي إِزَالَةِ جَبَلٍ عَنْ مَكَانِهِ وَكَانَ مَأْمُورًا بِإِزَالَتِهِ لَأَزَالَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ؟ . قُلْتُ: هُوَ حَالٌ لِلْقَلْبِ يَنْشَأُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ، وَالْإِيمَانِ بِتَفَرُّدِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأِ النَّاسُ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَإِنْ شَاءَهُ النَّاسُ، فَيُوجِبُ لَهُ هَذَا اعْتِمَادًا عَلَيْهِ، وَتَفْوِيضًا إِلَيْهِ، وَطُمَأْنِينَةً بِهِ، وَثِقَةً بِهِ، وَيَقِينًا بِكِفَايَتِهِ لِمَا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ مَلِيٌّ بِهِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، شَاءَهُ النَّاسُ أَمْ أَبَوْهُ. فَتُشْبِهُ حَالَتُهُ حَالَةَ الطِّفْلِ مَعَ أَبَوَيْهِ فِيمَا يَنْوِيهِ مِنْ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ هُمَا مَلِيَّانِ بِهِمَا، فَانْظُرْ فِي تَجَرُّدِ قَلْبِهِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ أَبَوَيْهِ، وَحَبْسِ هَمِّهِ عَلَى إِنْزَالِ مَا يَنْوِيهِ بِهِمَا، فَهَذِهِ حَالُ الْمُتَوَكِّلِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا مَعَ اللَّهِ فَاللَّهُ كَافِيهِ وَلَا بُدَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أَيْ كَافِيهِ، وَالْحَسْبُ الْكَافِي، فَإِنْ كَانَ مَعَ هَذَا مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى كَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْحَمِيدَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى فَهُوَ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَنْ شَهِدَ تَفَرُّدَ اللَّهِ بِالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يَدْرِ مَعَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى حُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ وَأَغْرَاضِهِ، وَطَلَبَهَا مِنْهُ، وَأَنْزَلَهَا بِهِ، فَقُضِيَتْ لَهُ، وَأُسْعِفَ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ أمْوَالًا أَوْ رِيَاسَةً أَوْ جَاهًا عِنْدَ الْخَلْقِ، أَوْ أَحْوَالًا مِنْ كَشْفٍ وَتَأْثِيرٍ وَقُوَّةٍ وَتَمْكِينٍ، وَلَكِنْ لَا عَاقِبَةَ لَهُ، فَإِنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْمُلْكِ الظَّاهِرِ، وَالْأَمْوَالُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْإِسْلَامَ، فَضْلًا عَنِ الْوِلَايَةِ وَالْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُلْكَ وَالْجَاهَ وَالْمَالَ وَالْحَالَ مُعْطَاةٌ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ لِمَنْ آتَاهُ إِيَّاهُ وَرِضَاهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُقَرَّبِينَ،

فصل لا يكون العبد متحققا بإياك نعبد إلا بمتابعة الرسول والإخلاص وأقسام الناس في ذلك

فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ، وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ دِينِهِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَيَكْرَهُهُ وَيُسْخِطُهُ، فَالْحَالُ مِنَ الدُّنْيَا، فَهُوَ كَالْمُلْكِ وَالْمَالِ إِنْ أَعَانَ صَاحِبَهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ أَلْحَقَهُ بِالْمُلُوكِ الْعَادِلِينَ الْبَرَرَةِ، وَإِلَّا فَهُوَ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَمُبْعِدٌ لَهُ عَنِ اللَّهِ، وَمُلْحِقٌ لَهُ بِالْمُلُوكِ الظَّلَمَةِ، وَالْأَغْنِيَاءِ الْفَجَرَةِ. [فَصْلٌ لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُتَحَقِّقًا بِإيَّاكَ نَعْبُدُ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَالْإِخْلَاصِ وَأَقْسَامُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ] [أَهْلُ الْإِخْلَاصِ لِلْمَعْبُودِ وَالْمُتَابَعَةِ] فَصْلٌ إِذَا عُرِفَ هَذَا فَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُتَحَقِّقًا بِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " إِلَّا بِأَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: الْإِخْلَاصُ لِلْمَعْبُودِ، فَهَذَا تَحْقِيقُ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ". وَالنَّاسُ مُنْقَسِمُونَ بِحَسَبِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَيْضًا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَهْلُ الْإِخْلَاصِ لِلْمَعْبُودِ وَالْمُتَابَعَةِ، وَهُمْ أَهْلُ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " حَقِيقَةً، فَأَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا لِلَّهِ، وَأَقْوَالُهُمْ لِلَّهِ، وَعَطَاؤُهُمْ لِلَّهِ، وَمَنْعُهُمْ لِلَّهِ، وَحُبُّهُمْ لِلَّهِ، وَبُغْضُهُمْ لِلَّهِ، فَمُعَامَلَتُهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِوَجْهِ اللَّهِ وَحْدَهُ، لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مِنَ النَّاسِ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وَلَا ابْتِغَاءَ الْجَاهِ عِنْدَهُمْ، وَلَا طَلَبَ الْمُحَمَّدَةِ، وَالْمُنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَلَا هَرَبًا مِنْ ذَمِّهِمْ، بَلْ قَدْ عَدُّوا النَّاسَ بِمَنْزِلَةِ أَصْحَابِ الْقُبُورِ، لَا يَمْلِكُونَ لَهُمْ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، فَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ، وَابْتِغَاءُ الْجَاهِ وَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ، وَرَجَاؤُهُمْ لِلضُّرِّ وَالنَّفْعِ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ مِنْ عَارِفٍ بِهِمُ الْبَتَّةَ، بَلْ مِنْ جَاهِلٍ بِشَأْنِهِمْ، وَجَاهِلٍ بِرَبِّهِ، فَمَنْ عَرَفَ النَّاسَ أَنْزَلَهُمْ مَنَازِلَهُمْ، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ أَخْلَصَ لَهُ أَعْمَالَهُ وَأَقْوَالَهُ، وَعَطَاءَهُ وَمَنْعَهُ وَحُبَّهُ وَبُغْضَهُ، وَلَا يُعَامِلُ أَحَدَ الْخَلْقِ دُونَ اللَّهِ إِلَّا لِجَهْلِهِ بِاللَّهِ وَجَهْلِهِ بِالْخَلْقِ، وَإِلَّا فَإِذَا عَرَفَ اللَّهَ وَعَرَفَ النَّاسَ آثَرَ مُعَامَلَةَ اللَّهِ عَلَى مُعَامَلَتِهِمْ. وَكَذَلِكَ أَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا وَعِبَادَتُهُمْ مُوَافَقَةٌ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَلِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَهَذَا هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ عَامِلٍ سِوَاهُ، وَهُوَ الَّذِي بَلَا عِبَادَهُ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ لِأَجْلِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] وَجَعَلَ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِيَخْتَبِرَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: الْعَمَلُ الْحَسَنُ هُوَ

من لا إخلاص له ولا متابعة

أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ، قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: إِنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا، وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ: مَا كَانَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ: مَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] وَفِي قَوْلِهِ {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125] فَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، عَلَى مُتَابَعَةِ أَمْرِهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى عَامِلِهِ، يُرَدُّ عَلَيْهِ أَحْوَجَ مَا هُوَ إِلَيْهِ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَكُلُّ عَمَلٍ بِلَا اقْتِدَاءٍ فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ عَامِلَهُ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا يُعْبَدُ بِأَمْرِهِ، لَا بِالْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ. [مَنْ لَا إِخْلَاصَ لَهُ وَلَا مُتَابَعَةَ] فَصْلٌ الضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ لَا إِخْلَاصَ لَهُ وَلَا مُتَابَعَةَ، فَلَيْسَ عَمَلُهُ مُوَافِقًا لِشَرْعٍ، وَلَيْسَ هُوَ خَالِصًا لِلْمَعْبُودِ، كَأَعْمَالِ الْمُتَزَيِّنِينَ لِلنَّاسِ، الْمُرَائِينَ لَهُمْ بِمَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهَؤُلَاءِ شِرَارُ الْخَلْقِ، وَأَمْقَتُهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَهُمْ أَوْفَرُ نَصِيبٍ مِنْ قَوْلِهِ {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188] يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ وَالشِّرْكِ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْإِخْلَاصِ.

مخلص في أعماله لكنها على غير متابعة الأمر

وَهَذَا الضَّرْبُ يَكْثُرُ فِيمَنِ انْحَرَفَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْعِلْمِ وَالْفَقْرِ وَالْعِبَادَةِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِنَّهُمْ يَرْتَكِبُونَ الْبِدَعَ وَالضَّلَالَاتِ، وَالرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوهُ مِنَ الِاتِّبَاعِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْعِلْمِ، فَهُمْ أَهْلُ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ. [مُخْلِصٌ فِي أَعْمَالِهِ لَكِنَّهَا عَلَى غَيْرِ مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ] فَصْلٌ الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَنْ هُوَ مُخْلِصٌ فِي أَعْمَالِهِ، لَكِنَّهَا عَلَى غَيْرِ مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ، كَجُهَّالِ الْعُبَّادِ، وَالْمُنْتَسِبِينَ إِلَى طَرِيقِ الزُّهْدِ وَالْفَقْرِ، وَكُلِّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَاعْتَقَدَ عِبَادَتَهُ هَذِهِ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ فَهَذَا حَالُهُ، كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ قُرْبَةٌ، وَأَنَّ الْخَلْوَةَ الَّتِي يَتْرُكُ فِيهَا الْجُمْعَةَ وَالْجَمَاعَةَ قُرْبَةٌ، وَأَنَّ مُوَاصَلَةَ صَوْمِ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ قُرْبَةٌ، وَأَنَّ صِيَامَ يَوْمِ فِطْرِ النَّاسِ كُلِّهِمْ قُرْبَةٌ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. [مَنْ أَعْمَالُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ لَكِنَّهَا لِغَيْرِ اللَّهِ] فَصْلٌ الضَّرْبُ الرَّابِعُ: مَنْ أَعْمَالُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ، لَكِنَّهَا لِغَيْرِ اللَّهِ، كَطَاعَةِ الْمُرَائِينَ، وَكَالرَّجُلِ يُقَاتِلُ رِيَاءً وَحَمِيَّةً وَشَجَاعَةً، وَيَحُجُّ لِيُقَالَ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ، فَهَؤُلَاءِ أَعْمَالُهُمْ ظَاهِرُهَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، لَكِنَّهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ، فَلَا تُقْبَلُ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] فَكُلُّ أَحَدٍ لَمْ يُؤْمَرْ إِلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ بِمَا أَمَرَ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَهُمْ أَهْلُ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ". [فَصْلٌ أَهْلُ مَقَامِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ لَهُمْ فِي أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ وَأَنْفَعِهَا وَأَحَقِّهَا بِالْإِيثَارِ وَالتَّخْصِيصِ أَرْبَعُ طُرُقٍ] فَصْلٌ ثُمَّ أَهْلُ مَقَامِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " لَهُمْ فِي أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ وَأَنْفَعِهَا وَأَحَقِّهَا بِالْإِيثَارِ وَالتَّخْصِيصِ أَرْبَعُ طُرُقٍ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: عِنْدَهُمْ أَنْفَعُ الْعِبَادَاتِ وَأَفْضَلُهَا أَشَقُّهَا عَلَى النُّفُوسِ وَأَصْعَبُهَا. قَالُوا: لِأَنَّهُ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنْ هَوَاهَا، وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّعَبُّدِ. قَالُوا: وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، وَرَوَوْا حَدِيثًا لَا أَصْلَ لَهُ " «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحَمَزُهَا» " أَيْ أَصْعَبُهَا وَأَشَقُّهَا.

وَهَؤُلَاءِ: هُمْ أَهْلُ الْمُجَاهَدَاتِ وَالْجَوْرِ عَلَى النُّفُوسِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا تَسْتَقِيمُ النُّفُوسُ بِذَلِكَ، إِذْ طَبْعُهَا الْكَسَلُ وَالْمَهَانَةُ، وَالْإِخْلَادُ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَا تَسْتَقِيمُ إِلَّا بِرُكُوبِ الْأَهْوَالِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ. الصِّنْفُ الثَّانِي، قَالُوا: أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ التَّجَرُّدُ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّقَلُّلُ مِنْهَا غَايَةَ الْإِمْكَانِ، وَاطِّرَاحُ الِاهْتِمَامِ بِهَا، وَعَدَمُ الِاكْتِرَاثِ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْهَا. ثُمَّ هَؤُلَاءِ قِسْمَانِ: فَعَوَامُّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا غَايَةٌ، فَشَمَّرُوا إِلَيْهِ وَعَمِلُوا عَلَيْهِ، وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَيْهِ، وَقَالُوا: هُوَ أَفْضَلُ مِنْ دَرَجَةِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، فَرَأَوُا الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا غَايَةَ كُلِّ عِبَادَةٍ وَرَأْسَهَا. وَخَوَاصُهُمْ رَأَوْا هَذَا مَقْصُودًا لِغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ عُكُوفُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ، وَجَمْعُ الْهِمَّةِ عَلَيْهِ، وَتَفْرِيغُ الْقَلْبِ لِمَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِمَرْضَاتِهِ، فَرَأَوْا أَنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ فِي الْجَمْعِيَّةِ عَلَى اللَّهِ، وَدَوَامِ ذِكْرِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَالِاشْتِغَالِ بِمُرَاقَبَتِهِ، دُونَ كُلِّ مَا فِيهِ تَفْرِيقٌ لِلْقَلْبِ وَتَشْتِيتٌ لَهُ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ قِسْمَانِ، فَالْعَارِفُونَ الْمُتَّبِعُونَ مِنْهُمْ إِذَا جَاءَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بَادَرُوا إِلَيْهِ وَلَوْ فَرَّقَهُمْ وَأَذْهَبَ جَمْعِيَّتَهُمْ، وَالْمُنْحَرِفُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِبَادَةِ جَمْعِيَّةُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ، فَإِذَا جَاءَ مَا يُفَرِّقُهُ عَنِ اللَّهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا يَقُولُ قَائِلُهُمْ: يُطَالَبُ بِالْأَوْرَادِ مَنْ كَانَ غَافِلًا ... فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أَوْقَاتِهِ وِرْدُ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ أَيْضًا قِسْمَانِ، مِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُ الْوَاجِبَاتِ وَالْفَرَائِضَ لِجَمْعِيَّتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَيَتْرُكُ السُّنَنَ وَالنَّوَافِلَ، وَتَعَلُّمَ الْعِلْمِ النَّافِعِ لِجَمْعِيَّتِهِ. وَسَأَلَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ شَيْخًا عَارِفًا، فَقَالَ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَأَنَا فِي جَمْعِيَّتِي عَلَى اللَّهِ، فَإِنْ قُمْتُ وَخَرَجْتُ نَفَقْتُ، وَإِنْ بَقِيتُ عَلَى حَالِي بَقِيتُ عَلَى جَمْعِيَّتِي، فَمَا الْأَفْضَلُ فِي حَقِّي؟ فَقَالَ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَأَنْتَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَقُمْ، وَأَجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ، ثُمَّ عُدْ إِلَى مَوْضِعِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَمْعِيَّةَ عَلَى اللَّهِ حَظُّ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ، وَإِجَابَةَ الدَّاعِي حَقُّ الرَّبِّ، وَمَنْ آثَرَ حَظَّ رُوحِهِ عَلَى حَقِّ رَبِّهِ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ". الصِّنْفُ الثَّالِثُ: رَأَوْا أَنَّ أَنْفَعَ الْعِبَادَاتِ وَأَفْضَلَهَا: مَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ مُتَعَدٍّ، فَرَأَوْهُ

أَفْضَلَ مِنْ ذِي النَّفْعِ الْقَاصِرِ، فَرَأَوْا خِدْمَةَ الْفُقَرَاءِ، وَالِاشْتِغَالَ بِمَصَالِحِ النَّاسِ وَقَضَاءَ حَوَائِجِهِمْ، وَمُسَاعَدَتِهِمْ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالنَّفْعِ أَفْضَلَ، فَتَصَدَّوْا لَهُ وَعَمِلُوا عَلَيْهِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عَمَلَ الْعَابِدِ قَاصِرٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَمَلَ النَّفَّاعِ مُتَعَدٍّ إِلَى الْغَيْرِ، وَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ؟ . قَالُوا: وَلِهَذَا كَانَ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» وَهَذَا التَّفْضِيلُ إِنَّمَا هُوَ لِلنَّفْعِ الْمُتَعَدِّي، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي

النَّاسِ الْخَيْرَ» وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، وَالنَّمْلَةُ فِي جُحْرِهَا» . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ صَاحِبَ الْعِبَادَةِ إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَصَاحِبَ النَّفْعِ لَا يَنْقَطِعُ عَمَلُهُ، مَا دَامَ نَفْعُهُ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا بُعِثُوا بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ وَهِدَايَتِهِمْ، وَنَفْعِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، لَمْ يُبْعَثُوا بِالْخُلْوَاتِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ وَالتَّرَهُّبِ، وَلِهَذَا أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ الَّذِينَ هَمُّوا بِالِانْقِطَاعِ لِلتَّعَبُّدِ، وَتَرْكِ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، وَرَأَى هَؤُلَاءِ التَّفَرُّقَ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَنَفْعَ عِبَادِهِ، وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ، أَفْضَلَ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ بِدُونِ ذَلِكَ. الصِّنْفُ الرَّابِعُ، قَالُوا: إِنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَةِ الْعَمَلُ عَلَى مَرْضَاةِ الرَّبِّ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْوَقْتِ وَوَظِيفَتُهُ، فَأَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ فِي وَقْتِ الْجِهَادِ: الْجِهَادُ، وَإِنْ آَلَ إِلَى تَرْكِ الْأَوْرَادِ، مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، بَلْ وَمِنْ تَرْكِ إِتْمَامِ صَلَاةِ الْفَرْضِ، كَمَا فِي حَالَةِ الْأَمْنِ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ حُضُورِ الضَّيْفِ مَثَلًا الْقِيَامُ بِحَقِّهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ عَنِ الْوِرْدِ الْمُسْتَحَبِّ، وَكَذَلِكَ فِي أَدَاءِ حَقِّ الزَّوْجَةِ وَالْأَهْلِ.

وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ السَّحَرِ الِاشْتِغَالُ بِالصَّلَاةِ وَالْقُرْآنِ، وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ اسْتِرْشَادِ الطَّالِبِ، وَتَعْلِيمِ الْجَاهِلِ الْإِقْبَالُ عَلَى تَعْلِيمِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ. وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ الْأَذَانِ تَرْكُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ وِرْدِهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ. وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْجِدُّ وَالنُّصْحُ فِي إِيقَاعِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْخُرُوجُ إِلَى الْجَامِعِ، وَإِنْ بَعُدَ كَانَ أَفْضَلَ. وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ ضَرُورَةِ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْمُسَاعَدَةِ بِالْجَاهِ، أَوِ الْبَدَنِ، أَوِ الْمَالِ الِاشْتِغَالُ بِمُسَاعَدَتِهِ، وَإِغَاثَةُ لَهْفَتِهِ، وَإِيثَارُ ذَلِكَ عَلَى أَوْرَادِكَ وَخَلْوَتِكَ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ جَمْعِيَّةُ الْقَلْبِ وَالْهِمَّةِ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَتَفَهُّمِهِ، حَتَّى كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَاطِبُكَ بِهِ، فَتَجْمَعُ قَلْبَكَ عَلَى فَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ أَعْظَمُ مِنْ جَمْعِيَّةِ قَلْبِ مَنْ جَاءَهُ كِتَابٌ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى ذَلِكَ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ الِاجْتِهَادُ فِي التَّضَرُّعِ وَالْدُعَاءِ وَالْذِكْرِ دُونَ الصَّوْمِ الْمُضْعِفِ عَنْ ذَلِكَ. وَالْأَفْضَلُ فِي أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ الْإِكْثَارُ مِنَ التَّعَبُّدِ، لَاسِيَّمَا التَّكْبِيرُ وَالْتَهْلِيلُ وَالْتَحْمِيدُ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْجِهَادِ غَيْرِ الْمُتَعَيَّنِ. وَالْأَفْضَلُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ لُزُومُ الْمَسْجِدِ فِيهِ وَالْخَلْوَةِ وَالِاعْتِكَافِ دُونَ التَّصَدِّي لِمُخَالَطَةِ النَّاسِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَى تَعْلِيمِهِمُ الْعِلْمَ، وَإقْرَائِهِمُ الْقُرْآنَ، عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ مَرَضِ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ أَوْ مَوْتِهِ عِيَادَتُهُ، وَحُضُورُ جِنَازَتِهِ وَتَشْيِيعُهُ، وَتَقْدِيمُ ذَلِكَ عَلَى خَلْوَتِكَ وَجَمْعِيَّتِكَ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ نُزُولِ النَّوَازِلِ وَأَذَاةِ النَّاسِ لَكَ أَدَاءُ وَاجِبِ الصَّبْرِ مَعَ خُلْطَتِكَ بِهِمْ، دُونَ الْهَرَبِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ لِيَصْبِرَ عَلَى أَذَاهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يُؤْذُونَهُ. وَالْأَفْضَلُ خُلْطَتُهُمْ فِي الْخَيْرِ، فَهِيَ خَيْرٌ مِنَ اعْتِزَالِهِمْ فِيهِ، وَاعْتِزَالُهُمْ فِي الشَّرِّ، فَهُوَ

فصل منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها وانقسام الناس في ذلك لأربعة أصناف

أَفْضَلُ مِنْ خُلْطَتِهِمْ فِيهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا خَالَطَهُمْ أَزَالَهُ أَوْ قَلَّلَهُ فَخُلْطَتُهُمْ حِينَئِذٍ أَفْضَلُ مِنِ اعْتِزَالِهِمْ. فَالْأَفْضَلُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحَالٍ إِيثَارُ مَرْضَاةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ، وَالِاشْتِغَالُ بِوَاجِبِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَوَظِيفَتِهِ وَمُقْتَضَاهُ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ التَّعَبُّدِ الْمُطْلَقِ، وَالْأَصْنَافُ قِبَلَهُمْ أَهْلُ التَّعَبُّدِ الْمُقَيَّدِ، فَمَتَى خَرَجَ أَحَدُهُمْ عَنِ النَّوْعِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَفَارَقَهُ يَرَى نَفْسَهُ كَأَنَّهُ قَدْ نَقَصَ وَتَرَكَ عِبَادَتَهُ، فَهُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَصَاحِبُ التَّعَبُّدِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي تَعَبُّدٍ بِعَيْنِهِ يُؤْثِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ، بَلْ غَرَضُهُ تَتَبُّعُ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْنَ كَانَتْ، فَمَدَارُ تَعَبُّدِهِ عَلَيْهَا، فَهُوَ لَا يَزَالُ مُتَنَقِّلًا فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ، كُلَّمَا رُفِعَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ عَمِلَ عَلَى سَيْرِهِ إِلَيْهَا، وَاشْتَغَلَ بِهَا حَتَّى تَلُوحَ لَهُ مَنْزِلَةٌ أُخْرَى، فَهَذَا دَأْبَهُ فِي السَّيْرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ سَيْرُهُ، فَإِنْ رَأَيْتَ الْعُلَمَاءَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الْعُبَّادَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الْمُجَاهِدِينَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الذَّاكِرِينَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الْمُتَصَدِّقِينَ الْمُحْسِنِينَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ أَرْبَابَ الْجَمْعِيَّةِ وَعُكُوفِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، فَهَذَا هُوَ الْعَبْدُ الْمُطْلَقُ، الَّذِي لَمْ تَمْلِكْهُ الرُّسُومُ، وَلَمْ تُقَيِّدْهُ الْقُيُودُ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ عَلَى مُرَادِ نَفْسِهِ وَمَا فِيهِ لَذَّتُهَا وَرَاحَتُهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، بَلْ هُوَ عَلَى مُرَادِ رَبِّهِ، وَلَوْ كَانَتْ رَاحَةُ نَفْسِهِ وَلَذَّتُهَا فِي سِوَاهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُتَحَقِّقُ بِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " حَقًّا، الْقَائِمُ بِهِمَا صِدْقًا، مَلْبَسُهُ مَا تَهَيَّأَ، وَمَأْكَلُهُ مَا تَيَسَّرَ، وَاشْتِغَالُهُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِوَقْتِهِ، وَمَجْلِسُهُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَكَانُ وَوَجَدَهُ خَالِيًا، لَا تَمْلِكُهُ إِشَارَةٌ، وَلَا يَتَعَبَّدُهُ قَيْدٌ، وَلَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ رَسْمٌ، حُرٌّ مُجَرَّدٌ، دَائِرٌ مَعَ الْأَمْرِ حَيْثُ دَارَ، يَدِينُ بِدِينِ الْآمِرِ أَنَّى تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهُ، وَيَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهُ، يَأْنَسُ بِهِ كُلُّ مُحِقٍّ، وَيَسْتَوْحِشُ مِنْهُ كُلُّ مُبْطِلٍ، كَالْغَيْثِ حَيْثُ وَقَعَ نَفَعَ، وَكَالْنَخْلَةِ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَكُلُّهَا مَنْفَعَةٌ حَتَّى شَوْكُهَا، وَهُوَ مَوْضِعُ الْغِلْظَةِ مِنْهُ عَلَى الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْغَضَبِ إِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَهُوَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ وَمَعَ اللَّهِ، قَدْ صَحِبَ اللَّهَ بِلَا خَلْقٍ، وَصَحِبَ النَّاسَ بِلَا نَفْسٍ، بَلْ إِذَا كَانَ مَعَ اللَّهِ عَزَلَ الْخَلَائِقَ عَنِ الْبَيْنِ، وَتَخَلَّى عَنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ مَعَ خَلْقِهِ عَزَلَ نَفْسَهُ مِنَ الْوَسَطِ وَتَخَلَّى عَنْهَا، فَوَاهًا لَهُ! مَا أَغْرَبَهُ بَيْنَ النَّاسِ! وَمَا أَشَدَّ وَحْشَتَهُ مِنْهُمْ! وَمَا أَعْظَمَ أُنْسَهُ بِاللَّهِ وَفَرَحَهُ بِهِ، وَطُمَأْنِينَتَهُ وَسُكُونَهُ إِلَيْهِ! ! وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ الْتُكْلَانُ. [فَصْلٌ مَنْفَعَةُ الْعِبَادَةِ وَحِكْمَتُهَا وَمَقْصُودُهَا وَانْقِسَامُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ لِأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ] [نُفَاةُ التَّعْلِيلِ] فَصْلٌ ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي مَنْفَعَةِ الْعِبَادَةِ وَحِكْمَتِهَا وَمَقْصُودِهَا طُرُقٌ أَرْبَعَةٌ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ.

الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: نُفَاةُ الْحُكْمِ وَالتَّعْلِيلِ، الَّذِينَ يَرُدُّونَ الْأَمْرَ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، وَصِرْفِ الْإِرَادَةِ، فَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمُ الْقِيَامُ بِهَا لَيْسَ إِلَّا لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِسَعَادَةٍ فِي مَعَاشٍ وَلَا مَعَادٍ، وَلَا سَبَبًا لِنَجَاةٍ، وَإِنَّمَا الْقِيَامُ بِهَا لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَمَحْضِ الْمَشِيئَةِ، كَمَا قَالُوا فِي الْخَلْقِ: إِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ لِعِلَّةٍ، وَلَا لِغَايَةٍ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِهِ، وَلَا لِحِكْمَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَسْبَابٌ مُقْتَضِيَاتٌ لِمُسَبَّبَاتِهَا، وَلَا فِيهَا قُوًى وَلَا طَبَائِعُ، فَلَيْسَتِ النَّارُ سَبَبًا لِلْإِحْرَاقِ، وَلَا الْمَاءُ سَبَبًا لِلْإِرْوَاءِ وَالَبْرِيدِ وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ، وَلَا فِيهِ قُوَّةٌ وَلَا طَبِيعَةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَحُصُولُ الْإِحْرَاقِ وَالرِّيِّ لَيْسَ بِهِمَا، لَكِنْ بِإِجْرَاءِ الْعَادَةِ الْاِقْتِرَانِيَّةِ عَلَى حُصُولِ هَذَا عِنْدَ هَذَا لَا بِسَبَبٍ وَلَا بِقُوَّةٍ قَامَتْ بِهِ، وَهَكَذَا الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ فِي أَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ سَوَاءٌ، لَا فَرْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ، وَلَكِنَّ الْمَشِيئَةَ اقْتَضَتْ أَمْرَهُ بِهَذَا وَنَهْيَهُ عَنْ هَذَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ صِفَةٌ اقْتَضَتْ حُسْنَهُ، وَلَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ صِفَةٌ اقْتَضَتْ قُبْحَهُ. وَلِهَذَا الْأَصْلِ لَوَازِمُ وَفُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فَاسِدَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى " مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ وَمَطْلَبُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ " وَبَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ نَحْوِ سِتِّينَ وَجْهًا، وَهُوَ كِتَابٌ بَدِيعٌ فِي مَعْنَاهُ، وَذَكَرْنَاهُ أَيْضًا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى " سَفَرُ الْهِجْرَتَيْنِ وَطَرِيقُ السَّعَادَتَيْنِ ". وَهَؤُلَاءِ لَا يَجِدُونَ حَلَاوَةَ الْعِبَادَةِ وَلَا لَذَّتَهَا، وَلَا يَتَنَعَّمُونَ بِهَا، وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ قُرَّةَ أَعْيُنِهِمْ، وَلَيْسَتِ الْأَوَامِرُ سُرُورَ قُلُوبِهِمْ، وَغِذَاءَ أَرْوَاحِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ، وَلِهَذَا يُسَمُّونَهَا تَكَالِيفَ، أَيْ قَدْ كُلِّفُوا بِهَا، وَلَوْ سَمَّى مُدَّعٍ لِمَحَبَّةِ مَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ تَكْلِيفًا، وَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا أَفْعَلُهُ بِكُلْفَةٍ، لَمْ يَعُدَّهُ أَحَدٌ مُحِبًّا لَهُ، وَلِهَذَا أَنْكَرَ هَؤُلَاءِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا يُحِبُّ ثَوَابَهُ وَمَا يَخْلُقُهُ لَهُ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي يَتَمَتَّعُ بِهِ، لَا أَنَّهُ يُحِبُّ ذَاتَهُ، فَجَعَلُوا الْمَحَبَّةَ لِمَخْلُوقِهِ دُونَهُ، وَحَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ هِيَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ، فَأَنْكَرُوا حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ وَلُبَّهَا، وَحَقِيقَةُ الْإِلَهِيَّةِ كَوْنُهُ مَأْلُوهًا مَحْبُوبًا بِغَايَةِ الْحُبِّ، الْمَقْرُونِ بِغَايَةِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، فَأَنْكَرُوا كَوْنَهُ مَحْبُوبًا، وَذَلِكَ إِنْكَارٌ لِإِلَهِيَّتِهِ، وَشَيْخُ هَؤُلَاءِ هُوَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ الَّذِي ضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ فِي يَوْمٍ أَضْحَى،

القدرية النفاة

وَقَالَ: إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَلَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَإِنَّمَا كَانَ إِنْكَارُهُ لِكَوْنِهِ تَعَالَى مَحْبُوبًا مُحِبًّا، لَمْ يُنْكِرْ حَاجَةَ إِبْرَاهِيمَ إِلَيْهِ، الَّتِي هِيَ الْخُلَّةُ عِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ، الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الْخَلَائِقِ، فَكُلُّهُمْ أَخِلَّاءُ لِلَّهِ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِهِمْ هَذَا، وَإِنْكَارِهِمْ مَحَبَّةَ اللَّهِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ وَجْهًا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى " قُرَّةُ عُيُونِ الْمُحِبِّينَ، وَرَوْضَةُ قُلُوبِ الْعَارِفِينَ " وَذَكَرْنَا فِيهِ وُجُوبُ تَعَلُّقِ الْمَحَبَّةِ بِالْحَبِيبِ الْأَوَّلِ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِ الْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالذَّوْقِيَّةِ وَالْفِطْرِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا كَمَالَ لِلْإِنْسَانِ بِدُونِ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، كَمَا أَنَّهُ لَا كَمَالَ لِجِسْمِهِ إِلَّا بِالرُّوحِ وَالْحَيَاةِ، وَلَا لِعَيْنِهِ إِلَّا بِالنُّورِ الْبَاصِرِ، وَلَا لِأُذُنِهِ إِلَّا بِالسَّمْعِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ فَوْقَ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ. [الْقَدَرِيَّةُ الْنُفَاةُ] فَصْلٌ الصِّنْفُ الثَّانِي: الْقَدَرِيَّةُ الْنُفَاةُ، الَّذِينَ يُثْبِتُونَ نَوْعًا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ وَلَكِنْ لَا يَقُومُ بِالرَّبِّ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، بَلْ يَرْجِعُ إِلَى مُجَرَّدِ مَصْلَحَةِ الْمَخْلُوقِ وَمَنْفَعَتِهِ. فَعِنْدَهُمْ: أَنَّ الْعِبَادَاتِ شُرِعَتْ أَثْمَانًا لِمَا يَنَالُهُ الْعِبَادُ مِنَ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ، وَأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَاءِ أُجْرَةِ الْأَجِيرِ. قَالُوا: وَلِهَذَا يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى عِوَضًا كَقَوْلِهِ {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] وَقَوْلِهِ {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] وَقَوْلِهِ {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ «يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا» وَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]

قَالُوا: وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَزَاءً وَأَجْرًا وَثَوَابًا، لِأَنَّهُ يَثُوبُ إِلَى الْعَامِلِ مِنْ عَمَلِهِ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْهُ. قَالُوا: وَلَوْلَا ارْتِبَاطُهُ بِالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ لِتَسْمِيَتِهِ جَزَاءً وَلَا أَجْرًا وَلَا ثَوَابًا مَعْنًى. قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَزْنُ، فَلَوْلَا تَعَلُّقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِالْأَعْمَالِ وَاقْتِضَاؤُهَا لَهَا، وَكَوْنُهَا كَالْأَثْمَانِ لَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَزْنِ مَعْنًى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8 - 9] . وَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ أَشَدَّ التَّقَابُلِ، وَبَيْنَهُمَا أَعْظَمُ التَّبَايُنِ. فَالْجَبْرِيَّةُ لَمْ تَجْعَلْ لِلْأَعْمَالِ اِرْتِبَاطًا بِالْجَزَاءِ الْبَتَّةَ، وَجَوَّزَتْ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ مَنْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي طَاعَتِهِ، وَيُنَعِّمَ مَنْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي مَعْصِيَتِهِ، وَكِلَاهُمَا بِالْنِسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، وَجَوَّزَتْ أَنْ يَرْفَعَ صَاحِبَ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ عَلَى مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ عَمَلًا، وَأَكْثَرُ وَأَفْضَلُ دَرَجَاتٍ، وَالْكُلُّ عِنْدَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، مِنْ غَيْرِ تَعْلِيلٍ وَلَا سَبَبٍ، وَلَا حِكْمَةٍ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا بِالْثَوَابِ، وَهَذَا بِالْعِقَابِ. وَالْقَدَرِيَّةُ أَوْجَبَتْ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةَ الْأَصْلَحِ، وَجَعَلَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَحْضِ الْأَعْمَالِ وَثَمَنًا لَهَا، وَأَنَّ وُصُولَ الثَّوَابِ إِلَى الْعَبْدِ بِدُونِ عَمَلِهِ فِيهِ تَنْغِيصٌ بِاحْتِمَالِ مِنَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ بِلَا ثَمَنٍ. فَقَاتَلَهُمُ اللَّهُ، مَا أَجْهَلَهُمْ بِاللَّهِ وَأَغَرَّهُمْ بِهِ! جَعَلُوا تَفَضُّلَهُ وَإِحْسَانَهُ إِلَى عَبْدِهِ بِمَنْزِلَةِ صَدَقَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ، حَتَّى قَالُوا: إِنَّ إِعْطَاءَهُ مَا يُعْطِيهِ أُجْرَةً عَلَى عَمَلِهِ أَحَبُّ إِلَى الْعَبْدِ وَأَطْيَبُ لَهُ مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ فَضْلًا مِنْهُ بِلَا عَمَلٍ. فَقَابَلَتْهُمُ الْجَبْرِيَّةُ أَشَدَّ الْمُقَابَلَةِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا لِلْأَعْمَالِ تَأْثِيرًا فِي الْجَزَاءِ الْبَتَّةَ. وَالْطَائِفَتَانِ جَائِرَتَانِ، مُنْحَرِفَتَانِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ،

وَجَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَعْمَالَ أَسْبَابٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، مُقْتَضِيَةٌ لَهُمَا كَاقْتِضَاءِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ لِمُسَبَّبَاتِهَا، وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَمَنِّهِ، وَصَدَقَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ، إِنْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا وَوَفَّقَهُ لَهَا، وَخَلَقَ فِيهِ إِرَادَتَهَا وَالْقُدْرَةَ عَلَيْهَا، وَحَبَّبَهَا إِلَيْهِ، وَزَيَّنَهَا فِي قَلْبِهِ وَكَرَّهَ إِلَيْهِ أَضْدَادُهَا، وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَتْ ثَمَنًا لِجَزَائِهِ وَثَوَابِهِ، وَلَا هِيَ عَلَى قَدْرِهِ، بَلْ غَايَتُهَا إِذَا بَذَلَ الْعَبْدُ فِيهَا نُصْحَهُ وَجُهْدَهُ، وَأَوْقَعَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ أَنْ تَقَعَ شُكْرًا لَهُ عَلَى بَعْضِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ، فَلَوْ طَالَبَهُ بِحَقِّهِ لَبَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّكْرِ عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ بَقِيَّةٌ لَمْ يَقُمْ بِشُكْرِهَا، فَلِذَلِكَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا نَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ، كَمَا قَالَ «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمُ الْجَنَّةَ عَمَلُهُ» وَفِي لَفْظٍ: «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ،» وَفِي لَفْظٍ: «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» وَأَثْبَتَ سُبْحَانَهُ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا، إِذْ تَوَارُدُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لَيْسَ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَالْمَنْفِيُّ اسْتِحْقَاقُهَا بِمُجَرَّدِ الْأَعْمَالِ، وَكَوْنِ الْأَعْمَالِ ثَمَنًا وَعِوَضًا لَهَا، رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ، الَّتِي زَعَمَتْ أَنَّ الْتَفَضُّلَ بِالْثَوَابِ ابْتِدَاءً مُتَضَمِّنٌ لِتَكْرِيرِ الْمِنَّةِ. وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِاللَّهِ، وَأَغْلَظِهِمْ عَنْهُ حِجَابًا، وَحُقَّ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَيَكْفِي فِي جَهْلِهِمْ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ فِي مِنَّتِهِ، وَأَنَّ مِنْ تَمَامِ الْفَرَحِ وَالْسُرُورِ، وَالْغِبْطَةِ وَاللَّذَّةِ اغْتِبَاطُهُمْ بِمِنَّةِ سَيِّدِهِمْ وَمَوْلَاهُمُ الْحَقِّ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا طَابَ لَهُمْ عَيْشُهُمْ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ، وَأَعْظَمُهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ أَعْرَفُهُمْ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ، وَأَعْظَمُهُمْ إقْرَارًا بِهَا، وَذِكْرًا لَهَا، وَشُكْرًا عَلَيْهَا، وَمَحَبَّةً لَهُ لِأَجْلِهَا، فَهَلْ يَتَقَلَّبُ أَحَدٌ قَطٌّ إِلَّا فِي مِنَّتِهِ؟ {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] .

الذين زعموا أن فائدة العبادة رياضة النفوس

وَاحْتِمَالُ مِنَّةِ الْمَخْلُوقِ إِنَّمَا كَانَتْ نَقْصًا لِأَنَّهُ نَظِيرُهُ، فَإِذَا مَنَّ عَلَيْهِ اسْتَعْلَى عَلَيْهِ، وَرَأَى الْمَمْنُونُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ دُونَهُ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ، فَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنَّةُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: " اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ " وَلَا نَقْصَ فِي مِنَّةِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا عَارَ عَلَيْهِ فِي احْتِمَالِهَا، وَكَذَلِكَ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ، فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي إِنَّمَا يَتَقَلَّبُ الْخَلَائِقُ فِي بَحْرِ مِنَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَحْضِ صَدَقَتِهِ عَلَيْهِمْ، بِلَا عِوَضٍ مِنْهُمُ الْبَتَّةَ؟ وَإِنْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ أَسْبَابًا لِمَا يَنَالُونَهُ مِنْ كَرَمِهِ وَجُودِهِ، فَهُوَ الْمَنَّانُ عَلَيْهِمْ، بِأَنْ وَفَّقَهُمْ لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ وَهَدَاهُمْ لَهَا، وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهَا، وَكَمَّلَهَا لَهُمْ، وَقَبِلَهَا مِنْهُمْ عَلَى مَا فِيهَا؟ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي أَثْبَتَ بِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] . فَهَذِهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَ الْأَعْمَالِ وَالْجَزَاءِ، وَلَا هِيَ أَسْبَابٌ لَهُ، وَإِنَّمَا غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ أَمَارَاتٍ. قَالُوا: وَلَيْسَتْ أَيْضًا مُطَّرِدَةً، لِتَخَلُّفِ الْجَزَاءِ عَنْهَا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَحْضُ الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ وَالْمَشِيئَةِ. فَالنُّصُوصُ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ هَؤُلَاءِ، كَمَا هِيَ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ أُولَئِكَ، وَأَدِلَّةُ الْمَعْقُولِ وَالْفِطْرَةِ أَيْضًا تُبْطِلُ قَوْلَ الْفَرِيقَيْنِ، وَتُبَيِّنُ لِمَنْ لَهُ قَلْبٌ وَلُبٌّ مِقْدَارَ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهُمُ الْفِرْقَةُ الْوَسَطُ، الْمُثْبِتُونَ لِعُمُومِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَخَلْقِهِ الْعِبَادَ وَأَعْمَالَهُمْ، وَلِحِكْمَتِهِ التَّامَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ رَبْطَ الْأَسْبَابِ بِمُسَبَّبَاتِهَا، وَانْعِقَادَهَا بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا، وَتَرْتِيبَهَا عَلَيْهَا عَاجِلًا وَآجِلًا. وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُنْحَرِفَتَيْنِ تَرَكَتْ نَوْعًا مِنَ الْحَقِّ، وَارْتَكَبَتْ لِأَجْلِهِ نَوْعًا مِنَ الْبَاطِلِ، بَلْ أَنْوَاعًا، وَهَدَى اللَّهُ أَهْلَ السُّنَّةِ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] وَ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] . [الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ فَائِدَةَ الْعِبَادَةِ رِيَاضَةُ النُّفُوسِ] فَصْلٌ الصِّنْفُ الثَّالِثُ: الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ فَائِدَةَ الْعِبَادَةِ رِيَاضَةُ النُّفُوسِ، وَاسْتِعْدَادُهَا لِفَيْضِ الْعُلُومِ عَلَيْهَا، وَخُرُوجِ قُوَاهَا عَنْ قُوَى النُّفُوسِ الْسَبُعِيَّةِ وَالْبَهِيمِيَّةِ، فَلَوْ عُطِّلَتْ عَنِ

الطائفة المحمدية الإبراهيمية

الْعِبَادَاتِ لَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ نُفُوسِ السِّبَاعِ وَالْبَهَائِمِ، وَالْعِبَادَاتُ تُخْرِجُهَا عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا وَعَوَائِدِهَا، وَتَنْقِلُهَا إِلَى مُشَابَهَةِ الْعُقُولِ الْمُجَرَّدَةِ، فَتَصِيرُ عَالِمَةً قَابِلَةً لِانْتِقَاشِ صُوَرِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ فِيهَا، وَهَذَا يَقُولُهُ طَائِفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: مَنْ يَقْرُبُ إِلَى النُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَعَدَمِ انْشِقَاقِ الْأَفْلَاكِ، وَعَدَمِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ تَفَلْسَفَتْ مِنْ صُوفِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَتَقَرَّبَ إِلَى الْفَلَاسِفَةِ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ رِيَاضَاتٌ لِاسْتِعْدَادِ النُّفُوسِ وَتَجَرُّدِهَا، وَمُفَارَقَتِهَا الْعَالَمَ الْحِسِّيَّ، وَنُزُولِ الْوَارِدَاتِ وَالْمَعَارِفِ عَلَيْهَا. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يُوجِبُ الْعِبَادَاتِ إِلَّا لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا حَصَلَ لَهَا بَقِيَ مُخَيَّرًا فِي حِفْظِهِ أَوْ رَدِّهِ، أَوِ الِاشْتِغَالِ بِالْوَارِدِ عَنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الْقِيَامَ بِالْأَوْرَادِ وَالْوَظَائِفِ، وَعَدَمِ الْإِخْلَالِ بِهَا، وَهُمْ صِنْفَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: مَنْ يُوجِبُونَهُ حِفْظًا لِلْقَانُونِ، وَضَبْطًا لِلنُّفُوسِ. وَالْآخَرُونَ: الَّذِينَ يُوجِبُونَهُ حِفْظًا لِلْوَارِدِ، وَخَوْفًا مَنْ تَدْرُجِ النَّفْسِ بِمُفَارَقَتِهَا لَهُ إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى مِنَ الْبَهِيمِيَّةِ. فَهَذِهِ نِهَايَةُ أَقْدَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى طَرِيقِ السُّلُوكِ، وَغَايَةُ مَعْرِفَتِهِمْ بِحُكْمِ الْعِبَادَةِ وَمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ، وَلَا تَكَادُ تَجِدُ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ غَيْر هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ، عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ. [الطَّائِفَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الْإِبْرَاهِيمِيَّةُ] فَصْلٌ وَأَمَّا الصِّنْفُ الرَّابِعُ: فَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الْإِبْرَاهِيمِيَّةُ، أَتْبَاعُ الْخَلِيلَيْنِ، الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فِي أَمْرِهِ وَشَرْعِهِ وَخَلْقِهِ، وَأَهْلُ الْبَصَائِرِ فِي عِبَادَتِهِ، وَمُرَادِهِ بِهَا. فَالطَّوَائِفُ الثَّلَاثُ مَحْجُوبُونَ عَنْهُمْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ، وَالْقَوَاعِدِ الْفَاسِدَةِ، مَا عِنْدَهُمْ وَرَاءَ ذَلِكَ شَيْءٌ، قَدْ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُحَالِ، وَقَنَعُوا بِمَا أَلِفُوهُ

فصل سر العبودية وغايتها وحكمتها

مِنَ الْخَيَالِ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ وَرَاءَهُ مَا هُوَ أَجَّلُ مِنْهُ وَأَعْظَمُ لَمَا ارْتَضَوْا بِدُونِهِ، وَلَكِنَّ عُقُولَهُمْ قَصُرَتْ عَنْهُ، وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْهِ بِنُورِ النُّبُوَّةِ، وَلَمْ يَشْعُرُوا بِهِ، لِيَجْتَهِدُوا فِي طَلَبِهِ، وَرَأَوْا أَنَّ مَا مَعَهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْجَهْلِ، وَرَأَوْا تَنَاقُضَ مَا مَعَ غَيْرِهِمْ وَفَسَادَهُ. فَتَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إِيثَارُ مَا عِنْدَهُمْ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَهَذِهِ بَلِيَّةُ الطَّوَائِفِ، وَالْمُعَافَى مَنْ عَافَاهُ اللَّهُ. [فَصْلٌ سِرُّ الْعُبُودِيَّةِ وَغَايَتُهَا وَحِكْمَتُهَا] فَصْلٌ فَاعْلَمْ أَنَّ سِرَّ الْعُبُودِيَّةِ، وَغَايَتَهَا وَحِكْمَتَهَا إِنَّمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا مَنْ عَرَفَ صِفَاتِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يُعَطِّلْهَا، وَعَرَفَ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ وَحَقِيقَتَهَا، وَمَعْنَى كَوْنِهِ إِلَهًا، بَلْ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَكُلُّ إِلَهٍ سِوَاهُ فَبَاطِلٌ، بَلْ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ، وَأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ مُوجَبُ إِلَهِيَّتِهِ وَأَثَرُهَا وَمُقْتَضَاهَا، وَارْتِبَاطُهَا بِهَا كَارْتِبَاطِ مُتَعَلِّقِ الصِّفَاتِ بِالصِّفَاتِ، وَكَارْتِبَاطِ الْمَعْلُومِ بِالْعِلْمِ، وَالْمَقْدُورِ بِالْقُدْرَةِ، وَالْأَصْوَاتِ بِالْسَمْعِ، وَالْإِحْسَانِ بِالْرَحْمَةِ، وَالْعَطَاءِ بِالْجُودِ. فَمَنْ أَنْكَرَ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ وَلَمْ يَعْرِفْهَا كَيْفَ يَسْتَقِيمُ لَهُ مَعْرِفَةُ حِكْمَةِ الْعِبَادَاتِ وَغَايَاتِهَا وَمَقَاصِدِهَا وَمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ؟ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهَا هِيَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالْخَلْقِ، وَالَّتِي لَهَا خُلِقُوا، وَلَهَا أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَلِأَجْلِهَا خُلِقَتِ الْجَنَّةُ وَالْنَارُ؟ وَأَنَّ فَرْضَ تَعْطِيلِ الْخَلِيقَةِ عَنْهَا نِسْبَةٌ لِلَّهِ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَيَتَعَالَى عَنْهُ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَلَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلًا، وَلَمْ يَخْلُقِ الْإِنْسَانَ عَبَثًا وَلَمْ يَتْرُكْهُ سُدًى مُهْمَلًا، قَالَ تَعَالَى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] أَيْ لِغَيْرِ شَيْءٍ وَلَا حِكْمَةٍ، وَلَا لِعِبَادَتِي وَمُجَازَاتِي لَكُمْ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا فِي قَوْلِهِ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فَالْعِبَادَةُ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي خَلَقَ لَهَا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالْخَلَائِقَ كُلَّهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] أَيْ مُهْمَلًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَالْصَحِيحُ الْأَمْرَانِ، فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُتَرَتِّبَانِ عَلَى الْأَمْرِ وَالْنَهْيِ، وَالْأَمْرُ وَالْنَهْيُ طَلَبُ الْعِبَادَةِ وَإِرَادَتُهَا، وَحَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ امْتِثَالُهُمَا، وَقَالَ تَعَالَى {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]

وَقَالَ {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85] وَقَالَ {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية: 22] . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ الْمُتَضَمِّنِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ. فَإِذَا كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا خُلِقَتْ لِهَذَا، وَهُوَ غَايَةُ الْخَلْقِ، فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ لَا عِلَّةَ لَهُ، وَلَا حِكْمَةَ مَقْصُودَةٌ هِيَ غَايَتُهُ؟ أَوْ إِنَّ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ اسْتِئْجَارِ الْعِبَادِ حَتَّى لَا يُنَكَّدَ عَلَيْهِمُ الثَّوَابُ بِالْمِنَّةِ، أَوْ لِمُجَرَّدِ اسْتِعْدَادِ النُّفُوسِ لِلْمَعَارِفِ الْعَقْلِيَّةِ، وَارْتِيَاضِهَا بِمُخَالَفَةِ الْعَوَائِدِ؟ . فَلْيَتَأَمَّلِ اللَّبِيبُ الْفُرْقَانَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَبَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحُ الْوَحْيِ يَجِدْ أَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ. فَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ، الْجَامِعَةِ لِكَمَالِ مَحَبَّتِهِ، مَعَ الْخُضُوعِ لَهُ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ. فَأَصْلُ الْعِبَادَةِ: مَحَبَّةُ اللَّهِ، بَلْ إِفْرَادُهُ بِالْمَحَبَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْحُبُّ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَلَا يُحِبُّ مَعَهُ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ لِأَجْلِهِ وَفِيهِ، كَمَا يُحِبُّ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ، فَمَحَبَّتُنَا لَهُمْ مِنْ تَمَامِ مَحَبَّتِهِ، وَلَيْسَتْ مَحَبَّةً مَعَهُ، كَمَحَبَّةِ مَنْ يَتَّخِذُ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ. وَإِذَا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ لَهُ هِيَ حَقِيقَةَ عُبُودِيَّتِهِ وَسِرَّهَا، فَهِيَ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، فَعِنْدَ اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ تَتَبَيَّنُ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَلِهَذَا جَعَلَ تَعَالَى اتِّبَاعَ رَسُولِهِ عَلَمًا عَلَيْهَا، وَشَاهِدًا لِمَنِ ادَّعَاهَا، فَقَالَ تَعَالَى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فَجَعَلَ اتِّبَاعَ رَسُولِهِ مَشْرُوطًا بِمَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ، وَشَرْطًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، وَوُجُودُ الْمَشْرُوطِ مُمْتَنِعٌ بِدُونِ وُجُودِ شَرْطِهِ وَتَحَقُّقُهُ بِتَحَقُّقِهِ فَعُلِمَ انْتِفَاءُ الْمَحَبَّةِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمُتَابَعَةِ، فَانْتِفَاءُ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ لَازِمٌ لِانْتِفَاءِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِهِ، وَانْتِفَاءُ الْمُتَابَعَةِ مَلْزُومٌ لِانْتِفَاءِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، فَيَسْتَحِيلُ إذًا ثُبُوتُ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ، وَثُبُوتُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ بِدُونِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِهِ. وَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُتَابَعَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَطَاعَةُ أَمْرِهِ، وَلَا يَكْفِي

فصل بناء إياك نعبد على أربع قواعد

ذَلِكَ فِي الْعُبُودِيَّةِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِمَّا سِوَاهُمَا، فَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَتَى كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُمَا فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْبَتَّةَ، وَلَا يَهْدِيهِ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] . فَكُلُّ مَنْ قَدَّمَ طَاعَةَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ مَرْضَاةَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ خَوْفَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَرَجَاءَهُ وَالْتَوَكُّلَ عَلَيْهِ عَلَى خَوْفِ اللَّهِ وَرَجَائِهِ وَالْتَوَكُّلِ عَلَيْهِ، أَوْ مُعَامَلَةَ أَحَدِهِمْ عَلَى مُعَامَلَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِمَّنْ لَيْسَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَإِنْ قَالَهُ بِلِسَانِهِ فَهُوَ كَذِبٌ مِنْهُ، وَإِخْبَارٌ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَنَّ قَدَّمَ حُكْمَ أَحَدٍ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَذَلِكَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَكِنْ قَدْ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ عَلَى مَنْ يُقَدِّمُ قَوْلَ أَحَدٍ أَوْ حُكْمَهُ، أَوْ طَاعَتَهُ أَوْ مَرْضَاتَهُ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَحْكُمُ وَلَا يَقُولُ إِلَّا مَا قَالَهُ الرَّسُولُ، فَيُطِيعُهُ، وَيُحَاكِمُ إِلَيْهِ، وَيَتَلَقَّى أَقْوَالَهُ كَذَلِكَ، فَهَذَا مَعْذُورٌ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الرَّسُولِ، وَعَرَفَ أَنَّ غَيْرَ مَنِ اتَّبَعَهُ هُوَ أَوْلَى بِهِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الرَّسُولِ وَلَا إِلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ، فَهَذَا الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْوَعِيدِ، فَإِنِ اسْتَحَلَّ عُقُوبَةَ مَنْ خَالَفَهُ وَأَذَلَّهُ، وَلَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى اتِّبَاعِ شَيْخِهِ، فَهُوَ مِنَ الظَّلَمَةِ الْمُعْتَدِينَ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا. [فَصْلٌ بِنَاءُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ عَلَى أَرْبَعِ قَوَاعِدَ] فَصْلٌ وَبَنَى " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " عَلَى أَرْبَعِ قَوَاعِدَ: التَّحَقُّقُ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَرْضَاهُ، مِنْ قَوْلِ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَعَمَلِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ. فَالْعُبُودِيَّةُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِهَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ، فَأَصْحَابُ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " حَقًّا هُمْ أَصْحَابُهَا. فَقَوْلُ الْقَلْبِ: هُوَ اعْتِقَادُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَلِقَائِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ.

فصل دعوة جميع الرسل إلى إياك نعبد وإياك نستعين

وَقَوْلُ اللِّسَانِ: الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِذَلِكَ، وَالْدَعْوَةُ إِلَيْهِ، وَالْذَبُّ عَنْهُ، وَتَبْيِينُ بُطْلَانِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ، وَالْقِيَامُ بِذِكْرِهِ، وَتَبْلِيغُ أَوَامِرِهِ. وَعَمَلُ الْقَلْبِ: كَالْمَحَبَّةِ لَهُ، وَالْتَوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالْرَجَاءِ لَهُ، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، وَالْصَبْرِ عَلَى أَوَامِرِهِ، وَعَنْ نَوَاهِيهِ، وَعَلَى أَقْدَارِهِ، وَالْرِضَى بِهِ وَعَنْهُ، وَالْمُوَالَاةِ فِيهِ، وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ، وَالْذُلِّ لَهُ وَالْخُضُوعِ، وَالْإِخْبَاتِ إِلَيْهِ، وَالْطُمَأْنِينَةِ بِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي فَرْضُهَا أَفْرَضُ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَمُسْتَحِبُّهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُسْتَحِبِّهَا، وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ بِدُونِهَا إِمَّا عَدِيمُ الْمَنْفَعَةِ أَوْ قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ. وَأَعْمَالُ الْجَوَارِحِ: كَالْصَلَاةِ وَالْجِهَادِ، وَنَقْلِ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَمُسَاعَدَةِ الْعَاجِزِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " الْتِزَامٌ لِأَحْكَامِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِقْرَارٌ بِهَا، " {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " طَلَبٌ لِلْإِعَانَةِ عَلَيْهَا وَالتَّوْفِيقِ لَهَا، وَ " {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] " مُتَضَمِّنٌ لِلتَّعْرِيفِ بِالْأَمْرَيْنِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَإِلْهَامِ الْقِيَامِ بِهِمَا، وَسُلُوكِ طَرِيقِ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ بِهَا. [فَصْلٌ دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ إِلَى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] فَصْلٌ وَجَمِيعُ الرُّسُلِ إِنَّمَا دَعَوْا إِلَى " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ دَعَوْا إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ عِبَادَتِهِ، مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وَقَالَ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وَقَالَ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ - وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51 - 52] . [فَصْلٌ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْعُبُودِيَّةَ وَصْفَ أَكْمَلِ خَلْقِهِ] فَصْلٌ وَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْعُبُودِيَّةَ وَصْفَ أَكْمَلِ خَلْقِهِ، وَأَقْرَبِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ

{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172] وَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْوَقْفَ التَّامَّ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنبياء: 19] هَاهُنَا، ثُمَّ يَبْتَدِئُ {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19] فَهُمَا جُمْلَتَانِ تَامَّتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ، أَيْ إِنَّ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ عَبِيدًا وَمِلْكًا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ جُمْلَةً أُخْرَى فَقَالَ {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19] يَعْنِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ يَعْنِي لَا يَأْنَفُونَ عَنْهَا، وَلَا يَتَعَاظَمُونَ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ، فَيَعْيَوْنَ وَيَنْقَطِعُونَ يُقَالُ: حَسِرَ وَاسْتَحْسَرَ، إِذَا تَعِبَ وَأَعْيَا بَلْ عِبَادَتُهُمْ وَتَسْبِيحُهُمْ كَالنَّفَسِ لِبَنِي آدَمَ، فَالْأَوَّلُ وَصْفٌ لِعَبِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَالثَّانِي وَصْفٌ لِعَبِيدِ إِلَهِيَّتِهِ، وَقَالَ تَعَالَى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَقَالَ {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] وَقَالَ {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} [ص: 17] وَقَالَ {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} [ص: 41] وَقَالَ {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [ص: 45] وَقَالَ عَنْ سُلَيْمَانَ {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] وَقَالَ عَنِ الْمَسِيحِ {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] فَجَعَلَ غَايَتَهُ الْعُبُودِيَّةَ لَا الْإِلَهِيَّةَ، كَمَا يَقُولُ أَعْدَاؤُهُ النَّصَارَى، وَوَصَفَ أَكْرَمَ خَلْقِهِ عَلَيْهِ، وَأَعْلَاهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً بِالْعُبُودِيَّةِ فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] وَقَالَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] فَذَكَرَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ فِي مَقَامِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ، وَفِي مَقَامِ التَّحَدِّي بِأَنْ يَأْتُوا

بِمِثْلِهِ، وَقَالَ {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] فَذَكَرَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَقَالَ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] فَذَكَرَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ فِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى» الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَا عَبْدٌ، آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُهُ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ. وَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْبِشَارَةَ الْمُطْلَقَةَ لِعِبَادِهِ، فَقَالَ تَعَالَى {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17] وَجَعَلَ الْأَمْنَ الْمُطْلَقَ لَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف: 68 - 69] وَعَزَلَ الشَّيْطَانَ عَنْ سُلْطَانِهِ عَلَيْهِمْ خَاصَّةً، وَجَعَلَ سُلْطَانَهُ عَلَى مَنْ تَوَلَّاهُ وَأَشْرَكَ بِهِ، فَقَالَ {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] وَقَالَ

فصل في لزوم إياك نعبد لكل عبد إلى الموت

{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99 - 100] . وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْسَانَ الْعُبُودِيَّةِ أَعْلَى مَرَاتِبِ الدِّينِ وَهُوَ الْإِحْسَانُ فَقَالَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنِ الْإِحْسَانِ «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . [فَصْلٌ فِي لُزُومِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ لِكُلِّ عَبْدٍ إِلَى الْمَوْتِ] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] وَقَالَ أَهْلُ النَّارِ {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 46] وَالْيَقِينُ هَاهُنَا هُوَ الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَفِي الصَّحِيحِ «فِي قِصَّةِ مَوْتِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ أَيِ الْمَوْتُ وَمَا فِيهِ» ، فَلَا يَنْفَكُّ الْعَبْدُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ مَا دَامَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، بَلْ عَلَيْهِ فِي الْبَرْزَخِ عُبُودِيَّةٌ أُخْرَى لَمَّا يَسْأَلُهُ الْمَلَكَانِ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ؟ وَمَا يَقُولُ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَيَلْتَمِسَانِ مِنْهُ الْجَوَابَ، وَعَلَيْهِ عُبُودِيَّةٌ أُخْرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ يَدْعُو اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ إِلَى السُّجُودِ، فَيَسْجُدُ الْمُؤْمِنُونَ، وَيَبْقَى الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ السُّجُودَ، فَإِذَا دَخَلُوا دَارَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ هُنَاكَ، وَصَارَتْ عُبُودِيَّةُ أَهْلِ الثَّوَابِ تَسْبِيحًا مَقْرُونًا بِأَنْفَاسِهِمْ لَا يَجِدُونَ لَهُ تَعَبًا وَلَا نَصْبًا. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَصِلُ إِلَى مَقَامٍ يَسْقُطُ عَنْهُ فِيهِ التَّعَبُّدُ، فَهُوَ زِنْدِيقٌ كَافِرٌ بِاللَّهِ

فصل في انقسام العبودية إلى عامة وخاصة

وَبِرَسُولِهِ، وَإِنَّمَا وَصَلَ إِلَى مَقَامِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالِانْسِلَاخِ مِنْ دِينِهِ، بَلْ كُلَّمَا تَمَكَّنَ الْعَبْدُ فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ كَانَتْ عُبُودِيَّتُهُ أَعْظَمَ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنْهَا أَكْبَرَ وَأَكْثَرَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى مَنْ دُونَهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ عَلَى جَمِيعِ الرُّسُلِ أَعْظَمَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَالْوَاجِبُ عَلَى أُولِي الْعَزْمِ أَعْظَمَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى مَنْ دُونَهُمْ، وَالْوَاجِبُ عَلَى أُولِي الْعِلْمِ أَعْظَمَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى مَنْ دُونَهُمْ، وَكُلُّ أَحَدٍ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ. [فَصْلٌ فِي انْقِسَامِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَى عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ] الْعُبُودِيَّةُ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ. فَالْعُبُودِيَّةُ الْعَامَّةُ عُبُودِيَّةُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلِّهِمْ لِلَّهِ، بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، فَهَذِهِ عُبُودِيَّةُ الْقَهْرِ وَالْمُلْكِ، قَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا - لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا - تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا - أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا - وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا - إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 93] فَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ} [الفرقان: 17] فَسَمَّاهُمْ عِبَادَهُ مَعَ ضَلَالِهِمْ، لَكِنْ تَسْمِيَةً مُقَيَّدَةً بِالْإِشَارَةِ، وَأَمَّا الْمُطْلَقَةُ فَلَمْ تَجِئْ إِلَّا لِأَهْلِ النَّوْعِ الثَّانِي، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ تَعَالَى {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46] وَقَالَ {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] وَقَالَ

{إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 48] فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْعُبُودِيَّةَ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَعُبُودِيَّةُ الطَّاعَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَاتِّبَاعِ الْأَوَامِرِ، قَالَ تَعَالَى {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68] وَقَالَ {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17] وَقَالَ {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إِبْلِيسَ {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39] فَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] . فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَبِيدُ رُبُوبِيَّتِهِ، وَأَهْلُ طَاعَتِهِ وَوِلَايَتِهِ هُمْ عَبِيدُ إِلَهِيَّتِهِ. وَلَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ إِضَافَةُ الْعِبَادِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا إِلَّا لِهَؤُلَاءِ. وَأَمَّا وَصْفُ عَبِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ فَلَا يَأْتِي إِلَّا عَلَى أَحَدِ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا مُنْكِرًا، كَقَوْلِهِ {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] وَالثَّانِي مُعَرَّفًا بِاللَّامِ، كَقَوْلِهِ {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] ، {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 48] . الثَّالِثُ: مُقَيَّدًا بِالْإِشَارَةِ أَوْ نَحْوِهَا، كَقَوْلِهِ {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ} [الفرقان: 17] . الرَّابِعُ: أَنْ يُذْكَرُوا فِي عُمُومِ عِبَادِهِ، فَيَنْدَرِجُوا مَعَ أَهْلِ طَاعَتِهِ فِي الذِّكْرِ، كَقَوْلِهِ {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46] . الْخَامِسُ: أَنْ يُذْكَرُوا مَوْصُوفِينَ بِفِعْلِهِمْ، كَقَوْلِهِ {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] .

وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّمَا سَمَّاهُمْ عِبَادَهُ إِذْ لَمْ يَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَنَابُوا إِلَيْهِ، وَاتَّبَعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، فَيَكُونُوا مِنْ عَبِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَالطَّاعَةِ. وَإِنَّمَا انْقَسَمَتِ الْعُبُودِيَّةُ إِلَى خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ، لِأَنَّ أَصْلَ مَعْنَى اللَّفْظَةِ الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ، يُقَالُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ إِذَا كَانَ مُذَلَّلًا بِوَطْءِ الْأَقْدَامِ، وَفُلَانٌ عَبَّدَهُ الْحُبُّ إِذَا ذَلَّلَهُ، لَكِنْ أَوْلِيَاؤُهُ خَضَعُوا لَهُ وَذَلُّوا طَوْعًا وَاخْتِيَارًا، وَانْقِيَادًا لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَعْدَاؤُهُ خَضَعُوا لَهُ قَهْرًا وَرَغْمًا. وَنَظِيرُ انْقِسَامِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَى خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ انْقِسَامُ الْقُنُوتِ إِلَى خَاصٍّ وَعَامٍّ، وَالُسُجُودُ كَذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى فِي الْقُنُوتِ الْخَاصِّ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] وَقَالَ فِي حَقِّ مَرْيَمَ {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ فِي الْقُنُوتِ الْعَامِّ {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26] أَيْ خَاضِعُونَ أَذِلَّاءُ. وَقَالَ فِي السُّجُودِ الْخَاصِّ {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] وَقَالَ {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ فِي السُّجُودِ الْعَامِّ {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] . وَلِهَذَا كَانَ هَذَا السُّجُودُ الْكُرْهُ غَيْرَ السُّجُودِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18] فَخَصَّ بِالسُّجُودِ هُنَا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ وَعَمَّهُمْ بِالسُّجُودِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ} [النحل: 49] وَهُوَ سُجُودُ

فصل في مراتب إياك نعبد علما وعملا

الذُّلِّ وَالْقَهْرِ وَالْخُضُوعِ، فَكُلُّ أَحَدٍ خَاضِعٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، ذَلِيلٌ لِعِزَّتِهِ، مَقْهُورٌ تَحْتَ سُلْطَانِهِ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي مَرَاتِبِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ عِلْمًا وَعَمَلًا] لِلْعُبُودِيَّةِ مَرَاتِبُ، بِحَسَبِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَأَمَّا مَرَاتِبُهَا الْعِلْمِيَّةُ فَمَرْتَبَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: الْعِلْمُ بِاللَّهِ، وَالثَّانِيَةُ: الْعِلْمُ بِدِينِهِ. فَأَمَّا الْعِلْمُ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَخَمْسُ مَرَاتِبَ: الْعِلْمُ بِذَاتِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَسْمَائِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَالْعِلْمُ بِدِينِهِ مَرْتَبَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: دِينُهُ الْأَمْرِيُّ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْمُوصِلُ إِلَيْهِ. وَالثَّانِيَةُ: دِينُهُ الْجَزَائِيُّ، الْمُتَضَمِّنُ ثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ، وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْعِلْمِ الْعِلْمُ بِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. وَأَمَّا مَرَاتِبُهَا الْعِلْمِيَّةُ، فَمَرْتَبَتَانِ: مَرْتَبَةٌ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَمَرْتَبَةٌ لِلسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ. فَأَمَّا مَرْتَبَةُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ: فَأَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، مَعَ ارْتِكَابِ الْمُبَاحَاتِ، وَبَعْضِ الْمَكْرُوهَاتِ، وَتَرْكِ بَعْضِ الْمُسْتَحَبَّاتِ. وَأَمَّا رُتْبَةُ الْمُقَرَّبِينَ: فَالْقِيَامُ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، زَاهِدِينَ فِيمَا لَا يَنْفَعُهُمْ فِي مَعَادِهِمْ، مُتَوَرِّعِينَ عَمَّا يَخَافُونَ ضَرَرَهُ. وَخَاصَّتُهُمْ قَدِ انْقَلَبَتِ الْمُبَاحَاتُ فِي حَقِّهِمْ طَاعَاتٍ وَقُرُبَاتٍ بِالنِّيَّةِ فَلَيْسَ فِي

فصل مراتب العبودية وهي خمس عشرة مرتبة

حَقِّهِمْ مُبَاحٌ مُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ، بَلْ كُلُّ أَعْمَالِهِمْ رَاجِحَةٌ، وَمَنْ دُونَهُمْ يَتْرُكُ الْمُبَاحَاتِ مُشْتَغِلًا عَنْهَا بِالْعِبَادَاتِ، وَهَؤُلَاءِ يَأْتُونَهَا طَاعَاتٍ وَقُرُبَاتٍ، وَلِأَهْلِ هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ دَرَجَاتٌ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ. [فَصْلٌ مَرَاتِبُ الْعُبُودِيَّةِ وَهِيَ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرْتَبَةً] [عِبَادَةُ الْقَلْبِ] فَصْلٌ وَرَحَى الْعُبُودِيَّةِ تَدُورُ عَلَى خَمْسَ عَشْرَةَ قَاعِدَةً، مَنْ كَمَّلَهَا كَمَّلَ مَرَاتِبَ الْعُبُودِيَّةِ. وَبَيَانُهَا أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ مُنْقَسِمَةٌ عَلَى الْقَلْبِ، وَاللِّسَانِ، وَالْجَوَارِحِ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْهَا عُبُودِيَّةٌ تَخُصُّهُ. وَالْأَحْكَامُ الَّتِي لِلْعُبُودِيَّةِ خَمْسَةٌ: وَاجِبٌ، وَمُسْتَحَبٌّ، وَحَرَامٌ، وَمَكْرُوهٌ، وَمُبَاحٌ، وَهِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَلْبِ، وَاللِّسَانِ، وَالْجَوَارِحِ. فَوَاجِبُ الْقَلْبِ مِنْهُ مُتَّفَقٌ عَلَى وُجُوبِهِ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَالْمُتَّفَقُ عَلَى وُجُوبِهِ كَالْإِخْلَاصِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالْبِرِّ، وَالْإِنَابَةِ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَالتَّصْدِيقِ الْجَازِمِ، وَالنِّيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَهَذِهِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ، فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ هُوَ إِفْرَادُ الْمَعْبُودِ عَنْ غَيْرِهِ.

وَنِيَّةُ الْعِبَادَةِ لَهَا مَرْتَبَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: تَمْيِيزُ الْعِبَادَةِ عَنِ الْعَادَةِ. وَالثَّانِيَةُ: تَمْيِيزُ مَرَاتِبِ الْعِبَادَاتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ. وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ وَاجِبَةٌ. وَكَذَلِكَ الصِّدْقُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِخْلَاصِ أَنَّ لِلْعَبْدِ مَطْلُوبًا وَطَلَبًا، فَالْإِخْلَاصُ تَوْحِيدُ مَطْلُوبِهِ، وَالصِّدْقُ تَوْحِيدُ طَلَبِهِ. فَالْإِخْلَاصُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَطْلُوبُ مُنْقَسِمًا، وَالصِّدْقُ: أَنْ لَا يَكُونَ الطَّلَبُ مُنْقَسِمًا، فَالصِّدْقُ بَذْلُ الْجُهْدِ، وَالْإِخْلَاصُ إِفْرَادُ الْمَطْلُوبِ. وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ. وَكَذَلِكَ النُّصْحُ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَمَدَارُ الدِّينِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَذْلُ الْجُهْدِ فِي إِيقَاعِ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَحْبُوبِ لِلرَّبِّ الْمَرْضِيِّ لَهُ، وَأَصْلُ هَذَا وَاجِبٌ، وَكَمَالُهُ مَرْتَبَةُ الْمُقَرَّبِينَ. وَكَذَلِكَ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ الْقَلْبِيَّةِ لَهُ طَرَفَانِ، وَاجِبٌ مُسْتَحَقٌّ، وَهُوَ مَرْتَبَةُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَكَمَالٌ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ مَرْتَبَةُ الْمُقَرَّبِينَ. وَكَذَلِكَ الصَّبْرُ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ذَكَرَ اللَّهُ الصَّبْرَ فِي تِسْعِينَ مَوْضِعًا مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ بِضْعًا وَتِسْعِينَ، وَلَهُ طَرَفَانِ أَيْضًا: وَاجِبٌ مُسْتَحَقٌّ، وَكَمَالٌ مُسْتَحَبٌّ. وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَكَالرِّضَا، فَإِنَّ فِي وُجُوبِهِ قَوْلَيْنِ لِلْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ، وَالْقَوْلَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ، فَمَنْ أَوْجَبَهُ قَالَ: السُّخْطُ حَرَامٌ، وَلَا خَلَاصَ عَنْهُ إِلَّا بِالرِّضَا، وَمَا لَا خَلَاصَ عَنِ الْحَرَامِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَاحْتَجُّوا بِأَثَرِ " مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي، وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي، فَلْيَتَّخِذْ رَبًّا سِوَايَ ".

وَمَنْ قَالَ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ، قَالَ: لَمْ يَجِئِ الْأَمْرُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، بِخِلَافِ الصَّبْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَكَذَلِكَ التَّوَكُّلُ، قَالَ {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] وَأَمَرَ بِالْإِنَابَةِ، فَقَالَ {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54] وَأَمَرَ بِالْإِخْلَاصِ كَقَوْلِهِ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ كَقَوْلِهِ {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] وَقَوْلِهِ {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150] وَقَوْلِهِ {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] وَكَذَلِكَ الصِّدْقُ، قَالَ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وَكَذَلِكَ الْمَحَبَّةُ، وَهِيَ أَفْرَضُ الْوَاجِبَاتِ، إِذْ هِيَ قَلْبُ الْعِبَادَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَمُخُّهَا وَرُوحُهَا. وَأَمَّا الرِّضَا فَإِنَّمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَدْحُ أَهْلِهِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ، لَا الْأَمْرُ بِهِ. قَالُوا: وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ فَإِسْرَائِيلِيٌّ، لَا يُحْتَجُّ بِهِ. قَالُوا: وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ الرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ النَّفْسُ خَيْرًا كَثِيرًا» وَهُوَ فِي بَعْضِ السُّنَنِ. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ " لَا خَلَاصَ عَنِ السُّخْطِ إِلَّا بِهِ " فَلَيْسَ بِلَازِمٍ، فَإِنَّ مَرَاتِبَ النَّاسِ فِي الْمَقْدُورِ ثَلَاثَةٌ: الرِّضَا، وَهُوَ أَعْلَاهَا، وَالسُّخْطُ، وَهُوَ أَسْفَلُهَا، وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ بِدُونِ الرِّضَا بِهِ، وَهُوَ أَوْسَطُهَا، فَالْأُولَى لِلْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ، وَالثَّالِثَةُ لِلْمُقْتَصِدِينَ، وَالثَّانِيَةُ

لِلظَّالِمِينَ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَصْبِرُ عَلَى الْمَقْدُورِ فَلَا يَسْخَطُ، وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ، فَالرِّضَا أَمْرٌ آخَرُ. وَقَدْ أُشْكِلَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ اجْتِمَاعُ الرِّضَا مَعَ التَّأَلُّمِ، وَظَنَّ أَنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّهُ، فَالْمَرِيضُ الشَّارِبُ لِلدَّوَاءِ الْكَرِيهِ مُتَأَلِّمٌ بِهِ رَاضٍ بِهِ، وَالصَّائِمُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ مُتَأَلِّمٌ بِصَوْمِهِ رَاضٍ بِهِ، وَالْبَخِيلُ مُتَأَلِّمٌ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ مَالِهِ رَاضٍ بِهَا، فَالتَّأَلُّمُ كَمَا لَا يُنَافِي الصَّبْرَ لَا يُنَافِي الرِّضَا بِهِ. وَهَذَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي الرِّضَا بِقَضَائِهِ الْكَوْنِيِّ، وَأَمَّا الرِّضَا بِهِ رَبًّا وَإلَهًا، وَالرِّضَا بِأَمْرِهِ الدِّينِيِّ فَمُتَّفَقٌ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ، بَلْ لَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مُسْلِمًا إِلَّا بِهَذَا الرِّضَا أَنْ يَرْضَى بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا. وَمِنْ هَذَا أَيْضًا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ، وَهُمَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ اخْتِلَافُهُمْ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَسْوَاسُ فِي صَلَاتِهِ، فَأَوْجَبَهَا ابْنُ حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَائِهِ، وَلَمْ يُوجِبْهَا أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مَنْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ بِسَجْدَتَيِ السَّهْوِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ مَعَ قَوْلِهِ «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فِي صِلَاتِهِ، فَيَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَضِلَّ الرَّجُلُ أَنْ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى» وَلَكِنْ لَا نِزَاعَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يُثَابُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بِقَدْرِ حُضُورِ قَلْبِهِ وَخُضُوعِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْعَبْدَ لِيَنْصَرِفُ مِنَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ إِلَّا نِصْفُهَا، ثُلْثُهَا، رُبْعُهَا حَتَّى بَلَغَ عُشْرَهَا» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَيْسَ لَكَ مِنْ صَلَاتِكَ إِلَّا مَا عَقَلْتَ مِنْهَا، فَلَيْسَتْ صَحِيحَةً بِاعْتِبَارِ تَرَتُّبِ كَمَالِ مَقْصُودِهَا عَلَيْهَا، وَإِنْ سُمِّيَتْ صَحِيحَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّا لَا نَأْمُرُهُ بِالْإِعَادَةِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ

يُعَلَّقَ لَفْظُ الصِّحَّةِ عَلَيْهَا، فَيُقَالُ صَلَاةٌ صَحِيحَةٌ مَعَ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهَا فَاعِلُهَا. وَالْقَصْدُ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ وَاجِبَهَا وَمُسْتَحَبَّهَا هِيَ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ، فَمَنْ عَطَّلَهَا فَقَدْ عَطَّلَ عُبُودِيَّةَ الْمَلِكِ، وَإِنْ قَامَ بِعُبُودِيَّةِ رَعِيَّتِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ. وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ مَلِكُ الْأَعْضَاءِ وَهُوَ الْقَلْبُ قَائِمًا بِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، هُوَ وَرَعِيَّتُهُ. وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي عَلَيْهِ: فَالْكِبْرُ، وَالرِّيَاءُ، وَالْعُجْبُ، وَالْحَسَدُ، وَالْغَفْلَةُ، وَالنِّفَاقُ، وَهِيَ نَوْعَانِ: كُفْرٌ، وَمَعْصِيَةٌ: فَالْكُفْرُ: كَالشَّكِّ، وَالنِّفَاقِ، وَالشِّرْكِ، وَتَوَابِعِهَا. وَالْمَعْصِيَةُ نَوْعَانِ: كَبَائِرُ، وَصَغَائِرُ. فَالْكَبَائِرُ: كَالرِّيَاءِ، وَالْعُجْبِ، وَالْكِبْرِ، وَالْفَخْرِ، وَالْخُيَلَاءِ، وَالْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْيَأْسِ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَالْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِأَذَى الْمُسْلِمِينَ، وَالشَّمَاتَةِ بِمُصِيبَتِهِمْ، وَمَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِيهِمْ، وَحَسَدِهِمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَتَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَتَوَابِعِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنَ الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْكَبَائِرِ الظَّاهِرَةِ، وَلَا صَلَاحَ لِلْقَلْبِ وَلَا لِلْجَسَدِ إِلَّا بِاجْتِنَابِهَا، وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا، وَإِلَّا فَهُوَ قَلْبٌ فَاسِدٌ، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْبَدَنُ. وَهَذِهِ الْآفَاتُ إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنَ الْجَهْلِ بِعُبُودِيَّةِ الْقَلْبِ، وَتَرْكِ الْقِيَامِ بِهَا. فَوَظِيفَةُ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " عَلَى الْقَلْبِ قَبْلَ الْجَوَارِحِ، فَإِذَا جَهِلَهَا وَتَرَكَ الْقِيَامَ بِهَا امْتَلَأَ بِأَضْدَادِهَا وَلَا بُدَّ، وَبِحَسَبِ قِيَامِهِ بِهَا يَتَخَلَّصُ مِنْ أَضْدَادِهَا. وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَنَحْوُهَا قَدْ تَكُونُ صَغَائِرَ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ تَكُونُ كَبَائِرَ، بِحَسَبِ قُوَّتِهَا وَغِلَظِهَا، وَخِفَّتِهَا وَدِقَّتِهَا. وَمِنَ الصَّغَائِرِ أَيْضًا: شَهْوَةُ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَمَنِّيهَا، وَتَفَاوُتُ دَرَجَاتِ الشَّهْوَةِ فِي الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ دَرَجَاتِ الْمُشْتَهَى، فَشَهْوَةُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ كُفْرٌ، وَشَهْوَةُ الْبِدْعَةِ فِسْقٌ، وَشَهْوَةُ الْكَبَائِرِ مَعْصِيَةٌ، فَإِنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا أُثِيبَ، وَإِنْ تَرَكَهَا عَجْزًا بَعْدَ بَذْلِهِ مَقْدُورِهِ فِي تَحْصِيلِهَا اسْتَحَقَّ عُقُوبَةَ الْفَاعِلِ، لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَتَهُ فِي أَحْكَامِ الثَّوَابِ

فصل عبادة اللسان

وَالْعِقَابِ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ مَنْزِلَتَهُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، قَالُوا: هَذَا الْقَاتِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» " فَنَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ الْقَاتِلِ، لِحِرْصِهِ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ، فِي الْإِثْمِ دُونَ الْحُكْمِ، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَدْ عُلِمَ بِهَذَا مُسْتَحَبُّ الْقَلْبِ وَمُبَاحُهُ. [فَصْلٌ عِبَادَةُ اللِّسَانِ] وَأَمَّا عُبُودِيَّاتُ اللِّسَانِ الْخَمْسُ، فَوَاجِبُهَا النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَتِلَاوَةُ مَا يَلْزَمُهُ تِلَاوَتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ، وَتَلَفُّظُهُ بِالْأَذْكَارِ الْوَاجِبَةِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ، كَمَا أَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَأَمَرَ بِقَوْلِ " رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ " بَعْدَ الِاعْتِدَالِ، وَأَمَرَ بِالتَّشَهُّدِ، وَأَمَرَ بِالتَّكْبِيرِ. وَمِنْ وَاجِبِهِ رَدُّ السَّلَامِ، وَفِي ابْتِدَائِهِ قَوْلَانِ. وَمِنْ وَاجِبِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُ الْجَاهِلِ، وَإِرْشَادُ الضَّالِّ، وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ الْمُتَعَيِّنَةِ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا مُسْتَحَبُّهُ فَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَدَوَامُ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْمُذَاكَرَةُ فِي الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَتَوَابِعُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مُحَرَّمُهُ فَهُوَ النُّطْقُ بِكُلِّ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، كَالنُّطْقِ بِالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَالدُّعَاءِ إِلَيْهَا، وَتَحْسِينِهَا وَتَقْوِيَتِهَا، وَكَالْقَذْفِ وَسَبِّ الْمُسْلِمِ وَأَذَاهُ بِكُلِّ قَوْلٍ، وَالْكَذِبِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَهُوَ أَشَدُّهَا تَحْرِيمًا. وَمَكْرُوهُهُ التَّكَلُّمُ بِمَا تَرْكُهُ خَيْرٌ مِنَ الْكَلَامِ بِهِ، مَعَ عَدَمِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ هَلْ فِي حَقِّهِ كَلَامٌ مُبَاحٌ، مُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ،

ذَكَرَهُمَا ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَخْلُو كُلُّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي حَقِّهِ شَيْءٌ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ " «كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ» ". وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ يُكْتَبُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ كُلُّهُ، وَلَا يُكْتَبُ إِلَّا الْخَيْرُ وَالشَّرُّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ هَذَا الْكَلَامُ مُبَاحٌ، لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، كَمَا فِي حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ. قَالُوا: لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكَلَامِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُبَاحِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ حَرَكَةَ اللِّسَانِ بِالْكَلَامِ لَا تَكُونُ مُتَسَاوِيَةَ الطَّرَفَيْنِ، بَلْ إِمَّا رَاجِحَةً وَإِمَّا مَرْجُوحَةً، لِأَنَّ لِلِّسَانِ شَأْنًا لَيْسَ لِسَائِرِ الْجَوَارِحِ، وَإِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ، تَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنَّ اِعْوَجَجْتَ اِعْوَجَجْنَا، وَأَكْثَرُ مَا يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مِنْاخِرِهِمْ فِي النَّارِ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ، وَكُلُّ مَا يَتَلَفَّظُ بِهِ اللِّسَانُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ الرَّاجِحُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ الْمَرْجُوحُ، وَهَذَا بِخِلَافِ حَرَكَاتِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ، فَإِنَّ صَاحِبَهَا يَنْتَفِعُ بِتَحْرِيكِهَا فِي الْمُبَاحِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الرَّاحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ،

فصل عبادة الجوارح

فَأُبِيحَ لَهُ اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُ، وَلَا مَضَرَّةَ عَلَيْهِ فِيهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا حَرَكَةُ اللِّسَانِ بِمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مَضَرَّةً، فَتَأَمَّلْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَتَحَرَّكُ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ مُبَاحَةٌ مُسْتَوِيَةُ الطَّرَفَيْنِ، فَيَكُونُ حُكْمُ حَرَكَتِهِ حُكْمَ ذَلِكَ الْفِعْلِ. قِيلَ: حَرَكَتُهُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا رَاجِحَةٌ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا مَرْجُوحَةٌ لَا تُفِيدُهُ، فَتَكُونُ عَلَيْهِ لَا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُتَسَاوِيَ الطَّرَفَيْنِ، كَانَتْ حَرَكَةُ اللِّسَانِ الَّتِي هِيَ الْوَسِيلَةُ إِلَيْهِ كَذَلِكَ، إِذِ الْوَسَائِلُ تَابِعَةٌ لِلْمَقْصُودِ فِي الْحُكْمِ. قِيلَ: لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مُبَاحًا، بَلْ وَاجِبًا، وَوَسِيلَتُهُ مَكْرُوهَةٌ كَالْوَفَاءِ بِالطَّاعَةِ الْمَنْذُورَةِ هُوَ وَاجِبٌ، مَعَ أَنَّ وَسِيلَتَهُ وَهُوَ النَّذْرُ مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ الْمَكْرُوهُ مَرْجُوحٌ، مَعَ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ أَوِ الْكَفَّارَةِ، وَكَذَلِكَ سُؤَالُ الْخَلْقِ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَكْرُوهٌ، وَيُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِمَا أَخْرَجَتْهُ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، فَقَدْ تَكُونُ الْوَسِيلَةُ مُتَضَمِّنَةً مَفْسَدَةً تُكْرَهُ أَوْ تُحَرَّمُ لِأَجْلِهَا، وَمَا جُعِلَتْ وَسِيلَةً إِلَيْهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا مَكْرُوهٍ. [فَصْلٌ عِبَادَةُ الْجَوَارِحِ] وَأَمَّا الْعُبُودِيَّاتُ الْخَمْسُ عَلَى الْجَوَارِحِ فَعَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مَرْتَبَةً أَيْضًا، إِذِ الْحَوَاسُّ خَمْسَةٌ، وَعَلَى كُلِّ حَاسَّةٍ خَمْسُ عُبُودِيَاتٍ. فَعَلَى السَّمْعِ وُجُوبُ الْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ لِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِ، مِنَ اسْتِمَاعِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَفُرُوضِهِمَا، وَكَذَلِكَ اسْتِمَاعُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ إِذَا جَهَرَ بِهَا الْإِمَامُ، وَاسْتِمَاعُ الْخُطْبَةِ لِلْجُمْعَةِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ، إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ فِي اسْتِمَاعِهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ مِنْ رَدِّهِ، أَوِ الشَّهَادَةِ عَلَى قَائِلِهِ، أَوْ زِيَادَةِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ بِمَعْرِفَةِ ضِدِّهِمَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَاسْتِمَاعِ أَسْرَارِ مَنْ يَهْرُبُ عَنْكَ بِسِرِّهِ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُطْلِعَكَ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُتَضَمِّنًا لَحِقَّ لِلَّهِ يَجِبُ الْقِيَامُ بِهِ، أَوْ لِأَذَى مُسْلِمٍ يَتَعَيَّنُ نُصْحُهُ، وَتَحْذِيرُهُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ اسْتِمَاعُ أَصْوَاتِ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ الَّتِي تُخْشَى الْفِتْنَةُ بِأَصْوَاتِهِنَّ، إِذَا لَمْ تَدْعُ

إِلَيْهِ حَاجَةٌ مِنْ شَهَادَةٍ، أَوْ مُعَامَلَةٍ، أَوِ اسْتِفْتَاءٍ، أَوْ مُحَاكَمَةٍ، أَوْ مُدَاوَاةٍ وَنَحْوِهَا. وَكَذَلِكَ اسْتِمَاعُ الْمَعَازِفِ، وَآلَاتِ الطَّرَبِ وَاللَّهْوِ، كَالْعُودِ وَالُنْبُورِ وَالْيَرَاعِ وَنَحْوَهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ سَدُّ أُذُنِهِ إِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ اسْتِمَاعَهُ، إِلَّا إِذَا خَافَ السُّكُونَ إِلَيْهِ وَالْإِنْصَاتَ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ لِتَجَنُّبِ سَمَاعِهَا وُجُوبُ سَدِّ الذَّرَائِعِ. وَنَظِيرُ هَذَا الْمُحْرِمُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَعَمُّدُ شَمِّ الطَّيبِ، وَإِذَا حَمَلَتِ الرِّيحُ رَائِحَتَهُ وَأَلْقَتْهَا فِي مَشَامِّهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ سَدُّ أَنْفِهِ. وَنَظِيرُ هَذَا نَظْرَةُ الْفُجَاءَةِ لَا تَحْرُمُ عَلَى النَّاظِرِ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظْرَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا تَعَمَّدَهَا. وَأَمَّا السَّمْعُ الْمُسْتَحَبُّ فَكَاسْتِمَاعِ الْمُسْتَحَبِّ مِنَ الْعِلْمِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ اللَّهِ، وَاسْتِمَاعِ كُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ. وَالْمَكْرُوهُ عَكْسُهُ، وَهُوَ اسْتِمَاعُ كُلِّ مَا يُكْرَهُ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ. وَالْمُبَاحُ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا النَّظَرُ الْوَاجِبُ: فَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ عِنْدَ تَعَيُّنِ تَعَلُّمِ الْوَاجِبِ مِنْهَا، وَالنَّظَرُ إِذَا تَعَيَّنَ لِتَمْيِيزِ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ فِي الْأَعْيَانِ الَّتِي يَأْكُلُهَا أَوْ يُنْفِقُهَا أَوْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا، وَالْأَمَانَاتِ الَّتِي يُؤَدِّيهَا إِلَى أَرْبَابِهَا لِيُمَيِّزَ بَيْنَهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالنَّظَرُ الْحَرَامُ النَّظَرُ إِلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ بِشَهْوَةٍ مُطْلَقًا، وَبِغَيْرِهَا إِلَّا لِحَاجَةٍ، كَنَظَرِ الْخَاطِبِ، وَالْمُسْتَامِ وَالْمَعَامِلِ، وَالشَّاهِدِ، وَالْحَاكِمِ، وَالطَّبِيبِ، وَذِي الْمَحْرَمِ. وَالْمُسْتَحَبُّ النَّظَرُ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّتِي يَزْدَادُ بِهَا الرَّجُلُ إِيمَانًا وَعِلْمًا، وَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ، وَوُجُوهِ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ وَالْوَالِدَيْنِ، وَالنَّظَرُ فِي آيَاتِ اللَّهِ الْمَشْهُودَةِ لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى تَوْحِيدِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَالْمَكْرُوهُ فُضُولُ النَّظَرِ الَّذِي لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ، فَإِنَّ لَهُ فُضُولًا كَمَا لِلِّسَانِ فُضُولًا، وَكَمْ قَادَ فُضُولُهَا إِلَى فُضُولٍ عَزَّ التَّخَلُّصُ مِنْهَا، وَأَعْيَى دَوَاؤُهَا، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانُوا يَكْرَهُونَ فُضُولَ النَّظَرِ، كَمَا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ. وَالْمُبَاحُ النَّظَرُ الَّذِي لَا مَضَرَّةَ فِيهِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ وَلَا مَنْفَعَةَ.

وَمِنَ النَّظَرِ الْحَرَامِ: النَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَاتِ، وَهِيَ قِسْمَانِ: عَوْرَةٌ وَرَاءَ الثِّيَابِ، وَعَوْرَةٌ وَرَاءَ الْأَبْوَابِ. وَلَوْ نَظَرَ فِي الْعَوْرَةِ الَّتِي وَرَاءَ الْأَبْوَابِ فَرَمَاهُ صَاحِبُ الْعَوْرَةِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَذَهَبَتْ هَدْرًا بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَإِنْ ضَعَفَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ، أَوْ تَأَوَّلَهُ. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّاظِرِ سَبَبٌ يُبَاحُ النَّظَرُ لِأَجْلِهِ، كَعَوْرَةٍ لَهُ هُنَاكَ يَنْظُرُهَا، أَوْ رِيبَةٍ هُوَ مَأْمُورٌ أَوْ مَأْذُونٌ لَهُ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الذَّوْقُ: الْوَاجِبُ فَتَنَاوُلُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ وَخَوْفِ الْمَوْتِ، فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ، مَاتَ عَاصِيًا قَاتِلًا لِنَفْسِهِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَطَاوُسٌ: مَنِ اِضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ، دَخَلَ النَّارَ. وَمِنْ هَذَا تَنَاوُلُ الدَّوَاءِ إِذَا تَيَقَّنَ النَّجَاةَ بِهِ مِنَ الْهَلَاكِ، عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ ظَنَّ الشِّفَاءَ بِهِ، فَهَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ مُبَاحٌ، أَوِ الْأَفْضَلُ تَرْكُهُ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَالذَّوْقُ الْحَرَامُ: كَذَوْقِ الْخَمْرِ، وَالسُّمُومِ الْقَاتِلَةِ، وَالذَّوْقِ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ لِلصَّوْمِ الْوَاجِبِ. وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ: فَكَذَوْقِ الْمُشْتَبِهَاتِ، وَالْأَكْلِ فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَذَوْقِ طَعَامِ الْفُجَاءَةِ، وَهُوَ الطَّعَامُ الَّذِي تَفَجَّأَ آكِلُهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْعُوَكَ إِلَيْهِ، وَكَأَكْلِ أَطْعِمَةِ الْمُرَائِينَ فِي الْوَلَائِمِ وَالدَّعَوَاتِ وَنَحْوِهَا، وَفِي السُّنَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِينَ» ، وَذَوْقُ طَعَامِ مَنْ يُطْعِمُكَ حَيَاءً مِنْكَ لَا بِطِيبَةِ نَفْسٍ.

وَالذَّوْقُ الْمُسْتَحَبُّ: أَكْلُ مَا يُعِينُكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِمَّا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ، وَالْأَكْلُ مَعَ الضَّيْفِ لِيَطِيبَ لَهُ الْأَكْلُ، فَيَنَالَ مِنْهُ غَرَضَهُ، وَالْأَكْلُ مِنْ طَعَامِ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ الْوَاجِبِ إِجَابَتُهَا أَوِ الْمُسْتَحَبِّ. وَقَدْ أَوْجَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْأَكْلَ مِنَ الْوَلِيمَةِ الْوَاجِبِ إِجَابَتُهَا لِلْأَمْرِ بِهِ عَنِ الشَّارِعِ. وَالذَّوْقُ الْمُبَاحُ: مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِثْمٌ وَلَا رُجْحَانٌ. وَأَمَّا تَعَلُّقُ الْعُبُودِيَّاتِ الْخَمْسِ بِحَاسَّةِ الشَّمِّ، فَالشَّمُّ الْوَاجِبُ: كُلُّ شَمٍّ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، كَالشَّمِّ الَّذِي تُعْلَمُ بِهِ هَذِهِ الْعَيْنُ هَلْ هِيَ خَبِيثَةٌ أَوْ طَيِّبَةٌ؟ وَهَلْ هِيَ سُمٌّ قَاتِلٌ أَوْ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ؟ أَوْ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ مَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَمَا لَا يَمْلِكُ؟ وَمِنْ هَذَا شَمُّ الْمُقَوِّمِ، وَرَبِّ الْخِبْرَةِ عِنْدَ الْحُكْمِ بِالتَّقْوِيمِ، وَشَمُّ الْعَبِيدِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الشَّمُّ الْحَرَامُ: فَالتَّعَمُّدُ لِشَمِّ الطِّيبِ فِي الْإِحْرَامِ، وَشَمِّ الطِّيبِ الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ، وَتَعَمُّدُ شَمِّ الطِّيبِ مِنَ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ خَشْيَةَ الِافْتِتَانِ بِمَا وَرَاءَهُ. وَأَمَّا الشَّمُّ الْمُسْتَحَبُّ: فَشَمُّ مَا يُعِينُكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَيُقَوِّي الْحَوَاسَّ، وَيَبْسُطُ النَّفْسَ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَمِنْ هَذَا هَدِيَّةُ الطِّيبِ وَالرَّيْحَانِ إِذَا أُهْدِيَتْ لَكَ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّهُ طَيِّبُ الرِّيحِ، خَفِيفُ الْمَحْمَلِ» . وَالْمَكْرُوهُ: كَشَمِّ طِيَبِ الظَّلَمَةِ، وَأَصْحَابِ الشُّبُهَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْمُبَاحُ: مَا لَا مَنْعَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ وَلَا تَبِعَةَ، وَلَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، وَلَا تَعَلُّقُ لَهُ بِالشَّرْعِ. وَأَمَّا تَعَلُّقُ هَذِهِ الْخَمْسَةِ بِحَاسَّةِ اللَّمْسِ: فَاللَّمْسُ الْوَاجِبُ كَلَمْسِ الزَّوْجَةِ حِينَ يَجِبُ جِمَاعُهَا، وَالْأَمَةِ الْوَاجِبِ إِعْفَافُهَا. وَالْحَرَامُ: لَمْسُ مَا لَا يَحِلُّ مِنَ الْأَجْنَبِيَّاتِ. وَالْمُسْتَحَبُّ: إِذَا كَانَ فِيهِ غَضُّ بَصَرِهِ، وَكَفُّ نَفْسِهِ عَنِ الْحَرَامِ، وَإِعْفَافُ أَهْلِهِ.

وَالْمَكْرُوهُ: لَمْسُ الزَّوْجَةِ فِي الْإِحْرَامِ لِلَذَّةٍ، وَكَذَلِكَ فِي الِاعْتِكَافِ، وَفِي الصِّيَامِ إِذَا لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ. وَمِنْ هَذَا لَمْسُ بَدَنِ الْمَيِّتِ لِغَيْرِ غَاسِلِهِ لِأَنَّ بَدَنَهُ قَدْ صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَوْرَةِ الْحَيِّ تَكْرِيمًا لَهُ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ سَتْرُهُ عَنِ الْعُيُونِ وَتَغْسِيلُهُ فِي قَمِيصِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَلَمْسُ فَخْذِ الرَّجُلِ إِذَا قُلْنَا هِيَ عَوْرَةٌ. وَالْمُبَاحُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ وَلَا مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ. وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ أَيْضًا مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْبَطْشِ بِالْيَدِ، وَالْمَشْيِ بِالرِّجْلِ، وَأَمْثِلَتُهَا لَا تَخْفَى. فَالتَّكَسُّبُ الْمَقْدُورُ لِلنَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ وَاجِبٌ، وَفِي وُجُوبِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ لِيُمَكِّنَهُ مِنْ أَدَاءِ دَيْنِهِ، وَلَا يَجِبُ لِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَفِي وُجُوبِهِ لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ نَظَرٌ، وَالْأَقْوَى فِي الدَّلِيلِ وَجُوبُهُ لِدُخُولِهِ فِي الِاسْتِطَاعَةِ وَتَمَكُّنِهِ بِذَلِكَ مِنْ أَدَاءِ النُّسُكِ، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ وُجُوبِهِ. وَمِنَ الْبَطْشِ الْوَاجِبِ: إِعَانَةُ الْمُضْطَرِّ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَمُبَاشَرَةُ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ. وَالْحَرَامُ: كَقَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا، وَنَهْبُ الْمَالِ الْمَعْصُومِ، وَضَرْبُ مِنْ لَا يَحِلُّ ضَرْبُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَكَأَنْوَاعِ اللَّعِبِ الْمُحَرَّمِ بِالنَّصِّ كَالنَّرْدِ، أَوْ مَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَالشِّطْرَنْجِ، أَوْ مِثْلِهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيث كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، أَوْ دُونَهُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَنَحْوِ كِتَابَةِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ تَصْنِيفًا أَوْ نَسْخًا، إِلَّا مَقْرُونًا بِرَدِّهَا وَنَقْضِهَا، وَكِتَابَةِ الزُّورِ وَالظُّلْمِ، وَالْحُكْمِ الْجَائِرِ، وَالْقَذْفِ وَالتَّشْبِيبِ بِالنِّسَاءِ الْأَجَانِبِ، وَكِتَابَةِ مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ، وَلَاسِيَّمَا إِنْ كَسَبْتَ عَلَيْهِ مَالًا {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] وَكَذَلِكَ كِتَابَةُ الْمُفْتِي عَلَى الْفَتْوَى مَا يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا، فَالْإِثْمُ مَوْضُوعٌ عَنْهُ. وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَكَالْعَبَثِ وَاللَّعِبِ الَّذِي لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَكِتَابَةِ مَا لَا فَائِدَةَ فِي كِتَابَتِهِ، وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالْمُسْتَحَبُّ كِتَابَةُ كُلِّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الدِّينِ، أَوْ مَصْلَحَةٌ لِمُسْلِمٍ، وَالْإِحْسَانُ بِيَدِهِ بِأَنْ يَعِينَ صَانِعًا، أَوْ يَصْنَعَ لِأَخْرَقَ، أَوْ يُفْرِغَ مِنْ دَلْوِهِ فِي دَلْوِ الْمُسْتَسْقِي، أَوْ يَحْمِلَ لَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، أَوْ يُمْسِكَهَا حَتَّى يُحْمَلَ عَلَيْهَا، أَوْ يُعَاوِنَهُ بِيَدِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمِنْهُ لَمْسُ

الرُّكْنِ بِيَدِهِ فِي الطَّوَافِ، وَفِي تَقْبِيلِهَا بَعْدَ اللَّمْسِ قَوْلَانِ. وَالْمُبَاحُ مَا لَا مَضَرَةَ فِيهِ وَلَا ثَوَابَ. وَأَمَّا الْمَشْيُ الْوَاجِبُ: فَالْمَشْيُ إِلَى الْجُمْعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِبِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ دَلِيلًا مَذْكُورَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْمَشْيُ حَوْلَ الْبَيْتِ لِلطَّوَافِ الْوَاجِبِ، وَالْمَشْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَرْكُوبِهِ، وَالْمَشْيُ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهِ، وَالْمَشْيُ إِلَى صِلَةِ رَحِمِهِ، وَبِرِّ وَالِدَيْهِ، وَالْمَشْيُ إِلَى مَجَالِسِ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ طَلَبُهُ وَتَعَلُّمُهُ، وَالْمَشْيُ إِلَى الْحَجِّ إِذَا قَرُبَتِ الْمَسَافَةُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرٌ. وَالْحَرَامُ: الْمَشْيُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ رَجِلِ الشَّيْطَانِ، قَالَ تَعَالَى {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] قَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَعِنْ عَلَيْهِمْ بِرُكْبَانِ جُنْدِكَ وَمُشَاتِهِمْ، فَكُلُّ رَاكِبٍ وَمَاشٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ. وَكَذَلِكَ تَتَعَلَّقُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسُ بِالرُّكُوبِ أَيْضًا. فَوَاجِبُهُ فِي الرُّكُوبِ فِي الْغَزْوِ، وَالْجِهَادِ، وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ. وَمُسْتَحَبُّهُ فِي الرُّكُوبِ الْمُسْتَحَبِّ مِنْ ذَلِكَ، وَلِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَفِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ نِزَاعٌ هَلِ الرُّكُوبُ فِيهِ أَفْضَلُ، أَمْ عَلَى الْأَرْضِ؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ إِذَا تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً مِنْ تَعْلِيمٍ لِلْمَنَاسِكِ، وَاقْتِدَاءٍ بِهِ، وَكَانَ أَعْوَنَ عَلَى الدُّعَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الدَّابَّةِ. وَحَرَامُهُ: الرُّكُوبُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمَكْرُوهُهُ الرُّكُوبُ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَكُلُّ مَا تَرْكُهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ. وَمُبَاحُهُ الرُّكُوبُ لِمَا لَمْ يَتَضَمَّنْ فَوْتَ أَجْرٍ، وَلَا تَحْصِيلَ وِزْرٍ. فَهَذِهِ خَمْسُونَ مَرْتَبَةً عَلَى عَشَرَةِ أَشْيَاءَ: الْقَلْبُ، وَاللِّسَانُ، وَالسَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالْأَنْفُ، وَالْفَمُ، وَالْيَدُ، وَالرِّجْلُ، وَالْفَرْجُ، وَالِاسْتِوَاءُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ.

فصل في منازل إياك نعبد

[فَصْلٌ فِي مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ] [مَنْزِلَةُ الْيَقَظَةِ] ُ} [الفاتحة: 5] الَّتِي يَنْتَقِلُ فِيهَا الْقَلْبُ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً فِي حَالِ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي صِفَةِ الْمَنَازِلِ وَعَدَدِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا أَلْفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مِائَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ وَنَقَصَ، فَكُلٌّ وَصَفَهَا بِحَسَبِ سَيْرِهِ وَسُلُوكِهِ. وَسَأَذْكُرُ فِيهَا أَمْرًا مُخْتَصَرًا جَامِعًا نَافِعًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَوَّلُ مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ الْيَقَظَةُ وَهِيَ انْزِعَاجُ الْقَلْبِ لِرَوْعَةِ الِانْتِبَاهِ مِنْ رَقْدَةِ الْغَافِلِينَ، وَلِلَّهِ مَا أَنْفَعَ هَذِهِ الرَّوْعَةَ، وَمَا أَعْظَمَ قَدْرَهَا وَخَطَرَهَا، وَمَا أَشَدَّ إِعَانَتَهَا عَلَى السُّلُوكِ! فَمَنْ أَحَسَّ بِهَا فَقَدْ أَحَسَّ وَاللَّهِ بِالْفَلَاحِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي سَكَرَاتِ الْغَفْلَةِ فَإِذَا انْتَبَهَ شَمَّرَ لِلَّهِ بِهِمَّتِهِ إِلَى السَّفَرِ إِلَى مَنَازِلِهِ الْأُولَى، وَأَوْطَانِهِ الَّتِي سُبِيَ مِنْهَا. فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا ... مَنَازِلُكَ الْأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى ... نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلِّمُ فَأَخَذَ فِي أُهْبَةِ السَّفَرِ، فَانْتَقَلَ إِلَى مَنْزِلَةِ الْعَزْمِ وَهُوَ الْعِقْدُ الْجَازِمُ عَلَى الْمَسِيرِ،

منزلة البصيرة

وَمُفَارَقَةُ كُلِّ قَاطِعٍ وَمُعَوِّقٍ، وَمُرَافَقَةُ كُلِّ مُعِينٍ وَمُوَصِّلٍ، وَبِحَسَبِ كَمَالِ انْتِبَاهِهِ وَيَقَظَتِهِ يَكُونُ عَزْمُهُ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ عَزْمِهِ يَكُونُ اسْتِعْدَادُهُ. فَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَوْجَبَتْ لَهُ الْيَقَظَةُ الْفِكْرَةَ وَهِيَ تَحْدِيقُ الْقَلْبِ نَحْوَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي قَدِ اسْتَعَدَّ لَهُ مُجْمَلًا، وَلَمَّا يَهْتَدِ إِلَى تَفْصِيلِهِ وَطَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ. فَإِذَا صَحَّتْ فِكْرَتُهُ أَوْجَبَتْ لَهُ الْبَصِيرَةَ فَهِيَ نُورٌ فِي الْقَلْبِ يُبْصِرُ بِهِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي هَذِهِ لِأَوْلِيَائِهِ، وَفِي هَذِهِ لِأَعْدَائِهِ، فَأَبْصَرَ النَّاسَ وَقَدْ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ مُهْطِعِينَ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ، وَقَدْ نَزَلَتْ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَاتِ فَأَحَاطَتْ بِهِمْ، وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ نُصِبَ كُرْسِيُّهُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ نُصِبَ الْمِيزَانُ، وَتَطَايَرَتِ الصُّحُفُ، وَاجْتَمَعَتِ الْخُصُومُ، وَتَعَلَّقَ كُلُّ غَرِيمٍ بِغَرِيمِهِ، وَلَاحَ الْحَوْضُ وَأَكْوَابُهُ عَنْ كَثَبٍ، وَكَثُرَ الْعِطَاشُ وَقَلَّ الْوَارِدِ، وَنُصِبَ الْجِسْرُ لِلْعُبُورِ، وَلُزَّ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقُسِّمَتِ الْأَنْوَارُ دُونَ ظُلْمَتِهِ لِلْعُبُورِ عَلَيْهِ، وَالنَّارُ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا تَحْتَهُ، وَالْمُتَسَاقِطُونَ فِيهَا أَضْعَافُ أَضْعَافِ النَّاجِينَ. فَيَنْفَتِحُ فِي قَلْبِهِ عَيْنٌ يَرَى بِهَا ذَلِكَ، وَيَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنْ شَوَاهِدِ الْآخِرَةِ يُرِيهِ الْآخِرَةَ وَدَوَامَهَا، وَالدُّنْيَا وَسُرْعَةَ انْقِضَائِهَا. [مَنْزِلَةُ الْبَصِيرَةِ] فَالْبَصِيرَةُ مَعْنَاهَا نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ، يَرَى بِهِ حَقِيقَةَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ رَأْيَ عَيْنٍ، فَيَتَحَقَّقُ مَعَ ذَلِكَ انْتِفَاعُهُ بِمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَتَضَرُّرُهُ بِمُخَالَفَتِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: الْبَصِيرَةُ تَحَقُّقُ الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ وَالتَّضَرُّرُ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْبَصِيرَةُ مَا خَلَّصَكَ مِنَ الْحَيْرَةِ، إِمَّا بِإِيمَانٍ وَإِمَّا بِعِيَانٍ.

وَالْبَصِيرَةُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، مَنِ اسْتَكْمَلَهَا فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْبَصِيرَةَ: بَصِيرَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَبَصِيرَةٌ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَبَصِيرَةٌ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. فَالْبَصِيرَةُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: أَنْ لَا يَتَأَثَّرَ إِيمَانُكَ بِشُبْهَةٍ تُعَارِضُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، بَلْ تَكُونُ الشُّبَهُ الْمُعَارِضَةُ لِذَلِكَ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةِ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فِي وُجُودِ اللَّهِ، فَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ فِي الْبَلَاءِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصَائِرِ. وَعَقْدُ هَذَا: أَنْ يَشْهَدَ قَلْبُكَ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، مُتَكَلِّمًا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، بَصِيرًا بِحَرَكَاتِ الْعَالَمِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ، وَأَشْخَاصِهِ وَذَوَاتِهِ، سَمِيعًا لِأَصْوَاتِهِمْ، رَقِيبًا عَلَى ضَمَائِرِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ، وَأَمْرُ الْمَمَالِكِ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ، نَازِلٌ مِنْ عِنْدِهِ وَصَاعِدٌ إِلَيْهِ، وَأَمْلَاكُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ تُنَفِّذُ أَوَامِرَهُ فِي أَقْطَارِ الْمَمَالِكِ، مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ، مُنَزَّهًا عَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ وَالْمِثَالِ، هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَفَوْقَ مَا يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ، حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لَا يَنَامُ، عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، بَصِيرٌ يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ، عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، سَمِيعٌ يَسْمَعُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ، بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ، تَمَّتْ كَلِمَاتُهُ صِدْقًا وَعَدْلًا، وَجَلَّتْ صِفَاتُهُ أَنْ تُقَاسَ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ شَبَهًا وَمِثْلًا، وَتَعَالَتْ ذَاتُهُ أَنْ تُشْبِهَ شَيْئًا مِنَ الذَّوَاتِ أَصْلًا، وَوَسِعَتِ الْخَلِيقَةَ أَفْعَالُهُ عَدْلًا وَحِكْمَةً وَرَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَفَضْلًا، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَلَهُ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ، وَلَهُ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ وَالْمَجْدُ، أَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَآخِرٌ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، ظَاهِرٌ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، بَاطِنٌ لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ، أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا أَسْمَاءُ مَدْحٍ وَحَمْدٍ وَثَنَاءٍ وَتَمْجِيدٍ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ حُسْنَى، وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ، وَنُعُوتُهُ كُلُّهَا نُعُوتُ جَلَالٍ، وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ وَعَدْلٌ، كُلُّ شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَمُرْشِدٌ لِمَنْ رَآهُ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ إِلَيْهِ، لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا، وَلَا تَرَكَ الْإِنْسَانَ سُدًى عَاطِلًا، بَلْ خَلَقَ الْخَلْقَ لِقِيَامِ تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ لِيَتَوَسَّلُوا بِشُكْرِهَا إِلَى زِيَادَةِ كَرَامَتِهِ، تَعَرَّفَ إِلَى عِبَادِهِ بِأَنْوَاعِ التَّعَرُّفَاتِ، وَصَرَّفَ لَهُمُ الْآيَاتِ، وَنَوَّعَ لَهُمُ الدِّلَالَاتِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى مَحَبَّتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَبْوَابِ، وَمَدَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ عَهْدِهِ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، فَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ السَّابِغَةَ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ حُجَّتَهُ الْبَالِغَةَ، أَفَاضَ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ، وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَضَمَّنَ الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ: أَنَّ رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ. وَتَفَاوُتُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْبَصِيرَةِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ وَفَهْمِهَا، وَالْعِلْمِ بِفَسَادِ الشُّبَهِ الْمُخَالَفَةِ لِحَقَائِقِهَا. وَتَجِدُ أَضْعَفَ النَّاسِ بَصِيرَةً أَهْلَ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ، لِجَهْلِهِمْ

بِالنُّصُوصِ وَمَعَانِيهَا، وَتَمَكُّنِ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ حَالَ الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ رَأَيْتَهُمْ أَتَمَّ بَصِيرَةً مِنْهُمْ، وَأَقْوَى إِيمَانًا، وَأَعْظَمَ تَسْلِيمًا لِلْوَحْيِ، وَانْقِيَادًا لِلْحَقِّ. فَصْلٌ: الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْبَصِيرَةِ الْبَصِيرَةُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهِيَ تَجْرِيدُهُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ بِتَأْوِيلٍ، أَوْ تَقْلِيدٍ، أَوْ هَوًى، فَلَا يَقُومُ بِقَلْبِهِ شُبْهَةٌ تُعَارِضُ الْعِلْمَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَلَا شَهْوَةَ تَمْنَعُ مِنْ تَنْفِيذِهِ وَامْتِثَالِهِ وَالْأَخْذِ بِهِ، وَلَا تَقْلِيدَ يُرِيحُهُ عَنْ بَذْلِ الْجُهْدِ فِي تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ مِشْكَاةِ النُّصُوصِ. وَقَدْ عَلِمَتْ بِهَذَا أَهْلُ الْبَصَائِرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ غَيْرِهِمْ. فَصْلٌ: الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ الْبَصِيرَةُ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهِيَ أَنْ تَشْهَدَ قِيَامَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، عَاجِلًا وَآجِلًا، فِي دَارِ الْعَمَلِ وَدَارِ الْجَزَاءِ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُوجَبُ إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَإِنَّ الشَّكَّ فِي ذَلِكَ شَكٌّ فِي إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، بَلْ شَكُّ فِي وُجُودِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَلَا يَلِيقُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ تَعْطِيلُ الْخَلِيقَةِ، وَإِرْسَالُهَا هَمَلًا، وَتَرْكُهَا سُدًى، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذَا الْحُسْبَانِ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَشَهَادَةُ الْعَقْلِ بِالْجَزَاءِ كَشَهَادَتِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمَعَادَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ، وَإِنَّمَا اهْتُدِيَ إِلَى تَفَاصِيلِهِ بِالْوَحْيِ، وَلِهَذَا يَجْعَلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنْكَارَ الْمَعَادِ كُفْرًا بِهِ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُ إِنْكَارٌ لِقُدْرَتِهِ وَلِإِلَهِيَّتِهِ، وَكِلَاهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْكُفْرِ بِهِ، قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: 5] . وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ تَعْجَبْ مِنْ قَوْلِهِمْ " {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] " فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ! كَيْفَ يُنْكِرُونَ هَذَا، وَقَدْ خُلِقُوا مِنْ تُرَابٍ، وَلَمْ يَكُونُوا شَيْئًا.

وَالثَّانِي: إِنْ تَعْجَبْ مِنْ شِرْكِهِمْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، وَعَدَمِ انْقِيَادِهِمْ لِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنْكَارُهُمْ لِلْبَعْثِ، وَقَوْلُهُمْ " {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] " أَعْجَبُ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: فَإِنْكَارُ الْمَعَادِ عَجَبٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ مَحْضُ إِنْكَارِ الرَّبِّ وَالْكُفْرِ بِهِ، وَالْجَحْدِ لِإِلَهِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَسُلْطَانِهِ. وَلِصَاحِبِ الْمَنَازِلِ فِي الْبَصِيرَةِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى قَالَ: الْبَصِيرَةُ مَا يُخَلِّصُكَ مِنَ الْحَيْرَةِ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْخَبَرَ الْقَائِمَ بِتَمْهِيدِ الشَّرِيعَةِ يَصْدُرُ عَنْ عَيْنٍ لَا يُخَافُ عَوَاقِبُهَا، فَتَرَى مِنْ حَقِّهِ أَنْ تُؤَدِّيَهُ يَقِينًا، وَتَغْضَبَ لَهُ غَيْرَةً. وَمَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِرٌ عَنْ حَقِيقَةٍ صَادِقَةٍ، لَا يَخَافُ مُتَّبِعُهَا فِيمَا بَعْدُ مَكْرُوهًا، بَلْ يَكُونُ آمِنًا مِنْ عَاقِبَةِ اتِّبَاعِهَا، إِذْ هِيَ حَقٌّ، وَمُتَّبِعُ الْحَقِّ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِ، وَمِنْ حَقِّ ذَلِكَ الْخَبَرِ عَلَيْكَ أَنْ تُؤَدِّيَ مَا أُمِرْتَ بِهِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا شَكْوَى، وَالْأَحْوَطُ بِكَ وَالَّذِي لَا تَبْرَأُ ذِمَّتُكَ إِلَّا بِهِ تَنَاوُلُ الْأَمْرِ بِامْتِثَالٍ صَادِرٍ عَنْ تَصْدِيقٍ مُحَقَّقٍ، لَا يَصْحَبُهُ شَكٌّ، وَأَنْ تَغْضَبَ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ غَيْرَةً عَلَيْهِ أَنْ يَضِيعَ حَقُّهُ، وَيُهْمَلَ جَانِبُهُ. وَإِنَّمَا كَانَتِ الْغَيْرَةُ عِنْدَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مِنْ تَمَامِ الْبَصِيرَةِ لِأَنَّهُ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَقِّ وَمُسْتَحَقِّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِجْلَالِهِ تَكُونُ الْغَيْرَةُ عَلَيْهِ أَنْ يَضِيعَ، وَالْغَضَبُ عَلَى مَنْ أَضَاعَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّةِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَإِجْلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْبَصِيرَةِ، فَكَمَا أَنَّ الشَّكَّ الْقَادِحَ فِي كَمَالِ الِامْتِثَالِ مُعَمٍّ لَعِينِ الْبَصِيرَةِ، فَكَذَلِكَ عَدَمُ الْغَضَبِ وَالْغَيْرَةِ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ إِذَا ضُيِّعَتْ، وَمَحَارِمِهِ إِذَا انْتُهِكَتْ مُعَمٍّ لَعِينِ الْبَصِيرَةِ. قَالَ: " الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَشْهَدَ فِي هِدَايَةِ الْحَقِّ وَإِضْلَالِهِ إِصَابَةَ الْعَدْلِ، وَفِي تَلْوِينِ أَقْسَامِهِ: رِعَايَةَ الْبِرِّ، وَتُعَايِنَ فِي جَذْبِهِ حَبْلَ الْوَصْلِ ".

يُرِيدُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِشُهُودِ الْعَدْلِ فِي هِدَايَتِهِ مَنْ هَدَاهُ، وَفِي إِضْلَالِهِ مَنْ أَضَلَّهُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَفَرُّدُهُ بِالْخَلْقِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ. وَالثَّانِي: وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ، لَا بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ وَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا، وَتَنْزِيلِهَا مَنَازِلَهَا، بَلْ بِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ هُدَى مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَزْكُو عَلَى الْهُدَى، وَيَقْبَلُهُ وَيَشْكُرُهُ عَلَيْهِ، وَيُثْمِرُ عِنْدَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، أَصْلًا وَمِيرَاثًا، قَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] وَهُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ قَدْرَ نِعْمَتِهِ بِالْهُدَى، وَيَشْكُرُونَهُ عَلَيْهَا، وَيُحِبُّونَهُ وَيَحْمَدُونَهُ عَلَى أَنْ جَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَا عَدَلَ عَنْ مُوجَبِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فِي هِدَايَةِ مَنْ هَدَى، وَإِضْلَالِ مَنْ أَضَلَّ، وَلَمْ يَطْرُدْ عَنْ بَابِهِ وَلَمْ يُبْعِدْ عَنْ جَنَابِهِ مَنْ يَلِيقُ بِهِ التَّقْرِيبُ وَالْهُدَى وَالْإِكْرَامُ، بَلْ طَرَدَ مَنْ لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، وَحِكْمَتُهُ وَحَمْدُهُ تَأْبَى تَقْرِيبَهُ وَإِكْرَامَهُ، وَجَعْلَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَخَاصَّتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ. وَلَا يَبْقَى إِلَّا أَنْ يُقَالَ: فَلِمَ خَلَقَ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ؟ فَهَذَا سُؤَالُ جَاهِلٍ ظَالِمٍ ضَالٍّ، مُفْرِطٍ فِي الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالضَّلَالِ، لِأَنَّ خَلْقَ الْأَضْدَادِ وَالْمُتَقَابِلَاتِ هُوَ مِنْ كَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ، كَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالنَّعِيمِ وَالْجَحِيمِ. قَوْلُهُ: ": وَفِي تَلْوِينِ أَقْسَامِهِ رِعَايَةُ الْبِرِّ ". يُرِيدُ بِتَلْوِينِ الْأَقْسَامِ: اخْتِلَافَهَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، مِنْ أَقْسَامِ الْأَمْوَالِ وَالْقُوَى، وَالْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، وَالصَّنَائِعِ وَغَيْرِهَا، قَسَّمَهَا عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالْمَصْلَحَةِ، فَأَعْطَى كُلًّا مِنْهُمْ مَا يُصْلِحُهُ، وَمَا هُوَ الْأَنْفَعُ لَهُ، بِرًّا وَإِحْسَانًا. وَقَوْلُهُ: " وَتُعَايِنُ فِي جَذْبِهِ حَبْلَ الْوِصَالِ ". يُرِيدُ تُعَايِنُ فِي تَوْفِيقِهِ لَكَ لِلطَّاعَةِ، وَجَذْبِهِ إِيَّاكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّهُ يُرِيدُ تَقْرِيبَكَ مِنْهُ، فَاسْتَعَارَ لِلتَّوْفِيقِ الْخَاصِّ الْجَذْبَ، وَلِلتَّقْرِيبِ الْوِصَالَ، وَأَرَادَ بِالْحَبْلِ السَّبَبَ الْمُوَصِّلَ لَكَ إِلَيْهِ. فَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنَّكَ تَسْتَدِلُّ بِتَوْفِيقِهِ لَكَ، وَجَذْبِكَ نَفْسَكَ، وَجَعْلِكَ مُتَمَسِّكًا

بِحَبْلِهِ الَّذِي هُوَ عَهْدُهُ وَوَصِيَّتُهُ إِلَى عِبَادِهِ عَلَى تَقْرِيبِهِ لَكَ، تُشَاهِدُ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَقْوَى فِي الْمَحَبَّةِ وَالشُّكْرِ، وَبَذْلِ النَّصِيحَةِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَمَامِ الْبَصِيرَةِ، فَمَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذَا. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: بَصِيرَةٌ تُفَجِّرُ الْمَعْرِفَةَ، وَتُثَبِّتُ الْإِشَارَةَ، وَتُنْبِتُ الْفِرَاسَةَ. يُرِيدُ بِالْبَصِيرَةِ فِي الْكَشْفِ وَالْعِيَانِ أَنْ تَتَفَجَّرَ بِهَا يَنَابِيعُ الْمَعَارِفِ مِنَ الْقَلْبِ، وَلَمْ يَقُلْ " تُفَجِّرُ الْعِلْمَ " لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْعِلْمِ نِسْبَةُ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ، فَهِيَ رُوحُ الْعِلْمِ وَلُبُّهُ. وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ بِهَذِهِ الْبَصِيرَةِ تَتَفَجَّرُ مِنْ قَلْبِ صَاحِبِهَا يَنَابِيعُ مِنَ الْمَعَارِفِ، الَّتِي لَا تُنَالُ بِكَسْبٍ وَلَا دِرَاسَةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا فَهْمٌ يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ وَدِينِهِ، عَلَى قَدْرِ بَصِيرَةِ قَلْبِهِ. وَقَوْلُهُ " وَتُثَبِّتُ الْإِشَارَةَ ". يُرِيدُ بِالْإِشَارَةِ: مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمُنَازَلَاتِ، وَالْأَذْوَاقِ الَّتِي يُنْكِرُهَا الْأَجْنَبِيُّ مِنَ السُّلُوكِ، وَيُثْبِتُهَا أَهْلُ الْبَصَائِرِ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ تَرِدُ عَلَى السَّالِكِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ بَصِيرَةٌ ثَبَتَتْ بَصِيرَتُهُ ذَلِكَ لَهُ وَحَقَّقَتْهُ عِنْدَهُ، وَعَرَّفَتْهُ تَفَاصِيلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَصِيرَةٌ بَلْ كَانَ جَاهِلًا، لَمْ يَعْرِفْ تَفْصِيلَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَهْتَدِ لِتَثْبِيتِهِ. قَوْلُهُ " وَتُنْبِتُ الْفِرَاسَةَ مَعْنَاهَا ". يَعْنِي أَنَّ الْبَصِيرَةَ تُنْبِتُ فِي أَرْضِ الْقَلْبِ الْفِرَاسَةَ الصَّادِقَةَ، وَهِيَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ، يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] قَالَ مُجَاهِدٌ: لِلْمُتَفَرِّسِينَ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] » .

وَالتَّوَسُّمُ مَعْنَاهُ تَفَعُّلٌ مِنَ السِّيمَا، وَهِيَ الْعَلَامَةُ، فَسُمِّيَ الْمُتَفَرِّسُ مُتَوَسِّمًا، لِأَنَّهُ يَسْتَدِلُّ بِمَا يَشْهَدُ عَلَى مَا غَابَ، فَيَسْتَدِلُّ بِالْعِيَانِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِالْآيَاتِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِمَا يُشَاهِدُونَ مِنْهَا عَلَى حَقِيقَةِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَقَدْ أَلْهَمَ اللَّهُ ذَلِكَ لِآدَمَ، وَعَلَّمَهُ إِيَّاهُ حِينَ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَبَنُوهُ هُمْ نُسْخَتُهُ وَخُلَفَاؤُهُ، فَكُلُّ قَلْبٍ فَهُوَ قَابِلٌ لِذَلِكَ، وَهُوَ فِيهِ بِالْقُوَّةِ، وَبِهِ تَقُومُ الْحُجَّةُ، وَتَحْصُلُ الْعِبْرَةُ، وَتَصِحُّ الدِّلَالَةُ، وَبَعَثَ اللَّهُ رُسُلَهُ مُذَكِّرِينَ وَمُنَبِّهِينَ، وَمُكَمِّلِينَ لِهَذَا الِاسْتِعْدَادِ، بِنُورِ الْوَحْيِ وَالْإِيمَانِ، فَيَنْضَافُ ذَلِكَ إِلَى نُورِ الْفِرَاسَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، فَيَصِيرُ نُورًا عَلَى نُورٍ، فَتَقْوَى الْبَصِيرَةُ، وَيَعْظُمُ النُّورُ وَيَدُومُ، بِزِيَادَةِ مَادَّتِهِ وَدَوَامِهَا، وَلَا يَزَالُ فِي تَزَايُدٍ حَتَّى يُرَى عَلَى الْوَجْهِ وَالْجَوَارِحِ، وَالْكَلَامِ وَالْأَعْمَالِ، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ وَلَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا دَخَلَ قَلْبُهُ فِي الْغُلَافِ وَالْأَكِنَّةِ، فَأَظْلَمَ، وَعَمِيَ عَنِ الْبَصِيرَةِ، فَحُجِبَتْ عَنْهُ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ، فَيَرَى الْحَقَّ بَاطِلًا، وَالْبَاطِلَ حَقًّا، وَالرُّشْدَ غَيًّا،

فصل القصد

وَالْغَيَّ رُشْدًا، قَالَ تَعَالَى {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] " وَالرَّيْنُ " " وَالرَّانُّ " هُوَ الْحِجَابُ الْكَثِيفُ الْمَانِعُ لِلْقَلْبِ مِنْ رُؤْيَةِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ. وَعَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْبَصِيرَةِ وَضَعْفِهَا تَكُونُ الْفِرَاسَةُ، وَهِيَ نَوْعَانِ: فِرَاسَةٌ عُلْوِيَّةٌ شَرِيفَةٌ، مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَفِرَاسَةٌ سُفْلِيَّةٌ دَنِيئَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَهِيَ فِرَاسَةُ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالْجُوعِ وَالسَّهَرِ وَالْخُلْوَةِ، وَتَجْرِيدِ الْبَوَاطِنِ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّوَاغِلِ، فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ فِرَاسَةُ كَشْفِ الصُّوَرِ، وَالْإِخْبَارِ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ السُّفْلِيَّةِ الَّتِي لَا يَتَضَمَّنُ كَشْفُهَا وَالْإِخْبَارُ بِهَا كَمَالًا لِلنَّفْسِ، وَلَا زَكَاةً وَلَا إِيمَانًا وَلَا مَعْرِفَةً، وَهَؤُلَاءِ لَا تَتَعَدَّى فِرَاسَتُهُمْ هَذِهِ الْسُفْلِيَّاتِ، لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنِ الْحَقِّ تَعَالَى، فَلَا تَصْعَدُ فِرَاسَتُهُمْ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَطَرِيقِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. وَأَمَّا فِرَاسَةُ الصَّادِقِينَ، الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ وَأَمْرِهِ فَإِنَّ هِمَّتَهُمْ لَمَّا تَعَلَّقَتْ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، كَانَتْ فِرَاسَتُهُمْ مُتَّصِلَةً بِاللَّهِ، مُتَعَلِّقَةً بِنُورِ الْوَحْيِ مَعَ نُورِ الْإِيمَانِ، فَمَيَّزَتْ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَمَيَّزَتْ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ، وَالْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، وَالصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، وَعَرَفَتْ مَقَادِيرَ اسْتِعْدَادِ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ، فَحَمَلَتْ كُلَّ إِنْسَانٍ عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ، عِلْمًا وَإِرَادَةً وَعَمَلًا. فَفِرَاسَةُ هَؤُلَاءِ دَائِمًا حَائِمَةٌ حَوْلَ كَشْفِ طَرِيقِ الرَّسُولِ وَتَعَرُّفِهَا، وَتَخْلِيصِهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الطُّرُقِ، وَبَيْنَ كَشْفِ عُيُوبِ النَّفْسِ، وَآفَاتِ الْأَعْمَالِ الْعَائِقَةِ عَنْ سُلُوكِ طَرِيقِ الْمُرْسَلِينَ، فَهَذَا أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْبَصِيرَةِ وَالْفِرَاسَةِ، وَأَنْفَعُهَا لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ. [فَصْلٌ الْقَصْدُ] فَإِذَا انْتَبَهَ وَأَبْصَرَ أَخَذَ فِي الْقَصْدِ وَصِدْقِ الْإِرَادَةِ، وَأَجْمَعَ الْقَصْدَ وَالنِّيَّةَ عَلَى سَفَرِ الْهِجْرَةِ إِلَى اللَّهِ، وَعَلِمَ وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، فَأَخَذَ فِي أُهْبَةِ السَّفَرِ، وَتَعْبِئَةِ الزَّادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ، وَالتَّجَرُّدِ عَنْ عَوَائِقِ السَّفَرِ، وَقَطْعِ الْعَلَائِقِ الَّتِي تَمْنَعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ. وَقَدْ قَسَّمَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ الْقَصْدَ إِلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، فَقَالَ:

الدَّرَجَةُ الْأُولَى: قَصْدٌ يَبْعَثُ عَلَى الِارْتِيَاضِ، وَيُخَلِّصُ مِنَ التَّرَدُّدِ، وَيَدْعُو إِلَى مُجَانَبَةِ الْأَغْرَاضِ. فَذَكَرَ لَهُ ثَلَاثَ فَوَائِدَ: أَنَّهُ يَبْعَثُ عَلَى السُّلُوكِ بِلَا تَوَقُّفٍ، وَلَا تَرَدُّدٍ، وَلَا عِلَّةٍ غَيْرِ الْعُبُودِيَّةِ، مِنْ رِيَاءٍ أَوْ سُمْعَةٍ، أَوْ طَلَبِ مَحْمَدَةٍ، أَوْ جَاهٍ وَمَنْزِلَةٍ عِنْدَ الْخَلْقِ. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: قَصْدٌ لَا يَلْقَى سَبَبًا إِلَّا قَطَعَهُ، وَلَا حَائِلًا إِلَّا مَنَعَهُ وَلَا تَحَامُلًا إِلَّا سَهَّلَهُ. يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَلْقَى سَبَبًا يُعَوِّقُ عَنِ الْمَقْصُودِ إِلَّا قَطَعَهُ، وَلَا حَائِلًا دُونَهُ إِلَّا مَنَعَهُ وَلَا صُعُوبَةً إِلَّا سَهَّلَهَا. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: قَصْدُ الِاسْتِسْلَامِ لِتَهْذِيبِ الْعِلْمِ، وَقَصْدُ إِجَابَةِ دَاعِي الْحُكْمِ، وَقَصْدُ اقْتِحَامِ بَحْرِ الْفَنَاءِ. يُرِيدُ أَنَّهُ يَنْقَادُ إِلَى الْعِلْمِ لِيَتَهَذَّبَ بِهِ وَيَصْلُحَ، وَيَقْصِدُ إِجَابَةَ دَاعِي الْحُكْمِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ كُلَّمَا دَعَاهُ، فَإِنَّ لِلْحُكْمِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ بِهَا عِلْمًا وَعَمَلًا، فَيَقْصِدُ إِجَابَةَ دَاعِيهَا، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ بِدَاعِي الْحُكْمِ: الْأَسْرَارُ وَالْحِكَمُ الدَّاعِيَةُ إِلَى شَرْعِ الْحُكْمِ، فَإِجَابَتُهَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الِامْتِثَالِ، فَإِنَّهَا تَدْعُو إِلَى الْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ، وَالْمَعْرِفَةِ وَالْحَمْدِ، فَالْأَمْرُ يَدْعُو إِلَى الِامْتِثَالِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْحِكَمِ، وَالْغَايَاتُ تَدْعُو إِلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَقَصْدُ اقْتِحَامِ بَحْرِ الْفَنَاءِ. هَذَا هُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ الطَّرِيقِ، وَلَيْسَ بِغَايَةٍ، وَعِنْدَ آخَرِينَ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ الطَّرِيقِ، وَلَيْسَ بِغَايَةٍ، وَلَا هُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ سَالِكٍ، وَأَهْلُ الْقُوَّةِ وَالْعَزْمِ لَا يَعْرِضُ لَهُمْ، وَحَالُ الْبَقَاءِ أَكْمَلُ مِنْهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْبَقَاءُ حَالَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَقَدْ رَأَى مَا رَأَى، وَحَالُ مُوسَى الْفَنَاءُ، وَلِهَذَا خَرَّ صَعِقًا عِنْدَ تَجَلِّي اللَّهِ لِلْجَبَلِ، وَامْرَأَةُ الْعَزِيزِ كَانَتْ أَكْمَلَ حُبًّا لِيُوسُفَ مِنَ النِّسْوَةِ، وَلَمْ يَعْرِضْ لَهَا مَا عَرَضَ لَهُنَّ عِنْدَ رُؤْيَةِ يُوسُفَ لِفَنَائِهِنَّ وَبَقَائِهَا، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ.

فصل العزم

[فَصْلٌ الْعَزْمُ] فَإِذَا اسْتَحْكَمَ قَصْدُهُ صَارَ عَزْمًا جَازِمًا، مُسْتَلْزِمًا لِلشُّرُوعِ فِي السَّفَرِ، مَقْرُونًا بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] . وَالْعَزْمُ: هُوَ الْقَصْدُ الْجَازِمُ الْمُتَّصِلُ بِالْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّهُ أَوَّلُ الشُّرُوعِ فِي الْحَرَكَةِ لِطَلَبِ الْمَقْصُودِ، وَأَنَّ التَّحْقِيقَ: أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْحَرَكَةِ نَاشِئٌ عَنِ الْعَزْمِ، لَا أَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ، وَلَكِنْ لَمَّا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ظَنَّ أَنَّهُ هُوَ. وَحَقِيقَتُهُ: هُوَ اسْتِجْمَاعُ قُوَى الْإِرَادَةِ عَلَى الْفِعْلِ. وَالْعَزْمُ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: عَزْمُ الْمُرِيدِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الطَّرِيقِ، وَهُوَ مِنَ الْبِدَايَاتِ، وَالثَّانِي: عَزْمٌ فِي حَالِ السَّيْرِ مَعَهُ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ هَذَا، وَهُوَ مِنَ الْمَقَامَاتِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَفِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ يَحْتَاجُ السَّالِكُ إِلَى تَمْيِيزِ مَا لَهُ مِمَّا عَلَيْهِ، لِيَسْتَصْحِبَ مَا لَهُ وَيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُحَاسَبَةُ وَهِيَ قَبْلَ التَّوْبَةِ فِي الْمَرْتَبَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَرَفَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ أَخَذَ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَالْخُرُوجِ مِنْهُ، وَهُوَ التَّوْبَةُ. وَصَاحِبُ الْمَنَازِلِ قَدَّمَ التَّوْبَةَ عَلَى الْمُحَاسَبَةِ، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّهُ رَأَى التَّوْبَةَ أَوَّلَ مَنَازِلِ السَّائِرِ بَعْدَ يَقَظَتِهِ، وَلَا تَتِمُّ التَّوْبَةُ إِلَّا بِالْمُحَاسَبَةِ، فَالْمُحَاسَبَةُ تَكْمِيلُ مَقَامِ التَّوْبَةِ، فَالْمُرَادُ بِالْمُحَاسَبَةِ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى حِفْظِ التَّوْبَةِ، حَتَّى لَا يَخْرُجَ عَنْهَا، وَكَأَنَّهُ وَفَاءٌ بِعَقْدِ التَّوْبَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْتِيبَ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ السَّالِكَ يَقْطَعُ الْمَقَامَ وَيُفَارِقُهُ وَيَنْتَقِلُ إِلَى الثَّانِي، كَمَنَازِلِ السَّيْرِ الْحِسِّيِّ، هَذَا مُحَالٌ، ألَا تَرَى أَنَّ الْيَقَظَةَ مَعَهُ فِي كُلِّ مَقَامٍ لَا تُفَارِقُهُ، وَكَذَلِكَ الْبَصِيرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْعَزْمُ وَكَذَلِكَ التَّوْبَةُ فَإِنَّهَا كَمَا أَنَّهَا مِنْ أَوَّلِ الْمَقَامَاتِ فَهِيَ آخِرُهَا أَيْضًا، بَلْ هِيَ فِي كُلِّ مَقَامٍ مُسْتَصْحَبَةٌ، وَلِهَذَا جَعَلَهَا اللَّهُ

تَعَالَى آخِرَ مَقَامَاتِ خَاصَّتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهِيَ آخِرُ الْغَزَوَاتِ الَّتِي قَطَعُوا فِيهَا الْأَوْدِيَةَ وَالْبِدَايَاتِ وَالْأَحْوَالَ وَالنِّهَايَاتِ {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117] فَجَعَلَ التَّوْبَةَ أَوَّلَ أَمْرِهِمْ وَآخِرَهُ، وَقَالَ فِي سُورَةِ أَجَلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي هِيَ آخَرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ - إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَلَّى صَلَاةً بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ إِلَّا قَالَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ» فَالتَّوْبَةُ هِيَ نِهَايَةُ كُلِّ سَالِكٍ وَكُلِّ وَلِيٍّ لِلَّهِ، وَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي يَجْرِي إِلَيْهَا الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، قَالَ تَعَالَى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا - لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 72 - 73] فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ التَّوْبَةَ غَايَةَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ. وَكَذَلِكَ الصَّبْرُ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ فِي مَقَامٍ مِنَ الْمَقَامَاتِ. وَإِنَّمَا هَذَا التَّرْتِيبُ تَرْتِيبُ الْمَشْرُوطِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى شَرْطِهِ الْمُصَاحِبِ لَهُ. وَمِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الرِّضَا مُتَرَتِّبٌ عَلَى الصَّبْرِ لِتَوَقُّفِ الرِّضَا عَلَيْهِ، وَاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِهِ بِدُونِهِ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ مَقَامَ الرِّضَا أَوْ حَالَهُ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ هَلْ هُوَ مَقَامٌ أَوْ حَالٌ؟ بَعْدَ مَقَامِ الصَّبْرِ لَا يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ يُفَارِقُ الصَّبْرَ وَيَنْتَقِلُ إِلَى الرِّضَا وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ مَقَامُ الرِّضَا حَتَّى يَتَقَدَّمَ لَهُ قَبْلَهُ مَقَامُ الصَّبْرِ، فَافْهَمْ هَذَا التَّرْتِيبَ فِي مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّ الْقَصْدَ وَالْعَزْمَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى سَائِرِ الْمَنَازِلِ فَلَا وَجْهَ

لِتَأْخِيرِهِ، وَعَلِمْتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُحَاسَبَةَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى التَّوْبَةِ بِالرُّتْبَةِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ إِذَا حَاسَبَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ خَرَجَ مِمَّا عَلَيْهِ، وَهِيَ حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ، وَأَنَّ مَنْزِلَةَ التَّوَكُّلِ قَبْلَ مَنْزِلَةِ الْإِنَابَةِ، لِأَنَّهُ يَتَوَكَّلُ فِي حُصُولِهَا، فَالتَّوَكُّلُ وَسِيلَةٌ، وَالْإِنَابَةُ غَايَةٌ، وَأَنَّ مَقَامَ التَّوْحِيدِ أَوْلَى الْمَقَامَاتِ أَنْ يُبْدَأَ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ «فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَفِي رِوَايَةٍ " إِلَى أَنْ يَعْرِفُوا اللَّهَ " وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَقَامٌ مِنَ الْمَقَامَاتِ، وَلَا حَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا بِهِ، فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِهِ آخِرَ الْمَقَامَاتِ، وَهُوَ مِفْتَاحُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَأَوَّلُ فَرْضٍ فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا عَدَا هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ فَخَطَأٌ، كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: أَوَّلُ الْفُرُوضِ النَّظَرُ، أَوِ الْقَصْدُ إِلَى النَّظَرِ، أَوِ الْمَعْرِفَةُ، أَوِ الشَّكُّ الَّذِي يُوجِبُ النَّظَرَ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ خَطَأٌ، بَلْ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ مِفْتَاحُ دَعْوَةِ الْمُرْسَلِينَ كُلِّهِمْ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ فَاتِحُهُمْ نُوحٌ، فَقَالَ {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] وَهُوَ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ خَاتِمُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِأَرْبَابِ السُّلُوكِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فِي عَدَدِ الْمَقَامَاتِ وَتَرْتِيبِهَا، كُلٌّ يَصِفُ مَنَازِلَ سِيَرِهِ،

وَحَالَ سُلُوكِهِ، وَلَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي بَعْضِ مَنَازِلِ السَّيْرِ هَلْ هِيَ مِنْ قِسْمِ الْأَحْوَالِ؟ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمَقَامَاتِ كَسَبِيَّةٌ، وَالْأَحْوَالَ وَهْبِيَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْأَحْوَالُ مِنْ نَتَائِجِ الْمَقَامَاتِ، وَالْمَقَامَاتُ نَتَائِجُ الْأَعْمَالِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَصْلَحَ عَمَلًا كَانَ أَعْلَى مَقَامًا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْلَى مَقَامًا كَانَ أَعْظَمَ حَالًا. فَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ الرِّضَا هَلْ هُوَ حَالٌ، أَوْ مَقَامٌ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَالْعِرَاقِيِّينَ. وَحَكَمَ بَيْنَهُمْ بَعْضُ الشُّيُوخِ، فَقَالَ: إِنْ حَصَلَ بِكَسْبٍ فَهُوَ مَقَامٌ، وَإِلَّا فَهُوَ حَالٌ. وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا أَنَّ الْوَارِدَاتِ وَالْمُنَازَلَاتِ لَهَا أَسْمَاءٌ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِهَا، فَتَكُونُ لَوَامِعَ

وَبِوَارِقَ وَلَوَائِحَ عِنْدَ أَوَّلِ ظُهُورِهَا وَبُدُوِّهَا، كَمَا يَلْمَعُ الْبَارِقُ وَيَلُوحُ عَنْ بُعْدٍ، فَإِذَا نَازَلَتْهُ وَبَاشَرَهَا فَهِيَ أَحْوَالٌ، فَإِذَا تَمَكَّنَتْ مِنْهُ وَثَبَتَتْ لَهُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ فَهِيَ مَقَامَاتٌ، وَهِيَ لَوَامِعُ وَلَوَائِحُ فِي أَوَّلِهَا، وَأَحْوَالٌ فِي أَوْسَطِهَا، وَمَقَامَاتٌ فِي نِهَايَاتِهَا، فَالَّذِي كَانَ بَارِقًا هُوَ بِعَيْنِهِ الْحَالُ، وَالَّذِي كَانَ حَالًا هُوَ بِعَيْنِهِ الْمَقَامُ، وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ لَهُ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالْقَلْبِ، وَظُهُورِهِ لَهُ، وَثَبَاتِهِ فِيهِ. وَقَدْ يَنْسَلِخُ السَّالِكُ مِنْ مَقَامِهِ كَمَا يَنْسَلِخُ مِنَ الثَّوْبِ، وَيَنْزِلُ إِلَى مَا دُونَهُ، ثُمَّ قَدْ يَعُودُ إِلَيْهِ، وَقَدْ لَا يَعُودُ. وَمِنَ الْمَقَامَاتِ مَا يَكُونُ جَامِعًا لِمَقَامَيْنِ. وَمِنْهَا مَا يَكُونُ جَامِعًا لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْهَا مَا يَنْدَرِجُ فِيهِ جَمِيعُ الْمَقَامَاتِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ اسْمَهُ إِلَّا عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ فِيهِ. فَالتَّوْبَةُ جَامِعَةٌ لِمَقَامِ الْمُحَاسَبَةِ وَمَقَامِ الْخَوْفِ، لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهَا بِدُونِهِمَا. وَالتَّوَكُّلُ جَامِعٌ لِمَقَامِ التَّفْوِيضِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالرِّضَى، لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِدُونِهَا. وَالرَّجَاءُ جَامِعٌ لِمَقَامِ الْخَوْفِ وَالْإِرَادَةِ. وَالْخَوْفُ جَامِعٌ لِمَقَامِ الرَّجَاءِ وَالْإِرَادَةِ. وَالْإِنَابَةُ جَامِعَةٌ لِمَقَامِ الْمَحَبَّةِ وَالْخَشْيَةِ، لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُنِيبًا إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا. وَالْإِخْبَاتُ لَهُ جَامِعٌ لِمَقَامِ الْمَحَبَّةِ وَالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، لَا يَكْمُلُ أَحَدُهَا بِدُونِ الْآخَرِ إِخْبَاتًا. وَالزُّهْدُ جَامِعٌ لِمَقَامِ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، لَا يَكُونُ زَاهِدًا مَنْ لَمْ يَرْغَبْ فِيمَا يَرْجُو نَفْعَهُ، وَيَرْهَبْ مِمَّا يَخَافُ ضَرَرَهُ. وَمَقَامُ الْمَحَبَّةِ جَامِعٌ لِمَقَامِ الْمَعْرِفَةِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْإِرَادَةِ، فَالْمَحَبَّةُ مَعْنًى يَلْتَئِمُ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَبِهَا تَحَقُّقُهَا. وَمَقَامُ الْخَشْيَةِ جَامِعٌ لِمَقَامِ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِحَقِّ عُبُودِيَّتِهِ، فَمَتَى عَرَفَ اللَّهَ

وَعَرَفَ حَقَّهُ اشْتَدَّتْ خَشْيَتُهُ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فَالْعُلَمَاءُ بِهِ وَبِأَمْرِهِ هُمْ أَهْلُ خَشْيَتِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» . وَمَقَامُ الْهَيْبَةِ جَامِعٌ لِمَقَامِ الْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ. وَمَقَامُ الشُّكْرِ جَامِعٌ لِجَمِيعِ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَرْفَعَهَا وَأَعْلَاهَا، وَهُوَ فَوْقَ الرِّضَا وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الصَّبْرَ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَيَتَضَمَّنُ التَّوَكُّلَ وَالْإِنَابَةَ وَالْحُبَّ وَالْإِخْبَاتَ وَالْخُشُوعَ وَالرَّجَاءَ فَجَمِيعُ الْمَقَامَاتِ مُنْدَرِجَةٌ فِيهِ، لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ اسْمَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِلَّا بِاسْتِجْمَاعِ الْمَقَامَاتِ لَهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْإِيمَانُ نِصْفَيْنِ: نِصْفُ صَبْرٍ، وَنِصْفُ شُكْرٍ، وَالصَّبْرُ دَاخِلٌ فِي الشُّكْرِ، فَرَجِعَ الْإِيمَانُ كُلُّهُ شُكْرًا، وَالشَّاكِرُونَ هُمْ أَقَلُّ الْعِبَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] . وَمَقَامُ الْحَيَاءِ جَامِعٌ لِمَقَامِ الْمَعْرِفَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ. وَمَقَامُ الْأُنْسِ جَامِعٌ لِمَقَامِ الْحُبِّ مَعَ الْقُرْبِ، فَلَوْ كَانَ الْمُحِبُّ بَعِيدًا مِنْ مَحْبُوبِهِ لَمْ يَأْنَسْ بِهِ، وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ يُحِبَّهُ لَمْ يَأْنَسْ بِهِ، حَتَّى يَجْتَمِعَ لَهُ حُبُّهُ مَعَ الْقُرْبِ مِنْهُ. وَمَقَامُ الصِّدْقِ جَامِعٌ لِلْإِخْلَاصِ وَالْعَزْمِ، فَبِاجْتِمَاعِهِمَا يَصِحُّ لَهُ مَقَامُ الصِّدْقِ. وَمَقَامُ الْمُرَاقَبَةِ جَامِعٌ لِلْمَعْرِفَةِ مَعَ الْخَشْيَةِ، فَبِحَسَبِهِمَا يَصِحُّ مَقَامُ الْمُرَاقَبَةِ. وَمَقَامُ الطُّمَأْنِينَةِ جَامِعٌ لِلْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالتَّفْوِيضِ وَالرِّضَى وَالتَّسْلِيمِ، فَهُوَ مَعْنًى مُلْتَئِمٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، إِذَا اجْتَمَعَتْ صَارَ صَاحِبُهَا صَاحِبَ طُمَأْنِينَةٍ، وَمَا نَقَصَ مِنْهَا نَقَصَ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ.

وَكَذَلِكَ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُلْتَئِمٌ مِنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءُ عَلَى الرَّغْبَةِ أَغْلَبُ، وَالْخَوْفُ عَلَى الرَّهْبَةِ أَغْلَبُ. وَكُلُّ مَقَامٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ فَالسَّالِكُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ نَوْعَانِ: أَبْرَارٌ، وَمُقَرَّبُونَ، فَالْأَبْرَارُ فِي أَذْيَالِهِ، وَالْمُقَرَّبُونَ فِي ذُرْوَةِ سَنَامِهِ، وَهَكَذَا مَرَاتِبُ الْإِيمَانِ جَمِيعُهَا، وَكُلٌّ مِنَ النَّوْعَيْنِ لَا يُحْصِي تَفَاوُتَهُمْ، وَتَفَاضُلَ دَرَجَاتِهِمْ إِلَّا اللَّهُ. وَتَقْسِيمُهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ عَامٌّ، وَخَاصٌّ، وَخَاصٌّ خَاصٌّ إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ جَعْلِ الْفَنَاءِ غَايَةَ الطَّرِيقِ، وَعِلْمِ الْقَوْمِ الَّذِي شَمَّرُوا إِلَيْهِ، وَسَنَذْكُرُ مَا فِي ذَلِكَ، وَأَقْسَامُ الْفَنَاءِ مَحْمُودِهِ وَمَذْمُومِهِ، فَاضِلِهِ وَمَفْضُولِهِ، فَإِنَّ إِشَارَةَ الْقَوْمِ إِلَيْهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمَدَارَهُمْ عَلَيْهِ. عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ مُرَتِّبٍ لِلْمَنَازِلِ لَا يَخْلُو عَنْ تَحَكُّمٍ، وَدَعْوَى مِنْ غَيْرِ مُطَابَقَةٍ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا الْتَزَمَ عَقْدَ الْإِسْلَامِ، وَدَخَلَ فِيهِ كُلِّهِ، فَقَدِ الْتَزَمَ لَوَازِمَهُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ، وَمَقَامَاتِهِ وَأَحْوَالَهُ، وَلَهُ فِي كُلِّ عَقْدٍ مِنْ عُقُودِهِ وَوَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِهِ أَحْوَالٌ وَمَقَامَاتٌ، لَا يَكُونُ مُوَفِّيًا لِذَلِكَ الْعَقْدِ وَالْوَاجِبِ إِلَّا بِهَا، وَكُلَّمَا وَفَّى وَاجِبًا أَشْرَفَ عَلَى وَاجِبٍ آخَرَ بَعْدَهُ، وَكُلَّمَا قَطَعَ مَنْزِلَةً اسْتَقْبَلَ أُخْرَى. وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ فِي أَوَّلِ بِدَايَةِ سَيْرِهِ، فَيَنْفَتِحُ عَلَيْهِ مِنْ حَالِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْأُنْسِ وَالطُّمَأْنِينَةِ مَا لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ لِسَالِكٍ فِي نِهَايَتِهِ، وَيَحْتَاجُ هَذَا السَّالِكُ فِي نِهَايَتِهِ إِلَى أُمُورٍ مِنَ الْبَصِيرَةِ، وَالتَّوْبَةِ، وَالْمُحَاسَبَةِ أَعْظَمَ مِنْ حَاجَةِ صَاحِبِ الْبِدَايَةِ إِلَيْهَا، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَرْتِيبٌ كُلِّيٌّ لَازِمٌ لِلسُّلُوكِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّوْبَةَ الَّتِي جَعَلُوهَا مِنْ أَوَّلِ الْمَقَامَاتِ هِيَ غَايَةُ الْعَارِفِينَ، وَنِهَايَةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حَاجَتَهُمْ إِلَى الْمُحَاسَبَةِ فِي نِهَايَتِهِمْ، فَوْقَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا فِي بِدَايَتِهِمْ. فَالْأَوْلَى الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ عَلَى طَرِيقِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقَوْمِ كَلَامًا مُطْلَقًا فِي كُلِّ مَقَامٍ مَقَامٌ، بِبَيَانِ حَقِيقَتِهِ وَمُوجِبِهِ، وَآفَتِهِ الْمَانِعَةِ مِنْ حُصُولِهِ، وَالْقَاطِعِ عَنْهُ، وَذِكْرِ عَامِّهِ وَخَاصِّهِ. فَكَلَامُ أَئِمَّةِ الطَّرِيقِ هُوَ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ، فَمَنْ تَأَمَّلَهُ كَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ

التُّسْتَرِيِّ، وَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ، والْجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَأَبِي عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ وَأَرْفَعِ مِنْ هَؤُلَاءِ طَبَقَةً، مِثْلَ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ، وَعَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ حَكِيمُ الْأُمَّةِ وأَضْرَابِهِمَا، فَإِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عَلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَعَلَى الْأَحْوَالِ كَلَامًا مُفَصَّلًا جَامِعًا مُبَيِّنًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ، وَلَا حَصْرٍ لِلْمَقَامَاتِ بِعَدَدٍ مَعْلُومٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَجَلَّ مَنْ هَذَا، وَهَمُّهُمْ أَعْلَى وَأَشْرَفُ، إِنَّمَا هُمْ حَائِمُونَ عَلَى اقْتِبَاسِ الْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَطَهَارَةِ الْقُلُوبِ، وَزَكَاةِ النُّفُوسِ، وَتَصْحِيحِ الْمُعَامَلَةِ، وَلِهَذَا كَلَامُهُمْ قَلِيلٌ فِيهِ الْبَرَكَةُ، وَكَلَامُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَثِيرٌ طَوِيلٌ قَلِيلُ الْبِرْكَةِ. وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مُخَاطَبَةِ أَهْلِ الزَّمَانِ بِاصْطِلَاحِهِمْ، إِذْ لَا قُوَّةَ لَهُمْ لِلتَّشْمِيرِ إِلَى تَلَقِّي

السُّلُوكِ عَنِ السَّلَفِ الْأَوَّلِ وَكَلِمَاتِهِمْ وَهَدْيِهِمْ، وَلَوْ بَرَزَ لَهُمْ هَدْيُهُمْ وَحَالُهُمْ لَأَنْكَرُوهُ، وَلَعَدُّوهُ سُلُوكًا عَامِّيًّا، وَلِلْخَاصَّةِ سُلُوكٌ آخَرُ، كَمَا يَقُولُ ضُلَّالُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَجَهَلَتُهُمْ: إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا أَسْلَمَ، وَإِنَّ طَرِيقَنَا أَعْلَمُ، وَكَمَا يَقُولُ مَنْ لَمْ يُقَدِّرْ قَدْرَهُمْ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْفِقْهِ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَفَرَّغُوا لِاسْتِنْبَاطِهِ، وَضَبْطِ قَوَاعِدِهِ وَأَحْكَامِهِ، اِشْتِغَالًا مِنْهُمْ بِغَيْرِهِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ تَفَرَّغُوا لِذَلِكَ، فَهُمْ أَفْقَهُ. فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مَحْجُوبُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ السَّلَفِ، وَعَنْ عُمْقِ عُلُومِهِمْ، وَقِلَّةِ تَكَلُّفِهِمْ، وَكَمَالِ بَصَائِرِهِمْ، وَتَاللَّهِ مَا امْتَازَ عَنْهُمُ الْمُتَأَخِّرُونَ إِلَّا بِالتَّكَلُّفِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَطْرَافِ الَّتِي كَانَتْ هِمَّةُ الْقَوْمِ مُرَاعَاةَ أُصُولِهَا، وَضَبْطَ قَوَاعِدِهَا، وَشَدَّ مَعَاقِدِهَا، وَهِمَمُهُمْ مُشَمِّرَةٌ إِلَى الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَالْمُتَأَخِّرُونَ فِي شَأْنٍ وَالْقَوْمُ فِي شَأْنٍ، وَ {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] . فَالْأَوْلَى بِنَا: أَنْ نَذْكُرَ مَنَازِلَ الْعُبُودِيَّةِ الْوَارِدَةَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنُشِيرَ إِلَى مَعْرِفَةِ حُدُودِهَا وَمَرَاتِبِهَا، إِذْ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ مَعْرِفَةِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا بِالْجَهْلِ وَالنِّفَاقِ، فَقَالَ تَعَالَى {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَنْ لَا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 96] فَبِمَعْرِفَةِ حُدُودِهَا دِرَايَةً، وَالْقِيَامِ بِهَا رِعَايَةً يَسْتَكْمِلُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ، وَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ". وَنَذْكُرُ لَهَا تَرْتِيبًا غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ، بَلْ مُسْتَحْسَنٌ، بِحَسَبِ تَرْتِيبِ السَّيْرِ الْحِسِّيِّ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى تَنْزِيلِ الْمَعْقُولِ مَنْزِلَةَ الْمَشْهُودِ بِالْحِسِّ، فَيَكُونَ التَّصْدِيقُ أَتَمَّ، وَمَعْرِفَتُهُ أَكْمَلَ، وَضَبْطُهُ أَسْهَلَ. فَهَذِهِ فَائِدَةُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَهِيَ خَاصَّةُ الْعَقْلِ وَلُبُّهُ، وَلِهَذَا أَكْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ، وَنَفَى عَقْلَهَا عَنْ غَيْرِ الْعُلَمَاءِ، فَقَالَ تَعَالَى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] . فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ قَبْلَ وُصُولِ الدَّاعِي إِلَيْهِ فِي نَوْمِ الْغَفْلَةِ، قَلْبُهُ نَائِمٌ وَطَرْفُهُ يَقِظَانُ، فَصَاحَ بِهِ النَّاصِحُ، وَأَسْمَعَهُ دَاعِيَ النَّجَاحِ، وَأَذَّنَ بِهِ مُؤَذِّنُ الرَّحْمَنِ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ.

فَأَوَّلُ مَرَاتِبِ هَذَا النَّائِمِ الْيَقَظَةُ وَالِانْتِبَاهُ مِنَ النَّوْمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا انْزِعَاجُ الْقَلْبِ لِرَوْعَةِ الِانْتِبَاهِ. وَصَاحِبُ الْمَنَازِلِ يَقُولُ: هِيَ الْقَوْمَةُ لِلَّهِ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ: 46] . قَالَ: الْقَوْمَةُ لِلَّهِ هِيَ الْيَقَظَةُ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ، وَالنُّهُوضُ عَنْ وَرْطَةِ الْفَتْرَةِ، وَهِيَ أَوَّلُ مَا يَسْتَنِيرُ قَلْبُ الْعَبْدِ بِالْحَيَاةِ لِرُؤْيَةِ نُورِ التَّنْبِيهِ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: لَحْظُ الْقَلْبِ إِلَى النِّعْمَةِ، عَلَى الْيَأْسِ مِنْ عَدِّهَا، وَالْوُقُوفِ عَلَى حَدِّهَا، وَالتَّفَرُّغُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمِنَّةِ بِهَا، وَالْعِلْمُ بِالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّهَا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ مُوجَبُ الْيَقَظَةِ وَأَثَرُهَا، فَإِنَّهُ إِذَا نَهَضَ مِنْ وَرْطَةِ الْغَفْلَةِ لِاسْتِنَارَةِ قَلْبِهِ بِرُؤْيَةِ نُورِ التَّنْبِيهِ، أَوْجَبَ لَهُ مُلَاحَظَةَ نِعَمِ اللَّهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَكُلَّمَا حَدَّقَ قَلْبُهُ وَطَرْفُهُ فِيهَا شَاهَدَ عَظَمَتَهَا وَكَثْرَتَهَا، فَيَئِسَ مِنْ عَدِّهَا، وَالْوُقُوفِ عَلَى حَدِّهَا، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِمُشَاهَدَةِ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِهَا، مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَلَا اسْتِجْلَابٍ لَهَا بِثَمَنٍ، فَتَيَقَّنَ حِينَئِذٍ تَقْصِيرَهُ فِي وَاجِبِهَا، وَهُوَ الْقِيَامُ بِشُكْرِهَا. فَأَوْجَبَ لَهُ شُهُودُ تِلْكَ الْمِنَّةِ وَالتَّقْصِيرِ نَوْعَيْنِ جَلِيلَيْنِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ: مَحَبَّةُ الْمُنْعِمِ، وَاللَّهَجُ بِذِكْرِهِ، وَتَذَكُّرُ اللَّهِ وَخُضُوعُهُ لَهُ، وَإِزْرَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ، حَيْثُ عَجَزَ عَنْ شُكْرِ نِعَمِهِ، فَصَارَ مُتَحَقِّقًا بِ " أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ " وَعَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ هَذَا الِاسْتِغْفَارَ حَقِيقٌ بِأَنْ يَكُونَ سَيِّدَ الِاسْتِغْفَارِ، وَعَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَعَلِمَ أَنَّ الْعَبْدَ دَائِمًا سَائِرٌ إِلَى اللَّهِ بَيْنَ مُطَالَعَةِ الْمِنَّةِ، وَمُشَاهَدَةِ التَّقْصِيرِ. قَالَ: الثَّانِي: مُطَالَعَةُ الْجِنَايَةِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى الْخَطَرِ فِيهَا، وَالتَّشْمِيرُ لَتَدَارُكِهَا،

وَالتَّخَلُّصِ مِنْ رِقِّهَا، وَطَلَبُ النَّجَاةِ بِتَمْحِيصِهَا. فَيَنْظُرُ إِلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ مِنَ الْإِسَاءَةِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ فِيهَا، وَأَنَّهُ مُشْرِفٌ عَلَى الْهَلَاكِ بِمُؤَاخَذَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ بِمُوجِبِ حَقِّهِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مَنْ نَسِيَ مَا تُقَدِّمُ يَدَاهُ، فَقَالَ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: 57] فَإِذَا طَالَعَ جِنَايَتَهُ شَمَّرَ لِاسْتِدْرَاكِ الْفَارِطِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَتَخَلَّصَ مِنْ رِقِّ الْجِنَايَةِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالنَّدَمِ، وَطَلَبِ التَّمْحِيصِ، وَهُوَ تَخْلِيصُ إِيمَانِهِ وَمَعْرِفَتِهِ مِنْ خُبْثِ الْجِنَايَةِ، كَتَمْحِيصِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَهُوَ تَخْلِيصُهُمَا مِنْ خُبْثِهِمَا، وَلَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ الْجَنَّةَ إِلَّا بَعْدَ هَذَا التَّمْحِيصِ، فَإِنَّهَا طَيِّبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا طَيِّبٌ، وَلِهَذَا تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] وَقَالَ تَعَالَى {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [النحل: 32] فَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ ذَرَّةُ خُبْثٍ. وَهَذَا التَّمْحِيصُ يَكُونُ فِي دَارِ الدُّنْيَا بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: بِالتَّوْبَةِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَعَمَلِ الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ، فَإِنْ مَحَّصَتْهُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ وَخَلَّصَتْهُ كَانَ مِنَ {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32] ، يُبَشِّرُونَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ {أَنْ لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعِدُونَ - نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ - نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32] . وَإِنْ لَمْ تَفِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ بِتَمْحِيصِهِ وَتَخْلِيصِهِ، فَلَمْ تَكُنِ التَّوْبَةُ نَصُوحًا وَهِيَ الْعَامَّةُ الشَّامِلَةُ الصَّادِقَةُ وَلَمْ يَكُنِ الِاسْتِغْفَارُ النَّافِعُ، لَا اسْتِغْفَارَ مَنْ فِي يَدِهِ قَدَحُ السُّكْرِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ إِلَى فِيهِ، وَلَمْ تَكُنِ الْحَسَنَاتُ فِي كَمِّيَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا وَافِيَةً بِالتَّكْفِيرِ، وَلَا الْمَصَائِبُ، وَهَذَا إِمَّا لِعِظَمِ الْجِنَايَةِ، وَإِمَّا لِضَعْفِ الْمُمَحَّصِ، وَإِمَّا لَهُمَا - مُحِّصَ فِي الْبَرْزَخِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: صَلَاةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ الْجِنَازَةَ عَلَيْهِ، وَاسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ، وَشَفَاعَتُهُمْ فِيهِ. الثَّانِي: تَمْحِيصُهُ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَرَوْعَةِ الْفَتَّانِ، وَالْعَصْرَةِ وَالِانْتِهَارِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ.

الثَّالِثُ: مَا يُهْدِي إِخْوَانُهُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِ مِنْ هَدَايَا الْأَعْمَالِ، مِنَ الصَّدَقَةِ عَنْهُ، وَالْحَجِّ، وَالصِّيَامِ عَنْهُ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَنْهُ، وَالصَّلَاةِ، وَجَعْلِ ثَوَابِ ذَلِكَ لَهُ، وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى وُصُولِ الصَّدَقَةِ وَالدُّعَاءِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، وَمَا عَدَاهُمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ بِوُصُولِ الْحَجِّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إِنَّمَا يَصِلُ إِلَيْهِ ثَوَابُ الْإِنْفَاقِ، وَأَحْمَدُ وَمَنْ وَافَقَهُ مَذْهَبُهُمْ فِي ذَلِكَ أَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ، يَقُولُونَ: يَصِلُ إِلَيْهِ ثَوَابُ جَمِيعِ الْقُرَبِ، بِدَنِيِّهَا وَمَالِيَّهَا، وَالْجَامِعُ لِلْأَمْرَيْنِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ " يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ "، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» . فَإِنْ لَمْ تَفِ هَذِهِ بِالتَّمْحِيصِ، مُحِّصَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ فِي الْمَوْقِفِ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَهْوَالُ الْقِيَامَةِ، وَشِدَّةُ الْمَوْقِفِ، وَشَفَاعَةُ الشُّفَعَاءِ، وَعَفْوُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَإِنْ لَمْ تَفِ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ بِتَمْحِيصِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دُخُولِ الْكِيرِ، رَحْمَةً فِي حَقِّهِ لِيَتَخَلَّصَ وَيَتَمَحَّصَ، وَيَتَطَهَّرَ فِي النَّارِ، فَتَكُونَ النَّارُ طُهْرَةً لَهُ وَتَمْحِيصًا لِخَبَثِهِ، وَيَكُونَ مُكْثُهُ فِيهَا عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ الْخَبَثِ وَقِلَّتِهِ، وَشِدَّتِهِ وَضَعْفِهِ وَتَرَاكُمِهِ، فَإِذَا خَرَجَ خَبَثُهُ وَصُفِّيَ ذَهَبُهُ، وَصَارَ خَالِصًا طَيِّبًا، أُخْرِجَ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ. قَالَ: الثَّالِثُ يَعْنِي مِنْ مَرَاتِبِ الْيَقَظَةِ: الِانْتِبَاهُ لِمَعْرِفَةِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنَ الْأَيَّامِ، وَالتَّنَصُّلُ مِنْ تَضْيِيعِهَا، وَالنَّظَرُ إِلَى الظَّنِّ بِهَا لِتَدَارُكِ فَائِتِهِا، وَتَعْمِيرِ بَاقِيهَا. يَعْنِي أَنَّهُ يَعْرِفُ مَا مَعَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَيَتَدَارَكُ مَا فَاتَهُ فِي بَقِيَّةِ عُمْرِهِ الَّتِي لَا ثَمَنَ لَهَا، وَيَبْخَلُ بِسَاعَاتِهِ بَلْ بِأَنْفَاسِهِ عَنْ ذَهَابِهَا ضَيَاعًا فِي غَيْرِ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْخُسْرَانِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ النَّاسِ، مَعَ تَفَاوُتِهِمْ فِي قَدْرِهِ، قِلَّةً وَكَثْرَةً، فَكُلُّ نَفَسٍ يَخْرُجُ فِي غَيْرِ مَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْرَةٌ عَلَى الْعَبْدِ فِي مَعَادِهِ، وَوَقْفَةٌ لَهُ فِي طَرِيقِ سَيْرِهِ، أَوْ نَكْسَةٌ إِنِ اسْتَمَرَّ، أَوْ حِجَابٌ إِنِ انْقَطَعَ بِهِ.

قَالَ: فَأَمَّا مَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ فَإِنَّهَا تَصْفُو بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِنُورِ الْعَقْلِ، وَشَيْمٍ بِرَوْقِ الْمِنَّةِ، وَالِاعْتِبَارِ بِأَهْلِ الْبَلَاءِ. يَعْنِي أَنَّ حَقِيقَةَ مُشَاهَدَةِ النِّعْمَةِ يَصْفُو بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَهِيَ النُّورُ الَّذِي أَوْجَبَ الْيَقَظَةَ، فَاسْتَنَارَ الْقَلْبُ بِهِ لِرُؤْيَةِ التَّنَبُّهِ، وَعَلَى حَسَبِهِ قُوَّةً وَضَعْفًا تَصْفُو لَهُ مُشَاهَدَةُ النِّعْمَةِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَّا فِي مَأْكَلِهِ وَمَلْبَسِهِ، وَعَافِيَةِ بَدَنِهِ، وَقِيَامِ وَجْهِهِ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا النُّورِ الْبَتَّةَ، فَنِعْمَةُ اللَّهِ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَجَذْبِ عَبْدِهِ إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالتَّنَعُّمِ بِذِكْرِهِ، وَالتَّلَذُّذِ بِطَاعَتِهِ هُوَ أَعْظَمُ النِّعَمِ، وَهَذَا إِنَّمَا يُدْرَكُ بِنُورِ الْعَقْلِ، وَهِدَايَةِ التَّوْفِيقِ. وَكَذَلِكَ شَيْمُهُ بِرَوْقِ مِنَنِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَمُطَالَعَتُهَا مِنْ خِلَالِ سُحُبِ الطَّبْعِ، وَظُلُمَاتِ النَّفْسِ، وَالنَّظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبَلَاءِ وَهُمْ أَهْلُ الْغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ، وَالِابْتِدَاعِ فِي دِينِ اللَّهِ فَهَذَانَ الصِّنْفَانِ هُمْ أَهْلُ الْبَلَاءِ حَقًّا، فَإِذَا رَآهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي قَلْبِهِ، وَصَفَتْ لَهُ وَعَرَفَ قَدْرَهَا، فَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ وَبِضِدِّهَا تَتَمَيَّزُ الْأَشْيَاءُ. حَتَّى إِنَّ مِنْ تَمَامِ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ رُؤْيَةَ أَهْلِ النَّارِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ. قَالَ: وَأَمَّا مُطَالَعَةُ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِتَعْظِيمِ الْحَقِّ، وَمَعْرِفَةِ النَّفْسِ، وَتَصْدِيقِ الْوَعِيدِ. يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَمُلَتْ عَظَمَةُ الْحَقِّ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ عَظُمَتْ عِنْدَهُ مُخَالَفَتُهُ، لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَظِيمِ لَيْسَتْ كَمُخَالَفَةِ مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَمَنْ عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ وَحَقِيقَتَهَا، وَفَقْرَهَا الذَّاتِيَّ إِلَى مَوْلَاهَا الْحَقِّ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَنَفَسٍ، وَشِدَّةَ حَاجَتِهَا إِلَيْهِ، عَظُمَتْ عِنْدَهُ جِنَايَةُ الْمُخَالَفَةِ لِمَنْ هُوَ شَدِيدُ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَنَفَسٍ. وَأَيْضًا فَإِذَا عَرَفَ حَقَارَتَهَا مَعَ عِظَمِ قَدْرِ مَنْ خَالَفَهُ عَظُمَتِ الْجِنَايَةُ عِنْدَهُ، فَشَمَّرَ فِي التَّخَلُّصِ مِنْهَا، وَبِحَسَبِ تَصْدِيقِهِ بِالْوَعِيدِ وَيَقِينِهِ بِهِ، يَكُونُ تَشْمِيرُهُ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الْجِنَايَةِ الَّتِي تَلْحَقُ بِهِ. وَمَدَارُ السَّعَادَةِ، وَقُطْبُ رَحَاهَا عَلَى التَّصْدِيقِ بِالْوَعِيدِ، فَإِذَا تَعَطَّلَ مِنْ قَلْبِهِ التَّصْدِيقُ بِالْوَعِيدِ خَرِبَ خَرَابًا لَا يُرْجَى مَعَهُ فَلَاحٌ الْبَتَّةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا تَنْفَعُ

الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ لِمَنْ صَدَّقَ بِالْوَعِيدِ، وَخَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالْإِنْذَارِ، وَالْمُنْتَفِعُونَ بِالْآيَاتِ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} [هود: 103] وَقَالَ {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] وَقَالَ {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ أَهْلَ النَّجَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هُمُ الْمُصَدِّقُونَ بِالْوَعِيدِ، الْخَائِفُونَ مِنْهُ، فَقَالَ تَعَالَى {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14] . قَالَ: وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنَ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا تَسْتَقِيمُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: سَمَاعُ الْعِلْمِ، وَإِجَابَةُ دَاعِي الْحُرْمَةِ، وَصُحْبَةُ الصَّالِحِينَ، وَمِلَاكُ ذَلِكَ كُلِّهِ خَلْعُ الْعَادَاتِ. يَعْنِي أَنَّ السَّالِكَ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِمَرَاتِبِ الْأَعْمَالِ، وَنَفَائِسِ الْكَسْبِ، تَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي حَالِهِ وَإِيمَانِهِ، وَكَذَلِكَ تَفَقُّدُ إِجَابَةِ دَاعِي تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللَّهِ مِنْ قَلْبِهِ هَلْ هُوَ سَرِيعُ الْإِجَابَةِ لَهَا، أَمْ هُوَ بَطِيءٌ عَنْهَا؟ فَبِحَسَبِ إِجَابَةِ الدَّاعِي سُرْعَةً وَإِبْطَاءً تَكُونُ زِيَادَتُهُ وَنُقْصَانُهُ. وَكَذَلِكَ صُحْبَةُ أَرْبَابِ الْعَزَائِمِ، وَالْمُشَمِّرِينَ إِلَى اللَّحَاقِ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى يَعْرِفُ بِهِ مَا مَعَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَالَّذِي يَمْلِكُ بِهِ ذَلِكَ كُلَّهُ خُرُوجُهُ عَنِ الْعَادَاتِ وَالْمَأْلُوفَاتِ، وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى مُفَارَقَتِهَا، وَالْغُرْبَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ، وَمَا عَلَى الْعَبْدِ أَضَرُّ مِنْ مِلْكِ الْعَادَاتِ لَهُ، وَمَا عَارَضَ الْكُفَّارُ الرُّسُلَ إِلَّا بِالْعَادَاتِ الْمُسْتَقِرَّةِ، الْمَوْرُوثَةِ لَهُمْ عَنِ الْأَسْلَافِ الْمَاضِينَ، فَمَنْ لَمْ يُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى مُفَارَقَتِهَا وَالْخُرُوجِ عَنْهَا، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْمَطْلُوبِ مِنْهُ، فَهُوَ مَقْطُوعٌ، وَعَنْ فَلَاحِهِ وَفَوْزِهِ مَمْنُوعٌ {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] .

فصل الفكرة

[فَصْلٌ الْفِكْرَةُ] فَإِذَا اسْتَحْكَمَتْ يَقَظَتُهُ أَوْجَبَتْ لَهُ الْفِكْرَةَ، وَهِيَ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْدِيقُ الْقَلْبِ إِلَى جِهَةِ الْمَطْلُوبِ الْتِمَاسًا لَهُ. وَصَاحِبُ الْمَنَازِلِ جَعَلَهَا بَعْدَ الْبَصِيرَةِ وَقَالَ فِي حَدِّهَا: هِيَ تَلَمُّسُ الْبَصِيرَةِ لِاسْتِدْرَاكِ الْبُغْيَةِ، أَيِ الْتِمَاسُ الْعَقْلِ الْمَطْلُوبِ بِالتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ. قَالَ: وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: فِكْرَةٌ فِي عَيْنِ التَّوْحِيدِ، وَفِكْرَةٌ فِي لَطَائِفِ الصَّنْعَةِ، وَفِكْرَةٌ فِي مَعَانِي الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ. قُلْتُ: الْفِكْرَةُ فِكْرَتَانِ: فِكْرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَفِكْرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ. فَالَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فِكْرَةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالثَّابِتِ وَالْمَنْفِيِّ، وَالَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ هِيَ الْفِكْرَةُ الَّتِي تُمَيِّزُ بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّارِّ. ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِكْرَةٌ أُخْرَى فِي الطَّرِيقِ إِلَى حُصُولِ مَا يَنْفَعُ، فَيَسْلُكُهَا، وَالطَّرِيقِ إِلَى مَا يَضُرُّ فَيَتْرُكُهَا. فَهَذِهِ سِتَّةُ أَقْسَامٍ لَا سَابِعَ لَهَا، هِيَ مَجَالُ أَفْكَارِ الْعُقَلَاءِ. فَالْفِكْرَةُ فِي التَّوْحِيدِ اسْتِحْضَارُ أَدِلَّتِهِ، وَشَوَاهِدِ الدِّلَالَةِ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَاسْتِحَالَتِهِ، وَأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُهَا لِاثْنَيْنِ، كَمَا يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُ الرُّبُوبِيَّةِ لِاثْنَيْنِ فَكَذَلِكَ مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ عِبَادَةُ اثْنَيْنِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اثْنَيْنِ، بَلْ لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلْإِلَهِ الْحَقِّ، وَالرَّبِّ الْحَقِّ، وَهُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.

وَقَدْ خَبَطَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَجَاءَ بِمَا يَرْغَبُ عَنْهُ الْكُمَّلُ مِنْ سَادَاتِ السَّالِكِينَ وَالْوَاصِلِينَ إِلَى اللَّهِ. فَقَالَ: الْفِكْرَةُ فِي عَيْنِ التَّوْحِيدِ اقْتِحَامُ بَحْرِ الْجُحُودِ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي أَصَّلَهُ، وَانْتَهَى إِلَيْهِ كِتَابُهُ فِي أَمْرِ الْفَنَاءِ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ الْفِكْرَةَ فِي عَيْنِ التَّوْحِيدِ تُبْعِدُ الْعَبْدَ مِنَ التَّوْحِيدِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُ، لِأَنَّ التَّوْحِيدَ الصَّحِيحَ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ فَنَاءِ الْفِكْرَةِ وَالتَّفَكُّرِ، وَالْفِكْرَةُ تَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ رَسْمٍ لِاسْتِلْزَامِهَا مُفَكِّرًا، وَفِعْلًا قَائِمًا بِهِ، وَالتَّوْحِيدُ التَّامُّ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ مَعَ بَقَاءِ رَسْمٍ أَصْلًا، كَانَتِ الْفِكْرَةُ عِنْدَهُ عَلَامَةَ الْجُحُودِ، وَاقْتِحَامًا لِبَحْرِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي أَبْيَاتِهِ فِي آخِرِ الْكِتَابِ: مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ ... إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ ... عَارِيَّةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ ... وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ وَمَعْنَى أَبْيَاتِهِ: مَا وَحَدَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدٌ حَقَّ تَوْحِيدِهِ الْخَاصِّ، الَّذِي تُنْفَى فِيهِ الرُّسُومُ، وَيَضْمَحِلُّ فِيهِ كُلُّ حَادِثٍ، وَيَتَلَاشَى فِيهِ كُلُّ مُكَوَّنٍ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ التَّوْحِيدُ إِلَّا بِبَقَاءِ الرَّسْمِ، وَهُوَ الْمُوَحِّدُ، وَتَوْحِيدُهُ الْقَائِمُ بِهِ، فَإِذَا وَحَّدَهُ شَهِدَ فِعْلَهُ الْحَادِثَ وَرَسْمَهُ الْحَادِثَ، وَذَلِكَ جُحُودٌ لِحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، الَّذِي تُنْفَى فِيهِ الرُّسُومُ، وَتَتَلَاشَى فِيهِ الْأَكْوَانُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدٌ، هَذَا أَحْسُنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ، وَقَدْ فَسَّرَهُ أَهْلُ الْوَحْدَةِ بِصَرِيحِ كَلَامِهِمْ فِي مَذْهَبِهِمْ. قَالُوا: مَعْنَى " كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدٌ " أَيْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ فَقَدْ وَصَفَ الْمُوَحَّدَ بِصِفَةٍ تَتَضَمَّنُ جَحْدَ حَقِّهِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ انْحِصَارِهِ تَحْتَ الْأَوْصَافِ، فَمَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ جَحَدَ إِطْلَاقَهُ عَنْ قُيُودِ الصِّفَاتِ. وَقَوْلُهُ " تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ " أَيْ تَوْحِيدُ الْمُحْدِثِ لَهُ النَّاطِقِ عَنْ نَعْتِهِ، عَارِيَّةٌ مُسْتَرَدَّةٌ، فَإِنَّهُ الْمُوَحَّدُ قَبْلَ تَوْحِيدِ هَذَا النَّاطِقِ، وَبَعْدَ فَنَائِهِ، فَتَوْحِيدُهُ لَهُ عَارِيَّةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ الْحَقُّ بِإِفْنَائِهِ كُلَّ مَا سِوَاهُ.

مراد الفناء

وَالِاتِّحَادِيُّ يَقُولُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُوَحَّدَ وَاحِدٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَأَبْطَلَ بِبَسَاطَةِ ذَاتِهِ تَرْكِيبَ نُطْقِ وَاصِفِهِ، وَأَبْطَلَ بِإِطْلَاقِهِ تَقْيِيدَ نَعْتِ مُوَحِّدِهِ. وَقَوْلُهُ " تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ " يَعْنِي أَنَّ تَوْحِيدَهُ الْحَقِيقِيَّ هُوَ تَوْحِيدُهُ لِنَفْسِهِ، حَيْثُ لَا هُنَاكَ رَسْمٌ وَلَا مُكَوَّنٌ، فَمَا وَحَدَّ اللَّهَ حَقِيقَةً إِلَّا اللَّهُ. وَالِاتِّحَادِيُّ يَقُولُ: مَا ثَمَّ غَيْرٌ يُوَحِّدُهُ، بَلْ هُوَ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، إِذْ لَيْسَ ثَمَّ سِوًى فِي الْحَقِيقَةِ. قَوْلُهُ " وَنَعَتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدٌ " أَيْ نَعْتُ النَّاعِتِ لَهُ مَيْلٌ وَخُرُوجٌ عَنِ التَّوْحِيدِ الْحَقِيقِيِّ، وَالْإِلْحَادُ أَصْلُهُ الْمَيْلُ، لِأَنَّهُ بِنَعْتِهِ لَهُ قَائِمٌ بِالرُّسُومِ، وَبَقَاءُ الرُّسُومِ يُنَافِي تَوْحِيدَهُ الْحَقِيقِيَّ. وَالِاتِّحَادِيُّ يَقُولُ: نَعْتُ النَّاعِتِ لَهُ شِرْكٌ، لِأَنَّهُ أَسْنَدَ إِلَى الْمُطْلَقِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ إِسْنَادُهُ مِنَ التَّقْيِيدِ، وَذَلِكَ شِرْكٌ وَإِلْحَادٌ. فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي إِسْمَاعِيلَ، فَتَحَ لِلزَّنَادِقَةِ بَابَ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ، فَدَخَلُوا مِنْهُ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: إِنَّهُ لَمِنْهُمْ، وَمَا هُوَ مِنْهُمْ، وَغَرَّهُ سَرَابُ الْفَنَاءِ، فَظَنَّ أَنَّهُ لُجَّةُ بَحْرِ الْمَعْرِفَةِ، وَغَايَةُ الْعَارِفِينَ، وَبَالَغَ فِي تَحْقِيقِهِ وَإِثْبَاتِهِ، فَقَادَهُ قَسْرًا إِلَى مَا تَرَى. الْفَنَاءُ [مُرَادُ الْفَنَاءِ] الفَنَاءُ " وَالْفَنَاءُ " الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ، وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ: أَنْ تَذْهَبَ الْمُحْدَثَاتُ فِي شُهُودِ

الْعَبْدِ، وَتَغِيبَ فِي أُفُقِ الْعَدَمِ، كَمَا كَانَتْ قَبْلَ أَنْ تُوجَدَ، وَيَبْقَى الْحَقُّ تَعَالَى كَمَا لَمْ يَزَلْ، ثُمَّ تَغِيبُ صُورَةُ الْمُشَاهَدِ وَرَسْمُهُ أيْضًا، فَلَا يَبْقَى لَهُ صُورَةٌ وَلَا رَسْمٌ، ثُمَّ يَغِيبُ شُهُودُهُ أيْضًا، فَلَا يَبْقَى لَهُ شُهُودٌ، وَيَصِيرُ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يُشَاهِدُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ، كَمَا كَانَ الْأَمْرُ قَبْلَ إِيجَادِ الْمُكَوَّنَاتِ، وَحَقِيقَتُهُ: أَنْ يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ، وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: هُوَ اضْمِحْلَالُ مَا دُونَ الْحَقِّ عِلْمًا، ثُمَّ جَحْدًا، ثُمَّ حَقًّا، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: فَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ عِلْمًا، وَفَنَاءُ الْعِيَانِ فِي الْمُعَايِنِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ جَحْدًا، وَفَنَاءُ الطَّلَبِ فِي الْوُجُودِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ حَقًّا. الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: فَنَاءُ شُهُودِ الطَّلَبِ لِإِسْقَاطِهِ، وَفَنَاءُ شُهُودِ الْمَعْرِفَةِ لِإِسْقَاطِهَا، وَفَنَاءُ شُهُودِ الْعِيَانِ لِإِسْقَاطِهِ. الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ الْفَنَاءِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ حَقًّا، شَائِمًا بَرْقَ الْعَيْنِ، رَاكِبًا بَحْرَ الْجَمْعِ، سَالِكًا سَبِيلَ الْبَقَاءِ. فَنَذْكُرُ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، ثُمَّ نُتْبِعُهُ ذِكْرَ أَقْسَامِ الْفَنَاءِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَنَاءِ الْمَحْمُودِ، الَّذِي هُوَ فَنَاءُ خَاصَّةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالْفِنَاءِ الْمَذْمُومِ الَّذِي هُوَ فَنَاءُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ، الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَفَنَاءِ الْمُتَوَسِّطِينَ الْنَاقِصِينَ عَنْ دَرَجَةِ الْكَمَالِ، بِعَوْنِ اللَّهِ وَحَوْلِهِ وَتَأْيِيدِهِ. فَقَوْلُهُ: الْفَنَاءُ اضْمِحْلَالُ مَا دُونُ الْحَقِّ جَحْدًا، لَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ يُعْدَمُ مِنَ الْوُجُودِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ اضْمِحْلَالَهُ فِي الْعِلْمِ، فَيَعْلَمَ أَنَّ مَا دُونَهُ بَاطِلٌ، وَأَنَّ وُجُودَهُ بَيْنَ

عَدَمَيْنِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ إِلَّا الْعَدَمُ، فَعَدَمُهُ بِالذَّاتِ، وَوُجُودُهُ بِإِيجَادِ الْحَقِّ لَهُ، فَيَفْنَى فِي عِلْمِهِ، كَمَا كَانَ فَانِيًا فِي حَالِ عَدَمِهِ، فَإِذَا فَنِيَ فِي عِلْمِهِ ارْتَقَى إِلَى دَرَجَةٍ أُخْرَى فَوْقَ ذَلِكَ، وَهِيَ جَحْدُ السِّوَى وَإِنْكَارُهُ، وَهَذِهِ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى، لِأَنَّهَا غَيَّبَتْهُ عَنِ السِّوَى، فَقَدْ يَغِيبُ عَنْهُ وَهُوَ غَيْرُ جَاحِدٍ لَهُ، وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ جَحْدُهُ وَإِنْكَارُهُ. وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ الِاتِّحَادِيُّ، وَقَالَ: الْمُرَادُ جَحْدُ السِّوَى بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ غَيْرٌ بِوَجْهٍ مَا. وَحَاشَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ مِنْ إِلْحَادِ أَهْلِ الِاتِّحَادِ، وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَتُهُ مُوهِمَةً، بَلْ مُفْهِمَةٌ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْجَحْدِ فِي الشُّهُودِ، لَا فِي الْوُجُودِ، أَيْ يَجْحَدُهُ أَنْ يَكُونَ مَشْهُودًا، فَيَجْحَدَ وُجُودَهُ الشُّهُودِيَّ الْعِلْمِيَّ، لَا وُجُودَهُ الْعَيْنِيَّ الْخَارِجِيَّ، فَهُوَ أوْلًا يَغِيبُ عَنْ وُجُودِهِ الشُّهُودِيِّ الْعِلْمِيِّ، ثُمَّ يُنْكِرُ ثَانِيًا وَجُودَهُ فِي عِلْمِهِ، وَهُوَ اضْمِحْلَالُهُ جَحْدًا، ثُمَّ يَرْتَقِي مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلَى دَرَجَةٍ أُخْرَى أَبْلَغَ مِنْهَا، وَهِيَ اضْمِحْلَالُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا وُجُودُهُ قَائِمٌ بِوُجُودِ الْحَقِّ، فَلَوْلَا وُجُودُ الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ هُوَ مَوْجُودًا، فَفِي الْحَقِيقَةِ: الْمَوْجُودُ إِنَّمَا هُوَ الْحَقُّ وَحْدَهُ، وَالْكَائِنَاتُ مِنْ أَثَرِ وَجُودِهِ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ " إِنَّهَا لَا وُجُودَ لَهَا وَلَا أَثَرَ لَهَا، وَإِنَّهَا مَعْدُومَةٌ وَفَانِيَةٌ وَمُضْمَحِلَّةٌ ". وَالِاتِّحَادِيُّ يَقُولُ: إِنَّ السَّالِكَ فِي أَوَّلِ سُلُوكِهِ يَرَى أَنَّهُ لَا فَاعِلَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ، فَهَذَا تَوْحِيدُ الْعِلْمِ، وَلَا يَقْدِرُ فِي طَوْرِهِ الْأَوَّلِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْ هَذَا إِلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ شُهُودُ عَوْدِ الْأَفْعَالِ إِلَى الصِّفَاتِ، وَالصِّفَاتِ إِلَى الذَّاتِ، فَعَادَ الْأَمْرُ كُلُّهُ إِلَى الذَّاتِ، فَيَجْحَدُ وُجُودَ السِّوَى بِالْكُلِّيَّةِ، فَهَذَا هُوَ الِاضْمِحْلَالُ جَحْدًا، ثُمَّ يَرْتَقِي عَنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ الَّذِي تَغْرَقُ فِيهِ الْأَفْعَالُ وَالْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا أَمْرٌ مُطْلَقٌ لَا يَتَقَيَّدُ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ وَلَا صِفَةٍ، قَدِ اضْمَحَلَّ فِيهِ كُلُّ مَعْنًى وَقَيْدٍ وَصِفَةٍ وَرَسْمٍ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ غَايَةُ السَّفَرِ الْأَوَّلِ، فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ فِي السَّفَرِ الثَّانِي، وَهُوَ الْبَقَاءُ.

قَوْلُهُ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: فَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ. يُرِيدُ اضْمِحْلَالَ مَعْرِفَتِهِ وَتَلَاشِيهَا فِي مَعْرُوفِهِ، وَأَنْ يَغِيبَ بِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، كَمَا يَغِيبُ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَبِمَحْبُوبِهِ عَنْ حُبِّهِ، وَبِمُخَوِّفِهِ عَنْ خَوْفِهِ، وَهَذَا لَا رَيْبَ فِي إِمْكَانِهِ وَوُقُوعِهِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا امْتَلَأَ بِشَيْءٍ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مُتَّسَعٌ لِغَيْرِهِ، وَأَنْتَ تَرَى الرَّجُلَ يُشَاهِدُ مَحْبُوبَهُ الَّذِي قَدِ اسْتَغْرَقَ فِي حُبِّهِ، بِحَيْثُ تَخَلَّلَ حُبُّهُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ قَلْبِهِ، أَوْ يُشَاهِدُ الْمُخَوِّفَ الَّذِي امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِخَوْفِهِ، فَتَرَاهُ دَهِشًا عَنْ شُعُورِهِ بِحُبِّهِ أَوْ خَوْفِهِ، لِاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْمَحْبُوبِ أَوِ الْمُخَوِّفِ عَلَى قَلْبِهِ، وَعَدَمِ اتِّسَاعِهِ لِشُهُودِ غَيْرِهِ الْبَتَّةَ، لَكِنَّ هَذَا لِنَقْصِهِ لَا لِكَمَالِهِ، وَالْكَمَالُ وَرَاءَ ذَلِكَ، فَلَا أَحَدَ أَعْظَمُ مَحَبَّةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْخَلِيلَيْنِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَانَتْ حَالُهُمَا أَكْمَلَ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ، وَشُهُودُ الْعُبُودِيَّةِ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَبْلَغُ مِنَ الْغَيْبَةِ عَنْهَا بِشُهُودِ الْمَعْبُودِ، فَشُهُودُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَعْبُودِ دَرَجَةُ الْكُمَّلِ، وَالْغَيْبَةُ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ لِلنَّاقِصِينَ، فَكَمَا أَنَّ الْغَيْبَةَ بِالْعِبَادَةِ عَنِ الْمَعْبُودِ نَقْصٌ، فَكَذَلِكَ الْغَيْبَةُ بِالْمَعْبُودِ عَنْ عِبَادَتِهِ نَقْصٌ، حَتَّى إِنَّ مِنَ الْعَارِفِينَ مَنْ لَا يَعْتَدُّ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَيَرَى وُجُودَهَا عَدَمًا، وَيَقُولُ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ عُبُودِيَّةِ النَّائِمِ وَزَائِلِ الْعَقْلِ، لَا يُعْتَدُّ بِهَا، وَلَمْ يُبْعِدْ هَذَا الْقَائِلُ. فَالْحَقُّ تَعَالَى مُرَادُهُ مِنْ عَبْدِهِ اسْتِحْضَارُ عُبُودِيَّتِهِ، لَا الْغَيْبَةُ عَنْهَا، وَالْعَامِلُ عَلَى الْغَيْبَةِ عَنْهَا عَامِلٌ عَلَى مُرَادِهِ مِنَ اللَّهِ، وَعَلَى حَظِّهِ وَالتَّنَعُّمِ بِالْفَنَاءِ فِي شُهُودِهِ، لَا عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ، وَبَيْنَهُمَا مَا بَيْنَهُمَا. فَكَيْفَ يَكُونُ قَائِمًا بِحَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ مَنْ يَقُولُ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " وَلَا شُعُورَ لَهُ بِعُبُودِيَّتِهِ الْبَتَّةَ؟ بَلْ حَقِيقَةُ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَقَصْدًا وَإِرَادَةً وَعَمَلًا، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي وَادِي الْفَنَاءِ، وَمَنْ لَهُ ذَوْقٌ يَعْرِفُ هَذَا وَهَذَا. قَوْلُهُ: وَفَنَاءُ الْعِيَانِ فِي الْمُعَايَنِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ جَحْدًا. لَمَّا كَانَ مَا قَبْلَ هَذَا فَنَاءَ الْعِلْمِ فِي الْمَعْلُومِ، وَالْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ، وَالْعِيَانُ فَوْقَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، إِذْ نِسْبَتُهُ إِلَى الْعِلْمِ كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَيْهِ كَانَ الْفَنَاءُ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَنَاءَ عِيَانِهِ فِي مُعَايَنِهِ، وَمَحْوَ أَثَرِهِ وَاضْمِحْلَالَ رَسْمِهِ. قَوْلُهُ: وَفَنَاءُ الطَّلَبِ فِي الْمَوْجُودِ وَهُوَ الْفَنَاءُ حَقًّا. يُرِيدُ: أَنَّهُ لَا يَبْقَى لِصَاحِبِ هَذَا الْعِيَانِ طَلَبٌ، لِأَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِمَوْجُودِهِ وَمَطْلُوبِهِ، وَطَلَبُ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَطْلُبُ الْمَفْقُودَ عَنِ الْعِيَانِ لَا الْمَوْجُودَ، فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي عِيَانِهِ وَشُهُودِهِ فَنِيَ الطَّلَبُ حَقًّا.

قَوْلُهُ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: فَنَاءُ شُهُودِ الطَّلَبِ لِإِسْقَاطِهِ، وَفَنَاءُ شُهُودِ الْمَعْرِفَةِ لِإِسْقَاطِهَا، وَفَنَاءُ شُهُودِ الْعِيَانِ لِإِسْقَاطِهِ. يُرِيدُ أَنَّ الطَّلَبَ يَسْقُطُ، فَيَشْهَدُ الْعَبْدُ عَدَمَهُ، فَهَاهُنَا أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ أَحَدُهَا: فَنَاءُ الطَّلَبِ وَسُقُوطُهُ، ثُمَّ شُهُودُ سُقُوطِهِ، ثُمَّ سُقُوطُ شُهُودِهِ. فَهَذَا هُوَ فَنَاءُ شُهُودِ الطَّلَبِ لِإِسْقَاطِهِ. وَأَمَّا فَنَاءُ شُهُودِ الْمَعْرِفَةِ لِإِسْقَاطِهَا، فَيُرِيدُ بِهِ: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ تُسْقِطُهُ فِي شُهُودِ الْعِيَانِ، إِذْ هُوَ فَوْقَهَا، وَهِيَ تَفْنَى فِيهِ، فَيَشْهَدُ سُقُوطَهَا فِي الْعِيَانِ، ثُمَّ يَسْقُطُ شُهُودُ سُقُوطِهَا. وَصَاحِبُ الْمَنَازِلِ يَرَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ قَدْ يَصْحَبُهَا شَيْءٌ مِنْ حِجَابِ الْعِلْمِ، وَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ الْحِجَابُ إِلَّا بِالْعِيَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْنَى فِي حَقِّهِ الْمَعَارِفُ، فَيَشْهَدُ فَنَاءَهَا وَسُقُوطَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْهِ بَعْدُ بَقِيَّةٌ، لَا تَزُولُ عَنْهُ حَتَّى يَسْقُطَ شُهُودُ فَنَائِهَا وَسُقُوطِهَا مِنْهُ، فَالْعَارِفُ يُخَالِطُهُ بَقِيَّةٌ مِنَ الْعِلْمِ لَا تَزُولُ إِلَّا بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْمُعَايِنُ قَدْ يُخَالِطُهُ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمَعْرِفَةِ لَا تَزُولُ إِلَّا بِشُهُودِ سُقُوطِهَا، ثُمَّ سُقُوطِ شُهُودِ هَذَا السُّقُوطَ. وَأَمَّا فَنَاءُ شُهُودِ الْعِيَانِ لِإِسْقَاطِهِ، فَيَعْنِي أَنَّ الْعِيَانَ أيْضًا يَسْقُطُ فَيُشْهَدُ الْعَبْدُ سَاقِطًا، فَلَا يَبْقَى إِلَّا الْمُعَايَنُ وَحْدَهُ. قَالَ الِاتِّحَادِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ يَرَى مَذْهَبَ أَهْلِ الْوَحْدَةِ، لِأَنَّ الْعِيَانَ إِنَّمَا يَسْقُطُ فِي مَبَادِئِ حَضْرَةِ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: مُعَايَنٌ، وَمُعَايِنٌ، وَمُعَايَنَةٌ، وَحَضْرَةُ الْجَمْعِ تَنْفِي التِّعْدَادِ. وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ: فَنَاءُ شُهُودِ الْعِيَانِ، فَيَفْنَى عَنْ

مُشَاهَدَةِ الْمُعَايَنَةِ، وَيَغِيبُ بِمُعَايِنِهِ عَنْ مُعَايَنَتِهِ، لِأَنَّ مُرَادَهُ انْتِفَاءُ التَّعَدُّدِ، وَالتَّغَايُرُ بَيْنَ الْمُعَايَنِ وَالْمُعَايِنِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ: انْتِفَاءُ الْحَاجِبِ عَنْ دَرَجَةِ الشُّهُودِ، لَا عَنْ حَقِيقَةِ الْوُجُودِ، وَلَكِنَّهُ بَابٌ لِإِلْحَادِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ، مِنْهُ يَدْخُلُونَ. وَفَرْقٌ بَيْنَ إِسْقَاطِ الشَّيْءِ عَنْ دَرَجَةِ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ الشُّهُودِيِّ، وَإِسْقَاطِهِ عَنْ رُتْبَةِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ الْعَيْنِيِّ، فَشَيْخُ الْإِسْلَامِ بَلْ مَشَايِخُ الْقَوْمِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِلِسَانِ الْفَنَاءِ هَذَا مُرَادُهُمْ. وَأَمَّا أَهْلُ الْوَحْدَةِ، فَمُرَادُهُمْ: أَنَّ حَضْرَةَ الْجَمْعِ وَالْوَحْدَةِ تَنْفِي التَّعَدُّدَ وَالتَّقْيِيدَ فِي الشُّهُودِ وَالْوُجُودِ، بِحَيْثُ يَبْقَى الْمَعْرُوفُ وَالْمَعْرِفَةُ وَالْعَارِفُ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، لَا بَلْ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُ الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ وَالْعَقْلُ وَالْمَعْرِفَةُ حُجُبٌ، بَعْضُهَا أَغْلَظُ مِنْ بَعْضٍ، وَلَا يَصِيرُ السَّالِكُ عِنْدَهُمْ مُحَقِّقًا حَتَّى يَخْرِقَ حِجَابَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْعَقْلِ، فَحِينَئِذٍ يُفْضِي إِلَى مَا وَرَاءَ الْحِجَابِ مِنْ شُهُودِ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي لَا تَتَقَيَّدُ بِقَيْدٍ، وَلَا تَخْتَصُّ بِوَصْفٍ. قَوْلُهُ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ الْفَنَاءِ. أَيْ يَشْهَدُ فَنَاءَ كُلِّ مَا سِوَى الْحَقِّ تَعَالَى فِي وُجُودِ الْحَقِّ، ثُمَّ يَشْهَدُ الْفَنَاءَ قَدْ فَنِيَ أيْضًا، ثُمَّ يَفْنَى عَنْ شُهُودِ الْفَنَاءِ، فَذَلِكَ هُوَ الْفَنَاءُ حَقًّا. وَقَوْلُهُ: شَائِمًا بَرْقَ الْعَيْنِ. يَعْنِي نَاظِرًا إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ، فَإِذَا شَامَ بَرْقَهُ مِنْ بُعْدٍ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى رُكُوبِ لُجَّةِ بِحْرِ الْجَمْعِ، وَرُكُوبُهُ إِيَّاهَا هُوَ فَنَاؤُهُ فِي جَمْعِهِ. وَيَعْنِي بِالْجَمْعِ: الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ وَالْقَدَرِيَّةَ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا جَمِيعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ، وَتَشْمِيرُ الْقَوْمِ إِلَى شُهُودِهَا وَالِاسْتِغْرَاقِ وَالْفَنَاءِ فِيهَا هُوَ غَايَةُ السُّلُوكِ وَالْمَعْرِفَةِ عِنْدَهُمْ. وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَدْخُلُ بِهَذَا الْفَنَاءِ وَالشُّهُودِ فِي الْإِسْلَامِ،

فصل الفناء أقسامه ومراتبه

فَضْلًا أَنْ يَكُونَ بِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَضْلًا أَنْ يَكُونَ بِهِ مِنْ خَاصَّةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ، فَإِنَّ هَذَا شُهُودٌ مُشْتَرَكٌ لِأَمْرٍ أَقَرَّ بِهِ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ وَسَائِرُ أَهْلِ الْمِلَلِ أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] فَالِاسْتِغْرَاقُ وَالْفَنَاءُ فِي شُهُودِ هَذَا الْقَدْرِ غَايَةُ التَّحْقِيقِ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَلَمْ يَدْخُلُوا بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَتَمَيَّزَ بِهِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلَا يُحِبَّ سِوَاهُ، وَلَا يَتَوَكَّلَ عَلَى غَيْرِهِ. وَالْفَنَاءُ فِي هَذَا التَّوْحِيدِ: هُوَ فَنَاءُ خَاصَّةِ الْمُقَرَّبِينَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. [فَصْلٌ الْفَنَاءُ أَقْسَامُهُ وَمَرَاتِبُهُ] إِذَا عَرَفْتَ مُرَادَ الْقَوْمِ بِالْفَنَاءِ، فَنَذْكُرُ أَقْسَامَهُ وَمَرَاتِبَهُ، وَمَمْدُوحَهُ وَمَذْمُومَهُ وَمُتَوَسِّطَهُ. فَاعْلَمْ أَنَّ الْفَنَاءَ مَصْدَرُ فَنِيَ يَفْنَى فَنَاءً إِذَا اضْمَحَلَّ وَتَلَاشَى وَعُدِمَ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا تَلَاشَتْ قُوَاهُ وَأَوْصَافُهُ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: لَا يُقْتَلُ فِي الْمَعْرَكَةِ شَيْخٌ فَانٍ، وَقَالَ تَعَالَى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] أَيْ هَالِكٌ ذَاهِبٌ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ اصْطَلَحُوا عَلَى وَضْعِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ لِتَجْرِيدِ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَالْغَيْبَةِ عَنْ شُهُودِ الْكَائِنَاتِ. وَهَذَا الِاسْمُ يُطْلَقُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: الْفَنَاءُ عَنْ وُجُودِ السِّوَى، وَالْفِنَاءِ عَنْ شُهُودِ السِّوَى، وَالْفِنَاءِ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى. فَأَمَّا الْفَنَاءُ عَنْ وُجُودِ السِّوَى: فَهُوَ فَنَاءُ الْمَلَاحِدَةِ، الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ غَيْرٌ، وَأَنَّ غَايَةَ الْعَارِفِينَ وَالسَّالِكِينَ الْفَنَاءُ فِي الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَنَفِيُ التَّكَثُّرِ وَالتَّعَدُّدِ عَنِ الْوُجُودِ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، فَلَا يَشْهَدُ غَيْرًا أصْلًا، بَلْ يَشْهَدُ وُجُودَ الْعَبْدِ عَيْنَ وُجُودِ الرَّبِّ، بَلْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ رَبٌّ وَعَبْدٌ. وَفَنَاءُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ فِي شُهُودِ الْوُجُودِ كُلِّهِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْوَاجِبُ بِنَفْسِهِ، مَا ثَمَّ وُجُودَانِ مُمْكِنٌ، وَوَاجِبٌ، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ كَوْنِ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ بِاللَّهِ، وَبَيْنَ كَوْنِ وُجُودِهَا هُوَ عَيْنُ وُجُودِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فُرْقَانٌ بَيْنَ الْعَالَمِينَ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ وَيَجْعَلُونَ

الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لِلْمَحْجُوبِينَ عَنْ شُهُودِهِمْ وَفَنَائِهِمْ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ تَلْبِيسٌ عِنْدَهُمْ، وَالْمَحْجُوبُ عِنْدَهُمْ يَشْهَدُ أَفْعَالَهُ طَاعَاتٍ أَوْ مَعَاصِيَ، مَا دَامَ فِي مَقَامِ الْفَرْقِ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ دَرَجَتُهُ شَهِدَ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا طَاعَاتٍ، لَا مَعْصِيَةَ فِيهَا، لِشُهُودِهِ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ الشَّامِلَةَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ دَرَجَتُهُ عِنْدَهُمْ فَلَا طَاعَةَ وَلَا مَعْصِيَةَ، بَلِ ارْتَفَعَتِ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي، لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ اثْنَيْنِيَّةً وَتَعَدُّدًا، وَتَسْتَلْزِمُ مُطِيعًا وَمُطَاعًا، وَعَاصِيًا وَمَعْصِيًّا، وَهَذَا عِنْدَهُمْ مَحْضُ الشِّرْكِ، وَالتَّوْحِيدُ الْمَحْضُ يَأْبَاهُ، فَهَذَا فَنَاءُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ. وَأَمَّا الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى: فَهُوَ الْفَنَاءُ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَيَعُدُّونَهُ غَايَةً، وَهُوَ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ كِتَابَهُ وَجَعَلَهُ الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهِ. وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ فَنَاءَ وُجُودِ مَا سِوَى اللَّهِ فِي الْخَارِجِ، بَلْ فَنَاؤُهُ عَنْ شُهُودِهِمْ وَحِسِّهِمْ، فَحَقِيقَتُهُ: غَيْبَةُ أَحَدِهِمْ عَنْ سِوَى مَشْهُودِهِ، بَلْ غَيْبَتُهُ أيْضًا عَنْ شُهُودِهِ وَنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يَغِيبُ بِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَبِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ، وَبِمَحْبُوبِهِ عَنْ حُبِّهِ، وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ. وَقَدْ يُسَمَّى حَالٌ مِثْلُ هَذَا سُكْرًا، وَاصْطِلَاحًا، وَمَحْوًا، وَجَمْعًا، وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَقَدْ يَغْلِبُ شُهُودُ الْقَلْبِ بِمَحْبُوبِهِ وَمَذْكُورِهِ حَتَّى يَغِيبَ بِهِ وَيَفْنَى بِهِ، فَيَظُنَّ أَنَّهُ اتَّحَدَ بِهِ وَامْتَزَجَ، بَلْ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ، كَمَا يُحْكَى أَنَّ رَجُلًا أَلْقَى مَحْبُوبُهُ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ، فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسَهُ وَرَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي أَوْقَعَكَ فِي الْمَاءِ؟ فَقَالَ: غِبْتُ بِكَ عَنِّي فَظَنَنْتُ أَنَّكَ أَنِّي. وَهَذَا إِذَا عَادَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ غَالِطًا فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الْحَقَائِقَ مُتَمَيِّزَةٌ فِي ذَاتِهَا، فَالرَّبُّ رَبٌّ، وَالْعَبْدُ عَبْدٌ، وَالْخَالِقُ بَائِنٌ عَنِ الْمَخْلُوقَاتِ، لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلَكِنْ فِي حَالِ السُّكْرِ وَالْمَحْوِ الِاصْطِلَامُ وَالْفَنَاءُ: قَدْ يَغِيبُ عَنْ هَذَا التَّمْيِيزِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ قَدْ يَقُولُ صَاحِبُهَا مَا يُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ " سُبْحَانِي " أَوْ " مَا فِي الْجُبَّةِ إِلَّا اللَّهُ " وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي لَوْ صَدَرَتْ عَنْ قَائِلِهَا وَعَقْلُهُ مَعَهُ لَكَانَ كَافِرًا، وَلَكِنْ مَعَ سُقُوطِ التَّمْيِيزِ وَالشُّعُورِ، قَدْ يَرْتَفِعُ عَنْهُ قَلَمُ الْمُؤَاخَذَةِ.

وَهَذَا الْفَنَاءُ يُحْمَدُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيُذَمُّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيُعْفَى مِنْهُ عَنْ شَيْءٍ. فَيُحْمَدُ مِنْهُ: فَنَاؤُهُ عَنْ حُبِّ مَا سِوَى اللَّهِ، وَعَنْ خَوْفِهِ، وَرَجَائِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ يَبْقَى دِينُ الْعَبْدِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كُلُّهُ لِلَّهِ. وَأَمَّا عَدَمُ الشُّعُورِ وَالْعِلْمِ، بِحَيْثُ لَا يُفَرِّقُ صَاحِبُهُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ مَعَ اعْتِقَادِهِ الْفَرْقَ وَلَا بَيْنَ شُهُودِهِ وَمَشْهُودِهِ، بَلْ لَا يَرَى السِّوَى وَلَا الْغَيْرَ، فَهَذَا لَيْسَ بِمَحْمُودٍ، وَلَا هُوَ وَصْفُ كَمَالٍ، وَلَا هُوَ مِمَّا يُرْغَبُ فِيهِ وَيُؤْمَرُ بِهِ، بَلْ غَايَةُ صَاحِبِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا لِعَجْزِهِ، وَضَعْفِ قَلْبِهِ وَعَقْلِهِ عَنِ احْتِمَالِ التَّمْيِيزِ وَالْفُرْقَانِ، وَإِنْزَالِ كُلِّ ذِي مَنْزِلَةٍ مَنْزِلَتَهُ، مُوَافَقَةً لِدَاعِي الْعِلْمِ، وَمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَشُهُودِ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ، وَالْعِبَادَةِ وَالْمَعْبُودِ، فَيُنَزِّلُ الْعِبَادَةَ مَنَازِلَهَا، وَيَشْهَدُ مَرَاتَبَهَا، وَيُعْطِي كُلَّ مَرْتَبَةٍ مِنْهَا حَقَّهَا مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَيَشْهَدُ قِيَامَهُ بِهَا، فَإِنَّ شُهُودَ الْعَبْدِ قِيَامَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ أَكْمَلُ فِي الْعُبُودِيَّةِ مِنْ غَيْبَتِهِ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَدَاءَ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْعَبْدِ عَنْهَا وَعَنْ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ السَّكْرَانِ وَالنَّائِمِ، وَأَدَاؤُهَا فِي حَالِ كَمَالِ يَقَظَتِهِ وَشُعُورِهِ بِتَفَاصِيلِهَا وَقِيَامِهِ بِهَا أَتَمُّ وَأَكْمَلُ وَأَقْوَى عُبُودِيَّةً. فَتَأَمَّلْ حَالَ عَبْدَيْنِ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِهِمَا، أَحَدُهُمَا يُؤَدِّي حُقُوقَ خِدْمَتِهِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ خِدْمَتِهِ لِاسْتِغْرَاقِهِ بِمُشَاهَدَةِ سَيِّدِهِ، وَالْآخَرُ يُؤَدِّيهَا فِي حَالِ كَمَالِ حُضُورِهِ، وَتَمْيِيزِهِ، وَإِشْعَارِ نَفْسِهِ بِخِدْمَةِ السَّيِّدِ، وَابْتِهَاجِهَا بِذَلِكَ، فَرَحًا بِخِدْمَتِهِ، وَسُرُورًا وَالْتِذَاذًا مِنْهُ، وَاسْتِحْضَارًا لِتَفَاصِيلِ الْخِدْمَةِ وَمَنَازِلِهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَامِلٌ عَلَى مُرَادِ سَيِّدِهِ مِنْهُ، لَا عَلَى مُرَادِهِ مِنْ سَيِّدِهِ، فَأَيُّ الْعَبْدَيْنِ أَكْمَلُ؟ فَالْفَنَاءُ: حَظُّ الْفَانِي وَمُرَادُهُ، وَالْعِلْمُ، وَالشُّعُورُ، وَالتَّمْيِيزُ، وَالْفَرْقُ، وَتَنْزِيلُ الْأَشْيَاءِ مَنَازِلَهَا، وَجَعْلُهَا فِي مَرَاتِبِهَا: حَقُّ الرَّبِّ وَمُرَادُهُ، وَلَا يَسْتَوِي صَاحِبُ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ، وَصَاحِبُ تِلْكَ.

نَعَمْ، هَذَا أَكْمَلُ حَالًا مِنَ الَّذِي لَا حُضُورَ لَهُ وَلَا مُشَاهَدَةَ بِالْمَرَّةِ، بَلْ هُوَ غَائِبٌ بِطَبْعِهِ وَنَفْسِهِ عَنْ مَعْبُودِهِ وَعَنْ عِبَادَتِهِ، وَصَاحِبُ التَّمْيِيزِ وَالْفُرْقَانِ - وَهُوَ صَاحِبُ الْفَنَاءِ الثَّالِثِ - أَكْمَلُ مِنْهُمَا، فَزَوَالُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَالْغَيْبَةُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ وَأَفْعَالِهَا لَا يُحْمَدُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ، بَلْ يُذَمُّ إِذَا تَسَبَّبَ إِلَيْهِ، وَبَاشَرَ أَسْبَابَهُ، وَأَعْرَضَ عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوجِبُ لَهُ التَّمْيِيزَ وَالْعَقْلَ، وَيُعْذَرُ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِلَا اسْتِدْعَاءٍ، بِأَنْ كَانَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ، كَمَا يُعْذَرُ النَّائِمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالْمَجْنُونُ، وَالسَّكْرَانُ الَّذِي لَا يُذَمُّ عَلَى سُكْرِهِ، كَالْمُوجَرِ وَالْجَاهِلِ بِكَوْنِ الشَّرَابِ مُسْكِرًا، وَنَحْوِهِمَا. وَلَيْسَ أَيْضًا هَذِهِ الْحَالُ بِلَازِمَةٍ لِجَمِيعِ السَّالِكِينَ، بَلْ هِيَ عَارِضَةٌ لِبَعْضِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يُبْتَلَى بِهَا، كَأَبِي يَزِيدَ وَأَمْثَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُبْتَلَى بِهَا، وَهُمْ أَكْمَلُ وَأَقْوَى، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُمْ سَادَاتُ الْعَارِفِينَ، وَأَئِمَّةُ الْوَاصِلِينَ الْمُقَرَّبِينَ، وَقُدْوَةُ السَّالِكِينَ - لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مَنِ ابْتُلِيَ بِذَلِكَ، مَعَ قُوَّةِ إِرَادَتِهِمْ، وَكَثْرَةِ مُنَازَلَاتِهِمْ، وَمُعَايَنَةِ مَا لَمْ يُعَايِنْهُ غَيْرُهُمْ، وَلَا شَمَّ لَهُ رَائِحَةً، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِهِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الْفَنَاءُ كَمَالًا لَكَانُوا هُمْ أَحَقَّ بِهِ وَأَهْلَهُ، وَكَانَ لَهُمْ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ. وَلَا كَانَ هَذَا أَيْضًا لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا حَالًا مِنْ أَحْوَالِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا - فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ، وَعَايَنَ مَا عَايَنَ مِمَّا أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى - لَمْ تَعْرِضْ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ، بَلْ كَانَ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى - لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 17 - 18] وَقَالَ {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ، أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، وَمَعَ هَذَا فَأَصْبَحَ بَيْنَهُمْ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَيْهِ حَالُهُ، وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ صَعْقٌ وَلَا غُشِيَ، يُخْبِرُهُمْ عَنْ تَفْصِيلِ مَا رَأَى، غَيْرَ فَانٍ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا عَنْ شُهُودِهِ، وَلِهَذَا كَانْتَ حَالُهُ أَكْمَلَ مَنْ حَالِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ صَلَّى اللَّهُ

فصل أسباب الفناء

عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَّ صَعِقًا حِينَ تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ وَجَعَلَهُ دَكًّا. [فَصْلٌ أَسْبَابُ الْفَنَاءِ] فَصْلٌ وَهَذَا الْفَنَاءُ لَهُ سَبَبَانِ: أَحَدُهُمَا: قُوَّةُ الْوَارِدِ وَضَعْفُ الْمَوْرُودِ، وَهَذَا لَا يُذَمُّ صَاحِبُهُ. الثَّانِي: نُقْصَانُ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ، وَهَذَا يُذَمُّ صَاحِبُهُ، لَا سِيَّمَا إِذَا أَعْرَضَ عَنِ الْعِلْمِ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْفَنَاءِ، وَذَمَّهُ وَذَمَّ أَهْلَهُ، وَرَأَى ذَلِكَ عَائِقًا مِنْ عَوَائِقِ الطَّرِيقِ، فَهَذَا هُوَ الْمَذْمُومُ الْمَخُوفُ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا عَظُمَتْ وَصِيَّةُ الْقَوْمِ بِالْعِلْمِ، وَحُذِّرُوا مِنَ السُّلُوكِ بِلَا عِلْمٍ، وَأُمِرُوا بِهَجْرِ مَنْ هَجَرَ الْعِلْمَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَعَدِمَ الْقَبُولَ مِنْهُ، لِمَعْرِفَتِهِمْ بِمَآلِ أَمْرِهِ، وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ فِي سَيْرِهِ، وَعَامَّةُ مَنْ تَزَنْدَقَ مِنَ السَّالِكِينَ فَلِإِعْرَاضِهِ عَنْ دَوَاعِي الْعِلْمِ، وَسَيْرِهِ عَلَى جَادَّةِ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ، ذَاهِبَةً بِهِ الطَّرِيقُ كُلَّ مَذْهَبٍ، فَهَذَا فِتْنَتُهُ وَالْفِتْنَةُ بِهِ شَدِيدَةٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ أَصْلُ الْفَنَاءِ] فَصْلٌ وَأَصْلُ هَذَا الْفَنَاءِ الِاسْتِغْرَاقُ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ رُؤْيَةُ تَفَرُّدِ اللَّهِ بِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ، وَمُلْكِهَا وَاخْتِرَاعِهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ قَطُّ إِلَّا مَا شَاءَهُ وَكَوَّنَهُ، فَيَشْهَدُ مَا اشْتَرَكَتْ فِيهِ الْمَخْلُوقَاتُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهَا، وَمَشِيئَتِهِ لَهَا، وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، وَشُمُولِ قَيُّومِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ لَهَا، وَلَا يَشْهَدُ مَا افْتَرَقَتْ فِيهِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِهَذَا وَبُغْضِهِ لِهَذَا، وَأَمْرِهِ بِمَا أَمَرَ بِهِ، وَنَهْيِهِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ، وَمُوَالَاتِهِ لِقَوْمٍ وَمُعَادَاتِهِ لِآخَرِينَ. فَلَا يَشْهَدُ التَّفْرِقَةَ فِي الْجَمْعِ، وَهِيَ تَفْرِقَةُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ فِي جَمْعِ الرُّبُوبِيَّةِ، تَفْرِقَةُ مُوجَبِ الْإِلَهِيَّةِ فِي جَمْعِ الرُّبُوبِيَّةِ، تَفْرِقَةُ الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ فِي جَمْعِ الْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ، تَفْرِقَةُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ فِي جَمْعِ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ، لَا يَشْهَدُ الْكَثْرَةَ فِي الْوُجُودِ، وَهِيَ كَثْرَةُ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، وَاقْتِضَاؤُهَا لِآثَارِهَا فِي وَحْدَةِ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِهَا. فَلَا يَشْهَدُ كَثْرَةَ دَلَالَاتِ أَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ عَلَى وَحْدَةِ ذَاتِهِ. فَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ، السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ، الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، وَكُلُّ اسْمٍ لَهُ صِفَةٌ، وَلِلصِّفَةِ حُكْمٌ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدُ الذَّاتِ، كَثِيرُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَهَذِهِ كَثْرَةٌ فِي وَحْدَةٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَأْمُورِهِ وَمَنْهِيِّهِ، وَمَحْبُوبِهِ وَمَبْغُوضِهِ، وَوَلِيِّهِ وَعَدُوِّهِ، تَفْرِقَةٌ فِي جَمْعٍ، فَمَنْ

فصل الفناء ومهالكه

لَمْ يَتَّسِعْ شُهُودُهُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ فَلَيْسَ مِنْ خَاصَّةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ، بَلْ إِنِ انْصَرَفَ شُهُودُهُ عَنْهَا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِهَا فَهُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصٌ، وَإِنْ جَحَدَهَا - أَوْ شَيْئًا مِنْهَا - فَكُفْرٌ صَرِيحٌ أَوْ بِتَأْوِيلٍ، مِثْلَ أَنْ يَجْحَدَ تَفْرِقَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، أَوْ جَمْعَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، أَوْ كَثْرَةَ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَوَحْدَةَ الذَّاتِ. فَلْيَتَدَبَّرِ اللَّبِيبُ السَّالِكُ هَذَا الْمَوْضِعَ حَقَّ التَّدَبُّرِ، وَلْيَعْرِفْ قَدْرَهُ، فَإِنَّهُ مَجَامِعُ طُرُقِ الْعَالَمِينَ، وَأَصْلُ تَفْرِقَتِهِمْ، قَدْ ضُبِطَتْ لَكَ مَعَاقِدُهُ، وَأُحْكِمَتْ لَكَ قَوَاعِدُهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَإِنَّمَا يَعْرِفُ قَدْرَ هَذَا مَنِ اجْتَازَ الْقِفَارَ، وَاقْتَحَمَ الْبَحَّارَ، وَعَرَضَ لَهُ مَا يَعْرِضُ لِسَالِكِ الْقَفْرِ، وَرَاكِبِ الْبَحْرِ، وَمَنْ لَمْ يُسَافِرْ وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ وَطَنِ طَبْعِهِ وَمَرْبَاهُ، وَمَا أَلِفَ عَلَيْهِ أَصْحَابَهُ وَأَهْلَ زَمَانِهِ، فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذَا، فَإِنْ عُرِفَ قَدْرُهُ، وَكَفَى النَّاسَ شَرَّهُ، فَهَذَا يُرْجَى لَهُ السَّلَامَةُ، وَإِنْ عَدَا طَوْرَهُ، وَأَنْكَرَ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ، وَكَذَّبَ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمًا، ثُمَّ تَجَاوَزَ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ خَالَفَهُ وَلَمْ يُقَلِّدْ شُيُوخَهُ، وَيَرْضَى بِمَا رَضِيَ هُوَ بِهِ لِنَفْسِهِ، فَذَلِكَ الظَّالِمُ الْجَاهِلُ، الَّذِي مَا ضَرَّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَا أَضَاعَ إِلَّا حَظَّهُ. [فَصْلٌ الْفَنَاءُ وَمَهَالِكُهُ] فَصْلٌ وَيَعْرِضُ لِلسَّالِكِ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ مَعَاطِبُ وَمَهَالِكُ، لَا يُنْجِيهِ مِنْهَا إِلَّا بَصِيرَةُ الْعِلْمِ، الَّتِي إِنْ صَحِبَتْهُ فِي سَيْرِهِ، وَإِلَّا فَبِسَبِيلِ مَنْ هَلَكَ. مِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا اقْتَحَمَ عُقْبَةَ الْفَنَاءِ ظَنَّ أَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، لِتَشْوِيشِهِ عَلَى الْفَنَاءِ وَنَقْضِهِ لَهُ، وَالْفَنَاءُ عِنْدَهُ غَايَةُ الْعَارِفِينَ، وَنِهَايَةُ التَّوْحِيدِ، فَيَرَى تَرْكَ كُلِّ مَا أَبْطَلَهُ وَأَزَالَهُ، مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَيُصَرِّحُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْقُطُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَمَّنْ شَهِدَ الْإِرَادَةَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَازِمَانِ لَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ هَذَا الْمَغْرُورُ أَنَّ غَايَةَ مَا مَعَهُ الْفَنَاءُ فِي تَوْحِيدِ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِي أَقَرُّوا بِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا بِهِ مُسْلِمِينَ الْبَتَّةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وَقَالَ {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ - قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89] وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ

: تَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَيَقُولُونَ: اللَّهُ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ. وَمَنْ كَانَ هَذَا التَّوْحِيدُ وَالْفَنَاءُ غَايَةَ تَوْحِيدِهِ انْسَلَخَ مِنْ دِينِ اللَّهِ، وَمِنْ جَمِيعِ رُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، إِذْ لَمْ يَتَمَيَّزْ عِنْدَهُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِمَّا نَهَى عَنْهُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ، وَلَا بَيْنَ مَحْبُوبِهِ وَمَبْغُوضِهِ، وَلَا بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، وَسَوَّى بَيْنَ الْمُتَّقِينَ وَالْفُجَّارِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، بَلْ لَيْسَ عِنْدَهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا الطَّاعَةُ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ الْمَشِيئَةُ الْعَامَّةُ الشَّامِلَةُ. ثُمَّ صَاحَبُ هَذَا الْمَقَامِ يَظُنُّ أَنَّهُ صَاحِبُ الْجَمْعِ وَالتَّوْحِيدِ، وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى عَيْنِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا وَصَلَ الْمِسْكِينُ إِلَى الْحَقِيقَةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ أَجْمَعُونَ، وَكُلُّ كَافِرٍ وَمُشْرِكٍ وَفَاجِرٍ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ تَحْتَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، فَغَايَةُ صَاحِبِ هَذَا الْمَشْهَدِ وُصُولُهُ إِلَى أَنْ يَشْهَدَ اسْتِوَاءَ هَؤُلَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ الْأَبْرَارِ، وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَخَاصَّةِ عِبَادِهِ فِي هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْفَرْقِ، وَالْمُوَالَاةُ وَالْمُعَادَاةُ ضَرُورَةٌ، فَيَنْسَلِخُ عَنِ الْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ، وَيَعُودُ إِلَى الْفَرْقِ الطَّبْعِيِّ النَّفْسِيِّ بِهَوَاهُ وَطَبْعِهِ، إِذْ لَا بُدَّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ فَيَمِيلُ إِلَيْهِ، وَمَا يَضُرُّهُ فَيَهْرُبُ مِنْهُ، فَبَيْنَا هُوَ مُنْكِرٌ عَلَى أَهْلِ الْفِرْقِ الشَّرْعِيِّ نَاكِبًا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ، إِذِ انْتَكَسَ وَارْتَكَسَ، وَعَادَ إِلَى الْفَرْقِ الطَّبْعِيِّ النَّفْسِيِّ، فَيُوَالِي وَيُعَادِي، وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ، بِحَسَبِ هَوَاهُ وَإِرَادَتِهِ. فَإِنَّ الْفَرْقَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لِلْإِنْسَانِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فَرْقُهُ قُرْآنِيًا مُحَمَّدِيًّا، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَانُونٍ يُفَرِّقُ بِهِ: إِمَّا سِيَاسَةُ سَائِسٍ فَوْقَهُ، أَوْ ذَوْقٌ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ رَأْيٌ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يُفَرِّقُ فَرْقًا بَهِيمِيًّا حَيَوَانِيًّا بِحَسَبِ مُجَرَّدِ شَهْوَتِهِ وَغَرَضِهِ أَيْنَ تَوَجَّهَتْ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفْرِيقِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ. فَلْيَنْظُرِ الْعَبْدُ مَنِ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِي الْفَرْقِ، وَلْيَزِنْ بِهِ إِيمَانَهُ قَبْلَ أَنْ يُوزَنَ، وَلْيُحَاسِبْ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ، وَلْيَسْتَبْدِلِ الذَّهَبَ بِالْخَزَفِ، وَالدُّرَّ بِالْبَعْرِ، وَالْمَاءَ الزُّلَالَ بِالسَّرَابِ الَّذِي {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجْعَةَ إِلَى دَارِ الصَّرْفِ، فَيُقَالُ: هَيْهَاتَ! الْيَوْمُ يَوْمُ الْوَفَاءِ، وَمَا مَضَى فَقَدْ فَاتَ، أُحْصِيَ الْمُسْتَخْرَجُ وَالْمَصْرُوفُ، وَسَتَعْلَمُ الْآنَ مَا مَعَكَ مِنَ النَّقْدِ الصَّحِيحِ وَالزُّيُوفِ. وَأَصْحَابُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ صَائِحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ

الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَأُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ، إِذَا تَنَاهَوْا فِي حَقِيقَتِهِمْ أَضَافُوا الْجَمِيعَ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَى، وَجَعَلُوهَا عَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ، ضَاهَئُوا الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35] وَقَوْلُهُمْ عَنْ آلِهَتِهِمْ {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] وَقَوْلَهُ {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] فَاحْتَجُّوا بِإِقْرَارِ اللَّهِ لَهُمْ قَدَرًا وَكَوْنًا عَلَى رِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ وَأَمْرِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَلَمَا أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، فَجَعَلُوا قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ عَيْنَ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، وَوَرِثَهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بِالْفَرْقِ النَّبَوِيِّ الْقُرْآنِيِّ. وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ذَكَرَتْ ذَلِكَ مُعَارِضِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَمَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَعَارَضُوا الْحَقِيقَةَ الدِّينِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ بِالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، وَوَرِثَهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ أَبْطَلَتْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَظَنَّتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّ إِثْبَاتَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ يُبْطِلُ الشَّرَائِعَ وَالنُّبُوَّاتِ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ احْتَجُّوا عَلَى بُطْلَانِهَا بِإِثْبَاتِهِ، فَجَعَلَتِ التَّكْذِيبَ بِهِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ، بَلْ أَعْظَمَ أُصُولِهِ، فَرَدَّتَ قَضَاءَ اللَّهِ وَقَدَرَهُ الشَّامِلَ الْعَامَّ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. فَانْظُرْ إِلَى اقْتِسَامِ الطَّوَائِفِ هَذَا الْمَوْضِعَ، وَافْتِرَاقِهِمْ فِي مَفْرِقِ هَذَا الطَّرِيقِ عِلْمًا وَخَبَرًا، وَسُلُوكًا وَحَقِيقَةً، وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ الْخَلْقِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، تَنْكَشِفْ لَكَ أَسْرَارُ الْعَالَمِينَ، وَتَعْلَمْ أَيْنَ أَنْتَ وَأَيْنَ مَقَامُكَ؟ وَتَعْرِفْ مَا جَنَى هَذَا الْجَمْعُ وَهَذَا الْفَنَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَمَا خَرَّبَ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالْأَرْكَانِ، وَتَتَحَقَّقْ حِينَئِذٍ أَنَّ الدِّينَ كُلَّهُ فُرْقَانٌ فِي الْقُرْآنِ، فَرْقٌ فِي جَمْعٍ، وَكَثْرَةٌ فِي وَحْدَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَدِينِهِ أَصْحَابُ الْفَرْقِ فِي الْجَمْعِ، فَيَقُومُونَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضُهُ، وَيَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَيُوَالِيهِ وَيُعَادِيهِ، عِلْمًا وَشُهُودًا، وَإِرَادَةً وَعَمَلًا، مَعَ شُهُودِهِمُ الْجَمْعَ لِذَلِكَ كُلِّهِ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَمَشِيئَتِهِ الشَّامِلَةِ الْعَامَّةِ، فَيُؤْمِنُونَ بِالْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، وَيُعْطُونَ كُلَّ حَقِيقَةٍ حَظَّهَا مِنَ الْعِبَادَةِ. فَحَظُّ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الْقِيَامُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ، وَكَرَاهَةُ مَا يَكْرَهُهُ،

وَمُوَالَاةُ مَنْ وَالَاهُ، وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُ، وَأَصْلُ ذَلِكَ الْحُبُّ فِيهِ وَالْبُغْضُ فِيهِ. وَحَظُّ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ إِفْرَادُهُ بِالِافْتِقَارِ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ، وَإِفْرَادُهُ بِالسُّؤَالِ وَالطَّلَبِ، وَالتَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ، وَالتَّحَقُّقِ بِأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ سِوَاهُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، وَأَنَّهُ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ، فَقُلُوبُهُمْ وَنَوَاصِيهِمْ بِيَدِهِ، وَأَنَّهُ مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ. فَلِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ عُبُودِيَّةٌ، وَلِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ عُبُودِيَّةٌ، وَلَا تُبْطِلُ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، بَلْ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهَا، وَلَا تَتِمُّ الْعُبُودِيَّةُ إِلَّا بِمَجْمُوعِهِمَا، وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِهِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] بِخِلَافِ مَنْ أَبْطَلَ حَقِيقَةَ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " بِحَقِيقَةِ " {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " وَقَالَ: إِنَّهَا جَمْعٌ، وَ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " فَرْقٌ، وَقَدْ يَغْلُو فِي هَذَا الْمَشْهَدِ فَلَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً، وَلَا يَسْتَقْبِحُ قَبِيحَةً، وَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ وَيَقُولُ: الْعَارِفُ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً، وَلَا يَسْتَقْبِحُ قَبِيحَةً لِاسْتِبْصَارِهِ بِسِرِّ الْقَدَرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: حَقِيقَةُ هَذَا الْمَشْهَدِ أَنْ يَشْهَدَ الْوُجُودَ كُلَّهُ حَسَنًا لَا قَبِيحَ فِيهِ، وَأَفْعَالَهُمْ كُلَّهَا طَاعَاتٍ لَا مَعْصِيَةَ فِيهَا، لِأَنَّهُمْ - وَإِنْ عَصَوُا الْأَمْرَ - فَهُمْ مُطِيعُونَ الْمَشِيئَةَ، وَيَقُولُونَ: أَصْبَحْتُ مُنْفَعِلًا لِمَا تَخْتَارُهُ ... مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتُ وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: مَنْ شَهِدَ الْحَقِيقَةَ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ، وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] وَيُفَسِّرُونَ الْيَقِينَ بِشُهُودِ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ، وَهِيَ الْحَقِيقَةُ عِنْدَهُمْ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَامَّةَ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَصَحُّ إِيمَانًا، فَإِنَّ هَذَا زَنْدَقَةٌ وَنِفَاقٌ، وَكَذِبٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَنَبِيِّهِمْ وَإِلَهِهِمْ. أَمَّا كَذِبُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُفَرِّقُوا قَطْعًا، فَرَغِبُوا عَنِ الْفَرْقِ النَّبَوِيِّ وَالْقُرْآنِيِّ، وَوَقَعُوا فِي الْفَرْقِ النَّفْسِيِّ الطَّبْعِيِّ، مِثْلَ حَالِ إِبْلِيسَ، تَكَبَّرَ عَنِ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْقِيَادَةِ لِفُسَّاقِ ذُرِّيَّتِهِ، وَمِثْلَ الْمُشْرِكِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ،

وَرَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِعِبَادَةِ الْأَحْجَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالْمَوْتَى وَالْأَوْثَانِ، وَمِثْلَ أَهْلِ الْبِدَعِ تَكَبَّرُوا عَنْ تَقْلِيدِ النُّصُوصِ، وَتَلَقِّي الْهُدَى مِنْ مِشْكَاتِهَا، وَرَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِتَقْلِيدِ أَقْوَالٍ مُخَالِفَةٍ لِلْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ، وَظَنُّوهَا قَوَاطِعَ عَقْلِيَّةً، وَقَدَّمُوهَا عَلَى نُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ شُبُهَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِلسَّمْعِ وَالْعَقْلِ. وَمِثْلَ الْجَهْمِيَّةِ نَزَّهُوا الرَّبَّ عَنْ عَرْشِهِ، وَجَعَلُوهُ فِي أَجْوَافِ الْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْحَمَّامَاتِ، وَقَالُوا: هُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ، وَنَزَّهُوهُ عَنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ حَذَرًا - بِزَعْمِهِمْ - مِنَ التَّشْبِيهِ فَشَبَّهُوهُ بِالْجَامِدَاتِ النَّاقِصَةِ الْخَسِيسَةِ الَّتِي لَا تَتَكَلَّمُ، وَلَا سَمْعَ لَهَا وَلَا بَصَرَ، وَلَا عِلْمَ وَلَا حَيَاةَ، بَلْ شَبَّهُوهُ بِالْمَعْدُومَاتِ الْمُمْتَنِعِ وُجُودُهَا. وَمِثْلَ الْمُعَطَّلَةِ الَّذِينَ قَالُوا: مَا فَوْقَ الْعَرْشِ إِلَّا الْعَدَمُ، وَلَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ يُعْبَدُ، وَلَا إِلَهٌ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ، وَلَا تَرْتَفِعُ الْأَيْدِي إِلَيْهِ، وَلَا رَفَعَ الْمَسِيحُ إِلَيْهِ، وَلَا تَعَرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، وَلَا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، وَلَا دُنِّيَ مِنْهُ حَتَّى كَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، وَلَا يَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَرَاهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ فَوْقِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى عَرْشِهِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلْ عَلَى الْمَجَازِ الَّذِي يَصِحُّ نَفْيُهُ، وَعُلُوُّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ بِالرُّتْبَةِ وَالشَّرَفِ لَا بِالذَّاتِ، وَكَذَلِكَ فَوَقِيَّتُهُ فَوْقِيَّةُ قَهْرٍ، لَا فَوْقِيَّةَ ذَاتٍ، فَنَزَّهُوهُ عَنْ كَمَالِ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ، وَوَصَفُوهُ بِمَا سَاوَوْا بِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدَمِ وَالْمُسْتَحِيلِ، فَقَالُوا: لَا هُوَ دَاخِلَ الْعَالَمِ، وَلَا خَارِجَهُ، وَلَا مُتَّصِلٌ بِهِ، وَلَا مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، وَلَا مُحَايِثٌ لَهُ، وَلَا مُبَايِنٌ لَهُ، وَلَا هُوَ فِينَا، وَلَا خَارِجٌ عَنَّا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِأَحَدِهِمْ: صِفْ لَنَا الْعَدَمَ، لَوَصَفَهُ بِهَذَا بِعَيْنِهِ. وَانْطِبَاقُ هَذَا السَّلْبِ عَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ أَقْرَبُ إِلَى الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ مِنِ انْطِبَاقِهِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، بَلْ هُوَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، عَالٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ. وَالْقَصْدُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَجَحَدَهُ، وَقَعَ فِي بَاطِلٍ مُقَابِلٍ لِمَا أَعْرَضَ عَنْهُ مِنَ الْحَقِّ وَجَحَدَهُ وَلَا بُدَّ، حَتَّى فِي الْأَعْمَالِ مَنْ رَغِبَ عَنِ الْعَمَلِ لِوَجْهِ اللَّهِ وَحْدَهُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْعَمَلِ لِوُجُوهِ الْخَلْقِ، فَرَغِبَ عَنِ الْعَمَلِ لِمَنْ ضَرُّهُ وَنَفْعُهُ وَمَوْتُهُ وَحَيَاتُهُ

وَسَعَادَتُهُ بِيَدِهِ، فَابْتُلِيَ بِالْعَمَلِ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ لَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَنْ رَغِبَ عَنْ إِنْفَاقِ مَالِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ابْتُلِيَ بِإِنْفَاقِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ رَاغِمٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ رَغِبَ عَنِ التَّعَبِ لِلَّهِ ابْتُلِيَ بِالتَّعَبِ فِي خِدْمَةِ الْخَلْقِ وَلَا بُدَّ. وَكَذَلِكَ مَنْ رَغِبَ عَنِ الْهَدْيِ بِالْوَحْيِ، ابْتُلِيَ بِكُنَاسَةِ الْآرَاءِ وَزِبَالَةِ الْأَذْهَانِ، وَوَسَخِ الْأَفْكَارِ. فَلْيَتَأَمَّلْ مَنْ يُرِيدُ نُصْحَ نَفْسِهِ وَسَعَادَتَهَا وَفَلَاحَهَا هَذَا الْمَوْضِعَ فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَامَّةَ - مَعَ غَفْلَتِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ - أَصَحُّ إِيمَانًا مِنْ هَؤُلَاءِ إِذَا لَمْ يُعَطِّلُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، فَإِنَّ إِيمَانًا مَعَ تَفْرِقَةٍ وَغَفْلَةٍ، خَيْرٌ مِنْ شُهُودٍ وَجَمْعِيَّةٍ يَصْحَبُهَا فَسَادُ الْإِيمَانِ وَالِانْسِلَاخُ مِنْهُ. وَأَمَّا كَذِبُهُمْ عَلَى نَبِيِّهِمْ فَاعْتِقَادُهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ قِيَامُهُ بِالْأَوْرَادِ وَالْعِبَادَاتِ لِأَجْلِ التَّشْرِيعِ، لَا لِأَنَّهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ، إِذْ قَدْ سَقَطَ ذَلِكَ عَنْهُ بِشُهُودِ الْحَقِيقَةِ وَكَمَالِ الْيَقِينِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَهُ وَأَمَرَ سَائِرَ رُسُلِهِ بِعِبَادَتِهِ إِلَى حِينِ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ، فَقَالَ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] وَهُوَ الْمَوْتُ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى عَنِ الْكُفَّارِ {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 46] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَّا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ» قَالَهُ لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ، وَقَالَ الْمَسِيحُ {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 30] فَهَذِهِ وَصِيَّةُ اللَّهِ لِلْمَسِيحِ، وَكَذَلِكَ لِجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ، قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ. وَإِذَا جَمَعَ هَؤُلَاءِ التَّجَهُّمَ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ إِلَى شُهُودِ الْحَقِيقَةِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَهَا، فَأَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْ تَعْطِيلِ الرَّبِّ وَشَرْعِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا رَبَّ يُعْبَدُ، وَلَا شَرْعَ يُتَّبَعُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ مَا ذَكَرْنَا فَلْيُسَيِّرْ طَرْفَهُ بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ، وَلْيَقِفْ عَلَى تِلْكَ الْمَعَاهِدِ، وَلْيَسْأَلِ الْأَحْوَالَ وَالرُّسُومَ وَالشَّوَاهِدَ، فَإِنْ لَمْ تَجُبْهُ حِوَارًا، أَجَابَتْهُ حَالًا

وَاعْتِبَارًا، وَإِنَّمَا يُصَدِّقُ بِهَذَا مَنْ رَافَقَ السَّالِكِينَ، وَفَارَقَ الْقَاعِدِينَ وَتَبَوَّأَ الْإِيمَانَ، وَفَارَقَ عَوَائِدَ أَهْلِ الزَّمَانِ، وَلَمْ يَرْضَ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: دَعِ الْمَعَالِي لَا تَنْهَضْ لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْفَنَاءِ: فَنَاءُ خَوَاصِّ الْأَوْلِيَاءِ وَأَئِمَّةِ الْمُقَرَّبِينَ وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى، شَائِمًا بِرِقِّ الْفِنَاءِ عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَاهُ، سَالِكًا سَبِيلَ الْجَمْعِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَانِيًا بِمُرَادِ مَحْبُوبِهِ مِنْهُ عَنْ مُرَادِهِ هُوَ مِنْ مَحْبُوبِهِ، فَضْلًا عَنْ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، قَدِ اتَّحَدَ مُرَادُهُ بِمُرَادِ مَحْبُوبِهِ - أَعْنِي الْمُرَادَ الدِّينِيَّ الْأَمْرِيَّ، لَا الْمُرَادَ الْكَوْنِيَّ الْقَدَرِيَّ - فَصَارَ الْمُرَادَانِ وَاحِدًا. وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ اتِّحَادٌ صَحِيحٌ إِلَّا هَذَا، وَالِاتِّحَادُ فِي الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ، فَيَكُونُ الْمُرَادَانِ وَالْمَعْلُومَانِ وَالْمَذْكُورَانِ وَاحِدًا، مَعَ تَبَايُنِ الْإِرَادَتَيْنِ وَالْعِلْمَيْنِ وَالْخَبَرَيْنِ، فَغَايَةُ الْمَحَبَّةِ اتِّحَادُ مُرَادِ الْمُحِبِّ بِمُرَادِ الْمَحْبُوبِ، وَفَنَاءُ إِرَادَةِ الْمُحِبِّ فِي مُرَادِ الْمَحْبُوبِ. فَهَذَا الِاتِّحَادُ وَالْفَنَاءُ هُوَ اتِّحَادُ خَوَاصِّ الْمُحِبِّينَ وَفَنَاؤُهُمْ، فَنَوْا بِعِبَادَةِ مَحْبُوبِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَبِحُبِّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالطَّلَبِ مِنْهُ، عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. وَمِنْ تَحْقِيقِ هَذَا الْفَنَاءِ: أَنْ لَا يُحِبَّ إِلَّا فِي اللَّهِ وَلَا يُبْغِضَ إِلَّا فِيهِ، وَلَا يُوَالِيَ إِلَّا فِيهِ، وَلَا يُعَادِيَ إِلَّا فِيهِ، وَلَا يُعْطِيَ إِلَّا لَهُ، وَلَا يَمْنَعَ إِلَّا لَهُ، وَلَا يَرْجُوَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَسْتَعِينَ إِلَّا بِهِ، فَيَكُونُ دِينُهُ كُلُّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِلَّهِ، وَيَكُونُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، فَلَا يُوَادُّ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، بَلْ: يُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ ... جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ فَنَاؤُهُ عَنْ هَوَى نَفْسِهِ وَحُظُوظِهَا بِمِرَاضِي رَبِّهِ وَحُقُوقِهِ. وَالْجَامِعُ لِهَذَا كُلِّهِ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً، وَعَمَلًا وَحَالًا وَقَصْدًا. وَحَقِيقَةُ هَذَا النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ هُوَ الْفَنَاءُ وَالْبَقَاءُ، فَيَفْنَى عَنْ تَأْلِيهِ مَا سِوَاهُ عِلْمًا وَإِقْرَارًا وَتَعَبُّدًا، وَيَبْقَى بِتَأْلِيهِهِ وَحْدَهُ.

فَهَذَا الْفَنَاءُ وَهَذَا الْبَقَاءُ هُوَ حَقِيقَةُ التَّوَحُّدِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُرْسَلُونَ، وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَخُلِقَتْ لِأَجْلِهِ الْخَلِيقَةُ، وَشُرِعَتْ لَهُ الشَّرَائِعُ، وَقَامَ عَلَيْهِ سُوقُ الْجَنَّةِ، وَأُسِّسَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. وَحَقِيقَتُهُ أَيْضًا الْبَرَاءُ وَالْوَلَاءُ، الْبَرَاءُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَالْوَلَاءُ لِلَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] وَقَالَ {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27] وَقَالَ أَيْضًا {يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ - إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام: 78 - 79] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ - لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1 - 2] إِلَى آخِرِهَا، وَهَذِهِ بَرَاءَةٌ مِنْهُمْ وَمِنْ مَعْبُودِهِمْ وَسَمَّاهَا بَرَاءَةً مِنَ الشِّرْكِ. وَهِيَ حَقِيقَةُ الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ، فَيَمْحُو مَحَبَّةَ مَا سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَلْبِهِ، عِلْمًا وَقَصْدًا وَعِبَادَةً، كَمَا هِيَ مَمْحُوَّةٌ مِنَ الْوُجُودِ، وَيُثْبِتُ فِيهِ إِلَهِيَّتَهُ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ. وَهِيَ حَقِيقَةُ الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ، فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِلَهِ الْحَقِّ وَبَيْنَ مَنِ ادُّعِيَتْ لَهُ الْإِلَهِيَّةُ بِالْبَاطِلِ، وَيَجْمَعُ تَأْلِيهَهُ وَعِبَادَتَهُ وَحُبَّهُ وَخَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ وَتَوَكُّلَهُ وَاسْتِعَانَتَهُ عَلَى إِلَهِهِ الْحَقِّ الَّذِي لَا إِلَهَ سِوَاهُ. وَهِيَ حَقِيقَةُ التَّجْرِيدِ وَالتَّفْرِيدِ، فَيَتَجَرَّدُ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَيُفْرِدُهُ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ، فَالتَّجْرِيدُ نَفْيٌ، وَالتَّفْرِيدُ إِثْبَاتٌ، وَمَجْمُوعُهُمَا هُوَ التَّوْحِيدُ. فَهَذَا الْفَنَاءُ وَالْبَقَاءُ، وَالْوَلَاءُ وَالْبَرَاءُ، وَالْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ، وَالْجَمْعُ وَالتَّجْرِيدُ، وَالتَّفْرِيدُ الْمُتَعَلِّقُ بِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ هُوَ النَّافِعُ الْمُثْمِرُ، الْمُنَجِّي، الَّذِي بِهِ تُنَالُ السَّعَادَةُ وَالْفَلَاحُ. وَأَمَّا تَعَلُّقُهُ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ - الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ - فَغَايَتُهُ فَنَاءٌ فِي تَحْقِيقِ تَوْحِيدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ، لَا يَصِيرُ بِهِ وَحْدَهُ الرَّجُلُ مُسْلِمًا، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ عَارِفًا مُحَقِّقًا. وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا غَلِطَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ، وَأَصْحَابِ الْإِرَادَةِ مِمَّنْ غَلُظَ

فصل منزلة المحاسبة

حِجَابُهُ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ، وَالتَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْمُحَاسَبَةِ] [مِنْ مَنْزِلَةِ الْمُحَاسَبَةِ يَصِحُّ لَهُ نُزُولُ مَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْمُحَاسَبَةِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى ذِكْرِ مَنَازِلِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " الَّتِي لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِهَا حَتَّى يَنْزِلَ مَنَازِلَهَا. فَذَكَرْنَا مِنْهَا الْيَقَظَةَ وَالْبَصِيرَةَ وَالْفِكْرَةَ وَالْعَزْمَ. وَهَذِهِ الْمَنَازِلُ الْأَرْبَعَةُ لِسَائِرِ الْمَنَازِلِ كَالْأَسَاسِ لِلْبُنْيَانِ، وَعَلَيْهَا مَدَارُ مَنَازِلِ السَّفَرِ إِلَى اللَّهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ السَّفَرُ إِلَيْهِ بِدُونِ نُزُولِهَا الْبَتَّةَ، وَهِيَ عَلَى تَرْتِيبِ السَّيْرِ الْحِسِّيِّ، فَإِنَّ الْمُقِيمَ فِي وَطَنِهِ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ السَّفَرُ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ مِنْ غَفْلَتِهِ عَنِ السَّفَرِ، ثُمَّ يَتَبَصَّرَ فِي أَمْرِ سَفَرِهِ وَخَطَرِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ لَهُ وَالْمَصْلَحَةِ، ثُمَّ يُفَكِّرُ فِي أُهْبَةِ السَّفَرِ وَالتَّزَوُّدِ وَإِعْدَادِ عُدَّتِهِ، ثُمَّ يَعْزِمُ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَزَمَ عَلَيْهِ وَأَجْمَعَ قَصْدَهُ انْتَقَلَ إِلَى مَنْزِلَةِ الْمُحَاسِبَةِ وَهِيَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا لَهُ وَعَلَيْهِ، فَيَسْتَصْحِبُ مَا لَهُ، وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ سَفَرَ مَنْ لَا يَعُودُ. وَمِنْ مَنْزِلَةِ الْمُحَاسَبَةِ يَصِحُّ لَهُ نُزُولُ مَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ لِأَنَّهُ إِذَا حَاسَبَ نَفْسَهُ، عَرَفَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، فَخَرَجَ مِنْهُ، وَتَنَصَّلُ مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَهِيَ حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ فَكَانَ تَقْدِيمُ الْمُحَاسَبَةِ عَلَيْهَا لِذَلِكَ أَوْلَى. وَلِتَأْخِيرِهَا عَنْهَا وَجْهٌ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُحَاسَبَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَصْحِيحِ التَّوْبَةِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنْ التَّوْبَةَ بَيْنَ مُحَاسَبَتَيْنِ، مُحَاسَبَةٍ قَبْلَهَا، تَقْتَضِي وُجُوبَهَا، وَمُحَاسَبَةٍ بَعْدَهَا، تَقْتَضِي حِفْظَهَا، فَالتَّوْبَةُ مَحْفُوفَةٌ بِمُحَاسَبَتَيْنِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْمُحَاسَبَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ الْعَبْدَ أَنْ يَنْظُرَ مَا قَدَّمَ لِغَدٍ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ مُحَاسَبَةَ نَفْسِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَالنَّظَرَ هَلْ يَصْلُحُ مَا قَدَّمَهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ بِهِ أَوْ لَا يَصْلُحُ؟ . وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّظَرِ مَا يُوجِبُهُ وَيَقْتَضِيهِ، مِنْ كَمَالِ الِاسْتِعْدَادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ، وَتَقْدِيمِ مَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَيُبَيِّضُ وَجْهَهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَتُزَيَّنُوا

أركان المحاسبة

لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] أَوْ قَالَ: عَلَى مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَعْمَالُكُمْ. [أَرْكَانُ الْمُحَاسَبَةِ] [الرُّكْنُ الْأَوَّلُ الْمُقَايَسَةُ بَيْنَ مَا لِلْعَبْدِ وَمَا لِلَّهِ] قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْمُحَاسَبَةُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُقَايِسَ بَيْنَ نِعْمَتِهِ وَجِنَايَتِكَ. يَعْنِي تُقَايِسَ بَيْنَ مَا مِنَ اللَّهِ وَمَا مِنْكَ، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لَكَ التَّفَاوُتُ، وَتَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا عَفْوُهُ وَرَحْمَتُهُ، أَوِ الْهَلَاكُ وَالْعَطَبُ. وَبِهَذِهِ الْمُقَايَسَةِ تَعْلَمُ أَنَّ الرَّبَّ رَبٌّ وَالْعَبْدَ عَبْدٌ، وَيَتَبَيَّنُ لَكَ حَقِيقَةُ النَّفْسِ وَصِفَاتُهَا، وَعَظْمَةُ جَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَفَرُّدِ الرَّبِّ بِالْكَمَالِ وَالْإِفْضَالِ، وَأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ، وَكُلَّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ، وَأَنْتَ قَبْلَ هَذِهِ الْمُقَايَسَةِ جَاهِلٌ بِحَقِيقَةِ نَفْسِكَ، وَبِرُبُوبِيَّةِ فَاطِرِهَا وَخَالِقِهَا، فَإِذَا قَايَسْتَ ظَهَرَ لَكَ أَنَّهَا مَنْبَعُ كُلِّ شَرٍّ، وَأَسَاسُ كُلِّ نَقْصٍ، وَأَنَّ حَدَّهَا الْجَاهِلَةُ الظَّالِمَةُ، وَأَنَّهُ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ بِتَزْكِيَتِهِ لَهَا مَا زَكَتْ أَبَدًا، وَلَوْلَا هُدَاهُ مَا اهْتَدَتْ، وَلَوْلَا إِرْشَادُهُ وَتَوْفِيقُهُ لَمَا كَانَ لَهَا وُصُولٌ إِلَى خَيْرٍ الْبَتَّةَ، وَأَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ لَهَا مِنْ بَارِئِهَا وَفَاطِرِهَا، وَتَوَقُّفَهُ عَلَيْهِ كَتَوَقُّفِ وُجُودِهَا عَلَى إِيجَادِهِ، فَكَمَا أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا مِنْ ذَاتِهَا وُجُودٌ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهَا مِنْ ذَاتِهَا كَمَالُ الْوُجُودِ، فَلَيْسَ لَهَا مِنْ ذَاتِهَا إِلَّا الْعَدَمُ - عَدَمُ الذَّاتِ، وَعَدَمُ الْكَمَالِ - فَهُنَاكَ تَقُولُ حَقًّا " «أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي» ". ثُمَّ تُقَايِسُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَتَعْلَمُ بِهَذِهِ الْمُقَايَسَةِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ وَأَرْجَحُ قَدْرًا وَصِفَةً. وَهَذِهِ الْمُقَايَسَةُ الثَّانِيَةُ مُقَايَسَةٌ بَيْنَ أَفْعَالِكَ وَمَا مِنْكَ خَاصَّةً. قَالَ: وَهَذِهِ الْمُقَايَسَةُ تَشُقُّ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: نُورُ الْحِكْمَةِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ، وَتَمْيِيزُ النِّعْمَةِ مِنَ الْفِتْنَةِ.

يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْمُقَايَسَةَ وَالْمُحَاسَبَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى نُورِ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي نَوَّرَ اللَّهُ بِهِ قُلُوبَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، وَهُوَ نُورُ الْحِكْمَةِ، فَبِقَدْرِهِ تَرَى التَّفَاوُتَ، وَتَتَمَكَّنُ مِنَ الْمُحَاسَبَةِ. وَنُورُ الْحِكْمَةِ هَاهُنَا: هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُمَيِّزُ بِهِ الْعَبْدُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَالْكَامِلِ وَالنَّاقِصِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَيُبْصِرُ بِهِ مَرَاتِبَ الْأَعْمَالِ، رَاجِحَهَا وَمَرْجُوحَهَا، وَمَقْبُولَهَا وَمَرْدُودَهَا، وَكُلَّمَا كَانَ حَظُّهُ مِنْ هَذَا النُّورِ أَقْوَى كَانَ حَظُّهُ مِنَ الْمُحَاسَبَةِ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ. وَأَمَّا سُوءُ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ فَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ التَّفْتِيشِ وَيُلَبِّسُ عَلَيْهِ، فَيَرَى الْمَسَاوِئَ مَحَاسِنَ، وَالْعُيُوبَ كَمَالًا، فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَرَى مَسَاوِئَ مَحْبُوبِهِ وَعُيُوبَهُ كَذَلِكَ. فَعَيْنُ الرِّضَى عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ... كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا وَلَا يُسِيءُ الظَّنَّ بِنَفْسِهِ إِلَّا مَنْ عَرَفَهَا، وَمَنْ أَحْسَنَ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا تَمْيِيزُ النِّعْمَةِ مِنَ الْفِتْنَةِ: فَلْيُفَرِّقْ بَيْنَ النِّعْمَةِ الَّتِي يُرَى بِهَا الْإِحْسَانُ وَاللُّطْفُ، وَيُعَانُ بِهَا عَلَى تَحْصِيلِ سَعَادَتِهِ الْأَبَدِيَّةِ، وَبَيْنَ النِّعْمَةِ الَّتِي يُرَى بِهَا الِاسْتِدْرَاجُ، فَكَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالنِّعَمِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، مَفْتُونٍ بِثَنَاءِ الْجُهَّالِ عَلَيْهِ، مَغْرُورٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ حَوَائِجَهُ وَسَتْرِهِ عَلَيْهِ! وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ عِنْدَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ عَلَامَةُ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاحِ، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ. فَإِذَا كَمَلَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِيهِ عَرَفَ حِينَئِذٍ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِجَمْعِهِ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ نِعْمَةٌ حَقِيقَةٌ، وَمَا فَرَّقَهُ عَنْهُ وَأَخَذَهُ مِنْهُ فَهُوَ الْبَلَاءُ فِي صُورَةِ النِّعْمَةِ، وَالْمِحْنَةُ فِي صُورَةِ الْمِنْحَةِ، فَلْيَحْذَرْ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَدْرَجٌ، وَيُمَيِّزْ بِذَلِكَ أَيْضًا بَيْنَ الْمِنَّةِ وَالْحُجَّةِ، فَكَمْ تَلْتَبِسُ إِحْدَاهُمَا عَلَيْهِ بِالْأُخْرَى! . فَإِنَّ الْعَبْدَ بَيْنَ مِنَّةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَحُجَّةٍ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُمَا، فَالْحُكْمُ الدِّينِيُّ مُتَضَمِّنٌ لِمِنَّتِهِ وَحُجَّتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] وَقَالَ {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17] وَقَالَ {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] .

فصل الركن الثاني التمييز بين ما للعبد وما عليه

وَالْحُكْمُ الْكَوْنِيُّ أَيْضًا مُتَضَمِّنٌ لِمِنَّتِهِ وَحُجَّتِهِ، فَإِذَا حَكَمَ لَهُ كَوْنًا حُكْمًا مَصْحُوبًا بِاتِّصَالِ الْحُكْمِ الدِّينِيِّ بِهِ فَهُوَ مِنَّةٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ الدِّينِيُّ فَهُوَ حُجَّةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ الدِّينِيُّ إِذَا اتَّصَلَ بِهِ حُكْمُهُ الْكَوْنِيُّ، فَتَوْفِيقُهُ لِلْقِيَامِ بِهِ مِنَّةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ حُكْمِهِ الْكَوْنِيِّ صَارَ حُجَّةً مِنْهُ عَلَيْهِ، فَالْمِنَّةُ بِاقْتِرَانِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ بِصَاحِبِهِ، وَالْحُجَّةُ فِي تَجَرُّدِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَكُلُّ عِلْمٍ صَحِبَهُ عَمَلٌ يُرْضِي اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مِنَّةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ. وَكُلُّ قُوَّةٍ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ صَحِبَهَا تَنْفِيذٌ لِمَرْضَاتِهِ وَأَوَامِرِهِ فَهِيَ مِنَّةٌ، وَإِلَّا فَهِيَ حُجَّةٌ. وَكُلُّ حَالٍ صَحِبَهُ تَأْثِيرٌ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ فَهُوَ مِنَّةٌ مِنْهُ، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ. وَكُلُّ مَالٍ اقْتَرَنَ بِهِ إِنْفَاقٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، لَا لِطَلَبِ الْجَزَاءِ وَلَا الشَّكُورِ، فَهُوَ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ. وَكُلُّ فَرَاغٍ اقْتَرَنَ بِهِ اشْتِغَالٌ بِمَا يُرِيدُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فَهُوَ مِنَّةٌ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ. وَكُلُّ قَبُولٍ فِي النَّاسِ، وَتَعْظِيمٍ وَمَحَبَّةٍ لَهُ، اتَّصَلَ بِهِ خُضُوعٌ لِلرَّبِّ، وَذُلٌّ وَانْكِسَارٌ، وَمَعْرِفَةٌ بِعَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، وَبَذْلِ النَّصِيحَةِ لِلْخَلْقِ فَهُوَ مِنَّةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ. وَكُلُّ بَصِيرَةٍ وَمَوْعِظَةٍ، وَتَذْكِيرٍ وَتَعْرِيفٍ مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ إِلَى الْعَبْدِ، اتَّصَلَ بِهِ عِبْرَةٌ وَمَزِيدٌ فِي الْعَقْلِ، وَمَعْرِفَةٌ فِي الْإِيمَانِ فَهِيَ مِنَّةٌ، وَإِلَّا فَهِيَ حُجَّةٌ. وَكُلُّ حَالٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مَقَامٍ اتَّصَلَ بِهِ السَّيْرُ إِلَى اللَّهِ، وَإِيثَارُ مُرَادِهِ عَلَى مُرَادِ الْعَبْدِ، فَهُوَ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ، وَإِنْ صَحِبَهُ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ وَالرِّضَى بِهِ، وَإِيثَارُ مُقْتَضَاهُ، مِنْ لَذَّةِ النَّفْسِ بِهِ وَطُمَأْنِينَتِهَا إِلَيْهَا، وَرُكُونِهَا إِلَيْهِ، فَهُوَ حُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَلْيَتَأَمَّلِ الْعَبْدُ هَذَا الْمَوْضِعَ الْعَظِيمَ الْخَطَرِ، وَيُمَيِّزْ بَيْنَ مَوَاقِعِ الْمِنَنِ وَالْمِحَنِ، وَالْحُجَجِ وَالنِّعَمِ، فَمَا أَكْثَرَ مَا يَلْتَبِسُ ذَلِكَ عَلَى خَوَاصِّ النَّاسِ وَأَرْبَابِ السُّلُوكِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. [فَصْلٌ الرُّكْنُ الثَّانِي التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا لِلْعَبْدِ وَمَا عَلَيْهِ] فَصْلٌ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْمُحَاسَبَةِ: وَهِيَ أَنْ تُمَيِّزَ مَا لِلْحَقِّ عَلَيْكَ وَبَيْنَ مَا لَكَ وَمَا عَلَيْكَ مِنْ وُجُوبِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْتِزَامِ الطَّاعَةِ، وَاجْتِنَابِ

الْمَعْصِيَةِ، وَبَيْنَ مَا لَكَ وَمَا عَلَيْكَ، فَالَّذِي لَكَ: هُوَ الْمُبَاحُ الشَّرْعِيُّ، فَعَلَيْكَ حَقٌّ، وَلَكَ حَقٌّ، فَأَدِّ مَا عَلَيْكَ يُؤْتِكَ مَا لَكَ. وَلَابُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا لَكَ وَمَا عَلَيْكَ، وَإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَجْعَلُ كَثِيرًا مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ مِنْ قَسْمِ مَا لَهُ، فَيَتَحَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، وَإِنْ فَعَلَهُ رَأَى أَنَّهُ فَضْلٌ قَامَ بِهِ لَا حَقٌّ أَدَّاهُ. وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ مَنْ يَرَى كَثِيرًا مِمَّا لَهُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ مِنْ قَسْمِ مَا عَلَيْهِ فِعْلُهُ أَوْ تَرْكُهُ، فَيَتَعَبَّدُ بِتَرْكِ مَا لَهُ فِعْلُهُ، كَتَرْكِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَيَظُنُّ ذَلِكَ حَقًّا عَلَيْهِ، أَوْ يَتَعَبَّدُ بِفِعْلِ مَا لَهُ تَرْكُهُ وَيَظُنُّ ذَلِكَ حَقًّا عَلَيْهِ. مِثَالُ الْأَوَّلِ: مَنْ يَتَعَبَّدُ بِتَرْكِ النِّكَاحِ، أَوْ تَرْكِ أَكْلِ اللَّحْمِ، أَوِ الْفَاكِهَةِ مَثَلًا، أَوِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ، وَيَرَى - لِجَهْلِهِ - أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا عَلَيْهِ، فَيُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ تَرْكَهُ، أَوْ يَرَى تَرْكَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ، وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ، فَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا عَنْ عِبَادَتِهِ فِي السِّرِّ فَكَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتُهُمْ، فَخَطَبَ، وَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ؟ لَكِنِّي أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَآكُلُ اللَّحْمَ، وَأَنَامُ وَأَقُومُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» فَتَبَرَّأَ مِمَّنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ، وَتَعَبَّدَ لِلَّهِ بِتَرْكِ مَا أَبَاحَهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، رَغْبَةً عَنْهُ، وَاعْتِقَادًا أَنَّ الرَّغْبَةَ عَنْهُ وَهَجْرَهُ عِبَادَةٌ، فَهَذَا لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ مَا عَلَيْهِ وَمَا لَهُ. وَمِثَالُ الثَّانِي: مَنْ يَتَعَبَّدُ بِالْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ الَّتِي يَظُنُّهَا جَالِبَةً لِلْحَالِ، وَالْكَشْفِ وَالتَّصَرُّفِ، وَلِهَذِهِ الْأُمُورِ لَوَازِمُ لَا تَحْصُلُ بِدُونِهَا الْبَتَّةَ، فَيَتَعَبَّدُ بِالْتِزَامِ تِلْكَ اللَّوَازِمِ فِعْلًا وَتَرْكًا، وَيَرَاهَا حَقًّا عَلَيْهِ، وَهِيَ حَقٌّ لَهُ، وَلَهُ تَرْكُهَا، كَفِعْلِ الرِّيَاضَاتِ، وَالْأَوْضَاعِ الَّتِي

فصل الركن الثالث الرضا بالطاعة والتعيير بالمعصية

رَسَمَهَا كَثِيرٌ مِنَ السَّالِكِينَ بِأَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ وَاصْطِلَاحَاتِهِمْ، مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ مَا فِيهَا مِنْ حَظِّ الْعَبْدِ وَالْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَهَذَا لَوْنٌ. [فَصْلٌ الرُّكْنُ الثَّالِثُ الرِّضَا بِالطَّاعَةِ وَالتَّعْيِيرُ بِالْمَعْصِيَةِ] وَمِنْ أَرْكَانِ الْمُحَاسَبَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ، فَقَالَ: الثَّالِثُ: أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ رَضِيتَهَا مِنْكَ فَهِيَ عَلَيْكَ، وَكُلَّ مَعْصِيَةٍ عَيَّرْتَ بِهَا أَخَاكَ فَهِيَ إِلَيْكَ. رِضَاءُ الْعَبْدِ بِطَاعَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ، وَجَهْلِهِ بِحُقُوقِ الْعُبُودِيَّةِ، وَعَدَمِ عَمَلِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ وَيَلِيقُ أَنْ يُعَامَلَ بِهِ. وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ جَهْلَهُ بِنَفْسِهِ وَصِفَاتِهَا وَآفَاتِهَا وَعُيُوبِ عَمَلِهِ، وَجَهْلَهُ بِرَبِّهِ وَحُقُوقِهِ وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلَ بِهِ، يَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا رِضَاهُ بِطَاعَتِهِ، وَإِحْسَانُ ظَنِّهِ بِهَا، وَيَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَجَبِ وَالْكِبْرِ وَالْآفَاتِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْكَبَائِرِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ وَنَحْوِهَا. فَالرِّضَا بِالطَّاعَةِ مِنْ رَعُونَاتِ النَّفْسِ وَحَمَاقَتِهَا. وَأَرْبَابُ الْعَزَائِمِ وَالْبَصَائِرِ أَشَدُّ مَا يَكُونُونَ اسْتِغْفَارًا عُقَيْبَ الطَّاعَاتِ، لِشُهُودِهِمْ تَقْصِيرَهُمْ فِيهَا، وَتَرْكَ الْقِيَامِ لِلَّهِ بِهَا كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا الْأَمْرُ لَمَا أَقْدَمَ أَحَدُهُمْ عَلَى مَثَلِ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَا رَضِيَهَا لِسَيِّدِهِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَفْدَهُ وَحُجَّاجَ بَيْتِهِ بِأَنْ يَسْتَغْفِرُوهُ عُقَيْبَ إِفَاضَتِهِمْ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَهُوَ أَجَلُّ الْمَوَاقِفِ وَأَفْضَلُهَا، فَقَالَ {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ - ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 198 - 199] وَقَالَ تَعَالَى {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] قَالَ الْحَسَنُ: مَدُّوا الصَّلَاةَ إِلَى السَّحَرِ، ثُمَّ جَلَسُوا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ اسْتَغَفْرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى

بِالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَالْقِيَامِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ أَعْبَائِهَا، وَقَضَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ، وَاقْتِرَابِ أَجَلِهِ، فَقَالَ فِي آخِرِ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3] . وَمِنْ هَاهُنَا فَهِمَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ هَذَا أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ بِهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ عُقَيْبَ أَدَاءِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ إِعْلَامٌ بِأَنَّكَ قَدْ أَدَّيْتَ مَا عَلَيْكَ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْكَ شَيْءٌ، فَاجْعَلْ خَاتِمَتَهُ الِاسْتِغْفَارَ، كَمَا كَانَ خَاتِمَةَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَخَاتِمَةُ الْوُضُوءِ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ بَعْدَ فَرَاغِهِ " «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ» ". فَهَذَا شَأْنُ مَنْ عَرَفَ مَا يَنْبَغِي لِلَّهِ، وَيَلِيقُ بِجَلَالِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعُبُودِيَّةِ وَشَرَائِطِهَا، لَا جَهْلَ أَصْحَابِ الدَّعَاوِي وَشَطَحَاتِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَتَى رَضِيتَ نَفْسَكَ وَعَمَلَكَ لِلَّهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ، وَمَنْ عَرَفَ أَنَّ نَفْسَهُ مَأْوَى كُلِّ عَيْبٍ وَشَرٍّ، وَعَمَلَهُ عُرْضَةٌ لِكُلِّ آفَةٍ وَنَقْصٍ، كَيْفَ يَرْضَى لِلَّهِ نَفْسَهُ وَعَمَلَهُ؟ . وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ حَيْثُ يَقُولُ: مَنْ تَحَقَّقَ بِالْعُبُودِيَّةِ نَظَرَ أَفْعَالَهُ بِعَيْنِ

الرِّيَاءِ، وَأَحْوَالَهُ بِعَيْنِ الدَّعْوَى، وَأَقْوَالَهُ بِعَيْنِ الِافْتِرَاءِ، وَكُلَّمَا عَظُمَ الْمَطْلُوبُ فِي قَلْبِكَ، صَغُرَتْ نَفْسُكَ عِنْدَكَ، وَتَضَاءَلَتِ الْقِيمَةُ الَّتِي تَبْذُلُهَا فِي تَحْصِيلِهِ، وَكُلَّمَا شَهِدْتَ حَقِيقَةَ الرُّبُوبِيَّةِ وَحَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ، وَعَرَفْتَ اللَّهَ، وَعَرَفْتَ النَّفْسَ، وَتَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ مَا مَعَكَ مِنَ الْبِضَاعَةِ لَا يَصْلُحُ لِلْمَلِكِ الْحَقِّ، وَلَوْ جِئْتَ بِعَمَلِ الثَّقَلَيْنِ خَشِيتَ عَاقِبَتَهُ وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ وَتَفَضُّلِهِ، وَيُثِيبُكَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ وَتَفَضُّلِهِ. وَقَوْلُهُ: وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ عَيَّرْتَ بِهَا أَخَاكَ فَهِيَ إِلَيْكَ. يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: أَنَّهَا صَائِرَةٌ إِلَيْكَ وَلَا بُدَّ أَنْ تَعْمَلَهَا، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ» قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ: مِنْ ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ. وَأَيْضًا فَفِي التَّعْيِيرِ ضَرْبٌ خَفِيٌّ مِنَ الشَّمَاتَةِ بِالْمُعَيَّرِ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا مَرْفُوعًا «لَا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ، فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ» .

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ: أَنَّ تَعْيِيرَكَ لِأَخِيكَ بِذَنْبِهِ أَعْظَمُ إِثْمًا مِنْ ذَنْبِهِ وَأَشَدُّ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ صَوْلَةِ الطَّاعَةِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَشُكْرِهَا، وَالْمُنَادَاةِ عَلَيْهَا بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الذَّنْبِ، وَأَنَّ أَخَاكَ بَاءَ بِهِ، وَلَعَلَّ كَسْرَتَهُ بِذَنْبِهِ، وَمَا أَحْدَثَ لَهُ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْخُضُوعِ، وَالْإِزْرَاءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ مَرَضِ الدَّعْوَى، وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ، وَوُقُوفَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ نَاكِسَ الرَّأْسِ، خَاشِعَ الطَّرْفِ، مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ أَنْفَعُ لَهُ، وَخَيْرٌ مِنْ صَوْلَةِ طَاعَتِكَ، وَتَكَثُّرِكَ بِهَا وَالِاعْتِدَادِ بِهَا، وَالْمِنَّةِ عَلَى اللَّهِ وَخَلْقِهِ بِهَا، فَمَا أَقْرَبَ هَذَا الْعَاصِيَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ! وَمَا أَقْرَبَ هَذَا الْمُدِلَّ مِنْ مَقْتِ اللَّهِ، فَذَنْبٌ تَذِلُّ بِهِ لَدَيْهِ، أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَةٍ تُدِلُّ بِهَا عَلَيْهِ، وَإِنَّكَ أَنْ تَبِيتَ نَائِمًا وَتُصْبِحَ نَادِمًا، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَبِيتَ قَائِمًا وَتُصْبِحَ مُعْجَبًا، فَإِنَّ الْمُعْجَبَ لَا يَصْعَدُ لَهُ عَمَلٌ، وَإِنَّكَ إِنْ تَضْحَكْ وَأَنْتَ مُعْتَرِفٌ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَبْكِيَ وَأَنْتَ مُدِلٌّ، وَأَنِينُ الْمُذْنِبِينَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ زَجَلِ الْمُسَبِّحِينَ الْمُدِلِّينَ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَسْقَاهُ بِهَذَا الذَّنْبِ دَوَاءً اسْتَخْرَجَ بِهِ دَاءً قَاتِلًا هُوَ فِيكَ وَلَا تَشْعُرُ. فَلِلَّهِ فِي أَهْلِ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ أَسْرَارٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَلَا يُطَالِعُهَا إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ، فَيَعْرِفُونَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا تَنَالُهُ مَعَارِفُ الْبَشَرِ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَلْيُقِمْ عَلَيْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ» أَيْ لَا يُعَيِّرْ، مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِإِخْوَتِهِ {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92] فَإِنَّ الْمِيزَانَ بِيَدِ اللَّهِ، وَالْحُكْمَ لِلَّهِ، فَالسَّوْطُ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ هَذَا الْعَاصِي بِيَدِ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، وَالْقَصْدُ إِقَامَةُ الْحَدِّ لَا التَّعْيِيرُ وَالتَّثْرِيبُ، وَلَا يَأْمَنُ كَرَّاتِ الْقَدَرِ وَسَطْوَتَهُ إِلَّا أَهْلُ الْجَهْلِ بِاللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَعْلَمِ الْخَلْقِ بِهِ، وَأَقْرَبِهِمْ إِلَيْهِ وَسِيلَةً {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74] وَقَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] وَكَانْتَ عَامَّةُ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» وَقَالَ: «مَا مِنْ

فصل منزلة التوبة

قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ» ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ، اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» . [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّوْبَةِ] [وُجُوبُ التَّوْبَةِ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّوْبَةِ فَإِذَا صَحَّ هَذَا الْمَقَامُ، وَنَزَلَ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، أَشْرَفَ مِنْهَا عَلَى مَقَامِ التَّوْبَةِ ; لِأَنَّهُ بِالْمُحَاسَبَةِ قَدْ تَمَيَّزَ عِنْدَهُ مَا لَهُ مِمَّا عَلَيْهِ، فَلْيَجْمَعْ هِمَّتَهُ وَعَزْمَهُ عَلَى النُّزُولِ فِيهِ وَالتَّشْمِيرِ إِلَيْهِ إِلَى الْمَمَاتِ. وَمَنْزِلُ التَّوْبَةِ أَوَّلُ الْمَنَازِلِ، وَأَوْسَطُهَا، وَآخِرُهَا، فَلَا يُفَارِقُهُ الْعَبْدُ السَّالِكُ، وَلَا يَزَالُ فِيهِ إِلَى الْمَمَاتِ، وَإِنِ ارْتَحَلَ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ ارْتَحَلَ بِهِ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ وَنَزَلَ بِهِ، فَالتَّوْبَةُ هِيَ بِدَايَةُ الْعَبْدِ وَنِهَايَتُهُ، وَحَاجَتُهُ إِلَيْهَا فِي النِّهَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ، كَمَا أَنَّ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا فِي الْبِدَايَةِ كَذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ، خَاطَبَ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ الْإِيمَانِ وَخِيَارَ خَلْقِهِ أَنْ يَتُوبُوا إِلَيْهِ، بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَصَبْرِهِمْ، وَهِجْرَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، ثُمَّ عَلَّقَ الْفَلَاحَ بِالتَّوْبَةِ تَعْلِيقَ الْمُسَبَّبِ بِسَبَبِهِ، وَأَتَى بِأَدَاةِ لَعَلَّ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّرَجِّي، إِيذَانًا بِأَنَّكُمْ إِذَا تُبْتُمْ كُنْتُمْ عَلَى رَجَاءِ الْفَلَاحِ، فَلَا يَرْجُو الْفَلَاحَ إِلَّا التَّائِبُونَ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ. قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] قَسَّمَ الْعِبَادَ إِلَى تَائِبٍ وَظَالِمٍ، وَمَا ثَمَّ قَسْمٌ ثَالِثٌ الْبَتَّةَ، وَأَوْقَعَ اسْمَ الظَّالِمِ عَلَى مَنْ لَمْ يَتُبْ، وَلَا أَظْلَمَ مِنْهُ، لِجَهْلِهِ بِرَبِّهِ وَبِحَقِّهِ، وَبِعَيْبِ نَفْسِهِ وَآفَاتِ أَعْمَالِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللَّهِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَعُدُّونَ لَهُ فِي

شرائط التوبة

الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ " «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ» " مِائَةَ مَرَّةٍ، وَمَا صَلَّى صَلَاةً قَطُّ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] إِلَى آخِرِهَا، إِلَّا قَالَ فِيهَا «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» وَصَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» . فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى أَعْلَمِ الْخَلْقِ بِاللَّهِ وَحُقُوقِهِ وَعَظْمَتِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ جَلَالُهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَعْرَفِهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ وَحُقُوقِهَا وَأَقْوَمِهِمْ بِهَا. [شَرَائِطُ التَّوْبَةِ] فَصْل وَلَمَّا كَانَتِ التَّوْبَةُ هِيَ رُجُوعُ الْعَبْدِ إِلَى اللَّهِ، وَمُفَارَقَتُهُ لِصِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِدَايَةِ اللَّهِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَا تَحْصُلُ هِدَايَتُهُ إِلَّا بِإِعَانَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَقَدِ انْتَظَمَتْهَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ أَحْسَنَ انْتِظَامٍ، وَتَضَمَّنَتْهَا أَبْلَغَ تَضَمُّنٍ، فَمَنْ أَعْطَى الْفَاتِحَةَ حَقَّهَا - عِلْمًا وَشُهُودًا وَحَالًا مَعْرِفَةً - عَلِمَ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ لَهُ قِرَاءَتُهَا عَلَى الْعُبُودِيَّةِ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ التَّامَّةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لَا تَكُونُ مَعَ الْجَهْلِ بِالذُّنُوبِ، وَلَا مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْأَوَّلَ جَهْلٌ يُنَافِي مَعْرِفَةَ الْهُدَى، وَالثَّانِيَ غَيٌّ يُنَافِي قَصْدَهُ وَإِرَادَتَهُ، فَلِذَلِكَ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الذَّنْبِ، وَالِاعْتِرَافِ بِهِ، وَطَلَبِ التَّخَلُّصِ مِنْ سُوءِ عَوَاقِبِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا. قَالَ فِي الْمَنَازِلِ: وَهِيَ أَنْ تَنْظُرَ فِي الذَّنْبِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِلَى انْخِلَاعِكَ مِنَ الْعِصْمَةِ حِينَ إِتْيَانِهِ، وَفَرَحِكَ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِ، وَقُعُودِكَ عَلَى الْإِصْرَارِ عَنْ تَدَارُكِهِ، مَعَ تَيَقُّنِكَ نَظَرَ الْحَقِّ إِلَيْكَ.

يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالِانْخِلَاعِ عَنِ الْعِصْمَةِ انْخِلَاعَهُ عَنِ اعْتِصَامِهِ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُ لَوِ اعْتَصَمَ بِاللَّهِ لَمَا خَرَجَ عَنْ هِدَايَةِ الطَّاعَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] فَلَوْ كَمُلَتْ عِصْمَتُهُ بِاللَّهِ لَمْ يَخْذُلْهُ أَبَدًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] أَيْ مَتَى اعْتَصَمْتُمْ بِهِ تَوَلَّاكُمْ، وَنَصَرَكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَى الشَّيْطَانِ، وَهُمَا الْعَدُوَّانِ اللَّذَانِ لَا يُفَارِقَانِ الْعَبْدَ، وَعَدَاوَتُهُمَا أَضَرُّ مِنْ عَدَاوَةِ الْعَدُوِّ الْخَارِجِ، فَالنَّصْرُ عَلَى هَذَا الْعَدُوِّ أَهَمُّ، وَالْعَبْدُ إِلَيْهِ أَحْوَجُ، وَكَمَالُ النُّصْرَةِ عَلَى الْعَدُوِّ بِحَسَبِ كَمَالِ الِاعْتِصَامِ بِاللَّهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا فِي حَقِيقَةِ الِاعْتِصَامِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَقُومُ إِلَّا بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الِانْخِلَاعَ مِنْ عِصْمَةِ اللَّهِ لَهُ، وَأَنَّكَ إِنَّمَا ارْتَكَبْتَ الذَّنْبَ بَعْدَ انْخِلَاعِكَ مِنْ تَوْبَةِ عِصْمَتِهِ لَكَ، فَمَتَى عُرِفَ هَذَا الِانْخِلَاعُ وَعَظُمَ خَطَرُهُ عِنْدَهُ، وَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُ، وَعَلِمَ أَنَّ الْهَلَكَ كُلَّ الْهَلَكِ بَعْدَهُ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الْخِذْلَانِ، فَمَا خَلَّى اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذَّنْبِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ خَذَلَكَ، وَخَلَّى بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ، وَلَوْ عَصَمَكَ وَوَفَّقَكَ لَمَا وَجَدَ الذَّنْبُ إِلَيْكَ سَبِيلًا. فَقَدْ أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ عَلَى أَنَّ الْخِذْلَانَ: أَنْ يَكِلَكَ اللَّهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَيُخَلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا، وَالتَّوْفِيقَ: أَنْ لَا يَكِلَكَ اللَّهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَلَهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ التَّخْلِيَةِ - بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذَّنْبِ وَخِذْلَانِكَ حَتَّى وَاقَعْتَهُ - حِكَمٌ وَأَسْرَارٌ، سَنَذْكُرُ بَعْضَهَا. وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَتَرْجِعُ التَّوْبَةُ إِلَى اعْتِصَامِكَ بِهِ وَعِصْمَتِهِ لَكَ. قَوْلُهُ: وَفَرَّحَكَ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِ. الْفَرَحُ بِالْمَعْصِيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ الرَّغْبَةِ فِيهَا، وَالْجَهْلِ بِقَدْرِ مَنْ عَصَاهُ، وَالْجَهْلِ بِسُوءِ عَاقِبَتِهَا وَعِظَمِ خَطَرِهَا، فَفَرَحُهُ بِهَا غَطَّى عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَفَرَحُهُ بِهَا أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِنْ مُوَاقَعَتِهَا، وَالْمُؤْمِنُ لَا تَتِمُّ لَهُ لَذَّةٌ بِمَعْصِيَةٍ أَبَدًا، وَلَا يَكْمُلُ بِهَا فَرَحُهُ، بَلْ لَا يُبَاشِرُهَا إِلَّا وَالْحُزْنُ مُخَالِطٌ لِقَلْبِهِ، وَلَكِنَّ سُكْرَ الشَّهْوَةِ يَحْجُبُهُ عَنِ الشُّعُورِ بِهِ، وَمَتَى خَلَّى قَلْبَهُ مِنْ هَذَا الْحُزْنِ، وَاشْتَدَّتْ غِبْطَتُهُ وَسُرُورُهُ فَلْيَتَّهِمْ إِيمَانَهُ، وَلْيَبْكِ عَلَى مَوْتِ قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا

لَأَحْزَنَهُ ارْتِكَابُهُ لِلذَّنْبِ، وَغَاظَهُ وَصَعُبَ عَلَيْهِ، وَلَا يُحِسُّ الْقَلْبُ بِذَلِكَ، فَحَيْثُ لَمْ يُحِسَّ بِهِ فَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامٌ. وَهَذِهِ النُّكْتَةُ فِي الذَّنْبِ قَلَّ مَنْ يَهْتَدِي إِلَيْهَا أَوْ يَنْتَبِهُ لَهَا، وَهِيَ مَوْضِعٌ مَخُوفٌ جِدًّا، مُتَرَامٍ إِلَى هَلَاكٍ إِنْ لَمْ يُتَدَارَكْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: خَوْفٍ مِنَ الْمُوَافَاةِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَنَدَمٍ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ اللَّهِ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَتَشْمِيرٍ لِلْجِدِّ فِي اسْتِدْرَاكِهِ. قَوْلُهُ: وَقُعُودُكَ عَلَى الْإِصْرَارِ عَنْ تَدَارُكِهِ. الْإِصْرَارُ: هُوَ الِاسْتِقْرَارُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، وَالْعَزْمُ عَلَى الْمُعَاوَدَةِ، وَذَلِكَ ذَنْبٌ آخَرُ، لَعَلَّهُ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الْأَوَّلِ بِكَثِيرٍ، وَهَذَا مِنْ عُقُوبَةِ الذَّنْبِ أَنَّهُ يُوجِبُ ذَنْبًا أَكْبَرَ مِنْهُ، ثُمَّ الثَّانِي كَذَلِكَ، ثُمَّ الثَّالِثُ كَذَلِكَ، حَتَّى يَسْتَحْكِمَ الْهَلَاكُ. فَالْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى، وَالْقُعُودُ عَنْ تَدَارُكِ الْفَارِطِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِصْرَارٌ وَرِضًا بِهَا، وَطُمَأْنِينَةٌ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْهَلَاكِ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْمُجَاهَرَةُ بِالذَّنْبِ مَعَ تَيَقُّنِ نَظَرِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ آمَنَ بِنَظَرِهِ إِلَيْهِ وَأَقْدَمَ عَلَى الْمُجَاهَرَةِ فَعَظِيمٌ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِنَظَرِهِ إِلَيْهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ فَكُفْرٌ، وَانْسِلَاخٌ مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: بَيْنَ قِلَّةِ الْحَيَاءِ وَمُجَاهَرَةِ نَظَرِ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَبَيْنَ الْكُفْرِ وَالِانْسِلَاخِ مِنَ الدِّينِ، فَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ تَيَقُّنُهُ أَنَّ اللَّهَ كَانَ نَاظِرًا - وَلَا يَزَالُ - إِلَيْهِ مُطَّلِعًا عَلَيْهِ، يَرَاهُ جَهْرَةً عِنْدَ مُوَاقَعَةِ الذَّنْبِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا مِنْ مُسْلِمٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا بِنَظَرِ اللَّهِ إِلَيْهِ جَاحِدًا لَهُ، فَتَوْبَتُهُ دُخُولُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِقْرَارُهُ بِصِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ. قَالَ: وَشَرَائِطُ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةٌ: النَّدَمُ، وَالْإِقْلَاعُ، وَالِاعْتِذَارُ. فَحَقِيقَةُ التَّوْبَةِ: هِيَ النَّدَمُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي، وَالْإِقْلَاعُ عَنْهُ فِي الْحَالِ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالثَّلَاثَةُ تَجْتَمِعُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ التَّوْبَةُ، فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَنْدَمُ، وَيُقْلِعُ، وَيَعْزِمُ.

فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إِلَى الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا، وَهَذَا الرُّجُوعُ هُوَ حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ. وَلَمَّا كَانَ مُتَوَقِّفًا عَلَى تِلْكَ الثَّلَاثَةِ جُعِلَتْ شَرَائِطَ لَهُ. فَأَمَّا النَّدَمُ: فَإِنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ إِلَّا بِهِ، إِذْ مَنْ لَمْ يَنْدَمْ عَلَى الْقَبِيحِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ بِهِ، وَإِصْرَارِهِ عَلَيْهِ، وَفِي الْمُسْنَدِ " النَّدَمُ تَوْبَةٌ ". وَأَمَّا الْإِقْلَاعُ: فَتَسْتَحِيلُ التَّوْبَةُ مَعَ مُبَاشَرَةِ الذَّنْبِ. وَأَمَّا الِاعْتِذَارُ: فَفِيهِ إِشْكَالٌ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ تَرْكُ الِاعْتِذَارِ، فَإِنَّ الِاعْتِذَارَ مُحَاجَّةٌ عَنِ الْجِنَايَةِ، وَتَرْكُ الِاعْتِذَارِ اعْتِرَافٌ بِهَا، وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إِلَّا بَعْدَ الِاعْتِرَافِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ لِرَئِيسِهِ وَقَدْ عَتَبَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ: وَمَا قَابَلْتَ عَتْبَكَ بِاعْتِذَارٍ ... وَلَكِنِّي أَقُولُ كَمَا تَقُولُ وَأَطْرُقُ بَابَ عَفْوِكَ بِانْكِسَارٍ ... وَيَحْكُمُ بَيْنَنَا الْخُلُقُ الْجَمِيلُ فَلَمَّا سَمِعَ الرَّئِيسُ مَقَالَتَهُ قَامَ وَرَكِبَ إِلَيْهِ مِنْ فَوْرِهِ، وَأَزَالَ عَتْبَهُ عَلَيْهِ، فَتَمَامُ الِاعْتِرَافِ تَرْكُ الِاعْتِذَارِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ: اللَّهُمَّ لَا بَرَاءَةَ لِي مِنْ ذَنْبٍ فَأَعْتَذِرُ، وَلَا قُوَّةَ لِي فَأَنْتَصِرُ، وَلَكِنِّي مُذْنِبٌ مُسْتَغْفِرٌ، اللَّهُمَّ لَا عُذْرَ لِي، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ حَقِّكَ، وَمَحْضُ جِنَايَتِي، فَإِنْ عَفَوْتَ وَإِلَّا فَالْحَقُّ لَكَ. وَالَّذِي ظَهَرَ لِي مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالِاعْتِذَارِ إِظْهَارَ الضَّعْفِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَغَلَبَةَ الْعَدُوِّ، وَقُوَّةَ سُلْطَانِ النَّفْسِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنِّي مَا كَانَ عَنِ اسْتِهَانَةٍ بِحَقِّكَ، وَلَا جَهْلًا بِهِ، وَلَا إِنْكَارًا لِاطِّلَاعِكَ، وَلَا اسْتِهَانَةً بِوَعِيدِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ غَلَبَةِ الْهَوَى، وَضَعْفِ الْقُوَّةِ عَنْ مُقَاوَمَةِ مَرَضِ الشَّهْوَةِ، وَطَمَعًا فِي مَغْفِرَتِكَ وَاتِّكَالًا عَلَى عَفْوِكَ، وَحُسْنَ ظَنٍّ بِكَ، وَرَجَاءً لِكَرَمِكَ، وَطَمَعًا فِي سَعَةِ حِلْمِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَغَرَّنِي بِكَ الْغَرُورُ، وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، وَسِتْرُكَ الْمُرْخَى عَلَيَّ، وَأَعَانَنِي جَهْلِي، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الِاعْتِصَامِ لِي إِلَّا بِكَ، وَلَا مَعُونَةَ عَلَى طَاعَتِكَ إِلَّا بِتَوْفِيقِكَ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَضَمِّنِ لِلِاسْتِعْطَافِ وَالتَّذَلُّلِ وَالِافْتِقَارِ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ، وَالْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ.

فَهَذَا مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا يَسْلُكُهُ الْأَكْيَاسُ الْمُتَمَلِّقُونَ لِرَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَاللَّهُ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَتَمَلَّقَ لَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ " تَمَلَّقُوا لِلَّهِ " وَفِي الصَّحِيحِ «لَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ» وَإِنْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ الْإِعْذَارَ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ " «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» " وَقَالَ تَعَالَى {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 5] فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ عَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ أَنْ أَعْذَرَ إِلَى عِبَادِهِ، وَأَنْ لَا يُؤَاخِذَ ظَالِمَهُمْ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْإِعْذَارِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَيْضًا يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْهِ، وَيَتَنَصَّلَ إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ " «مَنِ اعْتَذَرَ إِلَى اللَّهِ قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَهُ» " فَهَذَا هُوَ الِاعْتِذَارُ الْمَحْمُودُ النَّافِعُ. وَأَمَّا الِاعْتِذَارُ بِالْقَدَرِ فَهُوَ مُخَاصَمَةٌ لِلَّهِ، وَاحْتِجَاجٌ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى الرَّبِّ، وَحَمْلٌ لِذَنْبِهِ عَلَى الْأَقْدَارِ، وَهَذَا فِعْلُ خُصَمَاءِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالُوا: مَا الْمُرَادُ بِهَا؟ قَالَ: إِقَامَةُ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ. وَكَذِبَ هَذَا الْجَاهِلُ بِاللَّهِ وَكَلَامِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا التَّزْهِيدُ فِي هَذَا الْفَانِي الذَّاهِبِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْبَاقِي الدَّائِمِ، وَالْإِزْرَاءُ بِمَنْ آثَرَ هَذَا الْمُزَيَّنَ وَاتَّبَعَهُ، بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي يُزَيَّنُ لَهُ مَا يَلْعَبُ بِهِ، فَيَهُشُّ إِلَيْهِ وَيَتَحَرَّكُ لَهُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فَاعِلَ التَّزْيِينِ، فَلَمْ يَقُلْ زُيِّنَّا لِلنَّاسِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُضِيفُ تَزْيِينَ الدُّنْيَا وَالْمَعَاصِي إِلَى الشَّيَاطِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43] وَقَالَ {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] وَفِي الْحَدِيثِ «بُعِثْتُ هَادِيًا وَدَاعِيًا، وَلَيْسَ إِلَيَّ مِنَ الْهِدَايَةِ شَيْءٌ، وَبُعِثَ إِبْلِيسُ مُغْوِيًا وَمُزَيِّنًا، وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ شَيْءٌ» وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى

حقائق التوبة وعلامة قبولها

{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] فَإِنَّ إِضَافَةَ التَّزْيِينِ إِلَيْهِ قَضَاءً وَقَدَرًا، وَإِلَى الشَّيْطَانِ تَسَبُّبًا، مَعَ أَنَّهُ تَزْيِينُهُ تَعَالَى عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى رُكُونِهِمْ إِلَى مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ، فَمِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا، وَمِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْقَدَرِ مُنَافٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الِاعْتِذَارِ فِي شَيْءٍ، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ " إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، هَذَا قَضَاؤُكَ، وَأَنْتَ قَدَّرْتَ عَلَيَّ، وَأَنْتَ حَكَمْتَ عَلَيَّ، وَأَنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنْتَ عَمِلْتَ، وَأَنْتَ كَسَبْتَ، وَأَنْتَ أَرَدْتَ وَاجْتَهَدْتَ، وَأَنَا أُعَاقِبُكَ عَلَيْهِ، وَإِذَا قَالَ: يَا رَبِّ، أَنَا ظَلَمْتُ، وَأَنَا أَخْطَأْتُ، وَأَنَا اعْتَدَيْتُ، وَأَنَا فَعَلْتُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنَا قَدَرْتُ عَلَيْكَ وَقَضَيْتُ وَكَتَبْتُ، وَأَنَا أَغْفِرُ لَكَ، وَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَنَا عَمِلْتُهَا، وَأَنَا تَصَدَّقْتُ، وَأَنَا صَلَّيْتُ، وَأَنَا أَطْعَمْتُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنَا أَعَنْتُكَ، وَأَنَا وَفَّقْتُكَ، وَإِذَا قَالَ: يَا رَبِّ أَنْتَ أَعَنْتَنِي وَوَفَّقْتَنِي، وَأَنْتَ مَنَنْتَ عَلَيَّ، يَقُولُ اللَّهُ: وَأَنْتَ عَمِلْتَهَا، وَأَنْتَ أَرَدْتَهَا، وَأَنْتَ كَسَبْتَهَا ". فَالِاعْتِذَارُ اعْتِذَارَانِ: اعْتِذَارٌ يُنَافِي الِاعْتِرَافَ، فَذَلِكَ مُنَافٍ لِلتَّوْبَةِ، وَاعْتِذَارٌ يُقَرِّرُ الِاعْتِرَافَ، فَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ. [حَقَائِقُ التَّوْبَةِ وَعَلَامَةُ قَبُولِهَا] قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَحَقَائِقُ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: تَعْظِيمُ الْجِنَايَةِ، وَاتِّهَامُ التَّوْبَةِ، وَطَلَبُ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ. يُرِيدُ بِالْحَقَائِقِ: مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الشَّيْءُ، وَتَتَبَيَّنُ بِهِ صِحَّتُهُ وَثُبُوتُهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَارِثَةَ «إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟» .

فَأَمَّا تَعْظِيمُ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ إِذَا اسْتَهَانَ بِهَا لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهَا، وَعَلَى قَدْرِ تَعْظِيمِهَا يَكُونُ نَدَمُهُ عَلَى ارْتِكَابِهَا، فَإِنَّ مَنِ اسْتَهَانَ بِإِضَاعَةِ فِلْسٍ - مَثَلًا - لَمْ يَنْدَمْ عَلَى إِضَاعَتِهِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ دِينَارٌ اشْتَدَّ نَدَمُهُ، وَعَظُمَتْ إِضَاعَتُهُ عِنْدَهُ. وَتَعْظِيمُ الْجِنَايَةِ يَصْدُرُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: تَعْظِيمُ الْأَمْرِ، وَتَعْظِيمُ الْآمِرِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَزَاءِ. وَأَمَّا اتِّهَامُ التَّوْبَةِ فَلِأَنَّهَا حَقٌّ عَلَيْهِ، لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ أَدَّى هَذَا الْحَقَّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَلَيْهِ، فَيَخَافُ أَنَّهُ مَا وَفَّاهَا حَقَّهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ جُهْدَهُ فِي صِحَّتِهَا، وَأَنَّهَا تَوْبَةُ عِلَّةٍ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهَا، كَتَوْبَةِ أَرْبَابِ الْحَوَائِجِ وَالْإِفْلَاسِ، وَالْمُحَافِظِينَ عَلَى حَاجَاتِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ أَنَّهُ تَابَ مُحَافَظَةً عَلَى حَالِهِ، فَتَابَ لِلْحَالِ لَا خَوْفًا مِنْ ذِي الْجَلَالِ، أَوْ أَنَّهُ تَابَ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ مِنَ الْكَدِّ فِي تَحْصِيلِ الذَّنْبِ، أَوِ اتِّقَاءَ مَا يَخَافُهُ عَلَى عِرْضِهِ وَمَالِهِ وَمَنْصِبِهِ، أَوْ لِضَعْفِ دَاعِي الْمَعْصِيَةِ فِي قَلْبِهِ، وَخُمُودِ نَارِ شَهْوَتِهِ، أَوْ لِمُنَافَاةِ الْمَعْصِيَةِ لِمَا يَطْلُبُهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالرِّزْقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي تَقْدَحُ فِي كَوْنِ التَّوْبَةِ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَتَعْظِيمًا لَهُ وَلِحُرُمَاتِهِ، وَإِجْلَالًا لَهُ، وَخَشْيَةً مِنْ سُقُوطِ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ، وَعَنِ الْبُعْدِ وَالطَّرْدِ عَنْهُ، وَالْحِجَابِ عَنْ رُؤْيَةِ وَجْهِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَهَذِهِ التَّوْبَةُ لَوْنٌ، وَتَوْبَةُ أَصْحَابِ الْعِلَلِ لَوْنٌ. وَمِنَ اتِّهَامِ التَّوْبَةِ أَيْضًا: ضَعْفُ الْعَزِيمَةِ، وَالْتِفَاتُ الْقَلْبِ إِلَى الذَّنْبِ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، وَتَذَكُّرُ حَلَاوَةِ مُوَاقَعَتِهِ، فَرُبَّمَا تَنَفَّسَ، وَرُبَّمَا هَاجَ هَائِجُهُ. وَمِنَ اتِّهَامِ التَّوْبَةِ: طُمَأْنِينَتُهُ وَوُثُوقُهُ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ تَابَ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ مَنْشُورًا بِالْأَمَانِ، فَهَذَا مِنْ عَلَامَاتِ التُّهْمَةِ. وَمِنْ عَلَامَاتِهَا: جُمُودُ الْعَيْنِ، وَاسْتِمْرَارُ الْغَفْلَةِ، وَأَنْ لَا يَسْتَحْدِثَ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْمَالًا صَالِحَةً لَمْ تَكُنْ لَهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ. فَالتَّوْبَةُ الْمَقْبُولَةُ الصَّحِيحَةُ لَهَا عَلَامَاتٌ. مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلَهَا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَزَالُ الْخَوْفُ مُصَاحِبًا لَهُ لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَخَوْفُهُ مُسْتَمِرٌّ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ قَوْلَ الرُّسُلِ لِقَبْضِ رُوحِهِ {أَنْ لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] فَهُنَاكَ يَزُولُ الْخَوْفُ.

وَمِنْهَا: انْخِلَاعُ قَلْبِهِ، وَتَقَطُّعُهُ نَدَمًا وَخَوْفًا، وَهَذَا عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجِنَايَةِ وَصِغَرِهَا، وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110] قَالَ: تَقَطُّعُهَا بِالتَّوْبَةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْعَظِيمَةِ يُوجِبُ انْصِدَاعَ الْقَلْبِ وَانْخِلَاعَهُ، وَهَذَا هُوَ تَقَطُّعُهُ، وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ، لِأَنَّهُ يَتَقَطَّعُ قَلْبُهُ حَسْرَةً عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ، وَخَوْفًا مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ، فَمَنْ لَمْ يَتَقَطَّعْ قَلْبُهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا فَرَّطَ حَسْرَةً وَخَوْفًا، تَقَطَّعَ فِي الْآخِرَةِ إِذَا حَقَّتِ الْحَقَائِقُ، وَعَايَنَ ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ، وَعِقَابَ الْعَاصِينَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَطُّعِ الْقَلْبِ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ. وَمِنْ مُوجِبَاتِ التَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ أَيْضًا: كَسْرَةٌ خَاصَّةٌ تَحْصُلُ لِلْقَلْبِ لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ، وَلَا تَكُونُ لِغَيْرِ الْمُذْنِبِ، لَا تَحْصُلُ بِجُوعٍ، وَلَا رِيَاضَةٍ، وَلَا حُبٍّ مُجَرَّدٍ، وَإِنَّمَا هِيَ أَمَرٌّ وَرَاءَ هَذَا كُلِّهِ، تَكْسِرُ الْقَلْبَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ كَسْرَةً تَامَّةً، قَدْ أَحَاطَتْ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَأَلْقَتْهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ طَرِيحًا ذَلِيلًا خَاشِعًا، كَحَالِ عَبْدٍ جَانٍ آبِقٍ مِنْ سَيِّدِهِ، فَأُخِذَ فَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُنْجِيهِ مِنْ سَطْوَتِهِ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا وَلَا عَنْهُ غَنَاءً، وَلَا مِنْهُ مَهْرَبًا، وَعَلِمَ أَنَّ حَيَاتَهُ وَسَعَادَتَهُ وَفَلَاحَهُ وَنَجَاحَهُ فِي رِضَاهُ عَنْهُ، وَقَدْ عَلِمَ إِحَاطَةَ سَيِّدِهِ بِتَفَاصِيلِ جِنَايَاتِهِ، هَذَا مَعَ حُبِّهِ لِسَيِّدِهِ، وَشِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَعِلْمِهِ بِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ وَقُوَّةِ سَيِّدِهِ، وَذُلِّهِ وَعِزِّ سَيِّدِهِ. فَيَجْتَمِعُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَسْرَةٌ وَذِلَّةٌ وَخُضُوعٌ، مَا أَنْفَعَهَا لِلْعَبْدِ وَمَا أَجْدَى عَائِدَتَهَا عَلَيْهِ! وَمَا أَعْظَمَ جَبْرَهُ بِهَا، وَمَا أَقْرَبَهُ بِهَا مِنْ سَيِّدِهِ! فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى سَيِّدِهِ مِنْ هَذِهِ الْكَسْرَةِ، وَالْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَالْإِخْبَاتِ، وَالِانْطِرَاحِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ، فَلَلَّهِ مَا أَحْلَى قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ: أَسْأَلُكَ بِعِزِّكَ وَذُلِّي إِلَّا رَحِمْتَنِي، أَسْأَلُكَ بِقُوَّتِكَ وَضَعْفِي، وَبِغِنَاكَ عَنِّي وَفَقْرِي إِلَيْكَ، هَذِهِ نَاصِيَتِي الْكَاذِبَةُ الْخَاطِئَةُ بَيْنَ يَدَيْكَ، عَبِيدُكَ سِوَايَ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ لِي سَيِّدٌ سِوَاكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ، وَأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتِهَالَ الْخَاضِعِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ، سُؤَالَ مَنْ خَضَعَتْ

فصل أعذار الخليقة منها محمود ومنها مذموم

لَكَ رَقَبَتُهُ، وَرَغِمَ لَكَ أَنْفُهُ، وَفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وَذَلَّ لَكَ قَلْبُهُ. يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ ... وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أُحَاذِرُهُ لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ ... وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ آثَارِ التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَلْيَتَّهِمْ تَوْبَتَهُ وَلْيَرْجِعْ إِلَى تَصْحِيحِهَا، فَمَا أَصْعَبَ التَّوْبَةَ الصَّحِيحَةَ بِالْحَقِيقَةِ، وَمَا أَسْهَلَهَا بِاللِّسَانِ وَالدَّعْوَى! وَمَا عَالَجَ الصَّادِقُ بِشَيْءٍ أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْبَةِ الْخَالِصَةِ الصَّادِقَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ مِنَ الْمُتَنَزِّهِينَ عَنِ الْكَبَائِرِ الْحِسِّيَّةِ وَالْقَاذُورَاتِ فِي كَبَائِرَ مِثْلِهَا أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا أَوْ دُونَهَا، وَلَا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ أَنَّهَا ذُنُوبٌ لِيَتُوبُوا مِنْهَا، فَعِنْدَهُمْ - مِنَ الْإِزْرَاءِ عَلَى أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَاحْتِقَارِهِمْ، وَصَوْلَةِ طَاعَاتِهِمْ، وَمِنَّتِهِمْ عَلَى الْخَلْقِ بِلِسَانِ الْحَالِ، وَاقْتِضَاءِ بَوَاطِنِهِمْ لِتَعْظِيمِ الْخَلْقِ لَهُمْ عَلَى طَاعَاتِهِمْ، اقْتِضَاءً لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ غَيْرِهِمْ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ - مَا هُوَ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ، وَأَبْعَدُ لَهُمْ عَنْ بَابِهِ مِنْ كَبَائِرِ أُولَئِكَ، فَإِنْ تَدَارَكَ اللَّهُ أَحَدَهُمْ بِقَاذُورَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ يُوقِعُهُ فِيهَا لِيَكْسِرَ بِهَا نَفْسَهُ، وَيُعَرِّفَهُ قَدْرَهُ، وَيُذِلَّهُ بِهَا، وَيُخْرِجَ بِهَا صَوْلَةَ الطَّاعَةِ مَنْ قَلْبِهِ، فَهِيَ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا تَدَارَكَ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ، وَإِقْبَالٍ بِقُلُوبِهِمْ إِلَيْهِ، فَهُوَ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِمْ، وَإِلَّا فَكِلَاهُمَا عَلَى خَطَرٍ. [فَصْلٌ أَعْذَارُ الْخَلِيقَةِ مِنْهَا مَحْمُودٌ وَمِنْهَا مَذْمُومٌ] فَصْلٌ وَأَمَّا طَلَبُ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ، فَهَذَا لَهُ وَجْهَانِ: وَجْهٌ مَحْمُودٌ، وَوَجْهٌ مَذْمُومٌ حَرَامٌ. فَالْمَذْمُومُ: أَنْ تَطْلُبَ أَعْذَارَهُمْ، نَظَرًا إِلَى الْحُكْمِ الْقَدَرِيِّ، وَجَرَيَانِهِ عَلَيْهِمْ، شَاءُوا أَمْ أَبَوْا، فَتَعْذِرَهُمْ بِالْقَدَرِ. وَهَذَا الْقَدَرُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ السَّالِكِينَ، وَالنَّاظِرِينَ إِلَى الْقَدَرِ، الْفَانِينَ فِي شُهُودِهِ، وَهُوَ - كَمَا تَقَدَّمَ - دَرْبٌ خَطِرٌ جِدًّا، قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ، لَا يُنْجِي وَحْدَهُ. وَأَظُنُّ هَذَا مُرَادَ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: مُشَاهَدَةُ الْعَبْدِ الْحُكْمَ لَمْ يَدَعْ لَهُ اسْتِحْسَانَ حَسَنَةٍ، وَلَا اسْتِقْبَاحَ سَيِّئَةٍ، لِصُعُودِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَعَانِي إِلَى مَعْنَى الْحُكْمِ.

وَهَذَا الشُّهُودُ شُهُودٌ نَاقِصٌ مَذْمُومٌ، إِنْ طَرَدَهُ صَاحِبُهُ، فَعَذَرَ أَعْدَاءَ اللَّهِ، وَأَهْلَ مُخَالَفَتِهِ وَمُخَالَفَةِ رُسُلِهِ، وَطَلَبَ أَعْذَارَهُمْ كَانَ مُضَادًّا لِلَّهِ فِي أَمْرِهِ، عَاذِرًا مَنْ لَمْ يَعْذُرْهُ اللَّهُ، طَالِبًا عُذْرَ مَنْ لَامَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ بِلَوْمِهِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ مُوَافَقَةً لِلَّهِ، بَلْ مُوَافَقَتُهُ لَوْمُ هَذَا، وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِ، وَأَزَالَ عُذْرَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْ كَانَ مَعْذُورًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَ اللَّهِ لَمَا عَاقَبَهُ الْبَتَّةَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْحَمُ وَأَغْنَى وَأَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُعَاقِبَ صَاحِبَ عُذْرٍ، فَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، إِزَالَةً لِأَعْذَارِ خَلْقِهِ، لِئَلَّا يَكُونَ لَهُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَالِبَ عُذْرِهِمْ وَمُصَحِّحَهُ مُقِيمٌ لِحُجَّةٍ قَدْ أَبْطَلَهَا اللَّهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَمَنْ لَهُ عُذْرٌ مِنْ خَلْقِهِ - كَالطِّفْلِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، وَالْمَعْتُوهِ، وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَالْأَصَمِّ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ وَلَا يَسْمَعُ - فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ هَؤُلَاءِ بِلَا ذَنْبٍ الْبَتَّةَ، وَلَهُ فِيهِمْ حُكْمٌ آخَرُ فِي الْمَعَادِ، يَمْتَحِنُهُمْ بِأَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ، فَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ مِنْهُمْ، أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ أَدْخَلَهُ النَّارَ، حَكَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي مَقَالَاتِهِ، وَفِيهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ بَعْضُهَا

فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، كَحَدِيثِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَمَنْ طَعَنَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ لَا دَارَ تَكْلِيفٍ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُخَالِفَةٌ لِلْعَقْلِ، فَهُوَ جَاهِلٌ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ إِنَّمَا يَنْقَطِعُ بِدُخُولِ دَارِ الْقَرَارِ، الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَإِلَّا فَالتَّكْلِيفُ وَاقِعٌ فِي الْبَرْزَخِ وَفِي الْعَرَصَاتِ، وَلِهَذَا يَدْعُوهُمْ إِلَى السُّجُودِ لَهُ فِي الْمَوْقِفِ، فَيَسْجُدُ الْمُؤْمِنُونَ لَهُ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا، وَيُحَالُ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَبَيْنَ السُّجُودِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ الْبَتَّةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَتَمَكُّنِهِ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ لَمَا اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ وَاللَّوْمَ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْعُقْبَى. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا كَلَامٌ بِلِسَانِ الْحَالِ بِالشَّرْعِ، وَلَوْ نَطَقْتَ بِلِسَانِ الْحَقِيقَةِ، لَعَذَرْتَ الْخَلِيقَةَ، إِذْ هُمْ صَائِرُونَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ فِيهِمْ، وَمَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِمْ وَلَا بُدَّ، فَهُمْ مَجَارٍ لِأَقْدَارِهِ، وَسِهَامُهَا نَافِذَةٌ فِيهِمْ، وَهُمْ أَغْرَاضٌ لِسِهَامِ الْأَقْدَارِ لَا تُخْطِئُهُمُ الْبَتَّةَ، وَلَكِنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ مُشَاهَدَةُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَمْ يُمْكِنْهُ طَلَبُ الْعُذْرِ لَهُمْ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ مُشَاهَدَةُ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ عَذَرَهُمْ، فَأَنْتَ مَعْذُورٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْنَا بِحَقِيقَةِ الشَّرْعِ، وَنَحْنُ مَعْذُورُونَ فِي طَلَبِ الْعُذْرِ بِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ، وَكِلَانَا مُصِيبٌ. فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: الْعُذْرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا لَمْ يَكُنْ نَافِعًا، وَالِاعْتِذَارُ بِالْقَدَرِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِهِ، وَلَوِ اعْتَذَرَ فَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ شَيْئًا الْبَتَّةَ، بَلْ يَزِيدُ فِي ذَنْبِ الْجَانِي، وَيَغْضَبُ الرَّبُّ عَلَيْهِ، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ لَا يَشْتَغِلُ بِهِ عَاقِلٌ. الثَّانِي: أَنَّ الِاعْتِذَارَ بِالْقَدَرِ يَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَ الْجَانِي نَفْسَهُ، وَتَنْزِيهَ سَاحَتِهِ، وَهُوَ الظَّالِمُ الْجَاهِلُ، وَالْجَهْلُ عَلَى الْقَدَرِ نِسْبَةُ الذَّنْبِ إِلَيْهِ، وَتَظْلِيمُهُ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْقَالِ، بِتَحْسِينِ

الْعِبَارَةِ وَتَلْطِيفِهَا، وَرُبَّمَا غَلَبَهُ الْحَالُ، فَصَرَّحَ بِالْوَجْدِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ خُصَمَاءِ اللَّهِ: أَلْقَاهُ فِي الْيَمِّ مَكْتُوفًا، وَقَالَ لَهُ ... : إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالْمَاءِ. وَقَالَ خَصْمٌ آخَرُ: وَضَعُوا اللَّحْمَ لِلْبُزَا ... ةِ عَلَى ذِرْوَتَيْ عَدَنْ ثُمَّ لَامُوا الْبُزَاةَ أَنْ ... خَلَعُوا عَنْهُمُ الرَّسَنْ لَوْ أَرَادُوا صِيَانَتِي ... سَتَرُوا وَجْهَكِ الْحَسَنْ وَقَالَ خَصْمٌ آخَرُ: أَصْبَحْتَ مُنْفَعِلًا لِمَا تَخْتَارُهُ ... مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتُ وَقَالَ خَصْمٌ آخَرُ شَاكِيًا مُتَظَلِّمًا: إِذَا كَانَ الْمُحِبُّ قَلِيلَ حَظٍّ ... فَمَا حَسَنَاتُهُ إِلَّا ذُنُوبُ وَقَالَ خَصْمٌ آخَرُ مُعْتَذِرًا عَنْ إِبْلِيسَ: لَمَّا عَصَى مَنْ كَانَ إِبْلِيسَهُ؟ . وَلِخُصَمَاءِ اللَّهِ هَاهُنَا تَظَلُّمَاتٌ وَشِكَايَاتٌ، وَلَوْ فَتَّشُوا زَوَايَا قُلُوبِهِمْ لَوَجَدُوا هُنَاكَ خَصْمًا مُتَظَلِّمًا شَاكِيًا عَاتِبًا، يَقُولُ: لَا أَقْدِرُ أَنْ أَقُولَ شَيْئًا، وَإِنِّي مَظْلُومٌ فِي صُورَةِ ظَالِمٍ، وَيَقُولُ بِحُرْقَةٍ وَيَتَنَفَّسُ الصُّعَدَاءَ: مِسْكِينٌ ابْنُ آدَمَ، لَا قَادِرٌ وَلَا مَعْذُورٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: ابْنُ آدَمَ كُرَةٌ تَحْتَ صَوْلَجَانَاتِ الْأَقْدَارِ، يَضْرِبُهَا وَاحِدٌ، وَيَرُدُّهَا الْآخَرُ، وَهَلْ تَسْتَطِيعُ الْكُرَةُ الِانْتِصَافَ مِنَ الصَّوْلَجَانِ؟ . وَيَتَمَثَّلُ خَصْمٌ آخَرُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: بِأَبِي أَنْتَ وَإِنْ أَسْ ... رَفْتَ فِي هَجْرِي وَظُلْمِي فَجَعَلَهُ هَاجِرًا بِلَا ذَنْبٍ، ظَالِمًا، بَلْ مُسْرِفًا، قَدْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي ظُلْمِهِ، وَيَقُولُ آخَرُ: أَظَلَّتْ عَلَيْنَا مِنْكَ يَوْمًا سَحَابَةٌ ... أَضَاءَتْ لَنَا بَرْقًا وَأَبْطَا رَشَاشُهَا فَلَا غَيْمُهَا يَجْلُو فَيَيْئَسَ طَالِبٌ ... وَلَا غَيْثُهَا يَأْتِي فَيَرْوِي عِطَاشُهَا وَيَقُولُ آخَرُ: يَدْنُو إِلَيْكَ وَنَقْصُ الْحَظِّ يُبْعِدُهُ ... وَيَسْتَقِيمُ وَدَاعِي الْبَيْنِ يَلْوِيهِ

وَيَقُولُ خَصْمٌ آخَرُ: وَاقِفٌ فِي الْمَاءِ ظَمْآ ... نٌ وَلَكِنْ لَيْسَ يُسْقَى وَمَنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ وَبَصِيرَةٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَظَلُّمٌ وَشِكَايَةٌ وَعَتْبٌ، وَيَكَادُ أَحَدُهُمْ يَقُولُ: يَا ظَالِمِي لَوْلَا، وَلَوْ فَتَّشَ نَفْسَهُ كَمَا يَنْبَغِي لَوَجَدَ ذَلِكَ فِيهَا، وَهَذَا مَا لَا غَايَةَ بَعْدَهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ، وَالْإِنْسَانُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] ، {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] . وَلَوْ عَلِمَ هَذَا الظَّالِمُ الْجَاهِلُ أَنَّ بَلَاءَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَمُصَابَهُ مِنْهَا، وَأَنَّهَا أَوْلَى بِكُلِّ ذَمٍّ وَظُلْمٍ، وَأَنَّهَا مَأْوَى كُلِّ سُوءٍ، وَ {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6] ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: كَفُورٌ جَحُودٌ لِنِعَمِ اللَّهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي يَعُدُّ الْمَصَائِبَ، وَيَنْسَى النِّعَمَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ قَلِيلُ الْخَيْرِ، وَالْأَرْضُ الْكَنُودُ الَّتِي لَا نَبْتَ بِهَا، وَقِيلَ: الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ: الْكَنُودُ الَّذِي أَنْسَتْهُ الْخَصْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْإِسَاءَةِ الْخِصَالَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْإِحْسَانِ. وَلَوْ عَلِمَ هَذَا الظَّالِمُ الْجَاهِلُ أَنَّهُ هُوَ الْقَاعِدُ عَلَى طَرِيقِ مَصَالِحِهِ يَقْطَعُهَا عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَهُوَ الْحَجَرُ فِي طَرِيقِ الْمَاءِ الَّذِي بِهِ حَيَاتُهُ، وَهُوَ السُّكْرُ الَّذِي قَدْ سَدَّ مَجْرَى الْمَاءِ إِلَى بُسْتَانِ قَلْبِهِ، وَيَسْتَغِيثُ مَعَ ذَلِكَ: الْعَطَشَ الْعَطَشَ، وَقَدْ وَقَفَ فِي طَرِيقِ الْمَاءِ، وَمَنَعَ وُصُولَهُ إِلَيْهِ، فَهُوَ حِجَابُ قَلْبِهِ عَنْ سِرِّ غَيْبِهِ، وَهُوَ الْغَيْمُ الْمَانِعُ لِإِشْرَاقِ شَمْسِ الْهُدَى عَلَى الْقَلْبِ، فَمَا عَلَيْهِ أَضَرُّ مِنْهُ، وَلَا لَهُ أَعْدَاءٌ أَبْلَغُ فِي نِكَايَتِهِ وَعَدَاوَتِهِ مِنْهُ. مَا تَبْلُغُ الْأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ ... مَا يَبْلُغُ الْجَاهِلُ مِنْ نَفْسِهِ فَتَبًّا لَهُ ظَالِمًا فِي صُورَةِ مَظْلُومٍ، وَشَاكِيًا وَالْجِنَايَةُ مِنْهُ، قَدْ جَدَّ فِي الْإِعْرَاضِ وَهُوَ

يُنَادِي: طَرَدُونِي وَأَبْعَدُونِي، وَلَّى ظَهْرَهُ الْبَابَ، بَلْ أَغْلَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَضَاعَ مَفَاتِيحَهُ وَكَسَرَهَا، وَيَقُولُ: دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ دُونِي فَهَلْ إِلَى ... دُخُولِي سَبِيلٌ بَيِّنُوا لِي قِصَّتِي يَأْخُذُ الشَّفِيقُ بِحُجْزَتِهِ عَنِ النَّارِ، وَهُوَ يُجَاذِبُهُ ثَوْبَهُ وَيَغْلِبُهُ وَيَقْتَحِمُهَا، وَيَسْتَغِيثُ: مَا حِيلَتِي؟ وَقَدْ قَدَّمُونِي إِلَى الْحُفَيْرَةِ وَقَذَفُونِي فِيهَا، وَاللَّهِ كَمْ صَاحَ بِهِ النَّاصِحُ: الْحَذَرَ الْحَذَرَ، إِيَّاكَ إِيَّاكَ، وَكَمْ أَمْسَكَ بِثَوْبِهِ، وَكَمْ أَرَاهُ مَصَارِعَ الْمُقْتَحِمِينَ وَهُوَ يَأْبَى إِلَّا الِاقْتِحَامَ: وَكَمْ سُقْتُ فِي آثَارِكُمْ مِنْ نَصِيحَةٍ ... وَقَدْ يَسْتَفِيدُ الظِّنَّةَ الْمُتَنَصِّحُ يَا وَيْلَهُ ظَهِيرًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى رَبِّهِ، خَصْمًا لِلَّهِ مَعَ نَفْسِهِ، جَبْرِيُّ الْمَعَاصِي، قَدَرِيُّ الطَّاعَاتِ، عَاجِزُ الرَّأْيِ، مِضْيَاعٌ لِفُرْصَتِهِ، قَاعِدٌ عَنْ مَصَالِحِهِ، مُعَاتِبٌ لِأَقْدَارِ رَبِّهِ، يَحْتَجُّ عَلَى رَبِّهِ بِمَا لَا يَقْبَلُهُ مِنْ عَبْدِهِ وَامْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ إِذَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ فِي التَّهَاوُنِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ، فَلَوْ أَمَرَ أَحَدَهُمْ بِأَمْرٍ فَفَرَّطَ فِيهِ، أَوْ نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ فَارْتَكَبَهُ، وَقَالَ: الْقَدَرُ سَاقَنِي إِلَى ذَلِكَ، لَمَا قَبِلَ مِنْهُ هَذِهِ الْحُجَّةَ، وَلَبَادَرَ إِلَى عُقُوبَتِهِ. فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَكَ أَيُّهَا الظَّالِمُ الْجَاهِلُ فِي تَرْكِ حَقِّ رَبِّكَ، فَهَلَّا كَانَ حُجَّةً لِعَبْدِكَ وَأَمَتِكَ فِي تَرْكِ بَعْضِ حَقِّكَ؟ بَلْ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ مُسِيءٌ، وَجَنَى عَلَيْكَ جَانٍ، وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ لَاشْتَدَّ غَضَبُكَ عَلَيْهِ، وَتَضَاعَفَ جُرْمُهُ عِنْدَكَ، وَرَأَيْتَ حُجَّتَهُ دَاحِضَةً، ثُمَّ تَحْتَجُّ عَلَى رَبِّكَ بِهِ، وَتَرَاهُ عُذْرًا لِنَفْسِكَ؟ ! فَمَنْ أَوْلَى بِالظُّلْمِ وَالْجَهْلِ مِمَّنْ هَذِهِ حَالُهُ؟ هَذَا مَعَ تَوَاتُرِ إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْكَ عَلَى مَدَى الْأَنْفَاسِ، أَزَاحَ عِلَلَكَ، وَمَكَّنَكَ مِنَ التَّزَوُّدِ إِلَى جَنَّتِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْكَ الدَّلِيلَ، وَأَعْطَاكَ مُؤْنَةَ السَّفَرِ وَمَا تَتَزَوَّدُ بِهِ، وَمَا تُحَارِبُ بِهِ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ عَلَيْكَ، فَأَعْطَاكَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ، وَعَرَّفَكَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ، وَأَرْسَلَ إِلَيْكَ رَسُولَهُ، وَأَنْزَلَ إِلَيْكَ كِتَابَهُ، وَيَسَّرَهُ لِلذِّكْرِ وَالْفَهْمِ وَالْعَمَلِ، وَأَعَانَكَ بِمَدَدٍ مِنْ جُنْدِهِ الْكِرَامِ، يُثَبِّتُونَكَ وَيَحْرُسُونَكَ، وَيُحَارِبُونَ عَدُوَّكَ وَيَطْرُدُونَهُ عَنْكَ، وَيُرِيدُونَ مِنْكَ أَنْ لَا تَمِيلَ إِلَيْهِ وَلَا تُصَالِحَهُ، وَهُمْ يَكْفُونَكَ مُؤْنَتَهُ، وَأَنْتَ تَأْبَى إِلَّا مُظَاهَرَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَمُوَالَاتَهُ دُونَهُمْ، بَلْ تُظَاهِرُهُ وَتُوَالِيهِ دُونَ وَلِيِّكَ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]

طَرَدَ إِبْلِيسَ عَنْ سَمَائِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ جَنَّتِهِ، وَأَبْعَدَهُ مِنْ قُرْبِهِ، إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لَكَ، وَأَنْتَ فِي صُلْبِ أَبِيكَ آدَمَ، لِكَرَامَتِكَ عَلَيْهِ، فَعَادَاهُ وَأَبْعَدَهُ، ثُمَّ وَالَيْتَ عَدُوَّهُ، وَمِلْتَ إِلَيْهِ وَصَالَحْتَهُ، وَتَتَظَلَّمُ مَعَ ذَلِكَ، وَتَشْتَكِي الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ، وَتَقُولُ: عَوَّدُونِي الْوِصَالَ وَالْوَصْلُ عَذْبُ ... وَرَمَوْنِي بِالصَّدِّ وَالصَّدُّ صَعْبُ نَعَمْ، وَكَيْفَ لَا يَطْرُدُ مَنْ هَذِهِ مُعَامَلَتُهُ؟ وَكَيْفَ لَا يَبْعُدُ عَنْهُ مَنْ كَانَ هَذَا وَصْفَهُ؟ وَكَيْفَ يَجْعَلُ مِنْ خَاصَّتِهِ وَأَهْلِ قُرْبِهِ مَنْ حَالُهُ مَعَهُ هَكَذَا؟ قَدْ أَفْسَدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَكَدَّرَهُ. أَمَرَهُ اللَّهُ بِشُكْرِهِ، لَا لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ لِيَنَالَ بِهِ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ، فَجَعَلَ كُفْرَ نِعَمِهِ، وَالِاسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى مَسَاخِطِهِ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ صَرْفِهَا عَنْهُ. وَأَمَرَهُ بِذِكْرِهِ لِيُذَكِّرَهُ بِإِحْسَانِهِ، فَجَعَلَ نِسْيَانَهُ سَبَبًا لِنِسْيَانِ اللَّهِ لَهُ {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19] ، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] أَمَرَهُ بِسُؤَالِهِ لِيُعْطِيَهُ، فَلَمْ يَسْأَلْهُ، بَلْ أَعْطَاهُ أَجَلَّ الْعَطَايَا بِلَا سُؤَالٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ، يَشْكُو مَنْ يَرْحَمُهُ إِلَى مَنْ لَا يَرْحَمُهُ، وَيَتَظَلَّمُ مِمَّنْ لَا يَظْلِمُهُ، وَيَدَعُ مَنْ يُعَادِيهِ وَيَظْلِمُهُ، إِنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَالْمَالِ وَالْجَاهِ اسْتَعَانَ بِنِعَمِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ، وَإِنْ سَلَبَهُ ذَلِكَ ظَلَّ مُتَسَخِّطًا عَلَى رَبِّهِ وَهُوَ شَاكِيهِ، لَا يَصْلُحُ لَهُ عَلَى عَافِيَةٍ، وَلَا عَلَى ابْتِلَاءٍ، الْعَافِيَةُ تُلْقِيهِ إِلَى مَسَاخِطِهِ، وَالْبَلَاءُ يَدْفَعُهُ إِلَى كُفْرَانِهِ وَجُحُودِ نِعْمَتِهِ، وَشِكَايَتِهِ إِلَى خَلْقِهِ. دَعَاهُ إِلَى بَابِهِ فَمَا وَقَفَ عَلَيْهِ وَلَا طَرَقَهُ، ثُمَّ فَتَحَهُ لَهُ فَمَا عَرَّجَ عَلَيْهِ وَلَا وَلَجَهُ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولَهُ يَدْعُوهُ إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، فَعَصَى الرَّسُولَ، وَقَالَ: لَا أَبِيعُ نَاجِزًا بِغَائِبٍ، وَنَقْدًا بِنَسِيئَةٍ، وَلَا أَتْرُكُ مَا أَرَاهُ لِشَيْءٍ سَمِعْتُ بِهِ، وَيَقُولُ: خُذْ مَا رَأَيْتَ وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ ... فِي طَلْعَةِ الشَّمْسِ مَا يُغْنِيكَ عَنْ زُحَلِ فَإِنْ وَافَقَ حَظَّهُ طَاعَةُ الرَّسُولِ أَطَاعَهُ لِنَيْلِ حَظِّهِ، لَا لِرِضَى مُرْسِلِهِ، لَمْ يَزَلْ يَتَمَقَّتُ إِلَيْهِ بِمَعَاصِيهِ، حَتَّى أَعْرَضَ عَنْهُ، وَأَغْلَقَ الْبَابَ فِي وَجْهِهِ. وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُؤَيِّسْهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، بَلْ قَالَ: «مَتَى جِئْتَنِي قَبِلْتُكَ، إِنْ أَتَيْتَنِي لَيْلًا قَبِلْتُكَ، وَإِنْ أَتَيْتَنِي نَهَارًا قَبِلْتُكَ، وَإِنْ تَقَرَّبْتَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْكَ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبْتَ

مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْكَ بَاعًا، وَإِنْ مَشَيْتَ إِلَيَّ هَرْوَلْتُ إِلَيْكَ، وَلَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، أَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً، وَلَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَمَنْ أَعْظَمُ مِنِّي جُودًا وَكَرَمًا؟ عِبَادِي يُبَارِزُونَنِي بِالْعَظَائِمِ، وَأَنَا أَكْلَؤُهُمْ عَلَى فُرُشِهِمْ، إِنِّي وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ: أَخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْرِي، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ سِوَايَ، خَيْرِي إِلَى الْعِبَادِ نَازِلٌ، وَشَرُّهُمْ إِلَيَّ صَاعِدٌ، أَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِنِعَمِي، وَأَنَا الْغَنِيُّ عَنْهُمْ، وَيَتَبَغَّضُونَ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِي، وَهُمْ أَفْقَرُ شَيْءٍ إِلَيَّ. مَنْ أَقْبَلَ إِلَيَّ تَلَقَّيْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِّي نَادَيْتُهُ مِنْ قَرِيبٍ، وَمَنْ تَرَكَ لِأَجْلِي أَعْطَيْتُهُ فَوْقَ الْمَزِيدِ، وَمَنْ أَرَادَ رِضَايَ أَرَدْتُ مَا يُرِيدُ، وَمَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِي وَقُوَّتِي أَلَنْتُ لَهُ الْحَدِيدَ. أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي، وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي، وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُقَنِّطُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي، إِنْ تَابُوا إِلَيَّ فَأَنَا حَبِيبُهُمْ، فَإِنِّي أُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَأُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا إِلَيَّ فَأَنَا طَبِيبُهُمْ، أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ، لِأُطَهِّرَهُمْ مِنَ الْمَعَايِبِ. مَنْ آثَرَنِي عَلَى سِوَايَ آثَرْتُهُ عَلَى سِوَاهُ، الْحَسَنَةُ عِنْدِي بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَالسَّيِّئَةُ عِنْدِي بِوَاحِدَةٍ، فَإِنْ نَدِمَ عَلَيْهَا وَاسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُهَا لَهُ. أَشْكُرُ الْيَسِيرَ مِنَ الْعَمَلِ، وَأَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ، رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، وَحِلْمِي سَبَقَ مُؤَاخَذَتِي، وَعَفْوِي سَبَقَ عُقُوبَتِي، أَنَا أَرْحَمُ بِعِبَادِي مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضٍ مُهْلِكَةٍ دَوِيَةٍ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَطَلَبَهَا حَتَّى إِذَا أَيِسَ مِنْ حُصُولِهَا، نَامَ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ يَنْتَظِرُ الْمَوْتَ، فَاسْتَيْقَظَ فَإِذَا هِيَ عَلَى رَأْسِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ خِطَامُهَا بِالشَّجَرَةِ، فَاللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ» . وَهَذِهِ فَرْحَةُ إِحْسَانٍ وَبِرٍّ وَلُطْفٍ، لَا فَرْحَةَ مُحْتَاجٍ إِلَى تَوْبَةِ عَبْدِهِ، مُنْتَفِعٍ بِهَا، وَكَذَلِكَ

فصل من حقائق التوبة طلب أعذار الخليقة

مُوَالَاتُهُ لِعَبْدِهِ إِحْسَانًا إِلَيْهِ، وَمَحَبَّةً لَهُ وَبِرًّا بِهِ، لَا يَتَكَثَّرُ بِهِ مِنْ قِلَّةٍ، وَلَا يَتَعَزَّزُ بِهِ مِنْ ذِلَّةٍ، وَلَا يَنْتَصِرُ بِهِ مِنْ غَلَبَةٍ، وَلَا يَعُدُّهُ لِنَائِبَةٍ، وَلَا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي أَمْرٍ {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ. فَهَذَا شَأْنُ الرَّبِّ وَشَأْنُ الْعَبْدِ، وَهُمْ يُقِيمُونَ أَعْذَارَ أَنْفُسِهِمْ، وَيَحْمِلُونَ ذُنُوبَهُمْ عَلَى أَقْدَارِهِ. اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالْمَحَامِدِ وَالْمَجْ ... دِ وَوَلَّى الْمَلَامَةَ الرَّجُلَا وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَائِلِ: تَطْوِي الْمَرَاحِلَ عَنْ حَبِيبِكَ دَائِبًا ... وَتَظَلُّ تَبْكِيهِ بِدَمْعٍ سَاجِمِ كَذَبَتْكَ نَفْسُكَ لَسْتَ مِنْ أَحْبَابِهِ ... تَشْكُو الْبِعَادَ وَأَنْتَ عَيْنُ الظَّالِمِ [فَصْلٌ مِنْ حَقَائِقِ التَّوْبَةِ طَلَبُ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ] فَصْلٌ فَهَذَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مِنْ حَقَائِقِ التَّوْبَةِ طَلَبَ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ. وَقَدْ ظَهَرَ لَكَ بِهَذَا أَنَّ طَلَبَ أَعْذَارِهِمْ فِي الْجِنَايَةِ عَائِدٌ عَلَى التَّوْبَةِ بِالنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ. الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ إِقَامَةَ أَعْذَارِهِمْ فِي إِسَاءَتِهِمْ إِلَيْكَ، وَجِنَايَتِهِمْ عَلَيْكَ، وَالنَّظَرَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْأَقْدَارِ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُمْ بِمَنْزِلَةِ حَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ، فَتَعْذِرَهُمْ بِالْقَدَرِ فِي حَقِّكَ، لَا فِي حَقِّ رَبِّكَ، فَهَذَا حَقٌّ، وَهُوَ مِنْ شَأْنِ سَادَاتِ الْعَارِفِينَ، وَخَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْكُمَّلِ، يَفْنَى أَحَدُهُمْ عَنْ حَقِّهِ، وَيَسْتَوْفِي حَقَّ رَبِّهِ، يَنْظُرُ فِي التَّفْرِيطِ فِي حَقِّهِ، وَفِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ إِلَى الْقَدَرِ، وَيَنْظُرُ فِي حَقِّ اللَّهِ إِلَى الْأَمْرِ، فَيَطْلُبُ لَهُمُ الْعُذْرَ فِي حَقِّهِ، وَيَمْحُو عَنْهُمُ الْعُذْرَ وَيَطْلُبُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ. وَهَذِهِ كَانَتْ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالْتَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ، وَلَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَإِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ، حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ» .

وَقَالْتَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْضًا: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ خَادِمًا، وَلَا دَابَّةً، وَلَا شَيْئًا قَطُّ، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْهُ؟ وَكَانَ إِذَا عَاتَبَنِي بَعْضُ أَهْلِهِ يَقُولُ: دَعُوهُ، فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ» . فَانْظُرْ إِلَى نَظَرِهِ إِلَى الْقَدَرِ عِنْدَ حَقِّهِ، وَقِيَامِهِ بِالْأَمْرِ، وَقَطَعَ يَدَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ حَقِّ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ هُنَاكَ: الْقَدَرُ حَكَمَ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ عَزْمُهُ عَلَى تَحْرِيقِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الصَّلَاةِ مَعَهُ فِي الْجَمَاعَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: لَوْ قُضِيَ لَهُمُ الصَّلَاةُ لَكَانَتْ. وَكَذَلِكَ رَجْمُهُ الْمَرْأَةَ وَالرَّجُلَ لَمَّا زَنَيَا، وَلَمْ يَحْتَجَّ فِي ذَلِكَ لَهُمَا بِالْقَدَرِ. وَكَذَلِكَ فِعْلُهُ فِي الْعُرَنِيِّينَ الَّذِينَ قَتَلُوا رَاعِيَهُ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ: قُدِّرَ عَلَيْهِمْ، بَلْ أَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَتُرِكُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ، حَتَّى مَاتُوا عَطَشًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ بَسْطُهُ.

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَفَ بِاللَّهِ وَبِحَقِّهِ مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى تَرْكِ أَمْرِهِ، وَيَقْبَلَ الِاحْتِجَاجَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ، وَمَعَ هَذَا فَعَذَرَ أَنَسًا بِالْقَدَرِ فِي حَقِّهِ، وَقَالَ «لَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ» فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. فَهَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي - وَإِنْ كَانَ حَقًّا - لَكَانَ لَيْسَ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ التَّوْبَةِ، وَلَا مِنْ أَرْكَانِهَا، وَلَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِهَا، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِمْ أَعْذَارَهُمْ فِي إِسَاءَتِهِمْ إِلَيْهِ لَمَا نَقَصَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ تَوْبَتِهِ، فَمَا أَرَادَ إِلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَنَازِلِ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَعْذُرَهُمْ بِالْقَدَرِ، وَيُقِيمَ عَلَيْهِمْ حُكْمَ الْأَمْرِ، فَيَنْظُرَ بِعَيْنِ الْقَدَرِ وَيَعْذِرَهُمْ بِهَا، وَيَنْظُرَ بِعَيْنِ الْأَمْرِ وَيَحْمِلَهُمْ عَلَيْهَا بِمُوجَبِهَا، فَلَا يَحْجُبُهُ مُطَالَعَةُ الْأَمْرِ عَنِ الْقَدَرِ، وَلَا مُلَاحَظَةُ الْقَدَرِ عَنِ الْأَمْرِ. فَهَذَا - وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَا بُدَّ مِنْهُ - فَلَا وَجْهَ لِعُذْرِهِمْ، وَلَيْسَ عُذْرُهُمْ مِنَ التَّوْبَةِ فِي شَيْءٍ الْبَتَّةَ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا - فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ بَاطِلًا - فَلَا هُمْ مَعْذُورُونَ، وَلَا طَلَبُ عُذْرِهِمْ مِنْ حَقَائِقِ التَّوْبَةِ، بَلِ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْغَيْرَةَ لِلَّهِ، وَالْغَضَبَ لَهُ، مِنْ حَقَائِقِ التَّوْبَةِ، فَتَعْطِيلُ عُذْرِ الْخَلِيقَةِ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَشِدَّةِ الْغَضَبِ: هُوَ مِنْ عَلَامَاتِ تَعْظِيمِ الْحُرْمَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ حَقَائِقِ التَّوْبَةِ أَوْلَى مِنْ عُذْرِ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي هَذَا عُذْرُ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَقَتَلَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ، وَنَمْرُودَ بْنِ كَنْعَانَ، وَأَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ، وَإِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، وَكُلِّ كَافِرٍ وَظَالِمٍ، وَمُتَعَدٍّ حُدُودَ اللَّهِ، وَمُنْتَهِكٍ مَحَارِمَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ تَحْتَ الْقَدَرِ، وَهُمْ مِنَ الْخَلِيقَةِ، أَفَيَكُونُ عُذْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ؟ فَهَذَا مِمَّا أَوْجَبَهُ السَّيْرُ فِي طَرِيقِ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَجَعَلَهُ الْغَايَةَ الَّتِي يُشَمِّرُ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ. ثُمَّ أَيُّ مُوَافَقَةٍ لِلْمَحْبُوبِ فِي عُذْرِ مَنْ لَا يَعْذِرُهُ هُوَ؟ بَلْ قَدِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِ، وَأَبْعَدَهُ عَنْ قُرْبِهِ، وَطَرَدَهُ عَنْ بَابِهِ، وَمَقَتَهُ أَشَدَّ الْمَقْتِ؟ فَإِذَا عَذَرْتَهُ، فَهَلْ يَكُونُ عُذْرُهُ إِلَّا تَعَرُّضًا لِسُخْطِ الْمَحْبُوبِ، وَسُقُوطًا مِنْ عَيْنِهِ؟ .

وَلَا تُوجِبُ هَذِهِ الزِّلَّةُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ إِهْدَارَ مَحَاسِنِهِ، وَإِسَاءَةَ الظَّنِّ بِهِ، فَمَحَلُّهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِمَامَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّقَدُّمِ فِي طَرِيقِ السُّلُوكِ الْمَحَلُّ الَّذِي لَا يُجْهَلُ، وَكُلُّ أَحَدٍ فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَتْرُوكٌ إِلَّا الْمَعْصُومَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَالْكَامِلُ مَنْ عُدَّ خَطَؤُهُ، وَلَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَجَالِ الضَّنْكِ، وَالْمُعْتَرَكِ الصَّعْبِ، الَّذِي زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ، وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ، وَافْتَرَقَتْ بِالسَّالِكِينَ فِيهِ الطُّرُقَاتُ، وَأَشْرَفُوا - إِلَّا أَقَلَّهُمْ - عَلَى أَوْدِيَةِ الْهَلَكَاتِ. وَكَيْفَ لَا؟ وَهُوَ الْبَحْرُ الَّذِي تَجْرِي سَفِينَةُ رَاكِبِهِ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ، وَالْمُعْتَرَكُ الَّذِي تَضَاءَلَتْ لِشُهُودِهِ شَجَاعَةُ الْأَبْطَالِ، وَتَحَيَّرَتْ فِيهِ عُقُولُ أَلِبَّاءِ الرِّجَالِ، وَوَصَلَتِ الْخَلِيقَةُ إِلَى سَاحِلِهِ يَبْغُونَ رُكُوبَهُ. فَمِنْهُمْ: مَنْ وَقَفَ مُطْرِقًا دَهِشًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْلَأَ مِنْهُ عَيْنَهُ، وَلَا يَنْقُلَ عَنْ مَوْقِفِهِ قَدَمَهُ، قَدِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِعَظَمَةِ مَا شَاهَدَ مِنْهُ، فَقَالَ: الْوُقُوفُ عَلَى السَّاحِلِ أَسْلَمُ، وَلَيْسَ بِلَبِيبٍ مَنْ خَاطَرَ بِنَفْسِهِ. وَمِنْهُمْ: مَنْ رَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ لَمَّا سَمِعَ هَدِيرَهُ، وَصَوْتَ أَمْوَاجِهِ، وَلَمْ يُطِقْ نَظَرًا إِلَيْهِ. وَمِنْهُمْ: مَنْ رَمَى بِنَفْسِهِ فِي لُجَجِهِ، تَخْفِضُهُ مَوْجَةٌ، وَتَرْفَعُهُ أُخْرَى. فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عَلَى خَطَرٍ، إِذِ الْوَاقِفُ عَلَى السَّاحِلِ عُرْضَةٌ لِوُصُولِ الْمَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَالْهَارِبُ - وَلَوْ جَدَّ فِي الْهَرَبِ - فَمَا لَهُ مَصِيرٌ إِلَّا إِلَيْهِ، وَالْمُخَاطِرُ نَاظِرٌ إِلَى الْغَرْقَى كُلَّ سَاعَةٍ بِعَيْنَيْهِ، وَمَا نَجَا مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا الصِّنْفُ الرَّابِعُ، وَهُمُ الَّذِينَ انْتَظَرُوا مُوَافَاةَ سَفِينَةِ الْأَمْرِ، فَلَمَّا قَرُبَتْ مِنْهُمْ نَادَاهُمُ الرُّبَّانُ {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] فَهِيَ سَفِينَةُ نُوحٍ حَقًّا، وَسَفِينَةُ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ، مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ، فَرَكِبُوا سَفِينَةَ الْأَمْرِ بِالْقَدَرِ، تَجْرِي بِهِمْ فِي تَصَارِيفِ أَمْوَاجِهِ عَلَى حُكْمِ التَّسْلِيمِ لِمَنْ بِيَدِهِ التَّصَرُّفُ فِي الْبِحَارِ، فَلَمْ يَكُ إِلَّا غَفْوَةً، حَتَّى قِيلَ لِأَرْضِ الدُّنْيَا وَسَمَائِهَا: يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ، وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي، وَغِيضَ الْمَاءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى جُودِيِّ دَارِ الْقَرَارِ. وَالْمُتَخَلِّفُونَ عَنِ السَّفِينَةِ - كَقَوْمِ نُوحٍ - أُغْرِقُوا، ثُمَّ أُحْرِقُوا، وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ عَلَى

رُءُوسِ الْعَالَمِينَ {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44] ، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] ثُمَّ نُودِيَ بِلِسَانِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ، تَحْقِيقًا لِتَوْحِيدِهِ، وَإِثْبَاتًا لِحُجَّتِهِ، وَهُوَ أَعْدَلُ الْعَادِلِينَ {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] . فَصْلٌ وَرَاكِبُ هَذَا الْبَحْرِ فِي سَفِينَةِ الْأَمْرِ، وَظِيفَتُهُ مُصَادَمَةُ أَمْوَاجِ الْقَدَرِ، وَمُعَارَضَتُهَا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَإِلَّا هَلَكَ، فَيَرُدُّ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ، وَهَذَا سَيْرُ أَرْبَابِ الْعَزَائِمِ مِنَ الْعَارِفِينَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ الْعَارِفِ الْقُدْوَةِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيِّ: النَّاسُ إِذَا وَصَلُوا إِلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَمْسَكُوا، إِلَّا أَنَا، فَانْفَتَحَتْ لِي فِيهِ رَوْزَنَةٌ فَنَازَعْتُ أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ، وَالرَّجُلُ مَنْ يَكُونُ مُنَازِعًا لِلْقَدَرِ، لَا مَنْ يَكُونُ مُسْتَسْلِمًا مَعَ الْقَدَرِ، وَلَا تَتِمُّ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي مَعَاشِهِمْ إِلَّا بِدَفْعِ الْأَقْدَارِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فَكَيْفَ فِي مَعَادِهِمْ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ أَنْ تُدْفَعَ السَّيِّئَةُ - وَهِيَ مِنْ قَدَرِهِ - بِالْحَسَنَةِ - وَهِيَ مِنْ قَدَرِهِ - وَكَذَلِكَ الْجُوعُ مِنْ قَدَرِهِ، وَأَمَرَ بِدَفْعِهِ بِالْأَكْلِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَدَرِهِ، وَلَوِ اسْتَسْلَمَ الْعَبْدُ لِقَدَرِ الْجُوعِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى دَفْعِهِ بِقَدَرِ الْأَكْلِ، حَتَّى مَاتَ: مَاتَ عَاصِيًا، وَكَذَلِكَ الْبَرْدُ وَالْحَرُّ وَالْعَطَشُ، كُلُّهَا مِنْ أَقْدَارِهِ، وَأَمَرَ بِدَفْعِهَا بِأَقْدَارٍ تُضَادُّهَا، وَالدَّافِعُ وَالْمَدْفُوعُ وَالدَّفْعُ مِنْ قَدَرِهِ. وَقَدْ أَفْصَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى كُلَّ الْإِفْصَاحِ، إِذْ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا، وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا، وَتُقًى نَتَّقِي بِهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟

فصل دفع القدر بالقدر

قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ إِنَّ «الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» . وَإِذَا طَرَقَ الْعَدُوُّ مِنَ الْكُفَّارِ بَلَدَ الْإِسْلَامِ طَرَقُوهُ بِقَدَرِ اللَّهِ، أَفَيَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ الِاسْتِسْلَامُ لِلْقَدَرِ، وَتَرْكُ دَفْعِهِ بِقَدَرٍ مِثْلِهِ، وَهُوَ الْجِهَادُ الَّذِي يَدْفَعُونَ بِهِ قَدَرَ اللَّهِ بِقَدَرِهِ؟ وَكَذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ إِذَا قُدِّرَتْ عَلَيْكَ، وَفَعَلْتَهَا بِالْقَدَرِ، فَادْفَعْ مُوجِبَهَا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَهِيَ مِنَ الْقَدَرِ. [فَصْلٌ دَفْعُ الْقَدَرِ بِالْقَدَرِ] فَصْلٌ وَدَفْعُ الْقَدَرِ بِالْقَدَرِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: دَفْعُ الْقَدَرِ الَّذِي قَدِ انْعَقَدَتْ بِأَسْبَابِهِ - وَلَمَّا يَقَعْ - بِأَسْبَابٍ أُخْرَى مِنَ الْقَدَرِ تُقَابِلُهُ، فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ، كَدَفْعِ الْعَدُوِّ بِقِتَالِهِ، وَدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَنَحْوِهِ. الثَّانِي: دَفْعُ الْقَدَرِ الَّذِي قَدْ وَقَعَ وَاسْتَقَرَّ بِقَدَرٍ آخَرَ يَرْفَعُهُ وَيُزِيلُهُ، كَدَفْعِ قَدَرِ الْمَرَضِ بِقَدَرِ التَّدَاوِي، وَدَفْعِ قَدَرِ الذَّنْبِ بِقَدَرِ التَّوْبَةِ، وَدَفْعِ قَدَرِ الْإِسَاءَةِ بِقَدَرِ الْإِحْسَانِ. فَهَذَا شَأْنُ الْعَارِفِينَ وَشَأْنُ الْأَقْدَارِ، لَا الِاسْتِسْلَامُ لَهَا، وَتَرْكُ الْحَرَكَةِ وَالْحِيلَةِ، فَإِنَّهُ عَجْزٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، فَإِذَا غَلَبَ الْعَبْدُ، وَضَاقَتْ بِهِ الْحِيَلُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَجَالٌ، فَهُنَالِكَ الِاسْتِسْلَامُ لِلْقَدَرِ، وَالِانْطِرَاحُ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيِ الْغَاسِلِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَهُنَا يَنْفَعُ الْفَنَاءُ فِي الْقَدَرِ، عِلْمًا وَحَالًا وَشُهُودًا، وَأَمَّا فِي حَالِ الْقُدْرَةِ، وَحُصُولِ الْأَسْبَابِ، فَالْفَنَاءُ النَّافِعُ: أَنْ يَفْنَى عَنِ الْخَلْقِ بِحُكْمِ اللَّهِ، وَعَنْ هَوَاهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَنْ إِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَعَنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَإِعَانَتِهِ، فَهَذَا الَّذِي قَامَ بِحَقِيقَةِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " عِلْمًا وَحَالًا، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ سَرَائِرُ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ] فَصْلٌ

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَسَرَائِرُ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: تَمْيِيزُ التَّقِيَّةِ مِنَ الْعِزَّةِ، وَنِسْيَانُ الْجِنَايَةِ، وَالتَّوْبَةُ مِنَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ التَّائِبَ دَاخِلٌ فِي الْجَمِيعِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] فَأَمَرَ التَّائِبَ بِالتَّوْبَةِ. تَمْيِيزُ التَّقِيَّةِ مِنَ الْعِزَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْبَةِ تَقْوَى اللَّهِ، وَهُوَ خَوْفُهُ وَخَشْيَتُهُ، وَالْقِيَامُ بِأَمْرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ، فَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، يَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَيَتْرُكُ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، يَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ، لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ عِزَّ الطَّاعَةِ، فَإِنَّ لِلطَّاعَةِ وَلِلتَّوْبَةِ عِزًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَلَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ الْعِزَّةَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا تَحْصُلُ لَهُ بِالطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ، فَمَنْ تَابَ لِأَجْلِ الْعِزَّةِ فَتَوْبَتُهُ مَدْخُولَةٌ، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ " أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: قُلْ لِفُلَانٍ الزَّاهِدِ: أَمَّا زُهْدُكَ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ تَعَجَّلْتَ بِهِ الرَّاحَةَ، وَأَمَّا انْقِطَاعُكَ إِلَيَّ فَقَدِ اكْتَسَبْتَ بِهِ الْعِزَّةَ، وَلَكِنْ مَا عَمِلْتَ فِيمَا لِي عَلَيْكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا لَكَ عَلَيَّ بَعْدَ هَذَا؟ قَالَ: هَلْ وَالَيْتَ فِيَّ وَلِيًّا، أَوْ عَادَيْتَ فِيَّ عَدُوًّا؟ ". يَعْنِي أَنَّ الرَّاحَةَ وَالْعِزَّ حَظُّكَ، وَقَدْ نُلْتَهُمَا بِالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْقِيَامُ بِحَقِّي، وَهُوَ الْمُوَالَاةُ فِيَّ وَالْمُعَادَاةُ فِيَّ؟ . فَالشَّأْنُ فِي التَّفْرِيقِ فِي الْأَوَامِرِ بَيْنَ حَظِّكَ وَحَقِّ رَبِّكَ عِلْمًا وَحَالًا. وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّادِقِينَ قَدْ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ حَالُ نُفُوسِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَمِيزُهُ إِلَّا أُولُو الْبَصَائِرِ مِنْهُمْ، وَهُمْ فِي الصَّادِقِينَ كَالصَّادِقِينَ فِي النَّاسِ. وَأَمَّا نِسْيَانُ الْجِنَايَةِ: فَهَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَرْبَابُ الطَّرِيقِ. فَمِنْهُمْ: مَنْ رَأَى الِاشْتِغَالَ عَنْ ذِكْرِ الذَّنْبِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ صَفْحًا، فَصَفَاءُ الْوَقْتِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى بِالتَّائِبِ وَأَنْفَعُ لَهُ، وَلِهَذَا قِيلَ: ذِكْرُ الْجَفَا فِي وَقْتِ الصَّفَا جَفَا. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْسَى ذَنْبَهُ، بَلْ لَا يَزَالُ جَاعِلًا لَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ يُلَاحِظُهُ كُلَّ وَقْتٍ، فَيُحْدِثُ لَهُ ذَلِكَ انْكِسَارًا وَذُلًّا وَخُضُوعًا، أَنْفَعَ لَهُ مِنْ جَمْعِيَّتِهِ وَصَفَاءِ وَقْتِهِ.

فصل التوبة من التوبة

قَالُوا: وَلِهَذَا نَقَشَ دَاوُدُ الْخَطِيئَةَ فِي كَفِّهِ، وَكَانَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَبْكِي. قَالُوا: وَمَتَى تُهْتَ عَنِ الطَّرِيقِ فَارْجِعْ إِلَى ذَنْبِكَ تَجِدِ الطَّرِيقَ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّكَ إِذَا رَجَعْتَ إِلَى ذَنْبِكَ انْكَسَرْتَ وَذَلَلْتَ، وَأَطْرَقْتَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَاشِعًا ذَلِيلًا خَائِفًا، وَهَذِهِ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ. وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا أَحَسَّ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ حَالَ الصَّفَاءِ غَيْمًا مِنَ الدَّعْوَى، وَرَقِيقَةً مِنَ الْعَجَبِ وَنِسْيَانِ الْمِنَّةِ، وَخَطَفَتْهُ نَفْسُهُ عَنْ حَقِيقَةِ فَقْرِهِ وَنَقْصِهِ، فَذِكْرُ الذَّنْبِ أَنْفَعُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ مُشَاهَدَتِهِ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَكَمَالَ افْتِقَارِهِ إِلَيْهِ، وَفَنَائِهِ بِهِ، وَعَدَمَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ فِي ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ، وَقَدْ خَالَطَ قَلْبَهُ حَالُ الْمَحَبَّةِ، وَالْفَرَحِ بِاللَّهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، وَشُهُودِ سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَحِلْمِهِ وَعَفْوِهِ، وَقَدْ أَشْرَقَتْ عَلَى قَلْبِهِ أَنْوَارُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَنِسْيَانُ الْجِنَايَةِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الذَّنْبِ أَوْلَى بِهِ وَأَنْفَعُ، فَإِنَّهُ مَتَى رَجَعَ إِلَى ذِكْرِ الْجِنَايَةِ تَوَارَى عَنْهُ ذَلِكَ، وَنَزَلَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، وَمِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهَذَا مِنْ حَسَدِ الشَّيْطَانِ لَهُ، أَرَادَ أَنْ يَحُطَّهُ عَنْ مَقَامِهِ، وَسَيَّرَ قَلْبَهُ فِي مَيَادِينِ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالشَّوْقِ إِلَى وَحْشَةِ الْإِسَاءَةِ، وَحَصْرِ الْجِنَايَةِ. وَالْأَوَّلُ يَكُونُ شُهُودُهُ لِجِنَايَتِهِ مِنَّةً مِنَ اللَّهِ، مَنَّ بِهَا عَلَيْهِ، لِيُؤَمِّنَهُ بِهَا مِنْ مَقْتِ الدَّعْوَى، وَحِجَابِ الْكِبْرِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَهَذَا لَوْنٌ. وَهَذَا الْمَحَلُّ فِيهِ أَمْرٌ وَرَاءَ الْعِبَارَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ التَّوْبَةُ مِنَ التَّوْبَةِ] فَصْلٌ وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنَ التَّوْبَةِ فَهِيَ مِنَ الْمُجْمَلَاتِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَيَكُونُ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا حَقًّا، فَيُطْلِقُهُ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ. فَإِنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ، وَالتَّوْبَةُ مِنَ الْحَسَنَاتِ مِنْ أَعْظَمِ السَّيِّئَاتِ، وَأَقْبَحِ الْجِنَايَاتِ، بَلْ هِيَ كُفْرٌ، إِنْ أُخِذَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّوْبَةِ مِنَ التَّوْبَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، فَهَلْ يُسَوَّغُ أَنْ يُقَالَ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْإِيمَانِ؟ . وَلَكِنَّ مُرَادَهُمْ أَنْ يَتُوبَ مِنْ رُؤْيَةِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا حَصَلَتْ لَهُ بِمِنَّةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَوْ خُلِّيَ وَنَفْسَهُ لَمْ تُسْمَحْ بِهَا الْبَتَّةَ، فَإِذَا رَآهَا وَشَهِدَ صُدُورَهَا مِنْهُ وَوُقُوعَهَا بِهِ، وَغَفَلَ عَنْ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ تَابَ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ وَالْغَفْلَةِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ وَالْغَفْلَةَ لَيْسَتَ هِيَ

فصل لطائف أسرار التوبة

التَّوْبَةَ، وَلَا جُزْءًا مِنْهَا، وَلَا شَرْطًا لَهَا، بَلْ هِيَ جِنَايَةٌ أُخْرَى عَرَضَتْ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَيَتُوبُ مِنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، كَمَا تَابَ مِنَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، فَمَا تَابَ إِلَّا مِنْ ذَنْبٍ، أَوَّلًا وَآخِرًا، فَكَيْفَ يُقَالُ: يَتُوبُ مِنَ التَّوْبَةِ؟ . هَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلَا هُوَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي التَّوْبَةِ عِلَّةٌ وَنَقْصٌ، وَآفَةٌ تَمْنَعُ كَمَالَهَا، وَقَدْ يَشْعُرُ صَاحِبُهَا بِذَلِكَ وَقَدْ لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَيَتُوبُ مِنْ نُقْصَانِ التَّوْبَةِ، وَعَدَمِ تَوْفِيَتِهَا حَقَّهَا. وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْبَةٌ مِنْ عَدَمِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ مِنْهَا طَاعَةٌ لَا يُتَابُ مِنْهَا، وَالْقَدْرَ الْمَفْقُودَ هُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ. فَالتَّوْبَةُ مِنَ التَّوْبَةِ إِنَّمَا تُعْقَلُ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. نَعَمْ، هَاهُنَا وَجْهٌ ثَالِثٌ لَطِيفٌ جِدًّا، وَهُوَ أَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ مَقَامُ أُنْسٍ بِاللَّهِ، وَصَفَا وَقْتُهُ مَعَ اللَّهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ إِقْبَالُهُ عَلَى اللَّهِ، وَاشْتِغَالُهُ بِذِكْرِ آلَائِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَنْفَعَ شَيْءٍ لَهُ، حَتَّى نَزَلَ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَاشْتَغَلَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ جِنَايَةٍ سَالِفَةٍ قَدْ تَابَ مِنْهَا، وَطَالَعَ الْجِنَايَةَ وَاشْتَغَلَ بِهَا عَنِ اللَّهِ، فَهَذَا نَقْصٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ، وَهُوَ تَوْبَةٌ مِنْ هَذِهِ التَّوْبَةِ، لِأَنَّهُ نُزُولٌ مِنَ الصَّفَاءِ إِلَى الْجَفَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ لِطَائِفُ أَسْرَارِ التَّوْبَةِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَلَطَائِفُ أَسْرَارِ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، أَوَّلُهَا: أَنْ يَنْظُرَ الْجِنَايَةَ وَالْقَضِيَّةَ، فَيَعْرِفَ مُرَادَ اللَّهِ فِيهَا، إِذْ خَلَّاكَ وَإِتْيَانَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا خَلَّى الْعَبْدَ وَالذَّنَبَ لِأَجْلِ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْرِفَ عِزَّتَهُ فِي قَضَائِهِ، وَبِرَّهُ فِي سَتْرِهِ، وَحِلْمَهُ فِي إِمْهَالِ رَاكِبِهِ، وَكَرَمَهُ فِي قَبُولِ الْعُذْرِ مِنْهُ، وَفَضْلَهُ فِي مَغْفِرَتِهِ. الثَّانِي: أَنْ يُقِيمَ عَلَى عَبْدِهِ حُجَّةَ عَدْلِهِ، فَيُعَاقِبَهُ عَلَى ذَنْبِهِ بِحُجَّتِهِ. اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْبَصِيرَةِ إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الْخَطِيئَةُ فَلَهُ نَظَرٌ إِلَى خَمْسَةِ أُمُورٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، فَيُحَدِثَ لَهُ ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ بِكَوْنِهَا خَطِيئَةً، وَالْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ بِالذَّنْبِ. الثَّانِي: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَيُحْدِثَ لَهُ ذَلِكَ خَوْفًا وَخَشْيَةً، تَحْمِلُهُ عَلَى التَّوْبَةِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى تَمْكِينِ اللَّهِ لَهُ مِنْهَا، وَتَخْلِيَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَتَقْدِيرِهَا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَعَصَمَهُ مِنْهَا، فَيُحَدِثُ لَهُ ذَلِكَ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَمَغْفِرَتِهِ وَعَفْوِهِ، وَحِلْمِهِ وَكَرَمِهِ، وَتُوجِبُ لَهُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ عُبُودِيَّةً بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ، لَا تَحْصُلُ بِدُونِ لَوَازِمِهَا الْبَتَّةَ، وَيَعْلَمُ ارْتِبَاطَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالْجَزَاءِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُوجَبُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَأَثَرُهَا فِي الْوُجُودِ، وَأَنَّ كُلَّ اسْمٍ وَصِفَةٍ مُقْتَضٍ لِأَثَرِهِ وَمُوجَبِهِ، مُتَعَلِّقٌ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَهَذَا الْمَشْهَدُ يُطْلِعُهُ عَلَى رِيَاضٍ مُونِقَةٍ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْإِيمَانِ، وَأَسْرَارُ الْقَدَرِ وَالْحِكْمَةِ يَضِيقُ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهَا نِطَاقُ الْكَلِمِ. فَمِنْ بَعْضِهَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَنْ يَعْرِفَ الْعَبْدُ عِزَّتَهُ فِي قَضَائِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَزِيزُ الَّذِي يَقْضِي بِمَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ لِكَمَالِ عِزَّتِهِ حَكَمَ عَلَى الْعَبْدِ وَقَضَى عَلَيْهِ، بِأَنْ قَلَّبَ قَلْبَهُ وَصَرَّفَ إِرَادَتَهُ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَحَالَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَهُ مُرِيدًا شَائِيًا لِمَا شَاءَ مِنْهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْعِزَّةِ، إِذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ، وَغَايَةُ الْمَخْلُوقِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي بَدَنِكَ وَظَاهِرِكَ، وَأَمَّا جَعْلُكَ مُرِيدًا شَائِيًا لِمَا يَشَاؤُهُ مِنْكَ وَيُرِيدُهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا ذُو الْعِزَّةِ الْبَاهِرَةِ. فَإِذَا عَرَفَ الْعَبْدُ عِزَّ سَيِّدِهِ وَلَاحَظَهُ بِقَلْبِهِ، وَتَمَكَّنَ شُهُودَهُ مِنْهُ، كَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ عَنْ ذُلِّ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى بِهِ وَأَنْفَعَ لَهُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعَ اللَّهِ لَا مَعَ نَفْسِهِ. وَمِنْ مَعْرِفَةِ عِزَّتِهِ فِي قَضَائِهِ: أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ مُدَبَّرٌ مَقْهُورٌ، نَاصِيَتُهُ بِيَدِ غَيْرِهِ، لَا عِصْمَةَ لَهُ إِلَّا بِعِصْمَتِهِ، وَلَا تَوْفِيقَ لَهُ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ، فَهُوَ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ، فِي قَبْضَةِ عَزِيزٍ حَمِيدٍ. وَمِنْ شُهُودِ عِزَّتِهِ أَيْضًا فِي قَضَائِهِ: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ الْكَمَالَ وَالْحَمْدَ، وَالْغَنَاءَ التَّامَّ، وَالْعِزَّةَ كُلَّهَا لِلَّهِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ نَفْسَهُ أَوْلَى بِالتَّقْصِيرِ وَالذَّمِّ، وَالْعَيْبِ وَالظُّلْمِ وَالْحَاجَةِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ شُهُودُهُ لِذُلِّهِ وَنَقْصِهِ وَعَيْبِهِ وَفَقْرِهِ، ازْدَادَ شُهُودُهُ لِعِزَّةِ اللَّهِ وَكَمَالِهِ، وَحَمْدِهِ وَغِنَاهُ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، فَنَقْصُ الذَّنْبِ وَذِلَّتُهُ يُطْلِعُهُ عَلَى مَشْهَدِ الْعِزَّةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُرِيدُ مَعْصِيَةَ مَوْلَاهُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْصِيَةٌ، فَإِذَا شَهِدَ جَرَيَانَ

الْحُكْمِ، وَجَعْلَهُ فَاعِلًا لِمَا هُوَ غَيْرُ مُخْتَارٍ لَهُ، مُرِيدٌ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَكَأَنَّهُ مُخْتَارٌ غَيْرُ مُخْتَارٍ، مُرِيدٌ غَيْرُ مُرِيدٍ، شَاءٍ غَيْرُ شَاءٍ، فَهَذَا يَشْهَدُ عِزَّةَ اللَّهِ وَعَظَمَتَهُ، وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَعْرِفَ بِرَّهُ سُبْحَانَهُ فِي سَتْرِهِ عَلَيْهِ حَالَ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ، مَعَ كَمَالِ رُؤْيَتِهِ لَهُ، وَلَوْ شَاءَ لَفَضَحَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ فَحَذِرُوهُ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ بِرِّهِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الْبَرُّ، وَهَذَا الْبِرُّ مِنْ سَيِّدِهِ كَانَ عَنْ بِهِ كَمَالُ غِنَاهُ عَنْهُ، وَكَمَالُ فَقَرِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ، فَيَشْتَغِلُ بِمُطَالَعَةِ هَذِهِ الْمِنَّةِ، وَمُشَاهَدَةِ هَذَا الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ، فَيَذْهَلُ عَنْ ذِكْرِ الْخَطِيئَةِ، فَيَبْقَى مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِجِنَايَتِهِ، وَشُهُودِ ذُلِّ مَعْصِيَتِهِ، فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِاللَّهِ وَالْغَفْلَةَ عَمَّا سِوَاهُ هُوَ الْمَطْلَبُ الْأَعْلَى، وَالْمَقْصِدُ الْأَسْنَى. وَلَا يُوجِبُ هَذَا نِسْيَانَ الْخَطِيئَةِ مُطْلَقًا، بَلْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَإِذَا فَقَدَهَا فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُطَالَعَةِ الْخَطِيئَةِ، وَذِكْرِ الْجِنَايَةِ، وَلِكُلِّ وَقْتٍ وَمَقَامٍ عُبُودِيَّةٌ تَلِيقُ بِهِ. وَمِنْهَا: شُهُودُ حِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي إِمْهَالِ رَاكِبِ الْخَطِيئَةِ، وَلَوْ شَاءَ لَعَاجَلَهُ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَكِنَّهُ الْحَلِيمُ الَّذِي لَا يُعَجِّلُ، فَيُحَدِثُ لَهُ ذَلِكَ مَعْرِفَةَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ بِاسْمِهِ الْحَلِيمِ، وَمُشَاهَدَةَ صِفَةِ الْحِلْمِ، وَالتَّعَبُّدَ بِهَذَا الِاسْمِ، وَالْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ ذَلِكَ بِتَوَسُّطِ الذَّنْبِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، وَأَصْلَحُ لِلْعَبْدِ، وَأَنْفَعُ مِنْ فَوْتِهَا، وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازَمِهِ مُمْتَنِعٌ. وَمِنْهَا: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ كَرَمَ رَبِّهِ فِي قَبُولِ الْعُذْرِ مِنْهُ إِذَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاعْتِذَارِ، لَا بِالْقَدَرِ، فَإِنَّهُ مُخَاصَمَةٌ وَمُحَاجَّةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَقْبَلُ عُذْرَهُ بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ، فَيُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ اشْتِغَالًا بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَمَحَبَّةً أُخْرَى لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَحَبَّتَكَ لِمَنْ شَكَرَكَ عَلَى إِحْسَانِكَ وَجَازَاكَ بِهِ، ثُمَّ غَفَرَ لَكَ إِسَاءَتَكَ وَلَمْ يُؤَاخِذْكَ بِهَا أَضْعَافُ مَحَبَّتِكَ عَلَى شُكْرِ الْإِحْسَانِ وَحْدَهُ، وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، فَعُبُودِيَّةُ التَّوْبَةِ بَعْدَ الذَّنْبِ لَوْنٌ، وَهَذَا لَوْنٌ آخَرُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْهَدَ فَضْلَهُ فِي مَغْفِرَتِهِ، فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، وَإِلَّا فَلَوْ أَخَذَكَ بِمَحْضِ حَقِّهِ، كَانَ عَادِلًا مَحْمُودًا، وَإِنَّمَا عَفْوُهُ بِفَضْلِهِ لَا بِاسْتِحْقَاقِكَ، فَيُوجِبُ لَكَ ذَلِكَ أَيْضًا شُكْرًا لَهُ وَمَحَبَّةً، وَإِنَابَةً إِلَيْهِ، وَفَرَحًا وَابْتِهَاجًا بِهِ، وَمَعْرِفَةً لَهُ بِاسْمِهِ الْغَفَّارِ وَمُشَاهَدَةً لِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَتَعَبُّدًا بِمُقْتَضَاهَا، وَذَلِكَ أَكْمَلُ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَمِنْهَا: أَنْ يُكَمِّلَ لِعَبْدِهِ مَرَاتِبَ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهِ،

فَإِنَّ النَّفْسَ فِيهَا مُضَاهَاةٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَلَوْ قَدَرَتْ لَقَالَتْ كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ، وَلَكِنَّهُ قَدَرَ فَأَظْهَرَ، وَغَيْرُهُ عَجَزَ فَأَضْمَرَ، وَإِنَّمَا يُخَلِّصُهَا مِنْ هَذِهِ الْمُضَاهَاةِ ذُلُّ الْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَهِيَ ذُلُّ الْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ إِلَى اللَّهِ، فَأَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَمِيعًا مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فُقَرَاءُ إِلَيْهِ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ عَنْهُمْ، وَكُلُّ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُ، وَهُوَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: ذُلُّ الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ ذُلُّ الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا خَاصٌّ بِأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَهُوَ سِرُّ الْعُبُودِيَّةِ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: ذُلُّ الْمَحَبَّةِ، فَإِنَّ الْمُحِبَّ ذَلِيلٌ بِالذَّاتِ، وَعَلَى قَدْرِ مَحَبَّتِهِ لَهُ يَكُونُ ذُلُّهُ، فَالْمَحَبَّةُ أُسِّسَتْ عَلَى الذِّلَّةِ لِلْمَحْبُوبِ، كَمَا قِيلَ: اخْضَعْ وَذُلَّ لِمَنْ تُحِبُّ فَلَيْسَ فِي ... حُكْمِ الْهَوَى أَنَفٌ يُشَالُ وَيُعْقَدُ وَقَالَ آخَرُ: مَسَاكِينُ أَهْلِ الْحُبِّ حَتَّى قُبُورُهُمْ ... عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ الْمَقَابِرِ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: ذُلُّ الْمَعْصِيَةِ وَالْجِنَايَةِ. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ الْأَرْبَعُ كَانَ الذُّلُّ لِلَّهِ وَالْخُضُوعُ لَهُ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ، إِذْ يَذِلُّ لَهُ خَوْفًا وَخَشْيَةً، وَمَحَبَّةً وَإِنَابَةً، وَطَاعَةً، وَفَقْرًا وَفَاقَةً. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُسَمَّى بِالْفَقْرِ، بَلْ هُوَ لُبُّ الْعُبُودِيَّةِ وَسِرُّهَا، وَحُصُولُهُ أَنْفَعُ شَيْءٍ لِلْعَبْدِ، وَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى اللَّهِ. فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ لَوَازِمِهِ مِنْ أَسْبَابِ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ، وَأَسْبَابِ الْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ، وَأَسْبَابِ الْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ، وَأَسْبَابِ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، إِذْ وُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازَمِهِ مُمْتَنِعٌ، وَالْغَايَةُ مِنْ تَقْدِيرِ عَدَمِ هَذَا الْمَلْزُومِ وَلَازَمِهِ، مَصْلَحَةُ وُجُودِهِ خَيْرٌ مِنْ مَصْلَحَةِ فَوْتِهِ، وَمَفْسَدَةُ فَوْتِهِ أَكْبَرُ مِنْ مَفْسَدَةِ وُجُودهِ، وَالْحِكْمَةُ مَبْنَاهَا عَلَى دَفْعِ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ

بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا، وَتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا، وَقَدْ فَتَحَ لَكَ الْبَابَ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فَادْخُلْ، وَإِلَّا فَرُدَّ الْبَابَ وَارْجِعْ بِسَلَامٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى تَقْتَضِي آثَارُهَا اقْتِضَاءَ الْأَسْبَابِ التَّامَّةِ لِمُسَبِّبَاتِهَا، فَاسْمُ السَّمِيعِ، الْبَصِيرِ يَقْتَضِي مَسْمُوعًا وَمُبْصَرًا، وَاسْمُ الرَّزَّاقِ يَقْتَضِي مَرْزُوقًا، وَاسْمُ الرَّحِيمِ يَقْتَضِي مَرْحُومًا، وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْغَفُورِ، وَالْعَفُوِّ، وَالتَّوَّابِ، وَالْحَلِيمِ يَقْتَضِي مَنْ يَغْفِرُ لَهُ، وَيَتُوبُ عَلَيْهِ، وَيَعْفُو عَنْهُ، وَيَحْلُمُ، وَيَسْتَحِيلُ تَعْطِيلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، إِذْ هِيَ أَسْمَاءٌ حُسْنَى وَصِفَاتُ كَمَالٍ، وَنُعُوتُ جَلَالٍ، وَأَفْعَالُ حِكْمَةٍ وَإِحْسَانٍ وَجُودٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ آثَارِهَا فِي الْعَالَمِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِاللَّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، حَيْثُ يَقُولُ: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» . وَأَنْتَ إِذَا فَرَضْتَ الْحَيَوَانَ بِجُمْلَتِهِ مَعْدُومًا، فَمَنْ يَرْزُقُ الرَّزَّاقُ سُبْحَانَهُ؟ وَإِذَا فَرَضْتَ الْمَعْصِيَةَ وَالْخَطِيئَةَ مُنْتَفِيَةً مِنَ الْعَالَمِ، فَلِمَنْ يَغْفِرُ؟ وَعَمَّنْ يَعْفُو؟ وَعَلَى مَنْ يَتُوبُ وَيَحْلُمُ؟ وَإِذَا فَرَضْتَ الْفَاقَاتِ كُلَّهَا قَدْ سُدَّتْ، وَالْعَبِيدُ أَغْنِيَاءُ مُعَافَوْنَ، فَأَيْنَ السُّؤَالُ وَالتَّضَرُّعُ وَالِابْتِهَالُ؟ وَالْإِجَابَةُ وَشُهُودُ الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْإِنْعَامِ وَالْإِكْرَامِ؟ فَسُبْحَانَ مَنْ تَعَرَّفَ إِلَى خَلْقِهِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّعَرُّفَاتِ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الدَّلَالَاتِ، وَفَتَحَ لَهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعَ الطُّرُقَاتِ، ثُمَّ نَصَبَ إِلَيْهِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَعَرَّفَهُمْ بِهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42] . وَمِنْهَا: السِّرُّ الْأَعْظَمُ، الَّذِي لَا تَقْتَحِمُهُ الْعِبَارَةُ، وَلَا تَجْسُرُ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ، وَلَا يُنَادِي عَلَيْهِ مُنَادِي الْإِيمَانِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، بَلْ شَهِدَتْهُ قُلُوبُ خَوَاصِّ الْعِبَادِ، فَازْدَادَتْ بِهِ مَعْرِفَةً لِرَبِّهَا وَمَحَبَّةً لَهُ، وَطُمَأْنِينَةً بِهِ وَشَوْقًا إِلَيْهِ، وَلَهَجًا بِذِكْرِهِ، وَشُهُودًا لِبِرِّهِ، وَلُطْفِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَمُطَالَعَةً لِسِرِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِشْرَافًا عَلَى حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ

فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ - حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ - مِنْ أَحَدِكُمْ، كَانَ عَلَى رَاحِلَةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ - مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ - اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعِلْمِ: أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ خَطَأً مِنْ فَرَحٍ شَدِيدٍ، أَوْ غَيْظٍ شَدِيدٍ، وَنَحْوِهِ، لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا كَافِرًا بِقَوْلِهِ: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَأْثِيرَ الْغَضَبِ فِي عَدَمِ الْقَصْدِ يَصِلُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا، فَلَا يَنْبَغِي مُؤَاخَذَةُ الْغَضْبَانِ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ فِي حَالِ شِدَّةِ غَضَبِهِ مِنْ نَحْوِ هَذَا الْكَلَامِ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِذَلِكَ، وَلَا رِدَّتُهُ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى تَفْسِيرِ الْإِغْلَاقِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» بِأَنَّهُ الْغَضَبُ، وَفَسَّرَهُ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَفَسَّرُوهُ بِالْإِكْرَاهِ وَالْجُنُونِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ، وَهُوَ مِنَ الْغَلَقِ، لِانْغِلَاقِ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْفَتِحْ قَلْبُهُ لِمَعْنًى مَا قَالَهُ. وَالْقَصْدُ: أَنَّ هَذَا الْفَرَحَ لَهُ شَأْنٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ إِهْمَالُهُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يَلِيقُ بِعِزِّ جَلَالِهِ. وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى بِنَا طَيُّ الْكَلَامِ فِيهِ إِلَى مَا هُوَ اللَّائِقُ بِأَفْهَامِ بَنِي الزَّمَانِ وَعُلُومِهِمْ، وَنِهَايَةِ أَقْدَامِهِمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ عَنِ احْتِمَالِهِ. غَيْرَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيَسُوقُ هَذِهِ الْبِضَاعَةَ إِلَى تُجَّارِهَا، وَمَنْ هُوَ عَارِفٌ بِقَدْرِهَا، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الطَّرِيقِ بِيَدِ مَنْ لَيْسَ عَارِفًا بِهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ.

فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اخْتَصَّ نَوْعَ الْإِنْسَانِ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ بِأَنْ كَرَّمَهُ وَفَضَّلَهُ، وَشَرَّفَهُ، وَخَلَقَهُ لِنَفْسِهِ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ، وَخَصَّهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَقُرْبِهِ وَإِكْرَامِهِ بِمَا لَمْ يُعْطِهِ غَيْرَهُ، وَسَخَّرَ لَهُ مَا فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ وَمَا بَيْنَهُمَا، حَتَّى مَلَائِكَتَهُ - الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ قُرْبِهِ - اسْتَخْدَمَهُمْ لَهُ، وَجَعَلَهُمْ حَفَظَةً لَهُ فِي مَنَامِهِ وَيَقَظَتِهِ، وَظَعْنِهِ وَإِقَامَتِهِ، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ كُتُبَهُ، وَأَرْسَلَهُ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، وَخَاطَبَهُ وَكَلَّمَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَاتَّخَذَ مِنْهُمُ الْخَلِيلَ وَالْكَلِيمَ، وَالْأَوْلِيَاءَ وَالْخَوَاصَّ وَالْأَحْبَارَ، وَجَعَلَهُمْ مَعْدِنَ أَسْرَارِهِ، وَمَحَلَّ حِكْمَتِهِ، وَمَوْضِعَ حُبِّهِ، وَخَلَقَ لَهُمُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَخَلَقَ الْأَمْرَ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مَدَارُهُ عَلَى النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، فَإِنَّهُ خُلَاصَةُ الْخَلْقِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَعَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. فَلِلْإِنْسَانِ شَأْنٌ لَيْسَ لِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَدْ خَلَقَ أَبَاهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَظْهَرَ فَضْلَهُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَطَرَدَ إِبْلِيسَ عَنْ قُرْبِهِ، وَأَبْعَدَهُ عَنْ بَابِهِ، إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ مَعَ السَّاجِدِينَ، وَاتَّخَذَهُ عَدُوًّا لَهُ. فَالْمُؤْمِنُ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَخِيَرَةُ اللَّهِ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَإِنَّهُ خَلَقَهُ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، وَلِيَتَوَاتَرَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ، وَلِيَخُصَّهُ مِنْ كَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ بِمَا لَمْ تَنَلْهُ أُمْنِيَّتُهُ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ، لِيَسْأَلَهُ مِنَ الْمَوَاهِبِ وَالْعَطَايَا الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، الَّتِي لَا تُنَالُ إِلَّا بِمَحَبَّتِهِ، وَلَا تُنَالُ مَحَبَّتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَإِيثَارِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، فَاتَّخَذَهُ مَحْبُوبًا لَهُ، وَأَعَدَّ لَهُ أَفْضَلَ مَا يُعِدُّهُ مُحِبٌّ غَنِيٌّ قَادِرٌ جَوَادٌ لِمَحْبُوبِهِ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ عَهْدًا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ فِيهِ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَأَعْلَمَهُ فِي عَهْدِهِ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ، وَيَزِيدُهُ مَحَبَّةً لَهُ وَكَرَامَةً عَلَيْهِ، وَمَا يُبْعِدُهُ مِنْهُ وَيُسْخِطُهُ عَلَيْهِ، وَيُسْقِطُهُ مِنْ عَيْنِهِ. وَلِلْمَحْبُوبِ عَدُوٌّ، هُوَ أَبْغَضُ خَلْقِهِ إِلَيْهِ، قَدْ جَاهَرَهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَكُونَ دِينُهُمْ وَطَاعَتُهُمْ وَعِبَادَتُهُمْ لَهُ، دُونَ وَلِيِّهِمْ وَمَعْبُودِهِمُ الْحَقِّ، وَاسْتَقْطَعَ عِبَادَهُ، وَاتَّخَذَ مِنْهُمْ حِزْبًا ظَاهَرُوهُ وَوَالَوْهُ عَلَى رَبِّهِمْ، وَكَانُوا أَعْدَاءً لَهُ مَعَ هَذَا الْعَدُوِّ، يَدْعُونَ إِلَى سُخْطِهِ، وَيَطْعَنُونَ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَيَسُبُّونَهُ وَيُكَذِّبُونَهُ، وَيَفْتِنُونَ أَوْلِيَاءَهُ، وَيُؤْذُونَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى، وَيَجْهَدُونَ عَلَى إِعْدَامِهِمْ مِنَ الْوُجُودِ وَإِقَامَةِ الدَّوْلَةِ لَهُمْ، وَمَحْوِ كُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَتَبْدِيلِهِ بِكُلِّ مَا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ، فَعَرَّفَهُ بِهَذَا الْعَدُوِّ وَطَرَائِقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَمَا لَهُمْ، وَحَذَّرَهُ مُوَالَاتَهُمْ وَالدُّخُولَ فِي زُمْرَتِهِمْ وَالْكَوْنَ مَعَهُمْ. وَأَخْبَرَهُ فِي عَهْدِهِ أَنَّهُ أَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَنَّهُ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، وَحِلْمُهُ عُقُوبَتَهُ، وَعَفْوُهُ مُؤَاخَذَتَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ أَفَاضَ عَلَى خَلْقِهِ النِّعْمَةَ،

وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَأَنَّهُ يُحِبُّ الْإِحْسَانَ وَالْجُودَ وَالْعَطَاءَ وَالْبِرَّ، وَأَنَّ الْفَضْلَ كُلَّهُ بِيَدِهِ، وَالْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْهُ، وَالْجُودَ كُلَّهُ لَهُ، وَأَحَبُّ مَا إِلَيْهِ أَنْ يَجُودَ عَلَى عِبَادِهِ وَيُوسِعَهُمْ فَضْلًا، وَيَغْمُرَهُمْ إِحْسَانًا وَجُودًا، وَيُتِمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ، وَيُضَاعِفَ لَدَيْهِمْ مِنَّتَهُ، وَيَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ بِأَوْصَافِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَيَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ وَآلَائِهِ. فَهُوَ الْجَوَادُ لِذَاتِهِ، وَجُودُ كُلِّ جَوَادٍ خَلَقَهُ اللَّهُ، وَيَخْلُقُهُ أَبَدًا أَقَلُّ مِنْ ذَرَّةٍ بِالْقِيَاسِ إِلَى جُودِهِ، فَلَيْسَ الْجَوَادُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِلَّا هُوَ، وَجُودُ كُلِّ جَوَادٍ فَمِنْ جُودِهِ، وَمَحَبَّتُهُ لِلْجُودِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْبِرِّ وَالْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ فَوْقَ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْخَلْقِ، أَوْ يَدُورُ فِي أَوْهَامِهِمْ، وَفَرَحُهُ بِعَطَائِهِ وَجُودِهِ وَإِفْضَالِهِ أَشَدُّ مِنْ فَرَحِ الْآخِذِ بِمَا يُعْطَاهُ وَيَأْخُذُهُ، أَحْوَجُ مَا هُوَ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مَا كَانَ قَدْرًا، فَإِذَا اجْتَمَعَ شِدَّةُ الْحَاجَةِ وَعَظُمَ قَدْرُ الْعَطِيَّةِ وَالنَّفْعِ بِهَا، فَمَا الظَّنُّ بِفَرَحِ الْمُعْطِي؟ فَفَرَحُ الْمُعْطِي سُبْحَانَهُ بِعَطَائِهِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْ فَرَحِ هَذَا بِمَا يَأْخُذُهُ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، إِذْ هَذَا شَأْنُ الْجَوَادِ مِنَ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَالِابْتِهَاجِ وَاللَّذَّةِ بِعَطَائِهِ وَجُودِهِ فَوْقَ مَا يَحْصُلُ لِمَنْ يُعْطِيهِ، وَلَكِنَّ الْآخِذَ غَائِبٌ بِلَذَّةِ أَخْذِهِ، عَنْ لَذَّةِ الْمُعْطِي، وَابْتِهَاجِهِ وَسُرُورِهِ، هَذَا مَعَ كَمَالِ حَاجَتِهِ إِلَى مَا يُعْطِيهِ وَفَقْرِهِ إِلَيْهِ، وَعَدَمِ وُثُوقِهِ بِاسْتِخْلَافِ مِثْلِهِ، وَخَوْفِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ عِنْدَ ذَهَابِهِ، وَالتَّعَرُّضِ لِذُلِّ الِاسْتِعَانَةِ بِنَظِيرِهِ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَنَفْسُهُ قَدْ طُبِعَتْ عَلَى الْحِرْصِ وَالشُّحِّ. فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَأَوَّلَ خَلْقِهِ وَآخِرَهُمْ، وَإِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ، وَرَطْبَهُمْ وَيَابِسَهُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوهُ، فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مَا سَأَلَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَهُوَ الْجَوَادُ لِذَاتِهِ، كَمَا أَنَّهُ الْحَيُّ لِذَاتِهِ، الْعَلِيمُ لِذَاتِهِ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لِذَاتِهِ، فَجُودُهُ الْعَالِي مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَالْعَفْوُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الِانْتِقَامِ، وَالرَّحْمَةُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَالْفَضْلُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَدْلِ، وَالْعَطَاءُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمَنْعِ. فَإِذَا تَعَرَّضَ عَبْدُهُ وَمَحْبُوبُهُ الَّذِي خَلَقَهُ لِنَفْسِهِ، وَأَعَدَّ لَهُ أَنْوَاعَ كَرَامَتِهِ، وَفَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَجَعَلَهُ مَحَلَّ مَعْرِفَتِهِ، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ كِتَابَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولَهُ، وَاعْتَنَى بِأَمْرِهِ وَلَمْ يُهْمِلْهُ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ سُدًى، فَتَعَرَّضَ لِغَضَبِهِ، وَارْتَكَبَ مَسَاخِطَهُ وَمَا يَكْرَهُهُ وَأَبِقَ مِنْهُ، وَوَالَى عَدُوَّهُ وَظَاهَرَهُ عَلَيْهِ، وَتَحَيَّزَ إِلَيْهِ، وَقَطَعَ طَرِيقَ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ شَيْءٍ

إِلَيْهِ، وَفَتَحَ طَرِيقَ الْعُقُوبَةِ وَالْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ فَقَدِ اسْتَدْعَى مِنَ الْجَوَادِ الْكَرِيمِ خِلَافَ مَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ مِنَ الْجُودِ وَالْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ، وَتَعَرَّضَ لِإِغْضَابِهِ وَإِسْخَاطِهِ وَانْتِقَامِهِ، وَأَنْ يَصِيرَ غَضَبُهُ وَسُخْطُهُ فِي مَوْضِعِ رِضَاهُ، وَانْتِقَامُهُ وَعُقُوبَتُهُ فِي مَوْضِعِ كَرَمِهِ وَبِرِّهِ وَعَطَائِهِ، فَاسْتَدْعَى بِمَعْصِيَتِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ مَا سِوَاهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَخِلَافُ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ مِنَ الْجُودِ وَالْإِحْسَانِ. فَبَيْنَمَا هُوَ حَبِيبُهُ الْمُقَرَّبُ الْمَخْصُوصُ بِالْكَرَامَةِ، إِذِ انْقَلَبَ آبِقًا شَارِدًا، رَادًّا لِكَرَامَتِهِ، مَائِلًا عَنْهُ إِلَى عَدُوِّهِ، مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَعَدَمِ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فَبَيْنَمَا ذَلِكَ الْحَبِيبُ مَعَ الْعَدُوِّ فِي طَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، نَاسِيًا لِسَيِّدِهِ، مُنْهَمِكًا فِي مُوَافَقَةِ عَدُوِّهِ، قَدِ اسْتَدْعَى مِنْ سَيِّدِهِ خِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ إِذْ عَرَضَتْ لَهُ فِكْرَةٌ فَتَذَكَّرَ بِرَّ سَيِّدِهِ وَعَطْفَهُ وَجُودَهُ وَكَرَمَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَيْهِ، وَعَرْضَهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْدَمْ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ قُدِمَ بِهِ عَلَيْهِ عَلَى أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ، فَفَرَّ إِلَى سَيِّدِهِ مِنْ بَلَدِ عَدُوِّهِ، وَجَدَّ فِي الْهَرَبِ إِلَيْهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى بَابِهِ، فَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى عَتَبَةِ بَابِهِ، وَتَوَسَّدَ ثَرَى أَعْتَابِهِ، مُتَذَلِّلًا مُتَضَرِّعًا، خَاشِعًا بَاكِيًا آسِفًا، يَتَمَلَّقُ سَيِّدَهُ وَيَسْتَرْحِمُهُ، وَيَسْتَعْطِفُهُ وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، قَدْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَيْهِ، وَاسْتَسْلَمَ لَهُ وَأَعْطَاهُ قِيَادَهُ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ زِمَامَهُ، فَعَلِمَ سَيِّدُهُ مَا فِي قَلْبِهِ، فَعَادَ مَكَانَ الْغَضَبِ عَلَيْهِ رِضًا عَنْهُ، وَمَكَانَ الشِّدَّةِ عَلَيْهِ رَحْمَةً بِهِ، وَأَبْدَلَهُ بِالْعُقُوبَةِ عَفْوًا، وَبِالْمَنْعِ عَطَاءً، وَبِالْمُؤَاخَذَةِ حِلْمًا، فَاسْتَدْعَى بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ مِنْ سَيِّدِهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ، وَمَا هُوَ مُوجَبُ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، فَكَيْفَ يَكُونُ فَرَحُ سَيِّدِهِ بِهِ؟ وَقَدْ عَادَ إِلَيْهِ حَبِيبُهُ وَوَلِيُّهُ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا، وَرَاجَعَ مَا يُحِبُّهُ سَيِّدُهُ مِنْهُ بِرِضَاهُ، وَفَتَحَ طَرِيقَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْجُودِ، الَّتِي هِيَ أَحَبُّ إِلَى سَيِّدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ وَالْعُقُوبَةِ؟ . وَهَذَا مَوْضِعُ الْحِكَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ شُرُودٌ وَإِبَاقٌ مِنْ سَيِّدِهِ، فَرَأَى فِي بَعْضِ السِّكَكِ بَابًا قَدْ فُتِحَ، وَخَرَجَ مِنْهُ صَبِيٌّ يَسْتَغِيثُ وَيَبْكِي، وَأُمُّهُ خَلْفَهُ تَطْرُدُهُ، حَتَّى خَرَجَ، فَأَغْلَقَتِ الْبَابَ فِي وَجْهِهِ وَدَخَلَتْ، فَذَهَبَ الصَّبِيُّ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ وَقَفَ مُفَكِّرًا، فَلَمْ يَجِدْ لَهُ مَأْوًى غَيْرَ الْبَيْتِ الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ، وَلَا مَنْ يُئْوِيهِ غَيْرَ وَالِدَتِهِ، فَرَجَعَ مَكْسُورَ الْقَلْبِ حَزِينًا، فَوَجَدَ الْبَابَ مُرَتَّجًا، فَتَوَسَّدَهُ وَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى عَتَبَةِ الْبَابِ وَنَامَ، فَخَرَجَتْ أُمُّهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَمْ تَمْلِكْ أَنْ رَمَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، وَالْتَزَمَتْهُ تُقَبِّلُهُ وَتَبْكِي، وَتَقُولُ: يَا وَلَدِي، أَيْنَ تَذْهَبُ عَنِّي؟ وَمَنْ يُئْوِيكَ سِوَايَ؟ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: لَا تُخَالِفْنِي، وَلَا تَحْمِلْنِي بِمَعْصِيَتِكَ لِي عَلَى خِلَافِ مَا جُبِلْتُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ بِكَ، وَالشَّفَقَةِ عَلَيْكَ، وَإِرَادَتِي الْخَيْرَ لَكَ؟ ثُمَّ أَخَذَتْهُ وَدَخَلَتْ.

فصل مراتب الذل والخضوع

فَتَأَمَّلْ قَوْلَ الْأُمِّ: لَا تَحْمِلْنِي بِمَعْصِيَتِكَ لِي عَلَى خِلَافِ مَا جُبِلْتُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا» وَأَيْنَ تَقَعُ رَحْمَةُ الْوَالِدَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؟ فَإِذَا أَغْضَبَهُ الْعَبْدُ بِمَعْصِيَتِهِ فَقَدِ اسْتَدْعَى مِنْهُ صَرْفَ تِلْكَ الرَّحْمَةِ عَنْهُ، فَإِذَا تَابَ إِلَيْهِ فَقَدِ اسْتَدْعَى مِنْهُ مَا هُوَ أَهْلُهُ وَأَوْلَى بِهِ. فَهَذِهِ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ تُطْلِعُكَ عَلَى سِرِّ فَرَحِ اللَّهِ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ هَذَا الْوَاجِدِ لِرَاحِلَتِهِ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ، بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهَا. وَوَرَاءَ هَذَا مَا تَجْفُو عَنْهُ الْعِبَارَةُ، وَتَدِقُّ عَنْ إِدْرَاكِهِ الْأَذْهَانُ. وَإِيَّاكَ وَطَرِيقَةَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْزِلٌ ذَمِيمٌ، وَمَرْتَعٌ عَلَى عِلَّاتِهِ وَخِيمٌ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَجِدَ رَوَائِحَ هَذَا الْأَمْرِ وَنَفْسَهُ، لِأَنَّ زُكَامَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ مُفْسِدٌ لِحَاسَّةِ الشَّمِّ، كَمَا هُوَ مُفْسِدٌ لِحَاسَّةِ الذَّوْقِ، فَلَا يَذُوقُ طَعْمَ الْإِيمَانِ، وَلَا يَجِدُ رِيحَهُ، وَالْمَحْرُومُ كُلُّ الْمَحْرُومِ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْغِنَى وَالْخَيْرُ فَلَمْ يَقْبَلْهُ، فَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. [فَصْلٌ مَرَاتِبُ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ] فَصْلٌ هَذَا إِذَا نَظَرْتَ إِلَى تَعَلُّقِ الْفَرَحِ الْإِلَهِيِّ بِالْإِحْسَانِ وَالْجُودِ وَالْبِرِّ. وَأَمَّا إِنْ لَاحَظْتَ تَعَلُّقَهُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَكَوْنِهِ مَعْبُودًا فَذَاكَ مَشْهَدٌ أَجَلُّ مِنْ هَذَا وَأَعْظَمُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُهُ خَوَاصُّ الْمُحِبِّينَ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ الْجَامِعَةِ لِمَحَبَّتِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ وَطَاعَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي خُلِقَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَهُوَ غَايَةُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَنَفْيُهُ - كَمَا يَقُولُ أَعْدَاؤُهُ - هُوَ الْبَاطِلُ، وَالْعَبَثُ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ، وَهُوَ السُّدَى الَّذِي نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ وَلَا يَعْبَأُ بِخَلْقِهِ شَيْئًا لَوْلَا مَحَبَّتُهُمْ لَهُ، وَطَاعَتُهُمْ لَهُ، وَدُعَاؤُهُمْ لَهُ.

وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ لَوْ خُلِقُوا لِغَيْرِ عِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ لَكَانَ خَلْقُهُمْ عَبَثًا وَبَاطِلًا وَسُدًى، وَذَلِكَ مِمَّا يَتَعَالَى عَنْهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَالْإِلَهُ الْحَقُّ، فَإِذَا خَرَجَ الْعَبْدُ عَمَّا خُلِقَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ، وَعَنِ الْغَايَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خُلِقَتِ الْخَلِيقَةُ، وَصَارَ كَأَنَّهُ خُلِقَ عَبَثًا لِغَيْرِ شَيْءٍ، إِذْ لَمْ تُخْرِجْ أَرْضُهُ الْبَذْرَ الَّذِي وُضِعَ فِيهَا، بَلْ قَلَبَتْهُ شَوْكًا وَدَغَلًا، فَإِذَا رَاجَعَ مَا خُلِقَ لَهُ وَأُوجِدَ لِأَجْلِهِ فَقَدْ رَجَعَ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إِلَى خَالِقِهِ وَفَاطِرِهِ، وَرَجَعَ إِلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا، وَخَرَجَ عَنْ مَعْنَى الْعَبَثِ وَالسُّدَى وَالْبَاطِلِ، فَاشْتَدَّتْ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، فَأَوْجَبَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ فَرَحًا كَأَعْظَمِ مَا يُقْدَرُ مِنَ الْفَرَحِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْفَرَحِ الْمَشْهُودِ فِي هَذَا الْعَالَمِ نَوْعٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَذَكَرَهُ، وَلَكِنْ لَا فَرْحَةَ أَعْظَمُ مِنْ فَرْحَةِ هَذَا الْوَاجِدِ الْفَاقِدِ لِمَادَّةِ حَيَاتِهِ وَبَلَاغِهِ فِي سَفَرِهِ، بَعْدَ إِيَاسِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ بِفَقْدِهِ، وَهَذَا كَشِدَّةِ مَحَبَّتِهِ لِتَوْبَةِ التَّائِبِ الْمُحِبِّ إِذَا اشْتَدَّتْ مَحَبَّتُهُ لِلشَّيْءِ وَغَابَ عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ وَصَارَ طَوْعَ يَدِهِ، فَلَا فَرْحَةَ أَعْظَمُ مِنْ فَرْحَتِهِ بِهِ. فَمَا الظَّنُّ بِمَحْبُوبٍ لَكَ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، أَسَرَهُ عَدُوُّكَ، وَحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعَدُوَّ سَيَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَيُعَرِّضُهُ لِأَنْوَاعِ الْهَلَاكِ، وَأَنْتَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ، وَهُوَ غَرْسُكَ وَتَرْبِيَتُكَ، ثُمَّ إِنَّهُ انْفَلَتَ مِنْ عَدُوِّهِ، وَوَافَاكَ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، فَلَمْ يَفْجَأْكَ إِلَّا وَهُوَ عَلَى بَابِكَ، يَتَمَلَّقُكَ وَيَتَرَضَّاكَ وَيَسْتَعِينُكَ، وَيُمَرِّغُ خَدَّيْهِ عَلَى تُرَابِ أَعِتَابِكَ، فَكَيْفَ يَكُونُ فَرَحُكَ بِهِ، وَقَدِ اخْتَصَصْتَهُ لِنَفْسِكَ، وَرَضِيتَهُ لِقُرْبِكَ، وَآثَرْتَهُ عَلَى سِوَاهُ؟ هَذَا، وَلَسْتَ الَّذِي أَوْجَدْتَهُ وَخَلَقْتَهُ، وَأَسْبَغْتَ عَلَيْهِ نِعَمَكَ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي أَوْجَدَ عَبْدَهُ، وَخَلَقَهُ وَكَوَّنَهُ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُتِمَّهَا عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ مُظْهِرًا لِنِعَمِهِ، قَابِلًا لَهَا، شَاكِرًا لَهَا، مُحِبًّا لِوَلِيِّهَا، مُطِيعًا لَهُ عَابِدًا لَهُ، مُعَادِيًا لِعَدُوِّهِ، مُبْغِضًا لَهُ عَاصِيًا لَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ مُعَادَاةَ عَدُوِّهِ، وَمَعْصِيَتَهُ وَمُخَالَفَتَهُ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ يَتَوَلَّى اللَّهَ مَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ وَيُطِيعَهُ وَيَعْبُدَهُ، فَتَنْضَافُ مَحَبَّتُهُ لِعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، إِلَى مَحَبَّتِهِ لِعَدَاوَةِ عَدُوِّهِ، وَمَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، فَتَشْتَدُّ الْمَحَبَّةُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، مَعَ حُصُولِ مَحْبُوبِهِ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْفَرَحِ. وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ " عَبْدِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي " وَهَذَا لِكَمَالِ مَحَبَّتِهِ لَهُ، جَعَلَهُ مِمَّا تُسَرُّ نَفْسُهُ بِهِ سُبْحَانَهُ. وَمِنْ هَذَا ضَحِكُهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عَبْدِهِ، حِينَ يَأْتِي مِنْ عُبُودِيَّتِهِ بِأَعْظَمِ مَا يُحِبُّهُ،

فَيَضْحَكُ سُبْحَانَهُ فَرَحًا وَرِضًا، كَمَا يَضْحَكُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَفِرَاشِهِ وَمُضَاجَعَةِ حَبِيبِهِ إِلَى خِدْمَتِهِ، يَتْلُو آيَاتِهِ وَيَتَمَلَّقُهُ. وَيَضْحَكُ مِنْ رَجُلٍ هَرَبَ أَصْحَابُهُ عَنِ الْعَدُوِّ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ، وَبَاعَ نَفْسَهُ لِلَّهِ وَلَقَاهُمْ نَحْرَهُ، حَتَّى قُتِلَ فِي مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ. وَيَضْحَكُ إِلَى مَنْ أَخْفَى الصَّدَقَةَ عَنْ أَصْحَابِهِ لِسَائِلٍ اعْتَرَضَهُمْ فَلَمْ يُعْطُوهُ، فَتَخَلَّفَ بِأَعْقَابِهِمْ وَأَعْطَاهُ سِرًّا، حَيْثُ لَا يَرَاهُ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي أَعْطَاهُ، فَهَذَا الضَّحِكُ مِنْهُ حُبًّا لَهُ، وَفَرَحًا بِهِ، وَكَذَلِكَ الشَّهِيدُ حِينَ يَلْقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَضْحَكُ إِلَيْهِ فَرَحًا بِهِ وَبِقُدُومِهِ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَحْذُورٌ الْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ فَرَحٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَضَحِكٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ رِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ، وَإِرَادَتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ، فَالْبَابُ بَابٌ وَاحِدٌ، لَا تَمْثِيلَ وَلَا تَعْطِيلَ. وَلَيْسَ مَا يُلْزَمُ بِهِ الْمُعَطِّلُ الْمُثْبِتُ إِلَّا ظُلْمٌ مَحْضٌ، وَتَنَاقُضٌ وَتَلَاعُبٌ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ لَازِمًا لَلَزِمَ رَحْمَتَهُ وَإِرَادَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، وَعِلْمَهُ وَسَائِرَ صِفَاتِهِ، فَكَيْفَ جَاءَ هَذَا اللُّزُومُ لِهَذِهِ الصِّفَةِ دُونَ الْأُخْرَى؟ وَهَلْ يَجِدُ ذُو عَقْلٍ إِلَى الْفَرْقِ سَبِيلًا؟ فَمَا ثَمَّ إِلَّا التَّعْطِيلُ الْمَحْضُ الْمُطْلَقُ، أَوِ الْإِثْبَاتُ الْمُطْلَقُ لِكُلِّ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَرْضَاهُ الْمُحَصِّلُونَ. قَوْلُهُ الثَّانِي: أَنْ يُقِيمَ عَلَى عَبْدِهِ حُجَّةَ عَدْلِهِ، فَيُعَاقِبُهُ عَلَى ذَنْبِهِ بِحُجَّتِهِ. اعْتِرَافُ الْعَبْدِ بِقِيَامِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، أَطَاعَ أَمْ عَصَى، فَإِنَّ حُجَّةَ اللَّهِ قَامَتْ عَلَى الْعَبْدِ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ، وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ، وَبُلُوغِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَتَمَكُّنِهِ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ، سَوَاءً عَلِمَ أَمْ جَهِلَ، فَكُلُّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، فَقَصَّرَ عَنْهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَاقَبَهُ عَلَى ذَنْبِهِ عَاقَبَهُ بِحُجَّتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَقَالَ {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ - قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8 - 9]

وَقَالَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] . وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ لِيُهْلِكَهَا بِظُلْمٍ مِنْهُمْ، الثَّانِي: مَا كَانَ لِيُهْلِكَهَا بِظُلْمٍ مِنْهُ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ لِيُهْلِكَهَا بِظُلْمِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُمْ مُصْلِحُونَ الْآنَ، أَيْ إِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ أَصْلَحُوا وَتَابُوا، لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَهُمْ بِمَا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنَ الظُّلْمِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهُمْ فِي إِهْلَاكِهِمْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُهْلِكْهُمْ وَهُمْ مُصْلِحُونَ! وَإِنَّمَا أَهْلَكَهُمْ وَهُمْ ظَالِمُونَ، فَهُمُ الظَّالِمُونَ لِمُخَالَفَتِهِمْ، وَهُوَ الْعَادِلُ فِي إِهْلَاكِهِمْ، وَالْقَوْلَانِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ أَيْضًا {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] . قِيلَ: لَمْ يَكُنْ مُهْلِكَهُمْ بِظُلْمِهِمْ، وَشِرْكِهِمْ وَهُمْ غَافِلُونَ، لَمْ يُنْذَرُوا وَلَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ. وَقِيلَ: لَمْ يُهْلِكْهُمْ قَبْلَ التَّذْكِيرِ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ، فَيَكُونُ قَدْ ظَلَمَهُمْ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَأْخُذُ أَحَدًا وَلَا يُعَاقِبُهُ إِلَّا بِذَنْبِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُذْنِبًا إِذَا خَالَفَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يُعْلَمُ بِالرُّسُلِ. فَإِذَا شَاهَدَ الْعَبْدُ الْقَدَرَ السَّابِقَ بِالذَّنْبِ، عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَهُ سَبَبًا مُقْتَضِيًا لِأَثَرِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، كَمَا قَدَّرَ الطَّاعَةَ سَبَبًا مُقْتَضِيًا لِلثَّوَابِ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ سَائِرِ أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَجَعْلِ السُّمِّ سَبَبًا لِلْمَوْتِ، وَالنَّارِ سَبَبًا لِلْإِحْرَاقِ، وَالْمَاءِ سَبَبًا لِلْإِغْرَاقِ. فَإِذَا أَقْدَمَ الْعَبْدُ عَلَى سَبَبِ الْهَلَاكِ - وَقَدْ عَرَفَ أَنَّهُ سَبَبُ الْهَلَاكِ - فَهَلَكَ فَالْحُجَّةُ مُرَكَّبَةٌ عَلَيْهِ، وَالْمُؤَاخَذَةُ لَازِمَةٌ لَهُ، كَالْحَرِيقِ مَثَلًا، وَالذَّنْبُ كَالنَّارِ، وَإِتْيَانُهُ لَهُ كَتَقْدِيمِهِ نَفْسَهُ لِلنَّارِ، وَمُلَاحَظَةُ الْحُكْمِ فِيمَا لَا يُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا، فَإِنَّمَا الَّذِي يَشْهَدُهُ عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ مُلَاحَظَةُ الْأَمْرِ، لَا مُلَاحَظَةُ الْقَدَرِ. فَجَعْلُ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ هَذِهِ اللَّطِيفَةَ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْجِنَايَةِ وَالْقَضِيَّةِ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ، بَلْ هُوَ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْجِنَايَةِ وَالْأَمْرِ، لَكِنَّ مُرَادَهُ أَنَّ سِرَّ التَّقْدِيرِ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ لَا

يَصْلُحُ إِلَّا لِلْوَقُودِ، كَالشَّوْكِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلنَّارِ، وَالشَّجَرَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى الثَّمَرِ وَالشَّوْكِ، فَاقْتَضَى عَدْلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَسُوقَ هَذَا الْعَبْدَ إِلَى مَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ، وَأَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ حُجَّةَ عَدْلِهِ، فَإِنْ قَدَّرَ عَلَيْهِ الذَّنْبَ فَوَاقَعَهُ، فَاسْتَحَقَّ مَا خُلِقَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ - لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69 - 70] . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ النَّاسَ قِسْمَانِ: حَيٌّ قَابِلٌ لِلِانْتِفَاعِ، يَقْبَلُ الْإِنْذَارَ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَمَيِّتٌ لَا يَقْبَلُ الْإِنْذَارَ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، لِأَنَّ أَرْضَهُ غَيْرُ زَاكِيَةٍ وَلَا قَابِلَةٍ لِخَيْرٍ الْبَتَّةَ، فَيَحِقُّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِالْعَذَابِ، وَتَكُونُ عُقُوبَتُهُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، لَا بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْهُدَى وَالْإِيمَانِ، بَلْ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ وَلَا فَاعِلٍ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ كَوْنُهُ غَيْرَ قَابِلٍ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالرَّسُولِ، إِذْ لَوْ عَذَّبَهُ بِكَوْنِهِ غَيْرَ قَابِلٍ لَقَالَ: لَوْ جَاءَنِي رَسُولٌ مِنْكَ لَامْتَثَلْتُ أَمْرَكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولَهُ، فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ، فَعَصَى الرَّسُولَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْهُدَى، فَعُوقِبَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ فَاعِلٍ، فَحَقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَلَوْ جَاءَهُ الرَّسُولُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33] ، وَحَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 6] . فَالْكَلِمَةُ الَّتِي حَقَّتْ كَلِمَتَانِ: كَلِمَةُ الْإِضْلَالِ، وَكَلِمَةُ الْعَذَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71] وَكَلِمَتُهُ سُبْحَانَهُ، إِنَّمَا حَقَّتْ عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، فَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ حُجَّتِهِ، وَكَلِمَةُ عَدْلِهِ بِعُقُوبَتِهِ. وَحَاصِلُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، أَمَرَ الْعِبَادَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ مُرَادِهِ الدِّينِيِّ مِنْهُمْ، لَا مَعَ مُرَادِ أَنْفُسِهِمْ، فَأَهْلُ طَاعَتِهِ آثَرُوا اللَّهَ وَمُرَادَهُ عَلَى مُرَادِهِمْ، فَاسْتَحَقُّوا كَرَامَتَهُ، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِهِ آثَرُوا مُرَادَهُمْ عَلَى مُرَادِهِ، وَعَلِمَ سُبْحَانَهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْثِرُونَ مُرَادَهُ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُؤْثِرُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمُرَادَهُمْ، فَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ، فَظَهَرَ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ مِنَ الْقَدَرِ الَّذِي قَدَّرَ عَلَيْهِمْ مِنْ إِيثَارِهِمْ هَوَى أَنْفُسِهِمْ وَمُرَادِهِمْ عَلَى مَرْضَاةِ رَبِّهِمْ وَمُرَادِهِ، فَقَامَتْ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْصِيَةِ حُجَّةُ عَدْلِهِ، فَعَاقَبَهُمْ بِظُلْمِهِمْ.

فصل نظر العبد في الذنب

[فَصْلٌ نَظَرُ الْعَبْدِ فِي الذَّنْبِ] فَصْلٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ فِي الذَّنْبِ لَهُ نَظَرٌ إِلَى أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: نَظَرٌ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَنَظَرٌ إِلَى الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ، وَذَكَرْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَيْنِ النَّظَرَيْنِ. النَّظَرُ الثَّالِثُ: النَّظَرُ إِلَى مَحَلِّ الْجِنَايَةِ وَمَصْدَرِهَا، وَهُوَ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، وَيُفِيدُهُ نَظَرُهُ إِلَيْهَا أُمُورًا. مِنْهَا: أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهَا جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ، وَأَنَّ الْجَهْلَ وَالظُّلْمَ يَصْدُرُ عَنْهُمَا كُلُّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ قَبِيحٍ، وَمِنْ وَصْفِهِ الْجَهْلَ وَالظُّلْمَ لَا مَطْمَعَ فِي اسْتِقَامَتِهِ وَاعْتِدَالِهِ الْبَتَّةَ، فَيُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ بَذْلَ الْجُهْدِ فِي الْعِلْمِ النَّافِعِ الَّذِي يُخْرِجُهَا بِهِ عَنْ وَصْفِ الْجَهْلِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُخْرِجُهَا بِهِ عَنْ وَصْفِ الظُّلْمِ، وَمَعَ هَذَا فَجَهْلُهَا أَكْثَرُ مِنْ عِلْمِهَا، وَظُلْمُهَا أَعْظَمُ مِنْ عَدْلِهَا. فَحَقِيقٌ بِمَنْ هَذَا شَأْنُهُ أَنْ يَرْغَبَ إِلَى خَالِقِهَا وَفَاطِرِهَا أَنْ يَقِيَهَا شَرَّهَا، وَأَنْ يُؤْتِيَهَا تَقْوَاهَا وَيُزَكِّيَهَا، فَهُوَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، فَإِنَّهُ رَبُّهَا وَمَوْلَاهَا، وَأَنْ لَا يَكِلَهُ إِلَيْهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَإِنَّهُ إِنْ وَكَلَهُ إِلَيْهَا هَلَكَ، فَمَا هَلَكَ مَنْ هَلَكَ إِلَّا حَيْثُ وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُصَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ «قُلِ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي» وَفِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا» وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وَقَالَ {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] . فَمَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ نَفْسِهِ وَمَا طُبِعَتْ عَلَيْهِ عَلِمَ أَنَّهَا مَنْبَعُ كُلِّ شَرٍّ، وَمَأْوَى كُلِّ سُوءٍ، وَأَنَّ كُلَّ خَيْرٍ فِيهَا فَفَضْلٌ مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهِ عَلَيْهَا، لَمْ يَكُنْ مِنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21] وَقَالَ تَعَالَى {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] فَهَذَا الْحُبُّ وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ لَمْ يَكُونَا فِي النَّفْسِ وَلَا بِهَا، وَلَكِنْ هُوَ اللَّهُ الَّذِي مَنَّ بِهِمَا، فَجَعَلَ الْعَبْدَ بِسَبَبِهِمَا مِنَ الرَّاشِدِينَ {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 8] عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْفَضْلِ وَيَزْكُو عَلَيْهِ وَبِهِ، وَيُثْمِرُ عِنْدَهُ، حَكِيمٌ فَلَا يَضَعُهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ فَيُضَيِّعُهُ بِوَضْعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَمِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ فَقَالَ: اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ نَظَرَ الْبَصِيرِ الصَّادِقِ فِي سَيِّئَتِهِ لَمْ يُبْقِ لَهُ حَسَنَةً بِحَالٍ، لِأَنَّهُ يَسِيرُ بَيْنَ مُشَاهَدَةِ الْمِنَّةِ، وَتَطَلُّبِ عَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ. يُرِيدُ: أَنَّ مَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ بِنَفْسِهِ، وَبَصِيرَةٌ بِحُقُوقِ اللَّهِ، وَهُوَ صَادِقٌ فِي طَلَبِهِ لَمْ يُبْقِ لَهُ نَظَرُهُ فِي سَيِّئَاتِهِ حَسَنَةً الْبَتَّةَ، فَلَا يَلْقَى اللَّهَ إِلَّا بِالْإِفْلَاسِ الْمَحْضِ، وَالْفَقْرِ الصِّرْفِ، لِأَنَّهُ إِذَا فَتَّشَ عَنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ وَعُيُوبِ عَمَلِهِ عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلَّهِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْبِضَاعَةَ لَا تُشْتَرَى بِهَا النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَضْلًا عَنِ الْفَوْزِ بِعَظِيمِ ثَوَابِ اللَّهِ، فَإِنْ خَلُصَ لَهُ عَمَلٌ وَحَالٌ مَعَ اللَّهِ، وَصَفَا لَهُ مَعَهُ وَقْتٌ شَاهَدَ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِهِ، وَمُجَرَّدَ فَضْلِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا هِيَ أَهْلٌ لِذَلِكَ، فَهُوَ دَائِمًا مُشَاهِدٌ لِمِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلِعُيُوبِ نَفْسِهِ وَعَمَلِهِ، لِأَنَّهُ مَتَى تَطَلَّبَهَا رَآهَا. وَهَذَا مِنْ أَجَلِّ أَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ وَأَنْفَعِهَا لِلْعَبْدِ، وَلِذَلِكَ كَانَ سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي، وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» . فَتَضَمَّنَ هَذَا الِاسْتِغْفَارُ الِاعْتِرَافَ مِنَ الْعَبْدِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ، وَإِلَهِيَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَالِاعْتِرَافَ بِأَنَّهُ خَالِقُهُ، الْعَالِمُ بِهِ، إِذْ أَنْشَأَهُ نَشْأَةً تَسْتَلْزِمُ عَجْزَهُ عَنْ أَدَاءِ حَقِّهِ وَتَقْصِيرَهُ

فِيهِ، وَالِاعْتِرَافَ بِأَنَّهُ عَبْدُهُ الَّذِي نَاصِيَتُهُ بِيَدِهِ وَفِي قَبْضَتِهِ، لَا مَهْرَبَ لَهُ مِنْهُ، وَلَا وَلِيَّ بِهِ سِوَاهُ، ثُمَّ الْتِزَامَ الدُّخُولِ تَحْتَ عَهْدِهِ - وَهُوَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ - الَّذِي عَهِدَهُ إِلَيْهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِي، لَا بِحَسَبِ أَدَاءِ حَقِّكَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْبَشَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ جُهْدُ الْمُقِلٍّ، وَقَدْرُ الطَّاقَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَنَا مُصَدِّقٌ بِوَعْدِكَ الَّذِي وَعَدْتَهُ لِأَهْلِ طَاعَتِكَ بِالثَّوَابِ، وَلِأَهْلِ مَعْصِيَتِكَ بِالْعِقَابِ، فَأَنَا مُقِيمٌ عَلَى عَهْدِكَ، مُصَدِّقٌ بِوَعْدِكَ، ثُمَّ أَفْزَعُ إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ وَالِاعْتِصَامِ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فَرَّطْتُ فِيهِ مِنْ أَمْرِكَ وَنَهْيِكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعِذْنِي مِنْ شَرِّهِ، وَإِلَّا أَحَاطَتْ بِي الْهَلَكَةُ، فَإِنَّ إِضَاعَةَ حَقِّكَ سَبَبُ الْهَلَاكِ، وَأَنَا أُقِرُّ لَكَ وَأَلْتَزِمُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأُقِرُّ وَأَلْتَزِمُ وَأَبْخَعُ بِذَنْبِي، فَمِنْكَ النِّعْمَةُ وَالْإِحْسَانُ وَالْفَضْلُ، وَمِنِّي الذَّنْبُ وَالْإِسَاءَةُ، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرَ لِي بِمَحْوِ ذَنْبِي، وَأَنْ تُعْفِيَنِي مِنْ شَرِّهِ، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. فَلِهَذَا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ سَيِّدَ الِاسْتِغْفَارِ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِمَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ، فَأَيُّ حَسَنَةٍ تَبْقَى لِلْبَصِيرِ الصَّادِقِ، مَعَ مُشَاهَدَتِهِ عُيُوبَ نَفْسِهِ وَعَمَلِهِ، وَمِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ؟ فَهَذَا الَّذِي يُعْطِيهِ نَظَرُهُ إِلَى نَفْسِهِ وَنَقْصِهِ. النَّظَرُ الرَّابِعُ: نَظَرُهُ إِلَى الْآمِرِ لَهُ بِالْمَعْصِيَةِ، الْمُزَيِّنِ لَهُ فِعْلَهَا، الْحَاضِّ لَهُ عَلَيْهَا، وَهُوَ شَيْطَانُهُ الْمُوَكَّلُ بِهِ. فَيُفِيدُهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ وَمُلَاحَظَتُهُ، اتِّخَاذَهُ عَدُوًّا، وَكَمَالَ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ، وَالتَّحَفُّظِ وَالْيَقَظَةِ، وَالِانْتِبَاهِ لِمَا يُرِيدُ مِنْهُ عَدُوُّهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَظْفَرَ بِهِ فِي عُقْبَةٍ مِنْ سَبْعِ عُقْبَاتٍ، بَعْضُهَا أَصْعَبُ مِنْ بَعْضٍ، لَا يَنْزِلُ مِنْهُ مِنَ الْعُقْبَةِ الشَّاقَّةِ إِلَى مَا دُونَهَا إِلَّا إِذَا عَجَزَ عَنِ الظَّفَرِ بِهِ فِيهَا. الْعُقْبَةُ الْأُولَى: عُقْبَةُ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَبِدِينِهِ وَلِقَائِهِ، وَبِصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَبِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَفِرَ بِهِ فِي هَذِهِ الْعُقْبَةِ بَرُدَتْ نَارُ عَدَاوَتِهِ وَاسْتَرَاحَ، فَإِنِ اقْتَحَمَ هَذِهِ الْعُقْبَةَ وَنَجَا مِنْهَا بِبَصِيرَةِ الْهِدَايَةِ، وَسَلِمَ مَعَهُ نُورُ الْإِيمَانِ طَلَبَهُ عَلَى: الْعُقْبَةِ الثَّانِيَةِ: وَهِيَ عُقْبَةُ الْبِدْعَةِ، إِمَّا بِاعْتِقَادِ خِلَافِ الْحَقِّ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ، وَإِمَّا بِالتَّعَبُّدِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنَ الْأَوْضَاعِ وَالرُّسُومِ الْمُحْدَثَةِ فِي

الدِّينِ، الَّتِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهَا شَيْئًا، وَالْبِدْعَتَانِ فِي الْغَالِبِ مُتَلَازِمَتَانِ، قَلَّ أَنْ تَنْفَكَّ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: تَزَوَّجَتْ بِدَعَةُ الْأَقْوَالِ بِبِدْعَةِ الْأَعْمَالِ، فَاشْتَغَلَ الزَّوْجَانِ بِالْعُرْسِ، فَلَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلَّا وَأَوْلَادُ الزِّنَا يَعِيثُونَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، تَضِجُّ مِنْهُمُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ شَيْخُنَا: تَزَوَّجَتِ الْحَقِيقَةُ الْكَافِرَةُ، بِالْبِدْعَةِ الْفَاجِرَةِ، فَتَوَلَّدَ بَيْنَهُمَا خُسْرَانُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَإِنْ قَطَعَ هَذِهِ الْعُقْبَةَ، وَخَلَصَ مِنْهَا بِنُورِ السُّنَّةِ، وَاعْتَصَمَ مِنْهَا بِحَقِيقَةِ الْمُتَابَعَةِ، وَمَا مَضَى عَلَيْهِ السَّلَفُ الْأَخْيَارُ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَهَيْهَاتَ أَنْ تَسْمَحَ الْأَعْصَارُ الْمُتَأَخِّرَةُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ! فَإِنْ سَمَحَتْ بِهِ نَصَبَ لَهُ أَهْلُ الْبِدَعِ الْحَبَائِلَ، وَبَغَوْهُ الْغَوَائِلَ، وَقَالُوا: مُبْتَدِعٌ مُحْدِثٌ. الْعُقْبَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ عُقْبَةُ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ فِيهَا زَيَّنَهَا لَهُ، وَحَسَّنَهَا فِي عَيْنِهِ، وَسَوَّفَ بِهِ، وَفَتَحَ لَهُ بَابَ الْإِرْجَاءِ، وَقَالَ لَهُ: الْإِيمَانُ هُوَ نَفْسُ التَّصْدِيقِ، فَلَا تَقْدَحُ فِيهِ الْأَعْمَالُ، وَرُبَّمَا أَجْرَى عَلَى لِسَانِهِ وَأُذُنِهِ كَلِمَةً طَالَمَا أَهْلَكَ بِهَا الْخَلْقَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: لَا يَضُرُّ مَعَ التَّوْحِيدِ ذَنْبٌ، كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ حَسَنَةٌ، وَالظُّفْرُ بِهِ فِي عُقْبَةِ الْبِدْعَةِ أَحَبُّ إِلَيْهِ، لِمُنَاقَضَتِهَا الدِّينَ، وَدَفْعِهَا لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَصَاحِبُهَا لَا يَتُوبُ مِنْهَا، وَلَا يَرْجِعُ عَنْهَا، بَلْ يَدْعُو الْخَلْقَ إِلَيْهَا، وَلِتَضَمُّنِهَا الْقَوْلَ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَمُعَادَاةَ صَرِيحِ السُّنَّةِ، وَمُعَادَاةَ أَهْلِهَا، وَالِاجْتِهَادَ عَلَى إِطْفَاءِ نُورِ السُّنَّةِ، وَتَوْلِيَةِ مَنْ عَزَلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَعَزْلَ مَنْ

وَلَّاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَاعْتِبَارَ مَا رَدَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَرَدَّ مَا اعْتَبَرَهُ، وَمُوَالَاةَ مَنْ عَادَاهُ، وَمُعَادَاةَ مَنْ وَالَاهُ، وَإِثْبَاتَ مَا نَفَاهُ، وَنَفْيَ مَا أَثْبَتَهُ، وَتَكْذِيبَ الصَّادِقِ، وَتَصْدِيقَ الْكَاذِبِ، وَمُعَارَضَةَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَقَلْبَ الْحَقَائِقِ بِجَعْلِ الْحَقِّ بَاطِلًا، وَالْبَاطِلِ حَقًّا، وَالْإِلْحَادَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَتَعْمِيَةَ الْحَقِّ عَلَى الْقُلُوبِ، وَطَلَبَ الْعِوَجِ لِصِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَفَتْحَ بَابِ تَبْدِيلِ الدِّينِ جُمْلَةً. فَإِنَّ الْبِدَعَ تَسْتَدْرِجُ بِصَغِيرِهَا إِلَى كَبِيرِهَا، حَتَّى يَنْسَلِخَ صَاحِبُهَا مِنَ الدِّينِ، كَمَا تَنْسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ، فَمَفَاسِدُ الْبِدَعِ لَا يَقِفُ عَلَيْهَا إِلَّا أَرْبَابُ الْبَصَائِرِ، وَالْعِمْيَانُ ضَالُّونَ فِي ظُلْمَةِ الْعَمَى {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] . فَإِنْ قَطَعَ هَذِهِ الْعُقْبَةَ بِعِصْمَةٍ مِنَ اللَّهِ، أَوْ بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ تُنْجِيهِ مِنْهَا، طَلَبَهُ عَلَى: الْعُقْبَةِ الرَّابِعَةِ: وَهِيَ عُقْبَةُ الصَّغَائِرِ، فَكَالَ لَهُ مِنْهَا بِالْقُفْزَانِ، وَقَالَ: مَا عَلَيْكَ إِذَا اجْتَنَبْتَ الْكَبَائِرَ مَا غَشِيتَ مِنَ اللَّمَمِ، أَوَمَا عَلِمْتَ بِأَنَّهَا تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَبِالْحَسَنَاتِ، وَلَا يَزَالُ يُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَهَا حَتَّى يُصِرَّ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ مُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ الْخَائِفُ الْوَجِلُ النَّادِمُ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُ، فَالْإِصْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ أَقْبَحُ مِنْهُ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، ثُمَّ ضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا بِقَوْمٍ نَزَلُوا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَأَعْوَزَهُمُ الْحَطَبُ، فَجَعَلَ هَذَا يَجِيءُ بِعُودٍ، وَهَذَا بِعُودٍ، حَتَّى جَمَعُوا حَطَبًا كَثِيرًا، فَأَوْقَدُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، فَكَذَلِكَ فَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ تَجْتَمِعُ عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ يَسْتَهِينُ بِشَأْنِهَا حَتَّى تُهْلِكَهُ» . الْعُقْبَةُ الْخَامِسَةُ: وَهِيَ عُقْبَةُ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا حَرَجَ عَلَى فَاعِلِهَا، فَشَغَلَهُ بِهَا عَنْ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَعَنْ الِاجْتِهَادِ فِي التَّزَوُّدِ لِمَعَادِهِ، ثُمَّ طَمَّعَ فِيهِ أَنْ يَسْتَدْرِجَهُ مِنْهَا إِلَى تَرْكِ السُّنَنِ، ثُمَّ مِنْ تَرْكِ السُّنَنِ إِلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَقَلُّ مَا يُنَالُ مِنْهُ تَفْوِيتُهُ الْأَرْبَاحَ، وَالْمَكَاسِبَ الْعَظِيمَةَ، وَالْمَنَازِلَ الْعَالِيَةَ، وَلَوْ عَرَفَ السِّعْرَ لَمَا فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الْقُرُبَاتِ، وَلَكِنَّهُ جَاهِلٌ بِالسِّعْرِ.

فَإِنْ نَجَا مِنْ هَذِهِ الْعُقْبَةِ بِبَصِيرَةٍ تَامَّةٍ وَنُورٍ هَادٍ، وَمَعْرِفَةٍ بِقَدْرِ الطَّاعَاتِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا، وَقِلَّةِ الْمُقَامِ عَلَى الْمِينَاءِ، وَخَطَرِ التِّجَارَةِ، وَكَرَمِ الْمُشْتَرِي، وَقَدْرِ مَا يُعَوِّضُ بِهِ التُّجَّارَ، فَبَخِلَ بِأَوْقَاتِهِ، وَضَنَّ بِأَنْفَاسِهِ أَنْ تَذْهَبَ فِي غَيْرِ رِبْحٍ، طَلَبَهُ الْعَدُوُّ عَلَى: الْعُقْبَةِ السَّادِسَةِ: وَهِيَ عُقْبَةُ الْأَعْمَالِ الْمَرْجُوحَةِ الْمَفْضُولَةِ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَأَمَرَهُ بِهَا، وَحَسَّنَهَا فِي عَيْنِهِ، وَزَيَّنَهَا لَهُ، وَأَرَاهُ مَا فِيهَا مِنَ الْفَضْلِ وَالرِّبْحِ، لِيَشْغَلَهُ بِهَا عَمَّا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَأَعْظَمُ كَسْبًا وَرِبْحًا، لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ عَنْ تَخْسِيرِهِ أَصْلَ الثَّوَابِ، طَمِعَ فِي تَخْسِيرِهِ كَمَالَهُ وَفَضْلَهُ، وَدَرَجَاتِهِ الْعَالِيَةَ، فَشَغَلَهُ بِالْمَفْضُولِ عَنِ الْفَاضِلِ، وَبِالْمَرْجُوحِ عَنِ الرَّاجِحِ، وَبِالْمَحْبُوبِ لِلَّهِ عَنِ الْأَحَبِّ إِلَيْهِ، وَبِالْمَرْضِيِّ عَنِ الْأَرْضَى لَهُ. وَلَكِنْ أَيْنَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْعُقْبَةِ؟ فَهُمُ الْأَفْرَادُ فِي الْعَالَمِ، وَالْأَكْثَرُونَ قَدْ ظَفِرَ بِهِمْ فِي الْعُقْبَاتِ الْأُوَلِ. فَإِنْ نَجَا مِنْهَا بِفِقْهٍ فِي الْأَعْمَالِ وَمَرَاتِبِهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَمَنَازِلِهَا فِي الْفَضْلِ، وَمَعْرِفَةِ مَقَادِيرِهَا، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ عَالِيهَا وَسَافِلِهَا، وَمَفْضُولِهَا وَفَاضِلِهَا، وَرَئِيسِهَا وَمَرْءُوسِهَا، وَسَيِّدِهَا وَمَسُودِهَا، فَإِنَّ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ سَيِّدًا وَمَسُودًا، وَرَئِيسًا وَمَرْءُوسًا، وَذِرْوَةً وَمَا دُونَهَا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» الْحَدِيثَ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «الْجِهَادُ ذِرْوَةُ سَنَامِ الْأَمْرِ» وَفِي الْأَثَرِ الْآخَرِ " إِنَّ الْأَعْمَالَ تَفَاخَرَتْ " فَذَكَرَ كُلُّ عَمَلٍ مِنْهَا مَرْتَبَتَهُ وَفَضْلَهُ، وَكَانَ لِلصَّدَقَةِ مَزِيَّةٌ فِي الْفَخْرِ عَلَيْهِنَّ، وَلَا يَقْطَعُ هَذِهِ الْعُقْبَةَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ وَالصِّدْقِ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ، السَّائِرِينَ عَلَى جَادَّةِ التَّوْفِيقِ، قَدْ أَنْزَلُوا الْأَعْمَالَ مَنَازِلَهَا، وَأَعْطَوْا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَإِذَا نَجَا مِنْهَا لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ عُقْبَةٌ يَطْلُبُهُ الْعَدُوُّ عَلَيْهَا سِوَى وَاحِدَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَلَوْ نَجَا مِنْهَا أَحَدٌ لَنَجَا مِنْهَا رُسُلُ اللَّهِ وَأَنْبِيَاؤُهُ، وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، وَهِيَ عُقْبَةُ تَسْلِيطِ جُنْدِهِ عَلَيْهِ

بِأَنْوَاعِ الْأَذَى، بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، عَلَى حَسَبِ مَرْتَبَتِهِ فِي الْخَيْرِ، فَكُلَّمَا عَلَتْ مَرْتَبَتُهُ أَجْلَبَ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ، وَظَاهَرَ عَلَيْهِ بِجُنْدِهِ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِ حِزْبَهُ وَأَهْلَهُ بِأَنْوَاعِ التَّسْلِيطِ، وَهَذِهِ الْعُقْبَةُ لَا حِيلَةَ لَهُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْهَا، فَإِنَّهُ كُلَّمَا جَدَّ فِي الِاسْتِقَامَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَالْقِيَامِ لَهُ بِأَمْرِهِ، جِدَّ الْعَدُوُّ فِي إِغْرَاءِ السُّفَهَاءِ بِهِ، فَهُوَ فِي هَذِهِ الْعُقْبَةِ قَدْ لَبِسَ لَأْمَةَ الْحَرْبِ، وَأَخَذَ فِي مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ، فَعُبُودِيَّتُهُ فِيهَا عُبُودِيَّةُ خَوَاصِّ الْعَارِفِينَ، وَهِيَ تُسَمَّى عُبُودِيَّةَ الْمُرَاغَمَةِ، وَلَا يَنْتَبِهُ لَهَا إِلَّا أُولُو الْبَصَائِرِ التَّامَّةِ، وَلَا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُرَاغَمَةِ وَلِيِّهِ لِعَدُوِّهِ، وَإِغَاظَتِهِ لَهُ، وَقَدْ أَشَارَ سُبْحَانَهُ إِلَى هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] سَمَّى الْمُهَاجِرَ الَّذِي يُهَاجِرُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ مُرَاغِمًا يُرَاغِمُ بِهِ عَدُوُّ اللَّهِ وَعَدُوُّهُ، وَاللَّهُ يُحِبُّ مِنْ وَلِيِّهِ مُرَاغَمَةَ عَدُوِّهِ، وَإِغَاظَتَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120] وَقَالَ تَعَالَى فِي مِثْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعِهِ {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] فَمُغَايَظَةُ الْكُفَّارِ غَايَةٌ مَحْبُوبَةٌ لِلرَّبِّ مَطْلُوبَةٌ لَهُ، فَمُوَافَقَتُهُ فِيهَا مِنْ كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ، وَشَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُصَلِّي إِذَا سَهَا فِي صِلَاتِهِ سَجْدَتَيْنِ، وَقَالَ «إِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً كَانَتَا تُرْغِمَانِ أَنْفَ الشَّيْطَانِ» وَفِي رِوَايَةٍ " «تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ» " وَسَمَّاهَا الْمُرْغِمَتَيْنِ. فَمَنْ تَعَبَّدَ اللَّهَ بِمُرَاغَمَةِ عَدُوِّهِ، فَقَدْ أَخَذَ مِنَ الصِّدِّيقِيَّةِ بِسَهْمٍ وَافِرٍ، وَعَلَى قَدْرِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمُوَالَاتِهِ وَمُعَادَاتِهِ لِعَدُوِّهِ يَكُونُ نَصِيبُهُ مِنْ هَذِهِ الْمُرَاغَمَةِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمُرَاغَمَةِ حُمِدَ التَّبَخْتُرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَالْخُيَلَاءُ وَالتَّبَخْتُرُ عِنْدَ صَدَقَةِ السِّرِّ، حَيْثُ لَا يَرَاهُ إِلَّا اللَّهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِرْغَامِ الْعَدُوِّ، وَبَذْلِ مَحْبُوبِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

فصل استحسان لبعض الأفعال واستقباح لبعضها

وَهَذَا بَابٌ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ، وَمَنْ ذَاقَ طَعْمَهُ وَلَذَّتَهُ بَكَى عَلَى أَيَّامِهِ الْأُوَلِ. وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَلَاحَظَهُ فِي الذَّنْبِ، رَاغَمَهُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، فَأَحْدَثَتْ لَهُ هَذِهِ الْمُرَاغَمَةُ عُبُودِيَّةً أُخْرَى. فَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ بَعْضِ لَطَائِفِ أَسْرَارِ التَّوْبَةِ لَا تَسْتَهْزِئْ بِهَا، فَلَعَلَّكَ لَا تَظْفَرُ بِهَا فِي مُصَنَّفٍ آخَرَ الْبَتَّةَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ اسْتِحْسَانٌ لِبَعْضِ الْأَفْعَالِ وَاسْتِقْبَاحٌ لِبَعْضِهَا] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْعَبْدِ الْحُكْمَ لَمْ تَدَعْ لَهُ اسْتِحْسَانَ حَسَنَةٍ، وَلَا اسْتِقْبَاحَ سَيِّئَةٍ، لِصُعُودِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَعَانِي إِلَى مَعْنَى الْحُكْمِ. هَذَا الْكَلَامُ - إِنْ أُخِذَ عَلَى ظَاهِرِهِ - فَهُوَ مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ، الَّذِي لَوْلَا إِحْسَانُ الظَّنِّ بِصَاحِبِهِ وَقَائِلِهِ، وَمَعْرِفَةُ قَدْرِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ، لَنُسِبَ إِلَى لَازِمِ هَذَا الْكَلَامِ، وَلَكِنَّ مَنْ عَدَا الْمَعْصُومَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَتْرُوكٌ، وَمَنْ ذَا الَّذِي لَمْ تَزِلَّ بِهِ الْقَدَمُ، وَلَمْ يَكْبُ بِهِ الْجَوَادُ؟ . وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْعَبْدَ مَا دَامَ فِي مَقَامِ التَّفْرِقَةِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحْسِنُ بَعْضَ الْأَفْعَالِ، وَيَسْتَقْبِحُ بَعْضَهَا، نَظَرًا إِلَى ذَوَاتِهَا وَمَا افْتَرَقَتْ فِيهِ، فَإِذَا تَجَاوَزَهَا نَظَرَ إِلَى مَصْدَرِهَا الْأَوَّلِ، وَصُدُورِهَا عَنْ عَيْنِ الْحُكْمِ، وَاجْتِمَاعِهَا كُلِّهَا فِي تِلْكَ الْعَيْنِ، وَانْسِحَابِ ذَيْلِ الْمَشِيئَةِ عَلَيْهَا، وَوَحْدَةِ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ الْمَشِيئَةُ الشَّامِلَةُ الْعَامَّةُ الْمُوجِبَةُ، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَصْدَرِ الْحُكْمِ، وَعَيْنِ الْمَشِيئَةِ لَا تُوصَفُ بِحُسْنٍ وَلَا بِقُبْحٍ، إِذِ الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ إِنَّمَا عَرَضَا لَهَا عِنْدَ قِيَامِهَا بِالْكَوْنِ، وَجَرَيَانِهَا عَلَيْهِ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ نُورِ الشَّمْسِ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَلَوِّنٍ، وَلَا يُوصَفُ بِحُمْرَةٍ وَلَا صُفْرَةٍ وَلَا خُضْرَةٍ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِالْمَحَالِّ الْمُتَلَوِّنَةِ وُصِفَ حِينَئِذٍ بِحَسَبِ تِلْكَ الْمَحَالِّ، لِإِضَافَتِهِ إِلَيْهَا، وَاتِّصَالِهِ بِهَا، فَيُرَى أَحْمَرَ وَأَصْفَرَ وَأَخْضَرَ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، إِذَا صَعِدَ مِنْ تِلْكَ الْمَحَالِّ إِلَى مَصْدَرِهِ الْأَوَّلِ، الْمُجَرَّدِ عَنِ الْقَوَابِلِ، فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ.

عَلَى أَنَّ لَهُ مَحْمَلًا آخَرَ مَبْنِيًّا عَلَى أُصُولٍ فَاسِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ إِرَادَةَ الرَّبِّ تَعَالَى هِيَ عَيْنُ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، فَكُلُّ مَا شَاءَهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَشَأْهُ فَهُوَ مَسْخُوطٌ لَهُ مَبْغُوضٌ، فَالْمَبْغُوضُ الْمَسْخُوطُ هُوَ مَا لَمْ يَشَأْهُ، وَالْمَحْبُوبُ الْمَرْضِيُّ هُوَ مَا شَاءَهُ. هَذَا أَصْلُ عَقِيدَةِ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ، الْمُنْكِرِينَ لِلْحُكْمِ وَالتَّعْلِيلِ وَالْأَسْبَابِ، وَتَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ، وَأَنَّ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا سَوَاءٌ، لَا يَخْتَصُّ بَعْضُهَا بِمَا صَارَ حَسَنًا لِأَجْلِهِ، وَبَعْضُهَا بِمَا صَارَ قَبِيحًا لِأَجْلِهِ، وَيَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا نُهِيَ عَنْهُ، وَيَنْهَى عَمَّا أُمِرَ بِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِلْحِكْمَةِ. إِذِ الْحِكْمَةُ تَرْجِعُ عِنْدَهُمْ إِلَى مُطَابَقَةِ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ لِمَعْلُومِهِ، وَالْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ لِمُرَادِهَا، وَالْقُدْرَةِ لِمَقْدُورِهَا، فَإِذَا الْأَفْعَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ مُسْتَوِيَةٌ، لَا تُوصَفُ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ، فَإِذَا تَعَلَّقَ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ صَارَتْ حِينَئِذٍ حَسَنَةً وَقَبِيحَةً وَلَيْسَ حُسْنُهَا وَقُبْحُهَا أَمْرًا زَائِدًا عَلَى كَوْنِهَا مَأْمُورًا بِهَا وَمَنْهِيًّا عَنْهَا، فَعَلَى هَذَا إِذَا صَعِدَ الْعَبْدُ مِنْ تَفْرِقَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَى جَمْعِ الْمَشِيئَةِ لَمْ يَسْتَحْسِنْ حَسَنَةً، وَلَمْ يَسْتَقْبِحْ قَبِيحَةً، فَإِذَا نَزَلَ فَرْقُ الْأَمْرِ صَحَّ لَهُ الِاسْتِحْسَانُ وَالِاسْتِقْبَاحُ. فَهَذَا مَحْمَلٌ ثَانٍ لِكَلَامِهِ. وَلَهُ مَحْمَلٌ ثَالِثٌ - هُوَ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْهُ، وَلَكِنْ قَدْ حُمِلَ عَلَيْهِ - وَهُوَ أَنَّ السَّالِكَ مَا دَامَ مَحْجُوبًا عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ بِشُهُودِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، رَأَى الْأَفْعَالَ بِعَيْنِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، فَرَأَى مِنْهَا الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ، فَإِذَا تَرَقَّى إِلَى شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْأُولَى، وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ، وَرَأَى شُمُولَ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ لِلْكَائِنَاتِ وَإِحَاطَتَهُ بِهَا، وَعَدَمَ خُرُوجِ ذَرَّةٍ مِنْهَا عَنْهُ، زَالَ عَنْهُ اسْتِقْبَاحُ شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَشَهِدَهَا كُلَّهَا طَاعَاتٍ لِلْأَقْدَارِ وَالْمَشِيئَةِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ يَقُولُ: إِنْ كُنْتَ عَصَيْتَ الْأَمْرَ، فَقَدْ أَطَعْتَ الْإِرَادَةَ، وَيَقُولُ:

أَصْبَحْتُ مُنْفَعِلًا لِمَا تَخْتَارُهُ ... مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتٌ فَإِذَا تَرَقَّى مَرْتَبَةً أُخْرَى، وَزَالَ عَنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ - كَمَا زَالَ عَنْهُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَسْخُوطِ، وَالْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ - قَالَ: مَا ثَمَّ طَاعَةٌ، وَلَا مَعْصِيَةٌ، إِذِ الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ إِنَّمَا يَكُونَانِ بَيْنَ اثْنَيْنِ ضَرُورَةً، وَالْمُطِيعُ عَيْنُ الْمُطَاعِ، فَمَا هَاهُنَا غَيْرُ، فَالْوَحْدَةُ الْمُطْلَقَةُ تَنْفِي الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ، فَالصُّعُودُ مِنْ وَحْدَةِ الْفِعْلِ إِلَى وَحْدَةِ الْوُجُودِ، يُزِيلُ عَنْهُ - بِزَعْمِهِ - تَوَهُّمَ الِانْقِسَامِ إِلَى طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، كَمَا كَانَ الصُّعُودُ مِنْ تَفْرِقَةِ الْأَمْرِ إِلَى وَحْدَةِ الْحُكْمِ يُزِيلُ عَنْهُ ثُبُوتَ الْمَعْصِيَةِ. وَهَذَا عِنْدَ الْقَوْمِ مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي لَا يَسْتَجِيزُونَ كَشْفَهَا إِلَّا لِخَوَاصِّهِمْ، وَأَهْلِ الْوُصُولِ مِنْهُمْ. لَكِنَّ صَاحِبَ الْمَنَازِلِ بَرِيءٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَطَرِيقَتِهِمْ، وَهُوَ مُكَفِّرٌ لَهُمْ، بَلْ مُخْرِجٌ لَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدْيَانِ، وَلَكِنْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ كَلَامَهُ عَلَيْهِ، وَيَظُنُّونَهُ مِنْهُمْ. فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ، زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامُ طَائِفَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ: طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ السُّلُوكِ وَالْإِرَادَةِ. فَنَفَى لِأَجْلِهِ كَثِيرٌ مِنَ النُّظَّارِ التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَجَعَلُوا الْأَفْعَالَ كُلَّهَا

سَوَاءً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مُنْقَسِمَةٍ فِي ذَوَاتِهَا إِلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَلَا يُمَيِّزُ لِلْفِعْلِ عِنْدَهُمْ مَنْشَأُ حُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ، وَلَا مَصْلَحَةٍ وَلَا مَفْسَدَةٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ السُّجُودِ لِلشَّيْطَانِ، وَالسُّجُودِ لِلرَّحْمَنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَلَا بَيْنَ السِّفَاحِ وَالنِّكَاحِ، إِلَّا أَنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَ هَذَا وَأَوْجَبَ هَذَا، فَمَعْنَى حُسْنِهِ كَوْنُهُ مَأْمُورًا بِهِ، لَا أَنَّهُ مَنْشَأُ مَصْلَحَةٍ، وَمَعْنَى قُبْحِهِ كَوْنُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، لَا أَنَّهُ مَنْشَأُ مَفْسَدَةٍ، وَلَا فِيهِ صِفَةٌ اقْتَضَتْ قُبْحَهُ، وَمَعْنَى حُسْنِهِ أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ بِهِ، لَا أَنَّهُ مَنْشَأُ مَصْلَحَةٍ، وَلَا فِيهِ صِفَةٌ اقْتَضَتْ حُسْنَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ هَذَا الْمَذْهَبِ مِنْ سِتِّينَ وَجْهًا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى تُحْفَةَ النَّازِلِينَ بِجِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ، وَذَكَرْنَا جَمِيعَ مَا احْتَجَّ بِهِ أَرْبَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَبَيَّنَّا بُطْلَانَهُ. فَإِنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ - بَعْدَ تَصَوُّرِهِ، وَتَصَوُّرِ لَوَازِمِهِ - يَجْزِمُ الْعَقْلُ بِبُطْلَانِهِ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى فَسَادِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَالْفِطْرَةُ أَيْضًا وَصَرِيحُ الْعَقْلِ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى اسْتِحْسَانِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، وَالْعِفَّةِ وَالْإِحْسَانِ، وَمُقَابَلَةِ النِّعَمِ بِالشُّكْرِ، وَفَطَرَهُمْ عَلَى اسْتِقْبَاحِ أَضْدَادِهَا، وَنِسْبَةُ هَذَا إِلَى فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ كَنِسْبَةِ الْحُلْوِ وَالْحَامِضِ إِلَى أَذْوَاقِهِمْ، وَكَنِسْبَةِ رَائِحَةِ الْمِسْكِ وَرَائِحَةِ النَّتْنِ إِلَى مَشَامِّهِمْ، وَكَنِسْبَةِ الصَّوْتِ اللَّذِيذِ وَضِدِّهِ إِلَى أَسْمَاعِهِمْ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا يُدْرِكُونَهُ بِمَشَاعِرِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ طَيِّبِهِ وَخَبِيثِهِ، وَنَافِعِهِ وَضَارِّهِ.

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نُفَاةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ أَنَّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُلَائِمَةِ وَالْمُنَافِرَةِ، بِحَسَبِ اقْتِضَاءِ الطِّبَاعِ، وَقَبُولِهَا لِلشَّيْءِ، وَانْتِفَاعِهَا بِهِ، وَنُفْرَتِهَا مِنْ ضِدِّهِ. قَالُوا: وَهَذَا لَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ مُتَعَلِّقًا لِلذَّمِّ وَالْمَدْحِ عَاجِلًا، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ آجِلًا، فَهَذَا الَّذِي نَفَيْنَاهُ، وَقُلْنَا: إِنَّهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، قَالَ خُصُومُنَا: إِنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ، وَالْعَقْلُ مُقْتَضٍ لَهُ. فَيُقَالُ: هَذَا فِرَارٌ مِنَ الزَّحْفِ، إِذْ هَاهُنَا أَمْرَانِ مُتَغَايِرَانِ لَا تَلَازُمَ بَيْنِهِمَا. أَحَدُهُمَا: هَلِ الْفِعْلُ نَفْسُهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى صِفَةٍ اقْتَضَتْ حُسْنَهُ وَقُبْحَهُ، بِحَيْثُ يَنْشَأُ الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ مِنْهُ، فَيَكُونُ مَنْشَأً لَهُمَا أَمْ لَا؟ وَالثَّانِي: أَنَّ الثَّوَابَ الْمُرَتَّبَ عَلَى حُسْنِ الْفِعْلِ، وَالْعِقَابَ الْمُرَتَّبَ عَلَى قُبْحِهِ، ثَابِتٌ - بَلْ وَاقِعٌ - بِالْعَقْلِ، أَمْ لَا يَقَعُ إِلَّا بِالشَّرْعِ؟ وَلَمَّا ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ إِلَى تَلَازُمِ الْأَصْلَيْنِ اسْتَطَلْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَتَمَكَّنْتُمْ مِنْ إِبْدَاءِ تُنَاقُضِهِمْ وَفَضَائِحِهِمْ، وَلَمَّا نَفَيْتُمْ أَنْتُمُ الْأَصْلَيْنِ جَمِيعًا اسْتَطَالُوا عَلَيْكُمْ

، وَأَبْدَوْا مِنْ فَضَائِحِكُمْ وَخِلَافِكُمْ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ مَا أَبْدَوْهُ، وَهُمْ غَلِطُوا فِي تَلَازُمِ الْأَصْلَيْنِ، وَأَنْتُمْ غَلِطْتُمْ فِي نَفْيِ الْأَصْلَيْنِ. وَالْحَقُّ الَّذِي لَا يَجِدُ التَّنَاقُضُ إِلَيْهِ السَّبِيلَ أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ الْأَفْعَالَ فِي نَفْسِهَا حَسَنَةٌ وَقَبِيحَةٌ، كَمَا أَنَّهَا نَافِعَةٌ وَضَارَّةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَطْعُومَاتِ وَالْمَشْمُومَاتِ وَالْمَرْئِيَّاتِ، وَلَكِنْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ إِلَّا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَقَبْلَ وُرُودِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يَكُونُ قَبِيحًا مُوجِبًا لِلْعِقَابِ مَعَ قُبْحِهِ فِي نَفْسِهِ، بَلْ هُوَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ، وَاللَّهُ لَا يُعَاقِبُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، فَالسُّجُودُ لِلشَّيْطَانِ وَالْأَوْثَانِ، وَالْكَذِبُ وَالزِّنَا، وَالظُّلْمُ وَالْفَوَاحِشُ، كُلُّهَا قَبِيحَةٌ فِي ذَاتِهَا، وَالْعِقَابُ عَلَيْهَا مَشْرُوطٌ بِالشَّرْعِ. فَالنُّفَاةُ يَقُولُونَ: لَيْسَتْ فِي ذَاتِهَا قَبِيحَةً، وَقُبْحُهَا وَالْعِقَابُ عَلَيْهَا إِنَّمَا يَنْشَأُ بِالشَّرْعِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ تَقُولُ: قُبْحُهَا وَالْعِقَابُ عَلَيْهَا ثَابِتَانِ بِالْعَقْلِ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعِ يَقُولُونَ: قُبْحُهَا ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ، وَالْعِقَابُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى وُرُودِ الشَّرْعِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سَعْدُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَحَكَوْهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصًّا، لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ مِنْهُمْ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ الْعِقَابَ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ إِلَّا بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَأَنَّ الْفِعْلَ نَفْسَهُ حَسَنٌ وَقَبِيحٌ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ دَلَالَتَهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ.

فصل دلالة الفعل في النفس

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَفِي قَوْلِهِ: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وَفِي قَوْلِهِ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8] فَلَمْ يَسْأَلُوهُمْ عَنْ مُخَالَفَتِهِمْ لِلْعَقْلِ، بَلْ لِلنُّذُرِ، وَبِذَلِكَ دَخَلُوا النَّارَ، وَقَالَ تَعَالَى {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130] وَفِي الزُّمَرِ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر: 71] ثُمَّ قَالَ فِي الْأَنْعَامِ بَعْدَهَا {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] وَعَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَمْ يُهْلِكْهُمْ بِظُلْمِهِمْ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ - فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى الْأَصْلَيْنِ: أَنَّ أَفْعَالَهُمْ وَشِرْكَهُمْ ظُلْمٌ قَبِيحٌ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ الْإِرْسَالِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى الْأَمْرَيْنِ نَظِيرَ الْآيَةِ الَّتِي فِي الْقَصَصِ {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمُصِيبَةِ بِهِمْ، وَلَوْلَا قُبْحُهُ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا، لَكِنِ امْتَنَعَ إِصَابَةُ الْمُصِيبَةِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهَا، وَهُوَ عَدَمُ مَجِيءِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ، فَمُذْ جَاءَ الرَّسُولُ انْعَقَدَ السَّبَبُ، وَوُجِدَ الشَّرْطُ، فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا، وَعُوقِبُوا بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ. [فَصْلٌ دَلَالَةُ الْفِعْلِ فِي النَّفْسِ] فَصْلٌ وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي - وَهُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ حَسَنٌ وَقَبِيحٌ - فَكَثِيرٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى

{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ - قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ - فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ - يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ - قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28 - 33] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ فِعْلَهُمْ فَاحِشَةٌ قَبْلَ نَهْيِهِ عَنْهُ، وَأَمَرَ بِاجْتِنَابِهِ بِأَخْذِ الزِّينَةِ، وَالْفَاحِشَةُ هَاهُنَا هِيَ طَوَافُهُمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً - الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ - غَيْرُ قُرَيْشٍ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28] أَيْ لَا يَأْمُرُ بِمَا هُوَ فَاحِشَةٌ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ، وَلَوْ كَانَ إِنَّمَا عُلِمَ كَوْنُهُ فَاحِشَةً بِالنَّهْيِ، وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ فَاحِشَةً إِلَّا تَعَلُّقُ النَّهْيِ بِهِ، لَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِمَا يَنْهَى عَنْهُ، وَهَذَا يُصَانُ عَنِ التَّكَلُّمِ بِهِ آحَادُ الْعُقَلَاءِ، فَضْلًا عَنْ كَلَامِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِمَا يَنْهَى عَنْهُ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِمَعْنَى كَوْنِهِ فَاحِشَةً عِنْدَهُمْ إِلَّا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لَا أَنَّ الْعُقُولَ تَسْتَفْحِشُهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: 29] وَالْقِسْطُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، لَا أَنَّهُ قِسْطٌ فِي نَفْسِهِ، فَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِمَا أَمَرَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] دَلَّ عَلَى أَنَّهُ طَيِّبٌ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَأَنَّ وَصْفَ الطَّيِّبِ فِيهِ مَانِعٌ مِنْ تَحْرِيمِهِ مُنَافٍ لِلْحِكْمَةِ. ثُمَّ قَالَ {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] وَلَوْ كَانَ كَوْنُهَا فَوَاحِشَ إِنَّمَا هُوَ لِتَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بِهَا، وَلَيْسَتْ فَوَاحِشَ قَبْلَ ذَلِكَ، لَكَانَ حَاصِلُ الْكَلَامِ: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ مَا حَرَّمَ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْإِثْمِ وَالْبَغْيِ، فَكَوْنُ ذَلِكَ فَاحِشَةً وَإِثْمًا وَبَغْيًا بِمَنْزِلَةِ كَوْنِ الشِّرْكِ شِرْكًا، فَهُوَ شِرْكٌ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ النَّهْيِ وَبَعْدَهُ. فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْفَاحِشَةَ وَالْقَبَائِحَ وَالْآثَامَ إِنَّمَا صَارَتْ كَذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ، فَهُوَ

بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: الشِّرْكُ إِنَّمَا صَارَ شِرْكًا بَعْدَ النَّهْيِ، وَلَيْسَ شِرْكًا قَبْلَ ذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا وَهَذَا مُكَابَرَةٌ صَرِيحَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، فَالظُّلْمُ ظُلْمٌ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ النَّهْيِ وَبَعْدَهُ، وَالْقَبِيحُ قَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ النَّهْيِ وَبَعْدَهُ، وَالْفَاحِشَةُ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الشِّرْكَ، لَا أَنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ صَارَتْ بِالشَّرْعِ كَذَلِكَ. نَعَمْ، الشَّارِعُ كَسَاهَا بِنَهْيِهِ عَنْهَا قُبْحًا إِلَى قُبْحِهَا، فَكَانَ قُبْحُهَا مِنْ ذَاتِهَا، وَازْدَادَتْ قُبْحًا عِنْدَ الْعَقْلِ بِنَهْيِ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْهَا وَذَمِّهِ لَهَا، وَإِخْبَارِهِ بِبُغْضِهَا وَبُغْضِ فَاعِلِهَا، كَمَا أَنَّ الْعَدْلَ وَالصِّدْقَ وَالتَّوْحِيدَ، وَمُقَابَلَةَ نِعَمِ الْمُنْعِمِ بِالثَّنَاءِ وَالشُّكْرِ حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ، وَازْدَادَ حُسْنًا إِلَى حُسْنِهِ بِأَمْرِ الرَّبِّ بِهِ، وَثَنَائِهِ عَلَى فَاعِلِهِ، وَإِخْبَارِهِ بِمَحَبَّتِهِ ذَلِكَ وَمَحَبَّةِ فَاعِلِهِ. بَلْ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ. فَلَوْ كَانَ كَوْنُهُ مَعْرُوفًا وَمُنْكَرًا وَخَبِيثًا وَطَيِّبًا إِنَّمَا هُوَ لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحِلِّ وَالتَّحْرِيمِ بِهِ، لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: يَأْمُرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَيُحِلُّ لَهُمْ مَا يُحِلُّ لَهُمْ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ مَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ! وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا؟ وَأَيُّ عِلْمٍ يَبْقَى فِيهِ لِنُبُوَّتِهِ؟ وَكَلَامُ اللَّهِ يُصَانُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ وَالْعِلْمُ الدَّالُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ أَنَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ تَشْهَدُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ حُسْنَهُ وَكَوْنَهُ مَعْرُوفًا، وَمَا يَنْهَى عَنْهُ تَشْهَدُ قُبْحَهُ وَكَوْنَهُ مُنْكَرًا، وَمَا يُحِلُّهُ تَشْهَدُ كَوْنَهُ طَيِّبًا، وَمَا يُحَرِّمُهُ تَشْهَدُ كَوْنَهُ خَبِيثًا، وَهَذِهِ دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ بِخِلَافِ دَعْوَةِ الْمُتَغَلِّبِينَ الْمُبْطِلِينَ، وَالْكَذَّابِينَ وَالسَّحَرَةِ، فَإِنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ وَأَغْرَاضَهُمْ مِنْ كُلِّ قَبِيحٍ وَمُنْكَرٍ وَبَغْيٍ وَإِثْمٍ وَظُلْمٍ. وَلِهَذَا قِيلَ لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ وَقَدْ أَسْلَمَ، لَمَّا عَرَفَ دَعْوَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَيِّ شَيْءٍ أَسْلَمْتَ؟ وَمَا رَأَيْتَ مِنْهُ مِمَّا دَلَّكَ عَلَى أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ مَا أَمَرَ بِشَيْءٍ، فَقَالَ الْعَقْلُ: لَيْتَهُ نَهَى عَنْهُ، وَلَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ الْعَقْلُ: لَيْتَهُ أَمَرَ بِهِ، وَلَا أَحَلَّ شَيْئًا، فَقَالَ الْعَقْلُ: لَيْتَهُ حَرَّمَهُ، وَلَا حَرَّمَ شَيْئًا، فَقَالَ الْعَقْلُ: لَيْتَهُ أَبَاحَهُ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْأَعْرَابِيِّ، وَصِحَّةِ عَقْلِهِ وَفِطْرَتِهِ، وَقُوَّةِ إِيمَانِهِ، وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَتِهِ بِمُطَابَقَةِ أَمْرِهِ لِكُلِّ مَا حَسُنَ فِي الْعَقْلِ، وَكَذَلِكَ مُطَابَقَةُ تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ، وَلَوْ كَانَ جِهَةُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالطِّيبِ وَالْخُبْثِ مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ بِهِ لَمْ يَحْسُنْ مِنْهُ هَذَا الْجَوَابُ، وَلَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ: وَجَدْتُهُ يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَيُبِيحُ وَيُحَرِّمُ، وَأَيُّ دَلِيلٍ فِي هَذَا؟ .

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] . وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الظُّلْمَ فِي حَقِّ عِبَادِهِ هُوَ الْمُحَرَّمُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ، لَا أَنَّ هُنَاكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ظُلْمًا نَهَى عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الظُّلْمُ الَّذِي نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ الْمُسْتَحِيلُ، لَا أَنَّ هُنَاكَ أَمْرًا مُمْكِنًا مَقْدُورًا لَوْ فَعَلَهُ لَكَانَ ظُلْمًا، فَلَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَهُمْ ظُلْمٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَا مُنَزَّهٌ عَنْهُ، إِنَّمَا هُوَ الْمُحَرَّمُ فِي حَقِّهِ، وَالْمُسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ، فَالظُّلْمُ الْمُنَزَّهُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَجَعْلُ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالْقُرْآنُ صَرِيحٌ فِي إِبْطَالِ هَذَا الْمَذْهَبِ أَيْضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 27] أَيْ لَا أُؤَاخِذُ عَبْدًا بِغَيْرِ ذَنْبٍ، وَلَا أَمْنَعُهُ مِنْ أَجْرِ مَا عَمِلَهُ مِنْ صَالِحٍ، وَلِهَذَا قَالَ قَبْلَهُ {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق: 28] الْمُتَضَمِّنِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَبُلُوغِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِذَا آخَذْتُكُمْ بَعْدَ التَّقَدُّمِ فَلَسْتُ بِظَالِمٍ، بِخِلَافِ مَنْ يُؤَاخِذُ الْعَبْدَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ إِلَيْهِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَذَلِكَ الظُّلْمُ الَّذِي تَنَزَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُ. وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112] يَعْنِي لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ مَا لَمْ يَعْمَلْهُ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِ مَا عَمِلَ، وَلَوْ كَانَ الظُّلْمُ هُوَ الْمُسْتَحِيلَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ لَمْ يَكُنْ لِعَدَمِ الْخَوْفِ مِنْهُ مَعْنًى، وَلَا لِلْأَمْنِ مِنْ وُقُوعِهِ فَائِدَةٌ. وَقَالَ تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] أَيْ لَا يَحْمِلُ الْمُسِيءُ عِقَابَ مَا لَمْ يَعْمَلْهُ، وَلَا يُمْنَعُ الْمُحْسِنُ مِنْ ثَوَابِ عَمَلِهِ. وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَهْلَكَهُمْ مَعَ إِصْلَاحِهِمْ لَكَانَ ظَالِمًا، وَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِظُلْمٍ لَوْ فَعَلَ،

وَيُأَوِّلُونَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُهُمْ مَعَ إِصْلَاحِهِمْ، وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَخِلَافُ خَبَرِهِ وَمَعْلُومِهِ مُسْتَحِيلٌ، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الظُّلْمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا هَذَا قَطْعًا وَلَا أُرِيدَ بِهَا، وَلَا تَحْتَمِلُهُ بِوَجْهٍ، إِذْ يَئُولُ مَعْنَاهَا إِلَى أَنَّهُ مَا كَانَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ وَهُمْ مُصْلِحُونَ، وَكَلَامُهُ تَعَالَى يَتَنَزَّهُ عَنْ هَذَا وَيَتَعَالَى عَنْهُ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَيْضًا الْعَبَثُ وَالسُّدَى وَالْبَاطِلُ، كُلُّهَا هِيَ الْمُسْتَحِيلَاتُ الْمُمْتَنِعَةُ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمَقْدُورِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهَا، إِذْ نَسَبَهُ إِلَيْهَا أَعْدَاؤُهُ الْمُكَذِّبُونَ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، الْمُنْكِرُونَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْخَلْقِ عَبَثًا وَبَاطِلًا، وَحِكْمَتُهُ وَعِزَّتُهُ تَأْبَى ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] أَيْ لِغَيْرِ شَيْءٍ، لَا تُؤْمَرُونَ وَلَا تُنْهَوْنَ، وَلَا تُثَابُونَ وَلَا تُعَاقَبُونَ، وَالْعَبَثُ قَبِيحٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قُبْحَ هَذَا مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ إِنْكَارَ مُنَبِّهٍ لَهُمْ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى عُقُولِهِمْ وَفِطَرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَوْ فَكَّرُوا وَأَبْصَرُوا لَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ، وَلَا يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ عَبَثًا، لَا لِأَمْرٍ وَلَا لِنَهْيٍ، وَلَا لِثَوَابٍ وَلَا لِعِقَابٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُسْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْجَزَاءِ مُسْتَقِرٌّ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ، وَأَنَّ مَنْ جَوَّزَ عَلَى اللَّهِ الْإِخْلَالَ بِهِ فَقَدْ نَسَبَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَإِلَى مَا تَأْبَاهُ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى وَصِفَاتُهُ الْعُلْيَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] قَالَ الشَّافِعِيُّ: مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ، فَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ يَحْسَبُ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَبِيحٌ تَأْبَاهُ حِكْمَتُهُ وَعِزَّتُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ، وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتْرُكُهُ سُدًى بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: 37] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَلَوْ كَانَ قُبْحُهُ إِنَّمَا عُلِمَ بِالسَّمْعِ لَكَانَ يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ خِلَافُ السَّمْعِ، وَخِلَافُ مَا أَعْلَمَنَاهُ وَأَخْبَرَنَا بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ إِنْكَارُهُ لِكَوْنِهِ قَبِيحًا فِي نَفْسِهِ، بَلْ لِكَوْنِهِ خِلَافَ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ وَجْهَ الْكَلَامِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] وَالْبَاطِلُ الَّذِي ظَنُّوهُ: لَيْسَ هُوَ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، بَلِ الَّذِي ظَنُّوهُ: أَنَّهُ لَا

شَرْعَ وَلَا جَزَاءَ، وَلَا أَمْرَ وَلَا نَهْيَ، وَلَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ، فَأَخْبَرَ أَنَّ خَلْقَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي تَنَزَّهَ عَنْهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي خُلِقَتْ بِهِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ، وَحَقُّهُ وَجَزَاؤُهُ وَجَزَاءُ مَنْ جَحَدَهُ وَأَشْرَكَ بِرَبِّهِ. وَقَالَ تَعَالَى {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] فَأَنْكَرَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْحُسْبَانَ إِنْكَارَ مُنَبِّهٍ لِلْعَقْلِ عَلَى قُبْحِهِ، وَأَنَّهُ حُكْمٌ سَيِّئٌ، وَالْحَاكِمُ بِهِ مُسِيءٌ ظَالِمٌ، وَلَوْ كَانَ قُبْحُهُ لِكَوْنِهِ خِلَافَ مَا أَخْبَرَ بِهِ لَمْ يَكُنِ الْإِنْكَارُ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُبْحِ اللَّازِمِ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ، الْمُسْتَقِرِّ قُبْحُهُ فِي فِطَرِ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ، وَلَا كَانَ هُنَا حُكْمٌ سَيِّئٌ فِي نَفْسِهِ يُنْكَرُ عَلَى مَنْ حَكَمَ بِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا قَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ، مُنْكَرٌ تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ، أَفَتَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ يَلِيقُ بِنَا أَوْ يَحْسُنُ مِنَّا فِعْلُهُ؟ فَأَنْكَرَهُ سُبْحَانَهُ إِنْكَارَ مُنَبِّهٍ لِلْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ عَلَى قُبْحِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إِنْكَارُهُ سُبْحَانَهُ قُبْحَ الشِّرْكِ بِهِ فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَعِبَادَةَ غَيْرِهِ مَعَهُ بِمَا ضَرَبَهُ لَهُمْ مِنَ الْأَمْثَالِ، وَأَقَامَ عَلَى بُطْلَانِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ إِنَّمَا قَبُحَ بِالشَّرْعِ لَمْ يَكُنْ لِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَالْأَمْثَالِ مَعْنًى. وَعِنْدَ نُفَاةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْإِشْرَاكِ بِهِ وَبِعِبَادَةِ غَيْرِهِ! وَإِنَّمَا عُلِمَ قُبْحُهُ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ عَنْهُ! . فَيَا عَجَبًا! أَيُّ فَائِدَةٍ تَبْقَى فِي تِلْكَ الْأَمْثَالِ وَالْحُجَجِ، وَالْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى قُبْحِهِ فِي صَرِيحِ الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ؟ وَأَنَّهُ أَقْبَحُ الْقَبِيحِ وَأَظْلَمُ الظُّلْمِ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ يَصِحُّ فِي الْعَقْلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عِلْمٌ بِقُبْحِ الشِّرْكِ الذَّاتِيِّ، وَأَنَّ الْعِلْمَ بِقُبْحِهِ بَدِيهِيٌّ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَأَنَّ الرُّسُلَ نَبَّهُوا الْأُمَمَ عَلَى مَا فِي عُقُولِهِمْ وَفِطَرِهِمْ مِنْ قُبْحِهِ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ لَيْسَتْ لَهُمْ عُقُولٌ وَلَا أَلْبَابٌ وَلَا أَفْئِدَةٌ، بَلْ نَفَى عَنْهُمُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَالْمُرَادُ سَمْعُ الْقَلْبِ وَبَصَرُهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، وَذَلِكَ وَصْفُ قُلُوبِهِمْ أَنَّهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبَصِرُ وَلَا تَنْطِقُ، وَشَبَّهَهُمْ بِالْأَنْعَامِ الَّتِي لَا عُقُولَ لَهَا تُمَيِّزُ بِهَا بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلِذَلِكَ اعْتَرَفُوا فِي

النَّارِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ رَجَعُوا إِلَى أَسْمَاعِهِمْ وَعُقُولِهِمْ لَعَلِمُوا حُسْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَقُبْحَ مُخَالَفَتِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْهُمْ {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] وَكَمْ يَقُولُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِ " أَفَلَا تَعْقِلُونَ "، " لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ". فَيُنَبِّهُهُمْ عَلَى مَا فِي عُقُولِهِمْ وَفِطَرِهِمْ مِنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِهَا، وَيُخْبِرُ أَنَّهُ أَعْطَاهُمُوهَا لِيَنْتَفِعُوا بِهَا، وَيُمَيِّزُوا بِهَا بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَكَمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَثَلٍ عَقْلِيٍّ وَحِسِّيٍّ يُنَبِّهُ بِهِ الْعُقُولَ عَلَى حُسْنِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَقُبْحِ مَا نَهَى عَنْهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِلْعُقُولِ مَعْنًى، وَلَكَانَ إِثْبَاتُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دُونَ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَتَبْيِينِ جِهَةِ الْقُبْحِ الْمَشْهُودَةِ بِالْحُسْنِ وَالْعَقْلِ. وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِهَذَا لِمَنْ تَدَبَّرَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28] يَحْتَجُّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي عُقُولِهِمْ مِنْ قُبْحِ كَوْنِ مَمْلُوكِ أَحَدِهِمْ شَرِيكًا لَهُ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يَسْتَقْبِحُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُهُ شَرِيكَهُ، وَلَا يَرْضَى بِذَلِكَ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لِي مِنْ عَبِيدِي شُرَكَاءَ تَعْبُدُونَهُمْ كَعِبَادَتِي؟ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ قُبْحَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَقِرٌّ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ، وَالسَّمْعُ نَبَّهَ الْعُقُولَ وَأَرْشَدَهَا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا أُودِعَ فِيهَا مِنْ قُبْحِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] احْتَجَّ سُبْحَانَهُ عَلَى قُبْحِ الشِّرْكِ بِمَا تَعْرِفُهُ الْعُقُولُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ حَالِ مَمْلُوكٍ يَمْلِكُهُ أَرْبَابٌ مُتَعَاسِرُونَ سَيِّئُوا الْمِلْكَةِ، وَحَالِ عَبْدٍ يَمْلِكُهُ سَيِّدٌ وَاحِدٌ قَدْ سَلِمَ كُلُّهُ لَهُ، فَهَلْ يَصِحُّ فِي الْعُقُولِ اسْتِوَاءُ حَالِ الْعَبْدَيْنِ؟ فَكَذَلِكَ حَالُ الْمُشْرِكِ وَالْمُوَحِّدِ الَّذِي قَدْ سَلِمَتْ عُبُودِيَّتُهُ لِإِلَهِهِ الْحَقِّ لَا يَسْتَوِيَانِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى مُمَثِّلًا لِقُبْحِ الرِّيَاءِ الْمُبْطِلِ لِلْعَمَلِ، وَالْمَنِّ وَالْأَذَى الْمُبْطِلِ

لِلصَّدَقَاتِ بِ " صَفْوَانٍ " وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ عَلَيْهِ تُرَابٌ غُبَارٌ قَدْ لَصِقَ بِهِ فَأَصَابَهُ مَطَرٌ شَدِيدٌ فَأَزَالَ مَا عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ فَتَرَكَهُ صَلْدًا أَمْلَسَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَثَلُ فِي غَايَةِ الْمُطَابَقَةِ لِمَنْ فَهِمَهُ، فَ " الصَّفْوَانُ " وَهُوَ الْحَجَرُ، كَقَلْبِ الْمُرَائِي وَالْمَانِّ وَالْمُؤْذِي، وَالتُّرَابُ الَّذِي لَصِقَ بِهِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ أَثَرِ عَمَلِهِ وَصَدَقَتِهِ، وَالْوَابِلُ الْمَطَرُ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْأَرْضِ، فَإِذَا صَادَفَهَا لِينَةٌ قَابِلَةٌ نَبَتَ فِيهَا الْكَلَأُ، وَإِذَا صَادَفَ الصُّخُورَ وَالْحِجَارَةَ الصُّمَّ لَمْ يُنْبِتْ فِيهَا شَيْئًا، فَجَاءَ هَذَا الْوَابِلُ إِلَى التُّرَابِ الَّذِي عَلَى الْحَجَرِ، فَصَادَفَهُ رَقِيقًا، فَأَزَالَهُ، فَأَفْضَى إِلَى حَجَرٍ غَيْرِ قَابِلٍ لِلنَّبَاتِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قُبْحَ الْمَنِّ، وَالْأَذَى، وَالرِّيَاءِ مُسْتَقِرٌّ فِي الْعُقُولِ، فَلِذَلِكَ نَبَّهَهَا عَلَى شِبْهِهِ وَمِثَالِهِ. وَعَكْسُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265] فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجَنَّةُ - الَّتِي بِمَوْضِعٍ عَالٍ، حَيْثُ لَا تُحْجَبُ عَنْهَا الشَّمْسُ وَالرِّيَاحُ، وَقَدْ أَصَابَهَا مَطَرٌ شَدِيدٌ، فَأَخْرَجَتْ ثَمَرَتَهَا ضِعْفَيْ مَا يُخْرِجُ غَيْرُهَا - إِنْ كَانَتْ مُسْتَحْسَنَةً فِي الْعَقْلِ وَالْحِسِّ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ، لَا لِجَزَاءٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَلَا لِشُكُورٍ، بَلْ بِثَبَاتٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَقُوَّةٍ عَلَى الْإِنْفَاقِ، لَا يُخْرِجُ النَّفَقَةَ وَقَلْبُهُ يَرْجُفُ عَلَى خُرُوجِهَا، وَيَدَاهُ تَرْتَعِشَانِ، وَيَضْعُفُ قَلْبُهُ، وَيَخُورُ عِنْدَ الْإِنْفَاقِ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ صَاحِبِ التَّثْبِيتِ وَالْقُوَّةِ. وَلَمَّا كَانَ النَّاسُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ كَانَ مَثَلُ نَفَقَةِ صَاحِبِ الْإِخْلَاصِ وَالْقُوَّةِ وَالتَّثْبِيتِ كَمَثَلِ الْوَابِلِ، وَمَثَلُ نَفَقَةِ الْآخَرِ كَمَثَلِ الطَّلِّ، وَهُوَ الْمَطَرُ الضَّعِيفُ، فَهَذَا بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْإِنْفَاقِ وَقِلَّتِهِ، وَكَمَالِ الْإِخْلَاصِ وَالْقُوَّةِ وَالْيَقِينِ فِيهِ وَضَعْفِهِ، أَفَلَا تَرَاهُ سُبْحَانَهُ نَبَّهَ الْعُقُولَ عَلَى مَا فِيهَا مِنِ اسْتِحْسَانِ هَذَا، وَاسْتِقْبَاحِ فِعْلِ الْأَوَّلِ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266] فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ الْعُقُولَ عَلَى

مَا فِيهَا مِنْ قُبْحِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي تُحْبِطُ ثَوَابَ الْحَسَنَاتِ، وَشَبَّهَهَا بِحَالِ شَيْخٍ كَبِيرٍ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ، بِحَيْثُ يَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ وَعَلَى نَفْسِهِ، وَلَهُ بُسْتَانٌ هُوَ مَادَّةُ عَيْشِهِ وَعَيْشِ ذُرِّيَّتِهِ، فِيهِ النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، فَأَرْجَى وَأَفْقَرَ مَا هُوَ لَهُ وَأَسَرَّ مَا كَانَ بِهِ إِذْ أَصَابَهُ نَارٌ شَدِيدَةٌ فَأَحْرَقَتْهُ، فَنَبَّهَ الْعُقُولَ عَلَى أَنَّ قُبْحَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُغْرِقُ الطَّاعَاتِ كَقُبْحِ هَذِهِ الْحَالِ، وَبِهَذَا فَسَّرَهَا عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ زَمَانًا، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ، فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. أَفَلَا تَرَاهُ نَبَّهَ الْعُقُولَ عَلَى قُبْحِ الْمَعْصِيَةِ بَعْدَ الطَّاعَةِ، وَضَرَبَ لِقُبْحِهَا هَذَا الْمَثَلَ؟ . وَنُفَاةُ التَّعْلِيلِ وَالْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ، وَحَسَنِ الْأَفْعَالِ لِقُبْحِهَا هَذَا الْمَثَلَ؟ إِلَّا مَحْضُ الْمَشِيئَةِ، لَا أَنَّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ يُبْطِلُ بَعْضًا، وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ، حَتَّى يُشَبَّهَ بِقَبِيحٍ آخَرَ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ مَنْشَأٌ لِمَفْسَدَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ تَكُونُ سَبَبًا لَهَا، وَلَا لَهَا عِلَلٌ غَائِيَّةٌ هِيَ مُفْضِيَةٌ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَقَطْ. وَالْفُقَهَاءُ لَا يُمْكِنُهُمُ الْبِنَاءُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْبَتَّةَ، فَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ - إِذَا تَكَلَّمُوا بِلِسَانِ الْفِقْهِ - عَلَى بُطْلَانِهَا، إِذْ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعِلَلِ وَالْمُنَاسَبَاتِ الدَّاعِيَةِ لِشَرْعِ الْحُكْمِ، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ وَالْمَرْجُوحَةِ، وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي هِيَ كَذَلِكَ، وَيُقَدِّمُونَ أَرْجَحَ الْمَصْلَحَتَيْنِ عَلَى مَرْجُوحِهِمَا، وَيَدْفَعُونَ أَقْوَى الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا، وَلَا يَتِمُّ لَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِاسْتِخْرَاجِ الْحِكَمِ وَالْعِلَلِ، وَمَعْرِفَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَمَعْرِفَةِ رَبِّهَا. وَكَذَلِكَ الْأَطِبَّاءُ لَا يَصْلُحُ لَهُمْ عِلْمُ الطِّبِّ وَعَمَلُهُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ قُوَى الْأَدْوِيَةِ وَالْأَمْزِجَةِ، وَالْأَغْذِيَةِ وَطَبَائِعِهَا، وَنِسْبَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَمِقْدَارِ تَأْثِيرِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، وَانْفِعَالِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ قُوَّةِ الدَّوَاءِ وَقُوَّةِ الْمَرَضِ وَقُوَّةِ الْمَرِيضِ، وَدَفْعِ الضِّدِّ بِضِدِّهِ، وَحِفْظِ مَا يُرِيدُونَ حِفْظَهُ بِمِثْلِهِ وَمُنَاسِبِهِ، فَصِنَاعَةُ الطِّبِّ وَعَمَلُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ، وَالْقُوَى وَالطَّبَائِعِ وَالْخَوَاصِّ، فَلَوْ نَفَوْا ذَلِكَ وَأَبْطَلُوهُ، وَأَحَالُوا عَلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَصَرْفِ الْإِرَادَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ، وَجَعَلُوا حَقِيقَةَ النَّارِ مُسَاوِيَةً لِحَقِيقَةِ الْمَاءِ، وَحَقِيقَةَ الدَّوَاءِ مُسَاوِيَةً لِحَقِيقَةِ الْغِذَاءِ لَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا خَاصِّيَّةٌ وَلَا قُوَّةٌ يَتَمَيَّزُ

بِهَا عَنِ الْآخَرِ لَفَسَدَ عِلْمُ الطِّبِّ، وَلَبَطَلَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ فِيهِ، بَلِ الْعَالَمُ مَرْبُوطٌ بِالْأَسْبَابِ وَالْقُوَى، وَالْعِلَلِ الْفَاعِلِيَّةِ وَالْغَائِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا قَامَ الْوُجُودُ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْكُلُّ مَرْبُوطٌ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَإِذَا شَاءَ سَلَبَ قُوَّةَ الْجِسْمِ الْفَاعِلِ مِنْهُ وَمَنَعَ تَأْثِيرَهَا، وَإِذَا شَاءَ جَعَلَ فِي الْجِسْمِ الْمُنْفَعِلِ قُوَّةً تَدْفَعُهَا وَتَمْنَعُ مُوجِبَهَا مَعَ بَقَائِهَا، وَهَذَا لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ. وَالنَّاسُ فِي الْأَسْبَابِ وَالْقُوَى وَالطَّبَائِعِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مِنْهُمْ: مَنْ بَالَغَ فِي نَفْيِهَا وَإِنْكَارِهَا، فَأَضْحَكَ الْعُقَلَاءَ عَلَى عَقْلِهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ بِذَلِكَ يَنْصُرُ الشَّرْعَ، فَجَنَى عَلَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ، وَسَلَّطَ خَصْمَهُ عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ: مَنْ رَبَطَ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ بِهَا بِدُونِ ارْتِبَاطِهَا بِمَشِيئَةِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَمُدَبِّرٍ لَهَا يُصَرِّفُهَا كَيْفَ أَرَادَ، فَيَسْلُبُ قُوَّةَ هَذَا وَيُقِيمُ لِقُوَّةِ هَذَا قُوَّةً تُعَارِضُهُ، وَيَكُفُّ قُوَّةَ هَذَا عَنِ التَّأْثِيرِ مَعَ بَقَائِهَا، وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ. وَهَذَانِ طَرَفَانِ جَائِرَانِ عَنِ الصَّوَابِ. وَمِنْهُمْ: مَنْ أَثْبَتَهَا خَلْقًا وَأَمْرًا، قَدَرًا وَشَرْعًا، وَأَنْزَلَهَا بِالْمَحَلِّ الَّذِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ بِهِ، مِنْ كَوْنِهَا تَحْتَ تَدْبِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَهِيَ طَوْعُ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَمَحَلُّ جَرَيَانِ حُكْمِهَا عَلَيْهَا، فَيُقَوِّي سُبْحَانَهُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَيُبْطِلُ - إِنْ شَاءَ - بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَيَسْلُبُ بَعْضَهَا قُوَّتَهُ وَسَبَبِيَّتَهُ، وَيُعَرِّيهَا مِنْهَا، وَيَمْنَعُهُ مِنْ مُوجَبِهَا مَعَ بَقَائِهَا عَلَيْهِ، لِيُعْلِمَ خَلْقَهُ أَنَّهُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ لَا مُسْتَقِلَّ بِالْفِعْلِ وَالتَّأْثِيرِ غَيْرُ مَشِيئَتِهِ، وَأَنَّ التَّعَلُّقَ بِالسَّبَبِ دُونَهُ كَالتَّعَلُّقِ بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، مَعَ كَوْنِهِ سَبَبًا. وَهَذَا بَابٌ عَظِيمٌ نَافِعٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَإِثْبَاتُ الْحِكَمِ، يُوجِبُ لِلْعَبْدِ - إِذَا تَبَصَّرَ فِيهِ - الصُّعُودَ مِنَ الْأَسْبَابِ إِلَى مُسَبِّبِهَا، وَالتَّعَلُّقَ بِهِ دُونَهَا، وَأَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا شَاءَ جَعَلَ نَافِعَهَا ضَارًّا وَضَارَّهَا نَافِعًا، وَدَوَاءَهَا دَاءً وَدَاءَهَا دَوَاءً، فَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا بِالْكُلِّيَّةِ شِرْكٌ مُنَافٍ لِلتَّوْحِيدِ، وَإِنْكَارُ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا - مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا أَسْبَابًا - نُقْصَانٌ فِي الْعَقْلِ، وَتَنْزِيلُهَا مَنَازِلَهَا، وَمُدَافِعَةُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَتَسْلِيطُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَشُهُودُ الْجَمْعِ فِي تَفَرُّقِهَا، وَالْقِيَامُ بِهَا هُوَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَإِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ وَالشَّرْعِ وَالْقَدَرِ وَالْحِكْمَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل غلط السالكين في الفرق الطبيعي والشرعي

[فَصْلٌ غَلَطُ السَّالِكِينَ فِي الْفَرْقِ الطَّبِيعِيِّ وَالشَّرْعِيِّ] فَصْلٌ وَأَمَّا غَلَطُ مَنْ غَلِطَ مِنْ أَرْبَابِ السُّلُوكِ وَالْإِرَادَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَحَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ شُهُودَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَالْفِنَاءَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، مِنْ مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ، بَلْ أَجَلُّ مَقَامَاتِهِمْ، فَسَارُوا شَائِمِينَ لِبَرْقِ هَذَا الشُّهُودِ، سَالِكِينَ لِأَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ فِيهِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى هَذَا السَّيْرِ، وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ مَا شَهِدُوهُ مِنْ حَالِ أَرْبَابِ الْفَرْقِ الطَّبْعِيِّ فَأَنِفُوا مِنْ صُحْبَتِهِمْ فِي الطَّرِيقِ، وَرَأَوْا مُفَارَقَتَهُمْ فَرْضَ عَيْنٍ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَمَّا عَرَضَ لَهُمُ الْفَرْقُ الشَّرْعِيُّ فِي طَرِيقِهِمْ، وَرَدَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ أَعْظَمُ وَارِدٍ فَرَّقَ جَمْعِيَّتَهُمْ، وَقَسَّمَ وَحْدَةَ عَزِيمَتِهِمْ، وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَيْنِ الْجَمْعِ، الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ مَنَازِلِ سِيَرِهِمْ، فَافْتَرَقَتْ طُرُقُهُمْ فِي هَذَا الْوَارِدِ الْعَظِيمِ. فَمِنْهُمْ مَنِ اقْتَحَمَهُ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَقَالَ: الِاشْتِغَالُ بِالْأَوْرَادِ عَنْ عَيْنِ الْمَوْرُودِ انْقِطَاعٌ عَنِ الْغَايَةِ، وَالْقَصْدُ مِنَ الْأَوْرَادِ الْجَمْعِيَّةُ عَلَى الْآخَرِ، فَمَا الِاشْتِغَالُ عَنِ الْمَقْصُودِ بِالْوَسِيلَةِ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَالرُّجُوعِ مِنْ حَضْرَتِهِ إِلَى مَنَازِلِ السَّفَرِ إِلَيْهِ؟ وَرُبَّمَا أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: يُطَالَبُ بِالْأَوْرَادِ مَنْ كَانَ غَافِلًا ... فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أَوْقَاتِهِ وِرْدُ فَإِذَا اضْطُرَّ أَحَدُهُمْ إِلَى التَّفْرِقَةِ بِوَارِدِ الْأَمْرِ، قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ عَلَى اللِّسَانِ مَوْجُودًا، وَالْجَمْعُ فِي الْقَلْبِ مَشْهُودًا. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُسْقِطُ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ جُمْلَةً، وَيَرَى الْقِيَامَ بِهَا مِنْ بَابِ ضَبْطِ نَامُوسِ الشَّرْعِ، وَمَصْلَحَةِ الْعُمُومِ، وَمَبَادِئِ السَّيْرِ، فَهِيَ الَّتِي تَحُثُّ أَهْلَ الْغَفْلَةِ عَلَى التَّشْمِيرِ لِلسَّيْرِ، فَإِذَا جَدَّ فِي الْمَسِيرِ اسْتَغْنَى بِقُرْبِهِ وَجَمْعِيَّتِهِ عَنْهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى سُقُوطَهَا إِلَّا عَمَّنْ شَهِدَ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ، وَوَصَلَ إِلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ فِيهَا، فَمَنْ كَانَ هَذَا مَشْهَدَهُ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ يَقُولُونَ: شُهُودُ الْإِرَادَةِ يُسْقِطُ الْأَمْرَ، وَفِي هَذَا الْمَشْهَدِ يَقُولُونَ: الْعَارِفُ لَا يَسْتَقْبِحُ قَبِيحَةً، وَلَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً. وَيَقُولُ قَائِلُهُمُ: الْعَارِفُ لَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، لِاسْتِبْصَارِهِ بِسِرِّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ. وَيَقُولُونَ: الْقِيَامُ بِالْعِبَادَةِ مَقَامُ التَّلْبِيسِ، وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] .

وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْجَهْلِ، فَإِنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي جَوَابِ لَوِ الَّتِي يَنْتَفِي بِهَا الْمَلْزُومُ - وَهُوَ الْمُقَدَّمُ - لِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ، وَهُوَ الْجَوَابُ، وَهُوَ التَّالِي، فَانْتِفَاءُ جَعْلِ الرَّسُولِ مَلِكًا - كَمَا اقْتَرَحُوهُ - لِانْتِفَاءِ التَّلْبِيسِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَالْكُفَّارُ كَانُوا قَدْ قَالُوا {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] أَيْ نُعَايِنُهُ وَنَرَاهُ، وَإِلَّا فَالْمَلَكُ لَمْ يَزَلْ يَأْتِيهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَهُمُ اقْتَرَحُوا نُزُولَ مَلَكٍ يُعَايِنُونَهُ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا لَمْ يُجْعَلْ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا أُنْزِلَ مَلَكًا يَرَوْنَهُ، فَقَالَ {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8] أَيْ لَوَجَبَ الْعَذَابُ وَفُرِغَ مِنَ الْأَمْرِ، ثُمَّ لَا يُمْهَلُونَ إِنْ أَقَامُوا عَلَى التَّكْذِيبِ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الحجر: 6] قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} [الحجر: 8] وَالْحَقُّ هَاهُنَا الْعَذَابُ، ثُمَّ قَالَ {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9] أَيْ لَوْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، إِذْ لَا يَسْتَطِيعُونَ التَّلَقِّيَ عَنِ الْمَلَكِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، وَحِينَئِذٍ فَيَقَعُ اللَّبْسُ مِنَّا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ أَرَجُلٌ هُوَ، أَمْ مَلَكٌ؟ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ رَجُلًا لَخَلَّطْنَا عَلَيْهِمْ، وَشَبَّهْنَا عَلَيْهِمُ الَّذِي طَلَبُوهُ بِغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: مَا يَلْبِسُونَ، فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى لُبْسِهِمْ عَلَى ضُعَفَائِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ شَبَّهُوا عَلَى ضُعَفَائِهِمْ، وَلَبَّسُوا عَلَيْهِمُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، فَشُبِّهَ عَلَيْهِمْ، وَتَلَبَّسَ عَلَيْهِمُ الْمَلَكُ بِالرَّجُلِ. وَالثَّانِي: أَنَّا نَلْبَسُ عَلَيْهِمْ مَا لَبِسُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَلَّطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ مِنْهُمْ، بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ صِدْقَهُ، وَطَلَبُوا رَسُولًا مَلَكِيًّا يُعَايِنُونَهُ، وَهَذَا تَلْبِيسٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَلَوْ أَجَبْنَاهُمْ إِلَى مَا اقْتَرَحُوهُ لَمْ يُؤْمِنُوا عِنْدَهُ، وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ لُبْسَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَأَيُّ تَعَلُّقٍ لِهَذَا بِالتَّلْبِيسِ الَّذِي ذَكَرَتْهُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنْ تَعْلِيقِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُثَوَّبَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ بِالْأَسْبَابِ، وَتَعْلِيقِ الْمَعَارِفِ بِالْوَسَائِطِ، وَالْقَضَايَا بِالْحُجَجِ، وَالْأَحْكَامِ وَالْعِلَلِ، وَالِانْتِقَامِ بِالْجِنَايَاتِ، وَالْمُثَوَّبَاتِ بِالطَّاعَاتِ، مِمَّا هُوَ مَحْضُ الْحِكْمَةِ وَمُوجَبُهَا.

وَأَثَرُ اسْمِهِ الْحَكِيمِ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ إِنَّمَا قَامَ بِالْأَسْبَابِ، وَكَذَلِكَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَجَعْلُ الْأَسْبَابِ مَنْصُوبَةً لِلتَّلْبِيسِ مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ شَرْعًا وَقَدَرًا. وَإِنَّ الَّذِي أَوْقَعَ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْغُلُوِّ هُوَ نُفْرَتُهُمْ مِنْ أَرْبَابِ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ، وَمُشَاهَدَتُهُمْ قُبْحَ مَا هُمْ عَلَيْهِ. وَهُمْ - لَعَمْرُ اللَّهِ - خَيْرٌ مِنْهُمْ، مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِالْجَمْعِ وَالْفَرْقِ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ، وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ، وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ، وَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا مَا يُفَرِّقُونَ بِأَهْوَائِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ، فَهُمْ فِي فَرْقِهِمُ النَّفْسِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْجَمْعِ، إِذْ هُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْحَسَنَاتِ وَيُحِبُّهَا، وَيَنْهَى عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيُبْغِضُهَا، وَإِذَا فَرَّقُوا بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ، وَفَرَّقُوا بِنُفُوسِهِمْ لَمْ يَجْعَلُوا هَذَا الْفَرْقَ دِينًا يُسْقِطُ عَنْهُمْ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ، بَلْ يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ ذَنْبٌ قَبِيحٌ، وَأَنَّهُمْ مُقَصِّرُونَ، بَلْ مُفَرِّطُونَ فِي الْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ، وَنِهَايَةُ مَا مَعَهُمْ صِحَّةُ إِيمَانٍ مَعَ غَفْلَةٍ وَفَرْقٍ نَفْسَانِيٍّ، وَأُولَئِكَ مَعَهُمْ جَمْعٌ، وَشُهُودٌ يَصْحَبُهُ فَسَادُ إِيمَانٍ، وَخُرُوجٌ عَنِ الدِّينِ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنْ فَرْقِ أُولَئِكَ النَّفْسِيِّ إِلَى جَمْعٍ أَسْقَطَ التَّفْرِقَةَ الشَّرْعِيَّةَ، ثُمَّ آلَ أَمْرُهُمْ إِلَى أَنْ صَارَ فَرْقُهُمْ كُلُّهُ نَفْسِيًّا، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعُونَ إِلَى فَرْقِهِمْ، وَلَا بُدَّ، فَإِنَّ الْفَرْقَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لِلْإِنْسَانِ وَلَا بُدَّ، فَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بِالشَّرْعِ فَرَّقَ بِالنَّفْسِ وَالْهَوَى، فَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، يَمِيلُونَ مَعَ الْهَوَى حَيْثُ مَالَ بِهِمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْحَقِيقَةُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلِهَذَا السُّلُوكِ لَوَازِمُ عَظِيمَةُ الْبَطَلَانِ، مُنَافِيَةٌ لِلْإِيمَانِ، جَالِبَةٌ لِلْخُسْرَانِ {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60] وَآخِرُ أَمْرِ صَاحِبِهِ الْفَنَاءُ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْعَامَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَبَيْنَ الرُّسُلِ وَأَعْدَائِهِمْ، وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ، وَمَنْ وَقَفَ مَعَهَا وَلَمْ يَصْعَدْ إِلَى الْفَرْقِ الثَّانِي - وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الدِّينِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ - فَهُوَ زِنْدِيقٌ كَافِرٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَ إِسْقَاطَ الْفَرْقِ الثَّانِي جُمْلَةً، بَلْ إِنَّمَا يُسْقِطُهُ عَنِ الْوَاصِلِ إِلَى عَيْنِ

فصل من زعم سقوط الأمر والنهي

الْجَمْعِ، الشَّاهِدِ لِلْحَقِيقَةِ، وَمَا دَامَ سَالِكًا، أَوْ مَحْجُوبًا عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ فَالْفَرْقُ لَازِمٌ لَهُ. وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا مِنْ جِنْسِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، بَلْ هُمْ خَوَاصُّهُمْ، فَإِذَا وَصَلَ وَاصِلُهُمْ إِلَى شُهُودِ حَقِيقَةِ الْجَمْعِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِتَفْرِقَةِ الْأَوَامِرِ، وَإِنْ قَامَ بِهَا فَلِحِفْظِ الْمَرْتَبَةِ، وَضَبْطِ النَّامُوسِ، وَحِفْظِ السَّالِكِينَ عَنِ الذَّهَابِ مَعَ الْفَرْقِ الطَّبِيعِيِّ، قَبْلَ شُهُودِهِمُ الْحَقِيقَةَ، وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الْحَالَ تَلْبِيسًا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَشْفُ هَذَا التَّلْبِيسِ الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ كَشْفًا بَيِّنًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى سُقُوطِ الْفَرْقِ عَمَّنْ شَهِدَ الْحَقِيقَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] . وَيَقُولُونَ: إِنَّ الرَّسُولَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - كَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي قِيَامِهِ بِالْأَعْمَالِ تَشْرِيعًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْيَقِينَ الْمَوْتُ، وَأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ لَا تَسْقُطْ عَنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، إِلَّا إِذَا زَالَ عَقْلُهُ وَصَارَ مَجْنُونًا. [فَصْلٌ مَنْ زَعَمَ سُقُوطَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ] فَصْلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْقِيَامَ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَاجِبًا إِذَا لَمْ تُفَرَّقْ جَمْعِيَّتُهُ، فَإِذَا فُرِّقَتْ جَمْعِيَّتُهُ رَأَى الْجَمْعِيَّةَ أَوْجَبَ مِنْهَا، فَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَتْرُكُ وَاجِبًا لِمَا هُوَ أَوْجَبُ مِنْهُ، وَهَذَا أَيْضًا جَهْلٌ وَضَلَالٌ. فَإِنْ رَأَى أَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ فِي حَالِ الْجَمْعِيَّةِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ عَلِمَ تَوَجُّهَهُ إِلَيْهِ، وَأَقْدَمَ عَلَى تَرْكِهِ، فَلَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنَ الْعُصَاةِ وَالْفُسَّاقِ. [فَصْلٌ الْقِيَامُ بِأَمْرِ اللَّهِ] فَصْلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْأَمْرَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ، وَلَكِنْ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَارِدُ الْفَنَاءِ وَالْجَمْعِ غَيَّبَ عَقْلَهُ وَاصْطَلَمَهُ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِوَقْتِ الْوَاجِبِ وَلَا حُضُورِهِ، حَتَّى يَفُوتَهُ فَيَقْضِيَهُ، فَهَذَا مَتَى اسْتَدْعَى ذَلِكَ الْفِنَاءَ وَطَلَبَهُ، فَلَيْسَ بِمَعْذُورٍ فِي اصْطِلَامِهِ، بَلْ هُوَ عَاصٍ لِلَّهِ فِي اسْتِدْعَائِهِ مَا يُعَرِّضُهُ لِإِضَاعَةِ حَقِّهِ، وَهُوَ مُفَرِّطٌ، أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، وَمَتَى هَجَمَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ،

وَغَلَبَ عَلَيْهِ - مَعَ مُدَافَعَتِهِ لَهُ - خَشْيَةَ إِضَاعَةِ الْحَقِّ، فَهَذَا مَعْذُورٌ، وَلَيْسَ بِكَامِلٍ فِي حَالِهِ، بَلِ الْكَمَالُ وَرَاءَ ذَلِكَ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ عَنْ وَادِي الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ، وَالْخُرُوجُ عَنْهُ إِلَى أَوْدِيَةِ الْفَرْقِ الثَّانِي وَالْبَقَاءِ، فَالشَّأْنُ كُلُّ الشَّأْنِ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُنَادِي عَلَيْهِ شَيْخُ الطَّائِفَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِ هَذَا الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ مَا وَقَعَ لِأَجْلِهِ، فَهَجَرَهُمْ وَحَذَّرَ مِنْهُمْ، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْفَرْقِ الثَّانِي، فَإِنَّ الْفَرْقَ فَرْقَانِ، الْفَرْقُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ النَّفْسِيُّ الطَّبِيعِيُّ الْمَذْمُومُ، وَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ إِلَى الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، بَلِ الشَّأْنُ فِي شُهُودِ هَذَا الْجَمْعِ وَاسْتِصْحَابِهِ فِي الْفَرْقِ الثَّانِي، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الدِّينِيَّةُ، وَمَنْ لَمْ يَتَّسِعْ قَلْبُهُ لِذَلِكَ فَلْيَتْرُكْ جَمْعَهُ وَفَنَاءَهُ تَحْتَ قَدَمِهِ، وَلْيَنْبُذْهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، مُشْتَغِلًا بِالْفَرْقِ الثَّانِي، وَالْكَمَالُ أَيْضًا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَهُوَ شُهُودُ الْجَمْعِ فِي الْفَرْقِ، وَالْكَثْرَةِ فِي الْوَحْدَةِ، وَتَحْكِيمُ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، فَهَذَا حَالُ الْعَارِفِينَ الْكُمَّلِ: يَسْقِي وَيَشْرَبُ لَا تُلْهِيهِ سَكْرَتُهُ ... عَنِ النَّدِيمِ وَلَا يَلْهُو عَنِ الْكَاسِ «إِنِّي لَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ، فَأَتَجَوَّزُ فِيهَا، كَرَاهَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ» وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِاللَّهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ يَشْعُرُ بِعَائِشَةَ إِذَا اسْتَفْتَحَتِ الْبَابَ، فَيَمْشِي خُطُوَاتٍ يَفْتَحُ لَهَا ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مُصَلَّاهُ، وَذَكَرَ فِي صَلَاتِهِ تِبْرًا كَانَ عِنْدَهُ، فَصَلَّى، ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَقَسَّمَهُ وَعَادَ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَلَمْ تَشْغَلْهُ جَمْعِيَّتُهُ الْعُظْمَى - الَّتِي لَا يُدْرِكُ لَهَا مَنْ بَعْدَهُ رَائِحَةً - عَنْ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.

فصل تمكن الإيمان والعلم في القلب

[فَصْلٌ تَمَكُّنُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ] فَصْلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَمَكَّنُ الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ مِنْ قَلْبِهِ، فَإِذَا جَاءَ الْأَمْرُ قَامَ إِلَيْهِ، وَبَادَرَ بِجَمْعِيَّتِهِ، فَإِنْ صَحِبَتْهُ وَإِلَّا طَرَحَهَا، وَبَادَرَ إِلَى الْأَمْرِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْجَمْعِيَّةَ فَضْلٌ، وَالْأَمْرَ فَرْضٌ، وَمَنْ ضَيَّعَ الْفُرُوضَ لِلْفُضُولِ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُصُولِ، لَكِنْ إِذَا جَاءَتِ الْمَنْدُوبَاتُ، الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْأَرْبَاحِ وَالْمَكَاسِبِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمَصَالِحِ الرَّاجِحَةِ مِنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ، وَالْجِهَادِ الْمُسْتَحَبِّ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْخُلْطَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا وَيَنْفَعُ غَيْرُهُ، وَلَمْ يُؤْثِرْهَا عَلَى جَمْعِيَّتِهِ، إِذَا رَأَى جَمْعِيَّتَهُ خَيْرًا لَهُ وَأَنْفَعَ مِنْهَا - فَهَذَا غَيْرُ آثِمٍ وَلَا مُفَرِّطٍ إِلَّا إِذَا تَرَكَهَا رَغْبَةً عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَاسْتِبْدَالًا بِالْجَمْعِيَّةِ، فَهَذَا نَاقِصٌ. أَمَّا إِذَا قَامَ بِهَا أَحْيَانًا وَتَرَكَهَا أَحْيَانًا لِاشْتِغَالِهِ بِجَمْعِيَّتِهِ، فَهَذَا غَيْرُ مَذْمُومٍ، بَلْ هَذَا حَقِيقَةُ الِاعْتِكَافِ الْمَشْرُوعِ، وَهُوَ جَمْعِيَّةُ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَخَلْوَتُهُ بِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجِرُ بِحَصِيرٍ فِي الْمَسْجِدِ فِي اعْتِكَافِهِ، يَخْلُو بِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَكُنْ يَشْتَغِلُ بِتَعْلِيمِ الصَّحَابَةِ وَتَذْكِيرِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَلِهَذَا كَانَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ إِقْرَاءُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، وَخَلْوَتُهُ لِلذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ أَفْضَلُ لَهُ، وَاحْتَجُّوا بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَصْلٌ وَأَكْمَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ إِذَا جَاءَهُ تَفْرِقَةُ الْأَمْرِ، وَرَآهَا أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْجَمْعِيَّةِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ فِي التَّفْرِقَةِ اشْتَرَى الْفَاضِلَ بِالْمَفْضُولِ، وَالرَّاجِحَ بِالْمَرْجُوحِ، فَإِذَا كَانَ الْمَنْدُوبُ مَفْضُولًا مَرْجُوحًا، وَالْجَمْعُ خَيْرًا مِنْهُ اشْتَغَلَ بِالْجَمْعِ عَنْهُ، فَهَذَا أَعْلَى الْأَقْسَامِ، وَالرَّجُلُ كُلُّ الرَّجُلِ مَنْ يَرُدُّ مِنْ تَفْرِقَتِهِ عَلَى جَمْعِهِ، وَمِنْ جَمْعِهِ عَلَى تَفْرِقَتِهِ، فَيُقَوِّي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَلَا يُلْغِي الْحَرْبَ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا جَاءَتْ تَفْرِقَةُ الْأَمْرِ جَدَّ فِيهَا وَقَامَ بِهَا لِجَمْعِيَّتِهِ، مُقَوِّيًا لَهَا بِالْأَمْرِ، فَإِذَا جَاءَتْ حَالَةُ الْجَمْعِيَّةِ تَقَوَّى بِهَا عَلَى تَفْرِقَةِ الْأَمْرِ وَالْبَقَاءِ بِهِ، فَيَرُدُّ مِنْ هَذَا عَلَى هَذَا، وَمِنْ هَذَا عَلَى هَذَا، فَإِذَا جَاءَتْ تَفْرِقَةُ الْأَمْرِ قَالَ: أَتَفَرَّقُ لِلَّهِ لِيَجْمَعَنِي عَلَيْهِ، وَإِذَا جَاءَتِ الْجَمْعِيَّةُ قَالَ: أَجْتَمِعُ لِأَتَقَوَّى عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، لَا لِمُجَرَّدِ حَظِّي وَلَذَّتِي مِنْ هَذِهِ الْجَمْعِيَّةِ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَغِيبُ بِحَظِّهِ مِنْهَا، وَلَذَّتِهَا وَنَعِيمِهَا وَطِيبِهَا، عَنْ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ.

فَتَدَبَّرْ هَذَا الْفَصْلَ، وَأَحِطْ بِهِ عِلْمًا، فَإِنَّهُ مِنْ قَوَاعِدِ السُّلُوكِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَكَمْ قَدْ زَلَّتْ فِيهِ مِنْ أَقْدَامٍ، وَضَلَّتْ فِيهِ مِنْ أَفْهَامٍ، وَمَنْ عَرَفَ مَا عِنْدَ النَّاسِ، وَنَهَضَ مِنْ مَدِينَةِ طَبْعِهِ إِلَى السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ، عَرَفَ مِقْدَارَهُ، فَمَنْ عَرَفَهُ عَرَفَ مَجَامِعَ الطُّرُقِ، وَمُفْتَرَقَ الطُّرُقِ، الَّتِي تَفَرَّقَتْ بِالسَّالِكِينَ، وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. فَصْلٌ أَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ، وَمَنْشَأُ الضَّلَالِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، أَوِ اعْتِقَادِ تَلَازُمِهِمَا، فَسَوَّى بَيْنَهُمَا الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ، وَقَالُوا: الْمَشِيئَةُ وَالْمَحَبَّةُ سَوَاءٌ، أَوْ مُتَلَازِمَانِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَتِ الْجَبْرِيَّةُ: الْكَوْنُ كُلُّهُ - قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ، طَاعَتُهُ وَمَعَاصِيهِ، خَيْرُهُ وَشَرُّهُ - فَهُوَ مَحْبُوبُهُ. ثُمَّ مَنْ تَعَبَّدَ مِنْهُمْ، وَسَلَكَ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ رَأَى أَنَّ الْأَفْعَالَ جَمِيعَهَا مَحْبُوبَةٌ لِلرَّبِّ، إِذْ هِيَ صَادِرَةٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ، وَهِيَ عَيْنُ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، وَفَنِيَ فِي هَذَا الشُّهُودِ الَّذِي كَانَ اعْتِقَادًا، ثُمَّ صَارَ مُشْهَدًا، فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ، مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً، وَلَا يَسْتَنْكِرُ مُنْكَرًا، وَتِلْكَ اللَّوَازِمُ الْبَاطِلَةُ الْمُنَافِيَةُ لِلشَّرَائِعِ جُمْلَةً. وَلَمَّا وَرَدَ عَلَى هَؤُلَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] ، {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] وَقَوْلُهُ: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] وَاعْتَاصَ عَلَيْهِمْ كَيْفَ يَكُونُ مَكْرُوهًا لَهُ، وَقَدْ أَرَادَ كَوْنَهُ؟ وَكَيْفَ لَا يُحِبُّهُ، وَقَدْ أَرَادَ وُجُودَهُ؟ أَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوَهَا بِأَنَّهُ لَا يُحِبُّهَا دِينًا، وَلَا يَرْضَاهَا شَرْعًا، وَيَكْرَهُهَا كَذَلِكَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَشْرَعُهَا، مَعَ كَوْنِهِ يُحِبُّ وُجُودهَا وَيُرِيدُهُ. فَشَهِدُوا فِي مَقَامِ الْفَنَاءِ كَوْنَهَا مَحْبُوبَةَ الْوُجُودِ، وَرَأَوْا أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَقْتَضِي مُوَافَقَةَ الْمَحْبُوبِ فِيمَا يُحِبُّهُ، وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مَحْبُوبُهُ، فَأَحَبُّوا - بِزَعْمِهِمْ - جَمِيعَ مَا فِي الْكَوْنِ، وَكَذَبُوا وَتَنَاقَضُوا، فَإِنَّمَا أَحَبُّوا مَا تَهْوَاهُ نُفُوسُهُمْ وَإِرَادَتُهُمْ، فَإِذَا كَانَ فِي الْكَوْنِ مَا لَا يُلَائِمُ أَحَدَهُمْ وَيَكْرَهُهُ طَبْعُهُ أَبْغَضَهُ، وَنَفَرَ مِنْهُ وَكَرِهَهُ، مَعَ كَوْنِهِ مُرَادًا لِلْمَحْبُوبِ، فَأَيْنَ الْمُوَافَقَةُ؟ وَإِنَّمَا وَافَقُوا أَهْوَاءَهُمْ وَإِرَادَاتَهُمْ.

فصل الفرق بين المشيئة والمحبة

ثُمَّ بَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالرِّضَاءِ بِالْقَضَاءِ، وَهَذِهِ قَضَاءٌ مِنْ قَضَائِهِ، فَنَحْنُ نَرْضَى بِهَا، فَمَا لَنَا وَلِإِنْكَارِهَا وَمُعَادَاةِ فَاعِلِهَا، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ؟ فَتَرَكَّبَ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ كَوْنُهَا مَحْبُوبَةً لِلرَّبِّ، وَكَوْنُهُمْ مَأْمُورِينَ بِالرِّضَا بِهَا، وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ، وَعَدَمِ اسْتِقْبَاحِ شَيْءٍ مِنْهَا أَوْ إِنْكَارِهِ. وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُهُمْ جَبْرَ الْعَبْدِ عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ فِعْلَهُ. فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَطَيُّ بِسَاطِ الشَّرْعِ، وَالِاسْتِسْلَامُ لِلْقَدَرِ، وَالذَّهَابُ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ، وَصَارَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ مَشَاهِدَ، وَكُلُّ أَحَدٍ إِذَا ارْتَاضَ وَصَفَا بَاطِنُهُ تَجَلَّى لَهُ فِيهِ صُورَةُ مُعْتَقَدِهِ، فَهُوَ يُشَاهِدُهَا بِقَلْبِهِ فَيَظُنُّهَا حَقًّا، فَهَذَا حَالُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ. وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ: لَيْسَتِ الْمَعَاصِي مَحْبُوبَةً لِلَّهِ وَلَا مَرَضِيَّةً لَهُ، فَلَيْسَتْ مُقَدَّرَةً لَهُ وَلَا مَقْضِيَّةً، فَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ. قَالُوا: وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَمَأْمُورُونَ بِسُخْطِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَبُغْضِهَا وَكَرَاهَتِهَا، فَلَيْسَتْ إِذًا بِقَضَاءِ اللَّهِ، إِذِ الرِّضَا وَالْقَضَاءُ مُتَلَازِمَانِ، كَمَا أَنَّ مَحَبَّتَهُ وَمَشِيئَتَهُ مُتَلَازِمَانِ، أَوْ مُتَّحِدَانِ. وَهَؤُلَاءِ لَا يَجِيءُ مِنْ سَالِكِيهِمْ وَعُبَّادِهِمْ مَا جَاءَ مِنْ سَالِكِي الْجَبْرِيَّةِ وَعُبَّادِهِمُ الْبَتَّةَ، لِمُنَافَاةِ عَقَائِدِهِمْ لِمَشَاهِدِ أُولَئِكَ وَعَقَائِدِهِمْ، بَلْ غَايَتُهُمُ التَّعَبُّدُ وَالْوَرَعُ، وَهُمْ فِي تَعْظِيمِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكَ، وَأُولَئِكَ قَدْ يَكُونُونَ أَقْوَى حَالًا وَتَأْثِيرًا مِنْهُمْ. فَمَنْشَأُ الْغَلَطِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَاعْتِقَادُهُمْ وُجُوبَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَا فِي الْفَصْلَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. [فَصْلٌ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ] فَأَمَّا الْمَشِيئَةُ، وَالْمَحَبَّةُ فَقَدْ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا الْقُرْآنُ وَالسَّنَةُ، وَالْعَقْلُ، وَالْفِطْرَةُ، وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108]

فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِمَا يَبَيِّتُونَهُ مِنَ الْقَوْلِ الْمُتَضَمِّنِ الْبَهْتَ وَرَمْيَ الْبَرِيءِ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ، وَبَرَاءَةَ الْجَانِي، فَإِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةٍ هَذَا شَأْنُهَا، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَشِيئَتِهِ، إِذْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ، الَّذِينَ يَقُولُونَ: يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ، وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ. وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ دِينًا، مَعَ مَحَبَّتِهِ لِوُقُوعِهِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ كَلَامُ اللَّهِ عَنْهُ، إِذِ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مَحْبُوبٌ لَهُ، وَلَكِنْ لَا يُثَابُ فَاعِلُهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَحْبُوبٌ بِالْمَشِيئَةِ، غَيْرُ مُثَابٍ عَلَيْهِ شَرْعًا. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَنَّهُ مَسْخُوطٌ لِلرَّبِّ، مَكْرُوهٌ لَهُ قَدَرًا وَشَرْعًا، مَعَ أَنَّهُ وُجِدَ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ، فَإِنَّهُ يَخْلُقُ مَا يُحِبُّ وَمَا يَكْرَهُ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْأَعْيَانَ كُلَّهَا خَلْقُهُ، وَفِيهَا مَا يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ - كَإِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، وَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْخَبِيثَةِ - وَفِيهَا مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ - كَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَمَلَائِكَتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ - وَهَكَذَا الْأَفْعَالُ كُلُّهَا مِنْهَا مَا هُوَ مَحْبُوبٌ لَهُ وَمَا هُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ، خَلَقَهُ لِحِكْمَةٍ لَهُ فِي خَلْقِ مَا يَكْرَهُ وَيُبْغِضُ كَالْأَعْيَانِ، وَقَالَ تَعَالَى {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] مَعَ أَنَّهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَقَالَ تَعَالَى {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] فَالْكُفْرُ وَالشُّكْرُ وَاقِعَانِ بِمَشِيئَتِهِ وَقَدْرِهِ، وَأَحَدُهُمَا مَحْبُوبٌ لَهُ مُرْضٍ، وَالْآخَرُ مَبْغُوضٌ لَهُ مَسْخُوطٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عُقَيْبَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْكِبْرِ {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ، مَعَ وُقُوعِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» فَهَذِهِ كَرَاهَةٌ لِمَوْجُودٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَشِيئَةُ. وَفِي الْمُسْنَدِ «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» فَهَذِهِ مَحَبَّةٌ

وَكَرَاهَةٌ لِأَمْرَيْنِ مَوْجُودَيْنِ، اجْتَمَعَا فِي الْمَشِيئَةِ، وَافْتَرَقَا فِي الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةِ، وَهَذَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ جَمِيعُهُ. وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ: هَذَا الْفِعْلُ يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَهَذَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيُبْغِضُهُ وَفُلَانٌ يَفْعَلُ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذِكْرِ سُخْطِهِ وَغَضَبِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَذَلِكَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعَذَابُ وَاللَّعْنَةُ، لَا أَنَّ السُّخْطَ هُوَ نَفْسُ الْعَذَابِ وَاللَّعْنَةِ بَلْ هُمَا أَثَرُ السُّخْطِ وَالْغَضَبِ وَمُوجَبُهُمَا، وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] فَفَرَّقَ بَيْنَ عَذَابِهِ وَغَضَبِهِ وَلَعْنَتِهِ، وَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ غَيْرَ الْآخَرِ. وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سُخْطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» . فَتَأَمَّلْ ذِكْرَ اسْتِعَاذَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَةِ الرِّضَا مِنْ صِفَةِ السُّخْطِ وَبِفِعْلِ الْمُعَافَاةِ مِنْ فِعْلِ الْعُقُوبَةِ، فَالْأَوَّلُ لِلصِّفَةِ، وَالثَّانِي لِأَثَرِهَا الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَبَطَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، لَا إِلَى غَيْرِهِ، فَمَا أَعُوذُ مِنْهُ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ، وَمَا أَعُوذُ بِهِ مِنْ رِضَاكَ وُمُعَافَاتِكَ هُوَ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَرْضَى عَنْ عَبْدِكَ وَتُعَافِيَهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَغْضَبَ عَلَيْهِ وَتُعَاقِبَهُ، فَإِعَاذَتِي مِمَّا أَكْرَهُ وَأَحْذَرُ، وَمَنْعُهُ أَنْ يَحِلَّ بِي هُوَ بِمَشِيئَتِكَ أَيْضًا، فَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ كُلُّهُ بِقَضَائِكَ وَمَشِيئَتِكَ، فَعِيَاذِي بِكَ مِنْكَ عِيَاذِي بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَإِحْسَانِكَ مِمَّا يَكُونُ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ وَعَدْلِكَ وَحِكْمَتِكَ، فَلَا أَسْتَعِيذُ بِغَيْرِكَ مِنْ غَيْرِكَ، وَلَا أَسْتَعِيذُ إِلَّا بِكَ مِنْ شَيْءٍ هُوَ صَادِرٌ عَنْ مَشِيئَتِكَ وَخَلْقِكَ، بَلْ هُوَ مِنْكَ، وَلَا أَسْتَعِيذُ بِغَيْرِكَ مِنْ شَيْءٍ هُوَ صَادِرٌ عَنْ مَشِيئَتِكَ وَقَضَائِكَ، بَلْ أَنْتَ الَّذِي تُعِيذُنِي بِمَشِيئَتِكَ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ بِمَشِيئَتِكَ، فَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ. وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ - مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَارِفِ وَالْعُبُودِيَّةِ - إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي

فصل حديث الرضا بالقضاء

الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَمَعْرِفَةِ عُبُودِيَّتِهِ. وَأَشَرْنَا إِلَى شَيْءٍ يَسِيرٍ مِنْ مَعْنَاهَا، وَلَوِ اسْتَقْصَيْنَا شَرْحَهَا لَقَامَ مِنْهُ سِفْرٌ ضَخْمٌ، وَلَكِنْ قَدْ فُتِحَ لَكَ الْبَابُ، فَإِنْ دَخَلْتَ رَأَيْتَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ انْقِسَامَ الْكَوْنِ فِي أَعْيَانِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ إِلَى مَحْبُوبٍ لِلرَّبِّ مَرَضِيٍّ لَهُ، وَمَسْخُوطٍ مَبْغُوضٍ لَهُ مَكْرُوهٍ لَهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ، مِنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَالْفِطْرَةِ وَالِاعْتِبَارِ، فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَدْ خَالَفَ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا عِبَادَهُ، وَخَالَفَ الْمَعْقُولَ وَالْمَنْقُولَ، وَخَرَجَ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. وَلِأَيِّ شَيْءٍ نَوَّعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعُقُوبَاتِ الْبَلِيغَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَشْهَدَ عِبَادَهُ مِنْهَا مَا أَشْهَدَهُمْ؟ لَوْلَا شِدَّةُ غَضَبِهِ وَسُخْطِهِ عَلَى الْفَاعِلِينَ لَمَا اشْتَدَّتْ كَرَاهَتُهُ وَبُغْضُهُ لَهُ، فَأَوْجَبَتْ تِلْكَ الْكَرَاهَةُ وَالْبُغْضُ مِنْهُ وُقُوعَ أَنْوَاعِ الْمَكَارِهِ بِهِمْ، كَمَا أَنَّ مَحَبَّتَهُ لِمَا يُحِبُّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَيَرْضَاهُ أَوْجَبَتْ وُقُوعَ أَنْوَاعِ الْمَحَابِّ لِمَنْ فَعَلَهَا، وَشُهُودَ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ إِكْرَامِ أَوْلِيَائِهِ، وَإِتْمَامِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَنَصْرِهِمْ وَإِعْزَازِهِمْ، وَإِهَانَةِ أَعْدَائِهِ وَعُقُوبَتِهِمْ، وَإِيقَاعِ الْمَكَارِهِ بِهِمْ مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى حُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَكَرَاهَتِهِ، بَلْ نَفْسُ مُوَالَاتِهِ لِمَنْ وَالَاهُ، وَمُعَادَاتِهِ لِمَنْ عَادَاهُ هِيَ عَيْنُ مَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ، فَإِنَّ الْمُوَالَاةَ أَصْلُهَا الْحُبُّ، وَالْمُعَادَاةَ أَصْلُهَا الْبُغْضُ، فَإِنْكَارُ صِفَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةِ، إِنْكَارٌ لِحَقِيقَةِ الْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَشُهُودُ الْقُلُوبِ لِمَحَبَّتِهِ وَكَرَاهَتِهِ، كَشُهُودِ الْعِيَانِ لِكَرَامَتِهِ وَإِهَانَتِهِ. [فَصْلٌ حَدِيثُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ] فَصْلٌ وَأَمَّا حَدِيثُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فَيُقَالُ: أَوْلًا: بِأَيِّ كِتَابٍ، أَمْ بِأَيِّ سُنَّةٍ، أَمْ بِأَيِّ مَعْقُولٍ عَلِمْتُمْ وُجُوبَ الرِّضَا بِكُلِّ مَا يَقْضِيهِ وَيُقَدِّرُهُ؟ بَلْ بِجَوَازِ ذَلِكَ، فَضْلًا عَنْ وُجُوبِهِ؟ هَذَا كِتَابُ اللَّهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَدِلَّةُ الْعُقُولِ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا الْأَمْرُ بِذَلِكَ، وَلَا إِبَاحَتُهُ. بَلْ مِنَ الْمَقْضِيِّ مَا يَرْضَى بِهِ، وَمِنْهُ مَا يُسْخِطُهُ وَيَمْقُتُهُ، فَلَا نَرْضَى بِكُلِّ قَضَاءٍ كَمَا لَا يَرْضَى بِهِ الْقَاضِي لِأَقْضِيَتِهِ سُبْحَانَهُ، بَلْ مِنَ الْقَضَاءِ مَا يُسْخِطُهُ، كَمَا أَنَّ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَقْضِيَّةِ مَا يَغْضَبُ عَلَيْهِ، وَيَمْقُتُ عَلَيْهِ، وَيَلْعَنُ وَيَذُمُّ. وَيُقَالُ ثَانِيًا: هَاهُنَا أَمْرَانِ قَضَاءٌ وَهُوَ فِعْلٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَمَقْضِيٌّ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ، فَالْقَضَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ، وَعَدْلٌ وَحِكْمَةٌ، فَيَرْضَى بِهِ كُلِّهِ، وَالْمَقْضِيُّ

فصل توبة العامة

قِسْمَانِ: مِنْهُ مَا يَرْضَى بِهِ، وَمِنْهُ مَا لَا يَرْضَى بِهِ. وَهَذَا جَوَابُ مَنْ يَقُولُ: الْفِعْلُ غَيْرُ الْمَفْعُولِ، وَالْقَضَاءُ غَيْرُ الْمَقْضِيِّ. وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْفِعْلَ هُوَ عَيْنُ الْمَفْعُولِ، وَالْقَضَاءَ هُوَ عَيْنُ الْمَقْضِيِّ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجِيبَ بِهَذَا الْجَوَابِ. وَيُقَالُ ثَالِثًا: الْقَضَاءُ لَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَعَلُّقُهُ بِالرَّبِّ تَعَالَى، وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَرْضَى بِهِ كُلِّهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: تَعَلُّقُهُ بِالْعَبْدِ وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَرْضَى بِهِ، وَإِلَى مَا لَا يَرْضَى بِهِ. مِثَالُ ذَلِكَ: قَتْلُ النَّفْسِ - مَثَلًا - لَهُ اعْتِبَارَانِ، فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ وَكَتَبَهُ وَشَاءَهُ، وَجَعَلَهُ أَجَلًا لِلْمَقْتُولِ، وَنِهَايَةً لِعُمْرِهِ يَرْضَى بِهِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ صَدَرَ مِنَ الْقَاتِلِ، وَبَاشَرَهُ وَكَسَبَهُ، وَأَقْدَمَ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَعَصَى اللَّهَ بِفِعْلِهِ يَسْخَطُهُ وَلَا يَرْضَى بِهِ. فَهَذِهِ نِهَايَةُ أَقْدَامِ الْعَالَمِ، الْمُقِرِّينَ بِالنُّبُوَّاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمُفْتَرَقُ طُرُقِهِمْ، قَدْ حَصَرْتُ لَكَ أَقْوَالَهُمْ وَمَآخِذَهُمْ، وَأُصُولَ تِلْكَ الْأَقْوَالِ، بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ مِنْهَا شَيْءٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَلَا تُنْكِرِ الْإِطَالَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّهُ مَزَلَّةُ أَقْدَامِ الْخَلْقِ، وَمَا نَجَا مِنْ مَعَاطِبِهِ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَمْرِهِ وَشَرَائِعِهِ. [فَصْلٌ تَوْبَةُ الْعَامَّةِ] ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: فَتَوْبَةُ الْعَامَّةِ الِاسْتِكْثَارُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى جُحُودِ نِعْمَةِ السَّتْرِ وَالْإِمْهَالِ، وَرُؤْيَةِ الْحَقِّ عَلَى اللَّهِ، وَالِاسْتِغْنَاءِ - الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْجَبَرُوتِ - وَالتَّوَثُّبِ عَلَى اللَّهِ. " الْعَامَّةُ " عِنْدَهُمْ مَنْ عَدَا بَابَ الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ، وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ سُلُوكٍ وَإِرَادَةٍ وَعِلْمٍ، هَذَا مُرَادُهُمْ بِالْعَامَّةِ، وَيُسَمُّونَهُمْ " أَهْلَ الْفَرْقِ " وَيُسَمِّيهِمْ غُلَاتُهُمُ " الْمَحْجُوبِينَ ".

وَمُرَادُهُ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ مَدْخُولَةٌ عِنْدَ الْخَوَاصِّ مَنْقُوصَةٌ، فَإِنَّ تَوْبَتَهُمْ مِنِ اسْتِكْثَارِهِمْ لِمَا يَأْتُونَ بِهِ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ، أَيْ رُؤْيَتِهِمْ كَثْرَتَهَا، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَ مَفَاسِدَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ: إِحْدَاهَا: أَنَّ حَسَنَاتِهِمُ الَّتِي يَأْتُونَ بِهَا سَيِّئَاتٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِ الْخَاصَّةِ، فَإِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، فَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ هَذِهِ الْحَسَنَاتِ، فَلِغَفْلَتِهِمْ - بِاسْتِكْثَارِهَا - عَنْ عُيُوبِهَا وَرُؤْيَتِهَا وَمُلَاحَظَتِهَا هُمْ جَاحِدُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي سَتْرِهَا عَلَيْهِمْ وَإِمْهَالِهِمْ، كَسَتْرِهِ عَلَى أَهْلِ الذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ تَحْتَ سَتْرِهِ وَإِمْهَالِهِ، لَكِنَّ أَهْلَ الذُّنُوبِ مُقِرُّونَ بِسَتْرِهِ وَإِمْهَالِهِ، وَهَؤُلَاءِ جَاحِدُونَ لِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ تَوَفَّرَتْ هِمَمُهُمْ عَلَى اسْتِكْثَارِهِمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ، دُونَ مُطَالَعَةِ عَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، وَالتَّفْتِيشِ عَلَى دَسَائِسِهِمَا، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى اسْتِكْثَارِهَا رُؤْيَتُهَا وَالْإِعْجَابُ بِهَا، وَلَوْ تَفَرَّغُوا لِتَفْتِيشِهَا، وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ عَلَيْهَا، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا فِيهَا مِنَ الْحَظِّ وَالْحَقِّ، لَشَغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنِ اسْتِكْثَارِهَا، وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ مِنْ عَدِمَ الْحُضُورَ وَالْمُرَاقَبَةَ وَالْجَمْعِيَّةَ فِي الْعَمَلِ، خَفَّ عَلَيْهِ وَاسْتَكْثَرَ مِنْهُ، فَكَثُرَ فِي عَيْنِهِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْعَادَةِ، فَإِذَا أَخَذَ نَفْسَهُ بِتَخْلِيصِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ، وَتَنْقِيَتِهَا مِنَ الْكَدَرِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شَوْكِ الرِّيَاءِ وَشِبْرِقِ الْإِعْجَابِ، وَجَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ وَالْهَمِّ عَلَى اللَّهِ بِكُلِّيَّتِهِ وَجَدَ لَهُ ثِقَلًا كَالْجِبَالِ، وَقَلَّ فِي عَيْنِهِ، وَلَكِنْ إِذَا وَجَدَ حَلَاوَتَهُ سَهُلَ عَلَيْهِ حَمْلُ أَثْقَالِهِ، وَالْقِيَامُ بِأَعْبَائِهِ، وَالتَّلَذُّذُ وَالتَّنَعُّمُ بِهِ مَعَ ثِقَلِهِ. وَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ هَذَا الْقَدْرِ كَمَا يَنْبَغِي، فَانْظُرْ وَقْتَ أَخْذِكَ فِي الْقِرَاءَةِ إِذَا أَعْرَضْتَ عَنْ وَاجِبِهَا وَتَدَبُّرِهَا وَتَعَقُّلِهَا، وَفَهْمِ مَا أُرِيدَ بِكُلِّ آيَةٍ، وَحَظِّكَ مِنَ الْخِطَابِ بِهَا، وَتَنْزِيلِهَا عَلَى أَدْوَاءِ قَلْبِكَ وَالتَّقَيُّدِ بِهَا، كَيْفَ تُدْرِكُ الْخَتْمَةَ - أَوْ أَكْثَرَهَا، أَوْ مَا قَرَأْتَ مِنْهَا - بِسُهُولَةٍ وَخِفَّةٍ، مُسْتَكْثِرًا مِنَ الْقِرَاءَةِ، فَإِذَا أَلْزَمْتَ نَفْسَكَ التَّدَبُّرَ وَمَعْرِفَةَ الْمُرَادِ، وَالنَّظَرَ إِلَى مَا يَخُصُّكَ مِنْهُ وَالتَّعَبُّدَ بِهِ، وَتَنْزِيلَ دَوَائِهِ عَلَى أَدْوَاءِ قَلْبِكَ، وَالِاسْتِشْفَاءَ بِهِ، لَمْ تَكَدْ تَجُوزُ السُّورَةَ أَوِ الْآيَةَ إِلَى غَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا جَمَعْتَ قَلْبَكَ كُلَّهُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، أَعْطَيْتَهُمَا مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُضُورِ وَالْخُشُوعِ وَالْمُرَاقَبَةِ، لَمْ تَكَدْ أَنْ تُصَلِّيَ غَيْرَهُمَا إِلَّا بِجَهْدٍ، فَإِذَا خَلَا الْقَلْبُ مِنْ ذَلِكَ عَدَّدْتَ الرَّكَعَاتِ بِلَا حِسَابٍ، فَالِاسْتِكْثَارُ مِنَ الطَّاعَاتِ دُونَ مُرَاعَاةِ آفَاتِهَا وَعُيُوبِهَا لِيَتُوبَ مِنْهَا هِيَ تَوْبَةُ الْعَامَّةِ. الْمَفْسَدَةُ الثَّانِيَةُ: رُؤْيَةُ فَاعِلِهَا أَنَّ لَهُ حَقًّا عَلَى اللَّهِ فِي مُجَازَاتِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَسَنَاتِ بِالْجَنَّاتِ وَالنَّعِيمِ وَالرِّضْوَانِ، وَلِهَذَا كَثُرَتْ فِي عَيْنِهِ مَعَ غَفْلَتِهِ عَنْ أَعْمَالِهِ، وَلَوْ كَانَتْ أَعْمَالَ الثَّقَلَيْنِ لَا تَسْتَقِلُّ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَلَا النَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَأَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ الْبَتَّةَ مِنَ النَّارِ بِعَمَلِهِ، إِلَّا بِعَفْوِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ.

الثَّالِثَةُ: اسْتِشْعَارُهُمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ، بِمَا يَشْهَدُونَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْمَغْفِرَةِ، وَالثَّوَابِ بِحَسَنَاتِهِمْ وَطَاعَاتِهِمْ، فَإِنَّ ظَنَّهُمْ أَنَّ حُصُولَ النَّجَاةِ وَالثَّوَابِ بِطَاعَاتِهِمْ، وَاسْتِكْثَارِهِمْ مِنْهَا لِذَلِكَ، وَكَثْرَتُهَا فِي عُيُونِهِمْ إِظْهَارٌ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْجَبَرُوتِ وَالتَّوَثُّبِ عَلَى اللَّهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْقِيَامِ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، مِنْ غَيْرِ حُضُورٍ وَلَا مُرَاقَبَةٍ، وَلَا إِقْبَالٍ عَلَى اللَّهِ، قَدْ يَتَضَمَّنُ تِلْكَ الْمَفَاسِدَ الثَّلَاثَ وَغَيْرَهَا، مَعَ أَنَّهُ قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ دُنْيَا وَأُخْرَى، كَثِيرُ الْمُؤْنَةِ، فَهُوَ كَالْعَمَلِ عَلَى غَيْرِ مُتَابِعَةِ الْأَمْرِ وَالْإِخْلَاصِ لِلْمَعْبُودِ، فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَثُرَ - مُتْعِبٌ غَيْرُ مُفِيدٍ، فَهَكَذَا الْعَمَلُ الْخَارِجِيُّ الْقُشُورِيُّ بِمَنْزِلَةِ النُّخَالَةِ الْكَثِيرَةِ الْمَنْظَرِ الْقَلِيلَةِ الْفَائِدَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَكْتُبُ لِلْعَبْدِ مِنْ صِلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا. وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِالْحُضُورِ فِيهَا وَالْخُشُوعِ، كَالطَّوَافِ، وَأَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ وَنَحْوِهَا. فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ إِحْسَانُ ظَنِّهِ بِهَا، وَاسْتِكْثَارُهَا، وَعَدَمُ الْتِفَاتِهِ إِلَى عُيُوبِهَا وَنَقَائِصِهَا، وَالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ، وَاسْتِغْفَارِهِ مِنْهَا جَاءَتْ تِلْكَ الْمَفَاسِدُ الَّتِي ذَكَرَهَا وَمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الشَّارِحِينَ لِكَلَامِهِ أَنَّ مُرَادَهُ الْإِزْرَاءَ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ الْفَنَاءِ وَالشُّهُودِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي حَضْرَةِ الْمُرَاقَبَةِ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَنْفَعُ وَهَذَا بَاطِلٌ وَكَذِبٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُنْحَرِفِينَ مِنَ السَّالِكِينَ، وَهُوَ تَعَبُّدٌ بِمُرَادِ الْعَبْدِ وَحَظِّهِ مِنَ اللَّهِ، وَتَقْدِيمٌ لَهُ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَمَحَابِّهِ مِنَ الْعَبْدِ. فَإِنَّ لِلْعَبْدِ حَظًّا، وَعَلَيْهِ حَقًّا، فَحَقُّ اللَّهِ عَلَيْهِ تَنْفِيذُ أَوَامِرِهِ وَالْقِيَامُ بِهَا، وَالِاسْتِكْثَارُ مِنْ طَاعَاتِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَالِاشْتِغَالُ بِمُحَارَبَةِ أَعْدَائِهِ وَمُجَادَلَتِهِمْ، وَلَوْ فَرَّقَ ذَلِكَ جَمْعِيَّتَهُ وَشَتَّتَ حُضُورَهُ، فَهَذَا هُوَ الْعُبُودِيَّةُ الَّتِي هِيَ مُرَادُ اللَّهِ. وَأَمَّا الْجَمْعِيَّةُ وَالْمُرَاقَبَةُ وَالِاسْتِغْرَاقُ فِي الْفَنَاءِ، وَتَعْطِيلُ الْحَوَاسِّ وَالْجَوَارِحِ عَنْ إِرْسَالِهَا فِي الطَّاعَاتِ، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا، فَهَذَا مُجَرَّدُ حَظِّ الْعَبْدِ وَمُرَادُهُ، وَهُوَ - بِلَا شَكٍّ - أَنْعَمُ وَأَلَذُّ وَأَطْيَبُ مِنْ تَفْرِقَةِ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ، لَا سِيَّمَا إِذَا شَهِدُوا تَفْرِقَةَ الْمُسْتَكْثِرِينَ مِنْهَا، وَقِلَّةَ نَصِيبِهِمْ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ تَشْتَدُّ نَفْرَتُهُمْ مِنْهُمْ، وَيَعِيبُونَ عَلَيْهِمْ، وَيُزْرُونَ بِهِمْ،

وَقَدْ يُسَمُّونَ مَنْ رَأَوْهُ كَثِيرَ الصَّلَاةِ " ثَقَاقِيلَ الْحُصُرِ " وَمَنْ رَأَوْهُ كَثِيرَ الطَّوَافِ " حُمُرَ الْمَدَارِ " وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى ابْنَ سَبْعِينَ قَاعِدًا فِي طَرَفِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُوَ يَسْخَرُ مِنَ الطَّائِفِينَ وَيَذُمُّهُمْ، وَيَقُولُ: كَأَنَّهُمُ الْحُمُرُ حَوْلَ الْمَدَارِ، وَنَحْوَ هَذَا، وَكَانَ يَقُولُ: إِقْبَالُهُمْ عَلَى الْجَمْعِيَّةِ أَفْضَلُ لَهُمْ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُؤْثِرُونَ لِحُظُوظِهِمْ عَلَى حُقُوقِ رَبِّهِمْ، وَاقِفُونَ مَعَ أَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ، فَانِينَ بِهَا عَنْ حَقِّ اللَّهِ وَمُرَادِهِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَحْكِي عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ قَالَ: الْعَامَّةُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَهَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ نُفُوسَهُمْ. وَصَدَقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَكْثِرِينَ مِنَ الطَّاعَاتِ الذَّائِقِينَ لِرُوحِ الْعِبَادَةِ، الرَّاجِينَ ثَوَابَهَا، قَدْ رُفِعَ لَهُمْ عِلْمُ الثَّوَابِ، وَأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنِ الْأَعْمَالِ، فَشَمَّرُوا إِلَيْهِ، رَاجِينَ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ أَعْمَالُهُمْ - عَلَى عَيْبِهَا وَنَقْصِهَا - بِفَضْلِ اللَّهِ، خَائِفِينَ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ، إِذْ لَا تَصْلُحُ لِلَّهِ وَلَا تَلِيقُ بِهِ، فَيَرُدَّهَا بِعَدْلِهِ وَحَقِّهِ، فَهُمْ مُسْتَكْثِرُونَ بِجُهْدِهِمْ مِنْ طَاعَاتِهِ بَيْنَ خَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالْإِزْرَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالْحِرْصِ عَلَى اسْتِعْمَالِ جَوَارِحِهِمْ فِي كُلِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الطَّاعَاتِ، رَجَاءَ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَطَمَعًا فِي النَّجَاةِ، فَهُمْ يُقَاتِلُونَ بِكُلِّ سِلَاحٍ لَعَلَّهُمْ يَنْجَوْنَ. قَالُوا: وَأَمَّا مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْفَنَاءِ، وَمُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي ذَلِكَ فَنَحْنُ فِي شُغْلٍ عَنْهُ بِتَنْفِيذِ أَوَامِرِ صَاحِبِ الْحَقِيقَةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْ

طَاعَاتِهِ، وَتَصْرِيفِ الْجَوَارِحِ فِي مَرْضَاتِهِ، كَمَا أَنَّكُمْ - بِفَنَائِكُمْ وَاسْتِغْرَاقِكُمْ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ وَحَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ - فِي شُغْلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ، فَكَيْفَ كُنْتُمْ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنَّا، وَنَحْنُ فِي حُقُوقِهِ وَمُرَادِهِ مِنَّا، وَأَنْتُمْ فِي حُظُوظِكُمْ وَمُرَادِكُمْ مِنْهُ؟ قَالُوا: وَقَدْ ضُرِبَ لَنَا وَلَكُمْ مَثَلٌ مُطَابِقٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ بِمَلِكٍ ادَّعَى مَحَبَّتَهُ مَمْلُوكَانِ مِنْ مَمَالِيكِهِ، فَاسْتَحْضَرَهُمَا وَسَأَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَا: أَنْتَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْنَا، وَلَا نُؤْثِرُ عَلَيْكَ غَيْرَكَ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمَا صَادِقَيْنِ فَاذْهَبَا إِلَى سَائِرِ مَمَالِيكِي وَعَرِّفَاهُمْ بِحُقُوقِي عَلَيْهِمْ، وَأَخْبِرَاهُمْ بِمَا يُرْضِينِي عَنْهُمْ، وَيُسْخِطُنِي عَلَيْهِمْ، وَابْذُلَا قُوَاكُمَا فِي تَخْلِيصِهِمْ مِنْ مَسَاخِطِي، وَنَفِّذَا فِيهِمْ أَوَامِرِي، وَاصْبِرَا عَلَى أَذَاهُمْ، وَعُودَا مَرِيضَهُمْ، وَشَيِّعَا مَيِّتَهُمْ، وَأَعِينَا ضَعِيفَهُمْ بِقُوَاكُمَا، وَأَمْوَالِكُمَا وَجَاهِكُمَا، ثُمَّ اذْهَبَا إِلَى بِلَادِ أَعْدَائِي بِهَذِهِ الْمُلَطِّفَاتِ وَخَالِطُوهُمْ، وَادْعُوهُمْ إِلَى مُوَالَاتِي، وَاشْتَغِلَا بِهِمْ، وَلَا تَخَافُوهُمْ، فَعِنْدَهُمْ مِنْ جُنْدِي وَأَوْلِيَائِي مَنْ يَكْفِيكُمَا شَرَّهُمْ. فَأَمَّا أَحَدُ الْمَمْلُوكَيْنِ فَقَامَ مُبَادِرًا إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَبَعُدَ عَنْ حَضْرَتِهِ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِ. وَأَمَّا الْآخَرُ، فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِي مِنْ مَحَبَّتِكَ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي مُشَاهَدَةِ حَضْرَتِكَ وَجِمَالِكَ مَا لَا أَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى مُفَارَقَةِ حَضْرَتِكَ وَمُشَاهَدَتِكَ. فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رِضَائِي فِي أَنْ تَذْهَبَ مَعَ صَاحِبِكَ، فَتَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ، وَإِنْ بَعُدْتَ عَنْ مُشَاهَدَتِي. فَقَالَ: لَا أُوثِرُ عَلَى مُشَاهَدَتِكَ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيكَ شَيْئًا. فَأَيُّ الْمَمْلُوكَيْنِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا الْمَلِكِ، وَأَحْظَى عِنْدَهُ، وَأَخَصُّ بِهِ، وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ؟ أَهَذَا الَّذِي آثَرَ حَظَّهُ وَمُرَادَهُ وَمَا فِيهِ لَذَّتُهُ عَلَى مُرَادِ الْمَلِكِ وَأَمْرِهِ وَرِضَاهُ؟ أَمْ ذَلِكَ الَّذِي ذَهَبَ فِي تَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ، وَفَرَّغَ لَهَا قُوَاهُ وَجَوَارِحَهُ، وَتَفَرَّقَ فِيهَا فِي كُلِّ وَجْهٍ؟ فَمَا أَوْلَاهُ أَنْ يَجْمَعَهُ أُسْتَاذَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَضَاءِ أَوَامِرِهِ وَفَرَاغِهِ مِنْهَا، وَيَجْعَلَهُ مِنْ خَاصَّتِهِ وَأَهْلِ قُرْبِهِ! وَمَا أَوْلَى صَاحِبَهُ بِأَنْ يُبْعِدَهُ عَنْ قُرْبِهِ، وَيَحْجُبَهُ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ، وَيُفَرِّقَهُ عَنْ جَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ، وَيُبَدِّلَهُ بِالتَّفْرِقَةِ الَّتِي هَرَبَ مِنْهَا - فِي تَفْرِقَةِ أَمْرِهِ - تَفْرِقَةً فِي هَوَاهُ وَمُرَادِهِ بِطَبْعِهِ وَبِنَفْسِهِ. فَلْيَتَأَمَّلِ اللَّبِيبُ هَذَا حَقَّ التَّأَمُّلِ، وَلْيَفْتَحْ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ، وَيَسِيرُ بِقَلْبِهِ، فَيَنْظُرَ فِي مَقَامَاتِ الْعَبِيدِ وَأَحْوَالِهِمْ وَهِمَمِهِمْ، وَمَنْ هُوَ أَوْلَى بِالْعُبُودِيَّةِ، وَمَنْ هُوَ الْبَعِيدُ مِنْهَا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ اللَّهِ وَطَاعَاتِهِ، وَتَوَثَّبَ عَلَيْهِ، وَأَوْرَثَتْهُ الطَّاعَاتُ

جَبَرُوتًا وَحَجْبًا عَنْ رُؤْيَتِهِ عُيُوبَ نَفْسِهِ وَعَمَلِهِ، وَكَثُرَتْ حَسَنَاتُهُ فِي عَيْنِهِ، فَهُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَى الْهَلَاكِ، لَا مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَمِنْ مِثْلِ مَا وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَأَلَهُ مُرَافَقَتَهُ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: «أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17] قَالَ الْحَسَنُ: مَدُّوا الصَّلَاةَ إِلَى السَّحَرِ، ثُمَّ جَلَسُوا يَسْتَغْفِرُونَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» وَقَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ أَنْ يُوصِيَهُ بِشَيْءٍ يَتَشَبَّثُ بِهِ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» . وَالدِّينُ كُلُّهُ اسْتِكْثَارٌ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَأَحَبُّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ أَعْظَمُهُمُ اسْتِكْثَارًا مِنْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبَصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسَتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ.» فَهَذَا جَزَاؤُهُ وَكَرَامَتُهُ لِلْمُسْتَكْثِرِينَ مِنْ طَاعَتِهِ، لَا لِأَهْلِ الْفَنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِينَ فِي شُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآخَرَ: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا

دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً» . فَصْلٌ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ نَظِيرُ طَرِيقَةِ التَّجَهُّمِ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، تِلْكَ تَعْطِيلٌ لِلصِّفَاتِ وَالتَّوْحِيدِ، وَهَذِهِ تَعْطِيلٌ لِلْأَمْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَانْظُرْ إِلَى هَذَا النَّسَبِ وَالْإِخَاءِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، كَيْفَ شُرِكَ بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ، كَمَا شُرِكَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى؟ فَتِلْكَ طَرِيقَةُ النَّفْيِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْفَنَاءِ، تِلْكَ نَفْيٌ لِصِفَاتِ الْمَعْبُودِ، وَهَذِهِ فَنَاءٌ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ. وَأَمَّا نَفْيُ خَوَاصِّ الْعَبِيدِ وَفَنَاؤُهُمْ فَأَمْرٌ وَرَاءَ نَفْيِ أُولَئِكَ وَفَنَائِهِمْ، لِأَنَّ نَفْيَهُمْ لِصِفَاتِ النَّقَائِصِ، وَمَا يُضَادُّ أَوْصَافَ الْكَمَالِ، وَفِنَاءَهُمْ عَنْ إِرَادَةِ غَيْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، فَفَنَاؤُهُمْ عَنْ كُلِّ مَا يُخَالِفُ أَمْرَهُ وَمَحَابَّهُ، وَنَفْيُهُمْ لِكُلِّ مَا يُضَادُّ كَمَالَهُ وَجَلَالَهُ، وَمَنْ لَهُ فُرْقَانٌ فَهُوَ يَعْرِفُ هَذَا وَهَذَا، وَغَيْرُهُ لَا اعْتِبَارَ بِهِ. وَصَاحِبُ الْمَنَازِلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ شَدِيدَ الْإِثْبَاتِ لِلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، مُضَادًّا لِلْجَهْمِيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَهُ كِتَابُ الْفَارُوقِ اسْتَوْعَبَ فِيهِ أَحَادِيثَ الصِّفَاتَ وَآثَارَهَا، وَلَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، وَكِتَابُ ذَمِّ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ طَرِيقَتُهُ فِيهِ أَحْسَنُ طَرِيقَةٍ، وَكِتَابٌ لَطِيفٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ، يَسْلُكُ فِيهِ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَيُقَرِّرُهَا، وَلَهُ مَعَ الْجَهْمِيَّةِ الْمَقَامَاتُ الْمَشْهُودَةُ، وَسَعَوْا بِقَتْلِهِ إِلَى السُّلْطَانِ مِرَارًا عَدِيدَةً، وَاللَّهُ يَعْصِمُهُ مِنْهُمْ، وَرَمَوْهُ بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ، عَلَى عَادَةِ بَهْتِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، الَّذِينَ لَمْ يَتَحَيَّزُوا إِلَى مَقَالَةِ غَيْرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَلَكِنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَتْ طَرِيقَتُهُ فِي السُّلُوكِ مُضَادَّةً لِطَرِيقَتِهِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَدِّمُ عَلَى الْفَنَاءِ شَيْئًا، وَيَرَاهُ الْغَايَةَ الَّتِي يُشَمِّرُ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ، وَالْعِلْمَ الَّذِي يَؤُمُّهُ السَّائِرُونَ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ ذَوْقُ الْفَنَاءِ وَشُهُودُ الْجَمْعِ، وَعَظُمَ مَوْقِعُهُ عِنْدَهُ، وَاتَّسَعَتْ إِشَارَاتُهُ إِلَيْهِ، وَتَنَوَّعَتْ بِهِ الطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهِ، عِلْمًا وَحَالًا وَذَوْقًا، فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَعْطِيلًا مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، بَادِيًا عَلَى صَفَحَاتِ كَلَامِهِ. وِزَانَ تَعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ لِمَا اقْتَضَتْهُ أُصُولُهُمْ مِنْ نَفْيِ الصِّفَاتِ.

فصل توبة الأوساط

وَلَمَّا اجْتَمَعَ التَّعْطِيلَانِ لِمَنِ اجَتَمَعَا لَهُ - مِنَ السَّالِكِينَ - تَوَلَّدَ مِنْهُمَا الْقَوْلُ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، الْمُتَضَمِّنُ لِإِنْكَارِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ، وَعُبُودِيَّتِهِ، وَعَصَمَ اللَّهُ أَبَا إِسْمَاعِيلَ بِاعْتِصَامِهِ بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، فَأَشْرَفَ مِنْ عُقْبَةِ الْفَنَاءِ عَلَى وَادِي الِاتِّحَادِ بِأَرْضِ الْحُلُولِ، فَلَمْ يَسْلُكْ فِيهَا، وَلِوُقُوفِهِ عَلَى عُقْبَتِهِ، وَإِشْرَافِهِ عَلَى تِلْكَ الرُّبُوعِ الْخِرَابِ، وَدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى تِلْكَ الْعُقْبَةِ، أَقْسَمَتِ الِاتِّحَادِيَّةُ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُ لَمَعَهُمْ، وَمِنْهُمْ، وَحَاشَاهُ. وَتَوَلَّى شَرْحَ كِتَابِهِ أَشَدُّهُمْ فِي الِاتِّحَادِ طَرِيقَةً، وَأَعْظَمُهُمْ فِيهِ مُبَالَغَةً وَعِنَادًا لِأَهْلِ الْفَرْقِ الْعَفِيفِ التِّلِمْسَانِيُّ وَنَزَّلَ الْجَمْعَ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ عَلَى جَمْعِ الْوُجُودِ، وَهُوَ لَمْ يَرِدْ بِهِ - حَيْثُ ذَكَرَهُ - إِلَّا جَمْعُ الشُّهُودِ، وَلَكِنَّ الْأَلْفَاظَ مُجْمَلَةٌ، وَصَادَفَتْ قَلْبًا مَشْحُونًا بِالِاتِّحَادِ، وَلِسَانًا فَصِيحًا مُتَمَكِّنًا مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُرَادِ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] . [فَصْلٌ تَوْبَةُ الْأَوْسَاطِ] قَالَ: وَتَوْبَةُ الْأَوْسَاطِ مِنِ اسْتِقْلَالِ الْعَبْدِ الْمَعْصِيَةَ، وَهُوَ عَيْنُ الْجُرْأَةِ وَالْمُبَارَزَةِ، وَمَحْضُ التَّزَيُّنِ بِالْحَمِيَّةِ، وَالِاسْتِرْسَالِ لِلْقَطِيعَةِ. يُرِيدُ أَنَّ اسْتِقْلَالَ الْمَعْصِيَةِ ذَنْبٌ، كَمَا أَنَّ اسْتِكْثَارَ الطَّاعَةِ ذَنْبٌ، وَالْعَارِفُ مَنْ صَغُرَتْ حَسَنَاتُهُ فِي عَيْنِهِ، وَعَظُمَتْ ذُنُوبُهُ عِنْدَهُ، وَكُلَّمَا صَغُرَتِ الْحَسَنَاتُ فِي عَيْنِكَ كَبُرَتْ عِنْدَ اللَّهِ، وَكُلَّمَا كَبُرَتْ وَعَظُمَتْ فِي قَلْبِكَ قَلَّتْ وَصَغُرَتْ عِنْدَ اللَّهِ، وَسَيِّئَاتُكَ بِالْعَكْسِ، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَحَقَّهُ وَمَا يَنْبَغِي لِعَظَمَتِهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ تَلَاشَتْ حَسَنَاتُهُ عِنْدَهُ، وَصَغُرَتْ جِدًّا فِي عَيْنِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَنْجُو بِهَا مِنْ عَذَابِهِ، وَأَنَّ الَّذِي يَلِيقُ بِعِزَّتِهِ، وَيَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ أَمْرٌ آخَرُ، وَكُلَّمَا اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَقَلَّهَا وَاسْتَصْغَرَهَا، لِأَنَّهُ كُلَّمَا اسْتَكْثَرَ مِنْهَا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، فَشَاهَدَ قَلْبُهُ مِنْ عَظَمَتِهِ سُبْحَانَهُ وَجَلَالِهِ مَا يَسْتَصْغِرُ مَعَهُ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ، وَلَوْ كَانَتْ أَعْمَالَ الثَّقَلَيْنِ، وَإِذَا كَثُرَتْ فِي عَيْنِهِ وَعَظُمَتْ دَلَّ عَلَى

فصل توبة الخواص

أَنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنِ اللَّهِ، غَيْرُ عَارِفٍ بِهِ وَبِمَا يَنْبَغِي لَهُ، وَبِحَسَبِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَمَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ يَسْتَكْثِرُ ذُنُوبَهُ وَتَعْظُمُ فِي عَيْنِهِ، لِمُشَاهَدَتِهِ الْحَقَّ وَمُسْتَحَقَّهُ، وَتَقْصِيرِهِ فِي الْقِيَامِ بِهِ، وَإِيقَاعِهِ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ الْمُوَافِقِ لِمَا يُحِبُّهُ الرَّبُّ وَيَرْضَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. إِذَا عَرَفَ هَذَا، فَاسْتِقْلَالُ الْعَبْدِ الْمَعْصِيَةَ عَيْنُ الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ، وَجَهْلٌ بِقَدْرِ مَنْ عَصَاهُ وَبِقَدْرِ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُبَارَزَةً لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَصْغَرَ الْمَعْصِيَةَ وَاسْتَقَلَّهَا هَانَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا، وَخَفَّتْ عَلَى قَلْبِهِ، وَذَلِكَ نَوْعُ مُبَارَزَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَحْضُ التَّزَيُّنِ بِالْحَمِيَّةِ، أَيْ بِالْمُحَامَاةِ عَنِ النَّفْسِ، وَإِظْهَارِ بَرَاءَةِ سَاحَتِهَا، لَا سِيَّمَا إِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مُشَاهَدَةُ الْحَقِيقَةِ، وَالِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ، وَقَوْلُهُ: وَأَيُّ ذَنْبٍ لِي، وَالْمُحَرِّكُ لِي غَيْرِي، وَالْفَاعِلُ فِيَّ سِوَايَ؟ وَإِنَّمَا أَنَا كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيِ الْغَاسِلِ؟ وَمَا حِيلَةُ مَنْ لَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ، وَمَا قُدْرَةُ مَنْ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ؟ وَنَحْوُ هَذَا مِمَّا يَتَضَمَّنُ الْجُرْأَةَ عَلَى اللَّهِ وَمُبَارَزَتَهُ، وَالْمُحَامَاةَ عَنِ النَّفْسِ، وَاسْتِصْغَارَ ذُنُوبِهِ وَمَعَاصِيهِ إِذَا أَضَافَهَا إِلَى الْحُكْمِ، فَيَسْتَرْسِلُ إِذًا لِلْقَطِيعَةِ وَهِيَ الْمُقَاطَعَةُ لِرَبِّهِ وَالِانْقِطَاعُ عَنْهُ، فَيَصِيرُ خَصْمًا لِلَّهِ مَعَ نَفْسِهِ وَشَيْطَانِهِ، وَهَذَا حَالُ الْمُحْتَجِّينَ بِالْقَدَرِ عَلَى الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ مَعَ الشَّيَاطِينِ وَالنُّفُوسِ عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا غَايَةُ الْبُعْدِ وَالطَّرْدِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ اللَّهِ؟ . فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ كَانَتْ تَوْبَةُ الْعَامَّةِ مِنِ اسْتِكْثَارِ الطَّاعَاتِ؟ وَتَوْبَةُ مَنْ هُمْ أَخَصُّ مِنْهُمْ، وَأَعْلَى دَرَجَةً مِنِ اسْتِقْلَالِ الْمَعْصِيَةِ؟ وَهَلَّا كَانَ الْأَمْرُ بِالضِّدِّ؟ . قُلْتُ: الْأَوْسَاطُ لَمَّا كَانُوا أَشَدَّ طَلَبًا لِعُيُوبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، وَأَكْثَرَ تَفْتِيشًا عَلَيْهَا انْكَشَفَ لَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ مَا لَمْ يَنْكَشِفْ لِلْعَامَّةِ، وَحَرَصَ هَؤُلَاءِ عَلَى تَنْقِيَةِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْآفَاتِ، وَالتَّفْتِيشِ عَلَى عُيُوبِ الْأَعْمَالِ، فَاسْتِقْلَالُ السَّيِّئَاتِ آفَةُ هَؤُلَاءِ، وَقَاطِعُ طَرِيقِهِمْ، وَاسْتِكْثَارُ الْحَسَنَاتِ وَعِظَمُهَا فِي قُلُوبِ أُولَئِكَ آفَتُهُمْ، وَقَاطِعُ طَرِيقِهِمْ، فَذِكْرُ مَا هُوَ الْأَخَصُّ الْأَغْلَبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ. [فَصْلٌ تَوْبَةُ الْخَوَاصِّ] قَالَ: وَتَوْبَةُ الْخَوَاصِّ مِنْ تَضْيِيعِ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى دَرْكِ النَّقِيصَةِ، وَيُطْفِئُ نُورَ الْمُرَاقَبَةِ، وَيُكَدِّرُ عَيْنَ الصُّحْبَةِ.

لَيْسَ مُرَادُهُ بِتَضْيِيعِ الْوَقْتِ إِضَاعَتَهُ فِي الِاشْتِغَالِ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ لَغْوٍ، أَوِ الْإِعْرَاضِ عَنْ وَاجِبِهِ وَفَرْضِهِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ أَضَاعُوهُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْخَوَاصِّ، بَلْ هَذِهِ تَوْبَةُ الْعَامَّةِ بِعَيْنِهَا، وَالْوَقْتُ عِنْدَ الْقَوْمِ أَخَصُّ مِنْهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْوَقْتُ هُوَ الْحَقُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: اسْتِغْرَاقُ رَسْمِ الْعَبْدِ فِي وُجُودِ الْحَقِّ، يُشِيرُونَ إِلَى الْفَنَاءِ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ، وَالْغَالِبُ عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ أَنَّهُ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ بِالْمُرَاقَبَةِ، وَالْحُضُورِ وَالْفَنَاءِ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ، وَيَقُولُونَ: هُوَ صَاحِبُ وَقْتٍ مَعَ اللَّهِ، فَخَصُّوا الْوَقْتَ بِهَذَا الِاسْمِ تَخْصِيصًا لِلَّفْظِ الْعَامِّ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ، وَإِلَّا فَكُلُّ مَنْ هُوَ مَشْغُولٌ بِأَمْرٍ يُعْنَى بِهِ فَانٍ فِي شُهُودِهِ وَطَلَبِهِ، فَلَهُ وَقْتٌ مَعَهُ، بَلْ أَوْقَاتُهُ مُسْتَغْرَقَةٌ فِيهِ. فَتَوْبَةُ هَؤُلَاءِ مِنْ إِضَاعَةِ هَذَا الْوَقْتِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ وَقْتُ وَجْدٍ صَادِقٍ، وَحَالٍ صَحِيحَةٍ مَعَ اللَّهِ لَا يُكَدِّرُهَا الْأَغْيَارُ. وَرُبَّمَا يَمُرُّ بِكَ إِشْبَاعُ الْقَوْلِ فِي الْوَقْتِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الصَّحِيحِ مِنْهُ وَالْفَاسِدِ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالْقَصْدُ أَنَّ إِضَاعَةَ الْوَقْتِ الصَّحِيحِ يَدْعُو إِلَى دَرْكِ النَّقِيصَةِ، إِذْ صَاحِبُ حِفْظِهِ مُتَرَقٍّ عَلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، فَإِذَا أَضَاعَهُ لَمْ يَقِفْ مَوْضِعَهُ، بَلْ يَنْزِلُ إِلَى دَرَجَاتٍ مِنَ النَّقْصِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تَقَدُّمٍ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ وَلَا بُدَّ، فَالْعَبْدُ سَائِرٌ لَا وَاقِفٌ، فَإِمَّا إِلَى فَوْقٍ، وَإِمَّا إِلَى أَسْفَلَ، إِمَّا إِلَى أَمَامٍ وَإِمَّا إِلَى وَرَاءَ، وَلَيْسَ فِي الطَّبِيعَةِ وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ وُقُوفٌ الْبَتَّةَ، مَا هُوَ إِلَّا مَرَاحِلُ تُطْوَى أَسْرَعَ طَيٍّ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، فَمُسْرِعٌ وَمُبْطِئٌ، وَمُتَقَدِّمٌ وَمُتَأَخِّرٌ، وَلَيْسَ فِي الطَّرِيقِ وَاقِفٌ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يَتَخَالَفُونَ فِي جِهَةِ الْمَسِيرِ، وَفِي السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ - نَذِيرًا لِلْبَشَرِ - لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 35 - 37] وَلَمْ يَذْكُرْ وَاقِفًا، إِذْ لَا مَنْزِلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَلَا طَرِيقَ لِسَالِكٍ إِلَى غَيْرِ الدَّارَيْنِ الْبَتَّةَ، فَمَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَى هَذِهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ إِلَى تِلْكَ بِالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: كُلُّ مُجِدٍّ فِي طَلَبِ شَيْءٍ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ وَقْفَةٌ وَفُتُورٌ، ثُمَّ يَنْهَضَ إِلَى طَلَبِهِ. قُلْتُ: لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْوَقْفَةِ لَهُ حَالَانِ: إِمَّا أَنْ يَقِفَ لِيُجِمَّ نَفْسَهُ، وَيُعِدَّهَا لِلسَّيْرِ، فَهَذَا وَقْفَتُهُ سَيْرٌ، وَلَا تَضُرُّهُ الْوَقْفَةُ، فَإِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ.

فصل مقام التوبة

وَإِمَّا أَنْ يَقِفَ لِدَاعٍ دَعَاهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَجَاذِبٍ جَذَبَهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَإِنْ أَجَابَهُ أَخَّرَهُ وَلَا بُدَّ، فَإِنْ تَدَارَكَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى سَبْقِ الرَّكْبِ لَهُ وَعَلَى تَأَخُّرِهِ، نَهَضَ نَهْضَةَ الْغَضْبَانِ الْآسِفِ عَلَى الِانْقِطَاعِ، وَوَثَبَ وَجَمَزَ وَاشْتَدَّ سَعْيًا لِيَلْحَقَ الرَّكْبَ، وَإِنِ اسْتَمَرَّ مَعَ دَاعِي التَّأَخُّرِ، وَأَصْغَى إِلَيْهِ لَمْ يَرْضَ بِرَدِّهِ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى مِنَ الْغَفْلَةِ، وَإِجَابَةِ دَاعِي الْهَوَى، حَتَّى يَرُدَّهُ إِلَى أَسْوَأَ مِنْهَا وَأَنْزَلَ دَرَكًا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّكْسَةِ الشَّدِيدَةِ عُقَيْبَ الْإِبْلَالِ مِنَ الْمَرَضِ، فَإِنَّهَا أَخْطَرُ مِنْهُ وَأَصْعَبُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنْ تَدَارَكَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا الْعَبْدَ بِجَذْبَةٍ مِنْهُ مِنْ يَدِ عَدُوِّهِ وَتَخْلِيصُهُ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي تَأَخُّرٍ إِلَى الْمَمَاتِ، رَاجِعٌ الْقَهْقَرَى، نَاكِصٌ عَلَى عَقِبَيْهِ، أَوْ مُولٍ ظَهْرَهُ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: وَيُطْفِئُ نُورَ الْمُرَاقَبَةِ. يَعْنِي أَنَّ الْمُرَاقَبَةَ تُعْطِي نُورًا كَاشِفًا لِحَقَائِقِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَإِضَاعَةَ الْوَقْتِ تُغَطِّي ذَلِكَ النُّورَ، وَتُكَدِّرُ عَيْنَ الصُّحْبَةِ مَعَ اللَّهِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْوَقْتِ مَعَ صُحْبَةِ اللَّهِ، وَلَهُ مَعَ اللَّهِ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ، بِحَسَبِ حِفْظِهِ وَقْتَهُ مَعَ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ، فَإِذَا أَضَاعَ وَقْتَهُ كَدَّرَ عَيْنَ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَتَعَرَّضَ لِقَطْعِ هَذِهِ الصُّحْبَةِ، فَلَا شَيْءَ أَضَرُّ عَلَى الْعَارِفِ بِاللَّهِ مِنْ إِضَاعَةِ وَقْتِهِ مَعَ اللَّهِ، وَيُخْشَى عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ بِالرُّجُوعِ أَنْ تَسْتَمِرَّ الْإِضَاعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَتَكُونَ حَسْرَتُهُ وَنَدَامَتُهُ أَعْظَمَ مِنْ حَسْرَةِ غَيْرِهِ وَنَدَامَتِهِ، وَحِجَابُهُ عَنِ اللَّهِ أَشَدَّ مِنْ حِجَابِ مَنْ سِوَاهُ، وَيَكُونَ حَالُهُ شَبِيهًا بِحَالِ قَوْمٍ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ، حَتَّى إِذَا عَايَنُوهَا وَشَاهَدُوا مَا فِيهَا، صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ عَنْهَا إِلَى النَّارِ، فَإِذَنْ تَوْبَةُ الْخَوَاصِّ تَكُونُ مِنْ تَضْيِيعِ أَوْقَاتِهِمْ مَعَ اللَّهِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ. [فَصْلٌ مَقَامُ التَّوْبَةِ] فَصْلٌ وَفَوْقَ هَذَا مَقَامٌ آخَرُ مِنَ التَّوْبَةِ، أَرْفَعُ مِنْهُ وَأَخَصُّ، لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْخَوَاصُّ الْمُحِبُّونَ، الَّذِينَ يَسْتَقِلُّونَ فِي حَقِّ مَحْبُوبِهِمْ جَمِيعَ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، فَلَا يَرَوْنَهَا قَطُّ إِلَّا بِعَيْنِ النَّقْصِ وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهَا، وَيَرَوْنَ شَأْنَ مَحْبُوبِهِمْ أَعْظَمَ، وَقَدْرَهُ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَرْضَوْا نُفُوسَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ لَهُ، فَهُمْ أَشَدُّ شَيْءٍ احْتِقَارًا لَهَا، وَإِزْرَاءً عَلَيْهَا، وَإِذَا غَفَلُوا عَنْ مُرَادِ مَحْبُوبِهِمْ مِنْهُمْ، وَلَمْ يُوَفُّوهُ حَقَّهُ، تَابُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ تَوْبَةَ أَرْبَابِ الْكَبَائِرِ مِنْهَا، فَالتَّوْبَةُ لَا

تُفَارِقُهُمْ أَبَدًا، وَتَوْبَتُهُمْ لَوْنٌ وَتَوْبَةُ غَيْرِهِمْ لَوْنٌ {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] وَكُلَّمَا ازْدَادُوا حُبًّا لَهُ ازْدَادُوا مَعْرِفَةً بِحَقِّهِ، وَشُهُودًا لِتَقْصِيرِهِمْ، فَعَظُمَتْ لِذَلِكَ تَوْبَتُهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ خَوْفُهُمْ أَشَدَّ، وَإِزْرَاؤُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمَ، وَمَا يَتُوبُ مِنْهُ هَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ مِنْ كِبَارِ حَسَنَاتِ غَيْرِهِمْ. وَبِالْجُمْلَةِ فَتَوْبَةُ الْمُحِبِّينَ الصَّادِقِينَ الْعَارِفِينَ بِرَبِّهِمْ وَبِحَقِّهِ هِيَ التَّوْبَةُ، وَسِوَاهُمْ مَحْجُوبٌ عَنْهَا، وَفَوْقَ هَذِهِ تَوْبَةٌ أُخْرَى، الْأَوْلَى بِنَا الْإِضْرَابُ عَنْهَا صَفْحًا. فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَلَا يَتِمُّ مَقَامُ التَّوْبَةِ إِلَّا بِالِانْتِهَاءِ إِلَى التَّوْبَةِ مِمَّا دُونَ الْحَقِّ، ثُمَّ رُؤْيَةُ عِلَّةِ التَّوْبَةِ، ثُمَّ التَّوْبَةُ مِنْ رُؤْيَةِ تِلْكَ الْعِلَّةِ. التَّوْبَةُ مِمَّا دُونَ اللَّهِ أَنْ يَخْرُجَ الْعَبْدُ بِقَلْبِهِ عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِأَمْرِهِ وَبِاسْتِعَانَتِهِ، فَيَكُونَ كُلُّهُ لَهُ وَبِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَصِحُّ إِلَّا لِمَنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ سُلْطَانُ الْمَحَبَّةِ، فَامْتَلَأَ قَلْبُهُ مِنَ اللَّهِ مَحَبَّةً لَهُ وَإِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا، وَذُلًّا وَخُضُوعًا وَانْكِسَارًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَافْتِقَارًا إِلَيْهِ. فَإِذَا صَحَّ لَهُ ذَلِكَ بَقِيَتْ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ بَقِيَّةٌ أُخْرَى، هِيَ عِلَّةٌ فِي تَوْبَتِهِ، وَهِيَ شُعُورُهُ بِهَا، وَرُؤْيَتُهُ لَهَا، وَعَدَمُ فَنَائِهِ عَنْهَا، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِهِ وَحَالِهِ ذَنْبٌ، فَيَتُوبُ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ. فَهَاهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: تَوْبَتُهُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ، وَرُؤْيَتِهِ هَذِهِ التَّوْبَةَ، وَهِيَ عِلَّتُهَا، وَتَوْبَتُهُ مِنْ رُؤْيَةِ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْقَوْمِ الْغَايَةُ الَّتِي لَا شَيْءَ بَعْدَهَا، وَالنِّهَايَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا لِخَاصَّةِ الْخَاصَّةِ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ رُؤْيَةَ الْعَبْدِ فِعْلَهُ، وَاحْتِجَابَهُ بِهِ عَنْ رَبِّهِ، وَمُشَاهَدَتَهُ لَهُ عِلَّةٌ فِي طَرِيقِهِ مُوجِبَةٌ لِلتَّوْبَةِ. وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ لَهُ وَاقِعًا بِمِنَّةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ، وَحَوْلِهِ وَقَوَّتِهِ وَإِعَانَتِهِ فَهَذَا أَكْمَلُ مِنْ غَيْبَتِهِ عَنْهُ، وَهُوَ أَكْمَلُ مِنَ الْمَقَامِ الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ، وَأَتَمُّ عُبُودِيَّةً، وَأَدْعَى لِلْمَحَبَّةِ وَشُهُودِ الْمِنَّةِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ شُهُودُ الْمِنَّةِ عَلَى شَيْءٍ لَا شُعُورَ لِلشَّاهِدِ بِهِ الْبَتَّةَ.

وَالَّذِي سَاقَهُمْ إِلَى ذَلِكَ سُلُوكُ وَادِي الْفَنَاءِ فِي الشُّهُودِ، فَلَا يَشْهَدُ مَعَ الْحَقِّ سَبَبًا، وَلَا وَسِيلَةً وَلَا رَسْمًا الْبَتَّةَ. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَوْقَ هَذَا الْمَقَامِ، وَأَنَّ السَّالِكَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَيَجِدُ لَهُ حَلَاوَةً وَوَجْدًا وَلَذَّةً لَا يَجِدُهَا لِغَيْرِهِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ أَرْبَابُهُ وَالْمُشَمِّرُونَ إِلَيْهِ بِأَمْرٍ وَرَاءَهُ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْكَمَالُ، وَهُوَ أَكْمَلُ مِنْ حَالِ مَنْ شَهِدَ أَفْعَالَهُ وَرَآهَا، وَرَأَى تَفَاصِيلَهَا مُشَاهِدًا لَهَا، صَادِرَةً عَنْهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَعُونَتِهِ، فَشَهِدَ عُبُودِيَّتَهُ مَعَ شُهُودِ مَعْبُودِهِ، فَكِلَاهُمَا نَقْصٌ، وَالْكَمَالُ: أَنْ تَشْهَدَ الْعُبُودِيَّةَ حَاصِلَةً بِمِنَّةِ الْمَعْبُودِ وَفَضْلِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَيَجْتَمِعَ لَكَ الشُّهُودَانِ، فَإِنْ غِبْتَ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ فَالْمَقَامُ مَقَامُ تَوْبَةٍ، وَهَلْ فِي الْغَيْبَةِ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَّا هَضْمٌ لَهَا؟ . وَالْوَاجِبُ: أَنْ يَقَعَ التَّحَاكُمُ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِلَى حَقَائِقِ الْإِيمَانِ دُونَ الذَّوْقِ، فَإِنَّنَا لَا نُنْكِرُ ذَوْقَ هَذِهِ الْحَالِ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ كَوْنَهَا أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهَا، فَأَيْنَ الْإِشَارَةُ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِي السُّنَّةِ، أَوْ فِي كَلَامِ سَادَاتِ الْعَارِفِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ إِلَى هَذَا الْفَنَاءِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْكَمَالُ، وَأَنَّ رُؤْيَةَ الْعَبْدِ لِفِعْلِهِ بِاللَّهِ وَحَوْلِهِ وَفَضْلِهِ وَشُهُودَهُ لَهُ كَذَلِكَ عِلَّةٌ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا؟ . وَهَذَا الْقَدْرُ مِمَّا يَصْعُبُ إِنْكَارُهُ عَلَى الْقَوْمِ جِدًّا، وَيَرْمُونَ مُنْكِرَهُ بِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ مِنْ أَهْلِ الْفَرْقِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ، وَلَوْ وَصَلَ إِلَيْهِ لَمَا أَنْكَرَهُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حُجَّةٌ لِتَصْحِيحِ قَوْلِهِمْ، وَلَا جَوَابُ الْمُطَالَبَةِ، فَقَدْ سَأَلَكَ هَذَا الْمَحْجُوبُ عَنْ مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ لَهَا. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّهُ يَرَاكُمْ مَحْجُوبِينَ عَنْ حَالٍ أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ، وَمَقَامٍ أَرْفَعَ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ الْفَنَاءِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي شُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ، وَإِسْقَاطِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالْحِكَمِ وَالْوَسَائِطِ كَثِيرُ عِلْمٍ، وَلَا مَعْرِفَةٌ وَلَا عُبُودِيَّةٌ، وَهَلِ الْمَعْرِفَةُ كُلُّ الْمَعْرِفَةِ، وَالْعُبُودِيَّةُ إِلَّا شُهُودُ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ؟ وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مَمْلُوءٌ مِنْ دُعَاءِ الْعِبَادِ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي الْآيَاتِ، وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَنَظَرِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ وَتَفَاصِيلِ أَحْوَالِهِ، وَأَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ نَظَرُهُ فِيمَا قَدَّمَ لِغَدِهِ، وَمُطَالَعَتُهُ لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ، وَتَذَكُّرُ ذَلِكَ وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ، وَحَمْدُ اللَّهِ وَشُكْرُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ مَعَ الْفَنَاءِ حَتَّى عَنْ رُؤْيَةِ الرُّؤْيَةِ، وَشُهُودِ الشُّهُودِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ الْبَتَّةَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا جَعَلْتُمْ رُؤْيَتَهُ لِتَوْبَتِهِ عِلَّةً يَتُوبُ مِنْهَا، فَإِنَّ رُؤْيَتَهُ لِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ أَيْضًا عِلَّةٌ تُوجِبُ عَلَيْهِ تَوْبَةً، وَهَلُمَّ جَرَّا، فَلَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ إِلَّا بِسُقُوطِ

التَّمْيِيزِ جُمْلَةً، وَالسُّكْرِ وَالطَّمْسِ الْمُنَافِي لِلْعُبُودِيَّةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِلْعُبُودِيَّةِ. فَتَأَمَّلِ الْآنَ تَفَاصِيلَ عُبُودِيَّةِ الصَّلَاةِ، كَيْفَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِشُهُودِ فِعْلِكَ الَّذِي مَتَى غِبْتَ عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِي الْعُبُودِيَّةِ. فَإِذَا قَالَ الْمُصَلِّي: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، فَعُبُودِيَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَشْهَدَ وَجْهَهُ، وَهُوَ قَصْدُهُ وَإِرَادَتُهُ، وَأَنْ يَشْهَدَ حَقِيقَتَهُ، وَهِيَ إِقْبَالُهُ عَلَى اللَّهِ. ثُمَّ إِذَا قَالَ: إِنَّ صِلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَعُبُودِيَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَشْهَدَ الصَّلَاةَ وَالنُّسُكَ الْمُضَافَيْنِ إِلَيْهِ لِلَّهِ، وَلَوْ غَابَ عَنْهُمَا كَانَ قَدْ أَضَافَ إِلَى اللَّهِ بِلِسَانِهِ مَا هُوَ غَائِبٌ عَنِ اسْتِحْضَارِهِ بِقَلْبِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا أَكْمَلَ وَأَعْلَى مِنْ حَالِ مَنِ اسْتَحْضَرَ فِعْلَهُ وَعُبُودِيَّتَهُ، وَأَضَافَهُمَا إِلَى اللَّهِ، وَشَهِدَ مَعَ ذَلِكَ كَوْنَهُمَا بِهِ؟ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حَالِ الْمُسْتَغْرِقِ الْفَانِي الْمُصْطَلِمِ، الَّذِي قَدْ غَابَ بِمَعْبُودِهِ عَنْ حَقِّهِ، وَقَدْ أُخِذَ مِنْهُ وَغُيِّبَ عَنْهُ؟ . نَعَمْ غَايَةُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا، أَمَّا أَنْ يَكُونَ مَقَامُهُ أَعْلَى مَقَامٍ وَأَجَلَّهُ فَكَلَّا. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ فِي قِرَاءَتِهِ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " فَعُبُودِيَّةُ هَذَا الْقَوْلِ فَهْمُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَاسْتِحْضَارُهُمَا، وَتَخْصِيصُهُمَا بِاللَّهِ، وَنَفْيُهُمَا عَنْ غَيْرِهِ، فَهَذَا أَكْمَلُ مِنْ قَوْلِ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ فِي رُكُوعِهِ: اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسَلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي، وَمَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمِي فَكَيْفَ يُؤَدِّي عُبُودِيَّةَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ غَائِبٌ عَنْ فِعْلِهِ، مُسْتَغْرِقٌ فِي فَنَائِهِ؟ وَهَلْ يَبْقَى غَيْرُ أَصْوَاتٍ جَارِيَةٍ عَلَى لِسَانِهِ؟ وَلَوْلَا الْعُذْرُ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ عُبُودِيَّةً. نَعَمْ، رُؤْيَةُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَهَا، وَالِاحْتِجَابُ بِهَا عَنِ الْمُنْعِمِ بِهَا الْمُوَفِّقِ لَهَا، الْمَانِّ بِهَا مِنْ أَعْظَمِ الْعِلَلِ الْقَوَاطِعِ، قَالَ تَعَالَى {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] فَالْعَارِفُ غَائِبٌ بِمِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي طَاعَتِهِ، مَعَ شُهُودِهَا وَرُؤْيَتِهَا، وَالْجَاهِلُ غَائِبٌ بِهَا عَنْ رُؤْيَةِ مِنَّةِ اللَّهِ، وَالْفَانِي غَائِبٌ بِاسْتِغْرَاقِهِ فِي الْفَنَاءِ وَشُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ عَنْ شُهُودِهَا، وَهُوَ نَاقِصٌ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدَرًا.

فصل التوبة من الذنب فرض

[فَصْلٌ التَّوْبَةُ مِنَ الذَّنْبِ فَرْضٌ] وَنَذْكُرُ نُبَذًا تَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ التَّوْبَةِ، تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا، وَلَا يَلِيقُ بِالْعَبْدِ جَهْلُهَا. مِنْهَا: أَنَّ الْمُبَادَرَةَ إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ فَرْضٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا، فَمَتَى أَخَّرَهَا عَصَى بِالتَّأْخِيرِ، فَإِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ بَقِيَ عَلَيْهِ تَوْبَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ تَوْبَتُهُ مِنْ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ، وَقَلَّ أَنْ تَخْطُرَ هَذِهِ بِبَالِ التَّائِبِ، بَلْ عِنْدَهُ أَنَّهُ إِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ، وَلَا يُنْجِي مِنْ هَذَا إِلَّا تَوْبَةٌ عَامَّةٌ، مِمَّا يَعْلَمُ مِنْ ذُنُوبِهِ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُ، فَإِنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْعَبْدُ مِنْ ذُنُوبِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَعْلَمُهُ، وَلَا يَنْفَعُهُ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا جَهْلُهُ إِذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ عَاصٍ بِتَرْكِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَالْمَعْصِيَةُ فِي حَقِّهِ أَشَدُّ، وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَيْفَ الْخَلَاصُ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ» . فَهَذَا طَلَبُ الِاسْتِغْفَارِ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ أَنَّهُ ذَنْبٌ، وَلَا يَعْلَمُهُ الْعَبْدُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو فِي صِلَاتِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَأِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ إِلَهِيٌّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، خَطَأَهُ وَعَمْدَهُ، سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ» . فَهَذَا التَّعْمِيمُ وَهَذَا الشُّمُولُ لِتَأْتِيَ التَّوْبَةُ عَلَى مَا عَلِمَهُ الْعَبْدُ مِنْ ذُنُوبِهِ وَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ.

التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره

[التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ] فَصْلٌ وَهَلْ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْخِلَافِ مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى صِحَّتِهَا، كَالنَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ. وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ، وَلَهَا غَوْرٌ، وَيَحْتَاجُ الْجَزْمُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِلَى دَلِيلٍ يَحْصُلُ بِهِ الْجَزْمُ، وَالَّذِينَ صَحَّحُوهَا احْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ الْإِسْلَامُ - وَهُوَ تَوْبَةٌ مِنَ الْكُفْرِ - مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، فَهَكَذَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى آخَرَ. وَأَجَابَ الْآخَرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَهُ شَأْنٌ لَيْسَ لِغَيْرِهِ، لِقُوَّتِهِ وَنَفَاذِهِ، وَحُصُولِهِ - تَبَعًا بِإِسْلَامِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا - لِلطِّفْلِ، وَكَذَلِكَ بِانْقِطَاعِ نَسَبِ الطِّفْلِ مِنْ أَبِيهِ، أَوْ بِمَوْتِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ بِكَوْنِ سَابِيهِ وَمَالِكِهِ مُسْلِمًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِقُوَّتِهِ، وَتَشَوُّفِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ، حَتَّى حَصَلَ بِغَيْرِ الْقَصْدِ بَلْ بِالتَّبَعِيَّةِ. وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَأَيُّ رُجُوعٍ لِمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ وَاحِدٍ، وَأَصَرَّ عَلَى أَلْفِ ذَنْبٍ؟ . قَالُوا: وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا لَمْ يُؤَاخِذِ التَّائِبَ، لِأَنَّهُ قَدْ رَجَعَ إِلَى طَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَتَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَالْمُصِرُّ عَلَى مِثْلِ مَا تَابَ مِنْهُ - أَوْ أَعْظَمَ - لَمْ يُرَاجِعِ الطَّاعَةَ وَلَمْ يَتُبْ تَوْبَةً نَصُوحًا. قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّائِبَ إِذَا تَابَ إِلَى اللَّهِ، فَقَدْ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْعَاصِي كَالْكَافِرِ إِذَا

أَسْلَمَ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْكَافِرِ وَأَمَّا إِذَا أَصَرَّ عَلَى غَيْرِ الذَّنْبِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ فَاسْمُ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفَارِقُهُ، فَلَا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ. وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ، أَنَّ التَّوْبَةَ هَلْ تَتَبَعَّضُ، كَالْمَعْصِيَةِ، فَيَكُونُ تَائِبًا مَنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، كَالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؟ وَالرَّاجِحُ تَبَعُّضُهَا، فَإِنَّهَا كَمَا تَتَفَاضَلُ فِي كَيْفِيَّتِهَا كَذَلِكَ تَفَاضَلُ فِي كَمِّيَّتِهَا، وَلَوْ أَتَى الْعَبْدُ بِفَرْضٍ وَتَرَكَ فَرْضًا آخَرَ لَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى مَا تَرَكَهُ دُونَ مَا فَعَلَهُ، فَهَكَذَا إِذَا تَابَ مِنْ ذَنْبٍ وَأَصَرَّ عَلَى آخَرَ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ فَرْضٌ مِنَ الذَّنْبَيْنِ، فَقَدْ أَدَّى أَحَدَ الْفَرْضَيْنِ وَتَرَكَ الْآخَرَ، فَلَا يَكُونُ مَا تَرَكَ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ مَا فَعَلَ، كَمَنْ تَرَكَ الْحَجَّ وَأَتَى بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ. وَالْآخَرُونَ يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ التَّوْبَةَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، مَعْنَاهُ الْإِقْلَاعُ عَمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، وَالنَّدَمُ عَلَيْهِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى طَاعَتِهِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بِكَمَالِهَا لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً، إِذْ هِيَ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ، فَالْإِتْيَانُ بِبَعْضِهَا وَتَرْكُ بَعْضِ وَاجِبَاتِهَا كَالْإِتْيَانِ بِبَعْضِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ وَتَرْكِ بَعْضِهَا، فَإِنَّ ارْتِبَاطَ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ أَشَدُّ مِنَ ارْتِبَاطِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَنَوِّعَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُونَ: كُلُّ ذَنْبٍ لَهُ تَوْبَةٌ تَخُصُّهُ، وَهِيَ فَرْضٌ مِنْهُ، لَا تَتَعَلَّقُ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْآخَرِ، كَمَا لَا يَتَعَلَّقُ أَحَدُ الذَّنْبَيْنِ بِالْآخَرِ. وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ، مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى آخَرَ مِنْ نَوْعِهِ، وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ، مَعَ مُبَاشَرَةِ آخَرَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ، وَلَا هُوَ مِنْ نَوْعِهِ فَتَصِحُّ، كَمَا إِذَا تَابَ مِنَ الرِّبَا، وَلَمْ يَتُبْ مَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ مَثَلًا، فَإِنَّ تَوْبَتَهُ مِنَ الرِّبَا صَحِيحَةٌ، وَأَمَّا إِذَا تَابَ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ، وَلَمْ يَتُبْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ تَابَ مِنْ تَنَاوُلِ الْحَشِيشَةِ وَأَصَرَّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ بِالْعَكْسِ فَهَذَا لَا تَصِحُّ تَوْبَتَهُ، وَهُوَ كَمَنْ يَتُوبُ عَنِ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الزِّنَا بِغَيْرِهَا غَيْرَ تَائِبٍ مِنْهَا، أَوْ تَابَ مِنْ شُرْبِ عَصِيرِ الْعِنَبِ الْمُسْكِرِ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى شُرْبِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ، فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَتُبْ مِنَ الذَّنْبِ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ نَوْعٍ مِنْهُ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ، بِخِلَافِ مَنْ عَدَلَ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَى مَعْصِيَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا فِي الْجِنْسِ، إِمَّا لِأَنَّ وِزْرَهَا أَخَفُّ، وَإِمَّا لِغَلَبَةِ دَوَاعِي الطَّبْعِ إِلَيْهَا، وَقَهْرِ سُلْطَانِ شَهْوَتِهَا لَهُ، وَإِمَّا لِأَنَّ أَسْبَابَهَا حَاضِرَةٌ لَدَيْهِ عَتِيدَةٌ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِدْعَائِهَا، بِخِلَافِ مَعْصِيَةٍ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِدْعَاءِ أَسْبَابِهَا، وَإِمَّا لِاسْتِحْوَاذِ قُرَنَائِهِ وَخُلَطَائِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَدَعُونَهُ يَتُوبُ مِنْهَا، وَلَهُ بَيْنَهُمْ حَظْوَةٌ بِهَا وَجَاهٌ، فَلَا تُطَاوِعُهُ نَفْسُهُ عَلَى

فصل أحكام التوبة

إِفْسَادِ جَاهِهِ بِالتَّوْبَةِ، كَمَا قَالَ أَبُو نُوَاسٍ لِ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ وَقَدْ لَامَهُ عَلَى تَهَتُّكِهِ فِي الْمَعَاصِي: أَتُرَانِي يَا عَتَاهِيُّ ... تَارِكًا تِلْكَ الْمَلَاهِي أَتُرَانِي مُفْسِدًا بِالنُّ ... سْكِ عِنْدَ الْقَوْمِ جَاهِي فَمِثْلُ هَذَا إِذَا تَابَ مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ، وَسَرِقَةِ أَمْوَالِ الْمَعْصُومِينَ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَلَمْ يَتُبْ مَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالْفَاحِشَةِ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ مِمَّا تَابَ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، وَبَقِيَ مُؤَاخَذًا بِمَا هُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أَحْكَامُ التَّوْبَةِ] فَصْلٌ وَمِنْ أَحْكَامِ التَّوْبَةِ أَنَّهُ: هَلْ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ أَبَدًا، أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ؟ فَشَرَطَ بَعْضُ النَّاسِ عَدَمَ مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ، وَقَالَ: مَتَى عَادَ إِلَيْهِ تَبَيَّنَّا أَنَّ التَّوْبَةَ كَانَتْ بَاطِلَةً غَيْرَ صَحِيحَةٍ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا صِحَّةُ التَّوْبَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ، وَالْعَزْمِ الْجَازِمِ عَلَى تَرْكِ مُعَاوَدَتِهِ. فَإِنْ كَانَتْ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ فَهَلْ يُشْتَرَطُ تَحَلُّلُهُ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ - سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فَإِذَا عَاوَدَهُ، مَعَ عَزْمِهِ حَالَ التَّوْبَةِ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَهُ، صَارَ كَمَنِ ابْتَدَأَ الْمَعْصِيَةَ، وَلَمْ تَبْطُلْ تَوْبَتُهُ الْمُتَقَدِّمَةُ. وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةُ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ ثُمَّ عَاوَدَهُ، فَهَلْ يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُ الذَّنْبِ الَّذِي قَدْ تَابَ مِنْهُ ثُمَّ عَاوَدَهُ، بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ

إِنْ مَاتَ مُصِرًّا؟ أَوْ إِنَّ ذَلِكَ قَدْ بَطَلَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُهُ، وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى هَذَا الْأَخِيرِ؟ وَفِي هَذَا الْأَصْلِ قَوْلَانِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُ الذَّنْبِ الْأَوَّلِ، لِفَسَادِ التَّوْبَةِ، وَبُطْلَانِهَا بِالْمُعَاوَدَةِ. قَالُوا: لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الذَّنْبِ بِمَنْزِلَةِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ هَدَمَ إِسْلَامُهُ مَا قَبْلَهُ مِنْ إِثْمِ الْكُفْرِ وَتَوَابِعِهِ، فَإِذَا ارْتَدَّ عَادَ إِلَيْهِ الْإِثْمُ الْأَوَّلُ مَعَ إِثْمِ الرِّدَّةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ» فَهَذَا حَالُ مَنْ أَسْلَمَ وَأَسَاءَ فِي إِسْلَامِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّدَّةَ مِنْ أَعْظَمِ الْإِسَاءَةِ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِذَا أُخِذَ بَعْدَهَا بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ، وَلَمْ يُسْقِطْهُ الْإِسْلَامُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَهُمَا، فَهَكَذَا التَّوْبَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ بَيْنَ الذَّنْبَيْنِ لَا تُسْقِطُ الْإِثْمَ السَّابِقَ، كَمَا لَا تَمْنَعُ الْإِثْمَ اللَّاحِقَ. قَالُوا: وَلِأَنَّ صِحَّةَ التَّوْبَةِ مَشْرُوطَةٌ بِاسْتِمْرَارِهَا، وَالْمُوَافَاةِ عَلَيْهَا، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ يُعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، كَمَا أَنَّ صِحَّةَ الْإِسْلَامِ مَشْرُوطَةٌ بِاسْتِمْرَارِهِ وَالْمُوَافَاةِ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ وُجُوبًا مُضَيَّقًا مَدَى الْعُمْرِ، فَوَقْتُهَا مُدَّةُ الْعُمْرِ، إِذْ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِصْحَابُ حُكْمِهَا فِي مُدَّةِ عُمْرِهِ، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُمْرِ كَالْإِمْسَاكِ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ فِي صَوْمِ الْيَوْمِ، فَإِذَا أَمْسَكَ مُعْظَمَ النَّهَارِ، ثُمَّ نَقَضَ إِمْسَاكَهُ بِالْمُفْطِرَاتِ بَطَلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صِيَامِهِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُمْسِكْ شَيْئًا مِنْ يَوْمِهِ. قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ

أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا» وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَمَلُ الثَّانِي كُفْرًا مُوجِبًا لِلْخُلُودِ، أَوْ مَعْصِيَةً مُوجِبَةً لِلدُّخُولِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ " فَيَرْتَدُّ فَيُفَارِقُ الْإِسْلَامَ " وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِعَمَلٍ يُوجِبُ لَهُ النَّارَ، وَفِي بَعْضِ السُّنَنِ: «إِنَّ الْعَبْدَ لِيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ جَارَ فِي وَصِيَّتِهِ فَدَخَلَ النَّارَ» فَالْخَاتِمَةُ السَّيِّئَةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ خَاتِمَةً بِكُفْرٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِحْبَاطُ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْقُرْآنُ وَالسَّنَةُ قَدْ دَلَّا عَلَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ هِيَ الَّتِي تُحْبِطُ السَّيِّئَاتِ لَا الْعَكْسِ، كَمَا قَالَ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» . قِيلَ: وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ قَدْ دَلَّا عَلَى الْمُوَازَنَةِ، وَإِحْبَاطِ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ فَلَا يُضْرَبُ كِتَابُ اللَّهِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَلَا يُرَدُّ الْقُرْآنُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوهُ - فِعْلَ أَهْلِ الْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ - بَلْ نَقْبَلُ الْحَقَّ مِمَّنْ قَالَهُ، وَنَرُدُّ الْبَاطِلَ عَلَى مَنْ قَالَهُ.

فَأَمَّا الْمُوَازَنَةُ: فَمَذْكُورَةٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْقَارِعَةِ، وَالْحَاقَّةِ وَأَمَّا الْإِحْبَاطُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَتَفْسِيرُ الْإِبْطَالِ هَاهُنَا بِالرِّدَّةِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ الْمُبْطِلَاتِ، لَا لِأَنَّ الْمُبْطِلَ يَنْحَصِرُ فِيهَا، وَقَالَ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] فَهَذَانِ سَبَبَانِ عَرَضَا بَعْدُ لِلصَّدَقَةِ فَأَبْطَلَاهَا، شَبَّهَ سُبْحَانَهُ بُطْلَانَهَا - بِالْمَنِّ وَالْأَذَى - بِحَالِ الْمُتَصَدِّقِ رِيَاءً فِي بُطْلَانِ صَدَقَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَالَ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، لِأُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - وَقَدْ بَاعَ بَيْعَةَ الْعِينَةِ - أَخْبِرِي زَيْدًا: أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنْ يَتُوبَ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةٍ، فَقَالَ: يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَيَسْتَدِينُ وَيَتَزَوَّجُ، لَا يَقَعُ فِي مَحْظُورٍ فَيَحْبَطُ عَمَلُهُ.

فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ - أَنَّ مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا يُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ بِالْإِجْمَاعِ وَمِنْهَا مَا يُحْبِطُهَا بِالنَّصِّ - جَازَ أَنْ تُحْبِطَ سَيِّئَةُ الْمُعَاوَدَةِ حَسَنَةَ التَّوْبَةِ، فَتَصِيرَ التَّوْبَةُ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، فَيَلْتَقِيَ الْعَمَلَانِ وَلَا حَاجِزَ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونَ التَّأْثِيرُ لَهُمَا جَمِيعًا. قَالُوا: وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ، وَالسَّنَةُ، وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى الْمُوَازَنَةِ، وَفَائِدَتُهَا اعْتِبَارُ الرَّاجِحِ، فَيَكُونُ التَّأْثِيرُ وَالْعَمَلُ لَهُ دُونَ الْمَرْجُوحِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُحَاسَبُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ النَّارَ، وَمَنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 8 - 9] ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْمِيزَانَ يَخِفُّ بِمِثْقَالِ حَبَّةٍ أَوْ يَرْجَحُ، قَالَ: وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ. وَعَلَى هَذَا: فَهَلْ يُحْبِطُ الرَّاجِحُ الْمَرْجُوحَ، حَتَّى يَجْعَلَهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، أَوْ يُحْبِطُ مَا قَابَلَهُ بِالْمُوَازَنَةِ، وَيَبْقَى التَّأْثِيرُ لِلْقَدْرِ الزَّائِدِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْقَائِلِينَ بِالْمُوَازَنَةِ يَنْبَنِي عَلَيْهِمَا أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْحَسَنَاتُ أَرْجَحَ مِنَ السَّيِّئَاتِ بِوَاحِدَةٍ مَثَلًا، فَهَلْ يَدْفَعُ الرَّاجِحُ الْمَرْجُوحَ جُمْلَةً؟ فَيُثَابُ عَلَى الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا، أَوْ يُسْقَطُ مِنَ الْحَسَنَاتِ مَا قَابَلَ السَّيِّئَاتِ، فَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، فَيَبْقَى الْقَدْرُ الزَّائِدُ لَا مُقَابِلَ لَهُ، فَيُثَابُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ؟ . وَهَذَا الْأَصْلُ فِيهِ قَوْلَانِ لِأَصْحَابِ الْمُوَازَنَةِ. وَكَذَلِكَ إِذَا رَجَحَتِ السَّيِّئَاتُ بِوَاحِدَةٍ، هَلْ يُدْخَلُ النَّارَ بِتِلْكَ الْوَاحِدَةِ الَّتِي سَلِمَتْ عَنْ مُقَابِلٍ، أَوْ بِكُلِّ السَّيِّئَاتِ الَّتِي رَجَحَتْ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِ التَّعْلِيلِ وَالْحُكْمِ. وَأَمَّا عَلَى أُصُولِ الْجَبْرِيَّةِ، نُفَاةِ التَّعْلِيلِ وَالْحُكْمِ وَالْأَسْبَابِ وَاقْتِضَائِهَا لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَالْأَمْرُ مَرْدُودٌ عِنْدَهُمْ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُدْرَى عِنْدَهُمْ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ، بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُعَاقِبَ صَاحِبَ الْحَسَنَاتِ الرَّاجِحَةِ، وَيُثِيبَ صَاحِبَ السَّيِّئَاتِ الرَّاجِحَةِ، وَأَنْ يُدْخِلَ الرَّجُلَيْنِ النَّارَ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْعَمَلِ، وَأَحَدُهُمَا فِي الدَّرْكِ تَحْتَ الْآخَرِ، وَيَغْفِرُ لِزَيْدٍ وَيُعَاقِبُ عَمْرًا، مَعَ اسْتِوَائِهِمَا مِنْ جَمِيعِ

فصل الخلاف في اشتراط عدم العود إلى الذنب

الْوُجُوهِ، وَيُنْعِمُ مَنْ لَمْ يُطِعْهُ قَطُّ، وَيُعَذِّبُ مَنْ لَمْ يَعْصِهِ قَطُّ، فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ سَبَبٌ وَلَا حِكْمَةٌ، وَلَا عِلَّةٌ، وَلَا مُوَازَنَةٌ، وَلَا إِحْبَاطٌ، وَلَا تَدَافُعٌ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَالْخَوْفُ عَلَى الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ وَاحِدٌ، إِذْ مِنَ الْجَائِزِ تَعْذِيبُهُمَا، وَكُلُّ مَقْدُورٍ لَهُ فَجَائِزٌ عَلَيْهِ، لَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُهُ إِلَّا بِإِخْبَارِ الرَّسُولِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ لِمُطَابَقَةِ خَبَرِهِ لِعِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ وُقُوعِهِ. [فَصْلٌ الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى الذَّنْبِ] فَصْلٌ وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الْآخَرُ - وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُ الذَّنْبِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ بِنَقْضِ التَّوْبَةِ - بِأَنَّ ذَلِكَ الْإِثْمَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَعْمَلْهُ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، فَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْعَائِدُ إِثْمُ الْمُسْتَأْنَفِ لَا الْمَاضِي. قَالُوا: وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ الْعِصْمَةُ إِلَى الْمَمَاتِ، بَلْ إِذَا نَدِمَ وَأَقْلَعَ وَعَزَمَ عَلَى التَّرْكِ مُحِيَ عَنْهُ إِثْمُ الذَّنْبِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، فَإِذَا اسْتَأْنَفَهُ اسْتَأْنَفَ إِثْمَهُ. قَالُوا: فَلَيْسَ هَذَا كَالْكُفْرِ الَّذِي يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ، فَإِنَّ الْكُفْرَ لَهُ شَأْنٌ آخَرُ، وَلِهَذَا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ، وَمُعَاوَدَةُ الذَّنْبِ لَا تُحْبِطُ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ. قَالُوا: وَالتَّوْبَةُ مِنْ أَكْبَرِ الْحَسَنَاتِ، فَلَوْ أَبْطَلَتْهَا مُعَاوَدَةُ الذَّنْبِ لَأَبْطَلَتْ غَيْرَهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا، وَهُوَ يُشْبِهُ مَذْهَبَ الْخَوَارِجِ الْمُكَفِّرِينَ بِالذَّنَبِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ الْمُخَلِّدِينَ فِي النَّارِ بِالْكَبِيرَةِ الَّتِي تُقَدَّمُهَا الْأُلُوفُ مِنَ الْحَسَنَاتِ، فَإِنَّ الْفَرِيقَيْنِ مُتَّفِقَانِ عَلَى خُلُودِ أَرْبَابِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ، وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ كَفَّرُوهُمْ، وَالْمُعْتَزِلَةَ فَسَّقُوهُمْ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ بَاطِلٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، مُخَالِفٌ لِلْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَمُوجَبِ الْعَدْلِ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] .

قَالُوا: وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ» . قُلْتُ: وَهُوَ الَّذِي كُلَّمَا فُتِنَ بِالذَّنْبِ تَابَ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَتْ مُعَاوَدَتُهُ تُبْطِلُ تَوْبَتَهُ لَمَا كَانَ مَحْبُوبًا لِلرَّبِّ، وَلَكَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى مَقْتِهِ. قَالُوا: وَقَدْ عَلَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَبُولَ التَّوْبَةِ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ، دُونَ الْمُعَاوَدَةِ، فَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] وَالْإِصْرَارُ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى ارْتِكَابِ الذَّنْبِ مَتَى ظَفِرَ بِهِ، فَهَذَا الَّذِي يَمْنَعُ مَغْفِرَتَهُ. قَالُوا: وَأَمَّا اسْتِمْرَارُ التَّوْبَةِ فَشَرْطٌ فِي صِحَّةِ كَمَالِهَا وَنَفْعِهَا، لَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ مَا مَضَى مِنْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ، كَصِيَامِ الْيَوْمِ، وَعَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ تِلْكَ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ، لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً إِلَّا بِالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ أَرْكَانِهَا وَأَجْزَائِهَا، وَأَمَّا التَّوْبَةُ فَهِيَ عِبَادَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِ الذُّنُوبِ، فَكُلُّ ذَنْبٍ لَهُ تَوْبَةٌ تَخُصُّهُ، فَإِذَا أَتَى بِعِبَادَةٍ وَتَرَكَ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ مَا تَرَكَ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ مَا فَعَلَ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. بَلْ نَظِيرُ هَذَا أَنْ يَصُومَ مِنْ رَمَضَانَ وَيُفْطِرَ مِنْهُ بِلَا عُذْرٍ، فَهَلْ يَكُونُ مَا أَفْطَرَهُ مِنْهُ مُبْطِلًا لِأَجْرِ مَا صَامَهُ مِنْهُ؟ . بَلْ نَظِيرُ مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَصُمْ، أَوْ زَكَّى وَلَمْ يَحُجَّ. وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ حَسَنَةٌ، وَمُعَاوَدَةَ الذَّنْبِ سَيِّئَةٌ، فَلَا تُبْطِلُ مُعَاوَدَتُهُ هَذِهِ الْحَسَنَةَ، كَمَا لَا تُبْطِلُ مَا قَارَنَهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ. قَالُوا: وَهَذَا عَلَى أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَظْهَرُ، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَكُونُ فِيهِ وَلَايَةٌ لِلَّهِ وَعَدَاوَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَيَكُونُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ مَبْغُوضًا لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَيْضًا، بَلْ يَكُونُ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ، وَيَكُونُ إِلَى أَحَدِهِمَا أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى الْآخَرِ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 167] وَقَالَ

{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] أَثْبَتَ لَهُمُ الْإِيمَانَ بِهِ مَعَ مُقَارَنَةِ الشِّرْكِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ هَذَا الشِّرْكِ تَكْذِيبٌ لِرُسُلِهِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ تَصْدِيقٌ لِرُسُلِهِ، وَهُمْ مُرْتَكِبُونَ لِأَنْوَاعٍ مِنَ الشِّرْكِ لَا تُخْرِجُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَهَؤُلَاءِ مُسْتَحِقُّونَ لِلْوَعِيدِ أَعْظَمَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ أَرْبَابِ الْكَبَائِرِ. وَشِرْكُهُمْ قِسْمَانِ: شِرْكٌ خَفِيٌّ، وَشِرْكٌ جَلِيٌّ، فَالْخَفِيُّ قَدْ يُغْفَرُ، وَأَمَّا الْجَلِيُّ فَلَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. وَبِهَذَا الْأَصْلِ أَثْبَتَ أَهْلُ السُّنَّةِ دُخُولَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ ثُمَّ خُرُوجَهُمْ مِنْهَا وَدُخُولَهُمُ الْجَنَّةَ، لِمَا قَامَ بِهِمْ مِنَ السَّبَبَيْنِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمُعَاوِدُ الذَّنْبِ مَبْغُوضٌ لِلَّهِ مِنْ جِهَةِ مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ، مَحْبُوبٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ تَوْبَتِهِ وَحَسَنَاتِهِ السَّابِقَةِ، فَيُرَتِّبُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ أَثَرَهُ وَمُسَبِّبَهُ بِالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَلَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] . فَصْلٌ وَإِذَا اسْتَغْرَقَتْ سَيِّئَاتُهُ الْحَدِيثَاتُ حَسَنَاتِهِ الْقَدِيمَاتِ وَأَبْطَلَتْهَا، ثُمَّ تَابَ مِنْهَا تَوْبَةً نَصُوحًا خَالِصَةً عَادَتْ إِلَيْهِ حَسَنَاتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُسْتَأْنِفِ لَهَا، بَلْ يُقَالُ لَهُ: تُبْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ، فَالْحَسَنَاتُ الَّتِي فَعَلْتَهَا فِي الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْكَافِرُ فِي كُفْرِهِ مِنْ عَتَاقَةٍ، وَصَدَقَةٍ، وَصِلَةٍ، وَقَدْ قَالَ حَكِيمُ بْنُ خِزَامٍ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ عَتَاقَةً أَعْتَقْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَصَدَقَةً تَصَدَّقْتُ بِهَا، وَصِلَةً وَصَلْتُ بِهَا رَحِمِي، فَهَلْ لِي فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ: أَسَلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ» وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِسَاءَةَ الْمُتَخَلِّلَةَ بَيْنَ الطَّاعَتَيْنِ قَدِ ارْتَفَعَتْ بِالتَّوْبَةِ، وَصَارَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، فَتَلَاقَتِ الطَّاعَتَانِ وَاجْتَمَعَتَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَمِنْ أَحْكَامِهَا أَنَّ الْعَاصِيَ إِذَا حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسْبَابِ الْمَعْصِيَةِ، وَعَجَزَ عَنْهَا

بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ وُقُوعُهَا مِنْهُ، هَلْ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ؟ وَهَذَا كَالْكَاذِبِ وَالْقَاذِفِ، وَشَاهِدِ الزُّورِ إِذَا قُطِعَ لِسَانُهُ، وَالزَّانِي إِذَا جُبَّ، وَالسَّارِقِ إِذَا أُتِيَ عَلَى أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْمُزَوِّرِ إِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ، وَمَنْ وَصَلَ إِلَى حَدٍّ بَطَلَتْ مَعَهُ دَوَاعِيهِ إِلَى مَعْصِيَةٍ كَانَ يَرْتَكِبُهَا. فَفِي هَذَا قَوْلَانِ لِلنَّاسِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ، فَالتَّوْبَةُ مِنَ الْمُمْكِنِ، لَا مِنَ الْمُسْتَحِيلِ، وَلِهَذَا لَا تُتَصَوَّرُ التَّوْبَةُ مِنْ نَقْلِ الْجِبَالِ عَنْ أَمَاكِنِهَا، وَتَنْشِيفِ الْبِحَارِ، وَالطَّيَرَانِ إِلَى السَّمَاءِ، وَنَحْوِهِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ مُخَالَفَةُ دَاعِي النَّفْسِ، وَإِجَابَةُ دَاعِي الْحَقِّ، وَلَا دَاعِيَ لِلنَّفْسِ هُنَا، إِذْ يُعْلَمُ اسْتِحَالَةُ الْفِعْلِ مِنْهَا. قَالُوا: وَلِأَنَّ هَذَا كَالْمُكْرَهِ عَلَى التَّرْكِ، الْمَحْمُولِ عَلَيْهِ قَهْرًا، وَمِثْلُ هَذَا لَا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ. قَالُوا: وَمِنَ الْمُسْتَقِرِّ فِي فِطَرِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ أَنَّ تَوْبَةَ الْمَفَالِيسِ وَأَصْحَابِ الْجَوَائِحِ تَوْبَةٌ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَلَا يُحْمَدُونَ عَلَيْهَا، بَلْ يُسَمُّونَهَا تَوْبَةَ إِفْلَاسٍ، وَتَوْبَةَ جَائِحَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَرُحْتُ عَنْ تَوْبَةٍ سَائِلًا ... وَجَدْتُهَا تَوْبَةَ إِفْلَاسِ قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا أَنَّ النُّصُوصَ الْمُتَضَافِرَةَ الْمُتَظَاهِرَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ لَا تَنْفَعُ، لِأَنَّهَا تَوْبَةُ ضَرُورَةٍ لَا اخْتِيَارٍ، قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا - وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17 - 18] وَالْجَهَالَةُ هَاهُنَا جَهَالَةُ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ،، قَالَ قَتَادَةُ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ، عَمْدًا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَكُلَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ. وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنْ قَرِيبٍ فَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا التَّوْبَةُ قَبْلَ الْمُعَايَنَةِ، قَالَ

عِكْرِمَةُ: قَبْلَ الْمَوْتِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَبْلَ مُعَايَنَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَالْكَلْبِيُّ: أَنْ يَتُوبَ فِي صِحَّتِهِ قَبْلَ مَرَضِ مَوْتِهِ، وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» وَفِي نُسْخَةِ دَرَّاجٍ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي» . فَهَذَا شَأْنُ التَّائِبِ مِنْ قَرِيبٍ، وَأَمَّا إِذَا وَقَعَ فِي السِّيَاقِ فَقَالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ، لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَوْبَةُ اضْطِرَارٍ لَا اخْتِيَارٍ، فَهِيَ كَالتَّوْبَةِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعِنْدَ مُعَايَنَةِ بَأْسِ اللَّهِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّوْبَةِ هِيَ كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ النَّهْيِ، وَالْكَفُّ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ أَمْرٍ مَقْدُورٍ، وَأَمَّا الْمُحَالُ فَلَا يُعْقَلُ كَفُّ النَّفْسِ عَنْهُ، وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِيقَاعُ حَتَّى يَتَأَتَّى مِنْهُ الْإِقْلَاعُ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الذَّنْبَ عَزْمٌ جَازِمٌ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمِ، يَقْتَرِنُ بِهِ فِعْلُهُ الْمَقْدُورُ، وَالتَّوْبَةُ مِنْهُ عَزْمٌ جَازِمٌ عَلَى تَرْكِ الْمَقْدُورِ، يَقْتَرِنُ بِهِ التَّرْكُ، وَالْعَزْمُ عَلَى غَيْرِ الْمَقْدُورِ مُحَالٌ، وَالتَّرْكُ

فِي حَقِّ هَذَا ضَرُورِيٌّ، لَا عَزْمٌ غَيْرُ مَقْدُورٍ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ الطَّيَرَانِ إِلَى السَّمَاءِ، وَنَقْلِ الْجِبَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي - وَهُوَ الصَّوَابُ - أَنَّ تَوْبَتَهُ صَحِيحَةٌ مُمْكِنَةٌ، بَلْ وَاقِعَةٌ، فَإِنَّ أَرْكَانَ التَّوْبَةِ مُجْتَمِعَةٌ فِيهِ، وَالْمَقْدُورُ لَهُ مِنْهَا النَّدَمُ، وَفِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا «النَّدَمُ تَوْبَةٌ،» فَإِذَا تَحَقَّقَ نَدَمُهُ عَلَى الذَّنْبِ وَلَوْمُهُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ تَوْبَةٌ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تُسْلَبَ التَّوْبَةُ عَنْهُ، مَعَ شِدَّةِ نَدَمِهِ عَلَى الذَّنْبِ، وَلَوْمِهِ نَفْسَهُ عَلَيْهِ؟ وَلَا سِيَّمَا مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ بُكَائِهِ وَحُزْنِهِ وَخَوْفِهِ، وَعَزْمِهِ الْجَازِمِ، وَنِيَّتِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا وَالْفِعْلُ مَقْدُورًا لَهُ لَمَا فَعَلَهُ. وَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ نَزَّلَ الْعَاجِزَ عَنِ الطَّاعَةِ مَنْزِلَةَ الْفَاعِلِ لَهَا، إِذَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ، كَقَوْلِهِ: فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا» وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْحَدِيثِ، فَتَنْزِيلُ الْعَاجِزِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، التَّارِكِ لَهَا قَهْرًا - مَعَ نِيَّتِهِ تَرْكَهَا اخْتِيَارًا لَوْ أَمْكَنَهُ - مَنْزِلَةَ التَّارِكِ الْمُخْتَارِ أَوْلَى. يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَفْسَدَةَ الذَّنْبِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْوَعِيدُ تَنْشَأُ مِنَ الْعَزْمِ عَلَيْهِ تَارَةً وَمِنْ فِعْلِهِ تَارَةً، وَمَنْشَأُ الْمَفْسَدَةِ مَعْدُومٌ فِي حَقِّ هَذَا الْعَاجِزِ فِعْلًا وَعَزْمًا، وَالْعُقُوبَةُ تَابِعَةٌ لِلْمَفْسَدَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا تَعَذَّرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مَا تَعَذَّرَ مِنْهُ التَّمَنِّي وَالْوِدَادُ، فَإِذَا كَانَ يَتَمَنَّى وَيَوَدُّ لَوْ وَاقَعَ الذَّنْبَ، وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ سَلِيمًا لَبَاشَرَهُ، فَتَوْبَتُهُ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ هَذَا الْوِدَادِ وَالتَّمَنِّي، وَالْحُزْنِ عَلَى فَوْتِهِ، فَإِنَّ الْإِصْرَارَ مُتَصَوَّرٌ فِي حَقِّهِ قَطْعًا، فَيُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ ضِدُّهُ

، وَهُوَ التَّوْبَةُ، بَلْ هِيَ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ وَالتَّصَوُّرِ مِنَ الْإِصْرَارِ، وَهَذَا وَاضِحٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمُعَايِنِ، وَمَنْ وَرَدَ الْقِيَامَةَ أَنَّ التَّكْلِيفَ قَدِ انْقَطَعَ بِالْمُعَايَنَةِ وَوُرُودِ الْقِيَامَةِ، وَالتَّوْبَةُ إِنَّمَا تَكُونُ فِي زَمَنِ التَّكْلِيفِ، وَهَذَا الْعَاجِزُ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهُ التَّكْلِيفُ، فَالْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي لَازِمَةٌ لَهُ، وَالْكَفُّ مُتَصَوَّرٌ مِنْهُ عَنِ التَّمَنِّي وَالْوِدَادِ، وَالْأَسَفِ عَلَى فَوْتِهِ، وَتَبْدِيلُ ذَلِكَ بِالنَّدَمِ وَالْحُزْنِ عَلَى فِعْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَمِنْ أَحْكَامِهَا أَنَّ مَنْ تَوَغَّلَ فِي ذَنْبٍ، وَعَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِارْتِكَابِ بَعْضِهِ، كَمَنْ أَوْلَجَ فِي فَرْجٍ حَرَامٍ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ قَبْلَ النَّزْعِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ الْوَطْءِ، وَكَمَنَ تَوَسَّطَ أَرْضًا مَغْصُوبَةً، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ، وَلَا يُمْكِنُهُ إِلَّا بِالْخُرُوجِ، الَّذِي هُوَ مَشْيٌ فِيهَا وَتَصَرُّفٌ، فَكَيْفَ يَتُوبُ مِنَ الْحَرَامِ بِحَرَامٍ مِثْلِهِ؟ وَهَلْ تُعْقَلُ التَّوْبَةُ مِنَ الْحَرَامِ بِحَرَامٍ؟ . فَهَذَا مِمَّا أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، حَتَّى دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَالَ بِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ فِي هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي يَتَخَلَّصُ بِهِ مِنَ الْحَرَامِ. قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ وَهُوَ حَرَامٌ، وَقَدْ تَعَيَّنَ فِي حَقِّهِ طَرِيقًا لِلْخَلَاصِ مِنَ الْحَرَامِ، لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ بِدُونِهِ، فَلَا حُكْمَ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْبَتَّةَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ هُوَ حَرَامٌ وَاجِبٌ، فَهُوَ ذُو وَجْهَيْنِ، مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا، مَنْهِيٌّ عَنْهُ مِنَ الْآخَرِ، فَيُؤْمَرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ تَعَيُّنُهُ طَرِيقًا لِلْخَلَاصِ مِنَ الْحَرَامِ، وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَاجِبٌ، وَيُنْهَى عَنْهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُبَاشَرَةً لِلْحَرَامِ، وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُحَرَّمٌ، فَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. قَالُوا: وَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْفِعْلِ فِي الشَّرْعِ ذَا وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَالِاشْتِغَالِ عَنِ الْحَرَامِ بِمُبَاحٍ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى ذَاتِهِ - مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَرْكِ الْحَرَامِ - قَضَيْنَا بِإِبَاحَتِهِ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَاهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ تَارِكًا لِلْحَرَامِ كَانَ وَاجِبًا. نَعَمْ، غَايَتُهُ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مُبَاحٌ دُونَ مُبَاحٍ، فَيَكُونُ وَاجِبًا مُخَيَّرًا. قَالُوا: وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، هِيَ حَرَامٌ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ بِثَوْبِ الْحَرِيرِ كَذَلِكَ حَرَامٌ وَاجِبٌ، مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.

وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا النَّزْعَ وَالْخُرُوجَ مِنَ الْأَرْضِ تَوْبَةٌ لَيْسَ بِحَرَامٍ، إِذْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَمُحَالٌ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْحَرَامِ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّزْعُ - الَّذِي هُوَ جُزْءُ الْوَطْءِ - حَرَامًا بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ بِهِ، وَتَكْمِيلِ الْوَطْءِ، وَأَمَّا النَّزْعُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مُفَارَقَةُ الْحَرَامِ، وَقَطْعُ لَذَّةِ الْمَعْصِيَةِ، فَلَا دَلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِهِ، لَا مِنْ نَصٍّ وَلَا إِجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ. وَمُحَالٌ خُلُوُّ هَذِهِ الْحَادِثَةِ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ فِيهَا، وَحُكْمُهُ فِيهَا الْأَمْرُ بِالنَّزْعِ قَطْعًا، وَإِلَّا كَانَتِ الِاسْتِدَامَةُ مُبَاحَةً، وَذَلِكَ عَيْنُ الْمُحَالِ، وَكَذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنَ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْحَرَكَةُ وَالتَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ حَرَامًا إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، الْمُتَضَمِّنِ لِإِضْرَارِ مَالِكِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ تَرْكَ الِانْتِفَاعِ، وَإِزَالَةَ الضَّرَرِ عَنِ الْمَالِكِ، فَلَمْ يُحَرِمِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ ذَلِكَ، وَلَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ نَظَرٌ صَحِيحٌ، وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ. وَقِيَاسُهُ عَلَى مَشْيٍ مُسْتَدِيمِ الْغَصْبِ، وَقِيَاسُ نَزْعِ التَّائِبِ عَلَى نَزْعِ الْمُسْتَدِيمِ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ وَأَبْيَنِهِ بُطْلَانًا، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ كَوْنَ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ يَكُونُ لَهُ وَجْهَانِ، وَلَكِنْ إِذَا تَحَقَّقَ النَّهْيُ عَنْهُ وَالْأَمْرُ بِهِ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ وَجْهَيْهِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَنَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، فَهَذَا السَّاتِرُ لَهَا بِالْحَرِيرِ قَدِ ارْتَكَبَ الْأَمْرَيْنِ، فَصَارَ فِعْلُهُ ذَا وَجْهَيْنِ. وَأَمَّا مَحَلُّ النِّزَاعِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ النَّهْيُ عَنِ النَّزْعِ، وَالْخُرُوجِ عَنِ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ مِنَ الشَّارِعِ الْبَتَّةَ، لَا بِقَوْلِهِ وَلَا بِمَعْقُولِ قَوْلِهِ، إِلَّا بِاعْتِبَارِ هَذَا الْفَرْدِ بِفَرْدٍ آخَرَ، بَيْنَهُمَا أَشَدُّ تَبَايُنٍ، وَأَعْظَمُ فَرْقٍ فِي الْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَالشَّرْعِ. وَأَمَّا إِلْحَاقُ هَذَا الْفَرْدِ بِالْعَفْوِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ مَعْفُوٌّ لَهُ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلَّهِ فِيهِ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْبَهِيمَةِ وَالنَّائِمِ، وَالنَّاسِي وَالْمَجْنُونِ فَبَاطِلٌ، إِذْ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ، وَهَذَا مُخَاطَبٌ بِالنَّزْعِ وَالْخُرُوجِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَتَأَتَّى لَكُمْ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُفَارَقَةِ بِنَزْعٍ أَوْ خُرُوجِ مَفْسَدَةٍ، فَمَا تَصْنَعُونَ فِيمَا إِذَا تَضَمَّنَ مَفْسَدَةً مِثْلَ مَفْسَدَةِ الْإِقَامَةِ، كَمَنْ تَوَسَّطَ جَمَاعَةَ جَرْحَى لِسَلْبِهِمْ، فَطَرَحَ نَفْسَهُ عَلَى وَاحِدٍ، إِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ، وَإِنِ انْتَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ انْتِقَالِهِ إِلَى مِثْلِهِ يَقْتُلُهُ بِثِقَلِهِ، وَقَدْ عَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ، فَكَيْفَ تَكُونُ تَوْبَتُهُ؟ . قِيلَ: تَوْبَةُ مِثْلِ هَذَا بِالْتِزَامِ أَخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ، مِنَ الْإِقَامَةِ عَلَى الذَّنْبِ الْمُعَيَّنِ أَوِ الِانْتِقَالِ عَنْهُ، فَإِنْ تَسَاوَتْ مَفْسَدَةُ الْإِقَامَةِ عَلَى الذَّنْبِ وَمَفْسَدَةُ الِانْتِقَالِ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ

فَهَذَا يُؤْمَرُ مِنَ التَّوْبَةِ بِالْمَقْدُورِ لَهُ مِنْهَا، وَهُوَ النَّدَمُ، وَالْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى تَرْكِ الْمُعَاوَدَةِ، وَأَمَّا الْإِقْلَاعُ فَقَدْ تَعَذَّرَ فِي حَقِّهِ إِلَّا بِالْتِزَامِ مَفْسَدَةٍ أُخْرَى مِثْلِ مَفْسَدَتِهِ. فَقِيلَ: إِنَّهُ لَا حُكْمَ لِلَّهِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ، لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ فِيهَا، إِذْ إِقَامَتُهُ عَلَى الْجَرِيحِ تَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةَ قَتْلِهِ، فَلَا يُؤْمَرُ بِهَا، وَلَا هُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهَا، وَانْتِقَالُهُ عَنْهُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةَ قَتْلِ الْآخَرِ، فَلَا يُؤْمَرُ بِالِانْتِقَالِ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُ فِيهِ، فَيَتَعَذَّرُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ عَلَى هَذَا، فَتَتَعَذَّرُ التَّوْبَةُ مِنْهَا. وَالصَّوَابُ أَنَّ التَّوْبَةَ غَيْرُ مُتَعَذِّرَةٍ، فَإِنَّهُ لَا وَاقِعَةَ إِلَّا وَلِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ. فَيُقَالُ: حُكْمُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ كَحُكْمِهِ فِي الْمُلْجَأِ، فَإِنَّهُ قَدْ أُلْجِئَ قَدَرًا إِلَى إِتْلَافِ أَحَدِ النَّفْسَيْنِ وَلَا بُدَّ، وَالْمُلْجَأُ لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ يُضَافُ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ آلَةٌ، فَإِذَا صَارَ هَذَا كَالْمُلْجَأِ، فَحُكْمُهُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ حَرَكَةٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا اخْتِيَارٌ، فَلَا يَعْدِلُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى وَاحِدٍ، بَلْ يَتَخَلَّى عَنِ الْحَرَكَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَيَسْتَسْلِمُ اسْتِسْلَامَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَرْحَى، إِذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى حَرَكَةٍ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهَا الْبَتَّةَ، فَحُكْمُهُ الْفَنَاءُ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالِاخْتِيَارِ وَشُهُودُ نَفْسِهِ كَالْحَجَرِ الْمُلْقَى عَلَى هَذَا الْجَرِيحِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ قَدْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ عَلَى جَارِهِ لِيُنْجِيَهُ بِقَتْلِهِ، وَالْقَدَرُ أَلْقَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ، فَهُوَ مَعْذُورٌ بِهِ، فَإِذَا انْتَقَلَ إِلَى الثَّانِي انْتَقَلَ بِالِاخْتِيَارِ وَالْإِرَادَةِ، فَهَكَذَا إِذَا أَلْقَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ ثُمَّ تَابَ وَنَدِمَ، لَا نَأْمُرُهُ بِإِلْقَاءِ نَفْسِهِ عَلَى جَارِهِ، لِيَتَخَلَّصَ مِنَ الذَّنْبِ بِذَنْبٍ مِثْلِهِ سَوَاءً. وَتَوْبَةُ مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا تُتَصَوَّرُ بِالنَّدَمِ وَالْعَزْمِ فَقَطْ، لَا بِالْإِقْلَاعِ، وَالْإِقْلَاعُ فِي حَقِّهِ مُسْتَحِيلٌ، فَهُوَ كَمَنْ أَوْلَجَ فِي فَرْجٍ حَرَامٍ، ثُمَّ شَدَّ وَرَبَطَ فِي حَالِ إِيلَاجِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ النَّزْعُ الْبَتَّةَ، فَتَوْبَتُهُ بِالنَّدَمِ وَالْعَزْمِ وَالتَّجَافِي بِقَلْبِهِ عَنِ السُّكُونِ إِلَى الِاسْتِدَامَةِ، وَكَذَلِكَ تَوْبَةُ الْأَوَّلِ بِذَلِكَ، وَبِالتَّجَافِي عَنِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَمِنْ أَحْكَامِهَا: أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً لِحَقِّ آدَمِيٍّ أَنْ يَخْرُجَ التَّائِبُ إِلَيْهِ مِنْهُ، إِمَّا بِأَدَائِهِ وَإِمَّا بِاسْتِحْلَالِهِ مِنْهُ بَعْدَ إِعْلَامِهِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا مَالِيًّا أَوْ جِنَايَةً عَلَى بَدَنِهِ أَوْ بَدَنِ مَوْرُوثِهِ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ كَانَ لِأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ مِنْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ،

فَلْيَتَحَلَّلْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِلَّا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ» . وَإِنْ كَانَتِ الْمَظْلَمَةُ بِقَدْحٍ فِيهِ، بِغِيبَةٍ أَوْ قَذْفٍ فَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي تَوْبَتِهِ مِنْهَا إِعْلَامُهُ بِذَلِكَ بِعَيْنِهِ وَالتَّحَلُّلُ مِنْهُ؟ أَوْ إِعْلَامُهُ بِأَنَّهُ قَدْ نَالَ مِنْ عِرْضِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ، أَوْ لَا يُشْتَرَطُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، بَلْ يَكْفِي فِي تَوْبَتِهِ أَنْ يَتُوبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ إِعْلَامِ مَنْ قَذَفَهُ وَإِعْتَابِهِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، هَلْ يُشْتَرَطُ فِي تَوْبَةِ الْقَاذِفِ إِعْلَامُ الْمَقْذُوفِ، وَالتَّحَلُّلُ مِنْهُ أَمْ لَا؟ وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِمَا تَوْبَةُ الْمُغْتَابِ وَالشَّاتِمِ. وَالْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ اشْتِرَاطُ الْإِعْلَامِ وَالتَّحَلُّلِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُهُمْ فِي كُتُبِهِمْ. وَالَّذِينَ اشْتَرَطُوا ذَلِكَ احْتَجُّوا بِأَنَّ الذَّنْبَ حَقُّ آدَمِيٍّ فَلَا يَسْقُطُ إِلَّا بِإِحْلَالِهِ مِنْهُ وَإِبْرَائِهِ. ثُمَّ مَنْ لَمْ يُصَحِّحِ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْحَقِّ الْمَجْهُولِ شَرَطَ إِعْلَامَهُ بِعَيْنِهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ عَارِفًا بِقَدْرِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِعْلَامِ مُسْتَحِقِّهِ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ لَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِالْإِبْرَاءِ مِنْهُ إِذَا عَرَفَ قَدْرَهُ. وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ لِأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ - مِنْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ - فَلْيَتَحَلَّلْهُ الْيَوْمَ» . قَالُوا: وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ حَقَّيْنِ: حَقًّا لِلَّهِ، وَحَقًّا لِلْآدَمِيِّ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا بِتَحَلُّلِ الْآدَمِيِّ لِأَجْلِ حَقِّهِ، وَالنَّدَمُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لِأَجْلِ حَقِّهِ. قَالُوا: وَلِهَذَا كَانَتْ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِتَمْكِينِ وَلِيِّ الدَّمِ مِنْ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَكَذَلِكَ تَوْبَةُ قَاطِعِ الطَّرِيقِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِعْلَامُ بِمَا نَالَ مِنْ عِرْضِهِ وَقَذْفِهِ وَاغْتِيَابِهِ، بَلْ يَكْفِي تَوْبَتُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَأَنْ يَذْكُرَ الْمُغْتَابَ وَالْمَقْذُوفَ فِي مَوَاضِعِ غِيبَتِهِ وَقَذْفِهِ بِضِدِّ مَا ذَكَرَهُ بِهِ

مِنَ الْغِيبَةِ، فَيُبَدِّلَ غِيبَتَهُ بِمَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَذِكْرِ مَحَاسِنِهِ، وَقَذْفَهُ بِذِكْرِ عِفَّتِهِ وَإِحْصَانِهِ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ بِقَدْرِ مَا اغْتَابَهُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ شَيْخِنَا أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَنَّ إِعْلَامَهُ مَفْسَدَةٌ مَحْضَةٌ لَا تَتَضَمَّنُ مَصْلَحَةً، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا أَذًى وَحَنَقًا وَغَمًّا، وَقَدْ كَانَ مُسْتَرِيحًا قَبْلَ سَمَاعِهِ، فَإِذَا سَمِعَهُ رُبَّمَا لَمْ يَصْبِرْ عَلَى حَمْلِهِ، وَأَوْرَثَتْهُ ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ أَوْ بَدَنِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنَّ الَّذِي يُؤْذِيكَ مِنْهُ سَمَاعُهُ ... وَإِنَّ الَّذِي قَالُوا وَرَاءَكَ لَمْ يُقَلْ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَإِنَّ الشَّارِعَ لَا يُبِيحُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجِبَهُ وَيَأْمُرَ بِهِ. قَالُوا: وَرُبَّمَا كَانَ إِعْلَامُهُ بِهِ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ وَالْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَائِلِ، فَلَا يَصْفُو لَهُ أَبَدًا، وَيُورِثُهُ عِلْمُهُ بِهِ عَدَاوَةً وَبَغْضَاءَ مُوَلِّدَةً لِشَرٍّ أَكْبَرَ مِنْ شَرِّ الْغِيبَةِ وَالْقَذْفِ، وَهَذَا ضِدُّ مَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ، وَالتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ وَالتَّحَابُبِ. قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَجِنَايَاتِ الْأَبْدَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يَنْتَفِعُ بِهَا إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ إِخْفَاؤُهَا عَنْهُ، فَإِنَّهُ مَحْضُ حَقِّهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ الْغِيبَةِ وَالْقَذْفِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يَنْفَعُهُ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ إِلَّا إِضْرَارُهُ وَتَهْيِيجُهُ فَقَطْ، فَقِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا أَعْلَمَهُ بِهَا لَمْ تُؤْذِهِ، وَلَمْ تُهِجْ مِنْهُ غَضَبًا وَلَا عَدَاوَةً، بَلْ رُبَّمَا سَرَّهُ ذَلِكَ وَفَرِحَ بِهِ، بِخِلَافِ إِعْلَامِهِ بِمَا مَزَّقَ بِهِ عِرْضَهُ طُولَ عُمُرِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، مِنْ أَنْوَاعِ الْقَذْفِ وَالْغِيبَةِ وَالْهَجْوِ، فَاعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ اعْتِبَارٌ فَاسِدٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْقَوْلَيْنِ كَمَا رَأَيْتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَمِنْ أَحْكَامِهَا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ فَهَلْ يَرْجِعُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الذَّنْبِ مِنَ الدَّرَجَةِ الَّتِي حَطَّهُ عَنْهَا الذَّنْبُ، أَوْ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا؟ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَرْجِعُ إِلَى دَرَجَتِهِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ الذَّنْبَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَتُصَيِّرُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَالْمُقْتَضِي لِدَرَجَتِهِ مَا مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَعَادَ إِلَيْهَا بِالتَّوْبَةِ. قَالُوا: لِأَنَّ التَّوْبَةَ حَسَنَةٌ عَظِيمَةٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ، فَإِذَا كَانَ ذَنْبُهُ قَدْ حَطَّهُ عَنْ دَرَجَتِهِ، فَحَسَنَتُهُ بِالتَّوْبَةِ رَقَّتْهُ إِلَيْهَا، وَهَذَا كَمَنْ سَقَطَ فِي بِئْرٍ، وَلَهُ صَاحِبٌ شَفِيقٌ، أَدْلَى إِلَيْهِ حَبْلًا

تَمَسَّكَ بِهِ حَتَّى رَقِيَ مِنْهُ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَهَكَذَا التَّوْبَةُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مِثْلُ هَذَا الْقَرِينِ الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الشَّفِيقِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ وَحَالِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وُقُوفٍ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي صُعُودٍ، فَبِالذَّنْبِ صَارَ فِي نُزُولٍ وَهُبُوطٍ، فَإِذَا تَابَ نَقَصَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ الَّذِي كَانَ مُسْتَعِدًّا بِهِ لِلتَّرَقِّي. قَالُوا: وَمِثْلُ هَذَا مِثْلُ رَجُلَيْنِ سَائِرَيْنِ عَلَى طَرِيقٍ سَيْرًا وَاحِدًا، ثُمَّ عَرَضَ لِأَحَدِهِمَا مَا رَدَّهُ عَلَى عَقِبِهِ أَوْ أَوْقَفَهُ، وَصَاحِبُهُ سَائِرٌ، فَإِذَا اسْتَقَالَ هَذَا رُجُوعَهُ وَوَقْفَتَهُ، وَسَارَ بِإِثْرِ صَاحِبِهِ لَمْ يَلْحَقْهُ أَبَدًا، لِأَنَّهُ كُلَّمَا سَارَ مَرْحَلَةً تَقَدَّمَ ذَاكَ أُخْرَى. قَالُوا: وَالْأَوَّلُ يَسِيرُ بِقُوَّةِ أَعْمَالِهِ وَإِيمَانِهِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ سَيْرًا ازْدَادَتْ قُوَّتُهُ، وَذَلِكَ الْوَاقِفُ الَّذِي رَجَعَ قَدْ ضَعُفَتْ قُوَّةُ سَيْرِهِ وَإِيمَانِهِ بِالْوُقُوفِ وَالرُّجُوعِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي هَذَا الْخِلَافَ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ مِنَ التَّائِبِينَ مَنْ لَا يَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُودُ إِلَيْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُودُ إِلَى أَعْلَى مِنْهَا، فَيَصِيرُ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلَ الذَّنْبِ، وَكَانَ دَاوُدُ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ. قَالَ: وَهَذَا بِحَسَبِ حَالِ التَّائِبِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، وَجِدِّهِ وَعَزْمِهِ، وَحَذَرِهِ وَتَشْمِيرِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا كَانَ لَهُ قَبْلَ الذَّنْبِ عَادَ خَيْرًا مِمَّا كَانَ وَأَعْلَى دَرَجَةً، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ عَادَ إِلَى مِثْلِ حَالِهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَمْ يَعُدْ إِلَى دَرَجَتِهِ، وَكَانَ مُنْحَطًّا عَنْهَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ فَصْلُ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِمَثَلَيْنِ مَضْرُوبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: رَجُلٌ مُسَافِرٌ سَائِرٌ عَلَى الطَّرِيقِ بِطُمَأْنِينَةٍ وَأَمْنٍ، فَهُوَ يَعْدُو مَرَّةً وَيَمْشِي أُخْرَى، وَيَسْتَرِيحُ تَارَةً وَيَنَامُ أُخْرَى، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ عَرَضَ لَهُ فِي سَيْرِهِ ظِلٌّ ظَلِيلٌ، وَمَاءٌ بَارِدٌ وَمَقِيلٌ، وَرَوْضَةٌ مُزْهِرَةٌ، فَدَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى النُّزُولِ عَلَى تِلْكَ الْأَمَاكِنِ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا، فَوَثَبَ عَلَيْهِ مِنْهَا عَدُوٌّ، فَأَخَذَهُ وَقَيَّدَهُ وَكَتَّفَهُ وَمَنَعَهُ عَنِ السَّيْرِ، فَعَايَنَ الْهَلَاكَ، وَظَنَّ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بِهِ، وَأَنَّهُ رِزْقُ الْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ، وَأَنَّهُ قَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَقْصِدِهِ الَّذِي يَؤُمُّهُ، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ تَتَقَاذَفُهُ الظُّنُونُ، إِذْ وَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ وَالِدُهُ الشَّفِيقُ الْقَادِرُ، فَحَلَّ كِتَافَهُ وَقُيُودَهُ، وَقَالَ لَهُ: ارْكَبِ الطَّرِيقَ وَاحْذَرْ هَذَا الْعَدُوَّ، فَإِنَّهُ عَلَى مَنَازِلِ الطَّرِيقِ لَكَ بِالْمِرْصَادِ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ مَا دُمْتَ حَاذِرًا مِنْهُ، مُتَيَقِّظًا لَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْكَ، فَإِذَا غَفَلْتَ وَثَبَ عَلَيْكَ، وَأَنَا مُتَقَدِّمُكَ إِلَى الْمَنْزِلِ، وَفَرَطٌ لَكَ فَاتَّبِعْنِي عَلَى الْأَثَرِ.

فَإِنْ كَانَ هَذَا السَّائِرُ كَيِّسًا فَطِنًا لَبِيبًا، حَاضِرَ الذِّهْنِ وَالْعَقْلِ، اسْتَقْبَلَ سَيْرَهُ اسْتِقْبَالًا آخَرَ، أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلِ وَأَتَمَّ، وَاشْتَدَّ حَذَرُهُ، وَتَأَهَّبَ لِهَذَا الْعَدُوِّ، وَأَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ، فَكَانَ سَيْرُهُ الثَّانِي أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلِ، وَخَيْرًا مِنْهُ، وَوُصُولُهُ إِلَى الْمَنْزِلِ أَسْرَعَ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْ عَدُوِّهِ وَعَادَ إِلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأَوَّلِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَلَا قُوَّةِ حَذَرٍ وَلَا اسْتِعْدَادٍ، عَادَ كَمَا كَانَ، وَهُوَ مُعَرَّضٌ لِمَا عُرِّضَ لَهُ أَوْلًا. وَإِنْ أَوْرَثَهُ ذَلِكَ تَوَانِيًا فِي سَيْرِهِ وَفُتُورًا، وَتَذَكُّرًا لِطَيِّبِ مَقِيلِهِ، وَحُسْنِ ذَلِكَ الرَّوْضِ وَعُذُوبَةِ مَائِهِ، وَتَفَيُّؤِ ظِلَالِهِ، وَسُكُونًا بِقَلْبِهِ إِلَيْهِ لَمْ يَعُدْ إِلَى مِثْلِ سَيْرِهِ وَنَقَصَ عَمَّا كَانَ. الْمَثَلُ الثَّانِي: عَبْدٌ فِي صِحَّةٍ وَعَافِيَةِ جِسْمٍ، عَرَضَ لَهُ مَرَضٌ أَوْجَبَ لَهُ حِمْيَةً وَشُرْبَ دَوَاءٍ وَتَحَفُّظًا مِنَ التَّخْلِيطِ، وَنَقَصَ بِذَلِكَ مَادَّةً رِدْيَةً كَانَتْ مُنَقِّصَةً لِكَمَالِ قُوَّتِهِ وَصِحَّتِهِ، فَعَادَ بَعْدَ الْمَرَضِ أَقْوَى مِمَّا كَانَ قَبْلَهُ، كَمَا قِيلَ: لَعَلَّ عَتْبَكَ مَحْمُودٌ عَوَاقِبُهُ ... وَرُبَّمَا صَحَّتِ الْأَجْسَامُ بِالْعِلَلِ وَإِنْ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ الْمَرَضُ ضَعْفًا فِي الْقُوَّةِ، وَتَدَارَكَهُ بِمِثْلِ مَا نَقَصَ مِنْ قُوَّتِهِ، عَادَ إِلَى مِثْلِ مَا كَانَ. وَإِنْ تَدَارَكَهُ بِدُونِ مَا نَقَصَ مِنْ قُوَّتِهِ، عَادَ إِلَى دُونِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ. وَفِي هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ كِفَايَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُمَا. وَقَدْ ضُرِبَ لِذَلِكَ مَثَلٌ آخَرُ بِرَجُلٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ فِي طَرِيقِهِ، فَعَرَضَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ جَبَذَ ثَوْبَهُ وَأَوْقَفَهُ قَلِيلًا، يُرِيدُ تَعْوِيقَهُ عَنِ الصَّلَاةِ، فَلَهُ مَعَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ حَتَّى تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ، فَهَذِهِ حَالُ غَيْرِ التَّائِبِ. الثَّانِي: أَنْ يُجَاذِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَتَفَلَّتَ مِنْهُ، لِئَلَّا تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ. ثُمَّ لَهُ بَعْدَ هَذَا التَّفَلُّتِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ سَيْرُهُ جَمْزًا وَوَثْبًا، لِيَسْتَدْرِكَ مَا فَاتَهُ بِتِلْكَ الْوَقْفَةِ، فَرُبَّمَا اسْتَدْرَكَهُ وَزَادَ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ يَعُودَ إِلَى مِثْلِ سَيْرِهِ. الثَّالِثُ: أَنْ تُورِثَهُ تِلْكَ الْوَقْفَةُ فُتُورًا وَتَهَاوُنًا، فَيَفُوتَهُ فَضِيلَةُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، أَوْ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ وَأَوَّلِ الْوَقْتِ، فَهَكَذَا حَالُ التَّائِبِينَ السَّائِرِينَ سَوَاءً. فَصْلٌ

وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِمَسْأَلَةٍ شَرِيفَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ هَلِ الْمُطِيعُ الَّذِي لَمْ يَعْصِ خَيْرٌ مِنَ الْعَاصِي الَّذِي تَابَ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، أَوْ هَذَا التَّائِبُ أَفْضَلُ مِنْهُ؟ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ. فَطَائِفَةٌ رَجَّحَتْ مَنْ لَمْ يَعْصِ عَلَى مَنْ عَصَى وَتَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَاحْتَجُّوا بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَكْمَلَ الْخَلْقِ وَأَفْضَلَهُمْ أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ، وَهَذَا الَّذِي لَمْ يَعْصِ أَطْوَعُ، فَيَكُونُ أَفْضَلَ. الثَّانِي: أَنَّ فِي زَمَنِ اشْتِغَالِ الْعَاصِي بِمَعْصِيَتِهِ يَسْبِقُهُ الْمُطِيعُ عِدَّةَ مَرَاحِلَ إِلَى فَوْقُ، فَتَكُونُ دَرَجَتُهُ أَعْلَى مِنْ دَرَجَتِهِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ إِذَا تَابَ اسْتَقْبَلَ سَيْرَهُ لِيَلْحَقَهُ، وَذَاكَ فِي سَيْرٍ آخَرَ، فَأَنَّى لَهُ بِلَحَاقِهِ؟ فَهُمَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْكَسْبِ، كُلَّمَا كَسَبَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا كَسَبَ الْآخَرُ مِثْلَهُ، فَعَمَدَ أَحَدُهُمَا إِلَى كَسْبِهِ فَأَضَاعَهُ، وَأَمْسَكَ عَنِ الْكَسْبِ الْمُسْتَأْنَفِ، وَالْآخَرُ مُجِدٌّ فِي الْكَسْبِ، فَإِذَا أَدْرَكَتْهُ حَمِيَّةُ الْمُنَافَسَةِ، وَعَادَ إِلَى الْكَسْبِ وَجَدَ صَاحِبَهُ قَدْ كَسَبَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَلَا يَكْسِبُ شَيْئًا إِلَّا كَسَبَ صَاحِبُهُ نَظِيرَهُ، فَأَنَّى لَهُ بِمُسَاوَاتِهِ؟ . الثَّالِثُ: أَنَّ غَايَةَ التَّوْبَةِ أَنْ تَمْحُوَ عَنْ هَذَا سَيِّئَاتِهِ، وَيَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْهَا، فَيَكُونَ سَعْيُهُ فِي مُدَّةِ الْمَعْصِيَةِ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، فَأَيْنَ هَذَا السَّعْيُ مِنْ سَعْيِ مَنْ هُوَ كَاسِبٌ رَابِحٌ؟ . الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى مَعَاصِيهِ وَمُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ، فَفِي مُدَّةِ اشْتِغَالِ هَذَا بِالذُّنُوبِ كَانَ حَظُّهُ الْمَقْتَ، وَحَظُّ الْمُطِيعِ الرِّضَا، فَاللَّهُ لَمْ يَزَلْ عَنْهُ رَاضِيًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا خَيْرٌ مِمَّنْ كَانَ اللَّهُ رَاضِيًا عَنْهُ ثُمَّ مَقَتَهُ، ثُمَّ رَضِيَ عَنْهُ، فَإِنَّ الرِّضَا الْمُسْتَمِرَّ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي تَخَلَّلَهُ الْمَقْتُ. الْخَامِسُ: أَنْ الذَّنْبَ بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ السُّمِّ، وَالتَّوْبَةَ تِرْيَاقُهُ وَدَوَاؤُهُ، وَالطَّاعَةَ هِيَ الصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ، وَصِحَّةٌ وَعَافِيَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ خَيْرٌ مِنْ صِحَّةٍ تَخَلَّلَهَا مَرَضٌ وَشُرْبُ سُمٍّ أَفَاقَ مِنْهُ، وَرُبَّمَا أَدَّيَا بِهِ إِلَى التَّلَفِ أَوِ الْمَرَضِ أَبَدًا. السَّادِسُ: أَنَّ الْعَاصِيَ عَلَى خَطَرٍ شَدِيدٍ، فَإِنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، أَحَدُهَا: الْعَطَبُ وَالْهَلَاكُ بِشُرْبِ السُّمِّ. الثَّانِي: النُّقْصَانُ مِنَ الْقُوَّةِ وَضَعْفُهَا إِنْ سَلِمَ مِنَ الْهَلَاكِ. وَالثَّالِثُ: عَوْدُ قُوَّتِهِ إِلَيْهِ كَمَا كَانَتْ أَوْ خَيْرًا مِنْهَا بَعِيدٌ.

وَالْأَكْثَرُ إِنَّمَا هُوَ الْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ، وَلَعَلَّ الثَّالِثَ نَادِرٌ جِدًّا، فَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ضَرَرِ السُّمِّ، وَعَلَى رَجَاءٍ مِنْ حُصُولِ الْعَافِيَةِ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ. السَّابِعُ: أَنَّ الْمُطِيعَ قَدْ أَحَاطَ عَلَى بُسْتَانِ طَاعَتِهِ حَائِطًا حَصِينًا لَا يَجِدُ الْأَعْدَاءُ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَثَمَرَتُهُ وَزَهْرَتُهُ وَخُضْرَتُهُ وَبَهْجَتُهُ فِي زِيَادَةٍ وَنُمُوٍّ أَبَدًا، وَالْعَاصِي قَدْ فَتَحَ فِيهِ ثَغْرًا، وَثَلَمَ فِيهِ ثُلْمَةً، وَمَكَّنَ مِنْهُ السُّرَّاقَ وَالْأَعْدَاءَ، فَدَخَلُوا فَعَاثُوا فِيهِ يَمِينًا وَشَمَالًا، أَفْسَدُوا أَغْصَانَهُ، وَخَرَّبُوا حِيطَانَهُ، وَقَطَّعُوا ثَمَرَاتِهِ، وَأَحْرَقُوا فِي نَوَاحِيهِ، وَقَطَعُوا مَاءَهُ، وَنَقَصُوا سَقْيَهُ، فَمَتَى يَرْجِعُ هَذَا إِلَى حَالِهِ الْأَوَّلِ؟ فَإِذَا تَدَارَكَهُ قَيَّمَهُ وَلَمَّ شَعَثَهُ، وَأَصْلَحَ مَا فَسَدَ مِنْهُ، وَفَتَحَ طُرُقَ مَائِهِ، وَعَمَّرَ مَا خَرِبَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَعُودَ كَمَا كَانَ، أَوْ أَنْقَصَ، أَوْ خَيْرًا، وَلَكِنْ لَا يَلْحَقُ بُسْتَانَ صَاحِبِهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَى نَضَارَتِهِ وَحُسْنِهِ، بَلْ فِي زِيَادَةٍ وَنُمُوٍّ، وَتَضَاعُفِ ثَمَرَةٍ، وَكَثْرَةِ غَرْسٍ. وَالثَّامِنُ: أَنَّ طَمَعَ الْعَدُوِّ فِي هَذَا الْعَاصِي إِنَّمَا كَانَ لِضَعْفِ عِلْمِهِ وَضَعْفِ عَزِيمَتِهِ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى جَاهِلًا، قَالَ قَتَادَةُ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ آدَمَ {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] وَقَالَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] وَأَمَّا مَنْ قَوِيَتْ عَزِيمَتُهُ، وَكَمَلَ عِلْمُهُ، وَقَوِيَ إِيمَانُهُ لَمْ يَطْمَعْ فِيهِ عَدُوُّهُ، وَكَانَ أَفْضَلَ. التَّاسِعُ: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا بُدَّ أَنْ تُؤَثِّرَ أَثَرًا سَيِّئًا وَلَا بُدَّ إِمَّا هَلَاكًا كُلِّيًا، وَإِمَّا خُسْرَانًا وَعِقَابًا يَعْقُبُهُ إِمَّا عَفْوٌ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ، وَإِمَّا نَقْصُ دَرَجَةٍ، وَإِمَّا خُمُودُ مِصْبَاحِ الْإِيمَانِ، وَعَمَلُ التَّائِبِ فِي رَفْعِ هَذِهِ الْآثَارِ وَالتَّكْفِيرِ، وَعَمَلُ الْمُطِيعِ فِي الزِّيَادَةِ، وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ. وَلِهَذَا كَانَ قِيَامُ اللَّيْلِ نَافِلَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ يَعْمَلُ فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ، وَغَيْرُهُ يَعْمَلُ فِي تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ . الْعَاشِرُ: أَنَّ الْمُقْبِلَ عَلَى اللَّهِ الْمُطِيعَ لَهُ يَسِيرُ بِجُمْلَةِ أَعْمَالِهِ، وَكُلَّمَا زَادَتْ طَاعَاتُهُ وَأَعْمَالُهُ ازْدَادَ كَسْبُهُ بِهَا وَعَظُمَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَافَرَ فَكَسَبَ عَشْرَةَ أَضْعَافِ رَأْسِ مَالِهِ، فَسَافَرَ ثَانِيًا بِرَأْسِ مَالِهِ الْأَوَّلِ وَكَسْبِهِ، فَكَسَبَ عَشْرَةَ أَضْعَافِهِ أَيْضًا، فَسَافَرَ ثَالِثًا أَيْضًا بِهَذَا الْمَالِ كُلِّهِ، وَكَانَ رِبْحُهُ كَذَلِكَ، وَهَلُمَّ جَرَّا، فَإِذَا فَتَرَ عَنِ السَّفَرِ فِي آخِرِ أَمْرِهِ، مَرَّةً وَاحِدَةً، فَاتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِقَدْرِ جَمِيعِ مَا رَبِحَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْجُنَيْدِ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ أَقْبَلَ

صَادِقٌ عَلَى اللَّهِ أَلْفَ عَامٍ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً كَانَ مَا فَاتَهُ أَكْثَرَ مِمَّا نَالَهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ قَدْ فَاتَهُ فِي مُدَّةِ الْإِعْرَاضِ رِبْحُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا، وَهُوَ أَزْيَدُ مِنَ الرِّبْحِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ مَنْ أَعْرَضَ، فَكَيْفَ مَنْ عَصَى وَأَذْنَبَ؟ وَفِي هَذَا الْوَجْهِ كِفَايَةٌ. فَصْلٌ وَطَائِفَةٌ رَجَّحَتِ التَّائِبَ، وَإِنْ لَمْ تُنْكِرْ كَوْنَ الْأَوَّلِ أَكْثَرَ حَسَنَاتٍ مِنْهُ، وَاحْتَجَّتْ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ عُبُودِيَّةَ التَّوْبَةِ مِنْ أَحَبِّ الْعُبُودِيَّاتِ إِلَى اللَّهِ، وَأَكْرَمِهَا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَلَوْ لَمْ تَكُنِ التَّوْبَةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ لَمَا ابْتُلِيَ بِالذَّنْبِ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، فَلِمَحَبَّتِهِ لِتَوْبَةِ عَبْدِهِ ابْتَلَاهُ بِالذَّنْبِ الَّذِي يُوجِبُ وُقُوعَ مَحْبُوبِهِ مِنَ التَّوْبَةِ، وَزِيَادَةَ مَحَبَّتِهِ لِعَبْدِهِ، فَإِنَّ لِلتَّائِبِينَ عِنْدَهُ مَحَبَّةً خَاصَّةً، يُوَضِّحُ ذَلِكَ: الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِلتَّوْبَةِ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ مَنْزِلَةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا مِنَ الطَّاعَاتِ، وَلِهَذَا يَفْرَحُ سُبْحَانَهُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ أَعْظَمَ فَرَحٍ يُقَدَّرُ، كَمَا مَثَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَرَحِ الْوَاجِدِ لِرَاحِلَتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي الْأَرْضِ الدَّوِيَّةِ الْمُهْلِكَةِ، بَعْدَ مَا فَقَدَهَا، وَأَيِسَ مِنْ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ، وَلَمْ يَجِئْ هَذَا الْفَرَحُ فِي شَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ سِوَى التَّوْبَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِهَذَا الْفَرَحِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي حَالِ التَّائِبِ وَقَلْبِهِ، وَمَزِيدُهُ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَسْرَارِ تَقْدِيرِ الذُّنُوبِ عَلَى الْعِبَادِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَنَالُ بِالتَّوْبَةِ دَرَجَةَ الْمَحْبُوبِيَّةِ، فَيَصِيرُ حَبِيبًا لِلَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ، وَيُوَضِّحُهُ: الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عُبُودِيَّةَ التَّوْبَةِ فِيهَا مِنَ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ، وَالْخُضُوعِ، وَالتَّمَلُّقِ لِلَّهِ، وَالتَّذَلُّلِ لَهُ، مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنْ زَادَتْ فِي الْقَدْرِ وَالْكَمِّيَّةِ عَلَى عُبُودِيَّةِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّ الذُّلَّ وَالِانْكِسَارَ رُوحُ الْعُبُودِيَّةِ، وَمُخُّهَا وَلُبُّهَا، يُوَضِّحُهُ: الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ حُصُولَ مَرَاتِبِ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ لِلتَّائِبِ أَكْمَلُ مِنْهَا لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ شَارَكَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ فِي ذُلِّ الْفَقْرِ، وَالْعُبُودِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَامْتَازَ عَنْهُ بِانْكِسَارِ قَلْبِهِ كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِسْرَائِيلِيِّ: يَا رَبِّ أَيْنَ أَجِدُكَ؟ قَالَ: عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي، وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ لِأَنَّهُ مَقَامُ ذُلٍّ وَانْكِسَارٍ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ.

وَتَأَمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ «أَنَّهُ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَسْقِيكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا لَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعُودُكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ» فَقَالَ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ " لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ " وَقَالَ فِي الْإِطْعَامِ، وَالْإِسْقَاءِ " لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي " فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْمَرِيضَ مَكْسُورُ الْقَلْبِ وَلَوْ كَانَ مَنْ كَانَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكْسِرَهُ الْمَرَضُ فَإِذَا كَانَ مُؤْمِنًا قَدِ انْكَسَرَ قَلْبُهُ بِالْمَرَضِ كَانَ اللَّهُ عِنْدَهُ. وَهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - هُوَ السِّرُّ فِي اسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ الثَّلَاثَةِ: الْمَظْلُومِ، وَالْمُسَافِرِ، وَالصَّائِمِ، لِلْكَسْرَةِ الَّتِي فِي قَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّ غُرْبَةَ الْمُسَافِرِ وَكَسْرَتَهُ مِمَّا يَجِدُهُ الْعَبْدُ فِي نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ، فَإِنَّهُ يَكْسِرُ سُورَةَ النَّفْسِ السَّبْعِيَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَيُذِلُّهَا. وَالْقَصْدُ: أَنَّ شَمْعَةَ الْجَبْرِ وَالْفَضْلِ وَالْعَطَايَا، إِنَّمَا تَنْزِلُ فِي شَمْعِدَانِ الِانْكِسَارِ، وَلِلْعَاصِي التَّائِبِ مِنْ ذَلِكَ أَوْفَرُ نَصِيبٍ، يُوَضِّحُهُ: الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الذَّنْبَ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ التَّوْبَةُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ: قَدْ يَعْمَلُ الْعَبْدُ الذَّنْبَ فَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَيَعْمَلُ الطَّاعَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا النَّارَ، قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَعْمَلُ الذَّنْبَ فَلَا يَزَالُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، إِنْ قَامَ وَإِنْ قَعَدَ وَإِنْ مَشَى ذَكَرَ ذَنْبَهُ، فَيُحْدِثُ لَهُ انْكِسَارًا، وَتَوْبَةً، وَاسْتِغْفَارًا، وَنَدَمًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ نَجَاتِهِ، وَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ، فَلَا تَزَالُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، إِنْ قَامَ وَإِنْ قَعَدَ وَإِنْ مَشَى، كُلَّمَا ذَكَرَهَا أَوْرَثَتْهُ عُجْبًا وَكِبْرًا وَمِنَّةً، فَتَكُونُ سَبَبَ هَلَاكِهِ، فَيَكُونُ الذَّنْبُ مُوجِبًا لِتَرَتُّبِ طَاعَاتٍ وَحَسَنَاتٍ، وَمُعَامَلَاتٍ قَلْبِيَّةٍ، مِنْ خَوْفِ اللَّهِ وَالْحَيَاءِ مِنْهُ، وَالْإِطْرَاقِ بَيْنَ يَدَيْهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ خَجَلًا، بَاكِيًا نَادِمًا، مُسْتَقِيلًا رَبَّهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ أَنْفَعُ لِلْعَبْدِ مِنْ طَاعَةٍ تُوجِبُ لَهُ صَوْلَةً، وَكِبْرًا، وَازْدِرَاءً بِالنَّاسِ، وَرُؤْيَتَهُمْ بِعَيْنِ

الِاحْتِقَارِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَقْرَبُ إِلَى النَّجَاةِ وَالْفَوْزِ مِنْ هَذَا الْمُعْجَبِ بِطَاعَتِهِ، الصَّائِلِ بِهَا، الْمَانِّ بِهَا، وَبِحَالِهِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِبَادِهِ، وَإِنْ قَالَ بِلِسَانِهِ خِلَافَ ذَلِكَ، فَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، وَيَكَادُ يُعَادِي الْخَلْقَ إِذَا لَمْ يُعَظِّمُوهُ وَيَرْفَعُوهُ، وَيَخْضَعُوا لَهُ، وَيَجِدُ فِي قَلْبِهِ بَغْضَةً لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْ بِهِ ذَلِكَ، وَلَوْ فَتَّشَ نَفْسَهُ حَقَّ التَّفْتِيشِ لَرَأَى فِيهَا ذَلِكَ كَامِنًا، وَلِهَذَا تَرَاهُ عَاتِبًا عَلَى مَنْ لَمْ يُعَظِّمْهُ وَيَعْرِفْ لَهُ حَقَّهُ، مُتَطَلِّبًا لِعَيْبِهِ فِي قَالَبِ حَمِيَّةٍ لِلَّهِ، وَغَضَبٍ لَهُ، وَإِذَا قَامَ بِمَنْ يُعَظِّمُهُ وَيَحْتَرِمُهُ، وَيَخْضَعُ لَهُ مِنَ الذُّنُوبِ أَضْعَافَ مَا قَامَ بِهَذَا فَتَحَ لَهُ بَابَ الْمَعَاذِيرِ وَالرَّجَاءِ، وَأَغْمَضَ عَنْهُ عَيْنَهُ وَسَمْعَهُ، وَكَفَّ لِسَانَهُ وَقَلْبَهُ، وَقَالَ: بَابُ الْعِصْمَةِ عَنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مَسْدُودٌ، وَرُبَّمَا ظَنَّ أَنَّ ذُنُوبَ مَنْ يُعَظِّمُهُ تُكَفَّرُ بِإِجْلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَإِكْرَامِهِ إِيَّاهُ. فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا الْعَبْدِ خَيْرًا أَلْقَاهُ فِي ذَنْبٍ يَكْسِرُهُ بِهِ، وَيُعَرِّفُهُ قَدْرَهُ، وَيَكْفِي بِهِ عِبَادَهُ شَرَّهُ، وَيُنَكِّسُ بِهِ رَأْسَهُ، وَيَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنْهُ دَاءَ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَالْمِنَّةِ عَلَيْهِ وَعَلَى عِبَادِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الذَّنْبُ أَنْفَعَ لِهَذَا مِنْ طَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الدَّوَاءِ لِيَسْتَخْرِجَ بِهِ الدَّاءَ الْعُضَالَ، كَمَا قِيلَ بِلِسَانِ الْحَالِ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَخُرُوجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ بِذَنْبِهِ: يَا آدَمُ، لَا تَجْزَعْ مِنْ كَأْسِ زَلَلٍ كَانَتْ سَبَبَ كَيْسِكَ، فَقَدِ اسْتُخْرِجَ بِهَا مِنْكَ دَاءٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَجَاوِرَنَا بِهِ، وَأُلْبِسْتَ بِهَا حُلَّةَ الْعُبُودِيَّةِ. لَعَلَّ عَتْبَكَ مَحْمُودٌ عَوَاقِبُهُ ... وَرُبَّمَا صَحَّتِ الْأَجْسَامُ بِالْعِلَلِ يَا آدَمُ، إِنَّمَا ابْتَلَيْتُكَ بِالذَّنْبِ لِأَنِّي أُحِبُّ أَنْ أُظْهِرَ فَضْلِي، وَجُودِي وَكَرَمِي، عَلَى مَنْ عَصَانِي «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» . يَا آدَمُ، كُنْتَ تَدْخُلُ عَلَيَّ دُخُولَ الْمُلُوكِ عَلَى الْمُلُوكِ، وَالْيَوْمَ تَدْخُلُ عَلَيَّ دُخُولَ الْعَبِيدِ عَلَى الْمُلُوكِ. يَا آدَمُ، إِذَا عَصَمْتُكَ وَعَصَمْتُ بَنِيكَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَعَلَى مَنْ أَجُودُ بِحِلْمِي؟ وَعَلَى مَنْ أَجُودُ بِعَفْوِي وَمَغْفِرَتِي، وَتَوْبَتِي، وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ؟ . يَا آدَمُ، لَا تَجْزَعْ مِنْ قَوْلِي لَكَ {اخْرُجْ مِنْهَا} [الأعراف: 18] فَلَكَ خَلَقْتُهَا، وَلَكِنِ اهْبِطْ إِلَى دَارِ الْمُجَاهَدَةِ، وَابْذُرْ بِذْرَ التَّقْوَى، وَأَمْطِرْ عَلَيْكَ سَحَائِبَ الْجُفُونِ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحُبُّ وَاسْتَغْلَظَ، وَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ، فَتَعَالَ فَاحْصُدْهُ.

يَا آدَمُ، مَا أَهْبَطْتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا لِتَتَوَسَّلَ إِلَيَّ فِي الصُّعُودِ، وَمَا أَخْرَجْتُكَ مِنْهَا نَفْيًا لَكَ عَنْهَا، مَا أَخْرَجْتُكَ مِنْهَا إِلَّا لِتَعُودَ. إِنْ جَرَى بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ عَتْبٌ ... وَتَنَاءَتْ مِنَّا وَمِنْكَ الدِّيَارُ فَالْوِدَادُ الَّذِي عَهِدْتَ مُقِيمٌ ... وَالْعَثَارُ الَّذِي أَصَبْتَ جُبَارُ يَا آدَمُ، ذَنْبٌ تَذِلُّ بِهِ لَدَيْنَا، أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ طَاعَةٍ تُدِلُّ بِهَا عَلَيْنَا. يَا آدَمُ، أَنِينُ الْمُذْنِبِينَ، أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ تَسْبِيحِ الْمُدِلِّينَ. " يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا أَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ". يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الْعِبَادِ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ رَبَّهُ فِي طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ أَنْ يَعْصِمَهُ ثُمَّ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فَسَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ: أَنْتَ تَسْأَلُنِي الْعِصْمَةَ، وَكُلُّ عِبَادِي يَسْأَلُونَنِي الْعِصْمَةَ، فَإِذَا عَصَمْتُهُمْ فَعَلَى مَنْ أَتَفَضَّلُ وَأَجُودُ بِمَغْفِرَتِي وَعَفْوِي؟ وَعَلَى مَنْ أَتُوبُ؟ وَأَيْنَ كَرَمِي وَعَفْوِي وَمَغْفِرَتِي وَفَضْلِي؟ وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ. يَا ابْنَ آدَمَ، إِذَا آمَنْتَ بِي وَلَمْ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، أَقَمْتُ حَمَلَةَ عَرْشِي وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِي وَيَسْتَغْفِرُونَ لَكَ وَأَنْتَ عَلَى فِرَاشِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ الْإِلَهِيِّ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ «يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَمَنْ عَلِمَ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ غَفَرْتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي» {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] . يَا عَبْدِي! لَا تَعْجِزْ، فَمِنْكَ الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ، وَمِنْكَ الِاسْتِغْفَارُ وَعَلَيَّ الْمَغْفِرَةُ، وَمِنْكَ التَّوْبَةُ وَعَلَيَّ تَبْدِيلُ سَيِّئَاتِكَ حَسَنَاتٍ " يُوَضِّحُهُ: الْوَجْهُ السَّادِسُ: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]

وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبِشَارَةِ لِلتَّائِبِينَ إِذَا اقْتَرَنَ بِتَوْبَتِهِمْ إِيمَانٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ، وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرِحَ بِشَيْءٍ قَطُّ فَرَحَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَمَّا أُنْزِلَتْ، وَفَرَحُهُ بِنُزُولِ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا - لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1 - 2] . وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ هَذَا التَّبْدِيلِ، وَهَلْ هُوَ فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ: هُوَ تَبْدِيلُهُمْ بِقَبَائِحِ أَعْمَالِهِمْ مَحَاسِنَهَا، فَبَدَّلَهُمْ بِالشِّرْكِ إِيمَانًا، وَبِالزِّنَا عِفَّةً وَإِحْصَانًا، وَبِالْكَذِبِ صِدْقًا، وَبِالْخِيَانَةِ أَمَانَةً. فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ صِفَاتِهِمُ الْقَبِيحَةَ، وَأَعْمَالَهُمُ السَّيِّئَةَ، بُدِّلُوا عِوَضَهَا صِفَاتٍ جَمِيلَةً، وَأَعْمَالًا صَالِحَةً، كَمَا يُبَدَّلُ الْمَرِيضُ بِالْمَرَضِ صِحَّةً، وَالْمُبْتَلَى بِبَلَائِهِ عَافِيَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَغَيْرُهُ مِنَ التَّابِعِينَ: هُوَ تَبْدِيلُ اللَّهِ سَيِّئَاتِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا بِحَسَنَاتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُعْطِيهِمْ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ، يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَيُخَبَّأُ عَنْهُ كِبَارُهَا، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ مُقِرٌّ لَا يُنْكِرُ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِهَا، فَيُقَالُ: أَعْطُوهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ عَمِلَهَا حَسَنَةً، فَيَقُولُ: إِنَّ لِي ذُنُوبًا مَا أَرَاهَا هَاهُنَا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» . فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ، فَإِنَّ هَذَا قَدْ عُذِّبَ بِسَيِّئَاتِهِ وَدَخَلَ بِهَا النَّارَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَأُعْطِيَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، صَدَقَةً تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ ابْتِدَاءً بِعَدَدِ ذُنُوبِهِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَبْدِيلُ تِلْكَ الذُّنُوبِ بِحَسَنَاتٍ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا عُوقِبَ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يُعَاقَبِ التَّائِبُ، وَالْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي

تَائِبٍ أُثْبِتَ لَهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ، فَزَادَتْ حَسَنَاتُهُ، فَأَيْنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؟ وَالنَّاسُ اسْتَقْبَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ مُسْتَدِلِّينَ بِهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِيهِ، لَكِنْ لِلسَّلَفِ غَوْرٌ وَدِقَّةُ فَهْمٍ لَا يُدْرِكُهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ صَحِيحٌ، بَعْدَ تَمْهِيدِ قَاعِدَةٍ، إِذَا عَرَفْتَ عُرْفَ لُطْفِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ وَدِقَّتِهِ، وَهِيَ أَنَّ الذَّنْبَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَثَرٍ، وَأَثَرُهُ يَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ تَارَةً، وَبِالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ تَارَةً، وَبِالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ تَارَةً، وَبِدُخُولِ النَّارِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ أَثَرِهِ تَارَةً، وَكَذَلِكَ إِذَا اشْتَدَّ أَثَرُهُ، وَلَمْ تَقْوَ تِلْكَ الْأُمُورُ عَلَى مَحْوِهِ، فَلَا بُدَّ إِذًا مِنْ دُخُولِ النَّارِ لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَكُونُ فِيهَا ذَرَّةٌ مِنَ الْخَبِيثِ، وَلَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مَنْ طَابَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِذَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ خُبْثِ الذُّنُوبِ أُدْخِلَ كِيرَ الِامْتِحَانِ، لِيُخَلِّصَ ذَهَبَ إِيمَانِهِ مِنْ خُبْثِهِ، فَيَصْلُحُ حِينَئِذٍ لِدَارِ الْمُلْكِ. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَزَوَالُ مُوجَبِ الذَّنْبِ وَأَثَرُهُ تَارَةً يَكُونُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَهِيَ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ وَتَطْهِيرِهِ فِي النَّارِ، فَإِذَا تَطَهَّرَ بِالنَّارِ، وَزَالَ أَثَرُ الْوَسَخِ وَالْخَبَثِ عَنْهُ، أُعْطِيَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَإِذَا تَطَهَّرَ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَزَالَ عَنْهَا بِهَا أَثَرُ وَسَخِ الذُّنُوبِ وَخُبْثِهَا، كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يُعْطَى مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، لِأَنَّ إِزَالَةَ التَّوْبَةِ لِهَذَا الْوَسَخِ وَالْخَبَثِ أَعْظَمُ مِنْ إِزَالَةِ النَّارِ، وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، وَإِزَالَةُ النَّارِ بَدَلٌ مِنْهَا، وَهِيَ الْأَصْلُ، فَهِيَ أَوْلَى بِالتَّبْدِيلِ مِمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ، يُوَضِّحُهُ: الْوَجْهُ التَّاسِعُ: وَهُوَ أَنَّ التَّائِبَ قَدْ بُدِّلَ كُلَّ سَيِّئَةٍ بِنَدَمِهِ عَلَيْهَا حَسَنَةً، إِذْ هُوَ تَوْبَةُ تِلْكَ السَّيِّئَةِ، وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ حَسَنَةٌ، فَصَارَ كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلَهُ زَائِلًا بِالتَّوْبَةِ الَّتِي حَلَّتْ مَحَلَّهُ وَهِيَ حَسَنَةٌ، فَصَارَ لَهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَلْطَفِ الْوُجُوهِ. وَعَلَى هَذَا فَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْحَسَنَةُ مُسَاوِيَةً فِي الْقَدْرِ لِتِلْكَ السَّيِّئَةِ، وَقَدْ تَكُونُ دُونَهَا، وَقَدْ تَكُونُ فَوْقَهَا، وَهَذَا بِحَسَبِ نُصْحِ هَذِهِ التَّوْبَةِ، وَصِدْقِ التَّائِبِ فِيهَا، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ الَّذِي تَزِيدُ مَصْلَحَتُهُ وَنَفْعُهُ عَلَى مَفْسَدَةِ تِلْكَ السَّيِّئَةِ، وَهَذَا مِنْ أَسْرَارِ مَسَائِلِ التَّوْبَةِ وَلَطَائِفِهَا، يُوَضِّحُهُ: الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ ذَنْبَ الْعَارِفِ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حَسَنَاتٌ أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَكْثَرُ، وَأَعْظَمُ نَفْعًا، وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ عِصْمَتِهِ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ مَنْ ذُلٍّ وَانْكِسَارٍ وَخَشْيَةٍ، وَإِنَابَةٍ وَنَدَمٍ، وَتَدَارُكٍ بِمُرَاغَمَةِ الْعَدُوِّ بِحَسَنَةٍ أَوْ حَسَنَاتٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، حَتَّى يَقُولَ الشَّيْطَانُ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوقِعْهُ فِيمَا أَوْقَعْتُهُ فِيهِ، وَيَنْدَمُ الشَّيْطَانُ عَلَى إِيقَاعِهِ فِي الذَّنْبِ، كَنَدَامَةِ

فَاعِلِهِ عَلَى ارْتِكَابِهِ، لَكِنْ شَتَّانَ مَا بَيْنَ النَّدَمَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ مُرَاغَمَةَ عَدُوِّهِ وَغَيْظَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مِنَ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ أَسْرَارِ التَّوْبَةِ، فَيَحْصُلُ مِنَ الْعَبْدِ مُرَاغَمَةُ الْعَدُوِّ بِالتَّوْبَةِ وَالتَّدَارُكِ، وَحُصُولُ مَحْبُوبِ اللَّهِ مِنَ التَّوْبَةِ، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ زِيَادَةِ الْأَعْمَالِ هُنَا، مَا يُوجِبُ جَعْلَ مَكَانِ السَّيِّئَةِ حَسَنَةً بَلْ حَسَنَاتٍ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] وَلَمْ يَقُلْ مَكَانَ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً فَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَ السَّيِّئَةَ الْوَاحِدَةَ بِعِدَّةِ حَسَنَاتٍ بِحَسَبِ حَالِ الْمُبَدِّلِ. وَأَمَّا فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّ الَّذِي عُذِّبَ عَلَى ذُنُوبِهِ لَمْ يُبَدَّلْهَا فِي الدُّنْيَا بِحَسَنَاتٍ مِنَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَتَوَابِعِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَجْعَلُ مَكَانَ السَّيِّئَةِ حَسَنَاتٍ، فَأُعْطَيَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً وَاحِدَةً، وَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ، وَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا ضَحِكَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ يُبَدِّلُ مَكَانَ كُلِّ صَغِيرَةٍ حَسَنَةً، وَلَكِنْ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّبْدِيلَ يَعُمُّ كِبَارَهَا وَصِغَارَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: أَخْبِئُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَهَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ إِذَا رَأَى تَبْدِيلَ الصَّغَائِرِ ذَكَرَهَا وَطَمِعَ فِي تَبْدِيلِهَا، فَيَكُونُ تَبْدِيلُهَا أَعْظَمَ مَوْقِعًا عِنْدَهُ مِنْ تَبْدِيلِ الصَّغَائِرِ، وَهُوَ بِهِ أَشَدُّ فَرَحًا وَاغْتِبَاطًا. وَالثَّانِي: ضَحِكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا الضَّحِكُ مُشْعِرٌ بِالتَّعَجُّبِ مِمَّا يُفْعَلُ بِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَرَّرَ عَلَيْهَا وَلَا يُسْأَلَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّغَائِرُ. فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، الْبَرُّ اللَّطِيفُ، الْمُتَوَدِّدُ إِلَى عِبَادِهِ بِأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَإِيصَالِهِ إِلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ بِكُلِّ نَوْعٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. فَصْلٌ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِنَّمَا يُفَسِّرُ التَّوْبَةَ بِالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَ الذَّنْبَ، وَبِالْإِقْلَاعِ عَنْهُ فِي الْحَالِ، وَبِالنَّدَمِ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ رَابِعٍ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ مِنْهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ بَعْضُ مُسَمَّى التَّوْبَةِ بَلْ شَرْطُهَا، وَإِلَّا فَالتَّوْبَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ

وَرَسُولِهِ - كَمَا تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ - تَتَضَمَّنُ الْعَزْمَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَالْتِزَامِهِ فَلَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الْإِقْلَاعِ وَالْعَزْمِ وَالنَّدَمِ تَائِبًا، حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ الْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَالْإِتْيَانِ بِهِ، هَذَا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ، وَهِيَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، لَكِنَّهَا إِذَا قُرِنَتْ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَتْ عِبَارَةً عَمَّا ذَكَرُوهُ، فَإِذَا أُفْرِدَتْ تَضَمَّنَتِ الْأَمْرَيْنِ، وَهِيَ كَلَفْظَةِ التَّقْوَى الَّتِي تَقْتَضِي عِنْدَ إِفْرَادِهَا فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَرْكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَتَقْتَضِي عِنْدَ اقْتِرَانِهَا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ الِانْتِهَاءَ عَنِ الْمَحْظُورِ. فَإِنَّ حَقِيقَةَ التَّوْبَةِ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ بِالْتِزَامِ فَعْلِ مَا يُحِبُّ، وَتَرْكِ مَا يَكْرَهُ، فَهِيَ رُجُوعٌ مِنْ مَكْرُوهٍ إِلَى مَحْبُوبٍ، فَالرُّجُوعُ إِلَى الْمَحْبُوبِ جُزْءُ مُسَمَّاهَا، وَالرُّجُوعُ عَنِ الْمَكْرُوهِ الْجُزْءُ الْآخَرُ، وَلِهَذَا عَلَّقَ سُبْحَانَهُ الْفَلَاحَ الْمُطْلَقَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ بِهَا، فَقَالَ {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] فَكُلُّ تَائِبٍ مُفْلِحٌ، وَلَا يَكُونُ مُفْلِحًا إِلَّا مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَتَرَكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] وَتَارِكُ الْمَأْمُورِ ظَالِمٌ، كَمَا أَنَّ فَاعِلَ الْمَحْظُورِ ظَالِمٌ، وَزَوَالُ اسْمِ الظُّلْمِ عَنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّوْبَةِ الْجَامِعَةِ لِلْأَمْرَيْنِ، فَالنَّاسُ قِسْمَانِ: تَائِبٌ وَظَالِمٌ لَيْسَ إِلَّا، فَالتَّائِبُونَ هُمُ {الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112] فَحِفْظُ حُدُودِ اللَّهِ جُزْءُ التَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ هِيَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَائِبًا لِرُجُوعِهِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ مِنْ نَهْيِهِ، وَإِلَى طَاعَتِهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِذًا التَّوْبَةُ هِيَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى التَّوْبَةِ وَبِهَذَا اسْتَحَقَّ التَّائِبُ أَنْ يَكُونَ حَبِيبَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ، وَتَرَكَ مَا نَهَى عَنْهُ. فَإِذًا التَّوْبَةُ هِيَ الرُّجُوعُ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِلَى مَا يُحِبُّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهَا الْإِسْلَامُ، وَالْإِيمَانُ، وَالْإِحْسَانُ، وَتَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَقَامَاتِ، وَلِهَذَا كَانَتْ غَايَةَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَبِدَايَةَ الْأَمْرِ وَخَاتِمَتَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي وُجِدَ لِأَجْلِهَا الْخَلْقُ، وَالْأَمْرُ وَالتَّوْحِيدُ جُزْءٌ مِنْهَا، بَلْ هُوَ جُزْؤُهَا الْأَعْظَمُ الَّذِي عَلَيْهِ بِنَاؤُهَا. وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ قَدْرَ التَّوْبَةِ وَلَا حَقِيقَتَهَا، فَضْلًا عَنِ الْقِيَامِ بِهَا عِلْمًا وَعَمَلًا

فصل الاستغفار

وَحَالًا، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّتَهُ لِلتَّوَّابِينَ إِلَّا وَهُمْ خَوَاصُّ الْخَلْقِ لَدَيْهِ. وَلَوْلَا أَنَّ التَّوْبَةَ اسْمٌ جَامِعٌ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنِ الرَّبُّ تَعَالَى يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ ذَلِكَ الْفَرَحَ الْعَظِيمَ، فَجَمِيعُ مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ هُوَ تَفَاصِيلُ التَّوْبَةِ وَآثَارُهَا. [فَصْلٌ الِاسْتِغْفَارُ] وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ فَهُوَ نَوْعَانِ: مُفْرَدٌ، وَمَقْرُونٌ بِالتَّوْبَةِ، فَالْمُفْرَدُ: كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10] وَكَقَوْلِ صَالِحٍ لِقَوْمِهِ {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] وَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] وَالْمَقْرُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] وَقَوْلِ هُودٍ لِقَوْمِهِ {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52] وَقَوْلِ صَالِحٍ لِقَوْمِهِ {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61] وَقَوْلِ شُعَيْبٍ {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90] فَالِاسْتِغْفَارُ الْمُفْرَدُ كَالتَّوْبَةِ، بَلْ هُوَ التَّوْبَةُ بِعَيْنِهَا، مَعَ تَضَمُّنِهِ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ مَحْوُ الذَّنْبِ، وَإِزَالَةُ أَثَرِهِ، وَوِقَايَةُ شَرِّهِ، لَا كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا السَّتْرُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَسْتُرُ عَلَى مَنْ يَغْفِرُ لَهُ وَمَنْ لَا يَغْفِرُ لَهُ، وَلَكِنَّ السَّتْرَ لَازِمُ مُسَمَّاهَا أَوْ جُزْؤُهُ، فَدَلَالَتُهَا عَلَيْهِ إِمَّا بِالتَّضَمُّنِ وَإِمَّا بِاللُّزُومِ. وَحَقِيقَتُهَا وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ، وَمِنْهُ الْمِغْفَرُ، لِمَا يَقِي الرَّأْسَ مِنَ الْأَذَى، وَالسَّتْرُ لَازِمٌ

لِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَالْعِمَامَةُ لَا تُسَمَّى مِغْفَرًا، وَلَا الْقُبَّعُ وَنَحْوُهُ مَعَ سَتْرِهِ، فَلَا بُدَّ فِي لَفْظِ الْمِغْفَرِ مِنَ الْوِقَايَةِ، وَهَذَا الِاسْتِغْفَارُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ الْعَذَابَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ مُسْتَغْفِرًا، وَأَمَّا مَنْ أَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ، وَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ مَغْفِرَتَهُ، فَهَذَا لَيْسَ بِاسْتِغْفَارٍ مُطْلَقٍ، وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ الْعَذَابَ، فَالِاسْتِغْفَارُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ، وَالتَّوْبَةُ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِغْفَارَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْآخَرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا عِنْدَ اقْتِرَانِ إِحْدَى اللَّفْظَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، فَالِاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا مَضَى، وَالتَّوْبَةُ: الرُّجُوعُ وَطَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا يَخَافُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِ. فَهَاهُنَا ذَنْبَانِ: ذَنْبٌ قَدْ مَضَى، فَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ: طَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّهِ، وَذَنْبٌ يُخَافُ وُقُوعُهُ، فَالتَّوْبَةُ: الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ رُجُوعٌ إِلَيْهِ لِيَقِيَهُ شَرَّ مَا مَضَى، وَرُجُوعٌ إِلَيْهِ لِيَقِيَهُ شَرَّ مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُذْنِبَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَكِبَ طَرِيقًا تُؤَدِّيهِ إِلَى هَلَاكِهِ، وَلَا تَوَصِّلُهُ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يُوَلِّيَهَا ظَهْرَهُ، وَيَرْجِعَ إِلَى الطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا نَجَاتُهُ، وَالَّتِي تُوصِلُهُ إِلَى مَقْصُودِهِ، وَفِيهَا فَلَاحُهُ. فَهَاهُنَا أَمْرَانِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا: مُفَارَقَةُ شَيْءٍ، وَالرُّجُوعُ إِلَى غَيْرِهِ، فَخُصَّتِ التَّوْبَةُ بِالرُّجُوعِ، وَالِاسْتِغْفَارُ بِالْمُفَارَقَةِ، وَعِنْدَ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَيْنِ، وَلِهَذَا جَاءَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْأَمْرُ بِهِمَا مُرَتَّبًا بِقَوْلِهِ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] فَإِنَّهُ الرُّجُوعُ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَاطِلِ. وَأَيْضًا فَالِاسْتِغْفَارُ مِنْ بَابِ إِزَالَةِ الضَّرَرِ، وَالتَّوْبَةُ طَلَبُ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ، فَالْمَغْفِرَةُ أَنْ يَقِيَهُ شَرَّ الذَّنْبِ، وَالتَّوْبَةُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْوِقَايَةِ مَا يُحِبُّهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ عِنْدَ إِفْرَادِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل التوبة النصوح

[فَصْلٌ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ] فَصْلٌ وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَحَقِيقَتِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8] فَجَعَلَ وِقَايَةَ شَرِّ السَّيِّئَاتِ - وَهُوَ تَكْفِيرُهَا - بِزَوَالِ مَا يَكْرَهُ الْعَبْدُ، وَدُخُولِ الْجَنَّاتِ - وَهُوَ حُصُولُ مَا يُحِبُّ الْعَبْدُ - مَنُوطًا بِحُصُولِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالنَّصُوحُ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ الْمَعْدُولِ بِهِ عَنْ فَاعِلٍ قَصْدًا لِلْمُبَالَغَةِ، كَالشَّكُورِ وَالصَّبُورِ، وَأَصْلُ مَادَّةِ (ن ص ح) لِخَلَاصِ الشَّيْءِ مِنَ الْغِشِّ وَالشَّوَائِبِ الْغَرِيبَةِ، وَهُوَ مُلَاقٍ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ لِنَصَحَ إِذَا خَلَصَ، فَالنُّصْحُ فِي التَّوْبَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْمَشُورَةِ تَخْلِيصُهَا مِنْ كُلِّ غِشٍّ وَنَقْصٍ وَفَسَادٍ، وَإِيقَاعُهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَالنُّصْحُ ضِدُّ الْغِشِّ. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السَّلَفِ عَنْهَا، وَمَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ مِنَ الذَّنْبِ ثُمَّ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ، كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضِّرْعِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هِيَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ نَادِمًا عَلَى مَا مَضَى، مُجْمِعًا عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ فِيهِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَنْ يَسْتَغْفِرَ بِاللِّسَانِ، وَيَنْدَمَ بِالْقَلْبِ، وَيُمْسِكَ بِالْبَدَنِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: تَوْبَةً نَصُوحًا، تَنْصَحُونَ بِهَا أَنْفُسَكُمْ، جَعَلَهَا بِمَعْنَى نَاصِحَةٍ لِلتَّائِبِ، كَضَرُوبِ الْمَعْدُولِ عَنْ ضَارِبٍ. وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَجْعَلُونَهَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ قَدْ نَصَحَ فِيهَا التَّائِبُ وَلَمْ يَشُبْهَا

فصل في الفرق بين تكفير السيئات ومغفرة الذنوب

بِغِشٍّ، فَهِيَ إِمَّا بِمَعْنَى مَنْصُوحٍ فِيهَا، كَرَكُوبَةٍ وَحَلُوبَةٍ، بِمَعْنَى مَرْكُوبَةٍ وَمَحْلُوبَةٍ، أَوْ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَيْ نَاصِحَةٌ كَخَالِصَةٍ وَصَادِقَةٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: يَجْمَعُهَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ، وَالْإِقْلَاعُ بِالْأَبْدَانِ، وَإِضْمَارُ تَرْكِ الْعَوْدِ بِالْجِنَانِ، وَمُهَاجَرَةُ سَيْءِ الْإِخْوَانِ. قُلْتُ: النُّصْحُ فِي التَّوْبَةِ يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: تَعْمِيمُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَاسْتِغْرَاقُهَا بِهَا بِحَيْثُ لَا تَدَعُ ذَنْبًا إِلَّا تَنَاوَلَتْهُ. وَالثَّانِي: إِجْمَاعُ الْعَزْمِ وَالصِّدْقِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيْهَا، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى عِنْدَهُ تَرَدُّدٌ، وَلَا تَلَوُّمٌ وَلَا انْتِظَارٌ، بَلْ يَجْمَعُ عَلَيْهَا كُلَّ إِرَادَتِهِ وَعَزِيمَتِهِ مُبَادِرًا بِهَا. الثَّالِثُ: تَخْلِيصُهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَالْعِلَلِ الْقَادِحَةِ فِي إِخْلَاصِهَا، وَوُقُوعُهَا لِمَحْضِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ، وَالرَّغْبَةِ فِيمَا لَدَيْهِ، وَالرَّهْبَةِ مِمَّا عِنْدَهُ، لَا كَمَنْ يَتُوبُ لِحِفْظِ جَاهِهِ وَحُرْمَتِهِ، وَمَنْصِبِهِ وَرِيَاسَتِهِ، وَلِحِفْظِ حَالِهِ، أَوْ لِحِفْظِ قُوَّتِهِ وَمَالِهِ، أَوِ اسْتِدْعَاءِ حَمْدِ النَّاسِ، أَوِ الْهَرَبِ مِنْ ذَمِّهِمْ، أَوْ لِئَلَّا يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ السُّفَهَاءُ، أَوْ لِقَضَاءِ نَهْمَتِهِ مِنَ الدُّنْيَا، أَوْ لِإِفْلَاسِهِ وَعَجْزِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي تَقْدَحُ فِي صِحَّتِهَا وَخُلُوصِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَالْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِمَا يَتُوبُ مِنْهُ، وَالثَّالِثُ يَتَعَلَّقُ بِمَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ، وَالْأَوْسَطُ يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ التَّائِبِ وَنَفْسِهِ، فَنُصْحُ التَّوْبَةِ الصِّدْقُ فِيهَا، وَالْإِخْلَاصُ، وَتَعْمِيمُ الذُّنُوبِ بِهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ تَسْتَلْزِمُ الِاسْتِغْفَارَ وَتَتَضَمَّنُهُ، وَتَمْحُو جَمِيعَ الذُّنُوبِ، وَهِيَ أَكْمَلُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّوْبَةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. [فَصْلٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ] وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُمَا مُقْتَرِنَيْنِ، وَذِكْرُ كُلًّا مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا عَنِ الْآخَرِ، فَالْمُقْتَرِنَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193] وَالْمُنْفَرِدُ كَقَوْلِهِ:

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد: 2] وَقَوْلِهِ فِي الْمَغْفِرَةِ {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15] وَكَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147] وَنَظَائِرِهِ. فَهَاهُنَا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: ذُنُوبٌ، وَسَيِّئَاتٌ، وَمَغْفِرَةٌ، وَتَكْفِيرٌ. فَالذُّنُوبُ: الْمُرَادُ بِهَا الْكَبَائِرُ، وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَاتِ: الصَّغَائِرُ، وَهِيَ مَا تَعْمَلُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، مِنَ الْخَطَأِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ، وَلِهَذَا جُعِلَ لَهَا التَّكْفِيرُ، وَمِنْهُ أُخِذَتِ الْكَفَّارَةُ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا سُلْطَانٌ وَلَا عَمَلٌ فِي الْكَبَائِرِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، فَلَا تَعْمَلُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، وَلَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السَّيِّئَاتِ هِيَ الصَّغَائِرُ وَالتَّكْفِيرِ لَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» . وَلَفْظُ الْمَغْفِرَةِ أَكْمَلُ مِنْ لَفْظِ التَّكْفِيرِ وَلِهَذَا كَانَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالتَّكْفِيرُ مَعَ الصَّغَائِرِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمَغْفِرَةِ يَتَضَمَّنُ الْوِقَايَةَ وَالْحِفْظَ، وَلَفْظَ التَّكْفِيرِ يَتَضَمَّنُ السَّتْرَ وَالْإِزَالَةَ، وَعِنْدَ الْإِفْرَادِ يَدْخُلُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [محمد: 2] يَتَنَاوَلُ صَغَائِرَهَا وَكَبَائِرَهَا، وَمَحْوَهَا وَوِقَايَةَ شَرِّهَا، بَلِ التَّكْفِيرُ الْمُفْرَدُ يَتَنَاوَلُ أَسْوَأَ الْأَعْمَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر: 35] . وَإِذَا فُهِمَ هَذَا فَهْمَ السِّرِّ فِي الْوَعْدِ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالنَّصَبِ وَالْوَصَبِ بِالتَّكْفِيرِ دُونَ الْمَغْفِرَةِ، كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ هَمٍّ وَلَا

فصل توبة العبد بين توبتين من ربه

غَمٍّ وَلَا أَذًى - حَتَّى الشَّوْكَةُ يَشَاكُهَا - إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» فَإِنَّ الْمَصَائِبَ لَا تَسْتَقِلُّ بِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، وَلَا تُغْفَرُ الذُّنُوبُ جَمِيعُهَا إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، أَوْ بِحَسَنَاتٍ تَتَضَاءَلُ وَتَتَلَاشَى فِيهَا الذُّنُوبُ، فَهِيَ كَالْبَحْرِ لَا يَتَغَيَّرُ بِالْجِيَفِ، وَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ. فَلِأَهْلِ الذُّنُوبِ ثَلَاثَةُ أَنْهَارٍ عِظَامٍ يَتَطَهَّرُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ لَمْ تَفِ بِطُهْرِهِمْ طُهِّرُوا فِي نَهْرِ الْجَحِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: نَهْرُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَنَهْرُ الْحَسَنَاتِ الْمُسْتَغْرِقَةِ لِلْأَوْزَارِ الْمُحِيطَةِ بِهَا، وَنَهْرُ الْمَصَائِبِ الْعَظِيمَةِ الْمُكَفِّرَةِ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا أَدْخَلَهُ أَحَدَ هَذِهِ الْأَنْهَارِ الثَّلَاثَةِ، فَوَرَدَ الْقِيَامَةَ طَيِّبًا طَاهِرًا، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّطْهِيرِ الرَّابِعِ. [فَصْلٌ تَوْبَةُ الْعَبْدِ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِنْ رَبِّهِ] وَتَوْبَةُ الْعَبْدِ إِلَى اللَّهِ مَحْفُوفَةٌ بِتَوْبَةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ قَبْلَهَا، وَتَوْبَةٍ مِنْهُ بَعْدَهَا، فَتَوْبَتُهُ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِنْ رَبِّهِ، سَابِقَةٍ وَلَاحِقَةٍ، فَإِنَّهُ تَابَ عَلَيْهِ أَوَّلًا إِذْنًا وَتَوْفِيقًا وَإِلْهَامًا، فَتَابَ الْعَبْدُ، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ثَانِيًا، قَبُولًا وَإِثَابَةً، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ - وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 117 - 118] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِمْ سَبَقَتْ تَوْبَتَهُمْ، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي جَعَلَتْهُمْ تَائِبِينَ، فَكَانَتْ سَبَبًا مُقْتَضِيًا لِتَوْبَتِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا تَابُوا حَتَّى تَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَالْحُكْمُ يَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ.

فصل مبدأ التوبة ومنتهاها

وَنَظِيرُ هَذَا هِدَايَتُهُ لِعَبْدِهِ قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ، فَيَهْتَدِي بِهِدَايَتِهِ، فَتُوجِبُ لَهُ تِلْكَ الْهِدَايَةُ هِدَايَةً أُخْرَى يُثِيبُهُ اللَّهُ بِهَا هِدَايَةً عَلَى هِدَايَتِهِ، فَإِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْهُدَى الْهُدَى بَعْدَهُ، كَمَا أَنَّ مِنْ عُقُوبَةِ الضَّلَالَةِ الضَّلَالَةُ بَعْدَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] فَهَدَاهُمْ أَوْلًا فَاهْتَدَوْا، فَزَادَهُمْ هُدًى ثَانِيًا، وَعَكْسُهُ فِي أَهْلِ الزَّيْغِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] فَهَذِهِ الْإِزَاغَةُ الثَّانِيَةُ عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى زَيْغِهِمْ. وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ سِرِّ اسْمَيْهِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، فَهُوَ الْمُعِدُّ، وَهُوَ الْمُمِدُّ، وَمِنْهُ السَّبَبُ وَالْمُسَبَّبُ، وَهُوَ الَّذِي يُعِيذُ مِنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِهِ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ،» وَالْعَبْدُ تَوَّابٌ، وَاللَّهُ تَوَّابٌ، فَتَوْبَةُ الْعَبْدِ رُجُوعُهُ إِلَى سَيِّدِهِ بَعْدَ الْإِبَاقِ، وَتَوْبَةُ اللَّهِ نَوْعَانِ: إِذْنٌ وَتَوْفِيقٌ، وَقَبُولٌ وَإِمْدَادٌ. [فَصْلٌ مَبْدَأُ التَّوْبَةِ وَمُنْتَهَاهَا] وَالتَّوْبَةُ لَهَا مَبْدَأٌ وَمُنْتَهًى، فَمَبْدَؤُهَا الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ بِسُلُوكِ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي نَصَبَهُ لِعِبَادِهِ، مُوصِلًا إِلَى رِضْوَانِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِسُلُوكِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153] وَبِقَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 52] وَبِقَوْلِهِ: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24] . وَنِهَايَتُهَا الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي الْمَعَادِ، وَسُلُوكُ صِرَاطِهِ الَّذِي نَصَبَهُ مُوصِلًا إِلَى جَنَّتِهِ، فَمَنْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ بِالتَّوْبَةِ رَجَعَ إِلَيْهِ فِي الْمَعَادِ بِالثَّوَابِ، وَهَذَا هُوَ أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71] قَالَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا يَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، مَتَابًا حَسَنًا يُفَضَّلُ عَلَى غَيْرِهِ فَالتَّوْبَةُ الْأُولَى - وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَنْ تَابَ - رُجُوعٌ عَنِ الشِّرْكِ، وَالثَّانِيَةُ: رُجُوعٌ إِلَى اللَّهِ لِلْجَزَاءِ وَالْمُكَافَأَةِ.

فصل الذنوب صغائر وكبائر

وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَزَاءَ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الْأَوَامِرِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ عَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ وَأَرَادَهَا، فَلْيَجْعَلْ تَوْبَتَهُ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَلِوَجْهِهِ خَالِصًا، لَا لِغَيْرِهِ. التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ لَازِمُ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ إِشْعَارُ التَّائِبِ وَإِعْلَامُهُ بِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: فَلْيَعْلَمْ تَوْبَتَهُ إِلَى مَنْ؟ وَرُجُوعُهُ إِلَى مَنْ؟ فَإِنَّهَا إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ. وَنَظِيرُ هَذَا - عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ - قَوْلُهُ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] أَيِ اعْلَمْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَنْ عَصَى أَوَامِرَهُ وَلَمْ يُبَلِّغْ رِسَالَتَهُ. وَالتَّأْوِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّ التَّوْبَةَ تَكُونُ أَوَّلًا بِالْقَصْدِ وَالْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهَا، ثُمَّ إِذَا قَوِيَ الْعَزْمُ وَصَارَ جَازِمًا وَجَدَ بِهِ فِعْلَ التَّوْبَةِ، فَالتَّوْبَةُ الْأُولَى بِالْعَزْمِ وَالْقَصْدِ لِفِعْلِهَا، وَالثَّانِيَةُ بِنَفْسِ إِيقَاعِ التَّوْبَةِ وَإِيجَادِهَا، وَالْمَعْنَى: فَمَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ قَصْدًا وَنِيَّةً وَعَزْمًا، فَتَوْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ عَمَلًا وَفِعْلًا، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» . [فَصْلٌ الذُّنُوبُ صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ] وَالذُّنُوبُ تَنْقَسِمُ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَبِالِاعْتِبَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] وَقَالَ تَعَالَى {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَنَّهُ قَالَ «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ - مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» . وَأَمَّا مَا يُحْكَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرُ، وَلَيْسَ فِيهَا صَغَائِرُ، فَلَيْسَ مُرَادَهُ أَنَّهَا مُسْتَوِيَةٌ فِي الْإِثْمِ، بِحَيْثُ يَكُونُ إِثْمُ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ، كَإِثْمِ الْوَطْءِ فِي الْحَرَامِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ مَنْ عُصِيَ بِهَا كُلَّهَا كَبَائِرُ، وَمَعَ هَذَا فَبَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، وَمَعَ هَذَا فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ لَفْظِيٌّ لَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى. وَالَّذِي جَاءَ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ لَمَمًا وَمُحَقَّرَاتٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ» وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اللَّمَمَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالُوا: وَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُلِمَّ بِالْكَبِيرَةِ مَرَّةً، ثُمَّ يَتُوبَ مِنْهَا، وَيَقَعُ فِيهَا ثُمَّ يَنْتَهِي عَنْهَا، لَا يَتَّخِذُهَا دَأْبَهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءُ اللَّمَمِ مِنَ الِاجْتِنَابِ إِذْ مَعْنَاهُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ، وَلَا تَقَعُ مِنْهُمُ الْكَبَائِرُ إِلَّا لَمَمًا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ يَقَعُ مِنْهُمُ اللَّمَمُ. وَحَسُنَ وُقُوعُ الِانْقِطَاعِ بَعْدَ الْإِيجَابِ - وَالْغَالِبُ خِلَافُهُ - أَنَّهُ إِنَّمَا يَقَعُ حَيْثُ يَقَعُ التَّفْرِيغُ، إِذْ فِي الْإِيجَابِ هُنَا مَعْنَى النَّفْيِ صَرِيحًا، فَالْمَعْنَى: لَا يَأْتُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، فَحَسُنَ اسْتِثْنَاءُ اللَّمَمِ. وَلَعَلَّ هَذَا الَّذِي شَجَّعَ أَبَا إِسْحَاقَ عَلَى أَنْ قَالَ: الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرُ، إِذِ الْأَصْلُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ، وَلَا سِيَّمَا وَهُوَ مِنْ مُوجَبٍ.

فصل اللمم

وَلَكِنَّ النُّصُوصَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي فَصْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فِي اللَّمَمِ مَا هُوَ؟ وَالثَّانِي: فِي الْكَبَائِرِ وَهَلْ لَهَا عَدَدٌ يَحْصُرُهَا، أَوْ حَدٌّ يَحُدُّهَا؟ فَلْنَذْكُرْ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِالْفَصْلَيْنِ. [فَصْلُ اللَّمَمِ] فَأَمَّا اللَّمَمُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ الْإِلْمَامُ بِالذَّنْبِ مَرَّةً، ثُمَّ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: هَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَرِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: اللَّمَمُ مَا دُونَ الشِّرْكِ قَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ أَبُو صَالِحٍ: سُئِلْتُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] ؟ فَقُلْتُ: هُوَ الرَّجُلُ يُلِمُّ بِالذَّنْبِ ثُمَّ لَا يُعَاوِدُهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهَا مَلَكٌ كَرِيمٌ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ اللَّمَمَ مَا دُونَ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ طَاوُوسٍ عَنْهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ «وَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَى» . وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: اللَّمَمُ عَلَى وَجْهَيْنِ، كُلُّ ذَنْبٍ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَلَيْهِ حَدًّا فِي الدُّنْيَا، وَلَا عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ، فَذَلِكَ الَّذِي تُكَفِّرُهُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، مَا لَمْ يَبْلُغِ الْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ هُوَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ، يُلِمُّ بِهِ الْمُسْلِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، فَيَتُوبُ مِنْهُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: هُوَ مَا أَلَمَّ بِالْقَلْبِ، أَيْ مَا خَطَرَ عَلَيْهِ.

قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: اللَّمَمُ النَّظَرُ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، فَهُوَ مَغْفُورٌ، فَإِنْ أَعَادَ النَّظَرَ فَلَيْسَ بِلَمَمٍ، وَهُوَ ذَنْبٌ، وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا » وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّمَمَ مَا فَعَلُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ، فَاللَّهُ لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: أَنْتُمْ بِالْأَمْسِ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ اللَّمَمَ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ، كَالنَّظْرَةِ، وَالْغَمْزَةِ، وَالْقُبْلَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: إِنَّهُ يُلِمُّ بِالْكَبِيرَةِ ثُمَّ لَا يَعُودُ إِلَيْهَا، فَإِنَّ اللَّمَمَ إِمَّا أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا، وَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا قَالَ الْكَلْبِيُّ، أَوْ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ أَلْحَقَا مَنِ ارْتَكَبَ الْكَبِيرَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً - وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهَا، بَلْ حَصَلَتْ مِنْهُ فَلْتَةٌ فِي عُمْرِهِ - بِاللَّمَمِ، وَرَأَيَا أَنَّهَا إِنَّمَا تَتَغَلَّظُ وَتَكْبُرُ وَتَعْظُمُ فِي حَقِّ مَنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ مِرَارًا عَدِيدَةً، وَهَذَا مِنْ فِقْهِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَوْرِ عُلُومِهِمْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ يُسَامِحُ عَبْدَهُ الْمَرَّةَ وَالْمَرَّتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، وَإِنَّمَا يُخَافُ الْعَنَتُ عَلَى مَنِ اتَّخَذَ الذَّنْبَ عَادَتَهُ، وَتَكَرَّرَ مِنْهُ مِرَارًا كَثِيرَةً، وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ سَلَفِيَّةٌ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْوَاقِعِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دُفِعَ إِلَيْهِ سَارِقٌ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ مَا سَرَقْتُ غَيْرَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَقَالَ: كَذَبْتَ، فَلَمَّا قُطِعَتْ يَدُهُ قَالَ: اصْدُقْنِي، كَمْ لَكَ بِهَذِهِ الْمَرَّةِ؟ فَقَالَ: كَذَا وَكَذَا مَرَّةً؟ فَقَالَ: صَدَقْتَ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ بِأَوَّلِ ذَنْبٍ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَأَوَّلُ ذَنْبٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ اللَّمَمَ، فَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ وَنَظِيرُهُ، فَالْقَوْلَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ مُتَّفِقَانِ غَيْرُ مُخْتَلِفَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ فِيهَا مَعْنَى الْمُقَارَبَةِ وَالْإِعْتَابِ بِالْفِعْلِ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَلَمَّ بِكَذَا، إِذَا قَارَبَهُ وَلَمْ يَغْشَهُ، وَمِنْ هَذَا سُمِّيَتِ الْقُبْلَةُ وَالْغَمْزَةُ لَمَمًا، لِأَنَّهَا تُلِمُّ بِمَا بَعْدَهَا، وَيُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَزُورُنَا إِلَّا لِمَامًا، أَيْ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، فَمَعْنَى اللَّفْظَةِ ثَابِتٌ فِي الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ فَسَّرَ الصَّحَابَةُ بِهِمَا الْآيَةَ، وَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ فَإِنَّهُمْ لَا يَجْتَنِبُونَهُ، فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ اجْتِنَابِ اللَّمَمِ، وَهَذَا مُحَالٌ، وَإِنَّمَا هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَضْمُونِ الْكَلَامِ وَمَعْنَاهُ، فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ فِي تَقْسِيمِ النَّاسِ إِلَى مُحْسِنٍ وَمُسِيءٍ، وَأَنَّ اللَّهَ يَجْزِي هَذَا بِإِسَاءَتِهِ وَهَذَا بِإِحْسَانِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُحْسِنِينَ وَوَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، وَمَضْمُونُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُحْسِنًا مَجْزِيًّا بِإِحْسَانِهِ، نَاجِيًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، إِلَّا مَنِ اجْتَنَبَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، فَحَسُنَ حِينَئِذٍ اسْتِثْنَاءُ اللَّمَمِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْكَبَائِرِ، فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي جِنْسِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ. وَضَابِطُ الِانْقِطَاعِ أَنْ يَكُونَ لَهُ دُخُولٌ فِي جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَفْظُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62] فَإِنَّ السَّلَامَ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ جِنْسُ اللَّغْوِ وَالسَّلَامِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 24] فَإِنَّ الْحَمِيمَ وَالْغَسَّاقَ دَاخِلٌ فِي جِنْسِ الذَّوْقِ الْمُنْقَسِمِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ فِي الْأَوَّلِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا سَلَامًا، وَفِي الثَّانِي: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا، وَنَصَّ عَلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ تَصْرِيحًا، لِيَكُونَ نَفْيُهُ بِطَرِيقِ التَّصْرِيحِ وَالتَّنْصِيصِ، لَا بِطْرِيقِ الْعُمُومِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَخْصِيصُ هَذَا الْفَرْدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] فَإِنَّ الظَّنَّ دَاخِلٌ فِي الشُّعُورِ الَّذِي هُوَ جِنْسُ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ. وَأَدَقُّ مِنْ هَذَا دُخُولُ الِانْقِطَاعِ فِيمَا يُفْهِمُهُ الْكَلَامُ بِلَازِمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] إِذْ مَفْهُومُ هَذَا أَنَّ نِكَاحَ مَنْكُوحَاتِ الْآبَاءِ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ عَفْوٌ، وَكَذَلِكَ {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ

تَقَدَّمَ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْقُبْحِ الْمَفْهُومِ مِنْ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَالذَّمِّ لِمَنْ فَعَلَهُ، فَحَسُنَ أَنْ يُقَالَ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ. فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ لِتَحْقِيقِ دَوَامِ الْحَيَاةِ وَعَدَمِ ذَوْقِ الْمَوْتِ، وَهُوَ يَجْعَلُ النَّفْيَ الْأَوَّلَ الْعَامَّ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ اسْتِثْنَاءٌ الْبَتَّةَ، إِذْ لَوْ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ اسْتِثْنَاءُ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ لَكَانَ أَوْلَى بِذِكْرِهِ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، فَجَرَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مَجْرَى التَّأْكِيدِ، وَالتَّنْصِيصِ عَلَى حِفْظِ الْعُمُومِ، وَهَذَا جَارٍ فِي كُلِّ مُنْقَطِعٍ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَسْرَارِ الْعَرَبِيَّةِ. فَقَوْلُهُ: وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا الْأَوَارِيَّ، يُفْهَمُ مِنْهُ لَوْ وَجَدْتُ فِيهَا أَحَدًا لَاسْتَثْنَيْتُهُ وَلَمْ أَعْدِلْ إِلَى الْأَوَارِيِّ الَّتِي لَيْسَتْ بِأَحَدٍ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا لَفْظَةُ " أَوْ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] هُوَ كَالتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ الْحَقِيقَةُ لَا الْمُبَالَغَةُ، فَإِنَّهَا إِنْ لَمْ تَزِدْ قَسْوَتُهَا عَلَى الْحِجَارَةِ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ فِي الْقَسْوَةِ لَا دُونَهَا، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَزِدْ عَدَدُهُمْ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ لَمْ يَنْقُصْ عَنْهَا، فَذِكْرُ " أَوْ " هَاهُنَا كَالتَّنْصِيصِ عَلَى حِفْظِ الْمِائَةِ الْأَلْفِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا أُرِيدَ بِهَا الْمُبَالَغَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل الكبائر

[فَصْلٌ الْكَبَائِرُ] وَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا اخْتِلَافًا لَا يَرْجِعُ إِلَى تَبَايُنٍ وَتَضَادٍّ، وَأَقْوَالُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ

«الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» . وَفِيهِمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ - ثَلَاثًا - قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا - فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ» . وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْتُ «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قَالَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قَالَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» . وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، قَالُوا: وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ» . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ» . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْكَبَائِرِ أَسَبْعٌ هُنَّ؟ قَالَ: هُنَّ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، مَنْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْهَا فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخَلِّدُ فِي النَّارِ مِنَ الْأُمَّةِ إِلَّا مَنْ كَانَ رَاجِعًا عَنِ الْإِسْلَامِ، أَوْ جَاحِدًا فَرِيضَةً، أَوْ مُكَذِّبًا بِالْقَدَرِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ أَوَّلِهَا

إِلَى قَوْلِهِ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: هِيَ كُلُّ ذَنْبٍ خَتَمَهُ اللَّهُ بِنَارٍ، أَوْ غَضَبٍ، أَوْ لَعْنَةٍ، أَوْ عَذَابٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ حَدًّا فِي الدُّنْيَا، أَوْ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: مَا سَمَّاهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ كَبِيرًا، أَوْ عَظِيمًا، نَحْوَ قَوْلِهِ: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] ، {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] ، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] ، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] ، {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] . قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الْكَبَائِرُ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْمَظَالِمِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْعِبَادِ، وَالصَّغَائِرُ مَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يَعْفُو، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُنَادِي مُنَادٍ مِنْ قِبَلِ بُطْنَانِ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ عَفَا عَنْكُمْ جَمِيعِكُمْ، الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتَ، فَتَوَاهَبُوا الْمَظَالِمَ بَيْنَكُمْ، وَادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي» .

قُلْتُ: مُرَادُ سُفْيَانَ: أَنَّ الذُّنُوبَ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ أَسْهَلُ أَمْرًا مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ، فَإِنَّهَا تَزُولُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَالْعَفْوِ وَالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا مَظَالِمُ الْعِبَادِ فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِيفَائِهَا، وَفِي الْمُعْجَمِ لَلطَّبَرَانِيِّ: الظُّلْمُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةُ دَوَاوِينَ: دِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ مَظَالِمُ الْعِبَادِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، وَهُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الدِّيوَانَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، لَكِنَّ مُسْتَحِقَّهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَمَا يَعْفُو عَنْهُ مِنْ حَقِّهِ وَيَهَبُهُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يَسْتَوْفِيهِ، فَأَمْرُهُ أَسْهَلُ مِنَ الدِّيوَانِ الَّذِي لَا يَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئًا لِعَدْلِهِ، وَإِيصَالِ كُلِّ حَقٍّ إِلَى صَاحِبِهِ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ: الْكَبَائِرُ ذُنُوبُ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَالسَّيِّئَاتُ ذُنُوبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. قُلْتُ: يُرِيدُ أَنَّ الْبِدْعَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّهَا أَكْبَرُ مِنْ كَبَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَكَبَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ صَغَائِرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبِدَعِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ: الْبِدْعَةُ أَحَبُّ إِلَى إِبْلِيسَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُتَابُ مِنْهَا، وَالْمَعْصِيَةُ يُتَابُ مِنْهَا. وَقِيلَ: الْكَبَائِرُ ذُنُوبُ الْعَمْدِ، وَالسَّيِّئَاتُ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ، الْمَرْفُوعَةُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. قُلْتُ: هَذَا مِنْ أَضْعَفِ الْأَقْوَالِ طَرْدًا وَعَكْسًا، فَإِنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَالْإِكْرَاهَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ جِنْسِ الْمَعَاصِي، حَتَّى يَكُونَ أَحَدَ قِسْمَيْهَا. وَالْعَمْدُ نَوْعَانِ: نَوْعُ كَبَائِرَ، وَنَوْعُ صَغَائِرَ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَرَى أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا كَبَائِرُ، وَأَنَّ الصَّغَائِرَ مَا عَفَا اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْهُ، وَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ التَّكْلِيفِ،

وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ نَوْعَانِ تَحْتَ جِنْسِ الْمَعْصِيَةِ، وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُ النَّوْعِ بِدُونِ جِنْسِهِ. وَقِيلَ: الْكَبَائِرُ ذُنُوبُ الْمُسْتَحِلِّينَ، مِثْلَ ذَنْبِ إِبْلِيسَ، وَالصَّغَائِرُ ذُنُوبُ الْمُسْتَغْفِرِينَ، مِثْلَ ذَنْبِ آدَمَ. قُلْتُ: أَمَّا الْمُسْتَحِلُّ فَذَنْبُهُ دَائِرٌ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالتَّأْوِيلِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ فَكَافِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَمُتَأَوِّلٌ أَوْ مُقَلِّدٌ، وَأَمَّا الْمُسْتَغْفِرُ فَإِنَّ اسْتِغْفَارَهُ الْكَامِلَ يَمْحُو كَبَائِرَهُ وَصَغَائِرَهُ، فَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ. فَهَذَا الْفَرْقُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادَ صَاحِبِهِ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْمُسْتَحِلُّ مِنَ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عُقُوبَةً مِمَّا يَفْعَلُهُ الْمُعْتَرِفُ بِالتَّحْرِيمِ، النَّادِمُ عَلَى الذَّنْبِ، الْمُسْتَغْفِرُ مِنْهُ، وَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْكَبَائِرُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ، وَالسَّيِّئَاتُ مُقَدِّمَاتُهَا، وَتَوَابِعُهَا مِمَّا يَجْتَمِعُ فِيهِ الصَّالِحُ وَالْفَاسِقُ، مِثْلَ النَّظْرَةِ وَاللَّمْسَةِ وَالْقُبْلَةِ وَأَشْبَاهِهَا، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ» . وَقِيلَ: الْكَبَائِرُ مَا يَسْتَصْغِرُهُ الْعِبَادُ، وَالصَّغَائِرُ مَا يَسْتَعْظِمُونَهُ، فَيَخَافُونَ مُوَاقَعَتَهُ، وَاحْتَجَّ أَرْبَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ، كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُوبِقَاتِ. قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُ السُّدِّيِّ: الْكَبَائِرُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ، فَبَيَانٌ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ الْكِبَارَ هِيَ الْكَبَائِرُ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ قِسْمَانِ، أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَفْسَدَةِ بِنَفْسِهِ، وَنَفْسُ فِعْلِهِ مَنْشَأُ الْمَفْسَدَةِ، فَهَذَا كَبِيرَةٌ، كَقَتْلِ النَّفْسِ وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ وَالزِّنَا. الثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ ذَلِكَ وَمَبَادِيهِ، كَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ، وَالْحَدِيثِ وَالْقُبْلَةِ،

الَّذِي هُوَ مُقَدِّمَةُ الزِّنَا، فَهُوَ مِنَ الصَّغَائِرِ، فَالصَّغَائِرُ مِنْ جِنْسِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَالْكَبَائِرُ مِنْ جِنْسِ الْمَقَاصِدِ وَالْغَايَاتِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مَا يَسْتَصْغِرُهُ الْعِبَادُ فَهُوَ كَبَائِرُ، وَمَا يَسْتَكْبِرُونَهُ فَهُوَ صَغَائِرُ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْفَرْقَ رَاجِعٌ إِلَى اسْتِكْبَارِهِمْ وَاسْتِصْغَارِهِمْ، فَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَسْتَصْغِرُ النَّظْرَةَ، وَيَسْتَكْبِرُ الْفَاحِشَةَ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اسْتِصْغَارَهُمْ لِلذَّنْبِ يُكَبِّرُهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَاسْتِعْظَامَهُمْ لَهُ يُصَغِّرُهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا صَغُرَتْ ذُنُوبُهُ عِنْدَهُ كَبُرَتْ عِنْدَ اللَّهِ، وَكُلَّمَا كَبُرَتْ عِنْدَهُ صَغُرَتْ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَكَمَالِهِمْ - كَانُوا يَعُدُّونَ تِلْكَ الْأَعْمَالَ مُوبِقَاتٍ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ - لِنُقْصَانِ مَرْتَبَتِهِمْ عَنْهُمْ، وَتَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمْ - صَارَتْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ فِي أَعْيُنِهِمْ أَدَقَّ مِنَ الشَّعْرِ. وَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ هَذَا فَانْظُرْ هَلْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ إِذَا سَمِعَ نَصَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارَضَهُ بِقِيَاسِهِ، أَوْ ذَوْقِهِ، أَوْ وَجْدِهِ، أَوْ عَقْلِهِ، أَوْ سِيَاسَتِهِ؟ وَهَلْ كَانَ قَطُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُقَدِّمُ عَلَى نَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْلًا أَوْ قِيَاسًا، أَوْ ذَوْقًا، أَوْ سِيَاسَةً، أَوْ تَقْلِيدَ مُقَلِّدٍ؟ فَلَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أَعْيُنَهُمْ وَصَانَهَا أَنْ تَنْظُرَ إِلَى وَجْهِ مَنْ هَذَا حَالُهُ، أَوْ يَكُونَ فِي زَمَانِهِمْ، وَلَقَدْ حَكَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَنْ قَدَّمَ حُكْمَهُ عَلَى نَصِّ الرَّسُولِ بِالسَّيْفِ، وَقَالَ: هَذَا حُكْمِي فِيهِ، فَيَالَلَّهُ! كَيْفَ لَوْ رَأَى مَا رَأَيْنَا، وَشَاهَدَ مَا بُلِينَا بِهِ مِنْ تَقْدِيمِ رَأْيِ كُلِّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ عَلَى قَوْلِ الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُعَادَاةُ مَنِ اطَّرَحَ آرَاءَهُمْ، وَقَدَّمَ عَلَيْهَا قَوْلَ الْمَعْصُومِ؟ فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَهُوَ الْمُوعِدُ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ. وَقِيلَ: الْكَبَائِرُ الشِّرْكُ وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، وَالصَّغَائِرُ مَا عَدَا الشِّرْكَ مِنْ ذُنُوبِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ. وَاحْتَجَّ أَرْبَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - «ابْنَ آدَمَ، لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ

الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا أَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا «الظُّلْمُ ثَلَاثُ دَوَاوِينَ، دِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ الشِّرْكُ، وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ ظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ بِهِ اللَّهُ شَيْئًا، وَهُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ» . فَهَذَا جُمْلَةُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَرْبَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ. أَمَّا الْآيَةُ: فَإِنَّ غَايَتَهَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا دُونَ الشِّرْكِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ دُونَ الشِّرْكِ وَهَذَا حَقٌّ، فَإِنْ أَرَادَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ هَذَا فَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ كُلَّ مَا دُونَ الشِّرْكِ فَهُوَ صَغِيرَةٌ فِي نَفْسِهِ، فَبَاطِلٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ وَغَيْرُهُ مِمَّا تَأْتِي عَلَيْهِ التَّوْبَةُ، فَمَا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الشِّرْكِ وَمَا دُونَهُ؟ وَهَلْ هُمَا فِي حَقِّ التَّائِبِ، أَمْ غَيْرِ التَّائِبِ؟ أَمْ أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ التَّائِبِ وَالْآخَرُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ لِطَائِفَةٍ، فَآيَةُ النِّسَاءِ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] هِيَ لِغَيْرِ التَّائِبِينَ فِي الْقِسْمَيْنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ فِي الْمَغْفِرَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الشِّرْكَ يُغْفَرُ بِالتَّوْبَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ إِسْلَامُ كَافِرٍ أَبَدًا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ خَصَّصَ مَغْفِرَةَ مَا دُونَ الشِّرْكِ بِمَنْ يَشَاءُ، وَمَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ لِلتَّائِبِينَ عَامَّةٌ لَا تَخْصِيصَ فِيهَا، فَخَصَّصَ وَقَيَّدَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حُكْمُ غَيْرِ التَّائِبِ. وَأَمَّا آيَةُ الزُّمَرِ {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] فَهِيَ فِي حَقِّ التَّائِبِ، لِأَنَّهُ أَطْلَقَ وَعَمَّمَ، فَلَمْ يَخُصَّهَا بِأَحَدٍ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِذَنْبٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يَغْفِرُهُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الذُّنُوبِ لَا يَغْفِرُهَا، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ وَالتَّعْمِيمَ فِي حَقِّ التَّائِبِ، فَكُلُّ مَنْ تَابَ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ غُفِرَ لَهُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ «لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا،

أَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الشِّرْكَ كُلَّهُ صَغَائِرُ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا فَذُنُوبُهُ مَغْفُورَةٌ كَائِنَةً مَا كَانَتْ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ ارْتِبَاطُ إِيمَانِ الْقُلُوبِ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَتَعَلُّقُهَا بِهَا، وَإِلَّا لَمْ يُفْهَمْ مُرَادُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقَعُ الْخَلْطُ وَالتَّخْبِيطُ. فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّفْيَ الْعَامَّ لِلشِّرْكِ - أَنْ لَا يُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا الْبَتَّةَ - لَا يَصْدُرُ مِنْ مُصِرٍّ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَبَدًا، وَلَا يُمْكِنُ مُدْمِنُ الْكَبِيرَةِ وَالْمُصِرُّ عَلَى الصَّغِيرَةِ أَنْ يَصْفُوَ لَهُ التَّوْحِيدُ، حَتَّى لَا يُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَالِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى جَدَلِيٍّ لَا حَظَّ لَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، بَلْ قَلْبُهُ كَالْحَجَرِ أَوْ أَقْسَى، يَقُولُ: وَمَا الْمَانِعُ؟ وَمَا وَجْهُ الْإِحَالَةِ؟ وَلَوْ فُرِضَ ذَلِكَ وَاقِعًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُحَالٌ لِذَاتِهِ! . فَدَعْ هَذَا الْقَلْبَ الْمَفْتُونَ بِجَدَلِهِ وَجَهْلِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ يُوجِبُ مِنْ خَوْفِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَرَجَائِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَحُبِّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَذُلِّهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَتَوَكُّلِهِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ مَا يَصِيرُ بِهِ مُنْغَمِسًا فِي بِحَارِ الشِّرْكِ، وَالْحَاكِمُ فِي هَذَا مَا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ عَقْلٌ، فَإِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْقَلْبِ فَيُورِثَهُ خَوْفًا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَذَلِكَ شِرْكٌ، وَيُورِثُهُ مَحَبَّةً لِغَيْرِ اللَّهِ، وَاسْتِعَانَةً بِغَيْرِهِ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوصِلُهُ إِلَى غَرَضِهِ، فَيَكُونُ عَمَلُهُ لَا بِاللَّهِ وَلَا لِلَّهِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الشِّرْكِ. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ تَوْحِيدُ أَبِي جَهْلٍ، وَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَوْ أَنْجَى هَذَا التَّوْحِيدُ وَحْدَهُ، لِأَنْجَى عُبَّادَ الْأَصْنَامِ، وَالشَّأْنُ فِي تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُوَحِّدِينَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، مُصِرًّا عَلَيْهَا، غَيْرَ تَائِبٍ مِنْهَا، مَعَ كَمَالِ تَوْحِيدِهِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْحُبِّ وَالْخُضُوعِ، وَالذُّلِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ لِلرَّبِّ تَعَالَى. وَأَمَّا حَدِيثُ الدَّوَاوِينِ فَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ حَقَّ الرَّبِّ تَعَالَى لَا يَئُودُهُ أَنْ يَهَبَهُ وَيُسْقِطَهُ، وَلَا يَحْتَفِلَ بِهِ وَيَعْتَنِي بِهِ كَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ بِهِ الْبَتَّةَ، أَوْ أَنَّهُ كُلَّهُ صَغَائِرُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ وَالْإِسْقَاطِ وَالْهِبَةِ مَا لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الصَّغَائِرُ مَا دُونَ الْحَدَّيْنِ، وَالْكَبَائِرُ مَا تَعَلَّقَ بِهَا أَحَدُ الْحَدَّيْنِ.

فصل الأحوال التي تكون معها الكبيرة صغيرة وبالعكس

وَمُرَادُهُمْ بِالْحَدَّيْنِ عُقُوبَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكُلُّ ذَنْبٍ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ مَحْدُودَةٌ فِي الدُّنْيَا، كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ، أَوْ عَلَيْهِ وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ، كَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَقَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَخِيَانَتِهِ أَمَانَتَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَصَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: هِيَ إِلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى السَّبْعِ. [فَصْلٌ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَكُونُ مَعَهَا الْكَبِيرَةُ صَغِيرَةً وَبِالْعَكْسِ] فَصْلٌ وَهَاهُنَا أَمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْكَبِيرَةَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهَا - مِنَ الْحَيَاءِ وَالْخَوْفِ، وَالِاسْتِعْظَامِ لَهَا - مَا يُلْحِقُهَا بِالصَّغَائِرِ، وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالصَّغِيرَةِ - مِنْ قِلَّةِ الْحَيَاءِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، وَتَرْكِ الْخَوْفِ، وَالِاسْتِهَانَةِ بِهَا - مَا يُلْحِقُهَا بِالْكَبَائِرِ، بَلْ يَجْعَلُهَا فِي أَعْلَى رُتَبِهَا. وَهَذَا أَمْرٌ مَرْجِعُهُ إِلَى مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْفِعْلِ، وَالْإِنْسَانُ يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُعْفَى لِلْمُحِبِّ، وَلِصَاحِبِ الْإِحْسَانِ الْعَظِيمِ، مَا لَا يُعْفَى لِغَيْرِهِ، وَيُسَامَحُ بِمَا لَا يُسَامَحُ بِهِ غَيْرُهُ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَقُولُ: انْظُرْ إِلَى مُوسَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - رَمَى الْأَلْوَاحَ الَّتِي فِيهَا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي كَتَبَهُ بِيَدِهِ فَكَسَرَهَا، وَجَرَّ بِلِحْيَةِ نَبِيٍّ مِثْلِهِ، وَهُوَ هَارُونُ، وَلَطَمَ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا، وَعَاتَبَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَهُ عَلَيْهِ، وَرَبُّهُ تَعَالَى يَحْتَمِلُ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيُحِبُّهُ وَيُكْرِمُهُ وَيُدَلِّلُهُ، لِأَنَّهُ قَامَ لِلَّهِ تِلْكَ الْمَقَامَاتِ الْعَظِيمَةَ فِي مُقَابَلَةِ أَعْدَى عَدُوٍّ لَهُ، وَصَدَعَ بِأَمْرِهِ، وَعَالَجَ أُمَّتَيِ الْقِبْطِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ كَالشَّعْرَةِ فِي الْبَحْرِ. وَانْظُرْ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذِهِ الْمَقَامَاتُ الَّتِي لِمُوسَى، غَاضَبَ رَبَّهُ مَرَّةً، فَأَخَذَهُ وَسَجَنَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ لَهُ مَا احْتَمَلَ لِمُوسَى، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ إِذَا أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْمَحَاسِنِ مَا يَشْفَعُ لَهُ، وَبَيْنَ مَنْ إِذَا أَتَى بِذَنْبٍ جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِكُلِّ شَفِيعٍ، كَمَا قِيلَ: وَإِذَا الْحَبِيبُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ... جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيعِ فَالْأَعْمَالُ تَشْفَعُ لِصَاحِبِهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَتُذَكِّرُ بِهِ إِذَا وَقَعَ فِي الشَّدَائِدِ، قَالَ تَعَالَى عَنْ

ذِي النُّونِ {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ - لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144] ، وَفِرْعَوْنُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ لَهُ سَابِقَةُ خَيْرٍ تَشْفَعُ لَهُ وَقَالَ {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «إِنَّ مَا تَذْكُرُونَ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ - مِنَ التَّسْبِيحِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ - يَتَعَاطَفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يُذَكِّرْنَ بِصَاحِبِهِنَّ، أَفَلَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْ يُذَكِّرُ بِهِ؟» وَلِهَذَا مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ أَفْلَحَ وَلَمْ يُعَذَّبْ، وَوُهِبَتْ لَهُ سَيِّئَاتُهُ لِأَجْلِ حَسَنَاتِهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا يُغْفَرُ لِصَاحِبِ التَّوْحِيدِ مَا لَا يُغْفَرُ لِصَاحِبِ الْإِشْرَاكِ، لِأَنَّهُ قَدْ قَامَ بِهِ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ مَا اقْتَضَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَيُسَامِحَهُ مَا لَا يُسَامِحُ بِهِ الْمُشْرِكَ، وَكَمَا كَانَ تَوْحِيدُ الْعَبْدِ أَعْظَمَ، كَانَتْ مَغْفِرَةُ اللَّهِ لَهُ أَتَمَّ، فَمَنْ لَقِيَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا الْبَتَّةَ غَفَرَ لَهُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا، كَائِنَةً مَا كَانَتْ، وَلَمْ يُعَذِّبْ بِهَا. وَلَسْنَا نَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَدْخُلُ بِذُنُوبِهِ، وَيُعَذَّبُ عَلَى مِقْدَارِ جُرْمِهِ، ثُمَّ يُخْرَجُ مِنْهَا، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِمَنْ أَحَاطَ عِلْمًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَنَزِيدُ هَاهُنَا إِيضَاحًا لِعِظَمِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ: اعْلَمْ أَنَّ أَشِعَّةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُبَدِّدُ مِنْ ضَبَابِ الذُّنُوبِ وَغُيُومِهَا بِقَدْرِ قُوَّةِ ذَلِكَ الشُّعَاعِ وَضَعْفِهِ، فَلَهَا نُورٌ، وَتَفَاوُتُ أَهْلِهَا فِي ذَلِكَ النُّورِ - قُوَّةً، وَضَعْفًا - لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ نُورُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي قَلْبِهِ كَالشَّمْسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهَا فِي قَلْبِهِ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهَا فِي قَلْبِهِ كَالْمَشْعَلِ الْعَظِيمِ. وَآخَرُ كَالسِّرَاجِ الْمُضِيءِ، وَآخَرُ كَالسِّرَاجِ الضَّعِيفِ. وَلِهَذَا تَظْهَرُ الْأَنْوَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَيْمَانِهِمْ، وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ، عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ، بِحَسَبِ مَا

فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ نُورِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، عِلْمًا وَعَمَلًا، وَمَعْرِفَةً وَحَالًا. وَكُلَّمَا عَظُمَ نُورُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَاشْتَدَّ أَحْرَقَ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ، حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا وَصَلَ إِلَى حَالٍ لَا يُصَادِفُ مَعَهَا شُبْهَةً وَلَا شَهْوَةً، وَلَا ذَنْبًا، إِلَّا أَحْرَقَهُ، وَهَذَا حَالُ الصَّادِقِ فِي تَوْحِيدِهِ، الَّذِي لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا، فَأَيُّ ذَنْبٍ أَوْ شَهْوَةٍ أَوْ شُبْهَةٍ دَنَتْ مِنْ هَذَا النُّورِ أَحْرَقَهَا، فَسَمَاءُ إِيمَانِهِ قَدْ حُرِسَتْ بِالنُّجُومِ مِنْ كُلِّ سَارِقٍ لِحَسَنَاتِهِ، فَلَا يَنَالُ مِنْهَا السَّارِقُ إِلَّا عَلَى غِرَّةٍ وَغَفْلَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا لِلْبَشَرِ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ وَعَلِمَ مَا سُرِقَ مِنْهُ اسْتَنْقَذَهُ مِنْ سَارِقِهِ، أَوْ حَصَّلَ أَضْعَافَهُ بِكَسْبِهِ، فَهُوَ هَكَذَا أَبَدًا مَعَ لُصُوصِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لَيْسَ كَمَنْ فَتَحَ لَهُمْ خِزَانَتَهُ، وَوَلَّى الْبَابَ ظَهْرَهُ. وَلَيْسَ التَّوْحِيدُ مُجَرَّدَ إِقْرَارِ الْعَبْدِ بِأَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، كَمَا كَانَ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ مُقِرِّينَ بِذَلِكَ وَهُمْ مُشْرِكُونَ، بَلِ التَّوْحِيدُ يَتَضَمَّنُ - مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَالْخُضُوعِ لَهُ، وَالذُّلِّ لَهُ، وَكَمَالِ الِانْقِيَادِ لِطَاعَتِهِ، وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ الْأَعْلَى بِجَمِيعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْمَنْعِ، وَالْعَطَاءِ، وَالْحُبِّ، وَالْبُغْضِ - مَا يَحُولُ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْمَعَاصِي، وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَمَنْ عَرَفَ هَذَا عَرَفَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ» وَقَوْلَهُ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَمَا جَاءَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى ظَنَّهَا بَعْضُهُمْ مَنْسُوخَةً، وَظَنَّهَا بَعْضُهُمْ قِيلَتْ قَبْلَ وُرُودِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَاسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ، وَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى نَارِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ، وَأَوَّلَ بَعْضُهُمُ الدُّخُولَ بِالْخُلُودِ، وَقَالَ: الْمَعْنَى لَا يَدْخُلُهَا خَالِدًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَكْرَهَةِ. وَالشَّارِعُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ حَاصِلًا بِمُجَرَّدِ قَوْلِ اللِّسَانِ فَقَطْ، فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَهُمْ تَحْتَ الْجَاحِدِينَ لَهَا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَوْلِ الْقَلْبِ، وَقَوْلِ اللِّسَانِ، وَقَوْلُ الْقَلْبِ يَتَضَمَّنُ مِنْ مَعْرِفَتِهَا، وَالتَّصْدِيقِ بِهَا، وَمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ - مِنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَنْفِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، الْمُخْتَصَّةِ بِهِ، الَّتِي يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُهَا لِغَيْرِهِ، وَقِيَامُ هَذَا الْمَعْنَى بِالْقَلْبِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَيَقِينًا، وَحَالًا - مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ قَائِلِهَا عَلَى النَّارِ، وَكُلُّ قَوْلٍ رَتَّبَ الشَّارِعُ مَا رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ، فَإِنَّمَا هُوَ الْقَوْلُ التَّامُّ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قَالَ فِي يَوْمٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ،

حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ - أَوْ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ - وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» وَلَيْسَ هَذَا مُرَتَّبًا عَلَى مُجَرَّدِ قَوْلِ اللِّسَانِ. نَعَمْ مَنْ قَالَهَا بِلِسَانِهِ، غَافِلًا عَنْ مَعْنَاهَا، مُعْرِضًا عَنْ تَدَبُّرِهَا، وَلَمْ يُوَاطِئْ قَلْبُهُ لِسَانَهُ، وَلَا عَرَفَ قَدْرَهَا وَحَقِيقَتَهَا، رَاجِيًا مَعَ ذَلِكَ ثَوَابَهَا، حَطَّتْ مِنْ خَطَايَاهُ بِحَسَبِ مَا فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِصُوَرِهَا وَعَدَدِهَا، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ مَا فِي الْقُلُوبِ، فَتَكُونُ صُورَةُ الْعَمَلَيْنِ وَاحِدَةً، وَبَيْنَهُمَا فِي التَّفَاضُلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالرَّجُلَانِ يَكُونُ مَقَامُهُمَا فِي الصَّفِّ وَاحِدًا، وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَتَأَمَّلْ حَدِيثَ الْبِطَاقَةِ الَّتِي تُوضَعُ فِي كِفَّةٍ، وَيُقَابِلُهَا تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ، فَتَثْقُلُ الْبِطَاقَةُ وَتَطِيشُ السِّجِلَّاتُ، فَلَا يُعَذَّبُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مُوَحِّدٍ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ الْبِطَاقَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ بِذُنُوبِهِ، وَلَكِنَّ السِّرَّ الَّذِي ثَقَلَ بِطَاقَةَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَطَاشَتْ لِأَجْلِهِ السِّجِلَّاتُ لَمَّا لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْبِطَاقَاتِ، انْفَرَدَتْ بِطَاقَتُهُ بِالثِّقَلِ وَالرَّزَانَةِ. وَإِذَا أَرَدْتَ زِيَادَةَ الْإِيضَاحِ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَانْظُرْ إِلَى ذِكْرِ مَنْ قَلْبُهُ مَلْآنٌ بِمَحَبَّتِكَ، وَذِكْرِ مَنْ هُوَ مُعْرِضٌ عَنْكَ غَافِلٌ سَاهٍ، مَشْغُولٌ بِغَيْرِكَ، قَدِ انْجَذَبَتْ دَوَاعِي قَلْبِهِ إِلَى مَحَبَّةِ غَيْرِكَ، وَإِيثَارِهِ عَلَيْكَ، هَلْ يَكُونُ ذِكْرُهُمَا وَاحِدًا؟ أَمْ هَلْ يَكُونُ وَلَدَاكَ اللَّذَانِ هُمَا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، أَوْ عَبْدَاكَ، أَوْ زَوْجَتَاكَ، عِنْدَكَ سَوَاءً؟ . وَتَأَمَّلْ مَا قَامَ بِقَلْبِ قَاتِلِ الْمِائَةِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي لَمْ تَشْغَلْهُ عِنْدَ السِّيَاقِ عَنِ

فصل قوة الإيمان والعلم التي يسامح صاحبها بما لا يسامح به غيره

السَّيْرِ إِلَى الْقَرْيَةِ، وَحَمَلَتْهُ - وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ - عَلَى أَنْ جَعَلَ يَنُوءُ بِصَدْرِهِ، وَيُعَالِجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، فَهَذَا أَمْرٌ آخَرُ، وَإِيمَانٌ آخَرُ، وَلَا جَرَمَ أَنْ أُلْحِقَ بِالْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ، وَجُعِلَ مِنْ أَهْلِهَا. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا قَامَ بِقَلْبِ الْبَغِيِّ الَّتِي رَأَتْ ذَلِكَ الْكَلْبَ - وَقَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ يَأْكُلُ الثَّرَى - فَقَامَ بِقَلْبِهَا ذَلِكَ الْوَقْتَ - مَعَ عَدَمِ الْآلَةِ، وَعَدَمِ الْمُعِينِ وَعَدَمِ مَنْ تُرَائِيهِ بِعَمَلِهَا - مَا حَمَلَهَا عَلَى أَنْ غَرَّرَتْ بِنَفْسِهَا فِي نُزُولِ الْبِئْرِ، وَمَلْءِ الْمَاءِ فِي خُفِّهَا، وَلَمْ تَعْبَأْ بِتَعَرُّضِهَا لِلتَّلَفِ، وَحَمْلِهَا خُفَّهَا بِفِيهَا، وَهُوَ مَلْآنٌ، حَتَّى أَمْكَنَهَا الرُّقِيُّ مِنَ الْبِئْرِ، ثُمَّ تَوَاضُعُهَا لِهَذَا الْمَخْلُوقِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِضَرْبِهِ، فَأَمْسَكَتْ لَهُ الْخُفَّ بِيَدِهَا حَتَّى شَرِبَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَرْجُوَ مِنْهُ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، فَأَحْرَقَتْ أَنْوَارُ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ التَّوْحِيدِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا مِنَ الْبِغَاءِ، فَغُفِرَ لَهَا. فَهَكَذَا الْأَعْمَالُ وَالْعُمَّالُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْغَافِلُ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا الْإِكْسِيرِ الْكِيمَاوِيِّ، الَّذِي إِذَا وُضِعَ مِنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ عَلَى قَنَاطِيرَ مِنْ نُحَاسِ الْأَعْمَالِ قَلَبَهَا ذَهَبًا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ قُوَّةُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ الَّتِي يُسَامَحُ صَاحِبُهَا بِمَا لَا يُسَامَحُ بِهِ غَيْرُهُ] فَصْلٌ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ الْمُحِبَّ يُسَامَحُ بِمَا لَا يُسَامَحُ بِهِ غَيْرُهُ، وَيُعْفَى لِلْوَلِيِّ عَمَّا لَا يُعْفَى لِسِوَاهُ، وَكَذَلِكَ الْعَالِمُ أَيْضًا، يُغْفَرُ لَهُ مَا لَا يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ، كَمَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ - مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - إِذَا جَمَعَ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، قَالَ لِلْعُلَمَاءِ: إِنِّي كُنْتُ أُعْبَدُ بِفَتْوَاكُمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْلِطُونَ كَمَا يَخْلِطُ النَّاسُ، وَإِنِّي لَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعَذِّبَكُمُ، اذْهَبُوا فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» ، هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمْ صَحِيحٌ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَالْجُودِ وَالْإِحْسَانِ، وَلَكِنْ مَاذَا تَصْنَعُونَ بِالْعُقُوبَةِ الْمُضَاعَفَةِ الَّتِي وَرَدَ التَّهْدِيدُ بِهَا فِي حَقِّ أُولَئِكَ إِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ مَا يُكْرَهُ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]

وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا - إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 74 - 75] أَيْ لَوْلَا تَثْبِيتُنَا لَكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ بَعْضَ الشَّيْءِ، وَلَوْ فَعَلْتَ لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ عَذَابِ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ عَذَابِ الْمَمَاتِ، أَيْ ضَاعَفْنَا لَكَ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ - لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ - ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46] أَيْ لَوْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِيَمِينِهِ، وَقَطَعْنَا نِيَاطَ قَلْبِهِ وَأَهْلَكْنَاهُ، وَقَدْ أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنَ الرُّكُونِ إِلَى أَعْدَائِهِ بِذَرَّةٍ مِنْ قَلْبِهِ، وَمِنَ التَّقَوُّلِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَكَمْ مِنْ رَاكِنٍ إِلَى أَعْدَائِهِ وَمُتَقَوِّلٍ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قَدْ أَمْهَلَهُ وَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ، كَأَرْبَابِ الْبِدَعِ كُلِّهِمْ، الْمُتَقَوِّلِينَ عَلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَدِينِهِ. وَمَا ذَكَرْتُمْ فِي قِصَّةِ يُونُسَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُسَامَحْ بِغَضْبَةٍ، وَسُجِنَ لِأَجْلِهَا فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَيَكْفِي حَالُ أَبِي الْبَشَرِ حَيْثُ لَمْ يُسَامَحُ بِلُقْمَةٍ، وَكَانَتْ سَبَبَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَيْضًا حَقٌّ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ مَنْ كَمُلَتْ عَلَيْهِ نِعْمَةُ اللَّهِ، وَاخْتَصَّهُ مِنْهَا بِمَا لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ غَيْرَهُ فِي إِعْطَائِهِ مِنْهَا مَا حُرِمَهُ غَيْرُهُ، فَحُبِيَ بِالْإِنْعَامِ، وَخُصَّ بِالْإِكْرَامِ، وَخُصَّ بِمَزِيدِ التَّقْرِيبِ، وَجُعِلَ فِي مَنْزِلَةِ الْوَلِيِّ الْحَبِيبِ، اقْتَضَتْ حَالُهُ مِنْ حِفْظِ مَرْتَبَةِ الْوِلَايَةِ وَالْقُرْبِ وَالِاخْتِصَاصِ بِأَنْ يُرَاعِيَ مَرْتَبَتَهُ مِنْ أَدْنَى مُشَوِّشٍ وَقَاطِعٍ، فَلِشِدَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَمَزِيدِ تَقْرِيبِهِ، وَاتِّخَاذِهِ لِنَفْسِهِ، وَاصْطِفَائِهِ عَلَى غَيْرِهِ، تَكُونُ حُقُوقُ وَلِيِّهِ وَسَيِّدِهِ عَلَيْهِ أَتَمَّ، وَنِعَمُهُ عَلَيْهِ أَكْمَلَ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ فَوْقَ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ إِذَا غَفَلَ وَأَخَلَّ بِمُقْتَضَى مَرْتَبَتِهِ نُبِّهَ بِمَا لَمْ يُنَبَّهْ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ الْبَرَّانِيُّ، مَعَ كَوْنِهِ يُسَامَحُ بِمَا لَمْ يُسَامَحْ بِهِ ذَلِكَ أَيْضًا، فَيَجْتَمِعُ فِي حَقِّهِ الْأَمْرَانِ. وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَعَدَمِ تَنَاقُضِهِمَا، فَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِهِ، فَإِنَّ الْمَلِكَ يُسَامِحُ خَاصَّتَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ بِمَا لَمْ يُسَامِحْ بِهِ مَنْ لَيْسَ فِي مَنْزِلَتِهِمْ، وَيَأْخُذُهُمْ، وَيُؤَدِّبُهُمْ بِمَا لَمْ يَأْخُذْ بِهِ غَيْرَهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا شَوَاهِدَ هَذَا وَهَذَا، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَأَنْتَ إِذَا كَانَ لَكَ عَبْدَانِ، أَوْ وَلَدَانِ، أَوْ زَوْجَتَانِ، أَحَدُهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنَ الْآخَرِ، وَأَقْرَبُ إِلَى قَلْبِكَ، وَأَعَزُّ عَلَيْكَ عَامَلْتَهُ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَاجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ

الْمُعَامَلَتَانِ بِحَسَبِ قُرْبِهِ مِنْكَ، وَحُبِّكَ لَهُ، وَعِزَّتِهِ عَلَيْكَ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى كَمَالِ إِحْسَانِكَ إِلَيْهِ، وَإِتْمَامِ نِعْمَتِكَ عَلَيْهِ اقْتَضَتْ مُعَامَلَتُهُ بِمَا لَا تُعَامِلُ بِهِ مَنْ دُونَهُ، مِنَ التَّنْبِيهِ وَعَدَمِ الْإِهْمَالِ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى إِحْسَانِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَكَ، وَطَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ وَنُصْحِهِ وَهَبْتَ لَهُ وَسَامَحْتَهُ، وَعَفَوْتَ عَنْهُ، بِمَا لَا تَفْعَلُهُ مَعَ غَيْرِهِ، فَالْمُعَامَلَتَانِ بِحَسَبِ مَا مِنْكَ وَمَا مِنْهُ. وَقَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الشَّرْعِ، حَيْثُ جَعَلَ حَدَّ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالتَّزَوُّجِ إِذَا تَعَدَّاهُ إِلَى الزِّنَا الرَّجْمَ، وَحَدَّ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ هَذِهِ النِّعْمَةَ الْجَلْدَ، وَكَذَلِكَ ضَاعَفَ الْحَدَّ عَلَى الْحُرِّ الَّذِي قَدْ مَلَّكَهُ نَفْسَهُ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِ نِعْمَتَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ، وَجَعَلَ حَدَّ الْعَبْدِ الْمَنْقُوصِ بِالرِّقِّ، الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذِهِ النِّعْمَةُ نِصْفَ ذَلِكَ. فَسُبْحَانَ مَنْ بَهَرَتْ حِكْمَتُهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَجَزَائِهِ عُقُولَ الْعَالَمِينَ، وَشَهِدَتْ بِأَنَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. لِلَّهِ سِرٌّ تَحْتَ كُلِّ لَطِيفَةٍ ... فَأَخُو الْبَصَائِرِ غَائِصٌ يَتَمَلَّقُ

فصل في أجناس ما يتاب منه

[فَصْلٌ فِي أَجْنَاسِ مَا يُتَابُ مِنْهُ] [الْكُفْرُ] وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعَبْدُ اسْمَ التَّائِبِ حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْهَا. وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ جِنْسًا مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، هِيَ أَجْنَاسُ الْمُحَرَّمَاتِ: الْكُفْرُ، وَالشِّرْكُ، وَالنِّفَاقُ، وَالْفُسُوقُ، وَالْعِصْيَانُ، وَالْإِثْمُ، وَالْعُدْوَانُ، وَالْفَحْشَاءُ، وَالْمُنْكَرُ، وَالْبَغْيُ، وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَاتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. فَهَذِهِ الِاثْنَا عَشَرَ جِنْسًا عَلَيْهَا مَدَارُ كُلِّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَإِلَيْهَا انْتِهَاءُ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِمْ إِلَّا أَتْبَاعَ الرُّسُلِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الرَّجُلِ أَكْثَرُهَا وَأَقَلُّهَا، أَوْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، وَقَدْ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَقَدْ لَا يَعْلَمُ. فَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ هِيَ بِالتَّخَلُّصِ مِنْهَا، وَالتَّحَصُّنِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ مُوَاقَعَتِهَا، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا لِمَنْ عَرَفَهَا. وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا، وَنَذْكُرُ مَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ وَمَا افْتَرَقَتْ، لِتَتَبَيَّنَ حُدُودَهَا وَحَقَائِقَهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، كَمَا وَفَّقَ لَهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَهَذَا الْفَصْلُ مِنْ أَنْفَعِ فُصُولِ الْكِتَابِ، وَالْعَبْدُ أَحْوَجُ شَيْءٍ إِلَيْهِ. الْكُفْرُ فَأَمَّا الْكُفْرُ فَنَوْعَانِ: كُفْرٌ أَكْبَرُ، وَكُفْرٌ أَصْغَرُ. فَالْكَفْرُ الْأَكْبَرُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ. وَالْأَصْغَرُ مُوجِبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْوَعِيدِ دُونَ الْخُلُودِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى - وَكَانَ مِمَّا يُتْلَى فَنُسِخَ لَفْظُهُ - " لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ " وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ «اثْنَتَانِ فِي أُمَّتِي، هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ» وَقَوْلُهُ فِي السُّنَنِ «مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي

دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ» وَقَوْلِهِ: «لَا تَرْجِعُوا بِعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ، بَلْ إِذَا فَعَلَهُ فَهُوَ بِهِ كُفْرٌ، وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَكَذَلِكَ قَالَ طَاوُسٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى تَرْكِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ جَاحِدًا لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ مَرْجُوحٌ، فَإِنَّ نَفْسَ جُحُودِهِ كُفْرٌ، سَوَاءٌ حَكَمَ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى تَرْكِ الْحُكْمِ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، قَالَ: وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيِّ، وَهُوَ أَيْضًا بَعِيدٌ، إِذِ الْوَعِيدُ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ بِالْمُنَزَّلِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ تَعْطِيلَ الْحُكْمِ بِجَمِيعِهِ وَبِبَعْضِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى الْحُكْمِ بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ، تَعَمُّدًا مِنْ غَيْرِ جَهْلٍ بِهِ وَلَا خَطَأٍ فِي التَّأْوِيلِ، حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ عُمُومًا.

فصل الكفر الأكبر

وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَالضَّحَاكِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكُفْرَيْنِ، الْأَصْغَرَ وَالْأَكْبَرَ بِحَسَبِ حَالِ الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ إِنِ اعْتَقَدَ وُجُوبَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَعَدَلَ عَنْهُ عِصْيَانًا، مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ، فَهَذَا كُفْرٌ أَصْغَرُ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ، مَعَ تَيَقُّنِهِ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، فَهَذَا كُفْرٌ أَكْبَرُ، وَإِنْ جَهِلَهُ وَأَخْطَأَهُ فَهَذَا مُخْطِئٌ، لَهُ حُكْمُ الْمُخْطِئِينَ. وَالْقَصْدُ أَنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا مِنْ نَوْعِ الْكُفْرِ الْأَصْغَرِ، فَإِنَّهَا ضِدُّ الشُّكْرِ، الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ بِالطَّاعَةِ، فَالسَّعْيُ إِمَّا شُكْرٌ، وَإِمَّا كَفْرٌ، وَإِمَّا ثَالِثٌ، لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْكُفْرُ الْأَكْبَرُ] فَصْلٌ وَأَمَّا الْكُفْرُ الْأَكْبَرُ، فَخَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: كُفْرُ تَكْذِيبٍ، وَكُفْرُ اسْتِكْبَارٍ وَإِبَاءٍ مَعَ التَّصْدِيقِ، وَكُفْرُ إِعْرَاضٍ، وَكُفْرُ شَكٍّ، وَكُفْرُ نِفَاقٍ. فَأَمَّا كُفْرُ التَّكْذِيبِ فَهُوَ اعْتِقَادُ كَذِبِ الرُّسُلِ، وَهَذَا الْقِسْمُ قَلِيلٌ فِي الْكُفَّارِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَيَّدَ رُسُلَهُ، وَأَعْطَاهُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِمْ مَا أَقَامَ بِهِ الْحُجَّةَ، وَأَزَالَ بِهِ الْمَعْذِرَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وَقَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] . وَإِنَّ سُمِّيَ هَذَا كُفْرَ تَكْذِيبٍ أَيْضًا فَصَحِيحٌ، إِذْ هُوَ تَكْذِيبٌ بِاللِّسَانِ. وَأَمَّا كُفْرُ الْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ فَنَحْوُ كُفْرِ إِبْلِيسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْحَدْ أَمْرَ اللَّهِ وَلَا قَابَلَهُ بِالْإِنْكَارِ، وَإِنَّمَا تَلَقَّاهُ بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَمِنْ هَذَا كُفْرُ مَنْ عَرَفَ صِدْقَ الرَّسُولِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْقَدْ لَهُ إِبَاءً وَاسْتِكْبَارًا، وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى كُفْرِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47]

فصل الجحود نوعان مطلق ومقيد

وَقَوْلِ الْأُمَمِ لِرُسُلِهِمْ {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10] وَقَوْلِهِ: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11] وَهُوَ كُفْرُ الْيَهُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] وَقَالَ {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] وَهُوَ كُفْرُ أَبِي طَالِبٍ أَيْضًا، فَإِنَّهُ صَدَّقَهُ وَلَمْ يَشُكَّ فِي صِدْقِهِ، وَلَكِنْ أَخَذَتْهُ الْحَمِيَّةُ، وَتَعْظِيمُ آبَائِهِ أَنْ يَرْغَبَ عَنْ مِلَّتِهِمْ، وَيَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ. وَأَمَّا كُفْرُ الْإِعْرَاضِ فَأَنْ يُعْرِضَ بِسَمْعِهِ وَقَلْبِهِ عَنِ الرَّسُولِ، لَا يُصَدِّقُهُ وَلَا يُكَذِّبُهُ، وَلَا يُوَالِيهِ وَلَا يُعَادِيهِ، وَلَا يُصْغِي إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الْبَتَّةَ، كَمَا قَالَ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ يَالِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ أَقُولُ لَكَ كَلِمَةً، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَأَنْتَ أَجَلُّ فِي عَيْنِي مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَأَنْتَ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ. وَأَمَّا كُفْرُ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِصِدْقِهِ وَلَا يُكَذِّبُهُ، بَلْ يَشُكُّ فِي أَمْرِهِ، وَهَذَا لَا يَسْتَمِرُّ شَكُّهُ إِلَّا إِذَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْإِعْرَاضَ عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُمْلَةً، فَلَا يَسْمَعُهَا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَأَمَّا مَعَ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهَا، وَنَظَرِهِ فِيهَا فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَهُ شَكٌّ، لِأَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِلصِّدْقِ، وَلَا سِيَّمَا بِمَجْمُوعِهَا، فَإِنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الصِّدْقِ كَدَلَالَةِ الشَّمْسِ عَلَى النَّهَارِ. وَأَمَّا كُفْرُ النِّفَاقِ فَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ الْإِيمَانَ، وَيَنْطَوِيَ بِقَلْبِهِ عَلَى التَّكْذِيبِ، فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الْأَكْبَرُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَقْسَامِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ الْجُحُودُ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ] فَصْلٌ وَكُفْرُ الْجَحُودِ نَوْعَانِ: كُفْرٌ مُطَلَقٌ عَامٌّ، وَكُفْرٌ مُقَيَّدٌ خَاصٌّ. فَالْمُطْلَقُ: أَنْ يَجْحَدَ جُمْلَةَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وَإِرْسَالَهُ الرَّسُولَ. وَالْخَاصُّ الْمُقَيَّدُ أَنْ يَجْحَدَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ، أَوْ تَحْرِيمَ مُحَرَّمٍ مِنْ مُحَرَّمَاتِهِ، أَوْ صِفَةٍ وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ، أَوْ خَبَرًا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ، عَمْدًا، أَوْ تَقْدِيمًا لِقَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ عَلَيْهِ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ.

فصل الشرك نوعان أكبر وأصغر

وَأَمَّا جَحْدُ ذَلِكَ جَهْلًا، أَوْ تَأْوِيلًا يُعْذَرُ فِيهِ صَاحِبُهُ فَلَا يُكَفَّرُ صَاحِبُهُ بِهِ، كَحَدِيثِ الَّذِي جَحَدَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَحْرِقُوهُ وَيَذْرُوهُ فِي الرِّيحِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَرَحِمَهُ لِجَهْلِهِ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلَهُ مَبْلَغَ عِلْمِهِ، وَلَمْ يَجْحَدْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى إِعَادَتِهِ عِنَادًا أَوْ تَكْذِيبًا. [فَصْلٌ الشِّرْكُ نَوْعَانِ أَكْبَرُ وَأَصْغَرُ] فَصْلٌ الشِّرْكُ وَأَمَّا الشِّرْكُ، فَهُوَ نَوْعَانِ: أَكْبَرُ وَأَصْغَرُ، فَالْأَكْبَرُ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا، يُحِبُّهُ كَمَا يُحِبُّ اللَّهَ، وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي تَضَمَّنَ تَسْوِيَةَ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلِهَذَا قَالُوا لِآلِهَتِهِمْ فِي النَّارِ {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ - إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98] مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَخْلُقُ وَلَا تُرْزَقُ، وَلَا تُحْيِي وَلَا تُمِيتُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ التَّسْوِيَةُ فِي الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْعِبَادَةِ كَمَا هُوَ حَالُ أَكْثَرِ مُشْرِكِي الْعَالَمِ، بَلْ كُلُّهُمْ يُحِبُّونَ مَعْبُودَاتِهِمْ وَيُعَظِّمُونَهَا وَيُوَالُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ - بَلْ أَكْثَرُهُمْ - يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ أَعْظَمَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِذِكْرِهِمْ أَعْظَمَ مِنِ اسْتِبْشَارِهِمْ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَيَغْضَبُونَ لِمُنْتَقِصِ مَعْبُودِيهِمْ وَآلِهَتِهِمْ - مِنَ الْمَشَايِخِ - أَعْظَمَ مِمَّا يَغْضَبُونَ إِذَا انْتَقَصَ أَحَدٌ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَإِذَا انْتُهِكَتْ حُرْمَةٌ مِنْ حُرُمَاتِ آلِهَتِهِمْ وَمَعْبُودَاتِهِمْ غَضِبُوا غَضَبَ اللَّيْثِ إِذَا حَرِدَ، وَإِذَا انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُ اللَّهِ لَمْ يَغْضَبُوا لَهَا، بَلْ إِذَا قَامَ الْمُنْتَهِكُ لَهَا بِإِطْعَامِهِمْ شَيْئًا رَضُوا عَنْهُ، وَلَمْ تَتَنَكَّرْ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَقَدْ شَاهَدْنَا هَذَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْهُمْ جَهْرَةً، وَتَرَى أَحَدَهُمْ قَدِ اتَّخَذَ ذِكْرَ إِلَهِهِ وَمَعْبُودِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ دَيْدَنًا لَهُ إِنْ قَامَ وَإِنْ قَعَدَ، وَإِنْ عَثَرَ وَإِنْ مَرِضَ وَإِنِ اسْتَوْحَشَ، فَذِكْرُ إِلَهِهِ وَمَعْبُودِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَهُوَ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ بَابُ حَاجَتِهِ إِلَى اللَّهِ، وَشَفِيعُهُ عِنْدَهُ، وَوَسِيلَتُهُ إِلَيْهِ. وَهَكَذَا كَانَ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ سَوَاءً، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي قَامَ بِقُلُوبِهِمْ، وَتَوَارَثَهُ الْمُشْرِكُونَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ آلِهَتِهِمْ، فَأُولَئِكَ كَانَتْ آلِهَتُهُمْ مِنَ الْحَجَرِ وَغَيْرُهُمُ اتَّخَذُوهَا مِنَ

الْبَشَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، حَاكِيًا عَنْ أَسْلَافِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 3] ثُمَّ شَهِدَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْكَذِبِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ فَقَالَ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] . فَهَذِهِ حَالُ مَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا، يَزْعُمُ أَنَّهُ يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ، وَمَا أَعَزَّ مَنْ يَخْلُصُ مِنْ هَذَا؟ بَلْ مَا أَعَزَّ مَنْ لَا يُعَادِي مَنْ أَنْكَرَهُ! . وَالَّذِي فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَسَلَفِهِمْ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا عَيْنُ الشِّرْكِ، وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ وَأَبْطَلَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ كُلَّهَا لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ، وَرَضِيَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ، وَهُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ، الَّذِينَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَأْذَنُ لِمَنْ شَاءَ فِي الشَّفَاعَةِ لَهُمْ، حَيْثُ لَمْ يَتَّخِذْهُمْ شُفَعَاءَ مِنْ دُونِهِ، فَيَكُونُ أَسْعَدَ النَّاسِ بِشَفَاعَةِ مَنْ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ صَاحِبُ التَّوْحِيدِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ شَفِيعًا مِنْ دُونِ اللَّهِ رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ. وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي أَثْبَتَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ هِيَ الشَّفَاعَةُ الصَّادِرَةُ عَنْ إِذْنِهِ لِمَنْ وَحَّدَهُ، وَالَّتِي نَفَاهَا اللَّهُ هِيَ الشَّفَاعَةُ الشِّرْكِيَّةُ، الَّتِي فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، الْمُتَّخِذِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ، فَيُعَامَلُونَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ مِنْ شُفَعَائِهِمْ، وَيَفُوزُ بِهَا الْمُوَحِّدُونَ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ - وَقَدْ سَأَلَهُ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ - قَالَ «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» كَيْفَ جَعَلَ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُنَالُ بِهَا شَفَاعَتُهُ تَجْرِيدَ التَّوْحِيدِ، عَكْسَ مَا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ تُنَالُ بِاتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَهُمْ شُفَعَاءَ، وَعِبَادَتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَقَلَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي زَعْمِهِمُ الْكَاذِبِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ سَبَبَ الشَّفَاعَةِ هُوَ تَجْرِيدُ التَّوْحِيدِ، فَحِينَئِذٍ يَأْذَنُ اللَّهُ لِلشَّافِعِ أَنْ يُشَفَّعَ. وَمِنْ جَهْلِ الْمُشْرِكِ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَهُ وَلِيًّا أَوْ شَفِيعًا أَنَّهُ يَشْفَعُ لَهُ، وَيَنْفَعُهُ عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا يَكُونُ خَوَاصُّ الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ تَنْفَعُ شَفَاعَتُهُمْ مَنْ وَالَاهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَأْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ إِلَّا لِمَنْ رَضِيَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى

فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] وَبَقِيَ فَصْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ إِلَّا التَّوْحِيدَ، وَاتِّبَاعَ الرَّسُولِ، وَعَنْ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ يَسْأَلُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، كَمَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَلِمَتَانِ يُسْأَلُ عَنْهُمَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ: مَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ وَمَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟ . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُصُولٍ، تَقْطَعُ شَجَرَةَ الشِّرْكِ مِنْ قَلْبِ مَنْ وَعَاهَا وَعَقَلَهَا لَا شَفَاعَةَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَأْذَنُ إِلَّا لِمَنْ رَضِيَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ، وَلَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ إِلَّا تَوْحِيدَهُ، وَاتِّبَاعَ رَسُولِهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ شِرْكَ الْعَادِلِينَ بِهِ غَيْرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُمْ يَعْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمَحَبَّةِ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ - إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98] وَكَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] . وَتَرَى الْمُشْرِكَ يُكَذِّبُ حَالَهُ وَعَمَلَهُ قَوْلُهُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا نُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، وَلَا نُسَوِّيهِمْ بِاللَّهِ، ثُمَّ يَغْضَبُ لَهُمْ وَلِحُرُمَاتِهِمْ - إِذَا انْتُهِكَتْ - أَعْظَمَ مِمَّا يَغْضَبُ لِلَّهِ، وَيَسْتَبْشِرُ بِذِكْرِهِمْ، وَيَتَبَشْبَشُ بِهِ، سِيَّمَا إِذَا ذُكِرَ عَنْهُمْ مَا لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ إِغَاثَةِ اللَّهَفَاتِ، وَكَشْفِ الْكُرُبَاتِ، وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ، وَأَنَّهُمُ الْبَابُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، فَإِنَّكَ تَرَى الْمُشْرِكَ يَفْرَحُ وَيُسَرُّ وَيَحِنُّ قَلْبُهُ، وَتَهِيجُ مِنْهُ لَوَاعِجُ التَّعْظِيمِ وَالْخُضُوعِ لَهُمْ وَالْمُوَالَاةِ، وَإِذَا ذَكَرْتَ لَهُ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَجَرَّدْتَ تَوْحِيدَهُ لَحِقَتْهُ وَحْشَةٌ، وَضِيقٌ، وَحَرَجٌ وَرَمَاكَ بِنَقْصِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي لَهُ، وَرُبَّمَا عَادَاكَ. رَأَيْنَا وَاللَّهِ مِنْهُمْ هَذَا عِيَانًا، وَرَمَوْنَا بِعَدَاوَتِهِمْ، وَبَغَوْا لَنَا الْغَوَائِلَ، وَاللَّهُ مُخْزِيهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمْ تَكُنْ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا، كَمَا قَالَ إِخْوَانُهُمْ: عَابَ آلِهَتَنَا، فَقَالَ هَؤُلَاءِ: تَنَقَّصْتُمْ مَشَايِخَنَا، وَأَبْوَابَ حَوَائِجِنَا إِلَى اللَّهِ، وَهَكَذَا قَالَ النَّصَارَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا قَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْمَسِيحَ عَبْدُ اللَّهِ، قَالُوا: تَنَقَّصْتَ الْمَسِيحَ وَعِبْتَهُ، وَهَكَذَا قَالَ أَشْبَاهُ الْمُشْرِكِينَ لِمَنْ مَنَعَ اتِّخَاذَ الْقُبُورِ أَوْثَانًا تُعْبَدُ، وَمَسَاجِدَ تُقْصَدُ، وَأَمَرَ بِزِيَارَتِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ وَرَسُولُهُ، قَالُوا: تَنَقَّصْتَ أَصْحَابَهَا.

فَانْظُرْ إِلَى هَذَا التَّشَابُهِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ قَدْ تَوَاصَوْا بِهِ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] . وَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ جَمِيعًا، قَطْعًا يَعْلَمُ مَنْ تَأَمَّلَهُ وَعَرَفَهُ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا، أَوْ شَفِيعًا، فَهُوَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ فَقَالَ تَعَالَى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ - وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23] . فَالْمُشْرِكُ إِنَّمَا يَتَّخِذُ مَعْبُودَهُ لِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنَ النَّفْعِ، وَالنَّفْعُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِمَّنْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ إِمَّا مَالِكٌ لِمَا يُرِيدُهُ عِبَادُهُ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا كَانَ شَرِيكًا لِلْمَالِكِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا لَهُ كَانَ مُعِينًا لَهُ وَظَهِيرًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعِينًا وَلَا ظَهِيرًا كَانَ شَفِيعًا عِنْدَهُ. فَنَفَى سُبْحَانَهُ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ نَفْيًا مُتَرَتِّبًا، مُتَنَقِّلًا مِنَ الْأَعْلَى إِلَى مَا دُونَهُ، فَنَفَى الْمِلْكَ، وَالشِّرْكَةَ، وَالْمُظَاهَرَةَ، وَالشَّفَاعَةَ، الَّتِي يَظُنُّهَا الْمُشْرِكُ، وَأَثْبَتَ شَفَاعَةً لَا نَصِيبَ فِيهَا لِمُشْرِكٍ، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ بِإِذْنِهِ. فَكَفَى بِهَذِهِ الْآيَةِ نُورًا، وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً، وَتَجْرِيدًا لِلتَّوْحِيدِ، وَقَطْعًا لِأُصُولِ الشِّرْكِ وَمُوَدَّاهُ لِمَنْ عَقَلَهَا، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ أَمْثَالِهَا وَنَظَائِرِهَا، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْعُرُونَ بِدُخُولِ الْوَاقِعِ تَحْتَهُ، وَتَضَمُّنِهِ لَهُ، وَيَظُنُّونَهُ فِي نَوْعٍ وَفِي قَوْمٍ قَدْ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يُعْقِبُوا وَارِثًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ فَهْمِ الْقُرْآنِ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنْ كَانَ أُولَئِكَ قَدْ خَلَوْا، فَقَدْ وَرِثَهُمْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ، أَوْ شَرٌّ مِنْهُمْ، أَوْ دُونَهُمْ، وَتَنَاوُلُ الْقُرْآنِ لَهُمْ كَتَنَاوُلِهِ لِأُولَئِكَ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، إِذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ. وَهَذَا لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْجَاهِلِيَّةَ وَالشِّرْكَ، وَمَا عَابَهُ الْقُرْآنُ وَذَمَّهُ وَقَعَ فِيهِ وَأَقَرَّهُ، وَدَعَا إِلَيْهِ وَصَوَّبَهُ وَحَسَّنَهُ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ

نَظِيرُهُ، أَوْ شَرٌّ مِنْهُ، أَوْ دُونَهُ، فَيَنْقُضُ بِذَلِكَ عُرَى الْإِسْلَامِ عَنْ قَلْبِهِ، وَيَعُودُ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً، وَالسُّنَّةُ بِدْعَةً، وَيَكْفُرُ الرَّجُلُ بِمَحْضِ الْإِيمَانِ وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ، وَيُبَدَّعُ بِتَجْرِيدِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُفَارَقَةِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، وَمَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ وَقَلْبٌ حَيٌّ يَرَى ذَلِكَ عِيَانًا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَصْلٌ وَأَمَّا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ فَكَيَسِيرِ الرِّيَاءِ، وَالتَّصَنُّعِ لِلْخَلْقِ، وَالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» وَقَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَهَذَا مِنَ اللَّهِ وَمِنْكَ، وَإِنَّا بِاللَّهِ وَبِكَ، وَمَا لِي إِلَّا اللَّهُ وَأَنْتَ، وَأَنَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ وَعَلَيْكَ، وَلَوْلَا أَنْتَ لَمْ يَكُنْ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا شِرْكًا أَكْبَرَ، بِحَسَبِ قَائِلِهِ وَمَقْصِدِهِ، وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ قَالَ لَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَمَا شِئْتَ: أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ قُلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» وَهَذَا اللَّفْظُ أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ. وَمِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ سُجُودُ الْمُرِيدِ لِلشَّيْخِ، فَإِنَّهُ شِرْكٌ مِنَ السَّاجِدِ وَالْمَسْجُودِ لَهُ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَ هَذَا بِسُجُودٍ، وَإِنَّمَا هُوَ وَضْعُ الرَّأْسِ قُدَّامَ الشَّيْخِ احْتِرَامًا وَتَوَاضُعًا، فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ: وَلَوْ سَمَّيْتُمُوهُ مَا سَمَّيْتُمُوهُ، فَحَقِيقَةُ السُّجُودِ وَضْعُ الرَّأْسِ لِمَنْ يُسْجَدُ لَهُ، وَكَذَلِكَ السُّجُودُ لِلصَّنَمِ، وَلِلشَّمْسِ، وَلِلنَّجْمِ، وَلِلْحَجَرِ، كُلُّهُ وَضْعُ الرَّأْسِ قُدَّامَهُ. وَمِنْ أَنْوَاعِهِ رُكُوعُ الْمُتَعَمِّمِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عِنْدِ الْمُلَاقَاةِ، وَهَذَا سُجُودٌ فِي اللُّغَةِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [النساء: 154] أَيْ مُنْحَنِينَ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ الدُّخُولُ بِالْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: سَجَدَتِ الْأَشْجَارُ، إِذَا أَمَالَتْهَا الرِّيحُ. وَمِنْ أَنْوَاعِهِ حَلْقُ الرَّأْسِ لِلشَّيْخِ، فَإِنَّهُ تَعَبُّدٌ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا يُتَعَبَّدُ بِحَلْقِ الرَّأْسِ إِلَّا فِي النُّسُكِ لِلَّهِ خَاصَّةً.

وَمِنْ أَنْوَاعِهِ التَّوْبَةُ لِلشَّيْخِ، فَإِنَّهَا شِرْكٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ، كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالنُّسُكِ، فَهِيَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ. وَفِي الْمُسْنَدِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِأَسِيرٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ، وَلَا أَتُوبُ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَرَفَ الْحَقَّ لِأَهْلِهِ» . فَالتَّوْبَةُ عِبَادَةٌ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ، كَالسُّجُودِ وَالصِّيَامِ. وَمِنْ أَنْوَاعِهِ: النَّذْرُ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ شِرْكٌ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَإِذَا كَانَ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ فَكَيْفَ بِمَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ اللَّهِ؟ مَعَ أَنَّ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «النَّذْرُ حَلْفَةٌ» . وَمِنْ أَنْوَاعِهِ: الْخَوْفُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَالْعَمَلُ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَالْإِنَابَةُ وَالْخُضُوعُ، وَالذُّلُّ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَابْتِغَاءُ الرِّزْقِ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ، وَحَمَدُ غَيْرِهِ عَلَى مَا أَعْطَى، وَالْغُنْيَةُ بِذَلِكَ عَنْ حَمْدِهِ سُبْحَانَهُ، وَالذَّمُّ وَالسَّخَطُ عَلَى مَا لَمْ يَقْسِمْهُ، وَلَمْ يَجْرِ بِهِ الْقَدَرُ، وَإِضَافَةُ نِعَمِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَاعْتِقَادُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَوْنِ مَا لَا يَشَاؤُهُ. وَمِنْ أَنْوَاعِهِ طَلَبُ الْحَوَائِجِ مِنَ الْمَوْتَى، وَالِاسْتِغَاثَةُ بِهِمْ، وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا أَصْلُ شِرْكِ الْعَالَمِ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ قَدِ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرَّا وَلَا نَفْعًا، فَضْلًا عَمَّنِ اسْتَغَاثَ بِهِ وَسَأَلَهُ قَضَاءَ حَاجَتِهِ، أَوْ سَأَلَهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ إِلَى اللَّهِ فِيهَا، وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِ بِالشَّافِعِ وَالْمَشْفُوعِ لَهُ عِنْدَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَاللَّهُ لَمْ يَجْعَلِ اسْتِغَاثَتَهُ وَسُؤَالَهُ سَبَبًا لِإِذْنِهِ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ لِإِذْنِهِ كَمَالُ التَّوْحِيدِ، فَجَاءَ هَذَا الْمُشْرِكُ بِسَبَبٍ يَمْنَعُ الْإِذْنَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنِ اسْتَعَانَ فِي حَاجَةٍ بِمَا يَمْنَعُ حُصُولَهَا، وَهَذِهِ حَالَةُ كُلِّ مُشْرِكٍ، وَالْمَيِّتُ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يَدْعُو لَهُ، وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ، كَمَا أَوْصَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا زُرْنَا قُبُورَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ نَتَرَحَّمَ عَلَيْهِمْ، وَنَسْأَلَ لَهُمُ الْعَافِيَةَ وَالْمَغْفِرَةَ،

فصل النفاق

فَعَكَسَ الْمُشْرِكُونَ هَذَا، وَزَارُوهُمْ زِيَارَةَ الْعِبَادَةِ، وَاسْتِقْضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ، وَجَعَلُوا قُبُورَهُمْ أَوْثَانًا تُعْبَدُ، وَسَمَّوْا قَصْدَهَا حَجًّا، وَاتَّخَذُوا عِنْدَهَا الْوَقْفَةَ وَحَلَقَ الرَّأْسِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الشِّرْكِ بِالْمَعْبُودِ الْحَقِّ، وَتَغْيِيرِ دِينِهِ، وَمُعَادَاةِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَنِسْبَةِ أَهْلِهِ إِلَى التَّنَقُّصِ لِلْأَمْوَاتِ، وَهُمْ قَدْ تَنَقَّصُوا الْخَالِقَ بِالشِّرْكِ، وَأَوْلِيَاءَهُ الْمُوَحِّدِينَ لَهُ، الَّذِينَ لَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا بِذَمِّهِمْ وَعَيْبِهِمْ وَمُعَادَاتِهِمْ، وَتَنَقَّصُوا مَنْ أَشْرَكُوا بِهِ غَايَةَ التَّنَقُّصِ، إِذْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ رَاضُونَ مِنْهُمْ بِهَذَا، وَأَنَّهُمْ أَمَرُوهُمْ بِهِ، وَأَنَّهُمْ يُوَالُونَهُمْ عَلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ وَالتَّوْحِيدِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَمَا أَكْثَرَ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُمْ! وَلِلَّهِ خَلِيلُهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ يَقُولُ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ - رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35 - 36] . وَمَا نَجَا مِنْ شَرَكِ هَذَا الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ إِلَّا مَنْ جَرَّدَ تَوْحِيدَهُ لِلَّهِ، وَعَادَى الْمُشْرِكِينَ فِي اللَّهِ، وَتَقَرَّبَ بِمَقْتِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَاتَّخَذَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلِيَّهُ وَإِلَهَهُ وَمَعْبُودَهُ، فَجَرَّدَ حُبَّهُ لِلَّهِ، وَخَوْفَهُ لِلَّهِ، وَرَجَاءَهُ لِلَّهِ، وَذُلَّهُ لِلَّهِ، وَتَوَكُّلَهُ عَلَى اللَّهِ، وَاسْتِعَانَتَهُ بِاللَّهِ، وَالْتِجَاءَهُ إِلَى اللَّهِ، وَاسْتِغَاثَتَهُ بِاللَّهِ، وَأَخْلَصَ قَصْدَهُ لِلَّهِ، مُتَّبِعًا لِأَمْرِهِ، مُتَطَلِّبًا لِمَرْضَاتِهِ، إِذَا سَأَلَ سَأَلَ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَانَ اسْتَعَانَ بِاللَّهِ، وَإِذَا عَمِلَ عَمِلَ لِلَّهِ، فَهُوَ لِلَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَمَعَ اللَّهِ. وَالشِّرْكُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ. وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ أَنْوَاعَهُ لَاتَّسَعَ الْكَلَامُ أَعْظَمَ اتِّسَاعٍ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُسَاعِدَ بِوَضْعِ كِتَابٍ فِيهِ، وَفِي أَقْسَامِهِ، وَأَسْبَابِهِ وَمَبَادِيهِ، وَمَضَرَّتِهِ، وَمَا يَنْدَفِعُ بِهِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا نَجَا مِنْهُ وَمِنَ التَّعْطِيلِ وَهُمَا الدَّاءَانِ اللَّذَانِ هَلَكَتْ بِهِمَا الْأُمَمُ فَمَا بَعْدَهُمَا أَيْسَرُ مِنْهُمَا، وَإِنْ هَلَكَ بِهِمَا فَبِسَبِيلِ مَنْ هَلَكَ، وَلَا آسَى عَلَى الْهَالِكِينَ. [فَصْلُ النِّفَاقِ] وَأَمَّا النِّفَاقُ: فَالدَّاءُ الْعُضَالُ الْبَاطِنُ، الَّذِي يَكُونُ الرَّجُلُ مُمْتَلِئًا مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ عَلَى النَّاسِ، وَكَثِيرًا مَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَلَبَّسَ بِهِ، فَيَزْعُمُ أَنَّهُ مُصْلِحٌ وَهُوَ مُفْسِدٌ. وَهُوَ نَوْعَانِ: أَكْبَرُ، وَأَصْغَرُ.

فَالْأَكْبَرُ يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ فِي دَرْكِهَا الْأَسْفَلِ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ لِلْمُسْلِمِينَ إِيمَانَهُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُنْسَلِخٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مُكَذِّبٌ بِهِ، لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ أَنْزَلَهُ عَلَى بَشَرٍ جَعَلَهَ رَسُولًا لِلنَّاسِ، يَهْدِيهِمْ بِإِذْنِهِ، وَيُنْذِرُهُمْ بَأْسَهُ، وَيُخَوِّفُهُمْ عِقَابَهُ. وَقَدْ هَتَكَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَسْتَارَ الْمُنَافِقِينَ، وَكَشَفَ أَسْرَارَهُمْ فِي الْقُرْآنِ، وَجَلَّى لِعِبَادِهِ أُمُورَهُمْ، لِيَكُونُوا مِنْهَا وَمِنْ أَهْلِهَا عَلَى حَذَرٍ، وَذَكَرَ طَوَائِفَ الْعَالَمِ الثَّلَاثَةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكُفَّارَ، وَالْمُنَافِقِينَ، فَذَكَرَ فِي الْمُؤْمِنِينَ أَرْبَعَ آيَاتٍ، وَفِي الْكُفَّارِ آيَتَيْنِ، وَفِي الْمُنَافِقِينَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، لِكَثْرَتِهِمْ وَعُمُومِ الِابْتِلَاءِ بِهِمْ، وَشِدَّةِ فِتْنَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَإِنَّ بَلِيَّةَ الْإِسْلَامِ بِهِمْ شَدِيدَةٌ جِدًّا، لِأَنَّهُمْ مَنْسُوبُونُ إِلَيْهِ، وَإِلَى نُصْرَتِهِ وَمُوَالَاتِهِ، وَهُمْ أَعْدَاؤُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، يُخْرِجُونَ عَدَاوَتَهُ فِي كُلِّ قَالَبٍ يَظُنُّ الْجَاهِلُ أَنَّهُ عِلْمٌ وَإِصْلَاحٌ، وَهُوَ غَايَةُ الْجَهْلِ وَالْإِفْسَادِ. فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ مَعْقِلٍ لِلْإِسْلَامِ قَدْ هَدَمُوهُ؟ ! وَكَمْ مِنْ حِصْنٍ لَهُ قَدْ قَلَعُوا أَسَاسَهُ وَخَرَّبُوهُ؟ ! وَكَمْ مِنْ عِلْمٍ لَهُ قَدْ طَمَسُوهُ؟ ! وَكَمْ مِنْ لِوَاءٍ لَهُ مَرْفُوعٍ قَدْ وَضَعُوهُ؟ ! وَكَمْ ضَرَبُوا بِمَعَاوِلِ الشُّبَهِ فِي أُصُولِ غِرَاسِهِ لِيَقْلَعُوهَا؟ ! وَكَمْ عَمَّوْا عُيُونَ مَوَارِدِهِ بِآرَائِهِمْ لِيَدْفِنُوهَا وَيَقْطَعُوهَا؟ ! . فَلَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ مِنْهُمْ فِي مِحْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ، وَلَا يَزَالُ يَطْرُقُهُ مِنْ شُبَهِهِمْ سَرِيَّةٌ بَعْدَ سَرِيَّةٍ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِذَلِكَ مُصْلِحُونَ {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] ، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] . اتَّفَقُوا عَلَى مُفَارَقَةِ الْوَحْيِ، فَهُمْ عَلَى تَرْكِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ مُجْتَمِعُونَ {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] ، {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112] وَلِأَجْلِ ذَلِكَ {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] . دَرَسَتْ مَعَالِمُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَيْسُوا يَعْرِفُونَهَا، وَدَثَرَتْ مَعَاهِدُهُ عِنْدَهُمْ فَلَيْسُوا يَعْمُرُونَهَا، وَأَفَلَتْ كَوَاكِبُهُ النَّيِّرَةُ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَلَيْسُوا يُحِبُّونَهَا، وَكَسَفَتْ شَمْسُهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ

ظُلَمِ آرَائِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ فَلَيْسُوا يُبْصِرُونَهَا، لَمْ يَقْبَلُوا هُدَى اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ، وَلَمْ يَرْفَعُوا بِهِ رَأْسًا، وَلَمْ يَرَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ إِلَى آرَائِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ بَأْسًا، خَلَعُوا نُصُوصَ الْوَحْيِ عَنْ سَلْطَنَةِ الْحَقِيقَةِ، وَعَزَلُوهَا عَنْ وِلَايَةِ الْيَقِينِ، وَشَنُّوا عَلَيْهَا غَارَاتِ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةَ، فَلَا يَزَالُ يَخْرُجُ عَلَيْهَا مِنْهُمْ كَمِينٌ بَعْدَ كَمِينٍ، نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ نُزُولَ الضَّيْفِ عَلَى أَقْوَامٍ لِئَامٍ، فَقَابَلُوهَا بِغَيْرِ مَا يَنْبَغِي لَهَا مِنَ الْقَبُولِ وَالْإِكْرَامِ، وَتَلَقَّوْهَا مِنْ بَعِيدٍ، وَلَكِنْ بِالدَّفْعِ فِي الصُّدُورِ مِنْهَا وَالْأَعْجَازِ، وَقَالُوا: مَا لَكَ عِنْدَنَا مِنْ عُبُورٍ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَعَلَى سَبِيلِ الِاجْتِيَازِ، أَعَدُّوا لِدَفْعِهَا أَصْنَافَ الْعُدَدِ وَضُرُوبَ الْقَوَانِينِ، وَقَالُوا لَمَّا حَلَّتْ بِسَاحَتِهِمْ: مَا لَنَا وَلِظَوَاهِرَ لَفْظِيَّةٍ لَا تُفِيدُنَا شَيْئًا مِنَ الْيَقِينِ، وَعَوَامُّهُمْ قَالُوا: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ خَلَفَنَا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِهَا مِنَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ، وَأَقْوَمُ بِطَرَائِقِ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، وَأُولَئِكَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ السَّذَاجَةُ وَسَلَامَةُ الصُّدُورِ، وَلَمْ يَتَفَرَّغُوا لِتَمْهِيدِ قَوَاعِدِ النَّظَرِ، وَلَكِنْ صَرَفُوا هِمَمَهُمْ إِلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ، فَطَرِيقَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَطَرِيقَةُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ أَجْهَلُ، لَكِنَّهَا أَسْلَمُ. أَنْزَلُوا نُصُوصَ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ مَنْزِلَةَ الْخَلِيفَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، اسْمُهُ عَلَى السِّكَّةِ وَفِي الْخُطْبَةِ فَوْقَ الْمَنَابِرِ مَرْفُوعٌ، وَالْحُكْمُ النَّافِذُ لِغَيْرِهِ، فَحُكْمُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلَا مَسْمُوعٍ. لَبِسُوا ثِيَابَ أَهْلِ الْإِيمَانِ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالْخُسْرَانِ، وَالْغِلِّ وَالْكُفْرَانِ، فَالظَّوَاهِرُ ظَوَاهِرُ الْأَنْصَارِ، وَالْبَوَاطِنُ قَدْ تَحَيَّزَتْ إِلَى الْكُفَّارِ، فَأَلْسِنَتُهُمْ أَلْسِنَةُ الْمُسَالِمِينَ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الْمُحَارِبِينَ، وَيَقُولُونَ {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] . رَأْسُ مَالِهِمُ الْخَدِيعَةُ وَالْمَكْرُ، وَبِضَاعَتُهُمُ الْكَذِبُ وَالْخَتْرُ، وَعِنْدَهُمُ الْعَقْلُ الْمَعِيشِيُّ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ عَنْهُمْ رَاضُونَ، وَهُمْ بَيْنَهُمْ آمِنُونَ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] . قَدْ نَهَكَتْ أَمْرَاضُ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ قُلُوبَهُمْ فَأَهْلَكَتْهَا، وَغَلَبَتِ الْقُصُودُ السَّيِّئَةُ عَلَى إِرَادَاتِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ فَأَفْسَدَتْهَا، فَفَسَادُهُمْ قَدْ تَرَامَى إِلَى الْهَلَاكِ، فَعَجَزَ عَنْهُ الْأَطِبَّاءُ الْعَارِفُونَ {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] . مَنْ عَلَقَتْ مَخَالِبُ شُكُوكِهِمْ بِأَدِيمِ إِيمَانِهِ مَزَّقَتْهُ كُلَّ تَمْزِيقٍ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَرَرُ فِتْنَتِهِمْ

بِقَلْبِهِ أَلْقَاهُ فِي عَذَابِ الْحَرِيقِ، وَمَنْ دَخَلَتْ شُبُهَاتُ تَلْبِيسِهِمْ فِي مَسَامِعِهِ حَالَ بَيْنَ قَلْبِهِ وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ، فَفَسَادُهُمْ فِي الْأَرْضِ كَثِيرٌ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَنْهُ غَافِلُونَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ - أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11 - 12] . الْمُتَمَسِّكُ عِنْدَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ صَاحِبُ ظَوَاهِرَ، مَبْخُوسٌ حَظُّهُ مِنَ الْمَعْقُولِ، وَالدَّائِرُ مَعَ النُّصُوصِ عِنْدَهُمْ كَحِمَارٍ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، فَهَمُّهُ فِي حَمْلِ الْمَنْقُولِ، وَبِضَاعَةُ تَاجِرِ الْوَحْيِ لَدَيْهِمْ كَاسِدَةٌ، وَمَا هُوَ عِنْدَهُمْ بِمَقْبُولٍ، وَأَهْلُ الِاتِّبَاعِ عِنْدَهُمْ سُفَهَاءُ فَهُمْ فِي خَلَوَاتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ بِهِمْ يَتَطَيَّرُونَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] . لِكُلٍّ مِنْهُمْ وَجْهَانِ، وَجْهٌ يَلْقَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَجْهٌ يَنْقَلِبُ بِهِ إِلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُلْحِدِينَ، وَلَهُ لِسَانَانِ: أَحَدُهُمَا يَقْبَلُهُ بِظَاهِرِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَالْآخَرُ يُتَرْجِمُ بِهِ عَنْ سِرِّهِ الْمَكْنُونِ {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] . قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اسْتِهْزَاءً بِأَهْلِهِمَا وَاسْتِحْقَارًا، وَأَبَوْا أَنْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِ الْوَحْيَيْنِ فَرَحًا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ الِاسْتِكْثَارُ مِنْهُ أَشَرًا وَاسْتِكْبَارًا، فَتَرَاهُمْ أَبَدًا بِالْمُتَمَسِّكِينَ بِصَرِيحِ الْوَحْيِ يَسْتَهْزِئُونَ {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] . خَرَجُوا فِي طَلَبِ التِّجَارَةِ الْبَائِرَةِ فِي بِحَارِ الظُّلُمَاتِ، فَرَكِبُوا مَرَاكِبَ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجِ الْخَيَالَاتِ، فَلَعِبَتْ بِسُفُنِهِمُ الرِّيحُ الْعَاصِفُ، فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ سُفُنِ الْهَالِكِينَ {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] . أَضَاءَتْ لَهُمْ نَارُ الْإِيمَانِ فَأَبْصَرُوا فِي ضَوْئِهَا مَوَاقِعَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، ثُمَّ طُفِئَ ذَلِكَ النُّورُ، وَبَقِيَتْ نَارٌ تَأَجَّجُ ذَاتُ لَهَبٍ وَاشْتِعَالٍ، فَهُمْ بِتِلْكَ النَّارِ مُعَذَّبُونَ، وَفِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ يَعْمَهُونَ {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] .

أَسْمَاعُ قُلُوبِهِمْ قَدْ أَثْقَلَهَا الْوَقْرُ، فَهِيَ لَا تَسْمَعُ مُنَادِيَ الْإِيمَانِ، وَعُيُونُ بَصَائِرِهِمْ عَلَيْهَا غِشَاوَةُ الْعَمَى، فَهِيَ لَا تُبْصِرُ حَقَائِقَ الْقُرْآنِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ بِهَا خَرَسٌ عَنِ الْحَقِّ فَهُمْ بِهِ لَا يَنْطِقُونَ {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] . صَابَ عَلَيْهِمْ صَيِّبُ الْوَحْيِ، وَفِيهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ إِلَّا رَعْدَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّكَالِيفِ الَّتِي وُظِّفَتْ عَلَيْهِمْ فِي الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، فَجَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ، وَجَدُّوا فِي الْهَرَبِ، وَالطَّلَبُ فِي آثَارِهِمْ وَالصِّيَاحُ، فَنُودِيَ عَلَيْهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَكُشِفَتْ حَالُهُمْ لِلْمُسْتَبْصِرِينَ، وَضُرِبَ لَهُمْ مَثَلَانِ بِحَسَبَ حَالِ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْهُمْ: الْمُنَاظِرِينَ، وَالْمُقَلِّدِينَ، فَقِيلَ {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19] . ضَعُفَتْ أَبْصَارُ بَصَائِرِهِمْ عَنِ احْتِمَالِ مَا فِي الصَّيِّبِ مِنْ بُرُوقِ أَنْوَارِهِ وَضِيَاءِ مَعَانِيهِ، وَعَجَزَتْ أَسْمَاعُهُمْ عَنْ تَلَقِّي رُعُودِ وُعُودِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، فَقَامُوا عِنْدَ ذَلِكَ حَيَارَى فِي أَوْدِيَةِ التِّيهِ، لَا يَنْتَفِعُ بِسَمْعِهِ السَّامِعُ، وَلَا يَهْتَدِي بِبَصَرِهِ الْبَصِيرُ، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] .

لَهُمْ عَلَامَاتٌ يُعْرَفُونَ بِهَا مُبَيَّنَةٌ فِي السُّنَّةِ وَالْقُرَآنِ، بَادِيَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا مِنْ أَهْلِ بَصَائِرِ الْإِيمَانِ، قَامَ بِهِمْ وَاللَّهِ الرِّيَاءُ، وَهُوَ أَقْبَحُ مَقَامٍ قَامَهُ الْإِنْسَانُ، وَقَعَدَ بِهِمُ الْكَسَلُ عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنْ أَوَامِرِ الرَّحْمَنِ، فَأَصْبَحَ الْإِخْلَاصُ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ ثَقِيلًا {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] . أَحَدُهُمْ كَالشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ، تَيْعَرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً، وَلَا تَسْتَقِرُّ مَعَ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ، فَهُمْ وَاقِفُونَ بَيْنَ الْجَمْعَيْنِ، يَنْظُرُونَ أَيُّهُمْ أَقْوَى وَأَعَزُّ قَبِيلًا {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 143] . يَتَرَبَّصُونَ الدَّوَائِرَ بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ، قَالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَأَقْسَمُوا عَلَى ذَلِكَ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لِأَعْدَاءِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ النُّصْرَةِ نَصِيبٌ، قَالُوا: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ عَقْدَ الْإِخَاءِ بَيْنَنَا مُحْكَمٌ، وَأَنَّ النَّسَبَ بَيْنَنَا قَرِيبٌ؟ فَيَا مَنْ يُرِيدُ مَعْرِفَتَهُمْ، خُذْ صِفَاتِهِمْ مِنْ كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَلَا تَحْتَاجُ بَعْدَهُ دَلِيلًا {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] . يُعْجِبُ السَّامِعَ قَوْلُ أَحَدِهِمْ لِحَلَاوَتِهِ وَلِينِهِ، وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ كَذِبِهِ وَمَيْنِهِ، فَتَرَاهُ عِنْدَ الْحَقِّ نَائِمًا، وَفِي الْبَاطِلِ عَلَى الْأَقْدَامِ، فَخُذْ وَصْفَهُمْ مِنْ قَوْلِ الْقُدُّوسِ السَّلَامِ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] . أَوَامِرُهُمُ الَّتِي يَأْمُرُونَ بِهَا أَتْبَاعَهُمْ مُتَضَمِّنَةٌ لِفَسَادِ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَنَوَاهِيهِمْ عَمَّا فِيهِ

صَلَاحُهُمْ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَأَحَدُهُمْ تَلْقَاهُ بَيْنَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فِي الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالزُّهْدِ وَالِاجْتِهَادِ {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] . فَهُمْ جِنْسٌ بَعْضُهُ يُشْبِهُ بَعْضًا، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ بَعْدَ أَنْ يَفْعَلُوهُ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ بَعْدَ أَنْ يَتْرُكُوهُ، وَيَبْخَلُونَ بِالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ أَنْ يُنْفِقُوهُ، كَمْ ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِنِعَمِهِ فَأَعْرَضُوا عَنْ ذِكْرِهِ وَنَسُوهُ؟ وَكَمْ كَشَفَ حَالَهُمْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَجْتَنِبُوهُ؟ فَاسْمَعُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنِينَ {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] . إِنْ حَاكَمْتَهُمْ إِلَى صَرِيحِ الْوَحْيِ وَجَدْتَهُمْ عَنْهُ نَافِرِينَ، وَإِنْ دَعْوَتَهُمْ إِلَى حُكْمِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتَهُمْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ، فَلَوْ شَهِدْتَ حَقَائِقَهُ لَرَأَيْتَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْهُدَى أَمَدًا بَعِيدًا، وَرَأَيْتَهَا مُعْرِضَةً عَنِ الْوَحْيِ إِعْرَاضًا شَدِيدًا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61] . فَكَيْفَ لَهُمْ بِالْفَلَاحِ وَالْهُدَى! بَعْدَمَا أُصِيبُوا فِي عُقُولِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ؟ وَأَنَّى لَهُمُ التَّخَلُّصُ مِنَ الضَّلَالِ وَالرَّدَى! وَقَدِ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِإِيمَانِهِمْ؟ فَمَا أَخْسَرَ تِجَارَتَهُمُ الْبَائِرَةَ! وَقَدِ اسْتَبْدَلُوا بِالرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ حَرِيقًا {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] . نَشَبَ زَقُّومُ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَا يَجِدُونَ لَهُ مُسِيغًا {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63] . تَبًّا لَهُمْ، مَا أَبْعَدَهُمْ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ! وَمَا أَكْذَبَ دَعْوَاهُمْ لِلتَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ، فَالْقَوْمُ فِي شَأْنٍ وَأَتْبَاعُ الرَّسُولِ فِي شَأْنٍ، لَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ فِي كِتَابِهِ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ قَسَمًا عَظِيمًا، يَعْرِفُ مَضْمُونَهُ أُولُو الْبَصَائِرِ، فَقُلُوبُهُمْ مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ إِجْلَالًا لَهُ وَتَعْظِيمًا، فَقَالَ تَعَالَى تَحْذِيرًا لِأَوْلِيَائِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى حَالِ هَؤُلَاءِ وَتَفْهِيمًا

{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . تَسْبِقُ يَمِينُ أَحَدِهِمْ كَلَامَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ، لِعِلْمِهِ أَنَّ قُلُوبَ أَهْلِ الْإِيمَانِ لَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، فَيَتَبَرَّأُ بِيَمِينِهِ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ وَكَشْفِ مَا لَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الرِّيبَةِ يَكْذِبُونَ، وَيَحْلِفُونَ لِيَحْسَبَ السَّامِعُ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ، قَدِ {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون: 2] . تَبًّا لَهُمْ! بَرَزُوا إِلَى الْبَيْدَاءِ مَعَ رَكْبِ الْإِيمَانِ، فَلَمَّا رَأَوْا طُولَ الطَّرِيقِ وَبُعْدَ الشُّقَّةِ نَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ وَرَجَعُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِطِيبِ الْعَيْشِ وَلَذَّةِ الْمَنَامِ فِي دِيَارِهِمْ، فَمَا مُتِّعُوا بِهِ وَلَا بِتِلْكَ الْهَجْعَةِ انْتَفَعُوا، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ صَاحَ بِهِمُ الصَّائِحُ فَقَامُوا عَنْ مَوَائِدِ أَطْعِمَتِهِمْ وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ مَا شَبِعُوا، فَكَيْفَ حَالُهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ؟ وَقَدْ عَرَفُوا ثُمَّ أَنْكَرُوا، وَعَمُوا بَعْدَمَا عَايَنُوا الْحَقَّ وَأَبْصَرُوا {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3] . أَحْسَنُ النَّاسِ أَجْسَامًا، وَأَخْلَبُهُمْ لِسَانًا، وَأَلْطَفُهُمْ بَيَانًا، وَأَخْبَثُهُمْ قُلُوبًا، وَأَضْعَفُهُمْ جَنَانًا، فَهُمْ كَالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ الَّتِي لَا ثَمَرَ لَهَا، قَدْ قُلِعَتْ مِنْ مَغَارِسِهَا فَتَسَانَدَتْ إِلَى حَائِطٍ يُقِيمُهَا، لِئَلَّا يَطَأَهَا السَّالِكُونَ {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] . يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا الْأَوَّلِ إِلَى شَرَقِ الْمَوْتَى فَالصُّبْحُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ

وَالْعَصْرُ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَيَنْقُرُونَهَا نَقْرَ الْغُرَابِ، إِذْ هِيَ صَلَاةُ الْأَبْدَانِ، لَا صَلَاةُ الْقُلُوبِ، وَيَلْتَفِتُونَ فِيهَا الْتِفَاتَ الثَّعْلَبِ، إِذْ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ مَطْرُودٌ مَطْلُوبٌ، وَلَا يَشْهَدُونَ الْجَمَاعَةَ، بَلْ إِنْ صَلَّى أَحَدُهُمْ فَفِي الْبَيْتِ أَوِ الدُّكَّانِ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، هَذِهِ مُعَامَلَتُهُمْ لِلْخَلْقِ، وَتِلْكَ مُعَامَلَتُهُمْ لِلْخَالِقِ، فَخُذْ وَصْفَهُمْ مِنْ أَوَّلِ الْمُطَفِّفِينَ، وَآخِرِ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ فَلَا يُنْبِئُكُ عَنْ أَوْصَافِهِمْ مِثْلُ خَبِيرٍ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9] فَمَا أَكْثَرَهُمْ! وَهُمُ الْأَقَلُّونَ، وَمَا أَجْبَرَهُمْ! وَهُمُ الْأَذَلُّونَ، وَمَا أَجْهَلَهُمْ! وَهُمُ الْمُتَعَالِمُونَ، وَمَا أَغَرَّهُمْ بِاللَّهِ! إِذْ هُمْ بِعَظَمَتِهِ جَاهِلُونَ {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56] . إِنْ أَصَابَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَافِيَةٌ وَنَصْرٌ وَظُهُورٌ سَاءَهُمْ ذَلِكَ وَغَمَّهُمْ، وَإِنْ أَصَابَهُمُ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ وَامْتِحَانٌ يُمَحِّصُ بِهِ ذُنُوبَهُمْ، وَيُكَفِّرُ بِهِ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ أَفْرَحَهُمْ ذَلِكَ وَسَرَّهُمْ، وَهَذَا يُحَقِّقُ إِرْثَهُمْ وَإِرْثَ مَنْ عَدَاهُمْ، وَلَا يَسْتَوِي مَنْ مَوْرُوثُهُ الْمُنَافِقُونَ {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ - قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 50 - 51] وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ السَّلَفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَالْحَقُّ لَا يَنْدَفِعُ بِمُكَابَرَةِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالتَّخْلِيطِ، {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120] . كَرِهَ اللَّهُ طَاعَاتِهِمْ، لِخُبْثِ قُلُوبِهِمْ وَفَسَادِ نِيَّاتِهِمْ، فَثَبَّطَهُمْ عَنْهَا وَأَقْعَدَهُمْ، وَأَبْغَضَ قُرْبَهُمْ مِنْهُ وَجِوَارَهُ، لِمَيْلِهِمْ إِلَى أَعْدَائِهِ، فَطَرَدَهُمْ عَنْهُ وَأَبْعَدَهُمْ، وَأَعْرَضُوا عَنْ وَحْيِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَأَشْقَاهُمْ وَمَا أَسْعَدَهُمْ، وَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمٍ عَدْلٍ لَا مَطْمَعَ لَهُمْ فِي الْفَلَاحِ بَعْدَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنَ التَّائِبِينَ، فَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] ثُمَّ ذَكَرَ حِكْمَتَهُ

فِي تَثْبِيطِهِمْ وَإِقْعَادِهِمْ، وَطَرْدِهِمْ عَنْ بَابِهِ وَإِبْعَادِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ لُطْفِهِ بِأَوْلِيَائِهِ وَإِسْعَادِهِمْ، فَقَالَ، وَهُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47] . ثَقُلَتْ عَلَيْهِمُ النُّصُوصُ فَكَرِهُوهَا، وَأَعْيَاهُمْ حَمْلُهَا فَأَلْقَوْهَا عَنْ أَكْتَافِهِمْ وَوَضَعُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمُ السُّنَنُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَأَهْمَلُوهَا، وَصَالَتْ عَلَيْهِمْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَوَضَعُوا لَهَا قَوَانِينَ رَدُّوهَا بِهَا وَدَفَعُوهَا، وَقَدْ هَتَكَ اللَّهُ أَسْتَارَهُمْ، وَكَشَفَ أَسْرَارَهُمْ، وَضَرَبَ لِعِبَادِهِ أَمْثَالَهُمْ، وَأَعْلَمَ أَنَّهُ كُلَّمَا انْقَرَضَ مِنْهُمْ طَوَائِفُ خَلَفَهُمْ أَمْثَالُهُمْ، فَذَكَرَ أَوْصَافَهُمْ، لِأَوْلِيَائِهِ لِيَكُونُوا مِنْهَا عَلَى حَذَرٍ، وَبَيَّنَهَا لَهُمْ، فَقَالَ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9] . هَذَا شَأْنُ مَنْ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، فَرَآهَا حَائِلَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ بِدْعَتِهِ وَهَوَاهُ، فَهِيَ فِي وَجْهِهِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ، فَبَاعَهَا بِمُحَصَّلٍ مِنَ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ، وَاسْتَبْدَلَ مِنْهَا بِالْفُصُوصِ فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ أَنْ أَفْسَدَ عَلَيْهِمْ إِعْلَانَهُمْ وَإِسْرَارَهُمْ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ - فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 26 - 28] . أَسَرُّوا سَرَائِرَ النِّفَاقِ، فَأَظْهَرَهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ الْوُجُوهِ مِنْهُمْ، وَفَلَتَاتِ اللِّسَانِ، وَوَسَمَهُمْ لِأَجْلِهَا بِسِيمَاءَ لَا يَخْفَوْنَ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْبَصَائِرِ وَالْإِيمَانِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِذْ كَتَمُوا كُفْرَهُمْ وَأَظْهَرُوا إِيمَانَهُمْ رَاجُوا عَلَى الصَّيَارِفِ وَالنُّقَّادِ، كَيْفَ وَالنَّاقِدُ الْبَصِيرُ قَدْ كَشَفَهَا لَكُمْ؟ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ - وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 29 - 30] . فَكَيْفَ إِذَا جُمِعُوا لِيَوْمِ التَّلَاقِ، وَتَجَلَّى اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ لِلْعِبَادِ وَقَدْ كُشِفَ عَنْ سَاقٍ؟ وَدُعُوا إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43] .

أَمْ كَيْفَ بِهِمْ إِذَا حُشِرُوا إِلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ؟ وَهُوَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَأَحَدُّ مِنَ الْحُسَامِ، وَهُوَ دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، مُظْلِمٌ لَا يَقْطَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا بِنُورٍ يُبْصِرُ بِهِ مَوَاطِئَ الْأَقْدَامِ، فَقُسِّمَتْ بَيْنَ النَّاسِ الْأَنْوَارُ، وَهُمْ عَلَى قَدْرِ تَفَاوُتِهَا فِي الْمُرُورِ وَالذَّهَابِ، وَأُعْطُوا نُورًا ظَاهِرًا مَعَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، كَمَا كَانُوا بَيْنَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ يَأْتُونَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا الْجِسْرَ عَصَفَتْ عَلَى أَنْوَارِهِمْ أَهْوِيَةُ النِّفَاقِ، فَأَطْفَأَتْ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَصَابِيحِ، فَوَقَفُوا حَيَارَى لَا يَسْتَطِيعُونَ الْمُرُورَ، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ، وَلَكِنْ قَدْ حِيلَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ الْمَفَاتِيحِ، بَاطِنُهُ الَّذِي يَلِي الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَمَا يَلِيهِمْ مِنْ قِبَلِهِمُ الْعَذَابُ وَالنِّقْمَةُ، يُنَادُونَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ وَفْدِ الْإِيمَانِ، وَمَشَاعِلُ الرَّكْبِ تَلُوحُ عَلَى بُعْدٍ كَالنُّجُومِ، تَبْدُو لِنَاظِرِ الْإِنْسَانِ {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] لِنَتَمَكَّنَ فِي هَذَا الْمَضِيقِ مِنَ الْعُبُورِ، فَقَدْ طُفِئَتْ أَنْوَارُنَا، وَلَا جَوَازَ الْيَوْمَ إِلَّا بِمِصْبَاحٍ مِنَ النُّورِ {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13] حَيْثُ قُسِّمَتِ الْأَنْوَارُ، فَهَيْهَاتَ الْوُقُوفُ لِأَحَدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمِضْمَارِ! كَيْفَ نَلْتَمِسُ الْوُقُوفَ فِي هَذَا الْمَضِيقِ؟ فَهَلْ يَلْوِي الْيَوْمَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ فِي هَذَا الطَّرِيقِ؟ وَهَلْ يَلْتَفِتُ الْيَوْمَ رَفِيقٌ إِلَى رَفِيقٍ؟ فَذَكَّرُوهُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُمْ وَصُحْبَتِهِمْ لَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، كَمَا يُذَكِّرُ الْغَرِيبُ صَاحِبَ الْوَطَنِ بِصُحْبَتِهِ لَهُ فِي الْأَسْفَارِ {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد: 14] نَصُومُ كَمَا تَصُومُونَ، وَنُصَلِّي كَمَا تُصَلُّونَ، وَنَقْرَأُ كَمَا تَقْرَءُونَ، وَنَتَصَدَّقُ كَمَا تَتَصَدَّقُونَ، وَنَحُجُّ كَمَا تَحُجُّونَ؟ فَمَا الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَنَا الْيَوْمَ، حَتَّى انْفَرَدْتُمْ دُونَنَا بِالْمُرُورِ؟ {قَالُوا بَلَى} [الحديد: 14] وَلَكِنَّكُمْ كَانَتْ ظَوَاهِرُكُمْ مَعَنَا وَبَوَاطِنُكُمْ مَعَ كُلِّ مُلْحِدٍ، وَكُلِّ ظَلُومٍ كَفُورٍ {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ - فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 14 - 15] . لَا تَسْتَطِلْ أَوْصَافَ الْقَوْمِ، فَالْمَتْرُوكُ وَاللَّهِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَذْكُورِ، كَادَ الْقُرْآنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ فِي شَأْنِهِمْ، لِكَثْرَتِهِمْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَفِي أَجْوَافِ الْقُبُورِ، فَلَا خَلَتْ بِقَاعُ الْأَرْضِ مِنْهُمْ لِئَلَّا يَسْتَوْحِشَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الطُّرُقَاتِ، وَتَتَعَطَّلَ بِهِمْ أَسْبَابُ الْمَعَايِشِ، وَتَخْطَفَهُمُ الْوُحُوشُ وَالسِّبَاعُ فِي الْفَلَوَاتِ، سَمِعَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَهْلِكِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، لَوْ هَلَكَ الْمُنَافِقُونَ لَاسْتَوْحَشْتُمْ فِي طُرُقَاتِكُمْ مِنْ قِلَّةِ السَّالِكِ. تَاللَّهِ لَقَدْ قَطَّعَ خَوْفُ النِّفَاقِ قُلُوبَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، لِعِلْمِهِمْ بِدِقِّهِ وَجِلِّهِ وَتَفَاصِيلِهِ

وَجُمَلِهِ، سَاءَتْ ظُنُونُهُمْ بِنُفُوسِهِمْ حَتَّى خَشَوْا أَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَا حُذَيْفَةُ، نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ، هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: لَا، وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّ إِيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: مَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ، وَمَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ، قِيلَ: وَمَا خُشُوعُ النِّفَاقِ؟ قَالَ: أَنْ يُرَى الْبَدَنُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ لَيْسَ بِخَاشِعٍ. تَاللَّهِ لَقَدْ مُلِئَتْ قُلُوبُ الْقَوْمِ إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَخَوْفُهُمْ مِنَ النِّفَاقِ شَدِيدٌ، وَهَمُّهُمْ لِذَلِكَ ثَقِيلٌ، وَسِوَاهُمْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. زَرْعُ النِّفَاقِ يَنْبُتُ عَلَى سَاقِيَتَيْنِ: سَاقِيَةِ الْكَذِبِ، وَسَاقِيَةِ الرِّيَاءِ، وَمَخْرَجُهُمَا مِنْ عَيْنَيْنِ: عَيْنِ ضِعْفِ الْبَصِيرَةِ، وَعَيْنِ ضَعْفِ الْعَزِيمَةِ، فَإِذَا تَمَّتْ هَذِهِ الْأَرْكَانُ الْأَرْبَعُ اسْتَحْكَمَ نَبَاتُ النِّفَاقِ وَبُنْيَانُهُ، وَلَكِنَّهُ بِمَدَارِجِ السُّيُولِ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فَإِذَا شَاهَدُوا سَيْلَ الْحَقَائِقِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، وَكُشِفَ الْمَسْتُورُ، وَبُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، تَبَيَّنَ حِينَئِذٍ لِمَنْ كَانَتْ بِضَاعَتُهُ النِّفَاقَ أَنَّ حَوَاصِلَهُ الَّتِي حَصَّلَهَا كَانَتْ كَالسَّرَابِ {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] قُلُوبُهُمْ عَنِ الْخَيْرَاتِ لَاهِيَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ إِلَيْهَا سَاعِيَةٌ، وَالْفَاحِشَةُ فِي فِجَاجِهِمْ فَاشِيَّةٌ، وَإِذَا سَمِعُوا الْحَقَّ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ قَاسِيَةً، وَإِذَا حَضَرُوا الْبَاطِلَ وَشَهِدُوا الزُّورَ انْفَتَحَتْ أَبْصَارُ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَتْ آذَانُهُمْ وَاعِيَةً فَهَذِهِ وَاللَّهِ أَمَارَاتُ النِّفَاقِ، فَاحْذَرْهَا أَيُّهَا الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بِكَ الْقَاضِيَةُ،

فصل الفسوق

إِذَا عَاهَدُوا لَمْ يَفُوا، وَإِنْ وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِنْ قَالُوا لَمْ يُنْصِفُوا، وَإِنْ دُعُوا إِلَى الطَّاعَةِ وَقَفُوا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ صَدَفُوا، وَإِذَا دَعَتْهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ إِلَى أَغْرَاضِهِمْ أَسْرَعُوا إِلَيْهَا وَانْصَرَفُوا، فَذَرْهُمْ وَمَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْهَوَانِ، وَالْخِزْيِ وَالْخُسْرَانِ، فَلَا تَثِقْ بِعُهُودِهِمْ، وَلَا تَطْمَئِنَّ إِلَى وُعُودِهِمْ، فَإِنَّهُمْ فِيهَا كَاذِبُونَ، وَهُمْ لِمَا سِوَاهَا مُخَالِفُونَ {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ - فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ - فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77] . [فَصْلٌ الْفُسُوقُ] وَأَمَّا الْفُسُوقُ: فَهُوَ فِي كِتَاب اللَّهِ نَوْعَانِ: مُفْرَدٌ مُطْلَقٌ، وَمَقْرُونٌ بِالْعِصْيَانِ. وَالْمُفْرَدُ نَوْعَانِ أَيْضًا: فُسُوقُ كُفْرٍ، يُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَفُسُوقٌ لَا يُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَالْمَقْرُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] . وَالْمُفْرَدُ الَّذِي هُوَ فُسُوقُ كُفْرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} [البقرة: 26] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99] وَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20] الْآيَةَ، فَهَذَا كُلُّهُ فَسُوقُ كُفْرٍ. وَأَمَّا الْفُسُوقُ الَّذِي لَا يُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] الْآيَةَ، فَإِنَّ

هَذِهِ الْآيَةَ «نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلَقِ بَعْدَ الْوَقْعَةِ مُصَدِّقًا، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْقَوْمُ بِمَقْدِمِهِ تَلَقَّوْهُ، تَعْظِيمًا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَدَّثَهُ الشَّيْطَانُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، فَهَابَهُمْ فَرَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلَقِ مَنَعُوا صَدَقَاتِهِمْ، وَأَرَادُوا قَتْلِي، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَمَّ أَنْ يَغْزُوَهُمْ، فَبَلَغَ الْقَوْمَ رُجُوعُهُ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْنَا بِرَسُولِكَ، فَخَرَجْنَا نَتَلَقَّاهُ وَنُكْرِمُهُ، وَنُؤَدِّي إِلَيْهِ مَا قَبِلَنَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ، فَبَدَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ، فَخَشِينَا أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ مِنَ الطَّرِيقِ كِتَابٌ جَاءَ مِنْكَ لِغَضَبٍ غَضَبْتَهُ عَلَيْنَا، وَإِنَّا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَغَضِبِ رَسُولِهِ، فَاتَّهَمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ خُفْيَةً فِي عَسْكَرٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْفِيَ عَلَيْهِمْ قُدُومَهُ، وَقَالَ لَهُ: انْظُرْ، فَإِنْ رَأَيْتَ مِنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى إِيمَانِهِمْ فَخُذْ مِنْهُمْ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَرَ ذَلِكَ فَاسْتَعْمِلْ فِيهِمْ مَا تَسْتَعْمِلُ فِي الْكُفَّارِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ خَالِدٌ، وَوَافَاهُمْ، فَسَمِعَ مِنْهُمْ أَذَانَ صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَأَخَذَ مِنْهُمْ صَدَقَاتِهِمْ، وَلَمْ يُرَ مِنْهُمْ إِلَّا الطَّاعَةَ وَالْخَيْرَ، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَنَزَلَ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الْآيَةَ» . وَالنَّبَأُ هُوَ الْخَبَرُ الْغَائِبُ عَنِ الْمُخْبَرِ إِذَا كَانَ لَهُ شَأْنٌ، وَالتَّبَيُّنُ طَلَبُ بَيَانِ حَقِيقَتِهِ وَالْإِحَاطَةِ بِهَا عِلْمًا. وَهَاهُنَا فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّ خَبَرِ الْفَاسِقِ وَتَكْذِيبِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ، فَإِنْ قَامَتْ قَرَائِنُ وَأَدِلَّةٌ مِنْ خَارِجٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ عُمِلَ بِدَلِيلِ الصِّدْقِ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِهِ مَنْ أَخْبَرَ، فَهَكَذَا يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ فِي رِوَايَةِ الْفَاسِقِ وَشَهَادَتِهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفَاسِقِينَ يَصْدُقُونَ فِي أَخْبَارِهِمْ وَرِوَايَاتِهِمْ وَشَهَادَاتِهِمْ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَتَحَرَّى الصِّدْقَ غَايَةَ التَّحَرِّي، وَفِسْقُهُ مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يُرَدُّ خَبَرُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ، وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَةُ مِثْلِ هَذَا وَرِوَايَتُهُ لَتَعَطَّلَتْ أَكْثَرُ الْحُقُوقِ، وَبَطَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَلَاسِيَّمَا مَنْ فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ وَالرَّأْيِ، وَهُوَ مُتَحَرٍّ لِلصِّدْقِ، فَهَذَا لَا يُرَدُّ خَبَرُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ. وَأَمَّا مَنْ فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الْكَذِبِ فَإِنْ كَثُرَ مِنْهُ وَتَكَرَّرَ، بِحَيْثُ يَغْلِبُ كَذِبُهُ عَلَى صِدْقِهِ، فَهَذَا لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ، وَإِنْ نَدُرَ مِنْهُ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ، فَفِي رَدِّ شَهَادَتِهِ وَخَبَرِهِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْفُسُوقِ الَّذِي لَا يَخْرُجُ إِلَى الْكُفْرِ.

وَالْفُسُوقُ الَّذِي تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ أَعَمُّ مِنَ الْفُسُوقِ الَّذِي تُرَدُّ بِهِ الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ. وَكَلَامُنَا الْآنَ فِيمَا تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وَهُوَ قِسْمَانِ: فِسْقٌ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ، وَفِسْقٌ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ. فَفِسْقُ الْعَمَلِ نَوْعَانِ: مَقْرُونٌ بِالْعِصْيَانِ وَمُفْرَدٌ. فَالْمَقْرُونَ بِالْعِصْيَانِ: هُوَ ارْتِكَابُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْعِصْيَانُ: هُوَ عِصْيَانُ أَمْرِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 92] وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَمَرْتُكَ أَمْرًا جَازِمًا فَعَصَيْتَنِي ... فَأَصْبَحْتَ مَسْلُوبَ الْإِمَارَةِ نَادِمًا فَالْفِسْقُ أَخَصُّ بِارْتِكَابِ النَّهْيِ، وَلِهَذَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَثِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282] وَالْمَعْصِيَةُ أَخَصُّ بِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُطْلَقُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] فَسَمَّى مُخَالَفَتَهُ لِلْأَمْرِ فِسْقًا، وَقَالَ {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] فَسَمَّى ارْتِكَابَهُ لِلنَّهْيِ مَعْصِيَةً، فَهَذَا عِنْدَ الْإِفْرَادِ، فَإِذَا اقْتَرَنَا كَانَ أَحَدُهُمَا لِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَالْآخَرُ لِمُخَالَفَةِ النَّهْيِ. وَالتَّقْوَى اتِّقَاءُ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، وَبِتَحْقِيقِهَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنَ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، بِأَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، يَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَيَتْرُكُ مَعْصِيَةَ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، يَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ. وَفِسْقُ الِاعْتِقَادِ كَفِسْقِ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَيُوجِبُونَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ، وَلَكِنْ يَنْفُونَ كَثِيرًا مِمَّا أَثْبَتَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، جَهْلًا وَتَأْوِيلًا، وَتَقْلِيدًا لِلشُّيُوخِ، وَيُثْبِتُونَ مَا لَمْ يُثْبِتْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ كَالْخَوَارِجِ الْمَارِقَةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الرَّوَافِضِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ لَيْسُوا غُلَاةً فِي التَّجَهُّمِ. وَأَمَّا غَالِيَّةُ الْجَهْمِيَّةِ فَكَغُلَاةِ الرَّافِضَةِ، لَيْسَ لِلطَّائِفَتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ.

وَلِذَلِكَ أَخْرَجَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً، وَقَالُوا: هُمْ مُبَايِنُونَ لِلْمِلَّةِ. وَلَيْسَ مَقْصُودُنَا الْكَلَامَ فِي أَحْكَامِ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْقِيقُ التَّوْبَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْعَشْرَةِ. فَالتَّوْبَةُ مِنْ هَذَا الْفُسُوقِ: بِإِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَرَسُولُهُ، مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا نَزَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ وَنَزَّهَهُ عَنْهُ رَسُولُهُ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَتَلَقِّي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ مِشْكَاةِ الْوَحْيِ، لَا مِنْ آرَاءِ الرِّجَالِ وَنَتَائِجِ أَفْكَارِهِمُ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ. فَتَوْبَةُ هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ بِمَحْضِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَلَا يُكْتَفَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى يُبَيِّنُوا فَسَادَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبِدْعَةِ، إِذِ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ هِيَ بِفِعْلِ ضِدِّهِ، وَلِهَذَا شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَوْبَةِ الْكَاتِمِينَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى الْبَيَانَ، لِأَنَّ ذَنْبَهُمْ لَمَّا كَانَ بِالْكِتْمَانِ، كَانَتْ تَوْبَتُهُمْ مِنْهُ بِالْبَيَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159 - 160] وَذَنْبُ الْمُبْتَدِعِ فَوْقَ ذَنْبِ الْكَاتِمِ، لِأَنَّ ذَاكَ كَتَمَ الْحَقَّ، وَهَذَا كَتَمَهُ وَدَعَا إِلَّا خِلَافِهِ، فَكُلُّ مُبْتَدِعٍ كَاتِمٌ وَلَا يَنْعَكِسُ. وَشَرَطَ فِي تَوْبَةِ الْمُنَافِقِ الْإِخْلَاصَ; لِأَنَّ ذَنْبَهُ بِالرِّيَاءِ، فَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] ثُمَّ قَالَ {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاذِفِ إِكْذَابُهُ نَفْسَهُ، لِأَنَّهُ ضِدَّ الذَّنْبِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ، وَهَتَكَ بِهِ عِرْضَ الْمُسْلِمِ الْمُحْصَنِ، فَلَا تَحْصُلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ، لِيَنْتَفِيَ عَنِ الْمَقْذُوفِ الْعَارُ الَّذِي أَلْحَقَهُ بِهِ بِالْقَذْفِ، وَهُوَ مَقْصُودُ التَّوْبَةِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ تَوْبَتَهُ أَنْ يَقُولَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنَ الْقَذْفِ، وَيَعْتَرِفَ بِتَحْرِيمِهِ، فَقَوْلٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْمَقْذُوفِ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ بَرَاءَةُ عِرْضِهِ مِمَّا قَذَفَهُ بِهِ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ التَّوْبَةِ مِنْ هَذَا الذَّنْبِ، فَإِنَّ فِيهِ حَقَّيْنِ: حَقًّا لِلَّهِ، وَهُوَ تَحْرِيمُ

الْقَذْفِ، فَتَوْبَتُهُ مِنْهُ بِاسْتِغْفَارِهِ، وَاعْتِرَافِهِ بِتَحْرِيمِ الْقَذْفِ، وَنَدَمِهِ عَلَيْهِ، وَعَزْمِهِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ، وَحَقًّا لِلْعَبْدِ، وَهُوَ إِلْحَاقُ الْعَارِ بِهِ، فَتَوْبَتُهُ مِنْهُ بِتَكْذِيبِهِ نَفْسَهُ، فَالتَّوْبَةُ مِنْ هَذَا الذَّنْبِ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ صَادِقًا قَدْ عَايَنَ الزِّنَا، فَأَخْبَرَ بِهِ، فَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُ تَكْذِيبُ نَفْسِهِ وَقَذْفُهَا بِالْكَذِبِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِهِ؟ . قِيلَ: هَذَا هُوَ الْإِشْكَالُ الَّذِي قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ لِأَجْلِهِ مَا قَالَ إِنَّ تَوْبَتَهُ الِاعْتِرَافُ بِتَحْرِيمِ الْقَذْفِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ، وَهُوَ مَوْضِعٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَيَانِ الْكَذِبِ الَّذِي حَكَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْقَاذِفِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَاذِبٌ عِنْدَهُ، وَلَوْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ، فَنَقُولُ: الْكَذِبُ يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: الْخَبَرُ غَيْرُ الْمُطَابِقِ لِمَخْبَرِهِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: كَذِبٌ عَمْدٌ، وَكَذِبٌ خَطَأٌ، فَكَذِبُ الْعَمْدِ مَعْرُوفٌ، وَكَذِبُ الْخَطَأِ كَكَذِبِ أَبِي السَّنَابِلِ بْنِ بَعْكَكٍ فِي فَتْوَاهُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ حَتَّى تَتِمَّ لَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ» وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَذَبَ مَنْ قَالَهَا» لِمَنْ قَالَ: حَبِطَ عَمَلُ عَامِرٍ، حَيْثُ قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً، وَمِنْهُ قَوْلُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ، حَيْثُ قَالَ: الْوِتْرُ وَاجِبٌ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كَذِبِ الْخَطَأِ، وَمَعْنَاهُ أَخْطَأَ قَائِلُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الْكَذِبِ: الْخَبَرُ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْإِخْبَارُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِمَخْبَرِهِ، كَخَبَرِ الْقَاذِفِ الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ الزِّنَا، وَالْإِخْبَارِ بِهِ، فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِمَخْبَرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] فَحُكْمُ اللَّهِ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَةَ الْمُفْتَرِي الْكَاذِبِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا، وَعَلَى هَذَا فَلَا تَتَحَقَّقُ تَوْبَتُهُ حَتَّى يَعْتَرِفَ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى

فصل هل يضمن السارق

بِهِ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ وَجَعَلَهُ اللَّهُ كَاذِبًا، فَأَيُّ تَوْبَةٍ لَهُ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا مَحْضُ الْإِصْرَارِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِمُخَالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ؟ [فَصْلٌ هَلْ يَضْمَنُ السَّارِقُ] وَاخْتُلِفَ فِي تَوْبَةِ السَّارِقِ إِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ، هَلْ مِنْ شَرْطِهَا ضَمَانُ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ لِرَبِّهَا؟ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ أَدَاؤُهَا إِلَيْهِ، إِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا إِذَا كَانَتْ تَالِفَةً، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِهِ ضَمَانُهَا لِمَالِكِهَا، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ، مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ وَقَدِ اسْتُهْلِكَتِ الْعَيْنُ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا، وَلَا تَتَوَقَّفْ صِحَّةُ تَوْبَتِهِ عَلَى الضَّمَانِ، لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ هُوَ مَجْمُوعُ الْجَزَاءِ، وَالتَّضْمِينَ عُقُوبَةٌ زَائِدَةٌ عَلَيْهِ لَا تُشْرَعُ. قَالَ: وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً، فَإِنَّ صَاحِبَهَا قَدْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ أَخْذُهَا عُقُوبَةً ثَانِيَةً، بِخِلَافِ التَّضْمِينِ، فَإِنَّهُ غَرَامَةٌ، وَقَدْ قُطِعَ طَرَفَهُ، فَلَا نَجْمَعُ عَلَيْهِ غَرَامَةَ الطَّرَفِ وَغَرَامَةَ الْمَالِ. قَالُوا: وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ فِي عُقُوبَةِ السَّارِقِ وَالْمُحَارِبِ غَيْرَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ كَانَ الضَّمَانُ لِمَا أَتْلَفُوهُ وَاجِبًا لَذَكَرَهُ مَعَ الْحَدِّ، وَلَمَا جَعَلَ مَجْمُوعَ جَزَاءِ الْمُحَارِبِينَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ بِأَدَاةِ " إِنَّمَا " الَّتِي هِيَ عِنْدَكُمْ لِلْحَصْرِ، فَقَالَ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] الْآيَةَ، وَمَدْلُولُ هَذَا الْكَلَامِ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ أَدَاةَ " إِنَّمَا " لِلْحَصْرِ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ لَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ. قَالُوا: وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَضَى فِي السَّارِقِ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَنَّهُ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ» . قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْمُسْتَقِرُّ فِي فِطَرِ النَّاسِ، وَعَلَيْهِ عَمَلُهُمْ أَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ السُّرَّاقَ، وَلَا يُغَرِّمُونَهُمْ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ.

قَالُوا: وَلِأَنَّهَا لَوْ ثَبَتَتْ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ لَكَانَ قَدْ مَلَكَهَا، إِذْ لَا يَجْتَمِعُ لِرَبِّهَا الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ، وَثُبُوتُ بَدَلِهَا فِي ذِمَّتِهِ يَسْتَلْزِمُ تَقْدِيرَ مِلْكِهَا، وَهُوَ شُبْهَةٌ فِي إِسْقَاطِ الْقَطْعِ. وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَقُولُونَ: هَذِهِ الْعَيْنُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقَّانِ، حَقُّ اللَّهِ، وَحَقٌّ لِمَالِكِهَا، وَهُمَا حَقَّانِ مُتَغَايِرَانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ، فَلَا يُبْطِلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بَلْ يُسْتَوْفَيَانِ مَعًا، لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ اللَّهِ، وَالضَّمَانَ حَقٌّ لِلْمَالِكِ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِإِسْقَاطِهِ بَعْدَ الرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ، وَلَوْ أُسْقِطَ الضَّمَانُ سَقَطَ. وَهَذَا كَمَا إِذَا أَكْرَهَ أَمَةَ غَيْرِهِ عَلَى الزِّنَا لَزِمَهُ الْحَدُّ لِحَقِّ اللَّهِ، وَالْمَهْرُ لِحَقِّ السَّيِّدِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَكْرَهَ الْحُرَّةَ عَلَى الزِّنَا أَيْضًا، بَلْ لَوْ زَنَا بِأَمَةٍ ثُمَّ قَتَلَهَا، لَزِمَهُ حَدُّ الزِّنَا وَقِيمَتُهَا لِمَالِكِهَا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إِذَا سَرَقَهَا، ثُمَّ قَتَلَهَا، قُطِعَتْ يَدُهُ لِسَرِقَتِهَا وَضَمِنَهَا لِمَالِكِهَا. قَالُوا: وَكَذَلِكَ إِذَا قَتَلَ فِي الْإِحْرَامِ صَيْدًا مَمْلُوكًا لِمَالِكِهِ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِحَقِّ اللَّهِ وَقِيمَةُ الصَّيْدِ لِمَالِكِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا غَصَبَ خَمْرَ ذِمِّيٍّ وَشَرِبَهَا لَزِمَهُ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ، وَلَزِمَهُ عِنْدَكُمْ ضَمَانُهَا لِلذِّمِّيِّ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ، فَلَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ كَالْمَيْتَةِ. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ قَطْعَ الْيَدِ مَجْمُوعُ الْجَزَاءِ، إِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ مَجْمُوعُ الْعُقُوبَةِ فَصَحِيحٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ ثَانِيَةٌ، وَلَكِنَّ الضَّمَانَ لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ لِلسَّرِقَةِ، وَلِهَذَا يَجِبُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْجَانِي، كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ خَطَأً أَوْ إِكْرَاهًا، أَوْ فِي حَالِ نَوْمِهِ، أَوْ أَتْلَفَهُ إِتْلَافًا مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ، كَالْمُضْطَرِّ إِلَى أَكْلِهِ، أَوِ الْمُضْطَرِّ إِلَى إِلْقَائِهِ فِي الْبَحْرِ لِإِنْجَاءِ السَّفِينَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ الضَّمَانُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي شَيْءٍ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ تَضْمِينَ السَّارِقِ وَالْمُحَارِبِ، فَهُوَ لَمْ يَنْفِهِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا سَكَتَ عَنْهُ، فَحُكْمُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَنُصُوصِهِ كَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَهَذَا قَدِ اعْتَدَى بِالْإِتْلَافِ، فَيُعْتَدَى عَلَيْهِ بِالتَّضْمِينِ، وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا رَدَّ الْعَيْنِ إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ، بَلْ مِنْ بَابِ إِعْمَالِ النُّصُوصِ كُلِّهَا، لَا يُعَطَّلُ بَعْضُهَا وَيُعْمَلُ بِبَعْضِهَا، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُحَارِبِينَ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] أَيْ عُقُوبَتُهُمْ.

فصل الإثم والعدوان

قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَمُنْقَطِعٌ لَا يَثْبُتُ، يَرْوِيهِ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَنْصُورٍ، وَقَدْ طَعَنَ فِي الْحَدِيثِ ابْنُ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ: سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ مَجْهُولٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْحَدِيثُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَأَمَّا اسْتِقْرَارُ ذَلِكَ فِي فِطَرِ النَّاسِ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِهِمْ أَنَّ الْغَنِيَّ الْوَاجِدَ إِذَا سَرَقَ مَالَ فَقِيرٍ مُحْتَاجٍ، أَوْ يَتِيمٍ وَأَتْلَفَهُ، وَقُطِعَتْ يَدُهُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَالَ هَذَا الْفَقِيرِ وَالْيَتِيمِ، مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنَ الضَّمَانِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَضَرُورَةِ صَاحِبِهِ وَضَعْفِهِ؟ وَهَلِ الْمُسْتَقِرُّ فِي فِطَرِ النَّاسِ إِلَّا عَكْسُ هَذَا؟ . وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: لَوْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ، لَكَانَ قَدْ مَلَكَهَا، فَضَعِيفٌ جِدًّا، لِأَنَّهَا بِالْإِتْلَافِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِ، وَلِهَذَا لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَذْلِهَا اتِّفَاقًا، وَهَذَا الِاسْتِقْرَارُ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَمْنَعُ الْقَطْعَ، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بَعْدَ إِتْلَافِهَا، وَاسْتِقْرَارِهَا فِي ذِمَّتِهِ، فَكَيْفَ يُزِيلُ الْقَطْعُ مَا ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ، وَيَكُونُ مُبَرِّئًا لَهُ مِنْهُ؟ . وَتَوَسَّطَ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ مَالِكٌ، وَغَيْرُهُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ ضَمِنَهَا بَعْدَ الْقَطْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ حَسَنٌ جِدًّا، وَمَا أَقْرَبَهُ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرْعِ، وَأَوْلَاهُ بِالْقَبُولِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ] وَأَمَّا الْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ فَهُمَا قَرِينَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِذَا أُفْرِدَ تَضَمَّنَ الْآخَرَ، فَكُلُّ إِثْمٍ عُدْوَانٌ، إِذْ هُوَ فِعْلُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، أَوْ تَرْكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ عُدْوَانٌ عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَكُلُّ عُدْوَانٍ إِثْمٌ، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَلَكِنْ عِنْدَ اقْتِرَانِهِمَا فَهُمَا شَيْئَانِ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهِمَا وَوَصْفِهِمَا.

فَالْإِثْمُ مَا كَانَ مُحَرَّمَ الْجِنْسِ كَالْكَذِبِ، وَالزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْعُدْوَانُ مَا كَانَ مُحَرَّمَ الْقَدْرِ وَالزِّيَادَةِ. فَالْعُدْوَانُ: تَعَدِّي مَا أُبِيحَ مِنْهُ إِلَى الْقَدْرِ الْمُحَرَّمِ وَالزِّيَادَةِ، كَالِاعْتِدَاءِ فِي أَخْذِ الْحَقِّ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، إِمَّا بِأَنْ يَتَعَدَّى عَلَى مَالِهِ، أَوْ بَدَنِهِ أَوْ عِرْضِهِ، فَإِذَا غَصَبَهُ خَشَبَةً لَمْ يَرْضَ عِوَضَهَا إِلَّا دَارَهُ، وَإِذَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا أَتْلَفَ عَلَيْهِ أَضْعَافَهُ، وَإِذَا قَالَ فِيهِ كَلِمَةً قَالَ فِيهِ أَضْعَافَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ عُدْوَانٌ وَتَعَدٍّ لِلْعَدْلِ. وَهَذَا الْعُدْوَانُ نَوْعَانِ: عُدْوَانٌ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَعُدْوَانٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، فَالْعُدْوَانُ فِي حَقِّ اللَّهِ كَمَا إِذَا تَعَدَّى مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْوَطْءِ الْحَلَالِ فِي الْأَزْوَاجِ وَالْمَمْلُوكَاتِ إِلَى مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ مِنْ سِوَاهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5] وَكَذَلِكَ تَعَدَّى مَا أُبِيحَ لَهُ مِنْهُ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ، فَتَعَدَّاهُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، فَهُوَ مِنَ الْعُدْوَانِ، كَمَنْ أُبِيحَ لَهُ إِسَاغَةُ الْغُصَّةِ بِجُرْعَةٍ مِنْ خَمْرٍ، فَتَنَاوَلَ الْكَأْسَ كُلَّهَا، أَوْ أُبِيحَ لَهُ نَظْرَةُ الْخِطْبَةِ، وَالسَّوْمُ، وَالشَّهَادَةُ، وَالْمُعَامَلَةُ، وَالْمُدَاوَاةُ، فَأَطْلَقَ عِنَانَ طَرْفِهِ فِي مَيَادِينِ مَحَاسِنِ الْمَنْظُورِ، وَأَسَامَ طَرْفَ نَاظِرِهِ فِي تِلْكَ الرِّيَاضِ وَالزُّهُورِ، فَتَعَدَّى الْمُبَاحَ إِلَى الْقَدْرِ الْمَحْظُورِ، وَحَامَ حَوْلَ الْحِمَى الْمَحُوطِ الْمَحْجُورِ، فَصَارَ ذَا بَصَرٍ حَائِرٍ، وَقَلْبٍ عَنْ مَكَانِهِ طَائِرٍ، أَرْسَلَ طَرْفَهُ رَائِدًا يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ فَخَامَرَ عَلَيْهِ، وَأَقَامَ فِي تِلْكَ الْخِيَامِ، فَبَعَثَ الْقَلْبَ فِي آثَارِهِ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَهُوَ أَسِيرٌ يَحْجِلُ فِي قُيُودِهِ بَيْنَ تِلْكَ الْخِيَامِ، فَمَا أَقْلَعَتْ لَحْظَاتُ نَاظِرِهِ حَتَّى تَشَحَّطَ بَيْنَهُنَّ قَتِيلًا، وَمَا بَرِحَتْ تَنُوشُهُ سُيُوفُ تِلْكَ الْجُفُونِ حَتَّى جَنْدَلَتْهُ تَجْدِيلًا، هَذَا خَطَرُ الْعُدْوَانِ، وَمَا أَمَامَهُ أَعْظَمُ وَأَخْطَرُ، وَهَذَا فَوْتُ الْحِرْمَانِ، وَمَا حُرِمَهُ مِنْ فَوَاتِ ثَوَابِ مَنْ غَضَّ طَرْفَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَجَلُّ وَأَكْبَرُ، سَافَرَ الطَّرْفُ فِي مَفَاوِزِ مَحَاسِنِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَرْبَحْ إِلَّا أَذَى السَّفَرِ، وَغَرَّرَ بِنَفْسِهِ فِي رُكُوبِ تِلْكَ الْبَيْدَاءِ، وَمَا عَرَفَ أَنَّ رَاكِبَهَا عَلَى أَعْظَمِ الْخَطَرِ؟ ! يَا لَهَا مِنْ سَفْرَةٍ لَمْ يَبْلُغِ الْمُسَافِرُ مِنْهَا مَا نَوَاهُ، وَلَمْ يَضَعْ فِيهَا عَنْ عَاتِقِهِ عَصَاهُ، حَتَّى قَطَعَ عَلَيْهِ فِيهَا الطَّرِيقَ، وَقَعَدَ لَهُ فِيهَا الرَّصَدُ عَلَى كُلِّ نَقَبٍ وَمَضِيقٍ، لَا يَسْتَطِيعُ الرُّجُوعَ إِلَى وَطَنِهِ وَالْإِيَابَ، وَلَا لَهُ سَبِيلٌ إِلَى الْمُرُورِ وَالذَّهَابِ، يَرَى هَجِيرَ الْهَاجِرَةِ مِنْ بَعِيدٍ، فَيَظُنُّهُ بَرْدَ الشَّرَابِ {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَغْرُورًا بِلَامِعِ السَّرَابِ، تَاللَّهِ مَا اسْتَوَتْ هَذِهِ الذِّلَّةُ

وَتِلْكَ اللَّذَّةُ فِي الْقِيمَةِ فَيَشْتَرِيهَا بِهَا الْعَارِفُ الْخَبِيرُ، وَلَا تَقَارَبَا فِي الْمَنْفَعَةِ، فَيَتَحَيَّرُ بَيْنَهُمَا الْبَصِيرُ، وَلَكِنْ عَلَى الْعُيُونِ غِشَاوَةٌ فَلَا تُفَرِّقُ بَيْنَ مَوَاطِنِ السَّلَامَةِ وَمَوَاضِعِ الْعُثُورِ، وَالْقُلُوبُ تَحْتَ أَغْطِيَةِ الْغَفَلَاتِ، رَاقِدَةٌ فَوْقَ فُرُشِ الْغُرُورِ {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] . وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْعُدْوَانِ تَجَاوُزُ مَا أُبِيحَ مِنَ الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ إِلَى مَا لَمْ يُبَحْ مِنْهَا، إِمَّا بِأَنْ يَشْبَعَ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ سَدُّ الرَّمَقِ، عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَأَبَاحَ مَالِكٌ لَهُ الشِّبَعَ وَالتَّزَوُّدَ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهَا وَأَكَلَهَا وَاقِيًا لِمَالِهِ، وَبُخْلًا عَنْ شِرَاءِ الْمُذَكَّى وَنَحْوِهِ، كَانَ تَنَاوُلُهَا عُدْوَانًا، قَالَ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] قَالَ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ: لَا يَأْكُلُهَا مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ، وَلَا يَعْدُو شِبَعَهُ، وَقِيلَ: " غَيْرَ بَاغٍ " غَيْرَ طَالِبِهَا وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهَا " وَلَا عَادٍ " أَيْ لَا يَتَعَدَّى مَا حُدَّ لَهُ مِنْهَا فَيَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ، وَلَكِنْ سَدَّ الرَّمَقِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لَهَا، وَلَا مُتَزَوِّدٍ مِنْهَا. وَقِيلَ: لَا يَبْغِي بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ الَّذِي حُدَّ لَهُ مِنْهَا، وَلَا يَتَعَدَّى بِتَقْصِيرِهِ عَنْ تَنَاوُلِهِ حَتَّى يَهْلِكَ، فَيَكُونَ قَدْ تَعَدَّى حَدَّ اللَّهِ بِمُجَاوَزَتِهِ أَوِ التَّقْصِيرِ عَنْهُ، فَهَذَا آثِمٌ، وَهَذَا آثِمٌ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ: مَنِ اضْطُرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى السُّلْطَانِ وَلَا عَادٍ فِي سَفَرِهِ، فَلَا يَكُونُ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ لَا يَتَرَخَّصُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِعَشَرَةِ أَوْجُهٍ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا، إِذِ الْآيَةُ لَا تَعَرُّضَ فِيهَا لِلسَّفَرِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَلَا لِلْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ، وَلَا هِيَ مُخْتَصَّةٌ بِذَلِكَ وَلَا سِيقَتْ لَهُ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ، وَالْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ فِيهَا يَرْجِعَانِ إِلَى الْأَكْلِ الْمَقْصُودِ بِالنَّهْيِ، لَا إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْأَكْلِ، وَلِأَنَّ نَظِيرَ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة: 3] فَهَذَا هُوَ الْبَاغِي الْعَادِي، وَالْمُتَجَانِفُ لِلْإِثْمِ الْمَائِلُ إِلَى الْقَدْرِ الْحَرَامِ مِنْ أَكْلِهَا، وَهَذَا هُوَ الشَّرْطُ الَّذِي لَا يُبَاحُ لَهُ

فصل الفحشاء والمنكر

بِدُونِهِ، وَلِأَنَّهَا إِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ، فَتَقَدَّرَتِ الْإِبَاحَةُ بِقَدْرِهَا، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا بَغْيٌ وَعُدْوَانٌ وَإِثْمٌ، فَلَا تَكُونُ الْإِبَاحَةُ لِلضَّرُورَةِ سَبَبًا لِحِلِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ هُمَا الْإِثْمُ وَالْبَغْيُ الْمَذْكُورَانِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، مَعَ أَنَّ الْبَغْيَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِهِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قُرِنَ الْبَغْيُ بِالْعُدْوَانِ كَانَ الْبَغْيُ ظُلْمَهُمْ بِمُحَرَّمِ الْجِنْسِ، كَالسَّرِقَةِ وَالْكَذِبِ، وَالْبَهْتِ وَالِابْتِدَاءِ بِالْأَذَى، وَالْعُدْوَانُ تَعَدِّي الْحَقِّ فِي اسْتِيفَائِهِ إِلَى أَكْبَرَ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ فِي حَقِّهِمْ كَالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فِي حُدُودِ اللَّهِ. فَهَاهُنَا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: حَقٌّ لِلَّهِ وَلَهُ حَدٌّ، وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ وَلَهُ حَدٌّ، فَالْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ تَجَاوُزُ الْحَدَّيْنِ إِلَى مَا وَرَاءَهُمَا، أَوِ التَّقْصِيرُ عَنْهُمَا، فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا. [فَصْلٌ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ] وَأَمَّا الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ فَالْفَحْشَاءُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ قَدْ حُذِفَ تَجْرِيدًا لِقَصْدِ الصِّفَةِ، وَهِيَ الْفِعْلَةُ الْفَحْشَاءُ، وَالْخَصْلَةُ الْفَحْشَاءُ، وَهِيَ مَا ظَهَرَ قُبْحُهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَاسْتَفْحَشَهُ كُلُّ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ، وَلِهَذَا فُسِّرَتْ بِالزِّنَا وَاللِّوَاطِ، وَسَمَّاهَا اللَّهُ فَاحِشَةً لِتَنَاهِي قُبْحِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْقَبِيحُ مِنَ الْقَوْلِ يُسَمَّى فُحْشًا، وَهُوَ مَا ظَهَرَ قُبْحُهُ جِدًّا مِنَ السَّبِّ الْقَبِيحِ، وَالْقَذْفِ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا الْمُنْكَرُ فَصِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ أَيْضًا، أَيِ الْفِعْلُ الْمُنْكَرُ، وَهُوَ الَّذِي تَسْتَنْكِرُهُ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ، وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهَا كَنِسْبَةِ الرَّائِحَةِ الْقَبِيحَةِ إِلَى حَاسَّةِ الشَّمِّ، وَالْمَنْظَرِ الْقَبِيحِ إِلَى الْعَيْنِ، وَالطَّعْمِ الْمُسْتَكْرَهِ إِلَى الذَّوْقِ، وَالصَّوْتِ الْمُسْتَنْكَرِ إِلَى الْأُذُنِ، فَمَا اشْتَدَّ إِنْكَارُ الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ لَهُ فَهُوَ فَاحِشَةٌ، كَمَا فَحُشَ إِنْكَارُ الْحَوَاسِّ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْمُدْرَكَاتِ. فَالْمُنْكَرُ لَهَا مَا لَمْ تَعْرِفْهُ وَلَمْ تَأْلَفْهُ، وَالْقَبِيحُ الْمُسْتَكْرَهُ لَهَا الَّذِي تَشْتَدُّ نَفْرَتُهَا عَنْهُ هُوَ الْفَاحِشَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَاحِشَةُ الزِّنَا، وَالْمُنْكَرُ مَا لَمْ يُعْرَفْ فِي شَرِيعَةٍ وَلَا سُنَّةٍ. فَتَأَمَّلْ تَفْرِيقَهُ بَيْنَ مَا لَمْ يُعْرَفْ حُسْنُهُ وَلَمْ يُؤْلَفْ، وَبَيْنَ مَا اسْتَقَرَّ قُبْحُهُ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ.

فصل القول على الله بغير علم

[فَصْلٌ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ] وَأَمَّا الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ فَهُوَ أَشَدُّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا، وَأَعْظَمُهَا إِثْمًا، وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ وَالْأَدْيَانُ، وَلَا تُبَاحُ بِحَالٍ، بَلْ لَا تَكُونُ إِلَّا مُحَرَّمَةً، وَلَيْسَتْ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، الَّذِي يُبَاحُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ: مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ لَا يُبَاحُ بِحَالٍ، وَمُحَرَّمٌ تَحْرِيمًا عَارِضًا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَقَالَ {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33] ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَقَالَ {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الأعراف: 33] ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَقَالَ {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] فَهَذَا أَعْظَمُ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ اللَّهِ وَأَشَدُّهَا إِثْمًا، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَنِسْبَتَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَتَغْيِيرَ دِينِهِ وَتَبْدِيلَهُ، وَنَفْيَ مَا أَثْبَتَهُ وَإِثْبَاتَ مَا نَفَاهُ، وَتَحْقِيقَ مَا أَبْطَلَهُ وَإِبْطَالَ مَا حَقَّقَهُ، وَعَدَاوَةَ مَنْ وَالَاهُ وَمُوَالَاةَ مَنْ عَادَاهُ، وَحُبَّ مَا أَبْغَضَهُ وَبُغْضَ مَا أَحَبَّهُ، وَوَصَفَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. فَلَيْسَ فِي أَجْنَاسِ الْمُحَرَّمَاتِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْهُ، وَلَا أَشَدُّ إِثْمًا، وَهُوَ أَصْلُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَعَلَيْهِ أُسِّسَتِ الْبِدَعُ وَالضَّلَالَاتُ، فَكُلُّ بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ فِي الدِّينِ أَسَاسُهَا الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ. وَلِهَذَا اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَهَا، وَصَاحُوا بِأَهْلِهَا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَحَذَّرُوا فِتْنَتَهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُبَالِغُوا مِثْلَهُ فِي إِنْكَارِ الْفَوَاحِشِ، وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، إِذْ مَضَرَّةُ الْبِدَعِ وَهَدْمُهَا لِلدِّينِ وَمُنَافَاتُهَا لَهُ أَشُدُّ، وَقَدْ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى مَنْ نَسَبَ إِلَى دِينِهِ تَحْلِيلَ شَيْءٍ أَوْ تَحْرِيمَهُ مِنْ عِنْدِهِ، بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللَّهِ، فَقَالَ {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] الْآيَةَ. فَكَيْفَ بِمَنْ نَسَبَ إِلَى أَوْصَافِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ؟ أَوْ نَفَى عَنْهُ مِنْهَا مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؟ .

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِيَحْذَرْ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُولَ: أَحَلَّ اللَّهُ كَذَا، وَحَرَّمَ اللَّهُ كَذَا، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْتَ، لَمْ أُحِلَّ هَذَا، وَلَمْ أُحَرِّمْ هَذَا. يَعْنِي التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ، بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَصْلُ الشِّرْكَ وَالْكُفْرِ هُوَ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، فَإِنَّ الْمُشْرِكَ يَزْعُمُ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَهُ مَعْبُودًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ، وَيَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُ، وَيَقْضِي حَاجَتَهُ بِوَاسِطَتِهِ، كَمَا تَكُونُ الْوَسَائِطُ عِنْدَ الْمُلُوكِ، فَكُلُّ مُشْرِكٍ قَائِلٌ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، دُونَ الْعَكْسِ، إِذِ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ قَدْ يَتَضَمَّنُ التَّعْطِيلَ وَالِابْتِدَاعَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الشِّرْكِ، وَالشِّرْكُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ. وَلِهَذَا كَانَ الْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوجِبًا لِدُخُولِ النَّارِ، وَاتِّخَاذِ مَنْزِلَةٍ مِنْهَا مُبَوَّءًا، وَهُوَ الْمَنْزِلُ اللَّازِمُ الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ صَاحِبُهُ، لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، كَصَرِيحِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا انْضَافَ إِلَى الرَّسُولِ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْمُرْسِلِ، وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ صَرِيحٍ افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَيْهِ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 21] . فَذُنُوبُ أَهْلِ الْبِدَعِ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ هَذَا الْجِنْسِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْبِدَعِ. وَأَنَّى بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا بِدْعَةٌ، أَوْ يَظُنُّهَا سُنَّةً، فَهُوَ يَدْعُو إِلَيْهَا، وَيَحُضُّ عَلَيْهَا؟ فَلَا تَنْكَشِفُ لِهَذَا ذُنُوبُهُ الَّتِي تَجِبُّ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْهَا إِلَّا بِتَضَلُّعِهِ مِنَ السُّنَّةِ، وَكَثْرَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَيْهَا، وَدَوَامِ الْبَحْثِ عَنْهَا وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهَا، وَلَا تَرَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ كَذَلِكَ أَبَدًا. فَإِنَّ السُّنَّةَ بِالذَّاتِ تَمْحَقُ الْبِدْعَةَ، وَلَا تَقُومُ لَهَا، وَإِذَا طَلَعَتْ شَمْسُهَا فِي قَلْبِ الْعَبْدِ قَطَعَتْ مِنْ قَلْبِهِ ضَبَابَ كُلِّ بِدْعَةٍ، وَأَزَالَتْ ظُلْمَةَ كُلِّ ضَلَالَةٍ، إِذْ لَا سُلْطَانَ لِلظُّلْمَةِ مَعَ سُلْطَانِ الشَّمْسِ، وَلَا يَرَى الْعَبْدُ الْفَرْقَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، وَيُعِينُهُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ ظُلْمَتِهَا إِلَى نُورِ السُّنَّةِ، إِلَّا الْمُتَابَعَةُ، وَالْهِجْرَةُ بِقَلْبِهِ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى اللَّهِ، بِالِاسْتِعَانَةِ وَالْإِخْلَاصِ، وَصِدْقِ اللَّجْإِ إِلَى اللَّهِ، وَالْهِجْرَةِ إِلَى رَسُولِهِ، بِالْحِرْصِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَهَدْيِهِ وَسُنَّتِهِ «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ» وَمَنْ هَاجَرَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ حَظُّهُ وَنَصِيبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

فصل ومن أحكام التوبة

[فَصْلٌ وَمِنْ أَحْكَامِ التَّوْبَةِ] ِ أَنَّ مَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْحَقِّ الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ تَدَارُكُهُ ثُمَّ تَابَ فَكَيْفَ حُكْمُ تَوْبَتِهِ؟ وَهَذَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ. فَأَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ فَكَمَنَ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مَعَ عِلْمِهِ بِوُجُوبِهَا وَفَرْضِهَا ثُمَّ تَابَ وَنَدِمَ، فَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَوْبَتُهُ بِالنَّدَمِ وَالِاشْتِغَالِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْمُسْتَأْنَفَةِ وَقَضَاءِ الْفَرَائِضِ الْمَتْرُوكَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَوْبَتُهُ بِاسْتِئْنَافِ الْعَمَلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا يَنْفَعُهُ تَدَارُكُ مَا مَضَى بِالْقَضَاءِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَحُجَّةُ الْمُوجِبِينَ لِلْقَضَاءِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» . قَالُوا: فَإِذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّاسِي مَعَ عَدَمِ تَفْرِيطِهِمَا فَوُجُوبُهُ عَلَى الْعَامِدِ وَالْمُفَرِّطِ أَوْلَى. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: الصَّلَاةُ وَإِيقَاعُهَا فِي وَقْتِهَا، فَإِذَا تَرَكَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ بَقِيَ الْآخَرُ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ إِنْ قُلْنَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ قُلْنَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَأَمْرُ النَّائِمِ وَالنَّاسِي بِهِ: تَنْبِيهٌ عَلَى الْعَامِدِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالُوا: وَلِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْفِعْلِ إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْعَبْدَ تَدَارُكُهَا تَدَارَكَ مِنْهَا مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ فَاتَتْ مَصْلَحَةُ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ فَيَتَدَارَكُ مَا أَمْكَنَ مِنْهَا وَهُوَ الْفِعْلُ فِي خَارِجِ الْوَقْتِ.

قَالُوا: وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَهَذَا قَدِ اسْتَطَاعَ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ خَارِجَ الْوَقْتِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي وَقْتِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِالْمُسْتَطَاعِ. قَالُوا: وَكَيْفَ يُظَنُّ بِالشَّرْعِ أَنَّهُ يُخَفِّفُ عَنْ هَذَا الْمُتَعَمِّدِ الْمُفَرِّطِ الْعَاصِي لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِتَرْكِ الْوُجُوبِ وَيُوجِبُهُ عَلَى الْمَعْذُورِ بِالنَّوْمِ أَوِ النِّسْيَانِ؟ . قَالُوا: وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ خَارِجَ الْوَقْتِ بَدَلٌ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، وَالْعِبَادَةُ إِذَا كَانَ لَهَا بَدَلٌ وَتَعَذَّرَ الْمُبْدَلَ انْتَقَلَ الْمُكَلَّفُ إِلَى الْبَدَلِ، كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ، وَصَلَاةِ الْقَاعِدِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْقِيَامِ، وَالْمُضْطَجِعِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْقُعُودِ، وَإِطْعَامِ الْعَاجِزِ عَنِ الصِّيَامِ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ غَيْرِ مَرْجُوِّ الْبُرْءِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرْعِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ حَقٌّ مُؤَقَّتٌ فَتَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِهِ لَا يُسْقِطُهُ إِلَّا بِمُبَادَرَتِهِ خَارِجَ الْوَقْتِ كَدُيُونٍ الْآدَمِيِّينَ الْمُؤَجَّلَةِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ أَثِمَ بِالتَّأْخِيرِ، وَهَذَا لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ كَمَنْ أَخَّرَ الزَّكَاةَ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا تَأْخِيرًا أَثِمَ بِهِ أَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ تَأْخِيرًا أَثِمَ بِهِ. قَالُوا: وَلَوْ تَرَكَ الْجُمُعَةُ حَتَّى صَلَّاهَا الْإِمَامُ عَمْدًا عَصَى بِتَأْخِيرِهَا وَلَزِمَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ، وَنِسْبَةُ الظُّهْرِ إِلَى الْجُمُعَةِ كَنِسْبَةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى صَلَاتِهَا قَبْلَ الطُّلُوعِ. قَالُوا: وَقَدْ أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ إِلَى أَنْ صَلَّاهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهَا مُمْكِنٌ خَارِجَ الْوَقْتِ فِي الْعَمْدِ سَوَاءٌ كَانَ مَعْذُورًا بِهِ كَهَذَا التَّأْخِيرِ، وَكَتَأْخِيرِ مَنْ أَخَّرَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ إِلَى بَعْدِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، أَوْ لَمْ

يَكُنْ مَعْذُورًا بِهِ كَتَأْخِيرِ الْمُفَرِّطِ، فَتَأْخِيرُهُمَا إِنَّمَا يَخْتَلِفُ فِي الْإِثْمِ وَعَدَمِهِ لَا فِي وُجُوبِ التَّدَارُكِ بَعْدَ التَّرْكِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ خَارِجَ الْوَقْتِ لَا تَصِحُّ وَلَا تُجِبُ لَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابَةَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ بِتَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ يُصَلُّوهَا فِيهِمْ، فَأَخَّرَهَا بَعْضُهُمْ حَتَّى صَلَّاهَا فِيهِمْ بِاللَّيْلِ فَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ وَلَمْ يُعَنِّفْ مَنْ صَلَّاهَا فِي الطَّرِيقِ لِاجْتِهَادِ الْفَرِيقَيْنِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ تَائِبٍ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى التَّوْبَةِ فَكَيْفَ تُسَدُّ عَنْ هَذَا طَرِيقُ التَّوْبَةِ وَيُجْعَلُ إِثْمُ التَّضْيِيعِ لَازِمًا لَهُ وَطَائِرًا فِي عُنُقِهِ؟ فَهَذَا لَا يَلِيقُ بِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَمُرَاعَاتِهِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ. فَهَذَا أَقْصَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ. قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ: الْعِبَادَةُ إِذَا أُمِرَ بِهَا عَلَى صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَكُنِ الْمَأْمُورُ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ إِلَّا إِذَا أَوْقَعَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ وَصْفِهَا وَوَقْتِهَا وَشَرْطِهَا، فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الْأَمْرُ بِدُونِهِ. قَالُوا: وَإِخْرَاجُهَا عَنْ وَقْتِهَا كَإِخْرَاجِهَا عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ مَثَلًا، وَكَالسُّجُودِ عَلَى الْخَدِّ بَدَلَ الْجَبْهَةِ، وَالْبُرُوكِ عَلَى الرُّكْبَةِ بَدَلَ الرُّكُوعِ وَنَحْوِهِ. قَالُوا: وَالْعِبَادَاتُ الَّتِي جُعِلَ لَهَا ظَرْفٌ مِنَ الزَّمَانِ لَا تَصِحُّ إِلَّا فِيهِ كَالْعِبَادَاتِ الَّتِي جُعِلَ لَهَا ظَرْفٌ مِنَ الْمَكَانِ، فَلَوْ أَرَادَ نَقْلَهَا إِلَى أَمْكِنَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا لَمْ تَصِحَّ إِلَّا فِي أَمْكِنَتِهَا، وَلَا يَقُومُ مَكَانٌ مَقَامَ مَكَانٍ آخَرَ، كَأَمْكِنَةِ الْمَنَاسِكِ مِنْ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَالْجِمَارِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَنَقْلُ الْعِبَادَةِ إِلَى أَزْمِنَةٍ غَيْرِ أَزْمِنَتِهَا الَّتِي جُعِلَتْ أَوْقَاتًا لَهَا شَرْعًا إِلَى غَيْرِهَا كَنَقْلِهَا عَنْ أَمْكِنَتِهَا الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا شَرْعًا إِلَى غَيْرِهَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الِاعْتِدَادِ وَعَدَمِهِ كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِثْمِ. قَالُوا: فَنَقْلُ الصَّلَاةِ الْمَحْدُودَةِ الْوَقْتِ أَوَّلًا وَآخِرًا عَنْ زَمَنِهَا إِلَى زَمَنٍ آخَرَ كَنَقْلِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ عَنْ زَمَنِهِ إِلَى مُزْدَلِفَةَ، وَنَقْلِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عَنْ زَمَنِهَا إِلَى زَمَنٍ آخَرَ. قَالُوا: فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَنْ نَقَلَ صَوْمَ رَمَضَانَ إِلَى شَوَّالٍ، أَوْ صَلَّى الْعَصْرَ نِصْفَ

اللَّيْلِ وَبَيْنَ مَنْ حَجَّ فِي الْمُحَرَّمِ وَوَقَفَ فِيهِ؟ فَكَيْفَ تَصِحُّ صَلَاةُ هَذَا وَصِيَامُهُ دُونَ حَجِّ هَذَا، وَكِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَاصٍ آثِمٌ؟ . قَالُوا: فَحُقُوقُ اللَّهِ الْمُؤَقَّتَةُ لَا يَقْبَلُهَا اللَّهُ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِهَا، فَكَمَا لَا تُقْبَلُ قَبْلَ دُخُولِ أَوْقَاتِهَا لَا تُقْبَلُ بَعْدَ خُرُوجِ أَوْقَاتِهَا، فَلَوْ قَالَ: أَنَا أَصُومُ شَوَّالًا عَنْ رَمَضَانَ، كَانَ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنَا أَصُومُ شَعْبَانَ الَّذِي قَبْلَهُ عَنْهُ. قَالُوا: فَإِنَّ الْحَقَّ اللَّيْلِيَّ لَا يُقْبَلُ بِالنَّهَارِ، وَالنَّهَارِيَّ لَا يُقْبَلُ بِاللَّيْلِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي وَصِيَّةِ الصِّدِّيقِ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّتِي تَلَقَّاهَا بِالْقَبُولِ هُوَ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ: وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ، وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهَا إِذَا فَاتَ وَقْتُهَا الْمَحْدُودُ لَهَا شَرْعًا لَمْ تَبْقَ تِلْكَ الْعِبَادَةُ بِعَيْنِهَا، وَلَكِنْ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُهَا، فَإِذَا فُعِلَتِ الْعَصْرُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَمْ تَكُنْ عَصْرًا، فَإِنَّ الْعَصْرَ صَلَاةُ هَذَا الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ عَصْرًا فَلَمْ يَفْعَلْ مُصَلِّيهَا الْعَصْرَ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا أَتَى بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ صُورَتُهَا صُورَةُ صَلَاةِ الْعَصْرِ، لَا أَنَّهَا هِيَ. قَالُوا: وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ» وَفِي لَفْظٍ «الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» فَلَوْ كَانَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى التَّدَارُكِ وَفَعَلَهَا صَحِيحَةً لَمْ يَحْبَطْ عَمَلُهُ وَلَمْ يُوتَرْ أَهْلَهُ وَمَالَهُ مَعَ صِحَّتِهَا مِنْهُ وَقَبُولِهَا; لِأَنَّ مَعْصِيَةَ التَّأْخِيرِ عِنْدَكُمْ لَا تُحَقِّقُ التَّرْكَ وَالْفَوَاتَ، لِاسْتِدْرَاكِهِ بِالْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي. قَالُوا: وَهَذِهِ الصَّلَاةُ مَرْدُودَةٌ بِنَصِّ الشَّارِعِ فَلَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ بِقَبُولِهَا وَصِحَّتِهَا مَعَ تَصْرِيحِهِ بِرَدِّهَا وَإِلْغَائِهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَفِي لَفْظٍ «كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَهَذَا عَمَلٌ عَلَى خِلَافِ أَمْرِهِ فَيَكُونُ رَدًّا، وَالرَّدُّ بِمَعْنَى الْمَرْدُودِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَالضَّرْبِ بِمَعْنَى الْمَضْرُوبِ.

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَرْدُودَةٌ فَلَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ وَلَا مَقْبُولَةٍ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ فِي سُقُوطِ الْإِثْمِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَكَانَ شَرْطًا فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَالصِّحَّةِ كَسَائِرِ شُرُوطِهَا مِنَ الطَّهَارَةِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ فَالْأَمْرُ تَنَاوَلَ الشُّرُوطَ تَنَاوُلًا وَاحِدًا فَكَيْفَ سَاغَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهَا مَعَ اسْتِوَائِهَا فِي الْوُجُوبِ وَالْأَمْرِ وَالشَّرْطِيَّةٍ؟ . قَالُوا: وَلَيْسَ مَعَ الْمُصَحِّحِينَ لَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَا نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ، وَسَنُبْطِلُ جَمِيعَ أَقْيِسَتِهِمُ الَّتِي قَاسُوا عَلَيْهَا وَنُبَيِّنُ فَسَادَهَا. قَالُوا: وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَقْضِهِ عَنْهُ صِيَامُ الدَّهْرِ» فَكَيْفَ يُقَالُ يَقْضِيهِ عَنْهُ يَوْمٌ مِثْلُهُ؟ . قَالُوا: وَلِأَنَّ صِحَّةَ الْعِبَادَةِ إِنْ فُسِّرَتْ بِمُوَافَقَةِ الْأَمْرِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ غَيْرُ مُوَافِقَةٍ لَهُ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً، وَإِنْ فُسِّرَتْ بِسُقُوطِ الْقَضَاءِ فَإِنَّمَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ مَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهَذَا لَمْ يَقَعْ كَذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ إِلَى وُقُوعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى صِحَّتِهِ، وَإِنْ فُسِّرَتْ بِمَا أَبْرَأَ الذِّمَّةَ فَهَذِهِ لَمْ تُبْرِئِ الذِّمَّةَ مِنَ الْإِثْمِ قَطْعًا، وَلَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِبْرَاؤُهَا لِلذِّمَّةِ مِنْ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَأْمُورِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ وَرَضِيَهُ وَقَبِلَهُ، وَهَذَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِإِخْبَارِهِ عَنْ صِحَّتِهَا أَوْ بِمُوَافَقَتِهَا أَمْرَهُ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ عَنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَكَيْفَ يُحْكَمُ لَهَا بِالصِّحَّةِ؟ . قَالُوا: فَالصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ حُكْمَانِ شَرْعِيَّانِ مَرْجِعُهُمَا إِلَى الشَّارِعِ، فَالصَّحِيحُ مَا شَهِدَ لَهُ بِالصِّحَّةِ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ وَافَقَ أَمْرَهُ أَوْ كَانَ مُمَاثِلًا لِمَا شَهِدَ لَهُ بِالصِّحَّةِ فَيَكُونُ حُكْمُ الْمِثْلِ مِثْلَهُ، وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ قَدِ انْتَفَى عَنْهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ. وَمِنْ أَفْسَدِ الِاعْتِبَارِ اعْتِبَارُهَا بِالتَّأْخِيرِ الْمَعْذُورِ بِهِ أَوِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَهُوَ اعْتِبَارُ

الشَّيْءِ بِضِدِّهِ، وَقِيَاسُهُ عَلَى مُخَالِفِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالشَّرْعِ، وَهُوَ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ كَمَا سَيَأْتِي. قَالُوا: وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» فَأَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى الْمَعْذُورِ فَالْمُفَرِّطُ أَوْلَى، فَهَذِهِ الْحُجَّةُ إِلَى أَنْ تَكُونَ عَلَيْكُمْ أَقْرَبَ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ لَكُمْ، فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ شَرَطَ فِي فِعْلِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ أَنْ يَكُونَ التَّرْكُ عَنْ نَوْمٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ يُعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَكُمْ إِلَّا مُجَرَّدُ قِيَاسِ الْمُفَرِّطِ الْعَاصِي الْمُسْتَحِقِّ لِلْعُقُوبَةِ عَلَى مَنْ عَذَرَهُ اللَّهُ وَلَمْ يُنْسَبْ إِلَى تَفْرِيطٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةً حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الَّتِي بَعْدَهَا» وَأَيُّ قِيَاسٍ فِي الدُّنْيَا أَفْسَدَ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ وَأَبْطَلَ؟ . قَالُوا: وَأَيْضًا فَهَذَا لَمْ يُؤَخِّرِ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا بَلْ وَقْتُهَا الْمَأْمُورُ بِهِ لِمِثْلِهِ: حِينَ اسْتَيْقَظَ وَذَكَرَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] » وَهَذِهِ اللَّامُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النُّحَاةِ اللَّامُ الْوَقْتِيَّةُ، أَيْ عِنْدَ ذِكْرِي، أَوْ فِي وَقْتِ ذِكْرِي. قَالُوا: وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَلَّى الصُّبْحَ يَوْمَ الْوَادِي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَّا فِي وَقْتِهَا حَقِيقَةً. قَالُوا: وَالْأَوْقَاتُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: وَقْتٌ لِلْقَادِرِ الْمُسْتَيْقِظِ الذَّاكِرِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ فَهِيَ خَمْسَةٌ، وَوَقْتٌ لِلذَّاكِرِ الْمُسْتَيْقِظِ الْمَعْذُورِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، فَإِنَّ فِي حَقِّهِ: وَقْتُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَاحِدٌ، وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ وَاحِدٌ، وَوَقْتُ الْفَجْرِ وَاحِدٌ، فَالْأَوْقَاتُ فِي حَقِّ هَذَا ثَلَاثَةٌ، وَإِذَا أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى أَنْ فَعَلَهَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ فَإِنَّمَا صَلَّاهَا فِي وَقْتِهَا. وَوَقْتٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ بِنَوْمٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَهُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ الْبَتَّةَ، بَلِ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ عِنْدَ يَقَظَتِهِ وَذِكْرِهِ لَا وَقْتَ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ.

هَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدُهُ، وَهَذَا الْمُفَرِّطُ الْمُضَيِّعُ خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَهُوَ قِسْمٌ رَابِعٌ، فَبِأَيِّهَا تُلْحِقُونَهُ؟ . قَالُوا: وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَضَاءَ رَمَضَانَ لِمَنْ أَفْطَرَهُ لِعُذْرٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ قَطُّ لِمَنْ أَفْطَرَهُ مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا بِنَصٍّ وَلَا بِإِيمَاءٍ وَلَا تَنْبِيهٍ، وَلَا تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُهُ، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا مَعَكُمْ قِيَاسُهُ عَلَى الْمَعْذُورِ مَعَ اطِّرَادِ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، بَلْ قَدْ أَخْبَرَ الشَّارِعُ أَنَّ صِيَامَ الدَّهْرِ لَا يَقْضِيهِ عَنْ يَوْمٍ يُفْطِرُهُ بِلَا عُذْرٍ، فَضْلًا عَنْ يَوْمٍ مِثْلِهِ. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: الْعِبَادَةُ وَإِيقَاعُهَا فِي وَقْتِهَا فَإِذَا تَرَكَ أَحَدَهُمَا بَقِيَ عَلَيْهِ الْآخَرُ، فَهَذَا إِنَّمَا يَنْفَعُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مُرْتَبِطًا بِالْآخَرِ ارْتِبَاطَ الشَّرْطِيَّةِ كَمَنْ أُمِرَ بِالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ، فَتَرَكَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْآخَرُ، أَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا شَرْطًا فِي الْآخَرِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْإِتْيَانُ بِالشَّرْطِ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَشْرُوطِ إِلَّا بِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْآخَرِ بِدُونِهِ، وَيَصِحُّ مِنْهُ بِدُونِ وَصْفِهِ وَشَرْطِهِ؟ فَأَيْنَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ؟ وَهَلِ الْكَلَامُ إِلَّا فِيهِ؟ . قَالُوا: وَإِنْ قُلْنَا إِنَّمَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَلَا أَمْرَ مَعَكُمْ بِالْقَضَاءِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَقِيَاسُهُ عَلَى مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ مُمْتَنِعٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، فَهَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ نَافِعًا وَمَصْلَحَتُهُ كَمَصْلَحَةِ الْأَدَاءِ كَقَضَاءِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْحَائِضِ لِلصَّوْمِ، وَقَضَاءِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي، أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ غَيْرَ مُبَرِّئٍ لِلذِّمَّةِ وَلَا هُوَ مَعْذُورٌ بِتَأْخِيرِ الْوَاجِبِ عَنْ وَقْتِهِ فَهَذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ وَلَا أَمْرٌ ثَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي عُلِمَ افْتِرَاقُ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِيهِ فِي وَصْفٍ ظَاهِرِ التَّأْثِيرِ مَانِعٍ لِلْإِلْحَاقِ. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَدَارُكُ مَصْلَحَةِ الْفِعْلِ تَدَارَكَ مِنْهَا مَا أَمْكَنَ، فَهَذَا إِنَّمَا يُفِيدُ إِذَا لَمْ يُمْكِنُ حُصُولُ الْمَصْلَحَةِ عَلَى شَرْطٍ تَزُولُ الْمَصْلَحَةُ بِزَوَالِهِ، وَالتَّدَارُكُ بَعْدَ فَوَاتِ شَرْطِهِ وَخُرُوجِهِ عَنِ الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُمْتَنِعٌ إِلَّا بِأَمْرٍ آخَرَ مِنَ التَّوْبَةِ وَتَكْثِيرِ النَّوَافِلِ وَالْحَسَنَاتِ، وَأَمَّا تَدَارُكُ غَيْرِ هَذَا الْفِعْلِ فَكَلَّا، وَلَمَّا. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ مَنِ احْتَجَّ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا عَجَزَ عَنْ جُمْلَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَتَى بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْهُ، كَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ عَنْ إِكْمَالِ غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ عَنْ إِكْمَالِ الْفَاتِحَةِ، أَوْ عَنْ تَمَامِ الْكِفَايَةِ فِي الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَتَى بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ، أَمَّا مَنْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهُ عَمْدًا وَتَفْرِيطًا بِلَا عُذْرٍ فَلَا

يَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ، وَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ مُتَنَاوِلًا لَهُ لَمَا تَوَعَّدَهُ بِإِحْبَاطِ عَمَلِهِ، وَتَشْبِيهِهِ بِمَنْ سُلِبَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَبَقِيَ بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالشَّرْعِ تَخْفِيفُهُ عَنْ هَذَا الْعَامِدِ الْمُفَرِّطِ بِعَدَمِ إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، وَتَكْلِيفِ الْمَعْذُورِ بِهِ، فَكَلَامٌ بَعِيدٌ عَنِ التَّحْقِيقِ بَيْنَ الْبُطْلَانِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَعْذُورَ إِنَّمَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فِي وَقْتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ فِي فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ كَغَيْرِ الْمَعْذُورِ الَّذِي صَلَّى فِي وَقْتِهِ، وَنَحْنُ لَمْ نُسْقِطِ الْقَضَاءَ عَنِ الْعَامِدِ الْمُفَرِّطِ تَخْفِيفًا عَنْهُ، بَلْ لِأَنَّهُ غَيْرُ نَافِعٍ لَهُ وَلَا مَقْبُولٍ مِنْهُ وَلَا مَأْمُورٍ بِهِ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ مَا تَرَكَهُ، فَأَيْنَ التَّخْفِيفُ عَنْهُ؟ . قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ الصَّلَاةَ خَارِجَ الْوَقْتِ بَدَلٌ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْمُبْدَلُ انْتُقِلَ إِلَى بَدَلِهِ، فَهَلْ هَذَا إِلَّا مُجَرَّدَ دَعْوَى؟ وَهَلْ وَقَعَ النِّزَاعُ إِلَّا فِي هَذَا؟ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ هَذَا الْمُفَرِّطِ الْعَامِدِ بَدَلٌ؟ وَنَحْنُ نُطَالِبُكُمْ بِالْأَمْرِ بِهَا أَوَّلًا، وَبِكَوْنِهَا مَقْبُولَةً نَافِعَةً ثَانِيًا، وَبِكَوْنِهَا بَدَلًا ثَالِثًا، وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى إِثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْبَتَّةَ. وَإِنَّمَا يُعْلَمُ كَوْنُ الشَّيْءِ بَدَلًا بِجَعْلِ الشَّارِعِ لَهُ كَذَلِكَ، كَشَرْعِهِ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَالْإِطْعَامَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الصِّيَامِ وَبِالْعَكْسِ، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَأَيْنَ جَعَلَ الشَّرْعُ قَضَاءَ هَذَا الْمُفَرِّطِ الْمُضَيِّعِ بَدَلًا عَنْ فِعْلِهِ الْعِبَادَةَ فِي الْوَقْتِ؟ وَهَلْ ذَلِكَ إِلَّا الْقِيَاسُ الَّذِي قَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُهُ؟ . قَالُوا: وَأَمَّا قِيَاسُكُمْ فِعْلَهَا خَارِجَ الْوَقْتِ عَلَى صِحَّةِ أَدَاءِ دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ بَعْدَ وَقْتِهَا فَمِنْ هَذَا النَّمَطِ; لِأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ لَيْسَ مَحْدُودَ الطَّرَفَيْنِ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ، فَالْوُجُوبُ فِي حَقِّهِ لَيْسَ مُؤَقَّتًا مَحْدُودًا، بَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِخْرَاجٌ عَنْ وَقْتٍ مَحْدُودٍ هُوَ شَرْطٌ لِفِعْلِهِ. نَعَمْ أَوْلَى الْأَوْقَاتِ بِهِ الْوَقْتُ الْأَوَّلُ عَلَى الْفَوْرِ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْهُ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ قَضَاءً. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ مَحْدُودٌ عَلَى جِهَةِ التَّوْسِعَةِ بِمَا بَيْنَ رَمَضَانَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ إِلَى رَمَضَانَ آخَرَ، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَخَّرَهُ لَزِمَهُ فِعْلُهُ وَإِطْعَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا كَمَا أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُؤَقَّتَةَ لَا يَتَعَذَّرُ فِعْلُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ لَهَا شَرْعًا؟ . قِيلَ: قَدْ فَرَّقَ الشَّارِعُ بَيْنَ أَيَّامِ رَمَضَانَ وَبَيْنَ أَيَّامِ الْقَضَاءِ، فَجَعَلَ أَيَّامَ رَمَضَانَ

مَحْدُودَةَ الطَّرَفَيْنِ لَا يَجُوزُ تَقَدُّمُهَا وَلَا تَأَخُّرُهَا، وَأَطْلَقَ أَيَّامَ قَضَائِهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 183 - 184] فَأَطْلَقَ الْعِدَّةَ وَلَمْ يُوَقِّتْهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تُجْزِئُ فِي أَيِّ أَيَّامٍ كَانَتْ، وَلَمْ يَجِئْ نَصٌّ عَنِ اللَّهِ وَلَا عَنْ رَسُولِهِ، وَلَا إِجْمَاعٌ عَلَى تَقْيِيدِهَا بِأَيَّامٍ لَا تُجْزِئُ فِي غَيْرِهَا، وَلَيْسَ فِي الْبَابِ إِلَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَلَا أَقْضِيهِ إِلَّا فِي شَعْبَانَ مِنَ الشُّغْلِ بِرَسُولِ اللَّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ صَرِيحًا فِي التَّوْقِيتِ بِمَا بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ كَتَوْقِيتِ أَيَّامِ رَمَضَانَ بِمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، فَاعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُمْتَنِعٌ وَجَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ جَعَلَ أَيَّامَ رَمَضَانَ مَحْدُودَةً بِحَدٍّ لَا تَتَقَدَّمُ عَنْهُ وَلَا تَتَأَخَّرُ، وَأَطْلَقَ أَيَّامَ الْقَضَاءِ وَأَكَّدَ إِطْلَاقَهَا بِقَوْلِهِ " أُخَرَ " وَأَفْتَى مَنْ أَفْتَى مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْإِطْعَامِ لِمَنْ أَخَّرَهَا إِلَى رَمَضَانَ آخَرَ جَبْرًا لِزِيَادَةِ التَّأْخِيرِ عَنِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ، وَلَا تَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهَا قَضَاءً بَلْ هِيَ قَضَاءٌ وَإِنْ فُعِلَتْ بَعْدَ رَمَضَانَ آخَرَ فَحُكْمُهَا فِي الْقَضَاءِ قَبْلَ رَمَضَانَ وَبَعْدَهُ وَاحِدٌ بِخِلَافِ أَيَّامِ رَمَضَانَ. يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ عَمْدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ أَنْ يُقِيمَ مَقَامَهُ يَوْمًا آخَرَ مِثْلَهُ الْبَتَّةَ، وَلَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الْقَضَاءِ قَامَ الْيَوْمُ الَّذِي بَعْدَهُ مَقَامَهُ. وَسِرُّ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَعْذُورَ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي حَقِّهِ أَيَّامُ الْقَضَاءِ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهَا، وَأَيَّ يَوْمٍ صَامَهُ قَامَ مَقَامَ الْآخَرِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْذُورِ فَأَيَّامُ الْوُجُوبِ مُتَعَيَّنَةٌ فِي حَقِّهِ لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا. قَالُوا: وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ عَمْدًا فَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الظُّهْرَ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَحَدُ الصَّلَاتَيْنِ وَلَا بُدَّ إِمَّا الْجُمُعَةُ وَإِمَّا الظُّهْرُ، فَإِذَا تَرَكَ الْجُمُعَةَ فَوَقْتُ الظُّهْرِ قَائِمٌ وَهُوَ مُخَاطَبٌ بِوَظِيفَةِ الْوَقْتِ. قَالُوا: وَلَاسِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ الْجُمُعَةَ بَدَلًا مِنَ الظُّهْرِ، فَإِنَّهُ إِذَا فَاتَهُ الْبَدَلُ رَجَعَ إِلَى

الْأَصْلِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ الْقَضَاءُ ثَابِتًا بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِالنَّصِّ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ أَجَبْنَا بِالْجَوَابِ الْمُرَكَّبِ. فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ تَرْكُ الْجُمُعَةِ مُسَاوِيًا لِتَرْكِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا فَالْحُكْمُ فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ وَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ، عَمَلًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ بَطَلَ الْإِلْحَاقُ فَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ بَطَلَ الْقِيَاسُ. قَالُوا: وَأَمَّا تَأْخِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَلِلنَّاسِ فِي هَذَا التَّأْخِيرِ هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ: فَقَالَ الْجُمْهُورُ كَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ثُمَّ نُسِخَ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَكَانَ ذَلِكَ التَّأْخِيرُ كَتَأْخِيرِ صَلَاةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ التَّرْكِ الْمُحَرَّمِ بِهِ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ تَأْخِيرِ النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَتَأْخِيرِ الْمُفَرِّطِ، بَلْ أَوْلَى. فَإِنَّ هَذَا التَّأْخِيرَ حِينَئِذٍ مَأْمُورٌ بِهِ فَهُوَ كَتَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ جَمْعٍ إِلَى مُزْدَلِفَةَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ بَلْ هُوَ بَاقٍ، وَلِلْمُقَاتِلِ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ حَالَ الْقِتَالِ وَاشْتِغَالِهِ بِالْحَرْبِ وَالْمُسَايَفَةِ، وَفِعْلُهَا عِنْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَصِحُّ إِلْحَاقُ تَأْخِيرِ الْعَامِدِ الْمُفَرِّطِ بِهِ، وَكَذَلِكَ تَأْخِيرُ الصَّحَابَةِ الْعَصْرَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ فَإِنَّهُ كَانَ تَأْخِيرًا مَأْمُورًا بِهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَأَهْلِ الظَّاهِرِ، أَوْ تَأْخِيرًا سَائِغًا لِلتَّأْوِيلِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَنِّفِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَلَّاهَا فِي الطَّرِيقِ فِي وَقْتِهَا، وَلَا مَنْ أَخَّرَهَا إِلَى اللَّيْلِ حَتَّى صَلَّاهَا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ تَمَسَّكُوا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ وَأُولَئِكَ نَظَرُوا إِلَى الْمَعْنَى وَالْمُرَادِ مِنْهُمْ وَهُوَ سُرْعَةُ السَّيْرِ. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي تَصْوِيبِ أَيِ الطَّائِفَتَيْنِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَوْ كُنَّا مَعَ الْقَوْمِ لَصَلَّيْنَا فِي الطَّرِيقِ مَعَ الَّذِينَ فَهِمُوا الْمُرَادَ وَعَقِلُوا مَقْصُودَ الْأَمْرِ فَجَمَعُوا بَيْنَ إِيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا وَبَيْنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْعَدُوِّ وَلَمْ يَفُتْهُمْ مَشْهَدُهُمْ إِذِ الْمِقْدَارُ الَّذِي سَبَقَهُمْ بِهِ أُولَئِكَ لَحِقُوهُمْ بِهِ، لَمَّا اشْتَغَلُوا بِالصَّلَاةِ وَقْتَ النُّزُولِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. قَالُوا: فَهَؤُلَاءِ أَفْقَهُ الطَّائِفَتَيْنِ، جَمَعُوا بَيْنَ الِامْتِثَالِ وَالِاجْتِهَادِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْجِهَادِ مَعَ فِقْهِ النَّفْسِ.

فصل حقوق العباد

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَوْ كُنَّا مَعَهُمْ لَأَخَّرْنَا الصَّلَاةَ مَعَ الَّذِينَ أَخَّرُوهَا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَهُمُ الَّذِينَ أَصَابُوا حُكْمَ اللَّهِ قَطْعًا، وَكَانَ هَذَا التَّأْخِيرُ وَاجِبًا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ، فَهُوَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ خَاصَّةً، وَاللَّهُ يَأْمُرُ بِمَا يَشَاءُ، فَأَمْرُهُ بِالتَّأْخِيرِ فِي وُجُوبِ الطَّاعَةِ كَأَمْرِهِ بِالتَّقْدِيمِ، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَسْعَدَ بِالنَّصِّ وَهُمُ الَّذِينَ فَازُوا بِالْأَجْرَيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَنِّفِ الْآخَرِينَ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ وَالِاجْتِهَادِ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا قَصَدُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُمْ أَهْلُ الْأَجْرِ الْوَاحِدِ، وَهُمْ كَالْحَاكِمِ الَّذِي يَجْتَهِدُ فَيُخْطِئُ الْحَقَّ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إِلْحَاقَ الْمُفَرِّطِ الْعَاصِي بِالتَّأْخِيرِ بِهَؤُلَاءِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ. قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: هَذَا تَائِبٌ نَادِمٌ فَكَيْفَ تُسَدُّ عَلَيْهِ طَرِيقُ التَّوْبَةِ وَيُجْعَلُ إِثْمُ التَّضْيِيعِ لَازِمًا لَهُ وَطَائِرًا فِي عُنُقِهِ؟ ، فَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَسُدَّ عَلَيْهِ بَابًا فَتَحَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الْمُذْنِبِينَ كُلِّهِمْ وَلَمْ يُغْلِقْهُ عَنْ أَحَدٍ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ أَوْ إِلَى وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي طَرِيقِ تَوْبَتِهِ وَتَحْقِيقِهَا هَلْ يَتَعَيَّنُ لَهَا الْقَضَاءُ أَمْ يَسْتَأْنِفُ الْعَمَلَ وَيَصِيرُ مَا مَضَى لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ فِي اسْتِئْنَافِ الْعَمَلِ وَقَبُولِ التَّوْبَةِ؟ فَإِنَّ تَرْكَ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ لَا يَزِيدُ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ بِجُمْلَتِهِ وَفَرَائِضِهِ، فَإِذَا كَانَتْ تَوْبَةُ تَارِكِ الْإِسْلَامِ مَقْبُولَةً صَحِيحَةً لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا إِعَادَةُ مَا فَاتَهُ فِي حَالِ إِسْلَامِهِ أَصْلِيًّا كَانَ أَوْ مُرْتَدًّا كَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي تَرْكِ أَمْرِ الْمُرْتَدِّينَ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ بِالْقَضَاءِ، فَقَبُولُ تَوْبَةِ تَارِكِ الصَّلَاةِ وَعَدَمُ تَوَقُّفِهَا عَلَى الْقَضَاءِ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُقُوقُ الْعِبَادِ] فَصْلٌ وَأَمَّا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيُتَصَوَّرُ فِي مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: مَنْ غَصَبَ أَمْوَالًا ثُمَّ تَابَ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهَا إِلَى أَصْحَابِهَا أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِمْ لِجَهْلِهِ بِهِمْ أَوْ لِانْقِرَاضِهِمْ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَاخْتُلِفَ فِي تَوْبَةِ مِثْلِ هَذَا. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَوْبَةَ لَهُ إِلَّا بِأَدَاءِ هَذِهِ الْمَظَالِمِ إِلَى أَرْبَابِهَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ قَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَقَدْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ، وَالْقِصَاصُ أَمَامَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَيْسَ إِلَّا. قَالُوا: فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَتْرُكُ مِنْ حُقُوقِ عِبَادِهِ

شَيْئًا، بَلْ يَسْتَوْفِيهَا لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَلَا يُجَاوِزُهُ ظُلْمُ ظَالِمٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْخُذَ لِلْمَظْلُومِ حَقَّهُ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلَوْ لَطْمَةً وَلَوْ كَلِمَةً وَلَوْ رَمْيَةً بِحَجَرٍ. قَالُوا: وَأَقْرَبُ مَا لِهَذَا فِي تَدَارُكِ الْفَارِطِ مِنْهُ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الْحَسَنَاتِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْوَفَاءِ مِنْهَا يَوْمَ لَا يَكُونُ الْوَفَاءُ بِدِينَارٍ وَلَا بِدِرْهَمٍ فَيَتَّجِرُ تِجَارَةً يُمْكِنُهُ الْوَفَاءُ مِنْهَا، وَمِنْ أَنْفَعِ مَا لَهُ: الصَّبْرُ عَلَى ظُلْمِ غَيْرِهِ لَهُ وَأَذَاهُ وَغِيبَتِهِ وَقَذْفِهِ، فَلَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا يُقَابِلُهُ لِيُحِيلَ خَصْمَهَ عَلَيْهِ إِذَا أَفْلَسَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنَّهُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا عَلَيْهِ يَسْتَوْفِي أَيْضًا مَا لَهُ، وَقَدْ يَتَسَاوَيَانِ، وَقَدْ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُوقَفُ أَمْرُهَا وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا الْبَتَّةَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَدْفَعُهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ; لِأَنَّهُ وَكِيلُ أَرْبَابِهَا فَيَحْفَظُهَا لَهُمْ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلْ بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ لِهَذَا وَلَمْ يُغْلِقْهُ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا عَنْ مُذْنِبٍ، وَتَوْبَتُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ عَنْ أَرْبَابِهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ كَانَ لَهُمُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُجِيزَا مَا فَعَلَ وَتَكُونَ أُجُورُهَا لَهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُجِيزُوا وَيَأْخُذُوا مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِ أَمْوَالِهِمْ وَيَكُونَ ثَوَابُ تِلْكَ الصَّدَقَةِ لَهُ إِذْ لَا يُبْطِلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ثَوَابَهَا، وَلَا يَجْمَعُ لِأَرْبَابِهَا بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، فَيُغَرِّمُهُ إِيَّاهَا وَيَجْعَلُ أَجْرَهَا لَهُمْ وَقَدْ غُرِّمَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَحَجَّاجِ بْنِ الشَّاعِرِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً وَدَخَلَ يَزِنُ لَهُ الثَّمَنَ، فَذَهَبَ رَبُّ الْجَارِيَةِ، فَانْتَظَرَهُ حَتَّى يَئِسَ مِنْ عَوْدِهِ، فَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ رَبِّ الْجَارِيَةِ فَإِنْ رَضِيَ فَالْأَجْرُ لَهُ، وَإِنْ أَبَى فَالْأَجْرُ لِي وَلَهُ مِنْ حَسَنَاتِي بِقَدْرِهِ، وَغَلَّ رَجُلٌ مِنَ الْغَنِيمَةِ ثُمَّ تَابَ فَجَاءَ بِمَا غَلَّهُ إِلَى أَمِيرِ الْجَيْشِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ وَقَالَ: كَيْفَ لِي بِإِيصَالِهِ إِلَى الْجَيْشِ وَقَدْ تَفَرَّقُوا؟ فَأَتَى حَجَّاجَ بْنَ الشَّاعِرِ فَقَالَ: يَا هَذَا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْجَيْشَ وَأَسْمَاءَهُمْ وَأَنْسَابَهُمْ، فَادْفَعْ خُمُسَهُ إِلَى صَاحِبِ الْخُمُسِ وَتَصَدَّقْ بِالْبَاقِي عَنْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يُوصِلُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ أَوْ كَمَا قَالَ فَفَعَلَ، فَلَمَّا أَخْبَرَ مُعَاوِيَةَ قَالَ: لَأَنْ أَكُونَ أَفْتَيْتُكَ بِذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نِصْفِ مُلْكِي.

قَالُوا: وَكَذَلِكَ اللُّقَطَةُ إِذَا لَمْ يَجِدْ رَبَّهَا بَعْدَ تَعْرِيفِهَا وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، تَصَدَّقَ بِهَا عَنْهُ، فَإِنْ ظَهَرَ مَالِكُهَا خَيَّرَهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالضَّمَانِ. قَالُوا: وَهَذَا لِأَنَّ الْمَجْهُولَ فِي الشَّرْعِ كَالْمَعْدُومِ، فَإِذَا جُهِلَ الْمَالِكُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ، وَهَذَا مَالٌ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَعْطِيلِ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ وَالضَّرَرِ بِمَالِكِهِ وَبِالْفُقَرَاءِ وَبِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، أَمَّا الْمَالِكُ فَلِعَدَمِ وُصُولِ نَفْعِهِ إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْفُقَرَاءُ، وَأَمَّا مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ فَلِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْخَلَاصِ مِنْ إِثْمِهِ فَيَغْرَمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ انْتِفَاعٍ بِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا تُبِيحُهُ شَرِيعَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَأْمُرَ بِهِ وَتُوجِبَهُ، فَإِنَّ الشَّرَائِعَ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَصَالِحِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلَ الْمَفَاسِدِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَتَقْلِيلِهَا، وَتَعْطِيلُ هَذَا الْمَالِ وَوَقْفُهُ وَمَنْعُهُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَفْسَدَةٌ مَحْضَةٌ لَا مَصْلَحَةَ فِيهَا فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ. قَالُوا: وَقَدِ اسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ الْعُرْفِيَّ كَاللَّفْظِيِّ، فَمَنْ رَأَى بِمَالِ غَيْرِهِ مَوْتًا وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِذَبْحِهِ فَذَبَحَهُ إِحْسَانًا إِلَى مَالِكِهِ وَنُصْحًا لَهُ فَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ عُرْفًا وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ سَفِيهًا، فَإِذَا ذَبَحَهُ لِمَصْلَحَةِ مَالِكِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ; لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ وَ {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وَكَذَلِكَ إِذَا غَصَبَهُ ظَالِمٌ، أَوْ خَافَ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَصَالَحَهُ عَلَيْهِ بِبَعْضِهِ لِيَسْلَمَ الْبَاقِي لِمَالِكِهِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ، أَوْ رَآهُ آيِلًا إِلَى تَلَفٍ مَحْضٍ فَبَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا مِنَ الْمَالِكِ، وَقَدْ بَاعَ عُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ الْبَارِقِيُّ وَكَيْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِلْكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَفْظًا وَاشْتَرَى لَهُ بِبَعْضِ ثَمَنِهِ مِثْلَ مَا وَكَّلَهُ فِي شِرَائِهِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ كُلِّهِ، ثُمَّ جَاءَهُ بِالثَّمَنِ وَبِالْمُشْتَرَى فَقَبِلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لَهُ. وَأُشْكِلَ هَذَا عَلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. وَبَنَاهُ عَلَى تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ، فَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْفُضُولِيَّ لَا يَقْبِضُ وَلَا يُقْبِضُ، وَهَذَا قَبَضَ وَأَقْبَضَ. وَبَنَاهُ آخَرُونَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ وَكِيلًا مُطْلَقًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا أَفْسَدُ مِنَ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَكَّلَ أَحَدًا وَكَالَةً مُطْلَقَةً الْبَتَّةَ، وَلَا نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ مُسْلِمٌ.

وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: أَنَّ الْإِذْنَ الْعُرْفِيَّ كَالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ، وَمَنْ رَضِيَ بِالْمُشْتَرِي وَخَرَجَ ثَمَنُهُ عَنْ مِلْكِهِ. فَهُوَ بِأَنْ يَرْضَى بِهِ وَيُحَصِّلَ لَهُ الثَّمَنَ أَشَدُّ رِضًى. وَنَظِيرُ هَذَا مَرِيضٌ عَجَزَ أَصْحَابُهُ فِي السَّفَرِ أَوِ الْحَضَرِ عَنِ اسْتِئْذَانِهِ فِي إِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فِي عِلَاجِهِ وَخِيفَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ يُخْرِجُونَ مِنْ مَالِهِ مَا هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا مَصْلَحَتُهُ وَحُسْنُهُ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ الْخَلْقِ وَلَا تَأْتِي شَرِيعَةٌ بِتَحْرِيمِهِ كَثِيرٌ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَالِ الَّذِي قَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَشَدُّ شَيْءٍ رِضًى بِوُصُولِ نَفْعِهِ الْأُخْرَوِيِّ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَكْرَهُ شَيْءٍ لِتَعْطِيلِهِ أَوْ إِبْقَائِهِ مَقْطُوعًا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ ثَوَابُ مَالِهِ سَرَّهُ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ سُرُورِهِ بِوُصُولِهِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يُقَالُ: مَصْلَحَةُ تَعْطِيلِ هَذَا الْمَالِ عَنِ انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ وَالْمَسَاكِينِ بِهِ وَمَنْ هُوَ بِيَدِهِ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ إِنْفَاقِهِ شَرْعًا؟ بَلْ أَيُّ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ فِي هَذَا التَّعْطِيلِ؟ وَهَلْ هُوَ إِلَّا مَحْضُ الْمَفْسَدَةِ؟ . وَلَقَدْ سُئِلَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، سَأَلَهُ شَيْخٌ، فَقَالَ: هَرَبْتُ مِنْ أُسْتَاذِي وَأَنَا صَغِيرٌ إِلَى الْآنِ، لَمْ أَطَّلِعْ لَهُ عَلَى خَبَرٍ، وَأَنَا مَمْلُوكٌ وَقَدْ خِفْتُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأُرِيدُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِي مِنْ حَقِّ أُسْتَاذِي مِنْ رَقَبَتِي، وَقَدْ سَأَلْتُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُفْتِينَ، فَقَالُوا لِي: اذْهَبْ فَاقْعُدْ فِي الْمُسْتَوْدَعِ فَضَحِكَ شَيْخُنَا وَقَالَ: تَصَدَّقْ بِقِيمَتِكَ أَعْلَى مَا كَانَتْ عَنْ سَيِّدِكَ، وَلَا حَاجَةَ لَكَ بِالْمُسْتَوْدَعِ تَقْعُدُ فِيهِ عَبَثًا فِي غَيْرِ مُصْلِحَةٍ وَإِضْرَارًا بِكَ وَتَعْطِيلًا عَنْ مَصَالِحِكَ، وَلَا مَصْلَحَةَ لِأُسْتَاذِكَ فِي هَذَا، وَلَا لَكَ وَلَا لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا عَاوَضَ غَيْرَهُ مُعَاوَضَةً مُحَرَّمَةً، وَقَبَضَ الْعِوَضَ كَالزَّانِيَةِ وَالْمُغَنِّي وَبَائِعِ الْخَمْرِ وَشَاهِدِ الزُّورِ وَنَحْوِهِمْ ثُمَّ تَابَ وَالْعِوَضُ بِيَدِهِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَرُدُّهُ إِلَى مَالِكِهِ إِذْ هُوَ عَيْنُ مَالِهِ، وَلَمْ يَقْبِضْهُ بِإِذْنِ الشَّارِعِ وَلَا حَصَلَ لِرَبِّهِ فِي مُقَابَلَتِهِ نَفْعٌ مُبَاحٌ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ تَوْبَتُهُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ، وَلَا يَدْفَعُهُ إِلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ أَصْوَبُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّ قَابِضَهُ إِنَّمَا قَبَضَهُ بِبَذْلِ مَالِكِهِ لَهُ وَرِضَاهُ بِبَذْلِهِ، وَقَدِ اسْتَوْفَى عِوَضَهُ الْمُحَرَّمَ، فَكَيْفَ يَجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ؟ وَكَيْفَ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَالًا قَدِ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ، وَرَضِيَ بِإِخْرَاجِهِ فِيمَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَيْهَا ثَانِيًا وَثَالِثًا؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا مَحْضُ إِعَانَتِهِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ؟ وَهَلْ يُنَاسِبُ هَذَا مَحَاسِنَ الشَّرْعِ أَنْ يُقْضَى لِلزَّانِي بِكُلِّ مَا دَفَعَهُ إِلَى مَنْ زَنَى بِهَا، وَيُؤْخَذَ مِنْهَا ذَلِكَ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا فَيُعْطَاهُ وَقَدْ نَالَ عِوَضَهُ؟ . وَهَبْ أَنَّ هَذَا الْمَالَ لَمْ يَمْلِكْهُ الْآخِذُ، فَمِلْكُ صَاحِبِهِ قَدْ زَالَ عَنْهُ بِإِعْطَائِهِ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ مَا فِي قُبَالَتِهِ مِنَ النَّفْعِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: مِلْكُهُ بَاقٍ عَلَيْهِ وَيَجِبُ رَدُّهُ إِلَيْهِ؟ وَهَذَا بِخِلَافِ أَمْرِهِ بِالصَّدَقَةِ بِهِ فَإِنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ مِنْ وَجْهٍ خَبِيثٍ بِرِضَى صَاحِبِهِ وَبَذْلِهِ لَهُ بِذَلِكَ، وَصَاحِبُهُ قَدْ رَضِيَ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِذَلِكَ، وَأَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ فَكَانَ أَحَقَّ الْوُجُوهِ بِهِ صَرْفُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا مَنْ قَبَضَهُ وَيُخَفَّفُ عَنْهُ الْإِثْمُ وَلَا يُقَوَّى الْفَاجِرُ بِهِ وَيُعَانُ، وَيُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَهَكَذَا تَوْبَةُ مَنِ اخْتَلَطَ مَالُهُ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَمْيِيزُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقَدْرِ الْحَرَامِ وَيُطَيِّبَ بَاقِي مَالِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ إِذَا غَصَبَ مَالًا وَمَاتَ رَبُّهُ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَيْهِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى وَارِثِهِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَارِثُ رَدَّهُ إِلَى وَارِثِهِ وَهَلُمَّ جَرَّا، فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ إِلَى رَبِّهِ وَلَا إِلَى أَحَدِ وَرَثَتِهِ فَهَلْ تَكُونُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ لِلْمَوْرُوثِ إِذْ هُوَ رَبُّهُ الْأَصْلِيُّ وَقَدْ غَصَبَهُ عَلَيْهِ أَوْ لِلْوَارِثِ الْأَخِيرِ إِذِ الْحَقُّ قَدِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ؟ . فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ، وَهُمْ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُطَالَبَةُ لِلْمَوْرُوثِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ فَقَدْ ظَلَمَهُ بِتَرْكِ إِعْطَائِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ إِلَيْهِ، فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ فِي الْآخِرَةِ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَتَخَلَّصُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ حُقُوقِ هَؤُلَاءِ. قِيلَ: طَرِيقُ التَّوْبَةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُمْ بِمَالٍ تَجْرِي مَنَافِعُ ثَوَابِهِ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ مَا فَاتَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ مَنْفَعَةِ ذَلِكَ الْمَالِ لَوْ صَارَ إِلَيْهِ مُتَحَرِّيًا لِلْمُمْكِنِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَكَذَا لَوْ

فصل هل من ذنوب لا تقبل توبته أم لا

تَطَاوَلَتْ عَلَى الْمَالِ سُنُونَ، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ رَبَّهُ أَنْ يُنَمِّيَهُ بِالرِّبْحِ، فَتَوْبَتُهُ بِأَنْ يُخْرِجَ الْمَالَ وَمِقْدَارَ مَا فَوَّتَهُ مِنْ رِبْحِ مَالِهِ. فَإِنْ كَانَ قَدْ رَبِحَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، فَقِيلَ: الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْمَالِكِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقِيلَ: كُلُّهُ لِلْغَاصِبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْدَعَهُ مَالًا فَاتَّجَرَ بِهِ وَرَبِحَ، فَرِبْحُهُ لَهُ دُونَ مَالِكِهِ عِنْدَهُمَا وَضَمَانُهُ عَلَيْهِ. وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِي الرِّبْحِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاخْتِيَارُ شَيْخِنَا رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، فَتُضَمُّ حِصَّةُ الْمَالِكِ مِنَ الرِّبْحِ إِلَى أَصْلِ الْمَالِ وَيُتَصَدَّقُ بِذَلِكَ. وَهَكَذَا لَوْ غَصَبَ نَاقَةً أَوْ شَاةً فَنَتَجَتْ أَوْلَادًا، فَقِيلَ: أَوْلَادُهَا كُلُّهَا لِلْمَالِكِ، فَإِنْ مَاتَتْ أَوْ شَيْءٌ مِنَ النِّتَاجِ رَدَّ أَوْلَادَهَا وَقِيمَةَ الْأُمِّ وَمَا مَاتَ مِنَ النِّتَاجِ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا مَاتَتْ فَرَبُّهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهَا يَوْمَ مَاتَتْ وَتَرْكِ نِتَاجِهَا لِلْغَاصِبِ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِتَاجِهَا وَتَرْكِ قِيمَتِهَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ الرَّاجِحِ يَكُونُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَهُ نِصْفُ النِّتَاجِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ هَلْ مِنْ ذُنُوبٍ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ أَمْ لَا] فَصْلٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ مِنَ الذُّنُوبِ ذَنْبٌ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ أَمْ لَا؟ . فَقَالَ الْجُمْهُورُ: التَّوْبَةُ تَأْتِي عَلَى كُلِّ ذَنْبٍ، فَكُلُّ ذَنْبٍ يُمْكِنُ التَّوْبَةُ مِنْهُ وَتُقْبَلُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَوْبَةَ لِلْقَاتِلِ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَعْرُوفُ عَنْهُ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَدْ نَاظَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] إِلَى أَنْ قَالَ {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70] فَقَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ

قَتَلُوا وَزَنَوْا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَاهُ كَفَّارَةً، فَنَزَلَ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] الْآيَةَ، فَهَذِهِ فِي أُولَئِكَ، وَأَمَّا الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] فَالرَّجُلُ إِذَا عَرَفَ الْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَهُ ثُمَّ قَتَلَ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: لَمَّا نَزَلَتِ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] عَجِبْنَا مِنْ لِينِهَا فَلَبِثْنَا سَبْعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ نَزَلَتِ الْغَلِيظَةُ بَعْدَ اللَّيِّنَةِ فَنَسَخَتِ اللَّيِّنَةَ، وَأَرَادَ بِالْغَلِيظَةِ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَبِاللَّيِّنَةِ آيَةَ الْفُرْقَانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آيَةُ الْفُرْقَانِ مَكِّيَّةٌ، وَآيَةُ النِّسَاءِ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ وَلَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا مُتَعَذَّرَةٌ إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَيْهَا إِلَّا بِاسْتِحْلَالِهِ أَوْ إِعَادَةِ نَفْسِهِ الَّتِي فَوَّتَهَا عَلَيْهِ إِلَى جَسَدِهِ إِذِ التَّوْبَةُ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِأَحَدِهِمَا، وَكِلَاهُمَا مُتَعَذَّرٌ عَلَى الْقَاتِلِ، فَكَيْفَ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ مِنْ حَقِّ آدَمِيٍّ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَحِلَّهُ مِنْهُ؟ . وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ هَذَا فِي الْمَالِ إِذَا مَاتَ رَبُّهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ إِيَّاهُ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِيصَالِ نَظِيرِهِ إِلَيْهِ بِالصَّدَقَةِ. قَالُوا: وَلَا يُرَدُّ عَلَيْنَا أَنَّ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنَ الْقَتْلِ وَتَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ فَالتَّوْبَةُ مِنْهُ مُمْكِنَةٌ، وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّ فَالتَّوْبَةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَدَائِهِ إِلَيْهِ وَاسْتِحْلَالِهِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] فَهَذِهِ فِي حَقِّ التَّائِبِ وَبِقَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فَهَذِهِ فِي حَقِّ غَيْرِ التَّائِبِ; لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَمَا دُونَهُ، وَعَلَّقَ الْمَغْفِرَةَ بِالْمَشِيئَةِ فَخَصَّصَ وَعَلَّقَ

وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا عَمَّمَ وَأَطْلَقَ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] فَإِذَا تَابَ هَذَا الْقَاتِلُ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ غَفَّارٌ لَهُ. قَالُوا: وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثُ الَّذِي قَتَلَ الْمِائَةَ ثُمَّ تَابَ فَنَفَعَتْهُ تَوْبَتُهُ وَأُلْحِقَ بِالْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ الَّتِي خَرَجَ إِلَيْهَا، وَصَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ» . قَالُوا: وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى «ابْنَ آدَمَ لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا لَقِيتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَقَالَ «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَقَالَ «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ» وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» وَفِيهِ يَقُولُ اللَّهُ

تَعَالَى «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُخْرِجَنَّ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَأَضْعَافُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ. قَالُوا: وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ فَهِيَ نَظَائِرُ أَمْثَالِهَا مِنْ نُصُوصِ الْوَعِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] وَقَوْلِهِ {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] وَقَوْلِهِ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ يَتَوَجَّأُ بِهَا خَالِدًا مُخَلَّدًا فِي نَارِ جَهَنَّمَ» وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ عَلَى طُرُقٍ: أَحَدِهَا: الْقَوْلُ بِظَاهِرِهَا، وَتَخْلِيدِ أَرْبَابِ هَذِهِ الْجَرَائِمِ فِي النَّارِ، وَهُوَ قَوْلُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا. فَقَالَتِ الْخَوَارِجُ: هُمْ كُفَّارٌ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ إِلَّا كَافِرٌ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَيْسُوا بِكُفَّارٍ بَلْ فُسَّاقٍ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ هَذَا الْوَعِيدُ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِلِّ لَهَا; لِأَنَّهُ كَافِرٌ، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهَا مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهَا فَلَا يَلْحَقُهُ هَذَا الْوَعِيدُ وَعِيدُ الْخُلُودِ وَإِنْ لَحِقَهُ وَعِيدُ الدُّخُولِ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: لَوِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ كَانَ كَافِرًا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَالَ: مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ: الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ النُّصُوصِ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ أَلْفَاظٌ عَامَّةٌ، وَمِنْ هَاهُنَا أَنْكَرَ الْعُمُومَ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَقَصْدُهُمْ تَعْطِيلُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ بِهَا، لَكِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الشَّرْعِ جُمْلَةً، بَلْ تَعْطِيلَ عَامَّةِ

الْأَخْبَارِ، فَهَؤُلَاءِ رَدُّوا بَاطِلًا بَأَبْطَلَ مِنْهُ، وَبِدْعَةً بِأَقْبَحَ مِنْهَا، وَكَانُوا كَمَنْ رَامَ أَنْ يَبْنِيَ قَصْرًا فَهَدَمَ مِصْرًا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ رَابِعَةٌ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ. قَالُوا: وَالْإِضْمَارُ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْمُضْمَرِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِإِضْمَارِ الشَّرْطِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَزَاؤُهُ كَذَا إِنْ جَازَاهُ أَوْ إِنْ شَاءَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ خَامِسَةٌ بِإِضْمَارِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَزَاؤُهُ كَذَا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ، وَهَذِهِ دَعْوَى لَا دَلِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا الْبَتَّةَ وَلَكِنَّ إِثْبَاتَهَا بِأَمْرِ خَارِجٍ عَنِ اللَّفْظِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ سَادِسَةٌ: هَذَا وَعِيدٌ، وَإِخْلَافُ الْوَعِيدِ لَا يُذَمُّ بَلْ يُمْدَحُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ عَلَيْهِ إِخْلَافُ الْوَعِيدِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ خُلْفُ الْوَعْدِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَعِيدَ حَقُّهُ فَإِخْلَافُهُ عَفْوٌ وَهِبَةٌ وَإِسْقَاطٌ، وَذَلِكَ مُوجَبُ كَرَمِهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَالْوَعْدُ حَقٌّ عَلَيْهِ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. قَالُوا: وَلِهَذَا مَدَحَ بِهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ يَقُولُ: نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ وَتَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ

عُبَيْدٍ: يَا أَبَا عَمْرٍو لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَقَدْ قَالَ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] الْآيَةَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَمْرٍو: وَيْحَكَ يَا عَمْرُو، مِنَ الْعُجْمَةِ أَتَيْتَ، إِنَّ الْعَرَبَ لَا تَعُدُّ إِخْلَافَ الْوَعِيدِ ذَمًّا بَلْ جُودًا وَكَرَمًا، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَلَا يُرْهِبُ ابْنَ الْعَمِّ مَا عِشْتُ صَوْلَتِي ... وَلَا يَخْتَشِي مِنْ سَطْوَةِ الْمُتَهَدِّدِ وَإِنِّي إِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي وَقَالَتْ فِرْقَةٌ سَابِعَةٌ: هَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا ذُكِرَ فِيهِ الْمُقْتَضِي لِلْعُقُوبَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ مُقْتَضِي الْحُكْمِ وَجُودُهُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ وَانْتِفَاءِ مَانِعِهِ، وَغَايَةُ هَذِهِ النُّصُوصِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ كَذَا سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ وَمُقْتَضٍ لَهَا، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى ذِكْرِ الْمَوَانِعِ، فَبَعْضُهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَبَعْضُهَا بِالنَّصِّ، فَالتَّوْبَةُ مَانِعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالتَّوْحِيدُ مَانِعٌ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي لَا مَدْفَعَ لَهَا، وَالْحَسَنَاتُ الْعَظِيمَةُ الْمَاحِيَةُ مَانِعَةٌ، وَالْمَصَائِبُ الْكِبَارُ الْمُكَفِّرَةُ مَانِعَةٌ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الدُّنْيَا مَانِعٌ بِالنَّصِّ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَعْطِيلِ هَذِهِ النُّصُوصِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِعْمَالِ النُّصُوصِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. وَمِنْ هَاهُنَا قَامَتِ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ اعْتِبَارًا بِمُقْتَضِي الْعِقَابِ وَمَانِعِهِ وَإِعْمَالًا لِأَرْجَحِهَا. قَالُوا: وَعَلَى هَذَا بِنَاءُ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ وَمَفَاسِدِهِمَا، وَعَلَى هَذَا بِنَاءُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ السَّارِيَةِ فِي الْوُجُودِ، وَبِهِ ارْتِبَاطُ الْأَسْبَابِ وَمُسَبِّبَاتِهَا خَلْقًا وَأَمْرًا، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ ضِدٍّ ضِدًّا يُدَافِعُهُ وَيُقَاوِمُهُ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ لِلْأَغْلَبِ مِنْهُمَا، فَالْقُوَّةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِلصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ، وَفَسَادُ الْأَخْلَاقِ وَبَغْيُهَا مَانِعٌ مِنْ عَمَلِ الطَّبِيعَةِ وَفِعْلِ الْقُوَّةِ، وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ قُوَى الْأَدْوِيَةِ وَالْأَمْرَاضِ، وَالْعَبْدُ يَكُونُ فِيهِ مُقْتَضٍّ لِلصِّحَّةِ وَمُقْتَضٍ لِلْعَطَبِ، وَأَحَدُهُمَا يَمْنَعُ كَمَالَ تَأْثِيرِ الْآخَرِ وَيُقَاوِمُهُ، فَإِذَا تَرَجَّحَ عَلَيْهِ وَقَهَرَهُ كَانَ التَّأْثِيرُ لَهُ. وَمِنْ هَاهُنَا يُعْلَمُ انْقِسَامُ الْخَلْقِ إِلَى مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ وَعَكْسُهُ، وَمَنْ

فصل تاب القاتل وسلم نفسه فقتل قصاصا هل يبقى عليه يوم القيامة للمقتول حق

يَدْخُلُ النَّارَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَيَكُونُ مُكْثُهُ فِيهَا بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ مُقْتَضَى الْمُكْثِ فِي سُرْعَةِ الْخُرُوجِ وَبُطْئِهِ. وَمَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ مُنَوَّرَةٌ يَرَى بِهَا كُلَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَتَفَاصِيلِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ رَأْيَ عَيْنٍ، وَيَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ مُقْتَضَى إِلَهِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَنِسْبَةُ خِلَافِ ذَلِكَ إِلَيْهِ نِسْبَةُ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى بَصِيرَتِهِ كَنِسْبَةِ الشَّمْسِ وَالنُّجُومِ إِلَى بَصَرِهِ، وَهَذَا يَقِينُ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْرِقُ السَّيِّئَاتِ كَمَا تَحْرِقُ النَّارُ الْحَطَبَ. وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْإِيمَانِ يَسْتَحِيلُ إِصْرَارُهُ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْهُ وَكَثُرَتْ، فَإِنَّ مَا مَعَهُ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ يَأْمُرُهُ بِتَجْدِيدِ التَّوْبَةِ كُلَّ وَقْتٍ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِهِ وَهَذَا مِنْ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ. فَهَذِهِ مَجَامِعُ طُرُقِ النَّاسِ فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ. [فَصْلٌ تَابَ الْقَاتِلُ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ فَقُتِلَ قِصَاصًا هَلْ يَبْقَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمَقْتُولِ حَقٌّ] فَصْلٌ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا تَابَ الْقَاتِلُ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ فَقُتِلَ قِصَاصًا، هَلْ يَبْقَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمَقْتُولِ حَقٌّ؟ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَبْقَى عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَدُّهُ، وَالْحُدُودُ كَفَّارَةٌ لِأَهْلِهَا، وَقَدِ اسْتَوْفَى وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ حَقَّ مَوْرُوثِهِمْ، وَهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَاهُ بِنَفْسِهِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الرَّجُلِ حَقَّهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ وَوَكِيلِهِ. يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُ أَحَدُ الْجِنَايَتَيْنِ، فَإِذَا اسْتُوْفِيَتْ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى طَرَفِهِ فَاسْتَقَادَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمَقْتُولُ قَدْ ظُلِمَ وَفَاتَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَلَمْ يَسْتَدْرِكْ ظُلَامَتَهُ، وَالْوَارِثُ إِنَّمَا أَدْرَكَ ثَأْرَ نَفْسِهِ وَشِفَاءَ غَيْظِهِ، وَأَيُّ مَنْفَعَةٍ حَصَلَتْ لِلْمَقْتُولِ بِذَلِكَ؟ وَأَيُّ ظُلَامَةٍ اسْتَوْفَاهَا مِنَ الْقَاتِلِ؟ . قَالُوا: فَالْحُقُوقُ فِي الْقَتْلِ ثَلَاثَةٌ: حَقٌّ لِلَّهِ، وَحَقٌّ لِلْمَقْتُولِ، وَحَقٌّ لِلْوَارِثِ، فَحَقُّ اللَّهِ لَا يَزُولُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، وَحَقُّ الْوَارِثِ قَدِ اسْتَوْفَاهُ بِالْقَتْلِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بَيْنَ الْقِصَاصِ، وَالْعَفْوِ مَجَّانًا، أَوْ إِلَى مَالٍ، فَلَوْ أَحَلَّهُ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ مَالًا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْمَقْتُولِ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إِذَا اقْتَصَّ مِنْهُ; لِأَنَّهُ أَحَدُ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ حَقُّ الْمَقْتُولِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا دُونَ الْآخَرَيْنِ؟ .

قَالُوا: وَلَوْ قَالَ الْقَتِيلُ: لَا تَقْتُلُوهُ لِأُطَالِبَهُ بِحَقِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَتَلُوهُ، أَكَانَ يَسْقُطُ حَقُّهُ أَوْ لَمْ يُسْقِطْهُ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: يَسْقُطُ، فَبَاطِلٌ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِإِسْقَاطِهِ، وَإِنْ قُلْتُمْ: لَا يَسْقُطُ، فَكَيْفَ تُسْقِطُونَهُ إِذَا اقْتُصَّ مِنْهُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِرِضَا الْمَقْتُولِ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ؟ . وَهَذِهِ حُجَجٌ كَمَا تَرَى فِي الْقُوَّةِ لَا تَنْدَفِعُ إِلَّا بِأَقْوَى مِنْهَا أَوْ بِأَمْثَالِهَا. فَالصَّوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا تَابَ الْقَاتِلُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ، وَسَلَّمَ نَفْسَهُ طَوْعًا إِلَى الْوَارِثِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ حَقَّ مَوْرُوثِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَقَّانِ، وَبَقِيَ حَقُّ الْمَوْرُوثِ لَا يُضَيِّعُهُ اللَّهُ، وَيَجْعَلُ مِنْ تَمَامِ مَغْفِرَتِهِ لِلْقَاتِلِ تَعْوِيضَ الْمَقْتُولِ; لِأَنَّ مُصِيبَتَهُ لَمْ تَنْجَبِرْ بِقَتْلِ قَاتِلِهِ، وَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا، فَيُعَوِّضُ هَذَا عَنْ مَظْلَمَتِهِ، وَلَا يُعَاقَبُ هَذَا لِكَمَالِ تَوْبَتِهِ، وَصَارَ هَذَا كَالْكَافِرِ الْمُحَارِبِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ إِذَا قَتَلَ مُسْلِمًا فِي الصَّفِّ ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُعَوِّضُ هَذَا الشَّهِيدَ الْمَقْتُولَ، وَيَغْفِرُ لِلْكَافِرِ بِإِسْلَامِهِ وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ ظُلْمًا فَإِنَّ هَدْمَ التَّوْبَةِ لِمَا قَبْلَهَا كَهَدْمِ الْإِسْلَامِ لِمَا قَبْلَهُ. وَعَلَى هَذَا إِذَا سَلَّمَ نَفْسَهُ وَانْقَادَ فَعَفَا عَنْهُ الْوَلِيُّ وَتَابَ الْقَاتِلُ تَوْبَةً نَصُوحًا فَاللَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ وَيُعَوِّضُ الْمَقْتُولَ. فَهَذَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ نَظَرُ الْعَالَمِ وَاجْتِهَادُهُ، وَالْحُكْمُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلَّهِ {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل: 78] .

فصل في مشاهد الخلق في المعصية

[فَصْلٌ فِي مَشَاهِدِ الْخَلْقِ فِي الْمَعْصِيَةِ] [مَشَاهِدُ الْخَلْقِ فِي الْمَعْصِيَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ] . فَصْلٌ فِي مَشَاهِدِ الْخَلْقِ فِي الْمَعْصِيَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَشْهَدًا: 1 - مَشْهَدُ الْحَيَوَانِيَّةِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ. 2 - وَمَشْهَدُ اقْتِضَاءِ رُسُومِ الطَّبِيعَةِ وَلَوَازِمِ الْخِلْقَةِ. 3 - وَمَشْهَدُ الْجَبْرِ. 4 - وَمَشْهَدُ الْقَدَرِ. 5 - وَمَشْهَدُ الْحِكْمَةِ. 6 - وَمَشْهَدُ التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ. 7 - وَمَشْهَدُ التَّوْحِيدِ. 8 - وَمَشْهَدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. 9 - وَمَشْهَدُ الْإِيمَانِ وَتَعَدُّدِ شَوَاهِدِهِ. 10 - وَمَشْهَدُ الرَّحْمَةِ. 11 - وَمَشْهَدُ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ. 12 - وَمَشْهَدُ الذُّلِّ وَالِافْتِقَارِ. 13 - وَمَشْهَدُ الْمَحَبَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ. فَالْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ لِلْمُنْحَرِفِينَ، وَالثَّمَانِيَةُ الْبَوَاقِي لِأَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ، وَأَعْلَاهَا الْمَشْهَدُ الْعَاشِرُ. وَهَذَا الْفَصْلُ مِنْ أَجَلِّ فُصُولِ الْكِتَابِ وَأَنْفَعِهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ تُثْنَى عَلَيْهِ الْخَنَاصِرُ، وَلَعَلَّكَ لَا تَظْفَرُ بِهِ فِي كِتَابٍ سِوَاهُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى " سَفَرُ الْهِجْرَتَيْنِ فِي طَرِيقِ السَّعَادَتَيْنِ ". [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الْأَوَّلُ مَشْهَدُ الْحَيَوَانِيَّةِ] فَأَمَّا مَشْهَدُ الْحَيَوَانِيَّةِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَمَشْهَدُ الْجُهَّالِ الَّذِينَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ الْحَيَوَانِ إِلَّا فِي اعْتِدَالِ الْقَامَةِ وَنُطْقِ اللِّسَانِ، لَيْسَ هَمُّهُمْ إِلَّا مُجَرَّدَ نَيْلِ الشَّهْوَةِ بِأَيِّ طَرِيقٍ أَفْضَتْ إِلَيْهَا، فَهَؤُلَاءِ نُفُوسُهُمْ نُفُوسٌ حَيَوَانِيَّةٌ لَمْ تَتَرَقَّ عَنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ

فَضْلًا عَنْ دَرَجَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَهَؤُلَاءِ حَالُهُمْ أَخَسُّ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ مُتَفَاوِتُونَ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي هُمْ عَلَى أَخْلَاقِهَا وَطِبَاعِهَا. فَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ كَلْبِيَّةٌ، لَوْ صَادَفَ جِيفَةً تُشْبِعُ أَلْفَ كَلْبٍ لَوَقَعَ عَلَيْهَا وَحَمَاهَا مِنْ سَائِرِ الْكِلَابِ وَنَبَحَ كُلَّ كَلْبٍ يَدْنُو مِنْهَا، فَلَا تَقْرَبُهَا الْكِلَابُ إِلَّا عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ وَغَلَبَةٍ، وَلَا يَسْمَحُ لِكَلْبٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَهَمُّهُ شِبَعُ بَطْنِهِ مِنْ أَيْ طَعَامٍ اتَّفَقَ: مَيْتَةٍ أَوْ مُذَكًّى، خَبِيثٍ أَوْ طَيِّبٍ، وَلَا يَسْتَحِي مِنْ قَبِيحٍ، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، إِنْ أَطْعَمْتَهُ بَصْبَصَ بِذَنَبِهِ وَدَارَ حَوْلَكَ، وَإِنْ مَنَعْتَهُ هَرَّكَ وَنَبَحَكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ حِمَارِيَّةٌ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لِلْكَدِّ وَالْعَلَفِ، كُلَّمَا زِيدَ فِي عَلَفِهِ زِيدَ فِي كَدِّهِ، أَبْكَمُ الْحَيَوَانِ وَأَقَلُّهُ بَصِيرَةً، وَلِهَذَا مَثَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ مِنْ حَمْلِهِ كِتَابَهُ فَلَمْ يَحْمِلْهُ مَعْرِفَةً وَلَا فِقْهًا وَلَا عَمَلًا، وَمَثَّلَ بِالْكَلْبِ عَالِمَ السُّوءِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا وَأَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعْ هَوَاهُ، وَفِي هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ أَسْرَارٌ عَظِيمَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ سَبُعِيَّةٌ غَضَبِيَّةٌ هِمَّتُهُ الْعُدْوَانُ عَلَى النَّاسِ وَقَهْرُهُمْ بِمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ قُدْرَتُهُ، طَبِيعَتُهُ تَتَقَاضَى ذَلِكَ كَتَقَاضِي طَبِيعَةِ السَّبُعِ لِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ فَأْرِيَّةٌ فَاسِقٌ بِطَبْعِهِ مُفْسِدٌ لِمَا جَاوَرَهُ، تَسْبِيحُهُ بِلِسَانِ الْحَالِ: سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَهُ لِلْفَسَادِ. وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ عَلَى نُفُوسِ ذَوَاتِ السُّمُومِ وَالْحُمَاتِ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ الَّذِي يُؤْذِي بِعَيْنِهِ فَيُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ، وَالْعَيْنُ وَحْدَهَا لَمْ تَفْعَلْ شَيْئًا وَإِنَّمَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ السُّمِّيَّةُ تَكَيَّفَتْ بِكَيْفِيَّةٍ غَضَبِيَّةٍ مَعَ شِدَّةِ حَسَدٍ وَإِعْجَابٍ، وَقَابَلَتِ الْمَعِينَ عَلَى غِرَّةِ مِنْهُ وَغَفْلَةٍ وَهُوَ أَعْزَلُ مِنْ سِلَاحِهِ فَلَدَغَتْهُ كَالْحَيَّةِ الَّتِي تَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعٍ مَكْشُوفٍ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ فَتَنْهَشُهُ، فَإِمَّا عَطَبٌ وَإِمَّا أَذًى، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ أَذَى الْعَائِنِ عَلَى الرُّؤْيَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ بَلْ إِذَا وُصِفَ لَهُ الشَّيْءُ الْغَائِبُ عَنْهُ وَصَلَ إِلَيْهِ أَذَاهُ وَالذَّنْبُ لِجَهْلِ الْمَعِينِ وَغَفْلَتِهِ وَغِرَّتِهِ عَنْ حَمْلِ سِلَاحِهِ كُلَّ وَقْتٍ، فَالْعَائِنُ لَا يُؤَثِّرُ فِي شَاكِي السِّلَاحِ كَالْحَيَّةِ إِذَا قَابَلَتْ دِرْعًا سَابِغًا عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ لَيْسَ فِيهِ مَوْضِعٌ مَكْشُوفٌ، فَحَقٌّ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَ نَفْسِهِ وَحِمَايَتَهَا أَنْ لَا يَزَالَ مُتَدَرِّعًا مُتَحَصِّنًا لَابِسًا أَدَاةَ الْحَرْبِ مُوَاظِبًا عَلَى أَوْرَادِ التَّعَوُّذَاتِ وَالتَّحْصِينَاتِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ وَالَّتِي فِي السُّنَّةِ. وَإِذَا عُرِفَ الرَّجُلُ بِالْأَذَى بِالْعَيْنِ سَاغَ بَلْ وَجَبَ حَبْسُهُ وَإِفْرَادُهُ عَنِ النَّاسِ وَيُطْعَمُ وَيُسْقَى حَتَّى يَمُوتَ، ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي

ذَلِكَ خِلَافٌ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ، وَلَوْ قِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تُقِيدُونَ مِنْهُ إِذَا قَتَلَ بِعَيْنِهِ. قِيلَ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بَلْ غَلَبَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ تَعَمَّدَ وَقَدَرَ عَلَى رَدِّهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ يَقْتُلُ بِهِ سَاغَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَهُ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ بِهِ، فَيُعِينُهُ إِنْ شَاءَ كَمَا عَانَ هُوَ الْمَقْتُولَ، وَأَمَّا قَتْلُهُ بِالسَّيْفِ قِصَاصًا فَلَا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا وَلَا هُوَ مُمَاثِلٌ لِجِنَايَتِهِ. وَسَأَلْتُ شَيْخَنَا أَبَا الْعَبَّاسِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ عَنِ الْقَتْلِ بِالْحَالِ هَلْ يُوجِبُ الْقِصَاصَ؟ . فَقَالَ: لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَهُ بِالْحَالِ كَمَا قَتَلَ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَتْلِ بِهَذَا وَبَيْنَ الْقَتْلِ بِالسِّحْرِ حَيْثُ تُوجِبُونَ الْقِصَاصَ بِهِ بِالسَّيْفِ؟ . قُلْنَا: الْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السِّحْرَ الَّذِي يُقْتَلُ بِهِ هُوَ السِّحْرُ الَّذِي يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا كَثِيرٌ فِي السِّحْرِ، وَفِيهِ مَقَالَاتُ أَبْوَابٍ مَعْرُوفَةٍ لِلْقَتْلِ عِنْدَ أَرْبَابِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ لِكَوْنِهِ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللَّهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِاللِّوَاطِ وَتَجْرِيعِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِالسَّيْفِ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ مَا هِيَ عَلَى نُفُوسِ الْحَيَوَانَاتِ الْعَادِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا هُوَ تَأْوِيلُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] . وَعَلَى هَذَا الشَّبَهِ اعْتِمَادُ أَهْلِ التَّعْبِيرِ لِلرُّؤْيَا فِي رُؤْيَةِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْمَنَامِ عِنْدِ

الْإِنْسَانِ وَفِي دَارِهِ، أَوْ أَنَّهَا تُحَارِبُهُ، وَهُوَ كَمَا اعْتَمَدُوهُ، وَقَدْ وَقَعَ لَنَا وَلِغَيْرِنَا مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ وَقَائِعُ كَثِيرَةٌ فَكَانَ تَأْوِيلُهَا مُطَابِقًا لِأَقْوَامٍ عَلَى طِبَاعِ تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ، وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ بَقَرًا تُنْحَرُ فَكَانَ مَنْ أُصِيبُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَحْرِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْبَقَرَ أَنْفَعُ الْحَيَوَانَاتِ لِلْأَرْضِ وَبِهَا صَلَاحُهَا وَفَلَاحُهَا مَعَ مَا فِيهَا مِنَ السَّكِينَةِ وَالْمَنَافِعِ وَالذِّلِّ بِكَسْرِ الذَّالِ فَإِنَّهَا ذَلُولٌ مُذَلَّلَةٌ مُنْقَادَةٌ غَيْرُ أَبِيَّةٍ، وَالْجَوَامِيسُ كِبَارُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ، رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَهُ ثَلَاثَ نَقَرَاتٍ فَكَانَ طَعْنَ أَبِي لُؤْلُؤَةَ لَهُ، وَالدِّيكُ رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ شِرِّيرٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَبْعُهُ طَبْعُ خِنْزِيرٍ يَمُرُّ بِالطَّيِّبَاتِ فَلَا يَلْوِي عَلَيْهَا، فَإِذَا قَامَ الْإِنْسَانُ عَنْ رَجِيعِهِ قَمَّهُ، وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَسْمَعُ مِنْكَ وَيَرَى مِنَ الْمَحَاسِنِ أَضْعَافَ أَضْعَافِ الْمَسَاوِئِ فَلَا يَحْفَظُهَا وَلَا يَنْقُلُهَا وَلَا تُنَاسِبُهُ، فَإِذَا رَأَى سَقْطَةً أَوْ كَلِمَةً عَوْرَاءَ وَجَدَ بُغْيَتَهُ وَمَا يُنَاسِبُهَا فَجَعَلَهَا فَاكِهَتَهُ وَنُقْلَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ عَلَى طَبِيعَةِ الطَّاوُسِ لَيْسَ لَهُ إِلَّا التَّطَوُّسُ وَالتَّزَيُّنُ بِالرِّيشِ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ عَلَى طَبِيعَةِ الْجَمَلِ أَحْقَدِ الْحَيَوَانِ، وَأَغْلَظِهِ كَبِدًا. وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ عَلَى طَبِيعَةِ الدُّبِّ أَبْكَمُ خَبِيثٌ وَعَلَى طَبِيعَةِ الْقِرْدِ. وَأَحْمَدُ طَبَائِعِ الْحَيَوَانَاتِ طَبَائِعُ الْخَيْلِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْحَيَوَانَاتِ نُفُوسًا، وَأَكْرَمُهَا طَبْعًا وَكَذَلِكَ الْغَنَمُ، وَكُلُّ مَنْ أَلِفَ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ اكْتَسَبَ مِنْ طَبْعِهِ وَخُلُقِهِ، فَإِنْ تَغَذَّى بِلَحْمِهِ كَانَ الشَّبَهُ أَقْوَى فَإِنَّ الْغَاذِيَ شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذَى. وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَ لُحُومِ السِّبَاعِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ لِمَا تُورِثُ آكِلَهَا مِنْ شِبْهِ نُفُوسِهَا بِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْمَشْهَدِ لَيْسَ لَهُمْ شُهُودٌ سِوَى مِثْلِ نُفُوسِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ لَا يَعْرِفُونَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْبَتَّةَ.

فصل المشهد الثاني من مشاهد الخلق في المعصية مشهد رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة

[فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الثَّانِي مِنْ مَشَاهِدِ الْخَلْقِ فِي الْمَعْصِيَةِ مَشْهَدُ رُسُومِ الطَّبِيعَةِ وَلَوَازِمِ الْخِلْقَةِ] فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الثَّانِي مَشْهَدُ رُسُومِ الطَّبِيعَةِ وَلَوَازِمِ الْخِلْقَةِ: كَمَشْهَدِ زَنَادِقَةِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ الْخِلْقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَنَّ تَرْكِيبَ الْإِنْسَانِ مِنَ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ وَامْتِزَاجِهَا وَاخْتِلَاطِهَا كَمَا يَقْتَضِي بَغْيَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَخُرُوجَهُ عَنِ الِاعْتِدَالِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَخْلَاطِ فَكَذَلِكَ تَرْكِيبُهُ مِنَ الْبَدَنِ وَالنَّفْسِ وَالطَّبِيعَةِ وَالْأَخْلَاطِ الْحَيَوَانِيَّةِ تَتَقَاضَاهُ آثَارُ هَذِهِ الْخِلْقَةِ وَرُسُومُ تِلْكَ الطَّبِيعَةِ، وَلَا تَنْقَهِرُ إِلَّا بِقَاهِرٍ إِمَّا مِنْ نَفْسِهِ وَإِمَّا مِنْ خَارِجٍ عَنْهُ، وَأَكْثَرُ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ لَيْسَ لَهُ قَاهِرٌ مِنْ نَفْسِهِ فَاحْتِيَاجُهُ إِلَى قَاهِرٍ فَوْقَهُ يُدْخِلُهُ تَحْتَ سِيَاسَةٍ وَإِيَالَةٍ يَنْتَظِمُ بِهَا أَمْرُهُ ضَرُورَةً كَحَاجَتِهِ إِلَى مَصَالِحِهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ. وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْعَاقِلَ مَتَى كَانَ لَهُ وَازِعٌ مِنْ نَفْسِهِ قَاهِرٌ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَمْرِ غَيْرِهِ وَنَهْيِهِ وَضَبْطِهِ. فَمَشْهَدُ هَؤُلَاءِ مِنْ حَرَكَاتِ النَّفْسِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْجِنَايَاتِ كَمَشْهَدِهِمْ مِنْ حَرَكَاتِ الطَّبِيعَةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّغَيُّرَاتِ وَلَيْسَ لَهُمْ مَشْهَدٌ وَرَاءَ ذَلِكَ. [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الثَّالِثُ مَشْهَدُ أَصْحَابِ الْجَبْرِ] فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الثَّالِثُ مَشْهَدُ أَصْحَابِ الْجَبْرِ: وَهُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ مَجْبُورُونَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، وَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِغَيْرِ قُدْرَتِهِمْ، بَلْ لَا يَشْهَدُونَ أَنَّهَا أَفْعَالُهُمُ الْبَتَّةَ. يَقُولُونَ: إِنَّ أَحَدَهُمْ غَيْرُ فَاعِلٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا قَادِرٍ، وَأَنَّ الْفَاعِلَ فِيهِ غَيْرُهُ وَالْمُحَرِّكَ لَهُ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ آلَةٌ مَحْضَةٌ، وَحَرَكَاتُهُ بِمَنْزِلَةِ هُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ. وَهَؤُلَاءِ إِذَا أَنْكَرْتَ عَلَيْهِمْ أَفْعَالَهُمُ احْتَجُّوا بِالْقَدَرِ، وَحَمَلُوا ذُنُوبَهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَغْلُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَرَوْا أَفْعَالَهُمْ كُلَّهَا طَاعَاتٍ، خَيْرَهَا وَشَرَّهَا، لِمُوَافَقَتِهَا لِلْمَشِيئَةِ وَالْقَدَرِ. وَيَقُولُونَ: كَمَا أَنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ طَاعَةٌ، فَمُوَافَقَةُ الْمَشِيئَةِ طَاعَةٌ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِخْوَانِهِمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَفْعَالِهِمْ دَلِيلًا عَلَى أَمْرِهِ بِهَا وَرِضَاهُ، وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ، وَأَشَدُّ مِنْهُمْ عَدَاوَةً لِلَّهِ، وَمُنَاقَضَةً لِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَدِينِهِ، حَتَّى إِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَعْتَذِرُ عَنْ إِبْلِيسَ وَيَتَوَجَّعُ لَهُ وَيُقِيمُ عُذْرَهُ بِجُهْدِهِ، وَيَنْسِبُ رَبَّهُ تَعَالَى

فصل المشهد الرابع مشهد القدرية النفاة

إِلَى ظُلْمِهِ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْمَقَالِ، وَيَقُولُ: مَا ذَنْبُهُ وَقَدْ صَانَ وَجْهَهُ عَنِ السُّجُودِ لِغَيْرِ خَالِقِهِ؟ وَقَدْ وَافَقَ حُكْمَهُ وَمَشِيئَتَهُ فِيهِ وَإِرَادَتَهُ مِنْهُ؟ ثُمَّ كَيْفَ يُمْكِنُهُ السُّجُودُ وَهُوَ الَّذِي مَنَعَهُ مِنْهُ وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ؟ وَهَلْ كَانَ فِي تَرْكِ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ إِلَّا مُحْسِنًا؟ وَلَكِنْ: إِذَا كَانَ الْمُحِبُّ قَلِيلَ حَظٍّ ... فَمَا حَسَنَاتُهُ إِلَّا ذُنُوبُ وَهَؤُلَاءِ أَعْدَاءُ اللَّهِ حَقًّا، وَأَوْلِيَاءُ إِبْلِيسَ وَأَحِبَّاؤُهُ وَإِخْوَانُهُ، وَإِذَا نَاحَ مِنْهُمْ نَائِحٌ عَلَى إِبْلِيسَ، رَأَيْتَ مِنَ الْبُكَاءِ وَالْحَنِينِ أَمْرًا عَجَبًا، وَرَأَيْتَ مِنْ ظُلْمِهِمُ الْأَقْدَارَ وَاتِّهَامِهِمُ الْجَبَّارِ مَا يَبْدُو عَلَى فَلَتَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَصَفَحَاتِ وُجُوهِهِمْ، وَتَسْمَعُ مِنْ أَحَدِهِمْ مِنَ التَّظَلُّمِ وَالتَّوَجُّعِ مَا تَسْمَعُهُ مِنَ الْخَصْمِ الْمَغْلُوبِ الْعَاجِزِ عَنْ خَصْمِهِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي تَائِيَّتِهِ: وَيُدْعَى خُصُومُ اللَّهِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ ... إِلَى النَّارِ طُرًّا فِرْقَةُ الْقَدَرِيَّةِ [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الرَّابِعُ مَشْهَدُ الْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ] فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الرَّابِعُ مَشْهَدُ الْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ: يَشْهَدُونَ أَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ وَالذُّنُوبَ هُمُ الَّذِينَ أَحْدَثُوهَا، وَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِمَشِيئَتِهِمْ دُونَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكْتُبْهُ، وَلَا شَاءَ، وَلَا خَلَقَ أَفْعَالَهُمْ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَهْدِيَ أَحَدًا وَلَا يُضِلَّهُ إِلَّا بِمُجَرَّدِ الْبَيَانِ، لَا أَنَّهُ يُلْهِمُهُ الْهُدَى وَالضَّلَالَ، وَالْفُجُورَ وَالتَّقْوَى، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ. وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي مُلْكِ اللَّهِ مَا لَا يَشَاؤُهُ، وَأَنَّهُ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ، وَأَنَّ الْعِبَادَ خَالِقُونَ لِأَفْعَالِهِمْ بِدُونِ مَشِيئَةِ اللَّهِ. فَالْمَعَاصِي وَالذُّنُوبُ خَلْقُهُمْ، وَمُوجَبُ مَشِيئَتِهِمْ، لَا أَنَّهَا خَلْقُ اللَّهِ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ، وَهُمْ لِذَلِكَ مَبْخُوسُوا الْحَظِّ جِدًّا مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِاعْتِصَامِ بِهِ، وَسُؤَالِهِ أَنْ يَهْدِيَهُمْ وَأَنْ يُثَبِّتَ قُلُوبَهُمْ، وَأَنْ لَا يُزِيغَهَا، وَأَنْ يُوَفِّقَهُمْ لِمَرْضَاتِهِ، وَيُجَنِّبَهُمْ مَعْصِيَتَهُ، إِذْ هَذَا كُلُّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ وَعَيْنُ أَفْعَالِهِمْ، لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَشِيئَةِ الرَّبِّ شَيْءٌ مِنْهَا. وَالشَّيْطَانُ قَدْ رَضِيَ مِنْهُمْ بِهَذَا الْقَدْرِ، فَلَا يَؤُزُّهُمْ إِلَى الْمَعَاصِي ذَلِكَ الْأَزَّ، وَلَا يُزْعِجُهُمْ إِلَيْهَا ذَلِكَ الْإِزْعَاجَ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضَانِ مُهِمَّانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقِرَّ فِي قُلُوبِهِمْ صِحَّةَ هَذَا الْمَشْهَدِ وَهَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَأَنَّكُمْ تَارِكُونَ الذُّنُوبَ وَالْكَبَائِرَ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا أَهْلُ السُّنَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ مُفَوَّضٌ إِلَيْكُمْ، وَاقِعٌ بِكُمْ، وَأَنَّكُمُ الْعَاصِمُونَ لِأَنْفُسِكُمْ، الْمَانِعُونَ لَهَا مِنَ الْمَعْصِيَةِ.

فصل المشهد الخامس وهو أحد مشاهد أهل الاستقامة مشهد الحكمة

الْغَرَضُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصْطَادُ عَلَى أَيْدِيهِمُ الْجُهَّالَ، فَإِذَا رَأَوْهُمْ أَهْلَ عِبَادَةٍ وَزَهَادَةٍ وَتَوَرُّعٍ عَنِ الْمَعَاصِي وَتَعْظِيمٍ لَهَا، قَالُوا: هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْحَقِّ وَالْبِدْعَةُ آثَرُ عِنْدَهُ وَأَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فَإِذَا ظَفِرَ بِهَا مِنْهُمْ، وَاصْطَادَ الْجُهَّالَ عَلَى أَيْدِيهِمْ، كَيْفَ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ؟ بَلْ يَنْهَاهُمْ عَنْهَا وَيُقَبِّحُهَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، وَلَا يَكْشِفُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ إِلَّا أَرْبَابُ الْبَصَائِرِ. [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الْخَامِسُ وَهُوَ أَحَدُ مَشَاهِدِ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مَشْهَدُ الْحِكْمَةِ] فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الْخَامِسُ وَهُوَ أَحَدُ مَشَاهِدِ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ: مَشْهَدُ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ مَشْهَدُ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي تَقْدِيرِهِ عَلَى عَبْدِهِ مَا يُبْغِضُهُ سُبْحَانَهُ وَيَكْرَهُهُ، وَيَلُومُ وَيُعَاقِبُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَعَصَمَهُ مِنْهُ، وَلَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعْصَى قَسْرًا، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] . وَهَؤُلَاءِ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا عَبَثًا وَلَا سُدًى، وَأَنَّهُ لَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي كُلِّ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَحِكْمَةٍ بَاهِرَةٍ تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِكُنْهِهَا، وَتَكِلُّ الْأَلْسُنُ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهَا. فَمَصْدَرُ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ لِمَا يُبْغِضُهُ وَيُسْخِطُهُ اسْمُهُ الْحَكِيمُ الَّذِي بَهَرَتْ حِكْمَتُهُ الْأَلْبَابَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ لَمَّا قَالُوا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] فَأَجَابَهُمْ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] فَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي ظُهُورِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ وَالْجَرَائِمِ وَتَرَتُّبِ آثَارِهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْحِكَمِ، وَأَنْوَاعِ التَّعَرُّفَاتِ إِلَى خَلْقِهِ، وَتَنْوِيعِ آيَاتِهِ، وَدَلَائِلِ رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَإِلَهِيَّتِهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَعِزَّتِهِ، وَتَمَامِ مُلْكِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ مَا يَشْهَدُهُ أُولُو الْبَصَائِرِ عِيَانًا بِبَصَائِرِ قُلُوبِهِمْ، فَيَقُولُونَ {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران: 191] إِنْ هِيَ إِلَّا حِكْمَتُكَ الْبَاهِرَةُ، وَآيَاتُكَ الظَّاهِرَةُ. وَلِلَّهِ فِي كُلِّ تَحْرِيكَةٍ ... وَتَسْكِينَةٍ أَبَدًا شَاهِدُ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ فَكَمْ مِنْ آيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بَيِّنَةٍ، دَالَّةٍ عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ، وَعَلَى أَنَّ لِقَاءَهُ

حَقٌّ، كَانَ سَبَبُهَا مَعَاصِيَ بَنِي آدَمَ وَذُنُوبَهُمْ، كَآيَتِهِ فِي إِغْرَاقِ قَوْمِ نُوحٍ، وَعُلُوِّ الْمَاءِ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ حَتَّى أَغْرَقَ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَنَجَّى أَوْلِيَاءَهُ، وَأَهْلَ مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَكَمْ فِي ذَلِكَ مِنْ آيَةٍ وَعِبْرَةٍ، وَدَلَالَةٍ بَاقِيَةٍ عَلَى مَرِّ الدُّهُورِ؟ ! وَكَذَلِكَ إِهْلَاكُ قَوْمِ عَادٍ وَثَمُودَ. وَكَمْ لَهُ مِنْ آيَةٍ فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنْ حِينِ بَعَثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهِمْ بَلْ قَبْلَ مَبْعَثِهِ إِلَى حَيْثُ إِغْرَاقُهُمْ، لَوْلَا مَعَاصِيهِمْ وَكُفْرُهُمْ لَمْ تَظْهَرْ تِلْكَ الْآيَاتُ وَالْعَجَائِبُ، وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ فَإِنِّي سَأُقَسِّي قَلْبَهُ، وَأَمْنَعُهُ عَنِ الْإِيمَانِ لِأُظْهِرَ آيَاتِي وَعَجَائِبِي بِمِصْرَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ سُبْحَانَهُ فَأَظْهَرَ مِنْ آيَاتِهِ وَعَجَائِبِهِ بِسَبَبِ ذُنُوبِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مَا أَظْهَرَ. وَكَذَلِكَ إِظْهَارُهُ سُبْحَانَهُ مَا أَظْهَرَ مِنْ جَعْلِ النَّارِ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِسَبَبِ ذُنُوبِ قَوْمِهِ وَمَعَاصِيهِمْ، وَإِلْقَائِهِمْ لَهُ فِي النَّارِ، حَتَّى صَارَتْ تِلْكَ آيَةً، وَحَتَّى نَالَ إِبْرَاهِيمُ بِهَا مَا نَالَ مِنْ كَمَالِ الْخُلَّةِ. وَكَذَلِكَ مَا حَصَلَ لِلرُّسُلِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالزُّلْفَى عِنْدَ اللَّهِ وَالْوَجَاهَةِ عِنْدَهُ، بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ، وَعَلَى مُحَارَبَتِهِمْ لَهُمْ وَمُعَادَاتِهِمْ. وَكَذَلِكَ اتِّخَاذُ اللَّهِ تَعَالَى الشُّهَدَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ وَالْأَصْفِيَاءَ مِنْ بَنِي آدَمَ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى أَذَى بَنِي آدَمَ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالظُّلْمِ، وَمُجَاهَدَتِهِمْ فِي اللَّهِ، وَتَحَمُّلِهِمْ لِأَجْلِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ مَا هُوَ بِعَيْنِهِ وَعِلْمِهِ، وَاسْتِحْقَاقُهُمْ بِذَلِكَ رِفْعَةُ الدَّرَجَاتِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْحِكَمِ الَّتِي وُجِدَتْ بِسَبَبِ ظُهُورِ الْمَعَاصِي وَالْجَرَائِمِ، وَكَانَ مِنْ سَبَبِهَا تَقْدِيرُ مَا يَبْغَضُهُ اللَّهُ وَيَسْخَطُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مَحْضَ الْحِكْمَةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ وَآثَرُ عِنْدَهُ مِنْ فَوْتِهِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْمَعْصِيَةِ. فَحُصُولُ هَذَا الْمَحْبُوبِ الْعَظِيمِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ فَوَاتِ ذَلِكَ الْمَبْغُوضِ الْمَسْخُوطِ، فَإِنَّ فَوَاتَهُ وَعَدَمَهُ وَإِنْ كَانَ مَحْبُوبًا لَهُ لَكِنَّ حُصُولَ هَذَا الْمَحْبُوبِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَحْصُلُ بِدُونِ وُجُودِ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ الْمَسْخُوطِ، وَكَمَالُ حِكْمَتِهِ تَقْتَضِي حُصُولَ أَحَبِّ الْأَمْرَيْنِ إِلَيْهِ بِفَوَاتِ أَدْنَى الْمَحْبُوبِينِ، وَأَنْ لَا يُعَطَّلَ هَذَا الْأَحَبُّ بِتَعْطِيلِ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ، وَفَرْضُ الذِّهْنِ وُجُودَ هَذَا بِدُونِ هَذَا، كَفَرْضِهِ وُجُودَ الْمُسَبَّبَاتِ بِدُونِ أَسْبَابِهَا، وَالْمَلْزُومَاتِ بِدُونِ لَوَازِمِهَا مِمَّا تَمْنَعُهُ حِكْمَةُ اللَّهِ، وَكَمَالُ قُدْرَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ. وَيَكْفِي مِنْ هَذَا مِثَالٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْلَا الْمَعْصِيَةُ مِنْ أَبِي الْبَشَرِ بِأَكْلِهِ مِنَ

الشَّجَرَةِ لَمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَا تَرَتَّبَ مِنْ وُجُودِ هَذِهِ الْمَحْبُوبَاتِ الْعِظَامِ لِلرَّبِّ تَعَالَى، مِنَ امْتِحَانِ خَلْقِهِ وَتَكْلِيفِهِمْ، وَإِرْسَالِ رُسُلِهِ، وَإِنْزَالِ كُتُبِهِ، وَإِظْهَارِ آيَاتِهِ وَعَجَائِبِهِ وَتَنْوِيعِهَا وَتَصْرِيفِهَا، وَإِكْرَامِ أَوْلِيَائِهِ، وَإِهَانَةِ أَعْدَائِهِ، وَظُهُورِ عَدْلِهِ وَفَضْلِهِ، وَعِزَّتِهِ وَانْتِقَامِهِ، وَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَصَفْحِهِ وَحِلْمِهِ، وَظُهُورِ مَنْ يَعْبُدُهُ وَيُحِبُّهُ وَيَقُومُ بِمَرَاضِيهِ بَيْنَ أَعْدَائِهِ فِي دَارِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ. فَلَوْ قَدَّرَ أَنَّ آدَمَ لَمْ يَأْكُلْ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَلَمْ يُخْرَجْ مِنَ الْجَنَّةِ هُوَ وَأَوْلَادُهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ، وَلَا ظَهَرَ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ مَا كَانَ كَامِنًا فِي قَلْبِ إِبْلِيسَ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَلَا تَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ خَبِيثُ الْخَلْقِ مِنْ طَيِّبِهِمْ، وَلَمْ تَتِمَّ الْمَمْلَكَةُ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِكْرَامٌ وَثَوَابٌ، وَعُقُوبَةٌ وَإِهَانَةٌ، وَدَارُ سَعَادَةٍ وَفَضْلٍ، وَدَارُ شَقَاوَةٍ وَعَدْلٍ. وَكَمْ فِي تَسْلِيطِ أَوْلِيَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَتَسْلِيطِ أَعْدَائِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَابْتِلَاءِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ مِنْ حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَنِعْمَةٍ سَابِغَةٍ! . وَكَمْ فِيهَا مِنْ حُصُولِ مَحْبُوبٍ لِلرَّبِّ، وَحَمْدٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَخُضُوعٍ لَهُ وَتَذَلُّلٍ، وَتَعَبُّدٍ وَخَشْيَةٍ وَافْتِقَارٍ إِلَيْهِ، وَانْكِسَارٍ بَيْنَ يَدَيْهِ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِ، إِذْ هُمْ يُشَاهِدُونَهُمْ وَيُشَاهِدُونَ خِذْلَانَ اللَّهِ لَهُمْ، وَإِعْرَاضَهُ عَنْهُمْ، وَمَقْتَهُ لَهُمْ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَتَصَرُّفِهِ فِي مَمْلَكَتِهِ، فَأَوْلِيَاؤُهُ مِنْ خَشْيَةِ خِذْلَانِهِ خَاضِعُونَ مُشْفِقُونَ، عَلَى أَشَدِّ وَجَلِّ، وَأَعْظَمِ مَخَافَةٍ، وَأَتَمِّ انْكِسَارٍ. فَإِذَا رَأَتِ الْمَلَائِكَةُ إِبْلِيسَ وَمَا جَرَى لَهُ، وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ وَضَعَتْ رُءُوسَهَا بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ خُضُوعًا لِعَظَمَتِهِ، وَاسْتِكَانَةً لِعِزَّتِهِ، وَخَشْيَةً مِنْ إِبْعَادِهِ وَطَرْدِهِ، وَتَذَلُّلًّا لِهَيْبَتِهِ، وَافْتِقَارًا إِلَى عِصْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَعَلِمَتْ بِذَلِكَ مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ، وَتَخْصِيصَهُ لَهُمْ بِفَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ. وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُتَّقُونَ، إِذَا شَاهَدُوا أَحْوَالَ أَعْدَائِهِ وَمَقْتَهُ لَهُمْ، وَغَضَبَهُ عَلَيْهِمْ، وَخِذْلَانَهُ لَهُمْ، ازْدَادُوا خُضُوعًا وَذُلًّا، وَافْتِقَارًا وَانْكِسَارًا، وَبِهِ اسْتِعَانَةً وَإِلَيْهِ إِنَابَةً، وَعَلَيْهِ تَوَكُّلًا، وَفِيهِ رَغْبَةً، وَمِنْهُ رَهْبَةً، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُعِيذُهُمْ مِنْ بَأْسِهِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يُنْجِيهِمْ مِنْ سَخَطِهِمْ إِلَّا مَرْضَاتُهُ، فَالْفَضْلُ بِيَدِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا.

فصل المشهد السادس مشهد التوحيد

وَهَذِهِ قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرِ حِكْمَتِهِ الْمُحِيطَةِ بِخَلْقِهِ، وَالْبَصِيرُ يُطَالِعُ بِبَصِيرَتِهِ مَا وَرَاءَهُ، فَيُطْلِعُهُ عَلَى عَجَائِبَ مِنْ حِكْمَتِهِ، لَا تَبْلُغُهَا الْعِبَارَةُ، وَلَا تَنَالُهَا الصِّفَةُ. وَأَمَّا حَظُّ الْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ، وَمَا يَخُصُّهُ مِنْ شُهُودِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ فَبِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ وَقُوَّةِ بَصِيرَتِهِ، وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِحُقُوقِ الْعُبُودِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شِرْبٌ مَعْلُومٌ، وَمَقَامٌ لَا يَتَعَدَّاهُ وَلَا يَتَخَطَّاهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ. [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ السَّادِسُ مَشْهَدُ التَّوْحِيدِ] وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ انْفِرَادَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالْحُكْمِ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ لَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَأَنَّ الْخَلْقَ مَقْهُورُونَ تَحْتَ قَبْضَتِهِ، وَأَنَّهُ مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ إِصْبِعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ، فَالْقُلُوبُ بِيَدِهِ، وَهُوَ مُقَلِّبُهَا وَمُصَرِّفُهَا كَيْفَ شَاءَ وَكَيْفَ أَرَادَ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي آتَى نُفُوسَ الْمُؤْمِنِينَ تَقْوَاهَا، وَهُوَ الَّذِي هَدَاهَا وَزَكَّاهَا، وَأَلْهَمَ نُفُوسَ الْفُجَّارِ فُجُورَهَا وَأَشْقَاهَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، هَذَا فَضْلُهُ وَعَطَاؤُهُ، وَمَا فَضْلُ الْكَرِيمِ بِمَمْنُونٍ، وَهَذَا عَدْلُهُ وَقَضَاؤُهُ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ كَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَكْذِيبُهُ تَوْحِيدَهُ، وَمَنْ آمَنَ بِالْقَدَرِ صَدَّقَ إِيمَانُهُ تَوْحِيدَهُ. وَفِي هَذَا الْمَشْهَدِ يَتَحَقَّقُ لِلْعَبْدِ مَقَامُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] عِلْمًا وَحَالًا، فَيَثْبُتُ قَدَمُ الْعَبْدِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ يَرْقَى مِنْهُ صَاعِدًا إِلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَيَقَّنَ أَنَّ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ، وَالْعَطَاءَ وَالْمَنْعَ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالَ، وَالسَّعَادَةَ وَالشَّقَاءَ كُلُّ ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ الَّذِي يُقَلِّبُ الْقُلُوبَ، وَيُصَرِّفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَأَنَّهُ لَا مُوَفَّقَ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ وَأَعَانَهُ، وَلَا مَخْذُولَ إِلَّا مَنْ خَذَلَهُ وَأَهَانَهُ وَتَخَلَّى عَنْهُ، وَأَنَّ أَصَحَّ الْقُلُوبِ وَأَسْلَمَهَا وَأَقْوَمَهَا،

وَأَرَقَّهَا وَأَصْفَاهَا، وَأَشَدَّهَا وَأَلْيَنَهَا مَنِ اتَّخَذَهُ وَحْدَهُ إِلَهًا وَمَعْبُودًا، فَكَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَخْوَفَ عِنْدَهُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَرْجَى لَهُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَتَتَقَدَّمُ مَحَبَّتُهُ فِي قَلْبِهِ جَمِيعَ الْمَحَابِّ، فَتَنْسَاقُ الْمَحَابُّ تَبَعًا لَهَا كَمَا يَنْسَاقُ الْجَيْشُ تَبَعًا لِلسُّلْطَانِ، وَيَتَقَدَّمُ خَوْفُهُ فِي قَلْبِهِ جَمِيعَ الْمُخَوِّفَاتِ، فَتَنْسَاقُ الْمَخَاوِفُ كُلُّهَا تَبَعًا لِخَوْفِهِ، وَيَتَقَدَّمُ رَجَاؤُهُ فِي قَلْبِهِ جَمِيعَ الرَّجَاءِ، فَيَنْسَاقُ كُلُّ رَجَاءٍ تَبَعًا لِرَجَائِهِ. فَهَذَا عَلَامَةُ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ فِي هَذَا الْقَلْبِ، وَالْبَابُ الَّذِي دَخَلَ إِلَيْهِ مِنْهُ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، أَيْ بَابُ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ. فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَتَعَلَّقُ الْقَلْبُ يَتَعَلَّقُ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ يَرْتَقِي إِلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، كَمَا يَدْعُو اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ إِلَى النَّوْعِ الْآخَرِ، وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَيُقَرِّرُهُمْ بِهِ، ثُمَّ يُخْبِرُ أَنَّهُمْ يَنْقُضُونَهُ بِشِرْكِهِمْ بِهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَفِي هَذَا الْمَشْهَدِ يَتَحَقَّقُ لَهُ مَقَامُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87] أَيْ فَأَيْنَ يُصْرَفُونَ عَنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَعَنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَهُمْ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84 - 85] فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ هُوَ وَحْدَهُ مَالِكَ الْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا، وَخَالِقَهُمْ وَرَبَّهُمْ وَمَلِيكَهُمْ، فَهُوَ وَحْدَهُ إِلَهُهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ، فَكَمَا لَا رَبَّ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَهَكَذَا لَا إِلَهَ لَهُمْ سِوَاهُ {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ - قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 86 - 88] الْآيَاتِ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ - أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 59 - 60] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ لَهُمْ هَذَا وَحْدَهُ فَهُوَ الْإِلَهُ لَهُمْ وَحْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ رَبٌّ فَعَلَ هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رَبٌّ فَعَلَ هَذَا فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ؟

فصل المشهد السابع مشهد التوفيق والخذلان

وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ فَعَلَ هَذَا؟ حَتَّى يَتِمَّ الدَّلِيلُ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَوَابِ بِلَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَهٌ فَعَلَ كَفِعْلِهِ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ آلِهَةً أُخْرَى سِوَاهُ؟ فَعُلِمَ أَنَّ إِلَهِيَّةَ مَا سِوَاهُ بَاطِلَةٌ، كَمَا أَنَّ رُبُوبِيَّةَ مَا سِوَاهُ بَاطِلَةٌ بِإِقْرَارِهِمْ وَشَهَادَتِكُمْ. وَمَنْ قَالَ: الْمَعْنَى هَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهٌ آخَرُ؟ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى " فَعَلَ هَذَا " فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: مَعَ اللَّهِ آلِهَةٌ أُخْرَى، وَلَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ، وَلَا يَحْصُلُ إِفْحَامُهُمْ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِهَذَا التَّقْدِيرِ أَيْ فَإِذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ: إِنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُوَ عَاجِزٌ؟ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16] وَقَوْلِهِ: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11] وَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل: 17] وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20] وَقَوْلِهِ: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَبِهِ تَتِمُّ الْحُجَّةُ كَمَا تَبَيَّنَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعَبْدَ يَحْصُلُ لَهُ هَذَا فِي الْمَشْهَدِ مِنْ مُطَالَعَةِ الْجِنَايَاتِ وَالذُّنُوبِ، وَجَرَيَانِهَا عَلَيْهِ وَعَلَى الْخَلِيقَةِ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، وَأَنَّهُ لَا عَاصِمَ مِنْ غَضَبِهِ وَأَسْبَابِ سَخَطِهِ إِلَّا هُوَ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى طَاعَتِهِ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ، وَلَا وُصُولَ إِلَى مَرْضَاتِهِ إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ، فَمَوَارِدُ الْأُمُورِ كُلُّهَا مِنْهُ، وَمَصَادِرُهَا إِلَيْهِ، وَأَزِمَّةُ التَّوْفِيقِ جَمِيعُهَا بِيَدَيْهِ فَلَا مُسْتَعَانَ لِلْعِبَادِ إِلَّا بِهِ، وَلَا مُتَّكَلَ إِلَّا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ شُعَيْبٌ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] . [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ السَّابِعُ مَشْهَدُ التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ] وَهُوَ مِنْ تَمَامِ هَذَا الْمَشْهَدِ وَفُرُوعِهِ، وَلَكِنْ أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ إِلَى شُهُودِهِ

وَانْتِفَاعِهِ بِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ أَنَّ التَّوْفِيقَ هُوَ أَنْ لَا يَكِلَكَ اللَّهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَأَنَّ الْخِذْلَانَ هُوَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ، فَالْعَبِيدُ مُتَقَلِّبُونَ بَيْنَ تَوْفِيقِهِ وَخِذْلَانِهِ، بَلِ الْعَبْدُ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ يَنَالُ نَصِيبَهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا، فَيُطِيعُهُ وَيُرْضِيهِ، وَيَذْكُرُهُ وَيَشْكُرُهُ بِتَوْفِيقِهِ لَهُ ثُمَّ يَعْصِيهِ وَيُخَالِفُهُ وَيُسْخِطُهُ وَيَغْفُلُ عَنْهُ بِخِذْلَانِهِ لَهُ، فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ تَوْفِيقِهِ وَخِذْلَانِهِ، فَإِنْ وَفَّقَهُ فَبِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِنْ خَذَلَهُ فَبِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى هَذَا وَهَذَا، لَهُ أَتَمُّ حَمْدٍ وَأَكْمَلُهُ، وَلَمْ يَمْنَعِ الْعَبْدَ شَيْئًا هُوَ لَهُ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ مَا هُوَ مُجَرَّدُ فَضْلِهِ وَعَطَائِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَضَعُهُ وَأَيْنَ يَجْعَلُهُ؟ فَمَتَى شَهِدَ الْعَبْدُ هَذَا الْمَشْهَدَ وَأَعْطَاهُ حَقَّهُ، عَلِمَ شِدَّةَ ضَرُورَتِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى التَّوْفِيقِ فِي كُلِّ نَفَسٍ وَكُلِّ لَحْظَةٍ وَطَرْفَةِ عَيْنٍ، وَأَنَّ إِيمَانَهُ وَتَوْحِيدَهُ بِيَدِهِ تَعَالَى، لَوْ تَخَلَّى عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَثُلَّ عَرْشُ تَوْحِيدِهِ، وَلَخَرَّتْ سَمَاءُ إِيمَانِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَنَّ الْمُمْسِكَ لَهُ هُوَ مَنْ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَهِجِّيرَى قَلْبِهِ وَدَأْبُ لِسَانِهِ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قَلْبِي إِلَى طَاعَتِكَ، وَدَعْوَاهُ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ. فَفِي هَذَا الْمَشْهَدِ يَشْهَدُ تَوْفِيقَ اللَّهِ وَخِذْلَانَهُ، كَمَا يَشْهَدُ رُبُوبِيَّتَهُ وَخَلْقَهُ، فَيَسْأَلُهُ تَوْفِيقَهُ مَسْأَلَةَ الْمُضْطَرِّ، وَيَعُوذُ بِهِ مِنْ خِذْلَانِهِ عِيَاذَ الْمَلْهُوفِ، وَيُلْقِي نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، طَرِيحًا بِبَابِهِ مُسْتَسْلِمًا لَهُ، نَاكِسَ الرَّأْسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، خَاضِعًا ذَلِيلًا مُسْتَكِينًا، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَنُشُورًا. وَالتَّوْفِيقُ إِرَادَةُ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِعَبْدِهِ مَا يُصْلِحُ بِهِ الْعَبْدَ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ مَا يُرْضِيهِ، مُرِيدًا لَهُ، مُحِبًّا لَهُ، مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُبَغِّضَ إِلَيْهِ مَا يُسْخِطُهُ، وَيُكَرِّهَهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا مُجَرَّدُ فِعْلِهِ، وَالْعَبْدُ مَحَلٌّ لَهُ، قَالَ تَعَالَى {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ - فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8] فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْفَضْلِ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ لَهُ، حَكِيمٌ يَضَعُهُ فِي مَوَاضِعِهِ وَعِنْدَ أَهْلِهِ، لَا يَمْنَعُهُ أَهْلَهُ، وَلَا

يَضَعُهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَذَكَرَ هَذَا عَقِيبَ قَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] ثُمَّ جَاءَ بِهِ بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ فَقَالَ {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} [الحجرات: 7] . يَقُولُ سُبْحَانَهُ لَمْ تَكُنْ مَحَبَّتُكُمْ لِلْإِيمَانِ وَإِرَادَتُكُمْ لَهُ، وَتَزْيِينُهُ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ فِي قُلُوبِكُمْ كَذَلِكَ، فَآثَرْتُمُوهُ وَرَضِيتُمُوهُ، فَلِذَلِكَ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِي، وَلَا تَقُولُوا حَتَّى يَقُولَ، وَلَا تَفْعَلُوا حَتَّى يَأْمُرَ، فَالَّذِي حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ مِنْكُمْ، وَأَنْتُمْ فَلَوْلَا تَوْفِيقُهُ لَكُمْ لَمَا أَذْعَنَتْ نُفُوسُكُمْ لِلْإِيمَانِ، فَلَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ بِمَشُورَتِكُمْ وَتَوْفِيقِ أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَقَدَّمْتُمْ بِهِ إِلَيْهَا، فَنُفُوسُكُمْ تَقْصُرُ وَتَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا تَبْلُغُهُ، فَلَوْ أَطَاعَكُمْ رَسُولِي فِي كَثِيرٍ مِمَّا تُرِيدُونَ لَشَقَّ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ وَلَهَلَكْتُمْ وَفَسَدَتْ مَصَالِحُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، وَلَا تَظُنُّوا أَنَّ نُفُوسَكُمْ تُرِيدُ لَكُمُ الرُّشْدَ وَالصَّلَاحَ كَمَا أَرَدْتُمُ الْإِيمَانَ، فَلَوْلَا أَنِّي حَبَّبْتُهُ إِلَيْكُمْ وَزَيَّنْتُهُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَكَرَّهْتُ إِلَيْكُمْ ضِدَّهُ لَمَا وَقَعَ مِنْكُمْ، وَلَا سَمَحَتْ بِهِ أَنْفُسُكُمْ. وَقَدْ ضُرِبَ لِلتَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ مَثَلٌ: مَلِكٌ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِهِ رَسُولًا، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَيْهِمْ كِتَابًا يُعْلِمُهُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُهُمْ عَنْ قَرِيبٍ وَمُجْتَاحُهُمْ، وَمُخَرِّبٌ الْبَلَدَ، وَمُهْلِكٌ مَنْ فِيهَا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَمْوَالًا وَمَرَاكِبَ وَزَادًا وَعُدَّةً وَأَدِلَّةً، وَقَالَ: ارْتَحِلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ الْأَدِلَّةِ، وَقَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ جَمِيعَ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ: اذْهَبُوا إِلَى فُلَانٍ، فَخُذُوا بِيَدِهِ وَاحْمِلُوهُ وَلَا تَذَرُوهُ يَقْعُدُ، وَاذْهَبُوا إِلَى فُلَانٍ كَذَلِكَ وَإِلَى فُلَانٍ، وَذَرُوا مَنْ عَدَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يَصْلُحُونَ أَنْ يُسَاكِنُونِي فِي بَلَدِي، فَذَهَبَ خَوَاصُّ مَمَالِيكِهِ إِلَى مَنْ أُمِرُوا بِحَمْلِهِمْ، فَلَمْ يَتْرُكُوهُمْ يَقَرُّونَ، بَلْ حَمَلُوهُمْ حَمْلًا، وَسَاقُوهُمْ سَوْقًا إِلَى الْمَلِكِ، فَاجْتَاحَ الْعَدُوُّ مَنْ بَقِيَ فِي الْمَدِينَةِ وَقَتَلَهُمْ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ. فَهَلْ يُعَدُّ الْمَلِكُ ظَالِمًا لِهَؤُلَاءِ، أَمْ عَادِلًا فِيهِمْ؟ نَعَمْ خَصَّ أُولَئِكَ بِإِحْسَانِهِ وَعِنَايَتِهِ وَحَرَمَهَا مَنْ عَدَاهُمْ، إِذْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فِي فَضْلِهِ وَإِكْرَامِهِ، بَلْ ذَلِكَ فَضْلُهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَقَدْ فَسَّرَتِ الْقَدَرِيَّةُ الْجَبْرِيَّةُ التَّوْفِيقَ بِأَنَّهُ خَلْقُ الطَّاعَةِ، وَالْخِذْلَانَ بِأَنَّهُ خَلْقُ الْمَعْصِيَةِ. وَلَكِنْ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أُصُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ مِنْ إِنْكَارِ الْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ، وَرَدُّوا الْأَمْرَ إِلَى

مَحْضِ الْمَشِيئَةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَلَا حِكْمَةٍ. وَقَابَلَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ، فَفَسَّرُوا التَّوْفِيقَ بِالْبَيَانِ الْعَامِّ، وَالْهُدَى الْعَامِّ، وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا، وَتَهْيِئَةِ أَسْبَابِهَا، وَهَذَا حَاصِلٌ لِكُلِّ كَافِرٍ وَمُشْرِكٍ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ، وَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِيمَانِ. فَالتَّوْفِيقُ عِنْدَهُمْ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ، إِذِ الْإِقْدَارُ وَالتَّمْكِينُ وَالدَّلَالَةُ وَالْبَيَانُ قَدْ عَمَّ بِهِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَمْ يُفْرِدِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَهُمْ بِتَوْفِيقٍ وَقَعَ بِهِ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ، وَالْكَفَّارَ بِخِذْلَانٍ امْتَنَعَ بِهِ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ عِنْدَهُمْ مُحَابَاةً وَظُلْمًا. وَالْتَزَمُوا لِهَذَا الْأَصْلِ لَوَازِمَ، قَامَتْ بِهَا عَلَيْهِمْ سُوقُ الشَّنَاعَةِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، وَلَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنَ الْتِزَامِهَا، فَظَهَرَ فَسَادُ مَذْهَبِهِمْ، وَتَنَاقُضُ قَوْلِهِمْ، لِمَنْ أَحَاطَ بِهِ عِلْمًا، وَتَصَوَّرَهُ حَقَّ تَصَوُّرِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَبْطَلِ مَذْهَبٍ فِي الْعَالَمِ وَأَرْدَئِهِ. وَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَلَمْ يَرْضَوْا بِطَرِيقِ هَؤُلَاءِ، وَلَا بِطَرِيقِ هَؤُلَاءِ، وَشَهِدُوا انْحِرَافَ الطَّرِيقَيْنِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَأَثْبَتُوا الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ، وَعُمُومَ مَشِيئَةِ اللَّهِ لِلْكَائِنَاتِ، وَأَثْبَتُوا الْأَسْبَابَ وَالْحِكَمَ، وَالْغَايَاتِ وَالْمَصَالِحَ، وَنَزَّهُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ، أَوْ أَنْ يَقْدِرَ خَلْقُهُ عَلَى مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَلَا مَشِيئَتِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَاقِعًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَبِدُونِ مَشِيئَتِهِ، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَلَمْ يَعْرِفْ رَبَّهُ، وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُ كَمَالَ الرُّبُوبِيَّةِ.

فصل المشهد الثامن مشهد الأسماء والصفات

وَنَزَّهُوهُ مَعَ ذَلِكَ عَنِ الْعَبَثِ وَفِعْلِ الْقَبِيحِ، وَأَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا سُدًى، وَأَنْ تَخْلُوَ أَفْعَالُهُ عَنْ حِكَمٍ بَالِغَةٍ لِأَجْلِهَا أَوْجَدَهَا، وَأَسْبَابٍ بِهَا سَبَّبَهَا، وَغَايَاتٍ جُعِلَتْ طُرُقًا وَوَسَائِلَ إِلَيْهَا، وَأَنَّ لَهُ فِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ وَقَضَاهُ حِكْمَةً بَالِغَةً، وَتِلْكَ الْحِكْمَةُ صِفَةٌ لَهُ قَائِمَةٌ بِهِ، لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً كَمَا تَقُولُ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ لِلْقَدَرِ وَالْحِكْمَةِ فِي الْحَقِيقَةِ. فَأَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بَرِيئُونَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، إِلَّا مِنْ حَقٍّ تَتَضَمَّنُهُ مَقَالَاتُهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُوَافِقُونَهُمْ عَلَيْهِ، وَيَجْمَعُونَ حَقَّ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى حَقِّ الْأُخْرَى، وَلَا يُبْطِلُونَ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْحَقِّ لِمَا قَالُوهُ مِنَ الْبَاطِلِ، فَهُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ عَلَى الطَّوَائِفِ، وَأُمَنَاؤُهُ عَلَيْهِمْ، حُكَّامٌ بَيْنَهُمْ، حَاكِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، يَكْشِفُونَ أَحْوَالَ الطَّوَائِفِ، وَلَا يَكْشِفُهُمْ إِلَّا مَنْ كَشَفَ لَهُ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَلْتَبِسْ عَلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ أَفْرَادُ الْعَالَمِ وَنُخْبَتُهُ وَخُلَاصَتُهُ، لَيْسُوا مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا، وَلَا مِنَ الَّذِينَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا، بَلْ مِمَّنْ هُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَبَصِيرَةٍ فِي إِيمَانِهِ، وَمَعْرِفَةٍ بِمَا عِنْدَ النَّاسِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الثَّامِنُ مَشْهَدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ] وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْمَشَاهِدِ، وَهُوَ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ وَأَوْسَعُ. وَالْمَطْلَعُ عَلَى هَذَا الْمَشْهَدِ: مَعْرِفَةُ تَعَلُّقِ الْوُجُودِ خَلْقًا وَأَمْرًا بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتِ الْعُلَا، وَارْتِبَاطِهِ بِهَا، وَإِنْ كَانَ الْعَالَمُ بِمَا فِيهِ مِنْ بَعْضِ آثَارِهَا وَمُقْتَضَيَاتِهَا. وَهَذَا مِنْ أَجَلِّ الْمَعَارِفِ وَأَشْرَفِهَا، وَكُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ لَهُ صِفَةٌ خَاصَّةٌ، فَإِنَّ أَسْمَاءَهُ أَوْصَافُ مَدْحٍ وَكَمَالٍ، وَكُلُّ صِفَةٍ لَهَا مُقْتَضًى وَفِعْلٌ إِمَّا لَازِمٌ، وَإِمَّا مُتَعَدٍّ، وَلِذَلِكَ الْفِعْلِ تَعَلُّقٌ بِمَفْعُولٍ هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَهَذَا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، كُلُّ ذَلِكَ آثَارُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَمُوجِبَاتُهَا. وَمِنَ الْمُحَالِ تَعْطِيلُ أَسْمَائِهِ عَنْ أَوْصَافِهَا وَمَعَانِيهَا، وَتَعْطِيلُ الْأَوْصَافِ عَمَّا تَقْتَضِيهِ وَتَسْتَدْعِيهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَتَعْطِيلُ الْأَفْعَالِ عَنِ الْمَفْعُولَاتِ، كَمَا أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ تَعْطِيلُ مَفْعُولِهِ عَنْ أَفْعَالِهِ وَأَفْعَالِهِ عَنْ صِفَاتِهِ، وَصِفَاتِهِ عَنْ أَسْمَائِهِ، وَتَعْطِيلُ أَسْمَائِهِ وَأَوْصَافِهِ عَنْ ذَاتِهِ. وَإِذَا كَانَتْ أَوْصَافُهُ صِفَاتِ كَمَالٍ، وَأَفْعَالُهُ حِكَمًا وَمَصَالِحَ، وَأَسْمَاؤُهُ حُسْنًى فَفَرْضُ تَعْطِيلِهَا عَنْ مُوجَبَاتِهَا مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِ، وَلِهَذَا يُنْكِرُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ عَطَّلَهُ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَأَنَّهُ بِذَلِكَ نَسَبَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَإِلَى مَا يَتَنَزَّهُ عَنْهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ

سَيِّئٌ مِمَّنْ حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ نَسَبَهُ إِلَى ذَلِكَ فَمَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَا عَظَّمَهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ مُنْكِرِي الْمَعَادِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وَقَالَ فِي حَقِّ مَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، كَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ سَيِّئٌ لَا يَلِيقُ بِهِ، تَأْبَاهُ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115] عَنْ هَذَا الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، الَّذِي تَأْبَاهُ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ. وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ، يَنْفِي فِيهَا عَنْ نَفْسِهِ خِلَافَ مُوجَبِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ إِذْ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ تَعْطِيلَهَا عَنْ كَمَالِهَا وَمُقْتَضَيَاتِهَا. فَاسْمُهُ الْحَمِيدُ، الْمَجِيدُ يَمْنَعُ تَرْكَ الْإِنْسَانِ سُدًى مُهْمَلًا مُعَطَّلًا، لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَلَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَكَذَلِكَ اسْمُهُ الْحَكِيمُ يَأْبَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ اسْمُهُ الْمَلِكُ وَاسْمُهُ الْحَيُّ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُعَطَّلًا مِنَ الْفِعْلِ، بَلْ حَقِيقَةُ الْحَيَاةِ الْفِعْلُ، فَكُلُّ حَيٍّ فَعَّالٌ، وَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ خَالِقًا قَيُّومًا مِنْ مُوجَبَاتِ حَيَاتِهِ وَمُقْتَضَيَاتِهَا، وَاسْمُهُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يُوجِبُ مَسْمُوعًا وَمَرْئِيًا، وَاسْمُهُ الْخَالِقُ يَقْتَضِي مَخْلُوقًا، وَكَذَلِكَ الرَّازِقُ، وَاسْمُهُ الْمَلِكُ يَقْتَضِي مَمْلَكَةً وَتَصَرُّفًا وَتَدْبِيرًا، وَإِعْطَاءً وَمَنْعًا، وَإِحْسَانًا وَعَدْلًا، وَثَوَابًا وَعِقَابًا، وَاسْمُ الْبَرِّ وَالْمُحْسِنِ، الْمُعْطِي الْمَنَّانِ وَنَحْوِهَا تَقْتَضِي آثَارَهَا وَمُوجَبَاتِهَا. إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَمِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ الْغَفَّارُ، التَّوَّابُ، الْعَفُوُّ فَلَا بُدَّ لِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مِنْ مُتَعَلَّقَاتٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ جِنَايَةٍ تُغْفَرُ، وَتَوْبَةٍ تُقْبَلُ، وَجَرَائِمَ يُعْفَى عَنْهَا، وَلَا بُدَّ لِاسْمِهِ الْحَكِيمِ مِنْ مُتَعَلَّقٍ يَظْهَرُ فِيهِ حُكْمُهُ، إِذِ اقْتِضَاءُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِآثَارِهَا كَاقْتِضَاءِ اسْمِ الْخَالِقِ، الرَّازِقِ، الْمُعْطِي، الْمَانِعِ لِلْمَخْلُوقِ وَالْمَرْزُوقِ وَالْمُعْطَى وَالْمَمْنُوعِ، وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ كُلُّهَا حُسْنًى.

وَالرَّبُّ تَعَالَى يُحِبُّ ذَاتَهُ وَأَوْصَافَهُ وَأَسْمَاءَهُ، فَهُوَ عَفْوٌ يُحِبُّ الْعَفْوَ، وَيُحِبُّ الْمَغْفِرَةَ، وَيُحِبُّ التَّوْبَةَ، وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ أَعْظَمَ فَرَحٍ يَخْطُرُ بِالْبَالِ وَكَانَ تَقْدِيرُ مَا يَغْفِرُهُ وَيَعْفُو عَنْ فَاعِلِهِ، وَيَحْلُمُ عَنْهُ، وَيَتُوبُ عَلَيْهِ وَيُسَامِحُهُ مِنْ مُوجَبِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَحُصُولُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا يَحْمَدُ بِهِ نَفْسَهُ وَيَحْمَدُهُ بِهِ أَهْلُ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلُ أَرْضِهِ مَا هُوَ مِنْ مُوجَبَاتِ كَمَالِهِ وَمُقْتَضَى حَمْدِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْحَمِيدُ الْمَجِيدُ، وَحَمْدُهُ وَمَجْدُهُ يَقْتَضِيَانِ آثَارَهُمَا. وَمِنْ آثَارِهِمَا مَغْفِرَةُ الزَّلَّاتِ، وَإِقَالَةُ الْعَثَرَاتِ، وَالْعَفْوُ عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَالْمُسَامَحَةُ عَلَى الْجِنَايَاتِ، مَعَ كَمَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ. وَالْعِلْمُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِالْجِنَايَةِ وَمِقْدَارِ عُقُوبَتِهَا، فَحِلْمُهُ بَعْدَ عِلْمِهِ، وَعَفْوُهُ بَعْدَ قُدْرَتِهِ، وَمَغْفِرَتُهُ عَنْ كَمَالِ عِزَّتِهِ وَحَكَمْتِهِ، كَمَا قَالَ الْمَسِيحُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] أَيْ فَمَغْفِرَتُكَ عَنْ كَمَالِ قُدْرَتِكَ وَحِكْمَتِكَ، لَسْتَ كَمَنْ يَغْفِرُ عَجْزًا، وَيُسَامِحُ جَهْلًا بِقَدْرِ الْحَقِّ، بَلْ أَنْتَ عَلِيمٌ بِحَقِّكَ، قَادِرٌ عَلَى اسْتِيفَائِهِ، حَكِيمٌ فِي الْأَخْذِ بِهِ. فَمَنْ تَأَمَّلَ سَرَيَانَ آثَارِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِي الْعَالَمِ، وَفِي الْأَمْرِ، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَصْدَرَ قَضَاءِ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ مِنَ الْعَبِيدِ، وَتَقْدِيرُهَا: هُوَ مِنْ كَمَالِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ. وَغَايَاتُهَا أَيْضًا: مُقْتَضَى حَمْدِهِ وَمَجْدِهِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ. فَلَهُ فِي كُلِّ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، وَالْآيَاتُ الْبَاهِرَةُ، وَالتَّعَرُّفَاتُ إِلَى عِبَادِهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَاسْتِدْعَاءُ مَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وَذِكْرِهِمْ لَهُ، وَشُكْرِهِمْ لَهُ، وَتَعَبُّدِهِمْ لَهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، إِذْ كَلُّ اسْمٍ فَلَهُ تَعَبُّدٌ مُخْتَصٌّ بِهِ، عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَحَالًا، وَأَكْمَلُ النَّاسِ عُبُودِيَّةً الْمُتَعَبِّدُ بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الْبَشَرُ، فَلَا تَحْجُبُهُ عُبُودِيَّةُ اسْمٍ عَنْ عُبُودِيَّةِ اسْمٍ آخَرَ، كَمَنْ يَحْجُبُهُ التَّعَبُّدُ بِاسْمِهِ الْقَدِيرِ عَنِ التَّعَبُّدِ بِاسْمِهِ الْحَلِيمِ الرَّحِيمِ، أَوْ يَحْجُبُهُ عُبُودِيَّةُ اسْمِهِ الْمُعْطِي عَنْ عُبُودِيَّةِ اسْمِهِ الْمَانِعِ، أَوْ عُبُودِيَّةُ اسْمِهِ الرَّحِيمِ وَالْعَفُوِّ وَالْغَفُورِ عَنِ اسْمِهِ الْمُنْتَقِمِ، أَوِ التَّعَبُّدُ بِأَسْمَاءِ التَّوَدُّدِ، وَالْبِرِّ، وَاللُّطْفِ، وَالْإِحْسَانِ عَنْ أَسْمَاءِ الْعَدْلِ، وَالْجَبَرُوتِ، وَالْعَظَمَةِ، وَالْكِبْرِيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْكُمَّلِ مِنَ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّهِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ قَلْبِ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وَالدُّعَاءُ بِهَا يَتَنَاوَلُ دُعَاءَ الْمَسْأَلَةِ، وَدُعَاءَ

الثَّنَاءِ، وَدُعَاءَ التَّعَبُّدِ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ يَدْعُو عِبَادَهُ إِلَى أَنْ يَعْرِفُوهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيُثْنُوا عَلَيْهِ بِهَا، وَيَأْخُذُوا بِحَظِّهِمْ مِنْ عُبُودِيَّتِهَا. وَهُوَ سُبْحَانُهُ يُحِبُّ مُوجَبَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. فَهُوَ عَلِيمٌ يُحِبُّ كُلَّ عَلِيمٍ، جَوَّادٌ يُحِبُّ كُلَّ جَوَّادٍ، وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَأَهْلَهُ، حَيِّيٌّ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَأَهْلَهُ، بَرٌّ يُحِبُّ الْأَبْرَارَ، شَكُورٌ يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ، صَبُورٌ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، حَلِيمٌ يُحِبُّ أَهْلَ الْحِلْمِ، فَلِمَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ لِلتَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ خَلَقَ مَنْ يَغْفِرُ لَهُ، وَيَتُوبُ عَلَيْهِ وَيَعْفُو عَنْهُ، وَقَدَّرَ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمَكْرُوهِ وَالْمَبْغُوضِ لَهُ، لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمَحْبُوبُ لَهُ الْمُرْضِي لَهُ، فَتَوَسُّطُهُ كَتَوَسُّطِ الْأَسْبَابِ الْمَكْرُوهَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْمَحْبُوبِ. فَرُبَّمَا كَانَ مَكْرُوهُ الْعِبَادِ إِلَى ... مَحْبُوبِهَا سَبَبَ مَا مِثْلُهُ سَبَبٌ وَالْأَسْبَابُ مَعَ مُسَبَّبَاتِهَا أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: مَحْبُوبٌ يُفْضِي إِلَى مَحْبُوبٍ، وَمَكْرُوهٌ يُفْضِي إِلَى مَحْبُوبٍ، وَهَذَانَ النَّوْعَانِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ أَقْضِيَتِهِ وَأَقْدَارِهِ سُبْحَانَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُحِبُّهُ وَمَا يَكْرَهُهُ. وَالثَّالِثُ: مَكْرُوهٌ يُفْضِي إِلَى مَكْرُوهٍ، وَالرَّابِعُ: مَحْبُوبٌ يُفْضِي إِلَى مَكْرُوهٍ، وَهَذَانَ النَّوْعَانِ مُمْتَنِعَانِ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ، إِذِ الْغَايَاتُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ الَّذِي مَا خَلَقَ مَا خَلَقَ، وَلَا قَضَى مَا قَضَى إِلَّا لِأَجْلِ حُصُولِهَا لَا تَكُونُ إِلَّا مَحْبُوبَةً لِلرَّبِّ مَرْضِيَّةً لَهُ. وَالْأَسْبَابُ الْمُوصِلَةُ إِلَيْهَا مُنْقَسِمَةٌ إِلَى مَحْبُوبٍ لَهُ وَمَكْرُوهٍ لَهُ. فَالطَّاعَاتُ وَالتَّوْحِيدُ أَسْبَابٌ مَحْبُوبَةٌ لَهُ، مُوَصِّلَةٌ إِلَى الْإِحْسَانِ، وَالثَّوَابِ الْمَحْبُوبِ لَهُ أَيْضًا. وَالشِّرْكُ وَالْمَعَاصِي أَسْبَابٌ مَسْخُوطَةٌ لَهُ، مُوَصِّلَةٌ إِلَى الْعَدْلِ الْمَحْبُوبِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْفَضْلُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَدْلِ، فَاجْتِمَاعُ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، لِمَا فِيهِمَا مِنْ كَمَالِ الْمُلْكِ وَالْحَمْدِ، وَتَنَوُّعِ الثَّنَاءِ، وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يُمْكِنُ حُصُولُ هَذَا الْمَحْبُوبِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ الْمَكْرُوهِ. قِيلَ: هَذَا سُؤَالٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ مُمْتَنِعٌ، وَالَّذِي يُقَدَّرُ فِي الذِّهْنِ وُجُودُهُ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا الْمَطْلُوبِ الْمَحْبُوبِ لِلرَّبِّ، وَحُكْمُ الذِّهْنِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَحْبُوبٌ لِلرَّبِّ حُكْمٌ بِلَا عِلْمٍ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مَبْغُوضًا لِلرَّبِّ تَعَالَى لِمُنَافَاتِهِ حِكْمَتَهُ، فَإِذَا حَكَمَ الذِّهْنُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَحْبُوبٌ لَهُ، كَانَ نِسْبَةً لَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَيَتَعَالَى عَنْهُ. فَلْيُعْطِ اللَّبِيبُ هَذَا الْمَوْضِعَ حَقَّهُ مِنَ التَّأَمُّلِ، فَإِنَّهُ مَزِلَّةُ أَقْدَامٍ، وَمَضَلَّةُ أَفْهَامٍ، وَلَوْ

فصل المشهد التاسع مشهد زيادة الإيمان وتعدد شواهده

أَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ مَنْ لَا يَعْلَمُ لَقَلَّ الْخِلَافُ. وَهَذَا الْمَشْهَدُ أَجَلُّ مَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ كِتَابٌ، أَوْ يَسْتَوْعِبَهُ خِطَابٌ، وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَدْنَى إِشَارَةٍ تَطَّلِعُ عَلَى مَا وَرَاءَهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ الْمُعِينُ. [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ التَّاسِعُ مَشْهَدُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَعَدُّدِ شَوَاهِدِهِ] وَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ الْمَشَاهِدِ، وَأَخَصِّهَا بِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَلَعَلَّ سَامِعَهُ يُبَادِرُ إِلَى إِنْكَارِهِ، وَيَقُولُ: كَيْفَ يَشْهَدُ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي؟ وَلَا سِيَّمَا ذُنُوبَ الْعَبْدِ وَمَعَاصِيهِ، وَهَلْ ذَلِكَ إِلَّا مُنْقِصٌ لِلْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ. فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا حَاصِلٌ مِنَ الْتِفَاتِ الْعَارِفِ إِلَى الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ وَإِلَى تَرَتُّبِ آثَارِهَا عَلَيْهَا، وَتَرَتُّبُ هَذِهِ الْآثَارِ عَلَيْهَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، وَبُرْهَانٌ مِنْ بَرَاهِينِ صِدْقِ الرُّسُلِ، وَصِحَّةِ مَا جَاءُوا بِهِ، فَإِنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَمَرُوا الْعِبَادَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ ظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ، فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَنَهَوْهُمْ عَمَّا فِيهِ فَسَادُ ظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَأَخْبَرُوهُمْ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يُحِبُّ كَذَا وَكَذَا، وَيُثِيِّبُ عَلَيْهِ بِكَذَا وَكَذَا، وَأَنَّهُ يُبْغِضُ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَيُعَاقِبُ عَلَيْهِ بِكَيْتَ وَكَيْتَ، وَأَنَّهُ إِذَا أُطِيعَ بِمَا أَمَرَ بِهِ شَكَرَ عَلَيْهِ بِالْإِمْدَادِ وَالزِّيَادَةِ، وَالنِّعَمِ، فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ، وَوَجَدَ الْعَبْدُ زِيَادَتَهُ وَقُوَّتَهُ فِي حَالِهِ كُلِّهَا، وَأَنَّهُ إِذَا خُولِفَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ، وَالْفَسَادِ، وَالضَّعْفِ، وَالذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ، وَالْحَقَارَةِ، وَضِيقِ الْعَيْشِ وَتَنَكُّدِ الْحَيَاةِ مَا تَرَتَّبَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] وَقَالَ {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} [النحل: 30] وَقَالَ تَعَالَى {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] وَفُسِّرَتِ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْبَرْزَخِ، فَإِنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ، فَلَهُ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ، وَنَكَدِ الْعَيْشِ، وَكَثْرَةِ الْخَوْفِ، وَشِدَّةِ الْحِرْصِ وَالتَّعَبِ عَلَى الدُّنْيَا، وَالتَّحَسُّرِ عَلَى فَوَاتِهَا قَبْلَ

حُصُولِهَا وَبَعْدَ حُصُولِهَا، وَالْآلَامِ الَّتِي فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَا لَا يَشْعُرُ بِهِ الْقَلْبُ، لِسَكْرَتِهِ، وَانْغِمَاسِهِ فِي السُّكْرِ، فَهُوَ لَا يَصْحُو سَاعَةً إِلَّا أَحَسَّ وَشَعَرَ بِهَذَا الْأَلَمِ، فَبَادَرَ إِلَى إِزَالَتِهِ بِسُكْرٍ ثَانٍ، فَهُوَ هَكَذَا مُدَّةَ حَيَّاتِهِ، وَأَيُّ عِيشَةٍ أَضْيَقُ مِنْ هَذِهِ لَوْ كَانَ لِلْقَلْبِ شُعُورٌ؟ . فَقُلُوبُ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَالْمُعْرِضِينَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَأَهْلِ الْغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ، وَأَهْلِ الْمَعَاصِي فِي جَحِيمٍ قَبْلَ الْجَحِيمِ الْأَكْبَرِ، وَقُلُوبُ الْأَبْرَارِ فِي نَعِيمٍ قَبْلَ النَّعِيمِ الْأَكْبَرِ {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13] هَذَا فِي دُورِهِمُ الثَّلَاثِ، لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ تَمَامُهُ وَكَمَالُهُ وَظُهُورُهُ: إِنَّمَا هُوَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَفِي الْبَرْزَخِ دُونَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47] وَقَالَ تَعَالَى {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل: 71] وَفِي هَذِهِ الدَّارِ دُونَ مَا فِي الْبَرْزَخِ، وَلَكِنْ يَمْنَعُ مِنَ الْإِحْسَاسِ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ فِي سَكْرَةِ الشَّهَوَاتِ، وَطَرْحُ ذَلِكَ عَنِ الْقَلْبِ، وَعَدَمُ التَّفَكُّرِ فِيهِ. وَالْعَبْدُ قَدْ يُصِيبُهُ أَلَمٌ حِسِّيٌّ فَيَطْرَحُهُ عَنْ قَلْبِهِ، وَيَقْطَعُ الْتِفَاتَهُ عَنْهُ، وَيَجْعَلُ إِقْبَالَهُ عَلَى غَيْرِهِ، لِئَلَّا يَشْعُرَ بِهِ جُمْلَةً، فَلَوْ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ الِالْتِفَاتُ، لَصَاحَ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ، فَمَا الظَّنُّ بِعَذَابِ الْقُلُوبِ وَآلَامِهَا؟ ! . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ آثَارًا مَحْبُوبَةً لَذِيذَةً طَيِّبَةً، لَذَّتُهَا فَوْقَ لَذَّةِ الْمَعْصِيَةِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، لَا نِسْبَةَ لَهَا إِلَيْهَا، وَجَعَلَ لِلسَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي آلَامًا وَآثَارًا مَكْرُوهَةً، وَحَزَازَاتٍ تُرْبِي عَلَى لَذَّةِ تَنَاوُلِهَا بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ لِلْحَسَنَةِ نُورًا فِي الْقَلْبِ، وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ، وَزِيَادَةً فِي الرِّزْقِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ، وَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ، وَبُغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَهَذَا يَعْرِفُهُ صَاحِبُ الْبَصِيرَةِ، وَيَشْهَدُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ. فَمَا حَصَلَ لِلْعَبْدِ حَالٌ مَكْرُوهَةٌ قَطُّ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وَقَالَ لِخِيَارِ

خَلْقِهِ وَأَصْحَابِ نَبِيِّهِ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] وَقَالَ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] . وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ هُنَا النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ الَّتِي تُصِيبُ الْعَبْدَ مِنَ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ " مَا أَصَابَكَ " وَلَمْ يَقُلْ " مَا أَصَبْتَ ". فَكُلُّ نَقْصٍ وَبَلَاءٍ وَشَرٍّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَسَبَبُهُ الذُّنُوبُ، وَمُخَالَفَةُ أَوَامِرِ الرَّبِّ، فَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ شَرٌّ قَطُّ إِلَّا الذُّنُوبَ وَمُوجِبَاتِهَا. وَآثَارُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ أَمْرٌ مَشْهُودٌ فِي الْعَالَمِ، لَا يُنْكِرُهُ ذُو عَقْلٍ سَلِيمٍ، بَلْ يَعْرِفُهُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. وَشُهُودُ الْعَبْدِ هَذَا فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَتَأَمُّلُهُ وَمُطَالَعَتُهُ مِمَّا يُقَوِّي إِيمَانَهُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَبِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَإِنَّ هَذَا عَدْلٌ مَشْهُودٌ مَحْسُوسٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَمَثُوبَاتٌ وَعُقُوبَاتٌ عَاجِلَةٌ، دَالَّةٌ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ بَصِيرَةٌ، كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا صَدَرَ مِنِّي ذَنْبٌ وَلَمْ أُبَادِرْهُ وَلَمْ أَتَدَارَكْهُ بِالتَّوْبَةِ انْتَظَرْتُ أَثَرَهُ السَّيِّئَ، فَإِذَا أَصَابَنِي أَوْ فَوْقَهُ أَوْ دُونَهُ كَمَا حَسِبْتُ، يَكُونُ هِجِّيرَايَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ شَوَاهِدِ الْإِيمَانِ وَأَدِلَّتِهِ، فَإِنَّ الصَّادِقَ مَتَى أَخْبَرَكَ أَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ كَذَا وَكَذَا، فَجَعَلْتَ كُلَّمَا فَعَلْتَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَصَلَ لَكَ مَا قَالَ مِنَ الْمَكْرُوهِ، لَمْ تَزْدَدْ إِلَّا عِلْمًا بِصِدْقِهِ وَبَصِيرَةً فِيهِ، وَلَيْسَ هَذَا لِكُلِّ أَحَدٍ، بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ تَرِينَ الذُّنُوبُ عَلَى قَلْبِهِ، فَلَا يَشْهَدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ الْبَتَّةَ. وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْقَلْبُ فِيهِ نُورُ الْإِيمَانِ، وَأَهْوِيَةُ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي تَعْصِفُ فِيهِ، فَهُوَ يُشَاهِدُ هَذَا وَهَذَا، وَيَرَى حَالَ مِصْبَاحِ إِيمَانِهِ مَعَ قُوَّةِ تِلْكَ الْأَهْوِيَةِ وَالرِّيَاحِ، فَيَرَى نَفْسَهُ كَرَاكِبِ الْبَحْرِ عِنْدَ هَيَجَانِ الرِّيَاحِ، وَتَقَلُّبِ السَّفِينَةِ وَتَكَفُّئِهَا وَلَاسِيَّمَا إِذَا انْكَسَرَتْ بِهِ وَبَقِيَ عَلَى لَوْحٍ تَلْعَبُ بِهِ الرِّيَاحُ، فَهَكَذَا الْمُؤْمِنُ يُشَاهِدُ نَفْسَهُ عِنْدَ ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ، إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْخَيْرُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ فَقَلْبُهُ فِي وَادٍ آخَرَ. وَمَتَى انْفَتَحَ هَذَا الْبَابُ لِلْعَبْدِ انْتَفَعَ بِمُطَالَعَةِ تَارِيخِ الْعَالَمِ، وَأَحْوَالِ الْأُمَمِ،

فصل المشهد العاشر مشهد الرحمة

وَمُجْرَيَاتِ الْخَلْقِ، بَلِ انْتَفَعَ بِمُجْرَيَاتِ أَهْلِ زَمَانِهِ وَمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَفَهِمَ حِينَئِذٍ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] وَقَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] فَكُلُّ مَا تَرَاهُ فِي الْوُجُودِ مِنْ شَرٍّ وَأَلَمٍ وَعُقُوبَةٍ وَجَدْبٍ، وَنَقْصٍ فِي نَفْسِكَ وَفِي غَيْرِكَ فَهُوَ مِنْ قِيَامِ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْقِسْطِ، وَهُوَ عَدْلُ اللَّهِ وَقِسْطُهُ، وَإِنْ أَجْرَاهُ عَلَى يَدِ ظَالِمٍ، فَالْمُسَلِّطُ لَهُ أَعْدَلُ الْعَادِلِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِمَنْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} [الإسراء: 5] الْآيَةَ. فَالذُّنُوبُ مِثْلُ السُّمُومِ مُضِرَّةٌ بِالذَّاتِ، فَإِنْ تَدَارَكَهَا مِنْ سَقْيٍ بِالْأَدْوِيَةِ الْمُقَاوِمَةِ لَهَا، وَإِلَّا قَهَرَتِ الْقُوَّةَ الْإِيمَانِيَّةَ، وَكَانَ الْهَلَاكُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ، كَمَا أَنَّ الْحُمَّى بَرِيدُ الْمَوْتِ. فَشُهُودُ الْعَبْدِ نَقْصَ حَالِهِ إِذَا عَصَى رَبَّهُ، وَتَغَيُّرُ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ، وَجُفُولُهَا مِنْهُ، وَانْسِدَادُ الْأَبْوَابِ فِي وَجْهِهِ، وَتَوَعُّرُ الْمَسَالِكِ عَلَيْهِ، وَهَوَانُهُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَوْلَادِهِ وَزَوْجَتِهِ وَإِخْوَانِهِ. وَتَطَلُّبُهُ ذَلِكَ حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ أُتِيَ؟ وَوُقُوعُهُ عَلَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِذَلِكَ مِمَّا يُقَوِّي إِيمَانَهُ، فَإِنْ أَقْلَعَ وَبَاشَرَ الْأَسْبَابَ الَّتِي تُفْضِي بِهِ إِلَى ضِدِّ هَذِهِ الْحَالِ، رَأَى الْعِزَّ بَعْدَ الذُّلِّ، وَالْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ، وَالسُّرُورَ بَعْدَ الْحُزْنِ، وَالْأَمْنَ بَعْدَ الْخَوْفِ، وَالْقُوَّةَ فِي قَلْبِهِ بَعْدَ ضَعْفِهِ وَوَهَنِهِ ازْدَادَ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِ، فَتَقْوَى شَوَاهِدُ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَبَرَاهِينُهُ وَأَدِلَّتُهُ فِي حَالِ مَعْصِيَتِهِ وَطَاعَتِهِ، فَهَذَا مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35] . وَصَاحِبُ هَذَا الْمَشْهَدِ مَتَى تَبَصَّرَ فِيهِ، وَأَعْطَاهُ حَقَّهُ: صَارَ مِنْ أَطِبَّاءِ الْقُلُوبِ الْعَالِمِينَ بِدَائِهَا وَدَوَائِهَا، فَنَفَعَهُ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ، وَنَفَعَ بِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الْعَاشِرُ مَشْهَدُ الرَّحْمَةِ] فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَقَعَ فِي الذَّنْبِ خَرَجَ مِنْ قَلْبِهِ تِلْكَ الْغِلْظَةُ وَالْقَسْوَةُ، وَالْكَيْفِيَّةُ

فصل المشهد الحادي عشر مشهد العجز والضعف

الْغَضَبِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِمَنْ صَدَرَ مِنْهُ ذَنْبٌ، حَتَّى لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَأَهْلَكَهُ، وَرُبَّمَا دَعَا اللَّهَ عَلَيْهِ أَنْ يُهْلِكَهُ وَيَأْخُذَهُ، غَضَبًا مِنْهُ لِلَّهِ، وَحِرْصًا عَلَى أَنْ لَا يَعْصِيَ، فَلَا يَجِدُ فِي قَلْبِهِ رَحْمَةً لِلْمُذْنِبِينَ الْخَاطِئِينَ، وَلَا يَرَاهُمْ إِلَّا بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ وَالِازْدِرَاءِ، وَلَا يَذْكُرُهُمْ إِلَّا بِلِسَانِ الطَّعْنِ فِيهِمْ، وَالْعَيْبِ لَهُمْ وَالذَّمِّ، فَإِذَا جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَقَادِيرُ وَخُلِّيَ وَنَفْسَهُ اسْتَغَاثَ اللَّهَ وَالْتَجَأَ إِلَيْهِ، وَتَمَلْمَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ، وَدَعَاهُ دُعَاءَ الْمُضْطَرِّ، فَتَبَدَّلَتْ تِلْكَ الْغِلْظَةُ عَلَى الْمُذْنِبِينَ رِقَّةً، وَتِلْكَ الْقَسَاوَةُ عَلَى الْخَاطِئِينَ رَحْمَةً وَلِينًا، مَعَ قِيَامِهِ بِحُدُودِ اللَّهِ، وَتَبَدَّلَ دُعَاؤُهُ عَلَيْهِمْ دُعَاءً لَهُمْ، وَجَعَلَ لَهُمْ وَظِيفَةً مِنْ عُمُرِهِ، يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ. فَمَا أَنْفَعَهُ لَهُ مِنْ مَشْهَدٍ! وَمَا أَعْظَمَ جَدْوَاهُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْمَشْهَدَ الْحَادِيَ عَشَرَ مَشْهَدُ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ] فَصْلٌ فَيُورِثُهُ ذَلِكَ: الْمَشْهَدَ الْحَادِيَ عَشَرَ وَهُوَ مَشْهَدُ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ، وَأَنَّهُ أَعْجَزُ شَيْءٍ عَنْ حِفْظِ نَفْسِهِ وَأَضْعَفُهُ، وَأَنَّهُ لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا حَوْلَ إِلَّا بِرَبِّهِ، فَيَشْهَدُ قَلْبَهُ كَرِيشَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَيَشْهَدُ نَفْسَهُ كَرَاكِبِ سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ تَهِيجُ بِهَا الرِّيَاحُ وَتَتَلَاعَبُ بِهَا الْأَمْوَاجُ، تَرْفَعُهَا تَارَةً، وَتَخْفِضُهَا تَارَةً أُخْرَى، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْقَدَرِ، وَهُوَ كَالْآلَةِ طَرِيحًا بَيْنَ يَدَيْ وَلِيِّهِ، مُلْقًى بِبَابِهِ، وَاضِعًا خَدَّهُ عَلَى ثَرَى أَعْتَابِهِ، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضُرَّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا الْجَهْلُ وَالظُّلْمُ وَآثَارُهُمَا وَمُقْتَضَيَاتُهثمَا، فَالْهَلَاكُ أَدْنَى إِلَيْهِ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ كَشَاةٍ مُلْقَاةٍ بَيْنَ الذِّئَابِ وَالسِّبَاعِ، لَا يَرُدُّهَا عَنْهَا إِلَّا الرَّاعِي، فَلَوْ تَخَلَّى عَنْهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ لَتَقَاسَمُوهَا أَعْضَاءً. وَهَكَذَا حَالُ الْعَبْدِ مُلْقًى بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ، مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَإِنْ حَمَاهُ مِنْهُمْ وَكَفَّهُمْ عَنْهُ لَمْ يَجِدُوا إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَإِنْ تَخَلَّى عَنْهُ وَوَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَمْ يَنْقَسِمْ عَلَيْهِمْ، بَلْ هُوَ نَصِيبُ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ. وَفِي هَذَا الْمَشْهَدِ يَعْرِفُ نَفْسَهُ حَقًّا، وَيَعْرِفُ رَبَّهُ، وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ لِلْكَلَامِ الْمَشْهُورِ " مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ " وَلَيْسَ هَذَا حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا هُوَ أَثَرٌ

فصل المشهد الثاني عشر مشهد الذل والانكسار والخضوع والافتقار للرب جل جلاله

إِسْرَائِيلِيٌّ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ أَيْضًا " يَا إِنْسَانُ اعْرَفْ نَفْسَكَ تَعْرِفُ رَبَّكَ " وَفِيهِ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالضَّعْفِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْقُوَّةِ، وَمَنْ عَرَفَهَا بِالْعَجْزِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْقُدْرَةِ، وَمَنْ عَرَفَهَا بِالذُّلِّ، عَرَفَ رَبَّهُ بِالْعِزِّ، وَمَنْ عَرَفَهَا بِالْجَهْلِ، عَرَفَ رَبَّهُ بِالْعِلْمِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اسْتَأْثَرَ بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ، وَالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، وَالْمَجْدِ وَالْغِنَى، وَالْعَبْدُ فَقِيرٌ نَاقِصٌ مُحْتَاجٌ، وَكُلَّمَا ازْدَادَتْ مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ بِنَقْصِهِ وَعَيْبِهِ وَفَقْرِهِ وَذُلِّهِ وَضَعْفِهِ ازْدَادَتْ مَعْرِفَتُهُ لِرَبِّهِ بِأَوْصَافِ كَمَالِهِ. التَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ وَمَا فِيهَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمَمْدُوحَةِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْحَيَاةِ، عَرَفَ أَنَّ مَنْ أَعْطَاهُ ذَلِكَ وَخَلَقَهَ فِيهِ أَوْلَى بِهِ، فَمُعْطِي الْكَمَالِ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَبْدُ حَيًّا مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُرِيدًا عَالِمًا، يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ، وَمَنْ خَلَقَهُ وَأَوْجَدَهُ لَا يَكُونُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ؟ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَالِ، بَلْ مَنْ جَعَلَ الْعَبْدَ مُتَكَلِّمًا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ مُتَكَلِّمًا وَمَنْ جَعَلَهُ حَيًّا عَلِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا فَاعِلًا قَادِرًا، أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. فَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ مِنْ بَابِ الضِّدِّ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْأَوْلَوِيَّةِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ النَّفْيِ، أَيْ كَمَا أَنَّكَ لَا تَعْرِفُ نَفْسَكَ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكَ، فَلَا تَعْرِفُ حَقِيقَتَهَا، وَلَا مَاهِيَّتَهَا وَلَا كَيْفِيَّتَهَا، فَكَيْفَ تَعْرِفُ رَبَّكَ وَكَيْفِيَّةَ صِفَاتِهِ؟ . وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا الْمَشْهَدَ يُعَرِّفُ الْعَبْدَ أَنَّهُ عَاجِزٌ ضَعِيفٌ، فَتَزُولُ عَنْهُ رُعُونَاتُ الدَّعَاوِي، وَالْإِضَافَاتُ إِلَى نَفْسِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، إِنْ هُوَ إِلَّا مَحْضُ الْقَهْرِ وَالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ. [فَصْلٌ الْمَشْهَدِ الثَّانِي عَشَرَ مَشْهَدُ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ وَالْخُضُوعِ وَالِافْتِقَارِ لِلرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ] فَصْلٌ فَحِينَئِذٍ يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى الْمَشْهَدِ الثَّانِي عَشَرَ وَهُوَ مَشْهَدُ الذُّلِّ، وَالِانْكِسَارِ، وَالْخُضُوعِ، وَالِافْتِقَارِ لِلرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، فَيَشْهَدُ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ ضَرُورَةً تَامَّةً، وَافْتِقَارًا تَامًّا إِلَى رَبِّهِ وَوَلِيِّهِ، وَمَنْ بِيَدِهِ صَلَاحُهُ وَفَلَاحُهُ، وَهُدَاهُ وَسَعَادَتُهُ، وَهَذِهِ الْحَالُ الَّتِي تَحْصُلُ لِقَلْبِهِ لَا تَنَالُ الْعِبَارَةُ حَقِيقَتَهَا، وَإِنَّمَا تُدْرَكُ بِالْحُصُولِ، فَيَحْصُلُ لِقَلْبِهِ كَسْرَةٌ خَاصَّةٌ لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ، بِحَيْثُ يَرَى نَفْسَهُ كَالْإِنَاءِ الْمَرْضُوضِ تَحْتَ الْأَرْجُلِ، الَّذِي لَا شَيْءَ فِيهِ، وَلَا بِهِ وَلَا مِنْهُ، وَلَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَلَا يُرْغَبُ فِي مِثْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ إِلَّا بِجَبْرٍ جَدِيدٍ مِنْ صَانِعِهِ وَقَيِّمِهِ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَكْثِرُ

فِي هَذَا الْمَشْهَدِ مَا مِنْ رَبِّهِ إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَلِيلًا مِنْهُ وَلَا كَثِيرًا، فَأَيُّ خَيْرٍ لَهُ مِنَ اللَّهِ اسْتَكْثَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلِمَ أَنَّ قَدْرَهُ دُونَهُ، وَأَنَّ رَحْمَةَ رَبِّهِ هِيَ الَّتِي اقْتَضَتْ ذِكْرَهُ بِهِ، وَسِيَاقَتَهُ إِلَيْهِ، وَاسْتَقَلَّ مَا مِنْ نَفْسِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ لِرَبِّهِ، وَرَآهَا وَلَوْ سَاوَتْ طَاعَاتِ الثَّقَلَيْنِ مِنْ أَقَلِّ مَا يَنْبَغِي لِرَبِّهِ عَلَيْهِ، وَاسْتَكْثَرَ قَلِيلَ مَعَاصِيهِ وَذُنُوبِهِ، فَإِنَّ الْكَسْرَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لِقَلْبِهِ أَوْجَبَتْ لَهُ هَذَا كُلَّهُ. فَمَا أَقْرَبَ الْجَبْرَ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ الْمَكْسُورِ! وَمَا أَدْنَى النَّصْرَ وَالرَّحْمَةَ وَالرِّزْقَ مِنْهُ! وَمَا أَنْفَعَ هَذَا الْمَشْهَدَ لَهُ وَأَجْدَاهُ عَلَيْهِ! وَذَرَّةٌ مِنْ هَذَا وَنَفَسٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ طَاعَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ مِنَ الْمُدِلِّينَ الْمُعْجَبِينَ بِأَعْمَالِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَأَحَبُّ الْقُلُوبِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ قَلْبٌ قَدْ تَمَكَّنَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْكَسْرَةُ، وَمَلَكَتْهُ هَذِهِ الذِّلَّةُ، فَهُوَ نَاكِسُ الرَّأْسِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَيْهِ حَيَاءً وَخَجَلًا مِنَ اللَّهِ. قِيلَ لِبَعْضِ الْعَارِفِينَ: أَيَسْجُدُ الْقَلْبُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَسْجُدُ سَجْدَةً لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْهَا إِلَى يَوْمِ اللِّقَاءِ، فَهَذَا سُجُودُ الْقَلْبِ. فَقَلْبٌ لَا تُبَاشِرُهُ هَذِهِ الْكَسْرَةُ هُوَ غَيْرُ سَاجِدٍ السُّجُودَ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَإِذَا سَجَدَ الْقَلْبُ لِلَّهِ هَذِهِ السَّجْدَةَ الْعُظْمَى سَجَدَتْ مَعَهُ جَمِيعُ الْجَوَارِحِ، وَعَنَا الْوَجْهُ حِينَئِذٍ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، وَخَشَعَ الصَّوْتُ وَالْجَوَارِحُ كُلُّهَا، وَذَلَّ الْعَبْدُ وَخَضَعَ وَاسْتَكَانَ، وَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى عَتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ، نَاظِرًا بِقَلْبِهِ إِلَى رَبِّهِ وَوَلِيِّهِ نَظَرَ الذَّلِيلِ إِلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، فَلَا يُرَى إِلَّا مُتَمَلِّقًا لِرَبِّهِ، خَاضِعًا لَهُ، ذَلِيلًا مُسْتَعْطِفًا لَهُ، يَسْأَلُهُ عَطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ، فَهُوَ يَتَرَضَّى رَبَّهُ كَمَا يَتَرَضَّى الْمُحِبُّ الْكَامِلُ الْمَحَبَّةِ مَحْبُوبَهُ الْمَالِكَ لَهُ، الَّذِي لَا غِنَى لَهُ عَنْهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، فَلَيْسَ لَهُ هَمٌّ غِيْرَ اسْتِرْضَائِهِ وَاسْتِعْطَافِهِ، لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ لَهُ وَلَا فَلَاحَ إِلَّا فِي قُرْبِهِ وَرِضَاهُ عَنْهُ، وَمَحَبَّتِهِ لَهُ، يَقُولُ: كَيْفَ أُغْضِبُ مَنْ حَيَاتِي فِي رِضَاهُ؟ وَكَيْفَ أَعْدِلُ عَمَّنْ سَعَادَتِي وَفَلَاحِي وَفَوْزِي فِي قُرْبِهِ وَحُبِّهِ وَذِكْرِهِ؟ وَصَاحِبُ هَذَا الْمَشْهَدِ يَشْهَدُ نَفْسَهُ كَرَجُلٍ كَانَ فِي كَنَفِ أَبِيهِ يَغْذُوهُ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ، وَيُرَبِّيهِ أَحْسَنَ التَّرْبِيَةِ، وَيُرَقِّيهِ عَلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ أَتَمَّ تَرْقِيَةٍ، وَهُوَ الْقَيِّمُ بِمَصَالِحِهِ كُلِّهَا، فَبَعَثَهُ أَبُوهُ فِي حَاجَةٍ لَهُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ فِي طَرِيقِهِ عَدُوٌّ، فَأَسَرَهُ وَكَتَّفَهُ وَشَدَّهُ وَثَاقًا، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ إِلَى بِلَادِ الْأَعْدَاءِ فَسَامَهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَعَامَلَهُ بِضِدِّ مَا كَانَ أَبُوهُ يُعَامِلُهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَذَكَّرُ تَرْبِيَةَ وَالِدِهِ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، فَتَهِيجُ مِنْ قَلْبِهِ لَوَاعِجُ الْحَسَرَاتِ كُلَّمَا رَأَى حَالَهُ، وَيَتَذَكَّرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَكُلَّ مَا كَانَ فِيهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي أَسْرِ عَدُوِّهِ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَيُرِيدُ نَحْرَهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، إِذْ حَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ إِلَى نَحْوِ دِيَارِ أَبِيهِ، فَرَأَى أَبَاهُ مِنْهُ قَرِيبًا، فَسَعَى إِلَيْهِ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ، وَانْطَرَحَ بَيْنَ يَدَيْهِ، يَسْتَغِيثُ

فصل المشهد الثالث عشر مشهد العبودية والمحبة والشوق إلى لقائه والابتهاج به

يَا أَبَتَاهُ، يَا أَبَتَاهُ، يَا أَبَتَاهُ! انْظُرْ إِلَى وَلَدِكَ وَمَا هُوَ فِيهِ، وَدُمُوعُهُ تَسْتَبِقُ عَلَى خَدَّيْهِ، قَدِ اعْتَنَقَهُ وَالْتَزَمَهُ، وَعَدُوُّهُ فِي طَلَبِهِ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ مُلْتَزِمٌ لِوَالِدِهِ مُمْسِكٌ بِهِ، فَهَلْ تَقُولُ: إِنَّ وَالِدَهُ يُسْلِمُهُ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ إِلَى عَدُوِّهِ، وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ؟ فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ هُوَ أَرْحَمُ بِعَبْدِهِ مِنَ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ، وَمِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا إِذَا فَرَّ عَبْدٌ إِلَيْهِ، وَهَرَبَ مِنْ عَدُوِّهُ إِلَيْهِ، وَأَلْقَى بِنَفْسِهِ طَرِيحًا بِبَابِهِ، يُمَرِّغُ خَدَّهُ فِي ثَرَى أَعْتَابِهِ بَاكِيًا بَيْنَ يَدَيْهِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، ارْحَمْ مَنْ لَا رَاحِمَ لَهُ سِوَاكَ، وَلَا نَاصِرَ لَهُ سِوَاكَ، وَلَا مُؤْوِيَ لَهُ سِوَاكَ، وَلَا مُغِيثَ لَهُ سِوَاكَ. مِسْكِينُكَ وَفَقِيرُكَ، وَسَائِلُكَ وَمُؤَمِّلُكَ وَمُرَجِّيكَ، لَا مَلْجَأَ لَهُ وَلَا مَنْجَى لَهُ مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، أَنْتَ مَعَاذُهُ وَبِكَ مَلَاذُهُ. يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ ... وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أَحَاذِرُهُ لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ ... وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ [فَصْلٌ الْمَشْهَدِ الثَّالِثَ عَشَرَ مَشْهَدُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ وَالِابْتِهَاجِ بِهِ] فَصْلٌ فَإِذَا اسْتَبْصَرَ فِي هَذَا الْمَشْهَدِ، وَتَمَكَّنَ مِنْ قَلْبِهِ، وَبَاشَرَهُ وَذَاقَ طَعْمَهُ وَحَلَاوَتَهُ تَرَقَّى مِنْهُ إِلَى: الْمَشْهَدِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَهُوَ الْغَايَةُ الَّتِي شَمَّرَ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ، وَأَمَّهَا الْقَاصِدُونَ، وَلَحَظَ إِلَيْهَا الْعَامِلُونَ. وَهُوَ مَشْهَدُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، وَالِابْتِهَاجِ بِهِ، وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِهِ، فَتَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ، وَيَسْكُنُ إِلَيْهِ قَلْبُهُ، وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ جَوَارِحُهُ وَيَسْتَوْلِي ذِكْرُهُ عَلَى لِسَانِ مُحِبِّهِ وَقَلْبِهِ، فَتَصِيرُ خَطَرَاتُ الْمَحَبَّةِ مَكَانَ خَطَرَاتِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِرَادَاتُ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَإِلَى مَرْضَاتِهِ مَكَانَ إِرَادَةِ مَعَاصِيهِ وَمَسَاخِطِهِ، وَحَرَكَاتُ اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ بِالطَّاعَاتِ مَكَانَ حَرَكَاتِهَا بِالْمَعَاصِي، قَدِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ، وَلَهَجَ لِسَانُهُ بِذِكْرِهِ، وَانْقَادَتِ الْجَوَارِحُ لِطَاعَتِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْكَسْرَةَ الْخَاصَّةَ لَهَا تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي الْمَحَبَّةِ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ. وَيُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ، أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَبْوَابِ الطَّاعَاتِ كُلِّهَا، فَمَا دَخَلْتُ مِنْ بَابٍ إِلَّا رَأَيْتُ عَلَيْهِ الزِّحَامَ، فَلَمْ أَتَمَكَّنْ مِنَ الدُّخُولِ، حَتَّى جِئْتُ بَابَ الذُّلِّ وَالِافْتِقَارِ، فَإِذَا هُوَ أَقْرَبُ بَابٍ إِلَيْهِ وَأَوْسَعُهُ، وَلَا مُزَاحِمَ فِيهِ وَلَا مُعَوِّقَ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ وَضَعْتُ قَدَمِي فِي عَتَبَتِهِ، فَإِذَا هُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخَذَ بِيَدِي وَأَدْخَلَنِي عَلَيْهِ. وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ، فَلْيَلْزَمْ عَتَبَةَ الْعُبُودِيَّةِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لَا طَرِيقَ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَا حِجَابَ أَغْلَظُ مِنَ الدَّعْوَى، وَلَا يَنْفَعُ مَعَ الْإِعْجَابِ وَالْكِبْرِ عَمَلٌ وَاجْتِهَادٌ، وَلَا يَضُرُّ مَعَ الذُّلِّ وَالِافْتِقَارِ بَطَالَةٌ، يَعْنِي بَعْدَ فِعْلِ الْفَرَائِضِ. وَالْقَصْدُ: أَنَّ هَذِهِ الذِّلَّةَ وَالْكَسْرَةَ الْخَاصَّةَ تُدْخِلُهُ عَلَى اللَّهِ، وَتَرْمِيهِ عَلَى طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ، فَيُفْتَحُ لَهُ مِنْهَا بَابٌ لَا يُفْتَحُ لَهُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَتْ طُرُقُ سَائِرِ الْأَعْمَالِ وَالطَّاعَاتِ تَفْتَحُ لِلْعَبْدِ أَبْوَابًا مِنَ الْمَحَبَّةِ، لَكِنَّ الَّذِي يَفْتَحُ مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ وَالِافْتِقَارِ وَازْدِرَاءِ النَّفْسِ، وَرُؤْيَتِهَا بِعَيْنِ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ وَالْعَيْبِ وَالنَّقْصِ وَالذَّمِّ، بِحَيْثُ يُشَاهِدُهَا ضَيْعَةً وَعَجْزًا، وَتَفْرِيطًا وَذَنْبًا وَخَطِيئَةً، نَوْعٌ آخَرُ وَفَتْحٌ آخَرُ، وَالسَّالِكُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ غَرِيبٌ فِي النَّاسِ، وَهُمْ فِي وَادٍ وَهُوَ فِي وَادٍ، وَهِيَ تُسَمَّى طَرِيقَ الطَّيْرِ، يَسْبِقُ النَّائِمُ فِيهَا عَلَى فِرَاشِهِ السُّعَاةَ، فَيُصْبِحُ وَقَدْ قَطَعَ الطَّرِيقَ، وَسَبَقَ الرَّكْبَ. بَيْنَا هُوَ يُحَدِّثُكَ، إِذَا بِهِ قَدْ سَبَقَ الطَّرْفَ وَفَاتَ السُّعَاةَ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَهُوَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ. وَهَذَا الَّذِي حَصَلَ لَهُ مِنْ آثَارِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ، وَفَرَحِهِ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِمْ أَعْظَمَ فَرَحٍ وَأَكْمَلَهُ. فَكُلَّمَا طَالَعَ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الذَّنْبِ، وَفِي حَالِ مُوَاقَعَتِهِ، وَبَعْدَهُ، بِرَّهُ بِهِ وَحِلْمَهُ عَنْهُ، وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِ هَاجَتْ مِنْ قَلْبِهِ لَوَاعِجُ مَحَبَّتِهِ وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَأَيُّ إِحْسَانٍ أَعْظَمُ مِنْ إِحْسَانِ مَنْ يُبَارِزُهُ الْعَبْدُ بِالْمَعَاصِي، وَهُوَ يَمُدُّهُ بِنِعَمِهِ، وَيُعَامِلُهُ بِأَلْطَافِهِ، وَيُسْبِلُ عَلَيْهِ سِتْرَهُ، وَيَحْفَظُهُ مِنْ خَطْفَاتِ أَعْدَائِهِ الْمُتَرَقِّبِينَ لَهُ أَدْنَى عَثْرَةٍ يَنَالُونَ مِنْهُ بِهَا بُغْيَتَهُمْ، وَيَرُدُّهُمْ عَنْهُ، وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ؟ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِعَيْنِهِ، يَرَاهُ وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ، فَالسَّمَاءُ تَسْتَأْذِنُ رَبَّهَا أَنْ تَحْصِبَهُ، وَالْأَرْضُ تَسْتَأْذِنُهُ أَنْ تَخْسِفَ بِهِ، وَالْبَحْرُ يَسْتَأْذِنُهُ أَنْ يُغْرِقَهُ، كَمَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا وَالْبَحْرُ يَسْتَأْذِنُ رَبَّهُ أَنْ يُغْرِقَ ابْنَ آدَمَ، وَالْمَلَائِكَةُ تَسْتَأْذِنُهُ أَنْ تُعَاجِلَهُ وَتُهْلِكَهُ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يَقُولُ: دَعُوا عَبْدِي، فَأَنَا أَعْلَمُ بِهِ، إِذْ أَنْشَأْتُهُ مِنَ الْأَرْضِ، إِنْ كَانَ عَبْدَكُمْ فَشَأْنُكُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدِي فَمِنِّي وَإِلَيَّ، عَبْدِي وَعِزَّتِي وَجَلَالِي إِنْ أَتَانِي لَيْلًا قَبِلْتُهُ، وَإِنْ أَتَانِي نَهَارًا قَبِلْتُهُ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ مَشَى إِلَيَّ هَرْوَلْتُ إِلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُ لَهُ، وَإِنِ اسْتَقَالَنِي أَقَلْتُهُ، وَإِنْ تَابَ إِلَيَّ تُبْتُ عَلَيْهِ، مَنْ أَعْظَمَ مِنِّي جُودًا وَكَرَمًا، وَأَنَا الْجَوَادُ الْكَرِيمُ؟ عَبِيدِي يَبِيتُونَ يُبَارِزُونَنِي بِالْعَظَائِمِ، وَأَنَا أَكْلَؤُهُمْ فِي مَضَاجِعِهِمْ، وَأَحْرُسُهُمْ عَلَى فُرُشِهِمْ، مَنْ أَقْبَلَ إِلَيَّ تَلَقَّيْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَمَنْ تَرَكَ لِأَجْلِي أَعْطَيْتُهُ فَوْقَ الْمَزِيدِ، وَمَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِي وَقُوَّتِي أَلَنْتُ لَهُ الْحَدِيدَ، وَمَنْ أَرَادَ مُرَادِي أَرَدْتُ مَا يُرِيدُ، أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ

مُجَالَسَتِي، وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي، وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُقْنِطُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي، إِنْ تَابُوا إِلَيَّ فَأَنَا حَبِيبُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ، أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ، لِأُطَهِّرَهَمْ مِنَ الْمَعَايِبِ» . وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ ذِكْرِ التَّوْبَةِ وَأَحْكَامِهَا وَثَمَرَاتِهَا، فَإِنَّهُ مَا أُطِيلَ الْكَلَامُ فِيهَا إِلَّا لِفَرْطِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا، وَتَفَاصِيلِهَا وَمَسَائِلِهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِمُرَاعَاةِ ذَلِكَ، وَالْقِيَامِ بِهِ عَمَلًا وَحَالًا، كَمَا وَفَّقَ لَهُ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً، فَمَا خَابَ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَلَاذَ بِهِ وَلَجَأَ إِلَيْهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

فصل منزلة الإنابة

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْإِنَابَةِ] [مَعْنَى الْإِنَابَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا] قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ نَزَلَ مِنْ مَنْزِلِ التَّوْبَةِ وَقَامَ فِي مَقَامِهَا نَزَلَ فِي جَمِيعِ مَنَازِلِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْكَامِلَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لَهَا، وَهِيَ مُنْدَرِجَةٌ فِيهَا، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إِفْرَادِهَا بِالذِّكْرِ وَالتَّفْصِيلِ، تَبْيِينًا لِحَقَائِقِهَا وَخَوَاصِّهَا وَشُرُوطِهَا. فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ فِي مَنْزِلِ التَّوْبَةِ نَزَلَ بَعْدَهُ مَنْزِلَ الْإِنَابَةِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَأَثْنَى عَلَى خَلِيلِهِ بِهَا، فَقَالَ {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54] وَقَالَ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75] وَأَخْبَرَ أَنَّ آيَاتِهِ إِنَّمَا يَتَبَصَّرُ بِهَا وَيَتَذَكَّرُ أَهْلُ الْإِنَابَةِ، فَقَالَ {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [ق: 6] إِلَى أَنْ قَالَ {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8] وَقَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13] وَقَالَ تَعَالَى {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الروم: 31] الْآيَةَ " فَمُنِيبِينَ " مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي قَوْلِهِ " {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم: 30] " لِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، أَيْ أَقِمْ وَجْهَكَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] أَيْ فَطَرَهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ، فَلَوْ خُلُّوا وَفَطَرَهُمْ لَمَا عَدَلَتْ عَنِ الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهَا تَتَحَوَّلُ وَتَتَغَيَّرُ عَمَّا فُطِرَتْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى الْمِلَّةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ» وَقَالَ عَنْ نَبِيِّهِ دَاوُدَ {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] وَأَخْبَرَ

أَنَّ ثَوَابَهُ وَجَنَّتَهُ لِأَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ، فَقَالَ {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} [ق: 31] وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْبُشْرَى مِنْهُ إِنَّمَا هِيَ لِأَهْلِ الْإِنَابَةِ، فَقَالَ {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر: 17] . وَالْإِنَابَةُ إِنَابَتَانِ: إِنَابَةٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، وَهِيَ إِنَابَةُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا، يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 33] فَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ دَاعٍ أَصَابَهُ ضُرٌّ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَهَذِهِ الْإِنَابَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْإِسْلَامَ، بَلْ تُجَامِعُ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [الروم: 33] فَهَذَا حَالُهُمْ بَعْدَ إِنَابَتِهِمْ. وَالْإِنَابَةُ الثَّانِيَةُ إِنَابَةُ أَوْلِيَائِهِ، وَهِيَ إِنَابَةٌ لِإِلَهِيَّتِهِ، إِنَابَةَ عُبُودِيَّةٍ وَمَحَبَّةٍ. وَهِيَ تَتَضَمَّنُ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ: مَحَبَّتَهُ، وَالْخُضُوعَ لَهُ، وَالْإِقْبَالَ عَلَيْهِ، وَالْإِعْرَاضَ عَمَّا سِوَاهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ اسْمُ الْمُنِيبِ إِلَّا مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَرْبَعُ، وَتَفْسِيرُ السَّلَفِ لِهَذِهِ اللَّفْظَةِ يَدُورُ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي اللَّفْظَةِ مَعْنَى الْإِسْرَاعِ وَالرُّجُوعِ وَالتَّقَدُّمِ، وَالْمُنِيبُ إِلَى اللَّهِ الْمُسْرِعُ إِلَى مَرْضَاتِهِ، الرَّاجِعُ إِلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ، الْمُتَقَدِّمُ إِلَى مُحَابِّهِ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْإِنَابَةُ فِي اللُّغَةِ الرُّجُوعُ، وَهِيَ هَاهُنَا الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ. وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ إِصْلَاحًا، كَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ اعْتِذَارًا، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَفَاءً، كَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ عَهْدًا، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ حَالًا، كَمَا رَجَعْتَ إِلَيْهِ إِجَابَةً. لَمَّا كَانَ التَّائِبُ قَدْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ بِالِاعْتِذَارِ وَالْإِقْلَاعِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، كَانَ مِنْ تَتِمَّةِ ذَلِكَ رُجُوعُهُ إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ، وَالنُّصْحِ فِي طَاعَتِهِ، كَمَا قَالَ {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان: 70]

وَقَالَ {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [البقرة: 160] فَلَا تَنْفَعُ تَوْبَةٌ وَبَطَالَةٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْبَةٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، تَرْكٍ لِمَا يَكْرَهُ، وَفِعْلٍ لِمَا يُحِبُّ، تَخَلٍّ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَتَحَلٍّ بِطَاعَتِهِ. وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ، كَمَا رَجَعْتَ إِلَيْهِ عِنْدَ أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْكَ، فَرَجَعْتَ إِلَيْهِ بِالدُّخُولِ تَحْتَ عَهْدِهِ أَوَّلًا، فَعَلَيْكَ بِالرُّجُوعِ بِالْوَفَاءِ بِمَا عَاهَدْتَهُ عَلَيْهِ ثَانِيًا، وَالدِّينُ كُلُّهُ عَهْدٌ وَوَفَاءٌ، فَإِنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَهْدَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِطَاعَتِهِ، فَأَخَذَ عَهْدَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى لِسَانِ مَلَائِكَتِهِ، أَوْ مِنْهُ إِلَى الرَّسُولِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى، وَأَخَذَ عَهْدَهُ عَلَى الْأُمَمِ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ، وَأَخَذَ عَهْدَهُ عَلَى الْجُهَّالِ بِوَاسِطَةِ الْعُلَمَاءِ، فَأَخَذَ عَهْدَهُ عَلَى هَؤُلَاءِ بِالتَّعْلِيمِ، وَعَلَى هَؤُلَاءِ بِالتَّعَلُّمِ، وَمَدَحَ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِ، وَأَخْبَرَ بِمَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الْأَجْرِ، فَقَالَ {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] وَقَالَ {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] وَقَالَ {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] وَقَالَ {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177] . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ عُهُودَهُمْ مَعَ اللَّهِ بِالْوَفَاءِ لَهُ بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَعُهُودَهُمْ مَعَ الْخَلْقِ. وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ الْغَدْرَ بَعْدَ الْعَهْدِ» . فَمَا أَنَابَ إِلَى اللَّهِ مَنْ خَانَ عَهْدَهُ وَغَدَرَ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُنِبْ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ عَهْدِهِ، فَالْإِنَابَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْتِزَامِ الْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ حَالًا، كَمَا رَجَعْتَ إِلَيْهِ إِجَابَةً. أَيْ هُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ دَعَاكَ فَأَجَبْتَهُ بِلَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ قَوْلًا، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِجَابَةِ حَالًا تُصَدِّقُ بِهِ الْمَقَالَ، فَإِنَّ الْأَحْوَالَ تُصَدِّقُ الْأَقْوَالَ أَوْ تُكَذِّبُهَا، وَكُلُّ قَوْلٍ فَلِصِدْقِهِ وَكَذِبِهِ شَاهِدٌ

فصل الرجوع إلى الله

مِنْ حَالِ قَائِلِهِ، فَكَمَا رَجَعْتَ إِلَى اللَّهِ إِجَابَةً بِالْمَقَالِ، فَارْجِعْ إِلَيْهِ إِجَابَةً بِالْحَالِ، قَالَ الْحَسَنُ: ابْنَ آدَمَ؟ لَكَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَعَمَلُكَ أَوْلَى بِكَ مِنْ قَوْلِكَ، وَلَكَ سَرِيرَةٌ وَعَلَانِيَةٌ، وَسَرِيرَتُكَ أَمْلَكُ بِكَ مِنْ عَلَانِيَتِكَ. [فَصْلٌ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ] فَصْلٌ قَالَ: وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ إِصْلَاحًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِالْخُرُوجِ مِنَ التَّبِعَاتِ، وَالتَّوَجُّعِ لِلْعَثَرَاتِ، وَاسْتِدْرَاكِ الْفَائِتَاتِ. وَالْخُرُوجُ مِنَ التَّبِعَاتِ هُوَ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَيْهِ لِلْخَلْقِ. وَالتَّوَجُّعُ لِلْعَثَرَاتِ يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ: أَحَدَهُمَا: أَنْ يَتَوَجَّعَ لِعَثْرَتِهِ إِذَا عَثَرَ، فَيَتَوَجَّعُ قَلْبُهُ وَيَنْصَدِعُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِنَابَتِهِ إِلَى اللَّهِ، بِخِلَافِ مَنْ لَا يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ، وَلَا يَنْصَدِعُ مِنْ عَثْرَتِهِ، فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَلْبِهِ وَمَوْتِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَتَوَجَّعَ لِعَثْرَةِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ إِذَا عَثَرَ، حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي عَثَرَ بِهَا وَلَا يَشْمَتُ بِهِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى رِقَّةِ قَلْبِهِ وَإِنَابَتِهِ. وَاسْتِدْرَاكُ الْفَائِتَاتِ هُوَ اسْتِدْرَاكُ مَا فَاتَهُ مِنْ طَاعَةٍ وَقُرْبَةٍ بِأَمْثَالِهَا، أَوْ خَيْرٍ مِنْهَا وَلَاسِيَّمَا فِي بَقِيَّةِ عُمُرِهِ، عِنْدَ قُرْبِ رَحِيلِهِ إِلَى اللَّهِ، فَبَقِيَّةُ عُمُرِ الْمُؤْمِنِ لَا قِيمَةَ لَهَا. يَسْتَدْرِكُ بِهَا مَا فَاتَ، وَيُحْيِي بِهَا مَا أَمَاتَ. فَصْلٌ. قَالَ: وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ عَهْدًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِالْخَلَاصِ مِنْ لَذَّةِ الذَّنْبِ، وَبِتَرْكِ الِاسْتِهَانَةِ بِأَهْلِ الْغَفْلَةِ، تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ، مَعَ الرَّجَاءِ لِنَفْسِكَ، بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي رُؤْيَةِ عِلَّةِ الْخِدْمَةِ. إِذَا صَفَتْ لَهُ الْإِنَابَةُ إِلَى رَبِّهِ تَخَلَّصَ مِنَ الْفِكْرَةِ فِي لَذَّةِ الذَّنْبِ، وَعَادَ مَكَانَهَا أَلَمًا وَتَوَجُّعًا لِذَكَرِهِ، وَالْفِكْرَةِ فِيهِ، فَمَا دَامَتْ لَذَّةُ الْفِكْرَةِ فِيهِ مَوْجُودَةً فِي قَلْبِهِ، فَإِنَابَتُهُ غَيْرُ صَافِيَةٍ.

فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ الْحَالَيْنِ أَعْلَى؟ حَالُ مَنْ يَجِدُ لَذَّةَ الذَّنْبِ فِي قَلْبِهِ، فَهُوَ يُجَاهِدُهَا لِلَّهِ، وَيَتْرُكُهَا مِنْ خَوْفِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِجْلَالِهِ أَوْ حَالُ مَنْ مَاتَتْ لَذَّةُ الذَّنْبِ فِي قَلْبِهِ وَصَارَ مَكَانَهَا أَلَمًا وَتَوَجُّعًا وَطُمَأْنِينَةً إِلَى رَبِّهِ، وَسُكُونًا إِلَيْهِ، وَالْتِذَاذًا بِحُبِّهِ، وَتَنَعُّمًا بِذِكْرِهِ؟ . قِيلَ: حَالُ هَذَا أَكْمَلُ وَأَرْفَعُ، وَغَايَةُ صَاحِبِ الْمُجَاهَدَةِ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَقَامِ هَذَا وَمَنْزِلَتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتْلُوهُ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالْقُرْبِ وَمَنُوطٌ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ أَجْرُ مُجَاهِدَةِ صَاحِبِ اللَّذَّةِ، وَتَرْكِهِ مَحَابَّهُ لِلَّهِ، وَإِيثَارِهِ رِضَى اللَّهِ عَلَى هَوَاهُ؟ وَبِهَذَا كَانَ النَّوْعُ الْإِنْسَانِيُّ أَفْضَلَ مِنَ النَّوْعِ الْمَلَكِيِّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَكَانُوا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ. وَالْمُطْمَئِنُّ قَدِ اسْتَرَاحَ مِنْ أَلَمِ هَذِهِ الْمُجَاهَدَةِ وَعُوفِيَ مِنْهَا، فَبَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ مَا بَيْنَ دَرَجَةِ الْمُعَافَى وَالْمُبْتَلَى. قِيلَ: النَّفْسُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: الْأَمْرُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ اللَّوْمُ عَلَيْهِ وَالنَّدَمُ مِنْهُ، ثُمَّ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى رَبِّهَا وَالْإِقْبَالُ بِكُلِّيَّتِهَا عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْحَالُ أَعْلَى أَحْوَالِهَا، وَأَرْفَعُهَا وَهِيَ الَّتِي يُشَمِّرُ إِلَيْهَا الْمُجَاهِدُ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ ثَوَابِ مُجَاهَدَتِهِ وَصَبْرِهِ فَهُوَ لِتَشْمِيرِهِ إِلَى دَرَجَةِ الطُّمَأْنِينَةِ إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَاكِبِ الْقِفَارِ، وَالْمَهَامِهِ وَالْأَهْوَالِ لِيَصِلَ إِلَى الْبَيْتِ فَيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِرُؤْيَتِهِ وَالطَّوَافِ بِهِ، وَالْآخَرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ هُوَ مَشْغُولٌ بِهِ طَائِفًا وَقَائِمًا، وَرَاكِعًا وَسَاجِدًا، لَيْسَ لَهُ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا مَشْغُولٌ بِالْغَايَةِ، وَذَاكَ بِالْوَسِيلَةِ، وَكُلٌّ لَهُ أَجْرٌ، وَلَكِنْ بَيْنَ أَجْرِ الْغَايَاتِ وَأَجْرِ الْوَسَائِلِ بَوْنٌ. وَمَا يَحْصُلُ لِلْمُطْمَئِنِّ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْإِيمَانِ فَوْقَ مَا يَحْصُلُ لِهَذَا الْمُجَاهِدِ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ عَمَلًا، فَقَدْرُ عَمَلِ الْمُطْمَئِنِّ الْمُنِيبِ بِجُمْلَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ أَعْظَمُ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُجَاهِدُ أَكْثَرَ عَمَلًا، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، فَمَا سَبَقَ الصِّدِّيقُ الصَّحَابَةَ بِكَثْرَةِ عَمَلٍ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ صِيَامًا وَحَجًّا وَقِرَاءَةً وَصَلَاةً مِنْهُ، وَلَكِنْ بِأَمْرٍ آخَرَ قَامَ بِقَلْبِهِ، حَتَّى إِنَّ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ كَانَ يُسَابِقُهُ وَلَا يَرَاهُ إِلَّا أَمَامَهُ. وَلَكِنَّ عُبُودِيَّةَ مُجَاهِدِ نَفْسِهِ عَلَى لَذَّةِ الذَّنْبِ وَالشَّهْوَةِ قَدْ تَكُونُ أَشَقَّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ

فصل علامات الإنابة

مَشَقَّتِهَا تَفْضِيلُهَا فِي الدَّرَجَةِ، فَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالْجِهَادُ أَشَقُّ مِنْهُ وَهُوَ تَالِيهِ فِي الدَّرَجَةِ، وَدَرَجَةُ الصِّدِّيقِينَ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الْمُجَاهِدِينَ وَالشُّهَدَاءِ، وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الشُّهَدَاءَ فَقَالَ «إِنَّ أَكْثَرَ شُهَدَاءِ أُمَّتِي لَأَصْحَابُ الْفُرُشِ، وَرُبَّ قَتِيلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ» . [فَصْلٌ عَلَامَاتُ الْإِنَابَةِ] فَصْلٌ وَمِنْ عَلَامَاتِ الْإِنَابَةِ تَرْكُ الِاسْتِهَانَةِ بِأَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْخَوْفُ عَلَيْهِمْ، مَعَ فَتْحِكَ بَابَ الرَّجَاءِ لِنَفْسِكَ، فَتَرْجُو لِنَفْسِكَ الرَّحْمَةَ، وَتَخْشَى عَلَى أَهْلِ الْغَفْلَةِ النِّقْمَةَ، وَلَكِنِ ارْجُ لَهُمُ الرَّحْمَةَ، وَاخْشَ عَلَى نَفْسِكَ النِّقْمَةَ، فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ مُسْتَهِينًا بِهِمْ مَاقِتًا لَهُمْ لِانْكِشَافِ أَحْوَالِهِمْ لَكَ، وَرُؤْيَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَكُنْ لِنَفْسِكَ أَشَدَّ مَقْتًا مِنْكَ لَهُمْ، وَكُنْ أَرْجَى لَهُمْ لِرَحْمَةِ اللَّهِ مِنْكَ لِنَفْسِكَ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَنْ تَفْقَهَ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى تَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، ثُمَّ تَرْجِعَ إِلَى نَفْسِكَ فَتَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا. وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَفْقَهُ مَعْنَاهُ إِلَّا الْفَقِيهُ فِي دِينِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَنْ شَهِدَ حَقِيقَةَ الْخَلْقِ، وَعَجْزَهُمْ وَضَعْفَهُمْ وَتَقْصِيرَهُمْ، بَلْ تَفْرِيطَهُمْ، وَإِضَاعَتَهُمْ لِحَقِّ اللَّهِ، وَإِقْبَالَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ، وَبَيْعَهُمْ حَظَّهُمْ مِنَ اللَّهِ بِأَبْخَسِ الثَّمَنِ مِنْ هَذَا الْعَاجِلِ الْفَانِي لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ مَقْتِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُهُ غَيْرُ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَلَكِنْ إِذَا رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَحَالِهِ وَتَقْصِيرِهِ، وَكَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ لِنَفْسِهِ أَشَدَّ مَقْتًا وَاسْتِهَانَةً، فَهَذَا هُوَ الْفَقِيهُ. وَأَمَّا الِاسْتِقْصَاءُ فِي رُؤْيَةِ عِلَلِ الْخِدْمَةِ فَهُوَ التَّفْتِيشُ عَمَّا يَشُوبُهَا مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ، وَتَمْيِيزُ حَقِّ الرَّبِّ مِنْهَا مِنْ حَظِّ النَّفْسِ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَهَا أَوْ كُلَّهَا أَنْ تَكُونَ حَظًّا لِنَفْسِكَ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ. فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَمْ فِي النُّفُوسِ مِنْ عِلَلٍ وَأَغْرَاضٍ وَحُظُوظٍ تَمْنَعُ الْأَعْمَالَ أَنْ تَكُونَ

لِلَّهِ خَالِصَةً، وَأَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ؟ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْعَمَلَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ بَشَرٌ الْبَتَّةَ، وَهُوَ غَيْرُ خَالِصٍ لِلَّهِ، وَيَعْمَلُ الْعَمَلَ وَالْعُيُونُ قَدِ اسْتَدَارَتْ عَلَيْهِ نِطَاقًا، وَهُوَ خَالِصٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَلَا يُمَيِّزُ هَذَا إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ وَأَطِبَّاءُ الْقُلُوبِ الْعَالِمُونَ بِأَدْوَائِهَا وَعِلَلِهَا. فَبَيْنَ الْعَمَلِ وَبَيْنَ الْقَلْبِ مَسَافَةٌ، وَفِي تِلْكَ الْمَسَافَةِ قُطَّاعٌ تَمْنَعُ وَصُولَ الْعَمَلِ إِلَى الْقَلْبِ، فَيَكُونُ الرَّجُلُ كَثِيرَ الْعَمَلِ، وَمَا وَصَلَ مِنْهُ إِلَى قَلْبِهِ مَحَبَّةٌ وَلَا خَوْفٌ وَلَا رَجَاءٌ، وَلَا زُهْدٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا رَغْبَةٌ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا نُورٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ، وَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلَا قُوَّةٌ فِي أَمْرِهِ، فَلَوْ وَصَلَ أَثَرُ الْأَعْمَالِ إِلَى قَلْبِهِ لَاسْتَنَارَ وَأَشْرَقَ، وَرَأَى الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، وَمَيَّزَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ، وَأَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ الْمَزِيدَ مِنَ الْأَحْوَالِ. ثُمَّ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ الرَّبِّ مَسَافَةٌ، وَعَلَيْهَا قُطَّاعٌ تَمْنَعُ وَصُولَ الْعَمَلِ إِلَيْهِ، مِنْ كِبْرٍ وَإِعْجَابٍ وَإِدْلَالٍ، وَرُؤْيَةِ الْعَمَلِ، وَنِسْيَانِ الْمِنَّةِ، وَعِلَلٍ خَفِيَّةٍ لَوِ اسْتَقْصَى فِي طَلَبِهَا لَرَأَى الْعَجَبَ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى سَتْرُهَا عَلَى أَكْثَرِ الْعُمَّالِ، إِذْ لَوْ رَأَوْهَا وَعَايَنُوهَا لَوَقَعُوا فِيمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا، مِنَ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ وَالِاسْتِحْسَارِ، وَتَرْكِ الْعَمَلِ، وَخُمُودِ الْعَزْمِ، وَفُتُورِ الْهِمَّةِ، وَلِهَذَا لَمَّا ظَهَرَتْ " رِعَايَةُ " أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيِّ وَاشْتَغَلَ بِهَا الْعُبَّادُ عُطِّلَتْ مِنْهُمْ مَسَاجِدُ كَانُوا يَعْمُرُونَهَا بِالْعِبَادَةِ. وَالطَّبِيبُ الْحَاذِقُ يَعْلَمُ كَيْفَ يُطَبِّبُ النُّفُوسَ، فَلَا يَعْمُرُ قَصْرًا وَيَهْدِمُ مِصْرًا. فَصْلٌ. قَالَ: وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ حَالًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِالْإِيَاسِ مِنْ عَمَلِكَ، وَبِمُعَايَنَةِ اضْطِرَارِكَ، وَشَيْمِ بَرْقِ لُطْفِهِ بِكَ.

فصل منزلة التذكر

الْإِيَاسُ مِنَ الْعَمَلِ يُفَسَّرُ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ إِذَا نَظَرَ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْفَاعِلِ الْحَقِّ، وَالْمُحَرِّكِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا مَشِيئَتُهُ لَمَا كَانَ مِنْكَ فِعْلٌ، فَمَشِيئَتُهُ أَوْجَبَتْ فِعْلَكَ لَا مَشِيئَتَكَ بَقِيَ بِلَا فِعْلٍ. فَهَاهُنَا تَنْفَعُ مُشَاهَدَةُ الْقَدَرِ، وَالْفَنَاءُ عَنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَيْأَسَ مِنَ النَّجَاةِ بِعَمَلِكَ، وَتَرَى النَّجَاةَ إِنَّمَا هِيَ بِرَحْمَتِهِ تَعَالَى وَعَمَلِهِ وَفَضْلِهِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» فَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِبِدَايَةِ الْفِعْلِ، وَالثَّانِي بِغَايَتِهِ وَمَآلِهِ. وَأَمَّا مُعَايَنَةُ الِاضْطِرَارِ فَإِنَّهُ إِذَا أَيِسَ مِنْ عَمَلِهِ بِدَايَةً، وَأَيِسَ مِنَ النَّجَاةِ بِهِ نِهَايَةً، شَهِدَ بِهِ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْهُ ضَرُورَةً تَامَّةً إِلَيْهِ، وَلَيْسَتْ ضَرُورَتُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَحْدَهَا، بَلْ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَجِهَاتُ ضَرُورَتِهِ لَا تَنْحَصِرُ بِعَدَدٍ، وَلَا لَهَا سَبَبٌ، بَلْ هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ غَنِيٌّ بِالذَّاتِ، فَإِنَّ الْغِنَى وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلرَّبِّ، وَالْفَقْرَ وَالْحَاجَةَ وَالضَّرُورَةَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلْعَبْدِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدًا ... كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِيٌّ وَأَمَّا شَيْمُ بَرْقِ لُطْفِهِ بِكَ فَإِنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ لَهُ قُوَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ، وَأَيِسَ مِنْ عَمَلِهِ وَالنَّجَاةِ بِهِ، نَظَرَ إِلَى أَلْطَافِ اللَّهِ وَشَامَ بِرْقَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ فِيهِ وَمَا يَرْجُوهُ وَمَا تَقَدَّمَ لَهُ لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ بِهِ، وَمِنَّةٌ مَنَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَصَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ بِلَا سَبَبٍ مِنْهُ، إِذْ هُوَ الْمُحْسِنُ بِالسَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، وَالْأَمْرُ لَهُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّذَكُّرِ] [أَقْسَامُ النَّاسِ فِيهَا] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّذَكُّرِ ثُمَّ يَنْزِلُ الْقَلْبُ مَنْزِلَ التَّذَكُّرِ وَهُوَ قَرِينُ الْإِنَابَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13] وَقَالَ {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8] وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ أُولِي الْأَلْبَابِ،

كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19] وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269] . وَالتَّذَكُّرُ وَالتَّفَكُّرُ مَنْزِلَانِ يُثْمِرَانِ أَنْوَاعَ الْمَعَارِفِ، وَحَقَائِقَ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْعَارِفُ لَا يَزَالُ يَعُودُ بِتَفَكُّرِهِ عَلَى تَذَكُّرِهِ، وَبِتَذَكُّرِهِ عَلَى تَفَكُّرِهِ، حَتَّى يُفْتَحَ قُفْلُ قَلْبِهِ بِإِذْنِ الْفَتَّاحِ الْعَلِيمِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَعُودُونَ بِالتَّذَكُّرِ عَلَى التَّفَكُّرِ، وَبِالتَّفَكُّرِ عَلَى التَّذَكُّرِ، وَيُنَاطِقُونَ الْقُلُوبَ حَتَّى نَطَقَتْ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: التَّذَكُّرُ فَوْقَ التَّفَكُّرِ، لِأَنَّ التَّفَكُّرَ طَلَبٌ، وَالتَّذَكُّرَ وُجُودٌ. يُرِيدُ أَنَّ التَّفَكُّرَ الْتِمَاسُ الْغَايَاتِ مِنْ مَبَادِيهَا، كَمَا قَالَ: التَّفَكُّرُ تَلَمُّسُ الْبَصِيرَةِ لِاسْتِدْرَاكِ الْبُغْيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: التَّذَكُّرُ وُجُودٌ، فَلِأَنَّهُ يَكُونُ فِيمَا قَدْ حَصَلَ بِالتَّفَكُّرِ، ثُمَّ غَابَ عَنْهُ بِالنِّسْيَانِ، فَإِذَا تَذَكَّرَهُ وَجَدَهُ فَظَفِرَ بِهِ. وَالتَّذَكُّرُ تَفَعُّلٌ مِنَ الذِّكْرِ، وَهُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ، وَهُوَ حُضُورُ صُورَةِ الْمَذْكُورِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الْقَلْبِ، وَاخْتِيرَ لَهُ بِنَاءُ التَّفَعُّلِ لِحُصُولِهِ بَعْدَ مُهْلَةٍ وَتَدَرُّجٍ، كَالتَّبَصُّرِ وَالتَّفَهُّمِ وَالتَّعَلُّمِ. فَمَنْزِلَةُ التَّذَكُّرِ مِنَ التَّفَكُّرِ مَنْزِلَةُ حُصُولِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ التَّفْتِيشِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَتْ آيَاتُ اللَّهِ الْمَتْلُوَّةُ وَالْمَشْهُودَةُ ذِكْرَى، كَمَا قَالَ فِي الْمَتْلُوَّةِ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [غافر: 53] وَقَالَ عَنِ الْقُرْآنِ {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة: 48] وَقَالَ فِي آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 6] .

فَالتَّبْصِرَةُ آلَةُ الْبَصَرِ، وَالتَّذْكِرَةُ آلَةُ الذِّكْرِ، وَقَرَنَ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَهُمَا لِأَهْلِ الْإِنَابَةِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَنَابَ إِلَى اللَّهِ أَبْصَرَ مَوَاقِعَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرَ، فَاسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَا هِيَ آيَاتٌ لَهُ، فَزَالَ عَنْهُ الْإِعْرَاضُ بِالْإِنَابَةِ، وَالْعَمَى بِالتَّبْصِرَةِ، وَالْغَفْلَةُ بِالتَّذْكِرَةِ، لِأَنَّ التَّبْصِرَةَ تُوجِبُ لَهُ حُصُولَ صُورَةِ الْمَدْلُولِ فِي الْقَلْبِ بَعْدَ غَفْلَتِهِ عَنْهَا، فَتَرْتِيبُ الْمَنَازِلِ الثَّلَاثَةِ أَحْسَنُ تَرْتِيبٍ، ثُمَّ إِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَمُدُّ صَاحِبَهُ وَيُقَوِّيهِ وَيُثَمِّرُهُ. وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 36] . وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ قَلْبُهُ مَيِّتٌ، فَذَلِكَ الَّذِي لَا قَلْبَ لَهُ، فَهَذَا لَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ذِكْرَى فِي حَقِّهِ. الثَّانِي: رَجُلٌ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ مُسْتَعِدٌّ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَمِعٍ لِلْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ الَّتِي يُخْبِرُ بِهَا اللَّهُ عَنِ الْآيَاتِ الْمَشْهُودَةِ إِمَّا لِعَدَمِ وُرُودِهَا، أَوْ لِوُصُولِهَا إِلَيْهِ وَلَكِنَّ قَلْبَهُ مَشْغُولٌ عَنْهَا بِغَيْرِهَا، فَهُوَ غَائِبُ الْقَلْبِ، لَيْسَ حَاضِرًا، فَهَذَا أَيْضًا لَا تَحْصُلُ لَهُ الذِّكْرَى مَعَ اسْتِعْدَادِهِ وَوُجُودِ قَلْبِهِ. الثَّالِثُ: رَجُلٌ حَيُّ الْقَلْبِ مُسْتَعِدٌّ، تُلِيَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ، فَأَصْغَى بِسَمْعِهِ، وَأَلْقَى السَّمْعَ وَأَحْضَرَ قَلْبَهُ، وَلَمْ يَشْغَلْهُ بِغَيْرِ فَهْمِ مَا يَسْمَعُهُ، فَهُوَ شَاهِدُ الْقَلْبِ، مُلْقٍ السَّمْعَ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِالْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ وَالْمَشْهُودَةِ. فَالْأَوَّلُ: بِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ. وَالثَّانِي: بِمَنْزِلَةِ الْبَصِيرِ الطَّامِحِ بِبَصَرِهِ إِلَى غَيْرِ جِهَةِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ، فَكِلَاهُمَا لَا يَرَاهُ. وَالثَّالِثُ: بِمَنْزِلَةِ الْبَصِيرِ الَّذِي قَدْ حَدَّقَ إِلَى جِهَةِ الْمَنْظُورِ، وَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ، وَقَابَلَهُ عَلَى تَوَسُّطٍ مِنَ الْبُعْدِ وَالْقُرْبِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَرَاهُ. فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ كَلَامَهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَوْقِعُ " أَوْ " مِنْ هَذَا النَّظْمِ عَلَى مَا قَرَّرْتَ؟ قِيلَ: فِيهَا سِرٌّ لَطِيفٌ، وَلَسْنَا نَقُولُ: إِنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَمَا يَقُولُهُ ظَاهِرِيَّةُ النُّحَاةِ.

فَاعْلَمْ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ لَهُ قَلْبٌ وَقَّادٌ، مَلِيءٌ بِاسْتِخْرَاجِ الْعِبَرِ، وَاسْتِنْبَاطِ الْحِكَمِ، فَهَذَا قَلْبُهُ يُوقِعُهُ عَلَى التَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، فَإِذَا سَمِعَ الْآيَاتِ كَانَتْ لَهُ نُورًا عَلَى نُورٍ، وَهَؤُلَاءِ أَكْمَلُ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَعْظَمُهُمْ إِيمَانًا وَبَصِيرَةً، حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مُشَاهَدٌ لَهُمْ، لَكِنْ لَمْ يَشْعُرُوا بِتَفَاصِيلِهِ وَأَنْوَاعِهِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ مَثَلَ حَالِ الصِّدِّيقِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ دَخَلَا دَارًا، فَرَأَى أَحَدُهُمَا تَفَاصِيلَ مَا فِيهَا وَجُزْئِيَّاتِهِ، وَالْآخَرُ وَقَعَتْ يَدُهُ عَلَى مَا فِي الدَّارِ وَلَمْ يَرَ تَفَاصِيلَهُ وَلَا جُزْئِيَّاتِهِ، لَكِنْ عَلِمَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عَظِيمَةً، لَمْ يُدْرِكْ بَصَرُهُ تَفَاصِيلَهَا، ثُمَّ خَرَجَا، فَسَأَلَهُ عَمَّا رَأَى فِي الدَّارِ؟ فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخْبَرَهُ بِشَيْءٍ صَدَّقَهُ، لِمَا عِنْدَهُ مِنْ شَوَاهِدِهِ، وَهَذِهِ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّدِّيقِيَّةِ، وَلَا تَسْتَبْعِدْ أَنْ يَمُنَّ اللَّهُ الْمَنَّانُ عَلَى عَبْدٍ بِمِثْلِ هَذَا الْإِيمَانِ، فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرٍ وَلَا حُسْبَانٍ. فَصَاحِبُ هَذَا الْقَلْبِ إِذَا سَمِعَ الْآيَاتِ وَفِي قَلْبِهِ نُورٌ مِنَ الْبَصِيرَةِ ازْدَادَ بِهَا نُورًا إِلَى نُورِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ مِثْلُ هَذَا الْقَلْبِ فَأَلْقَى السَّمْعَ وَشَهِدَ قَلْبُهُ وَلَمْ يَغِبْ حَصَلَ لَهُ التَّذَكُّرُ أَيْضًا {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265] وَالْوَابِلُ وَالطَّلُّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ وَآثَارِهَا وَمُوجَبَاتِهَا. وَأَهْلُ الْجَنَّةِ سَابِقُونَ مُقَرَّبُونَ، وَأَصْحَابُ يَمِينٍ، وَبَيْنَهُمَا فِي دَرَجَاتِ التَّفْضِيلِ مَا بَيْنَهُمَا، حَتَّى إِنَّ شَرَابَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ الصِّرْفَ يَطِيبُ بِهِ شَرَابُ النَّوْعِ الْآخَرِ وَيُمْزَجُ بِهِ مَزْجًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6] فَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَرَى هَذَا، وَلَكِنَّ رُؤْيَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَهُ لَوْنٌ، وَرُؤْيَةَ غَيْرِهِمْ لَهُ لَوْنٌ آخَرُ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: أَبْنِيَةُ التَّذَكُّرِ ثَلَاثَةٌ: الِانْتِفَاعُ بِالْعِظَةِ، وَالِاسْتِبْصَارُ بِالْعِبْرَةِ، وَالظَّفَرُ بِثَمَرَةِ الْفِكْرَةِ. الِانْتِفَاعُ بِالْعِظَةِ: هُوَ أَنْ يَقْدَحَ فِي الْقَلْبِ قَادِحُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَيَتَحَرَّكَ لِلْعَمَلِ، طَلَبًا لِلْخَلَاصِ مِنَ الْخَوْفِ، وَرَغْبَةً فِي حُصُولِ الْمَرْجُوِّ. وَالْعِظَةُ هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، الْمَقْرُونُ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.

وَالْعِظَةُ نَوْعَانِ: عِظَةٌ بِالْمَسْمُوعِ، وَعِظَةٌ بِالْمَشْهُودِ، فَالْعِظَةُ بِالْمَسْمُوعِ الِانْتِفَاعُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِنَ الْهُدَى وَالرُّشْدِ، وَالنَّصَائِحِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ وَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِالْعِظَةِ مِنْ كُلِّ نَاصِحٍ وَمُرْشِدٍ فِي مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَالْعِظَةُ بِالْمَشْهُودِ الِانْتِفَاعُ بِمَا يَرَاهُ وَيَشْهَدُهُ فِي الْعَالَمِ مِنْ مَوَاقِعِ الْعِبَرِ، وَأَحْكَامِ الْقَدَرِ، وَمَجَارِيهِ، وَمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ. وَأَمَّا اسْتِبْصَارُ الْعِبْرَةِ فَهُوَ زِيَادَةُ الْبَصِيرَةِ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِ التَّفَكُّرِ بِقُوَّةِ الِاسْتِحْضَارِ، لِأَنَّ التَّذَكُّرَ يَعْتَقِلُ الْمَعَانِي الَّتِي حَصَلَتْ بِالتَّفَكُّرِ فِي مَوَاقِعِ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، فَهُوَ يَظْفَرُ بِهَا بِالتَّفَكُّرِ، وَتَنْصَقِلُ لَهُ وَتَنْجَلِي بِالتَّذَكُّرِ، فَيَقْوَى الْعَزْمُ عَلَى السَّيْرِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الِاسْتِبْصَارِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَحْدِيدَ النَّظَرِ فِيمَا يُحَرِّكُ الْمَطْلَبَ إِذِ الطَّلَبُ فَرْعُ الشُّعُورِ، فَكُلَّمَا قَوِيَ الشُّعُورُ بِالْمَحْبُوبِ اشْتَدَّ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، وَكُلَّمَا اشْتَغَلَ الْفِكْرُ بِهِ ازْدَادَ الشُّعُورُ بِهِ وَالْبَصِيرَةُ فِيهِ، وَالتَّذَكُّرُ لَهُ. وَأَمَّا الظَّفَرُ بِثَمَرَةِ الْفِكْرَةِ فَهَذَا مَوْضِعٌ لَطِيفٌ. وَلِلْفِكْرَةِ ثَمَرَتَانِ: حُصُولُ الْمَطْلُوبِ تَامًّا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَالْعَمَلُ بِمَوْجِبِهِ رِعَايَةً لِحَقِّهِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ حَالَ التَّفَكُّرِ كَانَ قَدْ كَلَّ بِأَعْمَالِهِ فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ، فَلَمَّا حَصَلَتْ لَهُ الْمَعَانِي وَتَخَمَّرَتْ فِي الْقَلْبِ، وَاسْتَرَاحَ الْعَقْلُ عَادَ فَتَذَكَّرَ مَا كَانَ حَصَّلَهُ وَطَالَعَهُ، فَابْتَهَجَ بِهِ وَفَرِحَ بِهِ، وَصَحَّحَ فِي هَذَا الْمَنْزِلِ مَا كَانَ فَاتَهُ فِي مَنْزِلِ التَّفَكُّرِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِ فِي مَقَامِ التَّذَكُّرِ، الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، فَأَخَذَ حِينَئِذٍ فِي الثَّمَرَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ مُرَاعَاةً لِحَقِّهِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ النَّافِعِ، الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ التَّفَكُّرِ. وَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ هَذَا بِمِثَالٍ حِسِّيٍّ. فَطَالِبُ الْمَالِ مَا دَامَ جَادًّا فِي طَلَبِهِ، فَهُوَ فِي كَلَالٍ وَتَعَبٍ، حَتَّى إِذَا ظَفِرَ بِهِ اسْتَرَاحَ مِنْ كَدِّ الطَّلَبِ، وَقَدِمَ مِنْ سَفَرِ التِّجَارَةِ، فَطَالَعَ مَا حَصَّلَهُ وَأَبْصَرَهُ، وَصَحَّحَ فِي هَذَا الْحَالِ مَا عَسَاهُ غَلِطَ فِيهِ فِي حَالِ اشْتِغَالِهِ بِالطَّلَبِ، فَإِذَا صَحَّ لَهُ وَبَرَدَتْ غَنِيمَتُهُ لَهُ أَخَذَ فِي صَرْفِ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ قَالَ: وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِالْعِظَةِ بَعْدَ حُصُولِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: شِدَّةِ الِافْتِقَارِ إِلَيْهَا، وَالْعَمَى عَنْ عَيْبِ الْوَاعِظِ، وَتَذَكُّرِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.

إِنَّمَا يَشْتَدُّ افْتِقَارُ الْعَبْدِ إِلَى الْعِظَةِ وَهِيَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ إِذَا ضَعُفَتْ إِنَابَتُهُ وَتَذَكُّرُهُ، وَإِلَّا فَمَتَى قَوِيَتْ إِنَابَتُهُ وَتَذَكُّرُهُ لَمْ تَشْتَدَّ حَاجَتُهُ إِلَى التَّذْكِيرِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَلَكِنْ تَكُونُ الْحَاجَةُ مِنْهُ شَدِيدَةً إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالْعِظَةُ يُرَادُ بِهَا أَمْرَانِ: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الْمَقْرُونَانِ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَنَفْسُ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ. فَالْمُنِيبُ الْمُتَذَكِّرُ شَدِيدُ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْمُعْرِضُ الْغَافِلُ شَدِيدُ الْحَاجَةِ إِلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْمُعَارِضُ الْمُتَكَبِّرُ شَدِيدُ الْحَاجَةِ إِلَى الْمُجَادَلَةِ فَجَاءَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي قَوْلِهِ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] أَطْلَقَ الْحِكْمَةَ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِوَصْفِ الْحَسَنَةِ، إِذْ كُلُّهَا حَسَنَةٌ، وَوَصْفُ الْحُسْنِ لَهَا ذَاتِيٌّ. وَأَمَّا الْمَوْعِظَةُ فَقَيَّدَهَا بِوَصْفِ الْإِحْسَانِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَوْعِظَةٍ حَسَنَةً. وَكَذَلِكَ الْجَدَلُ قَدْ يَكُونُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى حَالِ الْمُجَادِلِ وَغِلْظَتِهِ، وَلِينِهِ وَحِدَّتِهِ وَرِفْقِهِ، فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِمُجَادَلَتِهِمْ بِالْحَالِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَا يُجَادَلُ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، وَالْكَلِمَاتِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ شَيْءٍ وَأَبْيَنُهُ، وَأَدَلُّهُ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَأَوْصَلُهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنْوَاعِ الْقِيَاسَاتِ فَالْحِكْمَةُ

هِيَ طَرِيقَةُ الْبُرْهَانِ، وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ طَرِيقَةُ الْخَطَابَةِ، وَالْمُجَادَلَةُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ طَرِيقَةُ الْجَدَلِ، فَالْأَوَّلُ: بِذِكْرِ الْمُقَدِّمَاتِ الْبُرْهَانِيَّةِ لِمَنْ لَا يَرْضَى إِلَّا بِالْبُرْهَانِ، وَلَا يَنْقَادُ إِلَّا لَهُ، وَهُمْ خَوَاصُّ النَّاسِ، وَالثَّانِي: بِذِكْرِ الْمُقَدِّمَاتِ الْخَطَابِيَّةِ الَّتِي تُثِيرُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً لِمَنْ يَقْنَعُ بِالْخَطَابَةِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ، وَالثَّالِثُ: بِذِكْرِ الْمُقَدِّمَاتِ الْجَدَلِيَّةِ لِلْمُعَارِضِ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِالْجَدَلِ، وَهُمُ الْمُخَالِفُونَ فَتَنْزِيلُ الْقُرْآنِ عَلَى قَوَانِينِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ وَاصْطِلَاحِهِمْ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا، وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا اسْتِطْرَادًا لِذِكْرِ الْعِظَةِ، وَأَنَّ الْمُنِيبَ الْمُتَذَكِّرَ لَا تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ إِلَيْهَا كَحَاجَةِ الْغَافِلِ الْمُعْرِضِ، فَإِنَّهُ شَدِيدُ الْحَاجَّةِ جِدًّا إِلَى الْعِظَةِ لِيَتَذَكَّرَ مَا قَدْ نَسِيَهُ، فَيَنْتَفِعَ بِالتَّذَكُّرِ. وَأَمَّا الْعَمَى عَنْ عَيْبِ الْوَاعِظِ فَإِنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِهِ حُرِمَ الِانْتِفَاعَ بِمَوْعِظَتِهِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِكَلَامِ مَنْ لَا يَعْمَلُ بِعَمَلِهِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَصِفُ لَهُ الطَّبِيبُ دَوَاءً لِمَرَضٍ بِهِ مِثْلُهُ، وَالطَّبِيبُ مُعْرِضٌ عَنْهُ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِ، بَلِ الطَّبِيبُ الْمَذْكُورُ عِنْدَهُمْ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَذَا الْوَاعِظِ الْمُخَالِفِ لِمَا يَعِظُ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَقُومُ دَوَاءٌ آخَرُ عِنْدَهُ مَقَامَ هَذَا الدَّوَاءِ، وَقَدْ يَرَى أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى تَرْكِ التَّدَاوِي، وَقَدْ يَقْنَعُ بِعَمَلِ الطَّبِيعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِخِلَافِ هَذَا الْوَاعِظِ، فَإِنَّ مَا يَعِظُ بِهِ طَرِيقٌ مُعَيَّنٌ لِلنَّجَاةِ لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، وَلَا بُدَّ مِنْهَا، وَلِأَجْلِ هَذِهِ النُّفْرَةِ قَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْكَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَإِذَا أَمَرْتَ بِشَيْءٍ فَكُنْ أَوَّلَ الْفَاعِلِينَ لَهُ، الْمُؤْتَمِرِينَ بِهِ، وَإِذَا نَهَيْتَ عَنْ شَيْءٍ، فَكُنْ أَوَّلَ الْمُنْتَهِينَ عَنْهُ، وَقَدْ قِيلَ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ ... هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ؟ تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ مِنَ الضَّنَى ... وَمِنَ الضَّنَى تُمْسِي وَأَنْتَ سَقِيمُ لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَمِيمُ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ هُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى ... بِالْقَوْلِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ

فَالْعَمَى عَنْ عَيْبِ الْوَاعِظِ مِنْ شُرُوطِ تَمَامِ الِانْتِفَاعِ بِمَوْعِظَتِهِ. وَأَمَّا تَذَكُّرُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ خَشْيَتَهُ وَالْحَذَرَ مِنْهُ، وَلَا تَنْفَعُ الْمَوْعِظَةُ إِلَّا لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَخَافَهُ وَرَجَاهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} [هود: 103] وَقَالَ {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى: 10] وَقَالَ {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] فَالْإِيمَانُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَذِكْرُهُ: شَرْطٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْعِظَاتِ وَالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، يَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ بِدُونِهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا تُسْتَبْصَرُ الْعِبْرَةُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِحَيَاةِ الْعَقْلِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَيَّامِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْأَغْرَاضِ. إِنَّمَا تَتَمَيَّزُ الْعِبْرَةُ وَتُرَى وَتَتَحَقَّقُ بِحَيَاةِ الْعَقْلِ، وَالْعِبْرَةُ هِيَ الِاعْتِبَارُ، وَحَقِيقَتُهَا الْعُبُورُ مِنْ حُكْمِ الشَّيْءِ إِلَى حُكْمِ مِثْلِهِ، فَإِذَا رَأَى مَنْ قَدْ أَصَابَتْهُ مِحْنَةٌ وَبَلَاءٌ لِسَبَبٍ ارْتَكَبَهُ، عَلِمَ أَنَّ حُكْمَ مَنِ ارْتَكَبَ ذَلِكَ السَّبَبَ كَحُكْمِهِ. وَحَيَاةُ الْعَقْلِ هِيَ صِحَّةُ الْإِدْرَاكِ، وَقُوَّةُ الْفَهْمِ وَجَوْدَتُهُ، وَتَحَقُّقُ الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ وَالتَّضَرُّرِ بِهِ، وَهُوَ نُورٌ يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَبِحَسَبِ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي قُوَّةِ ذَلِكَ النُّورِ وَضَعْفِهِ وَوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ يَقَعُ تَفَاوُتُ أَذْهَانِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ وَإِدْرَاكَاتِهِمْ. وَنِسْبَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ كَنِسْبَةِ النُّورِ الْبَاصِرِ إِلَى الْعَيْنِ. وَمِنْ تَجْرِيبَاتِ السَّالِكِينَ الَّتِي جَرَّبُوهَا فَأَلْفَوْهَا صَحِيحَةً أَنَّ مَنْ أَدْمَنَ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْرَثَهُ ذَلِكَ حَيَاةَ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ. وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ شَدِيدَ اللَّهْجِ بِهَا جِدًّا، وَقَالَ لِي يَوْمًا: لِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ وَهُمَا الْحَيُّ الْقَيُّومُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي حَيَاةِ الْقَلْبِ، وَكَانَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمَا الِاسْمُ الْأَعْظَمُ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ وَاظَبَ عَلَى أَرْبَعِينَ مَرَّةً كُلَّ يَوْمٍ بَيْنَ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ حَصَلَتْ لَهُ حَيَاةُ الْقَلْبِ، وَلَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ.

وَمَنْ عَلِمَ عُبُودِيَّاتِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالدُّعَاءَ بِهَا، وَسِرَّ ارْتِبَاطِهَا بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَبِمَطَالِبِ الْعَبْدِ وَحَاجَاتِهِ عَرَفَ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَهُ، فَإِنَّ كُلَّ مَطْلُوبٍ يُسْأَلُ بِالْمُنَاسِبِ لَهُ، فَتَأَمَّلْ أَدْعِيَةَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ تَجِدْهَا كَذَلِكَ. وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْأَيَّامِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَيَّامَهُ الَّتِي تَخُصُّهُ، وَمَا يَلْحَقُهُ فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَيَعْلَمُ قِصَرَهَا، وَأَنَّهَا أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ مُنْصَرِمَةٌ، كُلُّ نَفَسٍ مِنْهَا يُقَابِلُهُ آلَافُ آلَافٍ مِنَ السِّنِينَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ، فَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ قَطُّ نِسْبَةٌ إِلَى أَيَّامِ الْبَقَاءِ، وَالْعَبْدُ مُنْسَاقٌ زَمَنَهُ، وَفِي مُدَّةِ الْعُمُرِ إِلَى النَّعِيمِ أَوْ إِلَى الْجَحِيمِ، وَهِيَ كَمُدَّةِ الْمَنَامِ لِمَنْ لَهُ عَقْلٌ حَيٌّ وَقَلْبٌ وَاعٍ، فَمَا أَوْلَاهُ أَنْ لَا يَصْرِفَ مِنْهَا نَفْسًا إِلَّا فِي أَحَبِّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ، فَلَوْ صَرَفَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَتَرَكَ الْأَحَبَّ لَكَانَ مُفَرِّطًا، فَكَيْفَ إِذَا صَرَفَهُ فِيمَا لَا يَنْفَعُهُ؟ فَكَيْفَ إِذَا صَرَفَهُ فِيمَا يَمْقُتُهُ عَلَيْهِ رَبُّهُ؟ فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَيَّامِ أَيَّامَ اللَّهِ الَّتِي أَمَرَ رُسُلَهُ بِتَذْكِيرِ أُمَمِهِمْ بِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5] وَقَدْ فُسِّرَتْ أَيَّامُ اللَّهِ بِنِعَمِهِ، وَفُسِّرَتْ بِنِقَمِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، فَالْأَوَّلُ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُجَاهِدٍ، وَالثَّانِي تَفْسِيرُ مُقَاتِلٍ. وَالصَّوَابُ أَنَّ أَيَّامَهُ تَعُمُّ النَّوْعَيْنِ، وَهِيَ وَقَائِعُهُ الَّتِي أَوْقَعَهَا بِأَعْدَائِهِ، وَنِعَمُهُ الَّتِي سَاقَهَا إِلَى أَوْلِيَائِهِ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ النِّعَمُ وَالنِّقَمُ الْكِبَارُ الْمُتَحَدَّثُ بِهَا أَيَّامًا لِأَنَّهَا ظَرْفٌ لَهَا، تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ عَالِمٌ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، أَيْ بِالْوَقَائِعِ الَّتِي كَانَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، فَمَعْرِفَةُ هَذِهِ الْأَيَّامِ تُوجِبُ لِلْعَبْدِ اسْتِبْصَارَ الْعِبَرِ، وَبِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ بِهَا تَكُونُ عِبْرَتُهُ وَعَظَمَتُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] . وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْأَغْرَاضِ، وَهِيَ مُتَابَعَةُ الْهَوَى وَالِانْقِيَادُ لِدَاعِي النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَطْمِسُ نُورَ الْعَقْلِ، وَيُعْمِي بَصِيرَةَ الْقَلْبِ، وَيَصُدُّ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَيُضِلُّ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَلَا تَحْصُلُ بَصِيرَةُ الْعِبْرَةِ مَعَهُ الْبَتَّةَ، وَالْعَبْدُ إِذَا اتَّبَعَ هَوَاهُ فَسَدَ رَأْيُهُ وَنَظَرُهُ، فَأَرَتْهُ نَفْسُهُ الْحَسَنَ فِي صُورَةِ الْقَبِيحِ، وَالْقَبِيحَ فِي

فصل تجتنى ثمرة الفكرة بثلاثة أشياء

صُورَةِ الْحَسَنِ، فَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، فَأَنَّى لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالتَّذَكُّرِ، أَوْ بِالتَّفَكُّرِ، أَوْ بِالْعِظَةِ؟ . [فَصْلٌ تُجْتَنَى ثَمَرَةُ الْفِكْرَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ] فَصْلٌ قَالَ: وَإِنَّمَا تُجْتَنَى ثَمَرَةُ الْفِكْرَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِقِصَرِ الْأَمَلِ، وَالتَّأَمُّلِ فِي الْقُرْآنِ، وَقِلَّةِ الْخُلْطَةِ وَالتَّمَنِّي وَالتَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَالشِّبَعِ وَالْمَنَامِ. يَعْنِي: أَنَّ فِي مَنْزِلِ التَّذَكُّرِ تُجْتَنَى ثَمَرَةُ الْفِكْرَةِ لِأَنَّهُ أَعْلَى مِنْهَا، وَكُلُّ مَقَامٍ تُجْتَنَى ثَمَرَتُهُ فِي الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، وَلَاسِيَّمَا عَلَى مَا قَرَّرَهُ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ أَنَّ كُلَّ مَقَامٍ يُصَحِّحُ مَا قَبْلَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الثَّمَرَةَ تُجْتَنَى بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، أَحَدُهَا: قِصَرُ الْأَمَلِ، وَالثَّانِي: تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ، وَالثَّالِثُ: تَجَنُّبُ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ الْخَمْسَةِ. فَأَمَّا قِصَرُ الْأَمَلِ: فَهُوَ الْعِلْمُ بِقُرْبِ الرَّحِيلِ، وَسُرْعَةِ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحَيَاةِ، وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ لِلْقَلْبِ، فَإِنَّهُ يَبْعَثُهُ عَلَى مُعَاصَفَةِ الْأَيَّامِ، وَانْتِهَازِ الْفُرَصِ الَّتِي تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، وَمُبَادَرَةِ طَيِّ صَحَائِفِ الْأَعْمَالِ، وَيُثِيرُ سَاكِنَ عَزَمَاتِهِ إِلَى دَارِ الْبَقَاءِ، وَيَحُثُّهُ عَلَى قَضَاءِ جِهَازِ سَفَرِهِ، وَتَدَارُكِ الْفَارِطِ، وَيُزَهِّدُهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُرَغِّبُهُ فِي الْآخِرَةِ، فَيَقُومُ بِقَلْبِهِ إِذَا دَاوَمَ مُطَالَعَةَ قِصَرِ الْأَمَلِ شَاهِدٌ مِنْ شَوَاهِدِ الْيَقِينِ، يُرِيدُ فَنَاءَ الدُّنْيَا، وَسُرْعَةَ انْقِضَائِهَا، وَقِلَّةَ مَا بَقِيَ مِنْهَا، وَأَنَّهَا قَدْ تَرَحَّلَتْ مُدْبِرَةً، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا، وَإِنَّهَا لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمٍ صَارَتْ شَمْسُهُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَيُرِيهِ بَقَاءَ الْآخِرَةِ وَدَوَامَهَا، وَأَنَّهَا قَدْ تَرَحَّلَتْ مُقْبِلَةً، وَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا وَعَلَامَاتُهَا، وَأَنَّهُ مِنْ لِقَائِهَا كَمُسَافِرٍ خَرَجَ صَاحِبُهُ يَتَلَقَّاهُ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسِيرُ إِلَى الْآخَرِ، فَيُوشِكُ أَنْ يَلْتَقِيَا سَرِيعًا. وَيَكْفِي فِي قِصَرِ الْأَمَلِ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ - ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ - مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 - 207] وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45] وَقَوْلُهُ تَعَالَى {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46]

فصل فوائد تدبر القرآن وتأمل معانيه

وَقَوْلُهُ تَعَالَى {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ - قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 113 - 114] وَقَوْلُهُ تَعَالَى {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35] وَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا - نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه: 103 - 104] وَخَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْمًا وَالشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَقَالَ «إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ» وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يُعَالِجُونَ خُصًّا لَهُمْ قَدْ وَهَى. فَهُمْ يُصْلِحُونَهُ، فَقَالَ «مَا هَذَا؟ قَالُوا: خُصٌّ لَنَا قَدْ وَهَى فَنَحْنُ نُعَالِجُهُ، فَقَالَ: مَا أَرَى الْأَمْرَ إِلَّا أَعْجَلَ مِنْ هَذَا» . وَقِصَرُ الْأَمَلِ بِنَاؤُهُ عَلَى أَمْرَيْنِ: تَيَقُّنِ زَوَالِ الدُّنْيَا وَمُفَارَقَتِهَا، وَتَيَقُّنِ لِقَاءِ الْآخِرَةِ وَبَقَائِهَا وَدَوَامِهَا، ثُمَّ يُقَايِسُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَيُؤْثِرُ أَوْلَاهُمَا بِالْإِيثَارِ. [فَصْلٌ فَوَائِدُ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَتَأَمُّلِ مَعَانِيهِ] فَصْلٌ وَأَمَّا التَّأَمُّلُ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ تَحْدِيقُ نَاظِرِ الْقَلْبِ إِلَى مَعَانِيهِ، وَجَمْعُ الْفِكْرِ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَتَعَقُّلِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِإِنْزَالِهِ، لَا مُجَرَّدُ تِلَاوَتِهِ بِلَا فَهْمٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] وَقَالَ تَعَالَى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] وَقَالَ تَعَالَى {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68] وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَ

الْقُرْآنُ لِيُتَدَبَّرَ وَيُعْمَلَ بِهِ. فَاتَّخِذُوا تِلَاوَتَهُ عَمَلًا. فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ، فَإِنَّهَا تُطْلِعُ الْعَبْدَ عَلَى مَعَالِمِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِحَذَافِيرِهِمَا، وَعَلَى طُرُقَاتِهِمَا وَأَسْبَابِهِمَا وَغَايَاتِهِمَا وَثَمَرَاتِهِمَا، وَمَآلِ أَهْلِهِمَا، وَتَتُلُّ فِي يَدِهِ مَفَاتِيحَ كُنُوزِ السَّعَادَةِ وَالْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَتُثَبِّتُ قَوَاعِدَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، وَتُشَيِّدُ بُنْيَانَهُ وَتُوَطِّدُ أَرْكَانَهُ، وَتُرِيهِ صُورَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي قَلْبِهِ، وَتُحْضِرُهُ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَتُرِيهِ أَيَّامَ اللَّهِ فِيهِمْ، وَتُبَصِّرُهُ مَوَاقِعَ الْعِبَرِ، وَتُشْهِدُهُ عَدْلَ اللَّهِ وَفَضْلَهُ، وَتُعَرِّفُهُ ذَاتَهُ، وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ، وَمَا يُحِبُّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ، وَصِرَاطَهُ الْمُوصِلَ إِلَيْهِ، وَمَا لِسَالِكِيهِ بَعْدَ الْوُصُولِ وَالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَقَوَاطِعَ الطَّرِيقِ وَآفَاتِهَا، وَتُعَرِّفُهُ النَّفْسَ وَصِفَاتِهَا، وَمُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ وَمُصَحِّحَاتِهَا وَتُعَرِّفُهُ طَرِيقَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَأَعْمَالَهُمْ، وَأَحْوَالَهُمْ وَسِيمَاهُمْ، وَمَرَاتِبَ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَأَقْسَامَ الْخَلْقِ وَاجْتِمَاعَهُمْ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، وَافْتِرَاقَهُمْ فِيمَا يَفْتَرِقُونَ فِيهِ. وَبِالْجُمْلَةِ تُعَرِّفُهُ الرَّبَّ الْمَدْعُوَّ إِلَيْهِ، وَطَرِيقَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَمَا لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ. وَتُعَرِّفُهُ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ ثَلَاثَةً أُخْرَى: مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ، وَالطَّرِيقَ الْمُوصِلَةَ إِلَيْهِ، وَمَا لِلْمُسْتَجِيبِ لِدَعْوَتِهِ مِنَ الْإِهَانَةِ وَالْعَذَابِ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ. فَهَذِهِ سِتَّةُ أُمُورٍ ضَرُورِيٌّ لِلْعَبْدِ مَعْرِفَتُهَا، وَمُشَاهَدَتُهَا وَمُطَالَعَتُهَا، فَتُشْهِدُهُ الْآخِرَةَ حَتَّى كَأَنَّهُ فِيهَا، وَتَغَيِّبُهُ عَنِ الدُّنْيَا حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا، وَتُمَيِّزُ لَهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعَالَمُ. فَتُرِيهِ الْحَقَّ حَقًّا، وَالْبَاطِلَ بَاطِلًا، وَتُعْطِيهِ فُرْقَانًا وَنُورًا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَتُعْطِيهِ قُوَّةً فِي قَلْبِهِ، وَحَيَاةً، وَسَعَةً وَانْشِرَاحًا وَبَهْجَةً وَسُرُورًا، فَيَصِيرُ فِي شَأْنٍ وَالنَّاسُ فِي شَأْنٍ آخَرَ. فَإِنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ دَائِرَةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ وَبَرَاهِينِهِ، وَالْعِلْمِ بِاللَّهِ وَمَا لَهُ مِنْ أَوْصَافِ الْكَمَالِ، وَمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ مِنْ سِمَاتِ النَّقْصِ، وَعَلَى الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ، وَذِكْرِ بَرَاهِينِ صِدْقِهِمْ، وَأَدِلَّةِ صِحَّةِ نُبُوَّتِهِمْ، وَالتَّعْرِيفِ بِحُقُوقِهِمْ، وَحُقُوقِ مُرْسِلِهِمْ، وَعَلَى الْإِيمَانِ بِمَلَائِكَتِهِ، وَهُمْ رُسُلُهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَتَدْبِيرِهِمُ الْأُمُورَ بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَمَا جُعِلُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْعَالَمِ

فصل آثار مفسدات القلب الخمسة

الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَمَا يَخْتَصُّ بِالنَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْهُمْ، مِنْ حِينِ يَسْتَقِرُّ فِي رَحِمِ أُمِّهِ إِلَى يَوْمِ يُوَافِي رَبَّهُ وَيَقْدَمُ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ دَارِ النَّعِيمِ الْمُطْلَقِ الَّتِي لَا يَشْعُرُونَ فِيهَا بِأَلَمٍ وَلَا نَكَدٍ وَتَنْغِيصٍ، وَمَا أَعَدَّ لِأَعْدَائِهِ مِنْ دَارِ الْعِقَابِ الْوَبِيلِ الَّتِي لَا يُخَالِطُهَا سُرُورٌ وَلَا رَخَاءٌ وَلَا رَاحَةٌ وَلَا فَرَحٌ. وَتَفَاصِيلِ ذَلِكَ أَتَمَّ تَفْصِيلٍ وَأَبْيَنَهُ، وَعَلَى تَفَاصِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالشَّرْعِ وَالْقَدَرِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ، وَالْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ، وَالْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ، وَالْمَبَادِئِ وَالْغَايَاتِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ. فَلَا تَزَالُ مَعَانِيهِ تُنْهِضُ الْعَبْدَ إِلَى رَبِّهِ بِالْوَعْدِ الْجَمِيلِ، وَتُحَذِّرُهُ وَتُخَوِّفُهُ بِوَعِيدِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْوَبِيلِ، وَتَحُثُّهُ عَلَى التَّضَمُّرِ وَالتَّخَفُّفِ لِلِقَاءِ الْيَوْمِ الثَّقِيلِ، وَتَهْدِيهِ فِي ظُلَمِ الْآرَاءِ وَالْمَذَاهِبِ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَتَصُدُّهُ عَنِ اقْتِحَامِ طُرُقِ الْبِدَعِ وَالْأَضَالِيلِ وَتَبْعَثُهُ عَلَى الِازْدِيَادِ مِنَ النِّعَمِ بِشُكْرِ رَبِّهِ الْجَلِيلِ، وَتُبَصِّرُهُ بِحُدُودِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَتُوقِفُهُ عَلَيْهَا لِئَلَّا يَتَعَدَّاهَا فَيَقَعَ فِي الْعَنَاءِ الطَّوِيلِ، وَتُثَبِّتُ قَلْبَهُ عَنِ الزَّيْغِ وَالْمَيْلِ عَنِ الْحَقِّ وَالتَّحْوِيلِ، وَتُسَهِّلُ عَلَيْهِ الْأُمُورَ الصِّعَابَ وَالْعَقَبَاتِ الشَّاقَّةَ غَايَةَ التَّسْهِيلِ، وَتُنَادِيهِ كُلَّمَا فَتَرَتْ عَزَمَاتُهُ وَوَنَى فِي سَيْرِهِ تَقَدَّمَ الرَّكْبُ وَفَاتَكَ الدَّلِيلُ، فَاللِّحَاقَ اللِّحَاقَ، وَالرَّحِيلَ الرَّحِيلَ، وَتَحْدُو بِهِ وَتَسِيرُ أَمَامَهُ سَيْرَ الدَّلِيلِ، وَكُلَّمَا خَرَجَ عَلَيْهِ كَمِينٌ مِنْ كَمَائِنِ الْعَدُوِّ، أَوْ قَاطِعٌ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ نَادَتْهُ: الْحَذَرَ الْحَذَرَ! فَاعْتَصِمْ بِاللَّهِ، وَاسْتَعِنْ بِهِ، وَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَفِي تَأَمُّلِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ، وَتَفَهُّمِهِ، أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أَعْظَمُ الْكُنُوزِ، طَلْسَمُهُ الْغَوْصُ بِالْفِكْرِ إِلَى قَرَارِ مَعَانِيهِ. نَزِّهْ فُؤَادَكَ عَنْ سِوَى رَوْضَاتِهِ ... فَرِيَاضُهُ حِلٌّ لِكُلِّ مُنَزَّهِ وَالْفَهْمُ طَلْسَمٌ لِكَنْزِ عُلُومِهِ ... فَاقْصِدْ إِلَى الطَّلْسَمِ تَحْظَ بِكَنْزِهِ لَا تَخْشَ مِنْ بِدَعٍ لَهُمْ وَحَوَادِثِ ... مَا دُمْتَ فِي كَنَفِ الْكِتَابِ وَحِرْزِهِ مَنْ كَانَ حَارِسَهُ الْكِتَابُ وَدِرْعَهُ ... لَمْ يَخْشَ مِنْ طَعْنِ الْعَدُوِّ وَوَخْزِهِ لَا تَخْشَ مِنْ شُبُهَاتِهِمْ وَاحْمِلْ إِذَا ... مَا قَابَلَتْكَ بِنَصْرِهِ وَبِعِزِّهِ وَاللَّهِ مَا هَابَ امْرُؤٌ شُبُهَاتِهِمْ ... إِلَّا لِضَعْفِ الْقَلْبِ مِنْهُ وَعَجْزِهِ يَا وَيْحَ تَيْسٍ ظَالِعٍ يَبْغِي مُسَا ... بَقَةَ الْهِزَبْرِ بِعَدْوِهِ وَبِجَمْزِهِ وَدُخَانِ زِبْلٍ يَرْتَقِي لِلشَّمْسِ يَسْ ... تُرُ عَيْنَهَا لَمَّا سَرَى فِي أَزِّهِ وَجَبَانِ قَلْبٍ أَعْزَلٍ قَدْ رَامَ يَأْسِ ... رُ فَارِسًا شَاكِي السِّلَاحِ بِهَزِّهِ [فَصْلٌ آثَارُ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ الْخَمْسَةِ] [الْمُفْسِدُ الْأَوَّلُ كَثْرَةُ الْخُلْطَةِ] فَصْلٌ ] وَأَمَّا مُفْسِدَاتُ الْقَلْبِ الْخَمْسَةُ فَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا: مِنْ كَثْرَةِ الْخُلْطَةِ وَالتَّمَنِّي،

وَالتَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَالشِّبَعِ، وَالْمَنَامِ، فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ مِنْ أَكْبَرِ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ. فَنَذْكُرُ آثَارَهَا الَّتِي اشْتَرَكَتْ فِيهَا، وَمَا تَمَيَّزَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا. اعْلَمْ أَنَّ الْقَلْبَ يَسِيرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَيَكْشِفُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَنَهْجِهِ، وَآفَاتِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، وَقِطَاعِ الطَّرِيقِ بِنُورِهِ وَحَيَاتِهِ وَقُوَّتِهِ، وَصِحَّتِهِ وَعَزْمِهِ، وَسَلَامَةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَغَيْبَةِ الشَّوَاغِلِ وَالْقَوَاطِعِ عَنْهُ، وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ تُطْفِئُ نُورَهُ، وَتُعْوِرُ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ، وَتُثْقِلُ سَمْعَهُ، إِنْ لَمْ تَصُمَّهُ وَتُبْكِمْهُ وَتُضْعِفُ قُوَاهُ كُلَّهَا، وَتُوهِنُ صِحَّتَهُ وَتُفَتِّرُ عَزِيمَتَهُ، وَتُوقِفُ هِمَّتَهُ، وَتُنْكِسُهُ إِلَى وَرَائِهِ، وَمَنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِهَذَا فَمَيِّتُ الْقَلْبِ، وَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامٌ، فَهِيَ عَائِقَةٌ لَهُ عَنْ نُبْلِ كَمَالِهِ. قَاطِعَةٌ لَهُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ. وَجُعِلَ نَعِيمُهُ وَسَعَادَتُهُ وَابْتِهَاجُهُ وَلَذَّتُهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ. فَإِنَّهُ لَا نَعِيمَ لَهُ وَلَا لَذَّةَ، وَلَا ابْتِهَاجَ، وَلَا كَمَالَ، إِلَّا بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ بِذِكْرِهِ، وَالْفَرَحِ وَالِابْتِهَاجِ بِقُرْبِهِ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، فَهَذِهِ جَنَّتُهُ الْعَاجِلَةُ، كَمَا أَنَّهُ لَا نَعِيمَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا فَوْزَ إِلَّا بِجِوَارِهِ فِي دَارِ النَّعِيمِ فِي الْجَنَّةِ الْآجِلَةِ، فَلَهُ جَنَّتَانِ لَا يَدْخُلُ الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا إِنْ لَمْ يَدْخُلِ الْأُولَى. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: إِنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّهُ لَيَمُرُّ بِالْقَلْبِ أَوْقَاتٌ، أَقُولُ: إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا، إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحِبِّينَ: مَسَاكِينُ أَهْلِ الدُّنْيَا خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا ذَاقُوا أَطْيَبَ مَا فِيهَا، قَالُوا: وَمَا أَطْيَبُ مَا فِيهَا؟ قَالَ: مَحَبَّةُ اللَّهِ، وَالْأُنْسُ بِهِ، وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُ أَوْ نَحْوُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ. وَكُلُّ مَنْ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ يَشْهَدُ هَذَا وَيَعْرِفُهُ ذَوْقًا. وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْخَمْسَةُ: قَاطِعَةٌ عَنْ هَذَا، حَائِلَةٌ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَهُ، عَائِقَةٌ لَهُ عَنْ سَيْرِهِ، وَمُحْدِثَةٌ لَهُ أَمْرَاضًا وَعِلَلًا إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهَا الْمَرِيضُ خِيفَ عَلَيْهِ مِنْهَا. فَأَمَّا مَا تُؤْثِرُهُ كَثْرَةُ الْخُلْطَةِ: فَامْتِلَاءُ الْقَلْبِ مِنْ دُخَانِ أَنْفَاسِ بَنِي آدَمَ حَتَّى يَسْوَدَّ، يُوجِبُ لَهُ تَشَتُّتًا وَتَفَرُّقًا، وَهَمًّا وَغَمًّا، وَضَعْفًا، وَحَمْلًا لِمَا يَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهِ مِنْ مُؤْنَةِ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَإِضَاعَةِ مَصَالِحِهِ، وَالِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِهِمْ وَبِأُمُورِهِمْ، وَتَقَسُّمِ فِكْرِهِ فِي أَوْدِيَةِ مَطَالِبِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ، فَمَاذَا يَبْقَى مِنْهُ لِلَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ؟ .

هَذَا، وَكَمْ جَلَبَتْ خُلْطَةُ النَّاسِ مِنْ نِقْمَةٍ، وَدَفَعَتْ مِنْ نِعْمَةٍ؟ وَأَنْزَلَتْ مِنْ مِحْنَةٍ، وَعَطَّلَتْ مِنْ مِنْحَةٍ، وَأَحَلَّتْ مِنْ رَزِيَّةٍ، وَأَوْقَعَتْ فِي بَلِيَّةٍ؟ وَهَلْ آفَةُ النَّاسِ إِلَّا النَّاسُ؟ وَهَلْ كَانَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الْوَفَاةِ أَضَرَّ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ؟ لَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تُوجِبُ لَهُ سَعَادَةَ الْأَبَدِ. وَهَذِهِ الْخُلْطَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى نَوْعِ مَوَدَّةٍ فِي الدُّنْيَا، وَقَضَاءِ وَطَرِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ تَنْقَلِبُ إِذَا حَقَّتِ الْحَقَائِقُ عَدَاوَةً، وَيَعَضُّ الْمُخْلِطُ عَلَيْهَا يَدَيْهِ نَدَمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا - يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا - لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان: 27 - 29] وَقَالَ تَعَالَى {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] وَقَالَ خَلِيلُهُ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25] وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُشْتَرِكِينَ فِي غَرَضٍ، يَتَوَادُّونَ مَا دَامُوا مُتَسَاعِدِينَ عَلَى حُصُولِهِ، فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ الْغَرَضُ، أَعْقَبَ نَدَامَةً وَحُزْنًا وَأَلَمًا، وَانْقَلَبَتْ تِلْكَ الْمَوَدَّةُ بُغْضًا وَلَعْنَةً، وَذَمًّا مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، لَمَّا انْقَلَبَ ذَلِكَ الْغَرَضُ حُزْنًا وَعَذَابًا، كَمَا يُشَاهَدُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي خِزْيِهِ، إِذَا أُخِذُوا وَعُوقِبُوا، فَكُلُّ مُتَسَاعِدِينَ عَلَى بَاطِلٍ، مُتَوَادِّينَ عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ تَنْقَلِبَ مَوَدَّتُهُمَا بُغْضًا وَعَدَاوَةً. وَالضَّابِطُ النَّافِعُ فِي أَمْرِ الْخُلْطَةِ أَنْ يُخَالِطَ النَّاسَ فِي الْخَيْرِ كَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَالْأَعْيَادِ وَالْحَجِّ، وَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ، وَالْجِهَادِ، وَالنَّصِيحَةِ وَيَعْتَزِلَهُمْ فِي الشَّرِّ، وَفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ، فَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى خُلْطَتِهِمْ فِي الشَّرِّ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ اعْتِزَالُهُمْ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَنْ يُوَافِقَهُمْ، وَلْيَصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْذُوهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ وَلَا نَاصِرٌ. وَلَكِنْ أَذًى يَعْقُبُهُ عِزٌّ وَمَحَبَّةٌ لَهُ وَتَعْظِيمٌ، وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَمُوَافَقَتُهُمْ يَعْقُبُهَا ذُلٌّ وَبُغْضٌ لَهُ، وَمَقْتٌ، وَذَمٌّ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَالصَّبْرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً، وَأَحْمَدُ مَآلًا، وَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى خُلْطَتِهِمْ فِي فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ، فَلْيَجْتَهِدْ أَنْ يَقْلِبَ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ طَاعَةً لِلَّهِ إِنْ أَمْكَنَهُ، وَيُشَجِّعَ نَفْسَهُ وَيُقَوِّيَ قَلْبَهُ، وَلَا يَلْتَفِتْ إِلَى الْوَارِدِ الشَّيْطَانِيِّ الْقَاطِعِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، بِأَنَّ هَذَا رِيَاءٌ

فصل المفسد الثاني من مفسدات القلب ركوبه بحر التمني

وَمَحَبَّةٌ لِإِظْهَارِ عِلْمِكَ وَحَالِكَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلْيُحَارِبْهُ، وَلْيَسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَيُؤَثِّرْ فِيهِمْ مِنَ الْخَيْرِ مَا أَمْكَنَهُ. فَإِنْ أَعْجَزَتْهُ الْمَقَادِيرُ عَنْ ذَلِكَ، فَلْيَسُلَّ قَلْبَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ كَسَلِّ الشَّعْرَةِ مِنَ الْعَجِينِ، وَلْيَكُنْ فِيهِمْ حَاضِرًا غَائِبًا، قَرِيبًا بَعِيدًا، نَائِمًا يَقْظَانًا، يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُبْصِرُهُمْ، وَيَسْمَعُ كَلَامَهُمْ وَلَا يَعِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ قَلْبَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَرَقَى بِهِ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، يَسْبَحُ حَوْلَ الْعَرْشِ مَعَ الْأَرْوَاحِ الْعُلْوِيَّةِ الزَّكِيَّةِ، وَمَا أَصْعَبَ هَذَا وَأَشَقَّهُ عَلَى النُّفُوسِ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَبَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَهُ أَنْ يَصْدُقَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَيُدِيمَ اللُّجْأَ إِلَيْهِ، وَيُلْقِيَ نَفْسَهُ عَلَى بَابِهِ طَرِيحًا ذَلِيلًا، وَلَا يُعِينُ عَلَى هَذَا إِلَّا مَحَبَّةٌ صَادِقَةٌ، وَالذِّكْرُ الدَّائِمُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَتَجَنُّبُ الْمُفْسِدَاتِ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَةِ الْآتِي ذِكْرُهَا، وَلَا يَنَالُ هَذَا إِلَّا بِعُدَّةٍ صَالِحَةٍ وَمَادَّةِ قُوَّةٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ، وَفَرَاغٍ مِنَ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْمُفْسِدُ الثَّانِي مِنْ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ رُكُوبُهُ بَحْرَ التَّمَنِّي] وَهُوَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَهُوَ الْبَحْرُ الَّذِي يَرْكَبُهُ مَفَالِيسُ الْعَالَمِ، كَمَا قِيلَ: إِنَّ الْمُنَى رَأَسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ. وَبِضَاعَةُ رُكَّابِهِ مَوَاعِيدُ الشَّيَاطِينِ، وَخَيَالَاتُ الْمُحَالِ وَالْبُهْتَانِ، فَلَا تَزَالُ أَمْوَاجُ الْأَمَانِي الْكَاذِبَةِ، وَالْخَيَالَاتُ الْبَاطِلَةُ، تَتَلَاعَبُ بِرَاكِبِهِ كَمَا تَتَلَاعَبُ الْكِلَابُ بِالْجِيفَةِ، وَهِيَ بِضَاعَةُ كُلِّ نَفْسٍ مَهِينَةٍ خَسِيسَةٍ سُفْلِيَّةٍ، لَيْسَتْ لَهَا هِمَّةٌ تَنَالُ بِهَا الْحَقَائِقَ الْخَارِجِيَّةَ، بَلِ اعْتَاضَتْ عَنْهَا بِالْأَمَانِي الذَّهَبِيَّةِ، وَكُلٌّ بِحَسَبِ حَالِهِ مِنْ مُتَمَنٍّ لِلْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَلِلضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالتَّطْوَافِ فِي الْبُلْدَانِ، أَوْ لِلْأَمْوَالِ وَالْأَثْمَانِ، أَوْ لِلنِّسْوَانِ وَالْمُرْدَانِ، فَيُمَثِّلُ الْمُتَمَنِّي صُورَةَ مَطْلُوبِهِ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ فَازَ بِوُصُولِهَا، وَالْتَذَّ بِالظَّفَرِ بِهَا، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ إِذِ اسْتَيْقَظَ فَإِذَا يَدُهُ وَالْحَصِيرُ. وَصَاحِبُ الْهِمَّةِ الْعَلِيَّةِ أَمَانِيهِ حَائِمَةٌ حَوْلَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ، وَيُدْنِيهِ مِنْ جِوَارِهِ. فَأَمَانِيُّ هَذَا إِيمَانٌ وَنُورٌ وَحِكْمَةٌ، وَأَمَانِيُّ أُولَئِكَ خُدَعٌ وَغُرُورٌ. وَقَدْ مَدَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَمَنِّي الْخَيْرِ، وَرُبَّمَا جَعَلَ أَجْرَهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ كَأَجْرِ فَاعِلِهِ، كَالْقَائِلِ: «لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ الَّذِي يَتَّقِي فِي مَالِهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ،

فصل المفسد الثالث من مفسدات القلب التعلق بغير الله تبارك تعالى

وَيُخْرِجُ مِنْهُ حَقَّهُ، وَقَالَ " هُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ» وَتَمَنَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَمَتَّعَ وَحَلَّ وَلَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، وَكَانَ قَدْ قَرَنَ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ ثَوَابَ الْقِرَانِ بِفِعْلِهِ، وَثَوَابَ التَّمَتُّعِ الَّذِي تَمَنَّاهُ بِأُمْنِيَتِهِ، فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الْأَجْرَيْنِ. [فَصْلٌ الْمُفْسِدُ الثَّالِثُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ التَّعَلُّقُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَبَارَكَ تَعَالَى] وَهَذَا أَعْظَمُ مُفْسِدَاتِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَضُرُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا أَقْطَعُ لَهُ عَنْ مَصَالِحِهِ وَسَعَادَتِهِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَخَذَلَهُ مِنْ جِهَةِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَفَاتَهُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتَعَلُّقِهِ بِغَيْرِهِ وَالْتِفَاتِهِ إِلَى سِوَاهُ، فَلَا عَلَى نَصِيبِهِ مِنَ اللَّهِ حَصَلَ، وَلَا إِلَى مَا أَمَّلَهُ مِمَّنْ تَعَلَّقَ بِهِ وَصَلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا - كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81 - 82] وَقَالَ تَعَالَى {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ - لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74 - 75] . فَأَعْظَمُ النَّاسِ خِذْلَانًا مَنْ تَعَلَّقَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَا فَاتَهُ مِنْ مَصَالِحِهِ وَسَعَادَتِهِ وَفَلَاحِهِ أَعْظَمُ مِمَّا حَصَلَ لَهُ مِمَّنْ تَعَلَّقَ بِهِ، وَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلزَّوَالِ وَالْفَوَاتِ. وَمَثَلُ الْمُتَعَلِّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ كَمَثَلِ الْمُسْتَظِلِّ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، وَأَوْهَنِ الْبُيُوتِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَأَسَاسُ الشِّرْكِ وَقَاعِدَتُهُ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا التَّعَلُّقُ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَلِصَاحِبِهِ الذَّمُّ وَالْخِذْلَانُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22] مَذْمُومًا لَا حَامِدَ لَكَ، مَخْذُولًا لَا نَاصِرَ لَكَ، إِذْ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسِ مَقْهُورًا مَحْمُودًا كَالَّذِي قُهِرَ بِبَاطِلٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَذْمُومًا مَنْصُورًا، كَالَّذِي قُهِرَ وَتُسُلِّطَ عَلَيْهِ بِبَاطِلٍ، وَقَدْ

فصل المفسد الرابع من مفسدات القلب الطعام

يَكُونُ مَحْمُودًا مَنْصُورًا كَالَّذِي تَمَكَّنَ وَمَلَكَ بِحَقٍّ، وَالْمُشْرِكُ الْمُتَعَلِّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ قِسْمُهُ أَرْدَأُ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، لَا مَحْمُودٌ وَلَا مَنْصُورٌ. [فَصْلٌ الْمُفْسِدُ الرَّابِعُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ الطَّعَامُ] وَالْمُفْسِدُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مَا يُفْسِدُهُ لِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ كَالْمُحَرَّمَاتِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: مُحَرَّمَاتٌ لِحَقِّ اللَّهِ، كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَذِي النَّابِ مِنَ السِّبَاعِ وَالْمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ، وَمُحَرَّمَاتٌ لِحَقِّ الْعِبَادِ، كَالْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ وَالْمَنْهُوبِ، وَمَا أُخِذَ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، إِمَّا قَهْرًا وَإِمَّا حَيَاءً وَتَذَمُّمًا. وَالثَّانِي: مَا يُفْسِدُهُ بِقَدْرِهِ وَتَعَدِّي حَدِّهِ، كَالْإِسْرَافِ فِي الْحَلَالِ، وَالشِّبَعِ الْمُفْرِطِ، فَإِنَّهُ يُثْقِلُهُ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَيَشْغَلُهُ بِمُزَاوَلَةِ مُؤْنَةِ الْبِطْنَةِ وَمُحَاوَلَتِهَا، حَتَّى يَظْفَرَ بِهَا، فَإِذَا ظَفِرَ بِهَا شَغَلَهُ بِمُزَاوَلَةِ تَصَرُّفِهَا وَوِقَايَةِ ضَرَرِهَا، وَالتَّأَذِّي بِثِقَلِهَا، وَقَوَّى عَلَيْهِ مَوَادَّ الشَّهْوَةِ، وَطُرُقَ مَجَارِي الشَّيْطَانِ وَوَسَّعَهَا، فَإِنَّهُ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، فَالصَّوْمُ يُضَيِّقُ مَجَارِيَهُ وَيَسُدُّ عَلَيْهِ طُرُقَهُ، وَالشِّبَعُ يَطْرُقُهَا وَيُوَسِّعُهَا، وَمَنْ أَكَلَ كَثِيرًا شَرِبَ كَثِيرًا، فَنَامَ كَثِيرًا، فَخَسِرَ كَثِيرًا، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» وَيُحْكَى أَنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ عَرَضَ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: هَلْ نِلْتَ مِنِّي شَيْئًا قَطُّ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنَّهُ قُدِّمَ إِلَيْكَ الطَّعَامُ لَيْلَةً فَشَهَّيْتُهُ إِلَيْكَ حَتَّى شَبِعْتَ مِنْهُ، فَنِمْتَ عَنْ وِرْدِكَ، فَقَالَ يَحْيَى: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَشْبَعَ مِنْ طَعَامٍ أَبَدًا، فَقَالَ إِبْلِيسُ: وَأَنَا، لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَنْصَحَ آدَمِيًّا أَبَدًا. [فَصْلٌ الْمُفْسِدُ الْخَامِسُ كَثْرَةُ النَّوْمِ] فَصْلٌ. الْمُفْسِدُ الْخَامِسُ: كَثْرَةُ النَّوْمِ. فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيُثَقِّلُ الْبَدَنَ، وَيُضِيعُ الْوَقْتَ، وَيُورِثُ كَثْرَةَ الْغَفْلَةِ وَالْكَسَلِ، وَمِنْهُ الْمَكْرُوهُ جِدًّا، وَمِنْهُ الضَّارُّ غَيْرُ النَّافِعِ لِلْبَدَنِ، وَأَنْفَعُ النَّوْمِ مَا كَانَ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَّةِ

فصل منزلة الاعتصام

إِلَيْهِ، وَنَوْمُ أَوَّلِ اللَّيْلِ أَحْمَدُ وَأَنْفَعُ مِنْ آخِرِهِ، وَنَوْمُ وَسَطِ النَّهَارِ أَنْفَعُ مِنْ طَرَفَيْهِ، وَكُلَّمَا قَرُبَ النَّوَمُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ قَلَّ نَفْعُهُ، وَكَثُرَ ضَرَرُهُ، وَلَاسِيَّمَا نَوْمُ الْعَصْرِ، وَالنَّوْمُ أَوَّلَ النَّهَارِ إِلَّا لِسَهْرَانَ. وَمِنَ الْمَكْرُوهِ عِنْدَهُمُ النَّوْمُ بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ وَقْتُ غَنِيمَةٍ، وَلِلسَّيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتَ عِنْدَ السَّالِكِينَ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، حَتَّى لَوْ سَارُوا طُولَ لَيْلِهِمْ لَمْ يَسْمَحُوا بِالْقُعُودِ عَنِ السَّيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ النَّهَارِ وَمِفْتَاحُهُ، وَوَقْتُ نُزُولِ الْأَرْزَاقِ، وَحُصُولِ الْقَسْمِ، وَحُلُولِ الْبَرَكَةِ، وَمِنْهُ يَنْشَأُ النَّهَارُ، وَيَنْسَحِبُ حُكْمُ جَمِيعِهِ عَلَى حُكْمِ تِلْكَ الْحِصَّةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَوْمُهَا كَنَوْمِ الْمُضْطَرِّ. وَبِالْجُمْلَةِ فَأَعْدَلُ النَّوْمِ وَأَنْفَعُهُ نَوْمُ نِصْفِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ، وَسُدُسِهِ الْأَخِيرِ، وَهُوَ مِقْدَارُ ثَمَانِ سَاعَاتٍ، وَهَذَا أَعْدَلُ النَّوْمِ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ أَثَّرَ عِنْدَهُمْ فِي الطَّبِيعَةِ انْحِرَافًا بِحَسَبِهِ. وَمِنَ النَّوْمِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ أَيْضًا النَّوْمُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، عَقِيبَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهَهُ. فَهُوَ مَكْرُوهٌ شَرْعًا وَطَبْعًا. وَكَمَا أَنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ مُورِثَةٌ لِهَذِهِ الْآفَاتِ، فَمُدَافَعَتُهُ وَهَجْرُهُ مُورِثٌ لِآفَاتٍ أُخْرَى عِظَامٍ: مِنْ سُوءِ الْمِزَاجِ وَيُبْسِهِ، وَانْحِرَافِ النَّفْسِ، وَجَفَافِ الرَّطُوبَاتِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْفَهْمِ وَالْعَمَلِ، وَيُورِثُ أَمْرَاضًا مُتْلِفَةً لَا يَنْتَفِعُ صَاحِبُهَا بِقَلْبِهِ وَلَا بَدَنِهِ مَعَهَا، وَمَا قَامَ الْوُجُودُ إِلَّا بِالْعَدْلِ، فَمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْ مَجَامِعِ الْخَيْرِ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الِاعْتِصَامِ] ثُمَّ يَنْزِلُ الْقَلْبُ مَنْزِلَ الِاعْتِصَامِ. وَهُوَ نَوْعَانِ: اعْتِصَامٌ بِاللَّهِ، وَاعْتِصَامٌ بِحَبْلِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وَقَالَ {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] . وَالِاعْتِصَامُ افْتِعَالٌ مِنَ الْعِصْمَةِ، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِمَا يَعْصِمُكَ، وَيَمْنَعُكَ مِنْ

الْمَحْذُورِ وَالْمَخُوفِ، فَالْعِصْمَةُ: الْحِمْيَةُ، وَالِاعْتِصَامُ: الِاحْتِمَاءُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْقِلَاعُ: الْعَوَاصِمَ، لِمَنْعِهَا وَحِمَايَتِهَا. وَمَدَارُ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ عَلَى الِاعْتِصَامِ بِاللَّهِ، وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهَاتَيْنِ الْعِصْمَتَيْنِ. فَأَمَّا الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِهِ فَإِنَّهُ يَعْصِمُ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَالِاعْتِصَامُ بِهِ يَعْصِمُ مِنَ الْهَلَكَةِ، فَإِنَّ السَّائِرَ إِلَى اللَّهِ كَالسَّائِرِ عَلَى طَرِيقٍ نَحْوَ مَقْصِدِهِ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى هِدَايَةِ الطَّرِيقِ، وَالسَّلَامَةِ فِيهَا، فَلَا يَصِلُ إِلَى مَقْصِدِهِ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَهُ، فَالدَّلِيلُ كَفِيلٌ بِعِصْمَتِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَأَنْ يَهْدِيَهُ إِلَى الطَّرِيقِ، وَالْعُدَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالسِّلَاحِ الَّتِي بِهَا تَحْصُلُ لَهُ السَّلَامَةُ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَآفَاتِهَا. فَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ يُوجِبُ لَهُ الْهِدَايَةَ وَاتِّبَاعَ الدَّلِيلِ، وَالِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ، يُوجِبُ لَهُ الْقُوَّةَ وَالْعُدَّةَ وَالسِّلَاحَ، وَالْمَادَّةَ الَّتِي يَسْتَلْئِمُ بِهَا فِي طَرِيقِهِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السَّلَفِ فِي الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ، بَعْدَ إِشَارَتِهِمْ كُلِّهِمْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَمَسَّكُوا بِدِينِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ الْجَمَاعَةُ، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَإِنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: بِعَهْدِ اللَّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: هُوَ الْقُرْآنُ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَعِصْمَةُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةُ مَنْ تَبِعَهُ» وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ «هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَلَا تَخْتَلِفُ بِهِ الْأَلْسُنُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ» .

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِأَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَا تَفَرَّقُوا كَمَا تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَفِي الْمُوَطَّأِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا، يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ هُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى طَاعَتِهِ، مُرَاقِبًا لِأَمْرِهِ. وَيُرِيدُ بِمُرَاقَبَةِ الْأَمْرِ الْقِيَامَ بِالطَّاعَةِ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهَا وَأَحَبَّهَا، لَا لِمُجَرَّدِ الْعَادَةِ، أَوْ لِعِلَّةٍ بَاعِثَةٍ سِوَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ فِي التَّقْوَى: هِيَ الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَتَرْكُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ. وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ وَالِاحْتِسَابُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: " «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا» " وَ " «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ» " فَالصِّيَامُ وَالْقِيَامُ: هُوَ الطَّاعَةُ وَالْإِيمَانُ: مُرَاقَبَةُ الْأَمْرِ. وَإِخْلَاصُ الْبَاعِثِ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ الْآمِرَ لَا شَيْءَ سِوَاهُ. وَالِاحْتِسَابُ: رَجَاءُ ثَوَابِ اللَّهِ. فَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ يَحْمِي مِنَ الْبِدْعَةِ وَآفَاتِ الْعَمَلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ. وَأَمَّا الِاعْتِصَامُ بِهِ فَهُوَ التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَالِامْتِنَاعُ بِهِ، وَالِاحْتِمَاءُ بِهِ، وَسُؤَالُهُ أَنْ

يَحْمِيَ الْعَبْدَ وَيَمْنَعَهُ، وَيَعْصِمَهُ وَيَدْفَعَ عَنْهُ، فَإِنَّ ثَمَرَةَ الِاعْتِصَامِ بِهِ هُوَ الدَّفْعُ عَنِ الْعَبْدِ، وَاللَّهُ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، فَيَدْفَعُ عَنْ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ إِذَا اعْتَصَمَ بِهِ كُلَّ سَبَبٍ يُفْضِي بِهِ إِلَى الْعَطَبِ، وَيَحْمِيهِ مِنْهُ، فَيَدْفَعُ عَنْهُ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَكَيْدَ عَدُوِّهِ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ، وَشَرَّ نَفْسِهِ، وَيَدْفَعُ عَنْهُ مُوجِبَ أَسْبَابِ الشَّرِّ بَعْدَ انْعِقَادِهَا، بِحَسَبِ قُوَّةِ الِاعْتِصَامِ بِهِ وَتَمَكُّنِهِ، فَتُفْقَدُ فِي حَقِّهِ أَسْبَابُ الْعَطَبِ، فَيَدْفَعُ عَنْهُ مُوجِبَاتِهَا وَمُسَبِّبَاتِهَا، وَيَدْفَعُ عَنْهُ قَدَرَهَ بِقَدَرِهِ، وَإِرَادَتَهُ بِإِرَادَتِهِ، وَيُعِيذُهُ بِهِ مِنْهُ. فَصْلٌ. وَأَمَّا صَاحِبُ الْمَنَازِلِ فَقَالَ: الِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ التَّرَقِّي عَنْ كُلِّ مَوْهُومٍ. الْمَوْهُومُ عِنْدَهُ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّرَقِّي عَنْهُ الصُّعُودُ مِنْ شُهُودِ نَفْعِهِ وَضُرِّهِ وَعَطَائِهِ وَمَنْعِهِ وَتَأْثِيرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَنَاءِ. وَمُرَادُهُ: الصُّعُودُ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى اللَّهِ إِلَى اللَّهِ. وَالْكَمَالُ فِي ذَلِكَ: الصُّعُودُ عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ إِلَى إِرَادَتِهِ. وَالِاتِّحَادِيُّ يُفَسِّرُهُ بِالصُّعُودِ عَنْ وُجُودِ مَا سِوَاهُ إِلَى وُجُودِهِ، بِحَيْثُ لَا يَرَى لِغَيْرِهِ وُجُودًا الْبَتَّةَ، وَيَرَى وُجُودَ كُلِّ مَوْجُودٍ هُوَ وُجُودُهُ، فَلَا وُجُودَ لِغَيْرِهِ إِلَّا فِي الْوَهْمِ الْكَاذِبِ عِنْدَهُ. قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: اعْتِصَامِ الْعَامَّةِ بِالْخَبَرِ، اسْتِسْلَامًا وَإِذْعَانًا، بِتَصْدِيقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَتَأْسِيسِ الْمُعَامَلَةِ عَلَى الْيَقِينِ وَالْإِنْصَافِ. يَعْنِي أَنَّ الْعَامَّةَ اعْتَصَمُوا بِالْخَبَرِ الْوَارِدِ عَنِ اللَّهِ، اسْتِسْلَامًا مِنْ غَيْرِ مُنَازَعَةٍ، بَلْ إِيمَانًا وَاسْتِسْلَامًا، وَانْقَادُوا إِلَى تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِذْعَانِ لَهُمَا، وَالتَّصْدِيقِ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَسَّسُوا مُعَامَلَتَهُمْ عَلَى الْيَقِينِ، لَا عَلَى الشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ، وَسُلُوكِ طَرِيقَةِ الِاحْتِيَاطِ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: زَعَمَ الْمُنَجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلَاهُمَا ... لَا تُبْعَثُ الْأَجْسَادُ قُلْتُ إِلَيْكُمَا إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمَا فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ ... أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا

هَذَا طَرِيقُ أَهْلِ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ يَقُومُونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ احْتِيَاطًا، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ لَا تُنْجِي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا تُحَصِّلُ لِصَاحِبِهَا السَّعَادَةَ، وَلَا تُوصِلُهُ إِلَى الْمَأْمَنِ. وَأَمَّا الْإِنْصَافُ الَّذِي أَسَّسُوا مُعَامَلَتَهُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ الْإِنْصَافُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلَّهِ وَلِخَلْقِهِ. فَأَمَّا الْإِنْصَافُ فِي مُعَامَلَةِ اللَّهِ فَأَنْ يُعْطِيَ الْعُبُودِيَّةَ حَقَّهَا، وَأَنْ لَا يُنَازِعَ رَبَّهُ صِفَاتِ إِلَهِيَّتِهِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِالْعَبْدِ وَلَا تَنْبَغِي لَهُ مِنَ الْعَظَمَةِ، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْجَبَرُوتِ. وَمِنْ إِنْصَافِهِ لِرَبِّهِ أَنْ لَا يَشْكُرَ سِوَاهُ عَلَى نِعَمِهِ وَيَنْسَاهُ، وَلَا يَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى مَعَاصِيهِ، وَلَا يَحْمَدَ عَلَى رِزْقِهِ غَيْرَهُ، وَلَا يَعْبُدَ سِوَاهُ، كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ: «إِنِّي وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ فِي نَبَإٍ عَظِيمٍ أَخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْرِي، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ سِوَايَ،» وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: «ابْنَ آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي، خَيْرِي إِلَيْكَ نَازِلٌ، وَشَرُّكَ إِلَيَّ صَاعِدٌ، أَتَحَبَّبُ إِلَيْكَ بِالنِّعَمِ، وَأَنَا عَنْكَ غَنِيٌّ، وَتَتَبَغَّضُ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِي وَأَنْتَ فَقِيرٌ إِلَيَّ، وَلَا يَزَالُ الْمَلَكُ الْكَرِيمُ يَعْرُجُ إِلَيَّ مِنْكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ،» وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: «يَا ابْنَ آدَمَ، مَا مِنْ يَوْمٍ جَدِيدٍ، إِلَّا يَأْتِيكَ مِنْ عِنْدِي رِزْقٌ جَدِيدٌ، وَتَأْتِي عَنْكَ الْمَلَائِكَةُ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ، تَأْكُلُ رِزْقِي وَتَعْصِينِي، وَتَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَكَ، وَتَسْأَلُنِي فَأُعْطِيكَ، وَأَنَا أَدْعُوكَ إِلَى جَنَّتِي فَتَأْبَى ذَلِكَ،» وَمَا هَذَا مِنَ الْإِنْصَافِ. وَأَمَّا الْإِنْصَافُ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ فَأَنْ يُعَامِلَهُمْ بِمِثْلِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوهُ بِهِ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ اعْتِصَامُ الْعَامَّةِ. هُوَ اعْتِصَامُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّ الشَّيْخَ مِمَّنْ رُفِعَ لَهُ عَلَمُ الْفَنَاءِ فَشَمَّرَ إِلَيْهِ، فَلَا تَأْخُذُهُ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يَرَى مَقَامًا أَجَلَّ مِنْهُ. فَصْلٌ. قَالَ: وَاعْتِصَامُ الْخَاصَّةِ بِالِانْقِطَاعِ، وَهُوَ صَوْنُ الْإِرَادَةِ قَبْضًا، وَإِسْبَالُ الْخُلُقِ

عَلَى الْخَلْقِ بَسْطًا، وَرَفْضُ الْعَلَائِقِ عَزْمًا، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى. يُرِيدُ انْقِطَاعَ النَّفْسِ عَنْ أَغْرَاضِهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، فَيَصُونُ إِرَادَتَهُ، وَيَقْبِضُهَا عَمَّا سِوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِحَالِ أَبِي يَزِيدَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ لَمَّا قِيلَ لَهُ: مَا تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ. الثَّانِي: إِسْبَالُ الْخُلُقِ عَلَى الْخَلْقِ بَسْطًا، وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّصَوُّفِ، فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ أَبُو

بَكْرٍ الْكَتَّانِيُّ: التَّصَوُّفُ خُلُقٌ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ زَادَ عَلَيْكَ فِي التَّصَوُّفِ. فَإِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ وَتَزْكِيَةَ النَّفْسِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ قَلْبِ صَاحِبِهِ، وَكَرَمِ نَفْسِهِ وَسَجِيَّتِهِ. وَفِي هَذَا الْوَصْفِ يَكُفُّ الْأَذَى، وَيَحْمِلُ الْأَذَى وَيُوجِدُ الرَّاحَةَ، وَيُدِيرُ خَدَّهُ الْأَيْسَرَ لِمَنْ لَطَمَ الْأَيْمَنَ، وَيُعْطِي رِدَاءَهُ لِمَنْ سَلَبَهُ قَمِيصَهُ، وَيَمْشِي مِيلَيْنِ مَعَ مَنْ سَخَّرَهُ مِيلًا، وَهَذَا عَلَامَةُ انْقِطَاعِهِ عَنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ وَأَغْرَاضِهَا. وَأَمَّا رَفْضُ الْعَلَائِقِ عَزْمًا فَهُوَ الْعَزْمُ التَّامُّ عَلَى رَفْضِ الْعَلَائِقِ، وَتَرْكِهَا فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ. وَالْأَصْلُ هُوَ قَطْعُ عَلَائِقِ الْبَاطِنِ، فَمَتَى قَطَعَهَا لَمْ تَضُرَّهُ عَلَائِقُ الظَّاهِرِ، فَمَتَى كَانَ الْمَالُ فِي يَدِكَ وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ لَمْ يَضُرَّكَ وَلَوْ كَثُرَ، وَمَتَى كَانَ فِي قَلْبِكَ ضَرَّكَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِكَ مِنْهُ شَيْءٌ. قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَيَكُونُ الرَّجُلُ زَاهِدًا، وَمَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ؟ قَالَ: نَعَمْ عَلَى شَرِيطَةِ أَلَّا يَفْرَحَ إِذَا زَادَتْ وَلَا يَحْزَنَ إِذَا نَقَصَتْ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ أَزْهَدَ الْأُمَّةِ مَعَ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَقِيلَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: أَيَكُونُ ذُو الْمَالِ زَاهِدًا؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ كَانَ إِذَا زِيدَ فِي مَالِهِ شَكَرَ، وَإِنْ نَقَصَ شَكَرَ وَصَبَرَ.

وَإِنَّمَا يُحْمَدُ قَطْعُ الْعَلَائِقِ الظَّاهِرَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ: حَيْثُ يَخَافُ مِنْهَا ضَرَرًا فِي دِينِهِ أَوْ حَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهَا مَصْلَحَةً رَاجِحَةً، وَالْكَمَالُ مِنْ ذَلِكَ قِطَعُ الْعَلَائِقِ الَّتِي تَصِيرُ كَلَالِيبَ عَلَى الصِّرَاطِ تَمْنَعُهُ مِنَ الْعُبُورِ، وَهِيَ كَلَالِيبُ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وَلَا يَضُرُّهُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ بَعْدَهَا. فَصْلٌ. قَالَ: وَاعْتِصَامُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ: بِالِاتِّصَالِ، وَهُوَ شُهُودُ الْحَقِّ تَفْرِيدًا، بَعْدَ الِاسْتِحْذَاءِ لَهُ تَعْظِيمًا، وَالِاشْتِغَالِ بِهِ قُرْبًا. لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الِانْقِطَاعُ مُوَصِّلًا إِلَى هَذَا الِاتِّصَالِ كَانَ ذَلِكَ لِلْمُتَوَسِّطِينَ، وَهَذَا عِنْدَهُ لِأَهْلِ الْوُصُولِ. وَيَعْنِي بِشُهُودِ الْحَقِّ تَفْرِيدًا أَنْ يَشْهَدَ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ مُنْفَرِدًا، وَلَا شَيْءَ مَعَهُ، وَذَلِكَ لِفَنَاءِ الشَّاهِدِ فِي الشُّهُودِ، وَالْحَوَالَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْقَوْمِ: عَلَى الْكَشْفِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَمَالٍ، وَأَنَّ الْكَمَالَ أَنْ يَفْنَى بِمُرَادِهِ عَنْ مُرَادِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا فَنَاؤُهُ بِشُهُودِهِ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَاهُ فَدُونَ هَذَا الْفَنَاءِ فِي الرُّتْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا قَوْلُهُ: بَعْدَ الِاسْتِحْذَاءِ لَهُ تَعْظِيمًا، فَالشَّيْخُ لِكَثْرَةِ لَهْجِهِ بِالِاسْتِعَارَاتِ عَبَّرَ عَنْ مَعْنًى لَطِيفٍ عَظِيمٍ بِلَفْظَةِ الِاسْتِحْذَاءِ الَّتِي هِيَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْمُحَاذَاةِ، وَهِيَ الْمُقَابَلَةُ الَّتِي لَا يَبْقَى فِيهَا جُزْءٌ مِنَ الْمُحَاذِي خَارِجًا عَمَّا حَاذَاهُ، بَلْ قَدْ وَاجَهَهُ وَقَابَلَهُ بِكُلِّيَّتِهِ وَجَمِيعِ أَجْزَائِهِ. وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ: الْقُرْبُ، وَارْتِفَاعُ الْوَسَائِطِ الْمَانِعَةِ مِنْهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَبْدَ يَقْرُبُ مِنْ رَبِّهِ، وَالرَّبَّ يَقْرُبُ مِنْ عَبْدِهِ، فَأَمَّا قُرْبُ الْعَبْدِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] وَقَوْلِهِ فِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا» وَكَقَوْلِهِ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا

أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي» ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ» وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالتَّكْبِيرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ فَقَالَ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ» . فَعَبَّرَ الشَّيْخُ عَنْ طَلَبِ الْقُرْبِ مِنْهُ، وَرَفْضِ الْوَسَائِطِ الْحَائِلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُرْبِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي لَا تَقَرُّ عُيُونُ عَابِدِيهِ وَأَوْلِيَائِهِ إِلَّا بِهِ بِالِاسْتِحْذَاءِ. وَحَقِيقَتُهُ مُوَافَاةُ الْعَبْدِ إِلَى حَضْرَتِهِ وَقُدَّامِهِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ، عَكْسُ حَالِ مَنْ نَبَذَهُ وَرَاءَهُ ظِهْرِيًّا، وَأَعْرَضَ عَنْهُ وَنَأَى بِجَانِبِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَلَّى الْمُطَاعَ ظَهْرَهُ، وَمَالَ بِشِقِّهِ عَنْهُ. وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ إِلَّا بِوُجُودِهِ وَذَوْقِهِ، وَأَحْسَنُ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعِبَارَةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَأَقْرَبُ عِبَارَاتِ الْقَوْمِ أَنَّهُ التَّقْرِيبُ بِرَفْعِ الْوَسَائِطِ الَّتِي بِارْتِفَاعِهَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ حَقِيقَةُ التَّعْظِيمِ، فَلِذَلِكَ قَالَ " الِاسْتِحْذَاءُ لَهُ تَعْظِيمًا ". وَمَنْ أَرَادَ فَهْمَ هَذَا كَمَا يَنْبَغِي فَعَلَيْهِ بِفَهْمِ اسْمِهِ تَعَالَى الْبَاطِنِ وَفَهْمِ اسْمِهِ الْقَرِيبِ مَعَ امْتِلَاءِ الْقَلْبِ بِحُبِّهِ، وَلَهْجِ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ، وَمِنْ هَاهُنَا يُؤْخَذُ الْعَبْدُ إِلَى الْفَنَاءِ الَّذِي كَانَ مُشَمِّرًا إِلَيْهِ، عَامِلًا عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ مُشَمِّرًا إِلَى الْفَنَاءِ الْمُتَوَسِّطِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى، لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ شُهُودٌ لِغَيْرِهِ الْبَتَّةَ، بَلْ تَضْمَحِلُّ الرُّسُومُ وَتَفْنَى الْإِشَارَاتُ، وَيَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ

فصل منزلة الفرار

يَزَلْ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يُجِيبُ دَاعِيَ الْفَنَاءِ طَوْعًا وَرَغْبَةً لَا كَرْهًا، لِأَنَّ هَذَا الْمَقَامَ امْتَزَجَ فِيهِ الْحُبُّ بِالتَّعْظِيمِ مَعَ الْقُرْبِ، وَهُوَ مُنْتَهَى سَفَرِ الطَّالِبِينَ لِمَقَامِ الْفَنَاءِ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُشَمِّرًا لِلْفَنَاءِ الْعَالِي، وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ مُرَادٌ يُزَاحِمُ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ الشَّرْعِيَّ النَّبَوِيَّ الْقُرْآنِيَّ، بَلْ يَتَّحِدُ الْمُرَادَانِ فَيَصِيرُ عَيْنُ مُرَادِ الرَّبِّ هُوَ مُرَادَ الْعَبْدِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ، وَفِيهَا يَكُونُ الِاتِّحَادُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الِاتِّحَادُ فِي الْمُرَادِ، لَا فِي الْمُرِيدِ، وَلَا فِي الْإِرَادَةِ. فَتَدَبَّرْ هَذَا الْفُرْقَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي طَالَمَا زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامُ السَّالِكِينَ، وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامُ الْوَاجِدِينَ. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ حَقِيقَةٌ: يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ إِرَادَةً وَإِيثَارًا، وَمَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا، وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَتَوَكُّلًا، وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ، وَفِيهِ تَرْتَفِعُ الْوَسَائِطُ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ حَقِيقَةً وَيَحْصُلُ لَهُ الِاسْتِحْذَاءُ الْمَذْكُورُ مَقْرُونًا بِغَايَةِ الْحُبِّ، وَغَايَةِ التَّعْظِيمِ. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يُجِيبُ دَاعِي الْفَنَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا لَا كَرْهًا، بَلْ يَنْجَذِبُ إِلَيْهِ انْجِذَابَ قَلْبِ الْمُحِبِّ وَرُوحِهِ، الَّذِي قَدْ مَلَأَتِ الْمَحَبَّةُ قَلْبَهُ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ جُزْءٌ فَارِغٌ مِنْهَا إِلَى مَحْبُوبِهِ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مَحْبُوبٍ، وَأَجَلُّهُ وَأَحَقُّهُ بِالْحُبِّ. وَهَذَا الْفَنَاءُ أَوْجَبَهُ الْحُبُّ الْكَامِلُ الْمُمْتَزِجُ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْقُرْبِ، وَمَحْوِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْقَلْبِ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِي الْقَلْبِ إِلَّا الْمَحْبُوبُ وَمُرَادُهُ وَهَذَا حَقِيقَةُ الِاعْتِصَامِ بِهِ وَبِحَبْلِهِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالِاشْتِغَالُ بِهِ قُرْبًا، أَيْ يَشْغَلُهُ قُرْبُ الْحَقِّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْقُرْبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَرِيبَ مِنَ السُّلْطَانِ جِدًّا، الْمُقْبِلَ عَلَيْهِ، الْمُكَلِّمَ لَهُ لَا يَشْتَغِلُ بِشَيْءٍ الْبَتَّةَ؟ فَعَلَى قَدْرِ الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ يَكُونُ اشْتِغَالُ الْعَبْدِ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفِرَارِ] وَمِنْ مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: مَنْزِلَةُ الْفِرَارِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] وَحَقِيقَةُ الْفِرَارِ: الْهَرَبُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ: فِرَارُ السُّعَدَاءِ، وَفِرَارُ الْأَشْقِيَاءِ.

فَفِرَارُ السُّعَدَاءِ: الْفِرَارُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِرَارُ الْأَشْقِيَاءِ: الْفِرَارُ مِنْهُ لَا إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْفِرَارُ مِنْهُ إِلَيْهِ فَفِرَارُ أَوْلِيَائِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] : فِرُّوا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ، وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فِرُّوا مِمَّا سِوَى اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: اهْرُبُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَى ثَوَابِهِ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: هُوَ الْهَرَبُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ إِلَى مَنْ لَمْ يَزَلْ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: فِرَارُ الْعَامَّةِ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ عَقْدًا وَسَعْيًا، وَمِنَ الْكَسَلِ إِلَى التَّشْمِيرِ جِدًّا وَعَزْمًا، وَمِنَ الضِّيقِ إِلَى السَّعَةِ ثِقَةً وَرَجَاءً. يُرِيدُ بِ " مَا لَمْ يَكُنْ " الْخَلْقَ، وَبِ " مَا لَمْ يَزَلْ " الْحَقَّ. وَقَوْلُهُ: فِرَارُ الْعَامَّةِ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ عَقْدًا وَسَعْيًا. الْجَهْلُ نَوْعَانِ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ النَّافِعِ، وَعَدَمُ الْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ وَمُقْتَضَاهُ، فَكِلَاهُمَا جَهْلٌ لُغَةً وَعُرْفًا وَشَرْعًا وَحَقِيقَةً، قَالَ مُوسَى {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] لَمَّا قَالَ لَهُ قَوْمُهُ {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67] أَيْ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَقَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] أَيْ مِنْ مُرْتَكِبِي مَا حَرَّمْتَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] قَالَ قَتَادَةُ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كُلَّ مَا عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا وَسُمِّيَ عَدَمُ مُرَاعَاةِ الْعِلْمِ جَهْلًا، إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ، فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْجَهْلِ، وَإِمَّا لِجَهْلِهِ بِسُوءِ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُ فِعْلِهِ. فَالْفِرَارُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْفِرَارُ مِنَ الْجَهْلَيْنِ: مِنَ الْجَهْلِ بِالْعِلْمِ إِلَى تَحْصِيلِهِ، اعْتِقَادًا وَمَعْرِفَةً وَبَصِيرَةً، وَمِنْ جَهْلِ الْعَمَلِ إِلَى السَّعْيِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ قَصْدًا وَسَعْيًا.

قَوْلُهُ: وَمِنَ الْكَسَلِ إِلَى التَّشْمِيرِ جِدًّا وَعَزْمًا. أَيْ يَفِرُّ مِنْ إِجَابَةِ دَاعِي الْكَسَلِ إِلَى دَاعِي الْعَمَلِ وَالتَّشْمِيرِ بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ. وَالْجِدُّ هَاهُنَا هُوَ صِدْقُ الْعَمَلِ، وَإِخْلَاصُهُ مِنْ شَوَائِبِ الْفُتُورِ، وَوُعُودِ التَّسْوِيفِ وَالتَّهَاوُنِ، وَهُوَ تَحْتَ السِّينِ وَسَوْفَ، وَعَسَى، وَلَعَلَّ، فَهِيَ أَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْعَبْدِ، وَهِيَ شَجَرَةٌ ثَمَرُهَا الْخُسْرَانُ وَالنَّدَامَاتُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجِدِّ وَالْعَزْمِ أَنَّ الْعَزْمَ صِدْقُ الْإِرَادَةِ وَاسْتِجْمَاعُهَا، وَالْجِدَّ صِدْقُ الْعَمَلِ وَبَذْلُ الْجُهْدِ فِيهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَلَقِّي أَوَامِرِهِ بِالْعَزْمِ وَالْجِدِّ، فَقَالَ {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] وَقَالَ {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 145] وَقَالَ {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] أَيْ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ وَعَزْمٍ، لَا كَمَنْ يَأْخُذُ مَا أُمِرَ بِهِ بِتَرَدُّدٍ وَفُتُورٍ. وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الضِّيقِ إِلَى السَّعَةِ ثِقَةً وَرَجَاءً. يُرِيدُ هُرُوبَ الْعَبْدِ مِنْ ضِيقِ صَدْرِهِ بِالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْمَخَاوِفِ الَّتِي تَعْتَرِيهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ نَفْسِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِ مَصَالِحِهِ، وَمَصَالِحِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ وَأَهْلِهِ وَعَدُوِّهِ، يَهْرُبُ مِنْ ضِيقِ صَدْرِهِ بِذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى سَعَةِ فَضَاءِ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَصِدْقِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَحُسْنِ الرَّجَاءِ لِجَمِيلِ صُنْعِهِ بِهِ، وَتَوَقُّعِ الْمَرْجُوِّ مِنْ لُطْفِهِ وَبِرِّهِ، وَمِنْ أَحْسَنِ كَلَامِ الْعَامَّةِ قَوْلُهُمْ: لَا هَمَّ مَعَ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2] قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَخْرَجًا مِنْ كُلِّ شِدَّةٍ، وَهَذَا جَامِعٌ لِشَدَائِدِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَضَايِقِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لِلْمُتَّقِي مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَخْرَجًا، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَخْرَجًا مِمَّا نَهَاهُ عَنْهُ، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أَيْ كَافِي مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي نَوَائِبِهِ وَمُهِمَّاتِهِ، يَكْفِيهِ كُلَّ مَا أَهَمَّهُ، وَالْحَسْبُ الْكَافِي {حَسْبُنَا اللَّهُ} [آل عمران: 173] كَافِينَا اللَّهُ.

وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ حَسَنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ، حَسَنَ الرَّجَاءِ لَهُ، صَادِقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخَيِّبُ أَمَلَهُ فِيهِ الْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُخَيِّبُ أَمَلَ آمِلٍ، وَلَا يُضَيِّعُ عَمَلَ عَامِلٍ، وَعَبَّرَ عَنِ الثِّقَةِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِالسَّعَةِ، فَإِنَّهُ لَا أَشْرَحَ لِلصَّدْرِ، وَلَا أَوْسَعَ لَهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنْ ثِقَتِهِ بِاللَّهِ وَرَجَائِهِ لَهُ وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِ. فَصْلٌ. قَالَ: وَفِرَارُ الْخَاصَّةِ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الشُّهُودِ، وَمِنَ الرُّسُومِ إِلَى الْأُصُولِ، وَمِنَ الْحُظُوظِ إِلَى التَّجْرِيدِ. يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُمْ عَنْ مُجَرَّدِ خَبَرٍ، حَتَّى يَتَرَقَّوْا مِنْهُ إِلَى مُشَاهَدَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، فَيَطْلُبُونَ التَّرَقِّيَ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ بِالْخَبَرِ، إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ بِالشُّهُودِ كَمَا طَلَبَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ رَبِّهِ إِذْ قَالَ {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] فَطَلَبَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يَكُونَ الْيَقِينُ عِيَانًا، وَالْمَعْلُومُ مُشَاهَدًا، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّكِّ فِي قَوْلِهِ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» حَيْثُ قَالَ {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشُكَّ وَلَا إِبْرَاهِيمُ، حَاشَاهُمَا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ. هَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْحَدِيثِ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ: أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ النَّفْيِ، أَيْ لَمْ يَشُكَّ إِبْرَاهِيمُ حَيْثُ قَالَ مَا قَالَ، وَلَمْ نَشُكَّ نَحْنُ، وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ أَيْضًا أَيْ لَوْ كَانَ مَا طَلَبَهُ لِلشَّكِّ لَكُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ، لَكِنْ لَمْ يَطْلُبْ مَا طَلَبَ شَكًّا، وَإِنَّمَا طَلَبَ مَا طَلَبَهُ طُمَأْنِينَةً. فَالْمَرَاتِبُ ثَلَاثٌ، عِلْمُ يَقِينٍ يَحْصُلُ عَنِ الْخَبَرِ، ثُمَّ تَتَجَلَّى حَقِيقَةُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ لِلْقَلْبِ أَوِ الْبَصَرِ، حَتَّى يَصِيرَ الْعِلْمُ بِهِ عَيْنَ يَقِينٍ، ثُمَّ يُبَاشِرُهُ وَيُلَابِسُهُ فَيَصِيرُ حَقَّ يَقِينٍ، فَعِلْمُنَا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْآنَ عِلْمُ يَقِينٍ، فَإِذَا أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ فِي الْمَوْقِفِ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ، وَشَاهَدُوهُمَا عِيَانًا، كَانَ ذَلِكَ عَيْنَ يَقِينٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ - ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 6 - 7]

فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، فَذَلِكَ حَقُّ الْيَقِينِ، وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمِنَ الرُّسُومِ إِلَى الْأُصُولِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِالرُّسُومِ ظَوَاهِرَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَبِالْأُصُولِ حَقَائِقَ الْإِيمَانِ وَمُعَامَلَاتِ الْقُلُوبِ، وَأَذْوَاقَ الْإِيمَانِ وَوَارِدَاتِهِ، فَيَفِرُّ مِنْ إِحْكَامِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ إِلَى خُشُوعِ السِّرِّ لِلْعِرْفَانِ، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْعَزَائِمِ فِي السَّيْرِ لَا يَقْنَعُونَ بِرُسُومِ الْأَعْمَالِ وَظَوَاهِرِهَا، وَلَا يَعْتَدُّونَ إِلَّا بِأَرْوَاحِهَا وَحَقَائِقِهَا، وَمَا يُثْبِتُهُ لَهُمُ التَّعَرُّفُ الْإِلَهِيُّ، وَهُوَ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْأَمْرِ. وَالتَّعَرُّفُ الْإِلَهِيُّ لَا يَقْتَضِي مُفَارَقَةَ الْأَمْرِ، كَمَا يَظُنُّ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ وَزَنَادِقَةُ الصُّوفِيَّةِ، بَلْ يَسْتَخْرِجُ مِنْهُمْ حَقَائِقَ الْأَمْرِ، وَأَسْرَارَ الْعُبُودِيَّةِ، وَرُوحَ الْمُعَامَلَةِ، فَحَظُّهُمْ مِنَ الْأَمْرِ حَظُّ الْعَالِمِ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ، تَصْرِيحًا وَإِيمَاءً، وَتَنْبِيهًا وَإِشَارَةً، وَحَظُّ غَيْرِهِمْ مِنْهُ حَظُّ التَّالِي لَهُ حِفْظًا بِلَا فَهْمٍ وَلَا مَعْرِفَةٍ لِمُرَادِهِ، وَهَؤُلَاءِ أَحْوَجُ شَيْءٍ إِلَى الْأَمْرِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِلُوا إِلَى تِلْكَ التَّعَرُّفَاتِ وَالْحَقَائِقِ إِلَّا بِهِ، فَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ لَهُمْ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَعَمَلًا وَحَالًا ضَرُورِيَّةٌ، لَا عِوَضَ لَهُمْ عَنْهُ الْبَتَّةَ. وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي فَاتَ الزَّنَادِقَةَ، وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى طَرِيقَةِ الْقَوْمِ. فَإِنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ حَقَائِقَ هَذِهِ الْأَوَامِرِ هِيَ الْمَطْلُوبَةُ أَرْوَاحُهَا، لَا صُوَرُهَا وَأَشْبَاحُهَا وَرُسُومُهَا، قَالُوا: نَجْمَعُ هِمَمَنَا عَلَى مَقَاصِدِهَا وَحَقَائِقِهَا، وَلَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى رُسُومِهَا وَظَوَاهِرِهَا، بَلِ الِاشْتِغَالُ بِرُسُومِهَا اشْتِغَالٌ عَنِ الْغَايَةِ بِالْوَسِيلَةِ، وَعَنِ الْمَطْلُوبِ لِذَاتِهِ بِالْمَطْلُوبِ لِغَيْرِهِ، وَغَرَّهُمْ مَا رَأَوْا فِيهِ الْوَاقِفِينَ مَعَ رُسُومِ الْأَعْمَالِ وَظَوَاهِرِهَا دُونَ مُرَاعَاةِ حَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا وَأَرْوَاحِهَا، فَرَأَوْا نُفُوسَهُمْ أَشْرَفَ مِنْ نُفُوسِ أُولَئِكَ، وَهِمَمَهُمْ أَعْلَى، وَأَنَّهُمُ الْمُشْتَغِلُونَ بِاللُّبِّ وَأُولَئِكَ بِالْقِشْرِ، فَتَرَكَّبَ مِنْ تَقْصِيرِ هَؤُلَاءِ وَعُدْوَانِ هَؤُلَاءِ تَعْطِيلٌ. وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَؤُلَاءِ عَطَّلُوا سِرَّهُ وَمَقْصُودَهُ وَحَقِيقَتَهُ، وَهَؤُلَاءِ عَطَّلُوا رَسْمَهُ وَصُورَتَهُ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَصِلُونَ إِلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ غَيْرِ رَسْمِهِ وَظَاهِرِهِ، فَلَمْ يَصِلُوا إِلَّا إِلَى الْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ، وَجَحَدُوا مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءُ الرُّسُلِ بِهِ، فَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ، وَأُولَئِكَ مُقَصِّرُونَ غَيْرُ كَامِلِينَ، وَالْقَائِمُونَ بِهَذَا وَهَذَا هُمُ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْأَمْرَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى قُلُوبِهِمْ قَبْلَ جَوَارِحِهِمْ، وَأَنَّ عَلَى الْقَلْبِ عُبُودِيَّةً فِي الْأَمْرِ كَمَا عَلَى الْجَوَارِحِ، وَأَنَّ تَعْطِيلَ عُبُودِيَّةِ الْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ تَعْطِيلِ عُبُودِيَّةِ الْجَوَارِحِ، وَأَنَّ كَمَالَ الْعُبُودِيَّةِ قِيَامُ كُلٍّ مِنَ الْمَلِكِ وَجُنُودِهِ بِعُبُودِيَّتِهِ، فَهَؤُلَاءِ خَوَاصُّ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ. فَصْلٌ.

قَوْلُهُ: وَمِنَ الْحُظُوظِ إِلَى التَّجْرِيدِ. يُرِيدُ الْفِرَارَ مِنْ حُظُوظِ النُّفُوسِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُهَا لَا الْمُعْتَنُونَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمُرَادِهِ، وَحَقِّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَعْرِفَةِ نُفُوسِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَآفَاتِهِمَا وَرُبَّ مُطَالِبَ عَالِيَةٍ لِقَوْمٍ مِنَ الْعِبَادِ هِيَ حُظُوظٌ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنْهَا وَيَفِرُّونَ إِلَيْهِ مِنْهَا، يَرَوْنَهَا حَائِلَةً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَطْلُوبِهِمْ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَظُّ مَا سِوَى مُرَادِ اللَّهِ الدِّينِيِّ مِنْكَ، كَائِنًا مَا كَانَ، وَهُوَ مَا يَبْرَحُ حَظًّا مُحَرَّمًا إِلَى مَكْرُوهٍ إِلَى مُبَاحٍ إِلَى مُسْتَحَبٍّ، غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ، وَلَا يَتَمَيَّزُ هَذَا إِلَّا فِي مَقَامِ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَأَمْرِهِ، وَبِالنَّفْسِ وَصِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا. فَهُنَاكَ تَتَبَيَّنُ لَهُ الْحُظُوظُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَيَفِرُّ مِنَ الْحَظِّ إِلَى التَّجْرِيدِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَصْلُحُ لَهُمْ هَذَا لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَلَى الْحُظُوظِ وَعَلَى مُرَادِهِمْ مِنْهُ، وَأَمَّا تَجْرِيدُ عِبَادَتِهِ عَلَى مُرَادِهِ مِنْ عَبْدِهِ: فَتِلْكَ مَنْزِلَةٌ لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ ... سِوَى نَبِيٍّ وَصِدِّيقٍ مِنَ الْبَشَرِ وَالزُّهْدُ زُهْدُكُ فِيهَا لَيْسَ زُهْدَكَ فِي ... مَا قَدْ أُبِيحَ لَنَا فِي مُحْكَمِ السُّوَرِ وَالصِّدْقُ صِدْقُكُ فِي تَجْرِيدِهَا وَكَذَا الْ ... إِخْلَاصُ تَخْلِيصُهَا إِنْ كُنْتَ ذَا بَصَرِ كَذَا تَوَكُّلُ أَرْبَابِ الْبَصَائِرِ فِي ... تَجْرِيدِ أَعْمَالِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكَدَرِ كَذَاكَ تَوْبَتُهُمْ مِنْهَا فَهُمْ أَبَدًا ... فِي تَوْبَةٍ أَوْ يَصِيرُوا دَاخِلَ الْحُفَرِ وَبِالْجُمْلَةِ فَصَاحِبُ هَذَا التَّجْرِيدِ لَا يَقْنَعُ مِنَ اللَّهِ بِأَمْرٍ يَسْكُنُ إِلَيْهِ دُونَ اللَّهِ، وَلَا يَفْرَحُ بِمَا حَصَلَ لَهُ دُونَ اللَّهِ، وَلَا يَأْسَى عَلَى مَا فَاتَهُ سِوَى اللَّهِ، وَلَا يَسْتَغْنِي بِرُتْبَةٍ شَرِيفَةٍ وَإِنْ عَظُمَتْ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ النَّاسِ، فَلَا يَسْتَغْنِي إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، وَلَا يَفْرَحُ إِلَّا بِمُوَافَقَتِهِ لِمَرْضَاةِ اللَّهِ، وَلَا يَحْزَنُ إِلَّا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ اللَّهِ، وَلَا يَخَافُ إِلَّا مِنْ سُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ، وَاحْتِجَابِ اللَّهِ عَنْهُ، فَكُلُّهُ بِاللَّهِ، وَكُلُّهُ لِلَّهِ، وَكُلُّهُ مَعَ اللَّهِ، وَسَيْرُهُ دَائِمًا إِلَى اللَّهِ، قَدْ رُفِعَ لَهُ عَلَمُهُ فَشَمَّرَ إِلَيْهِ، وَتَجَرَّدَ لَهُ مَطْلُوبُهُ فَعَمِلَ عَلَيْهِ، تُنَادِيهِ الْحُظُوظُ: إِلَيَّ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّمَا أُرِيدُ مَنْ إِذَا حَصَلَ لِي حَصَلَ لِي كُلُّ شَيْءٍ، وَإِذَا فَاتَنِي فَاتَنِي كُلُّ شَيْءٍ، فَهُوَ مَعَ اللَّهِ مُجَرَّدٌ عَنْ خَلْقِهِ، وَمَعَ خَلْقِهِ مُجَرَّدٌ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَعَ الْأَمْرِ مُجَرَّدٌ عَنْ حَظِّهِ، أَعْنِي الْحَظَّ الْمُزَاحِمَ لِلْأَمْرِ، وَأَمَّا الْحَظُّ الْمُعِينُ عَلَى الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يَحُطُّهُ تَنَاوُلُهُ عَنْ مَرْتَبَتِهِ وَلَا يُسْقِطُهُ مِنْ عَيْنِ رَبِّهِ.

فصل منزلة الرياضة

وَهَذَا أَيْضًا مَوْضِعٌ غَلِطَ فِيهِ مَنْ غَلِطَ مِنَ الشُّيُوخِ، فَظَنُّوا أَنَّ إِرَادَةَ الْحَظِّ نَقْصٌ فِي الْإِرَادَةِ. وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْحَظَّ نَوْعَانِ: حَظٌّ يُزَاحِمُ الْأَمْرَ، وَحَظٌّ يُؤَازِرُ الْأَمْرَ فَيُنَفِّذُهُ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَذْمُومُ، وَالثَّانِي مَمْدُوحٌ، وَتَنَاوُلُهُ مِنْ تَمَامِ الْعُبُودِيَّةِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَهَذَا لَوْنٌ. فَصْلٌ. قَالَ: وَفِرَارُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ مِمَّا دُونَ الْحَقِّ إِلَى الْحَقِّ، ثُمَّ مِنْ شُهُودِ الْفِرَارِ إِلَى الْحَقِّ، ثُمَّ الْفِرَارُ مِنْ شُهُودِ الْفِرَارِ. هَذَا عَلَى قَاعِدَتِهِ فِي جَعْلِ الْفَنَاءِ عَنِ الشُّهُودِ غَايَةَ السَّالِكِينَ، فَيَفِرُّ أَوَّلًا مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ، وَيَشْهَدُ بِهَذَا الْفِرَارِ انْفِرَادَ مَشْهُودِهِ الَّذِي فَرَّ إِلَيْهِ، لَكِنْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ، وَهِيَ شُهُودُ فِرَارِهِ. فَيَعْدِلُهُ إِحْسَاسًا بِالْخَلْقِ، فَيَفِرُّ ثَانِيًا مِنْ شُهُودِ فِرَارِهِ، فَتَنْقَطِعُ النِّسَبُ كُلُّهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ بِهَذَا الْفِرَارِ الثَّانِي، فَلَا يَبْقَى فِيهِ بَقِيَّةٌ إِلَّا مُلَاحَظَةُ فِرَارِهِ مِنْ شُهُودِ فِرَارِهِ، فَيَفِرُّ مِنْ شُهُودِ الْفِرَارِ، فَتَنْقَطِعُ حِينَئِذٍ النِّسَبُ كُلُّهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَالرُّتَبِ، وَلَا هُوَ غَايَةُ الْكَمَالِ، وَأَنَّ فَوْقَهُ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ مَقَامًا، وَأَشْرَفُ مَنْزِلًا، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ فِرَارَهُ، وَأَنَّهُ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، فَيَشْهَدُ أَنَّهُ فَرَّ بِهِ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَيُعْطِي كُلَّ مَشْهَدٍ حَقَّهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَهَذَا حَالُ الْكُمَّلِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الرِّيَاضَةِ] وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الرِّيَاضَةِ. هِيَ تَمْرِينُ النَّفْسِ عَلَى الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: هِيَ تَمْرِينُ النَّفْسِ عَلَى قَبُولِ الصِّدْقِ.

وَهَذَا يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ: تَمْرِينُهَا عَلَى قَبُولِ الصِّدْقِ إِذَا عَرَضَهُ عَلَيْهَا فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَإِذَا عَرَضَ عَلَيْهَا الصِّدْقَ قَبِلَتْهُ وَانْقَادَتْ لَهُ وَأَذْعَنَتْ لَهُ. وَالثَّانِي: قَبُولُ الْحَقِّ مِمَّنْ عَرَضَهُ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] فَلَا يَكْفِي صِدْقُكَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ صِدْقِكَ وَتَصْدِيقِكَ لِلصَّادِقِينَ، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَصْدُقُ، وَلَكِنْ يَمْنَعُهُ مِنَ التَّصْدِيقِ كِبْرٌ أَوْ حَسَدٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: رِيَاضَةٌ عَامَّةٌ، وَهِيَ تَهْذِيبُ الْأَخْلَاقِ بِالْعِلْمِ، وَتَصْفِيَةُ الْأَعْمَالِ بِالْإِخْلَاصِ، وَتَوْفِيرُ الْحُقُوقِ فِي الْمُعَامَلَةِ. أَمَّا تَهْذِيبُ الْأَخْلَاقِ بِالْعِلْمِ فَالْمُرَادُ بِهِ إِصْلَاحُهَا وَتَصْفِيَتُهَا بِمُوجَبِ الْعِلْمِ، فَلَا يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةٍ ظَاهِرَةٍ أَوْ بَاطِنَةٍ إِلَّا بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ، فَتَكُونُ حَرَكَاتٌ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ مَوْزُونَةٌ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ. وَأَمَّا تَصْفِيَةُ الْأَعْمَالِ بِالْإِخْلَاصِ فَهُوَ تَجْرِيدُهَا عَنْ أَنْ يَشُوبَهَا بَاعِثٌ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوْحِيدِ الْمُرَادِ، وَتَجْرِيدِ الْبَاعِثِ إِلَيْهِ. وَأَمَّا تَوْفِيرُ الْحُقُوقِ فِي الْمُعَامَلَةِ فَهُوَ أَنْ تُعْطِيَ مَا أُمِرْتَ بِهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ كَامِلًا مُوَفَّرًا، قَدْ نَصَحْتَ فِيهِ صَاحِبَ الْحَقِّ غَايَةَ النُّصْحِ، وَأَرْضَيْتَهُ كُلَّ الرِّضَا، فَفُزْتَ بِحَمْدِهِ لَكَ وَشُكْرِهِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ شَاقَّةً عَلَى النَّفْسِ جِدًّا كَانَ تَكَلُّفُهَا رِيَاضَةً، فَإِذَا اعْتَادَهَا صَارَتْ خُلُقًا. قَالَ: وَرِيَاضَةُ الْخَاصَّةِ حَسْمُ التَّفَرُّقِ، وَقَطْعُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَقَامِ الَّذِي جَاوَزَهُ، وَإِبْقَاءُ الْعِلْمِ يَجْرِي مَجْرَاهُ. يُرِيدُ بِحَسْمِ التَّفَرُّقِ قَطْعَ مَا يُفَرِّقُ قَلْبَكَ عَنِ اللَّهِ بِالْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ، وَالْإِقْبَالَ بِكُلِّيَّتِكَ إِلَيْهِ، حَاضِرًا مَعَهُ بِقَلْبِكَ كُلِّهِ، لَا تَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَطْعُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَقَامِ الَّذِي جَاوَزَهُ فَهُوَ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِاسْتِحْسَانِ عُلُومِ ذَلِكَ الْمَقَامِ وَلَذَّتِهِ وَاسْتِحْسَانِهِ، بَلْ يُلْهَى عَنْهُ مُعْرِضًا مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ، طَالِبًا لِلزِّيَادَةِ، خَائِفًا

أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَقَامُ لَهُ حِجَابًا يَقِفُ عِنْدَهُ عَنِ السَّيْرِ، فَهِمَّتُهُ حِفْظُهُ، لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ وَلَا هِمَّةٌ أَنْ يَنْهَضَ إِلَى مَا فَوْقَهُ، وَمَنْ لَمْ تَكُنْ هِمَّتُهُ التَّقَدُّمَ فَهُوَ فِي تَأَخُّرٍ وَلَا يَشْعُرُ، فَإِنَّهُ لَا وُقُوفَ فِي الطَّبِيعَةِ، وَلَا فِي السَّيْرِ، بَلْ إِمَّا إِلَى قُدَّامَ، وَإِمَّا إِلَى الْوَرَاءِ، فَالسَّالِكُ الصَّادِقُ لَا يَنْظُرُ إِلَى وَرَائِهِ، وَلَا يَسْمَعُ النِّدَاءَ إِلَّا مِنْ أَمَامِهِ لَا مِنْ وَرَائِهِ. وَأَمَّا إِبْقَاءُ الْعِلْمِ يَجْرِي مَجْرَاهُ: فَالذَّهَابُ مَعَ دَاعِي الْعِلْمِ أَيْنَ ذَهَبَ بِهِ، وَالْجَرْيُ مَعَهُ فِي تَيَّارِهِ أَيْنَ جَرَى. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ الِاسْتِسْلَامُ لِلْعِلْمِ، وَأَنْ لَا تُعَارِضَهُ بِجَمْعِيَّةٍ، وَلَا ذَوْقٍ، وَلَا حَالٍ، بَلِ امْضِ مَعَهُ حَيْثُ ذَهَبَ، فَالْوَاجِبُ تَسْلِيطُ الْعِلْمِ عَلَى الْحَالِ، وَتَحْكِيمُهُ عَلَيْهِ، وَأَنْ لَا يُعَارَضَ بِهِ. وَهَذَا صَعْبٌ جِدًّا إِلَّا عَلَى الصَّادِقِينَ مِنْ أَرْبَابِ الْعَزَائِمِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّيَاضَةِ. وَمَتَّى تَمَرَّنَتِ النَّفْسُ عَلَيْهِ وَتَعَوَّدَتْهُ صَارَ خُلُقًا، وَكَثِيرٌ مِنَ السَّالِكِينَ إِذَا لَاحَتْ لَهُ بَارِقَةٌ، أَوْ غَلَبَهُ حَالٌ أَوْ ذَوْقٌ خَلَّى الْعِلْمَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَنَبَذَهُ وَرَاءَهُ ظِهْرِيًّا، وَحَكَمَ عَلَيْهِ الْحَالُ، هَذَا حَالُ أَكْثَرِ السَّالِكِينَ، وَهِيَ حَالُ أَهْلِ الِانْحِرَافِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا، وَلِهَذَا عَظُمَتْ وَصِيَّةُ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنَ الشُّيُوخِ بِالْعِلْمِ وَالتَّمَسُّكِ بِهِ. فَصْلٌ. قَالَ: وَرِيَاضَةُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ: تَجْرِيدُ الشُّهُودِ، وَالصُّعُودُ إِلَى الْجَمْعِ، وَرَفْضُ الْمُعَارَضَاتِ، وَقَطْعُ الْمُعَاوَضَاتِ. أَمَّا تَجْرِيدُ الشُّهُودِ، فَنَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: تَجْرِيدُهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ، وَالثَّانِي: تَجْرِيدُهُ عَنْ رُؤْيَتِهِ وَشُهُودِهِ. وَأَمَّا الصُّعُودُ إِلَى الْجَمْعِ فَيَعْنِي بِهِ الصُّعُودَ عَنْ مَعَانِي التَّفْرِقَةِ إِلَى الْجَمْعِ الذَّاتِيِّ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصْعَدَ عَنْ تَفْرِقَةِ الْأَفْعَالِ إِلَى وَحْدَةِ مَصْدَرِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَصْعَدَ عَنْ عَلَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ إِلَى الذَّاتِ، فَإِنَّ شُهُودَ الذَّاتِ

بِدُونِ عَلَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عِنْدَهُمْ هُوَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ، وَهَذَا مَوْضِعُ مَزِلَّةِ أَقْدَامٍ، وَمَضَلَّةِ أَفْهَامٍ، لَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِهِ، فَنَقُولُ: التَّفْرِقَةُ تَفْرِقَتَانِ: تَفْرِقَةٌ فِي الْمَفْعُولَاتِ، وَتَفْرِقَةٌ فِي مَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَالْجَمْعُ جَمْعَانِ: جَمْعٌ فِي الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ، وَجَمْعٌ ذَاتِيٌّ. فَالْجَمْعُ فِي الْحَكَمِ الْكَوْنِيِّ: اجْتِمَاعُ الْمَفْعُولَاتِ كُلِّهَا فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالْحُكْمِ، وَالْجَمْعُ الذَّاتِيُّ: اجْتِمَاعُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِي الذَّاتِ. فَالذَّاتُ وَاحِدَةٌ جَامِعَةٌ لِلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَالْقَدَرُ جَامِعٌ لِجَمِيعِ الْمُقْتَضَيَاتِ وَالْمَقْدُورَاتِ، وَالشُّهُودُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى هَذَا وَهَذَا. فَشُهُودُ اجْتِمَاعِ الْكَائِنَاتِ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَهُوَ لَا يُعْطِي إِيمَانًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْإِحْسَانِ، وَالْفَنَاءُ فِي هَذَا الشُّهُودِ: غَايَتُهُ فَنَاءٌ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ وَحْدَهُ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ. وَشُهُودُ اجْتِمَاعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فِي وَحْدَةِ الذَّاتِ: شُهُودٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ شُهُودٌ مُطَابِقٌ لِلْحَقِّ فِي نَفْسِهِ. وَأَمَّا الصُّعُودُ عَنْ شُهُودِ تَفْرِقَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَعَلَائِقِهَا إِلَى وَحْدَةِ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَعْذُورًا لِضِيقِ قَلْبِهِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا فِي شُهُودِهِ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ كُلِّ اسْمٍ وَصِفَةٍ وَعَنْ عَلَائِقِهَا فَكَلَّا وَلَمَّا. وَأَيُّ إِيمَانٍ يُعْطِي ذَلِكَ؟ وَأَيُّ مَعْرِفَةٍ؟ وَإِنَّمَا هُوَ سَلْبٌ وَنَفْيٌ فِي الشُّهُودِ، كَالسَّلْبِ وَالنَّفْيِ فِي الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ، فَنِسْبَتُهُ إِلَى الشُّهُودِ كَنِسْبَةِ نَفْيِ الْجَهْمِيَّةِ وَسَلْبِهِمْ إِلَى الْأَخْبَارِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ ذَلِكَ السَّلْبَ فِي الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ، مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ الثَّابِتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَذِبٌ عَلَى اللَّهِ، وَنَفْيٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، وَمَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى. وَأَمَّا هَذَا السَّلْبُ: فَنَفْيُ الشُّعُورِ بِهِ لِلصُّعُودِ مِنْهُ إِلَى الْجَمْعِ الذَّاتِيِّ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالِاعْتِرَافِ بِثُبُوتِهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَذَاكَ لَوْنٌ. وَالْكَمَالُ: شُهُودُ الْأَمْرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَيَشْهَدُ الذَّاتَ مَوْصُوفَةً بِصِفَاتِ الْجَلَالِ، مَنْعُوتَةً بِنُعُوتِ الْكَمَالِ، وَكُلَّمَا كَثُرَ شُهُودُهُ لِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ كَانَ أَكْمَلَ. نَعَمْ قَدْ يُعْذَرُ فِي الْفَنَاءِ فِي الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ، لِقُوَّةِ الْوَارِدِ، وَضَعْفِ الْمَحَلِّ عَنْ شُهُودِ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ، وَأَعْطِهِ حَقَّهُ، وَلَا يَصُدَنَّكَ عَنْ تَحْقِيقِ ذَلِكَ مَا يُحِيلُ عَلَيْهِ أَرْبَابُ الْفَنَاءِ مِنَ الْكَشْفِ وَالذَّوْقِ، فَإِنَّا لَا نُنْكِرُهُ، بَلْ نُقِرُّ بِهِ، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَرْتَبَتِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا رَفْضُ الْمُعَارَضَاتِ فَيَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَا يُعَارِضُ شُهُودَهُ الْجَمْعِيَّ مِنَ التَّفَرُّقَاتِ، وَهُوَ مُرَادُهُ. وَالثَّانِي: مَا يُعَارِضُ إِرَادَتَهُ مِنَ الْإِرَادَاتِ، وَمَا يُعَارِضُ مُرَادَ اللَّهِ مِنَ الْمُرَادَاتِ، وَهَذَا أَكْمَلُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَأَعْلَى مِنْهُ. وَأَمَّا قَطْعُ الْمُعَاوَضَاتِ فَهُوَ تَجْرِيدُ الْمُعَامَلَةِ عَنْ إِرَادَةِ الْمُعَاوَضَةِ، بَلْ يُجَرِّدُهَا لِذَاتِهِ، وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُعْبَدَ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ لِعَابِدِهِ عِوَضٌ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ لِذَاتِهِ لَا لِعِلَّةٍ، وَلَا لِعِوَضٍ وَلَا لِمَطْلُوبٍ، وَهَذَا أَيْضًا مَوْضِعٌ لَا بُدَّ مِنْ تَجْرِيدِهِ. فَيُقَالُ: مُلَاحَظَةُ الْمُعَاوَضَةِ ضَرُورِيَّةٌ لِلْعَامِلِ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي مُلَاحَظَةِ الْأَعْوَاضِ وَتَبَايُنِهَا، فَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ الَّذِي قَدْ تَجَرَّدَ عَنْ مُلَاحَظَةِ عِوَضٍ قَدْ لَاحَظَ أَعْظَمَ الْأَعْوَاضِ، وَشَمَّرَ إِلَيْهَا، وَهِيَ قُرْبُهُ مِنَ اللَّهِ وَوُصُولُهُ إِلَيْهِ، وَاشْتِغَالُهُ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ، وَالتَّنَعُّمُ بِحُبِّهِ وَلَذَّةِ الشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، فَهَذِهِ أَعْوَاضٌ لَا بُدَّ لِلْخَاصَّةِ مِنْهَا، وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ مَقَاصِدِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ، وَلَا تَقْدَحُ فِي مَقَامَاتِهِمْ، وَتَجْرِيدِ عُبُودِيَّاتِهِمْ، بَلْ أَكْمَلُهُمْ عُبُودِيَّةً أَشَدُّهُمُ الْتِفَاتًا إِلَى هَذِهِ الْأَعْوَاضِ. نَعَمْ طَلَبُ الْأَعْوَاضِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمَخْلُوقَةِ مِنَ الْجَاهِ، وَالْمَالِ، وَالرِّيَاسَةِ، وَالْمُلْكِ أَوْ طَلَبُ الْحُورِ الْعِينِ وَالْقُصُورِ وَالْوُلْدَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَعْوَاضِ الَّتِي تَطْلُبُهَا الْخَاصَّةُ مَعْلُولَةٌ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ إِذَا تَجَرَّدَ طَلَبُهُمْ لَهَا. أَمَّا إِذَا كَانَ مَطْلُوبُهُمُ الْأَعْظَمُ الذَّاتِيُّ هُوَ قُرْبَهُ وَالْوُصُولَ إِلَيْهِ، وَالتَّنَعُّمَ بِحُبِّهِ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِهِ، وَانْضَافَ إِلَى هَذَا طَلَبُهُمْ لِثَوَابِهِ الْمَخْلُوقِ الْمُنْفَصِلِ فَلَا عِلَّةَ فِي هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ بِوَجْهٍ مَا، وَلَا نَقْصَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ يَعْنِي الْجَنَّةَ، وَقَالَ

فصل منزلة السماع

«إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مَسْكَنُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ، وَسَادَاتِ الْعَارِفِينَ، فَسُؤَالُهُمْ إِيَّاهُ لَيْسَ عِلَّةً فِي عُبُودِيَّتِهِمْ، وَلَا قَدْحًا فِيهَا. وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا ذِكْرَ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي (كِتَابِ سَفَرِ الْهِجْرَتَيْنِ) عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى عِلَلِ الْمَقَامَاتِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الشَّيْخُ بِقَطْعِ الْمُعَاوَضَاتِ أَنْ تَشْهَدَ أَنَّ اللَّهَ مَا أَعْطَاكَ شَيْئًا مُعَاوَضَةً، بَلْ إِنَّمَا أَعْطَاكَ تَفَضُّلًا وَإِحْسَانًا، لَا لِعِوَضٍ يَرْجُوهُ مِنْكَ، كَمَا يَكُونُ عَطَاءُ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ، وَإِنَّمَا نَتَكَلَّمُ فِيمَا مِنَ الْعَبْدِ، مِمَّا يُؤْمَرُ بِالتَّجَرُّدِ عَنْهُ، كَتَجَرُّدِهِ عَنِ التَّفْرِقَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ، فَهَذَا أَلْيَقُ الْمَعْنَيَيْنِ بِكَلَامِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ السَّمَاعِ] [أَقْسَامُ السَّمَاعِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ السَّمَاعِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ السَّمَاعِ. وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ كَالنَّبَاتِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْبُشْرَى لَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} [المائدة: 108] وَقَالَ {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 16] وَقَالَ {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} [النساء: 46] وَقَالَ {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17] وَقَالَ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وَقَالَ

{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] . وَجَعَلَ الْإِسْمَاعَ مِنْهُ وَالسَّمَاعَ مِنْهُمْ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِ الْخَيْرِ فِيهِمْ، وَعَدَمَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْخَيْرِ فِيهِمْ، فَقَالَ {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] . وَأَخْبَرَ عَنْ أَعْدَائِهِ أَنَّهُمْ هَجَرُوا السَّمَاعَ وَنَهَوْا عَنْهُ، فَقَالَ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] . فَالسَّمَاعُ رَسُولُ الْإِيمَانِ إِلَى الْقَلْبِ وَدَاعِيهِ وَمُعْلِمُهُ، وَكَمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: {أَفَلَا يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] وَقَالَ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46] الْآيَةَ. فَالسَّمَاعُ أَصْلُ الْعَقْلِ، وَأَسَاسُ الْإِيمَانِ الَّذِي انْبَنَى عَلَيْهِ، وَهُوَ رَائِدُهُ وَجَلِيسُهُ وَوَزِيرُهُ، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ كُلَّ الشَّأْنِ فِي الْمَسْمُوعِ، وَفِيهِ وَقَعَ خَبْطُ النَّاسِ وَاخْتِلَافُهُمْ، وَغَلِطَ مِنْهُمْ مَنْ غَلِطَ. وَحَقِيقَةُ السَّمَاعِ تَنْبِيهُ الْقَلْبِ عَلَى مَعَانِي الْمَسْمُوعِ، وَتَحْرِيكُهُ عَنْهَا طَلَبًا وَهَرَبًا

فصل السماع الذي يمدحه الله

وَحُبًّا وَبُغْضًا، فَهُوَ حَادٍ يَحْدُو بِكُلِّ أَحَدٍ إِلَى وَطَنِهِ وَمَأْلَفِهِ. وَأَصْحَابُ السَّمَاعِ، مِنْهُمْ: مَنْ يَسْمَعُ بِطَبْعِهِ وَنَفْسِهِ وَهَوَاهُ، فَهَذَا حَظُّهُ مِنْ مَسْمُوعِهِ مَا وَافَقَ طَبْعَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ بِحَالِهِ وَإِيمَانِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَعَقْلِهِ، فَهَذَا يُفْتَحُ لَهُ مِنَ الْمَسْمُوعِ بِحَسَبَ اسْتِعْدَادِهِ وَقُوَّتِهِ وَمَادَّتِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْمَعُ بِاللَّهِ، لَا يَسْمَعُ بِغَيْرِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ الصَّحِيحِ " فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ " وَهَذَا أَعْلَى سَمَاعًا، وَأَصَحُّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ. وَالْكَلَامُ فِي السَّمَاعِ مَدْحًا وَذَمًّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ صُورَةِ الْمَسْمُوعِ، وَحَقِيقَتِهِ وَسَبَبِهِ، وَالْبَاعِثِ عَلَيْهِ، وَثَمَرَتِهِ وَغَايَتِهِ، فَبِهَذِهِ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ يَتَحَرَّرُ أَمْرُ السَّمَاعِ وَيَتَمَيَّزُ النَّافِعُ مِنْهُ وَالضَّارُّ، وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، وَالْمَمْدُوحُ وَالْمَذْمُومُ. فَأَمَّا الْمَسْمُوعُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَسْمُوعٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَأَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ بِهِ. الثَّانِي: مَسْمُوعٌ يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ، وَنَهَى عَنْهُ، وَمَدَحَ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ. الثَّالِثُ: مَسْمُوعٌ مُبَاحٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، لَا يُحِبُّهُ وَلَا يُبْغِضُهُ، وَلَا مَدَحَ صَاحِبَهُ وَلَا ذَمَّهُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْمَنَاظِرِ، وَالْمَشَامِّ، وَالْمَطْعُومَاتِ، وَالْمَلْبُوسَاتِ الْمُبَاحَةِ، فَمَنْ حَرَّمَ هَذَا النَّوْعَ الثَّالِثَ فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ، وَحَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَمَنْ جَعَلَهُ دِينًا وَقُرْبَةً يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، وَشَرَعَ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَضَاهَأَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ. [فَصْلٌ السَّمَاعُ الَّذِي يَمْدَحُهُ اللَّهُ] فَصْلٌ فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ السَّمَاعُ الَّذِي مَدَحَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَأَمَرَ بِهِ وَأَثْنَى عَلَى

أَصْحَابِهِ، وَذَمَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ وَلَعَنَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ سَبِيلًا، وَهُمُ الْقَائِلُونَ فِي النَّارِ {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] وَهُوَ سَمَاعُ آيَاتِهِ الْمَتْلُوَّةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ، فَهَذَا السَّمَاعُ أَسَاسُ الْإِيمَانِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ بِنَاؤُهُ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ، سَمَاعِ إِدْرَاكٍ بِحَاسَّةِ الْأُذُنِ، وَسَمَاعِ فَهْمٍ وَعَقْلٍ، وَسَمَاعِ فَهْمٍ وَإِجَابَةٍ وَقَبُولٍ، وَالثَّلَاثَةُ فِي الْقُرْآنِ. فَأَمَّا سَمَاعُ الْإِدْرَاكِ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ قَوْلَهُمْ {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1] وَقَوْلِهِ: {يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30] الْآيَةَ، فَهَذَا سَمَاعُ إِدْرَاكٍ اتَّصَلَ بِهِ الْإِيمَانُ وَالْإِجَابَةُ وَأَمَّا سَمَاعُ الْفَهْمِ فَهُوَ الْمَنْفِيُّ عَنْ أَهْلِ الْإِعْرَاضِ وَالْغَفْلَةِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم: 52] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] . فَالتَّخْصِيصُ هَاهُنَا لِإِسْمَاعِ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ، وَإِلَّا فَالسَّمْعُ الْعَامُّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] أَيْ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِي هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ قَبُولًا وَانْقِيَادًا لَأَفْهَمَهُمْ، وَإِلَّا فَهُمْ قَدْ سَمِعُوا سَمْعَ الْإِدْرَاكِ {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] أَيْ وَلَوْ أَفْهَمَهُمْ لَمَا انْقَادُوا وَلَا انْتَفَعُوا بِمَا فَهِمُوا; لِأَنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ دَاعِي التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ مَا يَمْنَعُهُمْ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَا سَمِعُوهُ. وَأَمَّا سَمَاعُ الْقَبُولِ وَالْإِجَابَةِ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285] فَإِنَّ هَذَا سَمْعُ قَبُولٍ وَإِجَابَةٍ مُثْمِرٌ لِلطَّاعَةِ.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا الْمَسْمُوعَ وَفَهِمُوهُ، وَاسْتَجَابُوا لَهُ. وَمِنْ سَمْعِ الْقَبُولِ: قَوْلُهُ تَعَالَى {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] أَيْ قَابِلُونَ مِنْهُمْ مُسْتَجِيبُونَ لَهُمْ، هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُيُونٌ لَهُمْ وَجَوَاسِيسُ فَضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ حِكْمَتِهِ فِي تَثْبِيطِهِمْ عَنِ الْخُرُوجِ بِأَنَّ خُرُوجَهُمْ يُوجِبُ الْخَبَالَ وَالْفَسَادَ، وَالسَّعْيَ بَيْنَ الْعَسْكَرِ بِالْفِتْنَةِ، وَفِي الْعَسْكَرِ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُمْ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ، فَكَانَ فِي إِقْعَادِهِمْ عَنْهُمْ لُطْفًا بِهِمْ وَرَحْمَةً، حَتَّى لَا يَقَعُوا فِي عَنَتِ الْقَبُولِ مِنْهُمْ. أَمَّا اشْتِمَالُ الْعَسْكَرِ عَلَى جَوَاسِيسَ وَعُيُونٍ لَهُمْ فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِحِكْمَةِ التَّثْبِيطِ وَالْإِقْعَادِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَوَاسِيسَهُمْ وَعُيُونَهُمْ مِنْهُمْ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَقْعَدَهُمْ لِئَلَّا يَسْعَوْا بِالْفَسَادِ فِي الْعَسْكَرِ، وَلِئَلَّا يَبْغُوهُمُ الْفِتْنَةَ، وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ إِنَّمَا تَنْدَفِعُ بِإِقْعَادِهِمْ، وَإِقْعَادِ جَوَاسِيسِهِمْ وَعُيُونِهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَوَاسِيسَ إِنَّمَا تُسَمَّى عُيُونًا هَذَا الْمَعْرُوفُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا تُسَمَّى سَمَّاعِينَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِخْوَانِهِمُ الْيَهُودِ {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] أَيْ قَابِلُونَ لَهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سَمَاعَ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ الْمُقَرَّبِينَ هُوَ سَمَاعُ الْقُرْآنِ بِالِاعْتِبَارَاتِ الثَّلَاثَةِ: إِدْرَاكًا وَفَهْمًا، وَتَدَبُّرًا، وَإِجَابَةً. وَكُلُّ سَمَاعٍ فِي الْقُرْآنِ مَدَحَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ فَهُوَ هَذَا السَّمَاعُ. وَهُوَ سَمَاعُ الْآيَاتِ، لَا سَمَاعَ الْأَبْيَاتِ، وَسَمَاعُ الْقُرْآنِ، لَا سَمَاعَ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ، وَسَمَاعُ كَلَامِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ لَا سَمَاعَ قَصَائِدِ الشُّعَرَاءِ، وَسَمَاعُ الْمَرَاشِدِ، لَا سَمَاعَ الْقَصَائِدِ، وَسَمَاعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، لَا سَمَاعَ الْمُغَنِّينَ وَالْمُطْرِبِينَ. فَهَذَا السَّمَاعُ حَادٍ يَحْدُو الْقُلُوبَ إِلَى جِوَارِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَسَائِقٌ يَسُوقُ الْأَرْوَاحَ

إِلَى دِيَارِ الْأَفْرَحِ، وَمُحَرِّكٌ يُثِيرُ سَاكِنَ الْعَزَمَاتِ إِلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَرْفَعِ الدَّرَجَاتِ، وَمُنَادٍ يُنَادِي لِلْإِيمَانِ، وَدَلِيلٌ يَسِيرُ بِالرَّكْبِ فِي طَرِيقِ الْجِنَانِ، وَدَاعٍ يَدْعُو الْقُلُوبَ بِالْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، مِنْ قِبَلِ فَالِقِ الْإِصْبَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. فَلَمْ يُعْدَمْ مَنِ اخْتَارَ هَذَا السَّمَاعَ إِرْشَادًا لِحُجَّةٍ، وَتَبْصِرَةً لِعِبْرَةٍ، وَتَذْكِرَةً لِمَعْرِفَةٍ، وَفِكْرَةً فِي آيَةٍ، وَدَلَالَةً عَلَى رُشْدٍ، وَرَدًّا عَلَى ضَلَالَةٍ، وَإِرْشَادًا مِنْ غَيٍّ، وَبَصِيرَةً مِنْ عَمًى، وَأَمْرًا بِمَصْلَحَةٍ، وَنَهْيًا عَنْ مَضَرَّةٍ وَمَفْسَدَةٍ، وَهِدَايَةً إِلَى نُورٍ، وَإِخْرَاجًا مِنْ ظُلْمَةٍ، وَزَجْرًا عَنْ هَوًى، وَحَثًّا عَلَى تُقًى، وَجَلَاءً لِبَصِيرَةٍ، وَحَيَاةً لِقَلْبٍ، وَغِذَاءً وَدَوَاءً وَشِفَاءً، وَعِصْمَةً وَنَجَاةً، وَكَشْفَ شُبْهَةٍ، وَإِيضَاحَ بُرْهَانٍ، وَتَحْقِيقَ حَقٍّ، وَإِبْطَالَ بَاطِلٍ. وَنَحْنُ نَرْضَى بِحُكْمِ أَهْلِ الذَّوْقِ فِي سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ وَالْقَصَائِدِ، وَنُنَاشِدُهُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ هُدًى وَشِفَاءً وَنُورًا وَحَيَاةً هَلْ وَجَدُوا ذَلِكَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ فِي الدُّفِّ وَالْمِزْمَارِ؟ وَنَغَمَةِ الشَّادِنِ وَمُطْرِبَاتِ الْأَلْحَانِ؟ . وَالْغِنَاءُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى تَهْيِيجِ الْحُبِّ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ مُحِبُّ الرَّحْمَنِ، وَمُحِبُّ الْأَوْطَانِ، وَمُحِبُّ الْإِخْوَانِ، وَمُحِبُّ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَمُحِبُّ الْأَمْوَالِ وَالْأَثْمَانِ، وَمُحِبُّ النِّسْوَانِ وَالْمُرْدَانِ، وَمُحِبُّ الصُّلْبَانِ، فَهُوَ يُثِيرُ مِنْ قَلْبِ كُلِّ مُشْتَاقٍ وَمُحِبٍّ لِشَيْءٍ سَاكِنَهُ، وَيُزْعِجُ قَاطِنَهُ، فَيَثُورُ وَجْدُهُ، وَيَبْدُو شَوْقُهُ، فَيَتَحَرَّكُ عَلَى حَسَبِ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْحُبِّ وَالشَّوْقِ وَالْوَجْدِ بِذَلِكَ الْمَحْبُوبِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَلِهَذَا تَجِدُ لِهَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ ذَوْقًا فِي السَّمَاعِ، وَحَالًا وَوَجْدًا وَبُكَاءً. وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ! أَيُّ إِيمَانٍ وَنُورٍ وَبَصِيرَةٍ وَهُدًى وَمَعْرِفَةٍ تَحْصُلُ بِاسْتِمَاعِ أَبْيَاتٍ بِأَلْحَانٍ وَتَوْقِيعَاتٍ، لَعَلَّ أَكْثَرَهَا قِيلَتْ فِيمَا هُوَ مُحَرَّمٌ يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُعَاقِبُ عَلَيْهِ مِنْ غَزَلٍ وَتَشْبِيبٍ بِمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ مَنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى؟ فَإِنَّ غَالِبَ التَّغَزُّلِ وَالتَّشْبِيبِ إِنَّمَا هُوَ فِي الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَمِنْ أَنْدَرِ النَّادِرِ تَغَزُّلُ الشَّاعِرِ وَتَشْبِيبُهُ فِي امْرَأَتِهِ، وَأَمَتِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ، مَعَ أَنَّ هَذَا وَاقِعٌ لَكِنَّهُ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، فَكَيْفَ يَقَعُ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ وَحَيَاةِ قَلْبٍ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ، وَيَزْدَادَ إِيمَانًا وَقُرْبًا مِنْهُ وَكَرَامَةً عَلَيْهِ، بِالْتِذَاذِهِ بِمَا هُوَ بَغِيضٌ إِلَيْهِ، مَقِيتٌ عِنْدَهُ، يَمْقُتُ قَائِلَهُ وَالرَّاضِيَ بِهِ؟ وَتَتَرَقَّى بِهِ الْحَالُ حَتَّى يَزْعُمَ أَنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لِقَلْبِهِ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ! . يَا لَلَّهِ! إِنَّ هَذَا الْقَلْبَ مَخْسُوفٌ بِهِ، مَمْكُورٌ بِهِ مَنْكُوسٌ، لَمْ يَصْلُحْ لِحَقَائِقِ الْقُرْآنِ وَأَذْوَاقِ مَعَانِيهِ، وَمُطَالَعَةِ أَسْرَارِهِ، فَبَلَاهُ بِقُرْآنِ الشَّيْطَانِ، كَمَا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا " «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: يَا رَبِّ، اجْعَلْ لِي قُرْآنًا، قَالَ: قُرْآنُكَ الشِّعْرُ، قَالَ: اجْعَلْ لِي كِتَابًا، قَالَ: كِتَابُكَ الْوَشْمُ، قَالَ: اجْعَلْ لِي مُؤَذِّنًا، قَالَ: مُؤَذِّنُكَ الْمِزْمَارُ، قَالَ: اجْعَلْ لِي بَيْتًا، قَالَ: بَيْتُكَ الْحَمَّامُ، قَالَ: اجْعَلْ لِي مَصَائِدَ، قَالَ: مَصَائِدُكَ النِّسَاءُ، قَالَ:

فصل ما يبغضه الله ويكرهه من السماع

اجْعَلْ لِي طَعَامًا، قَالَ: طَعَامُكُ مَا لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهِ اسْمِي» " وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيَكْرَهُهُ مِنَ السَّمَاعِ] فَصْلٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ السَّمَاعِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيَكْرَهُهُ، وَيَمْدَحُ الْمُعْرِضَ عَنْهُ، وَهُوَ سَمَاعُ كُلِّ مَا يَضُرُّ الْعَبْدَ فِي قَلْبِهِ وَدِينِهِ، كَسَمَاعِ الْبَاطِلِ كُلِّهِ، إِلَّا إِذَا تَضَمَّنَ رَدَّهُ وَإِبْطَالَهُ وَالِاعْتِبَارَ بِهِ وَقَصَدَ أَنْ يُعْلِمَ بِهِ حُسْنَ ضِدِّهِ، فَإِنَّ الضِّدَّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ، كَمَا قِيلَ: وَإِذَا سَمِعْتُ إِلَى حَدِيثِكَ زَادَنِي ... حُبًّا لَهُ سَمْعِي حَدِيثَ سِوَاكَا وَكَسَمَاعِ اللَّغْوِ الَّذِي مَدَحَ التَّارِكِينَ لِسَمَاعِهِ، وَالْمُعْرِضِينَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] قَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ الْغِنَاءُ، وَقَالَ الْحَسَنُ أَوْ غَيْرُهُ: أَكْرَمُوا نُفُوسَهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ، وَهَذَا كَلَامُ عَارِفٍ بِأَثَرِ الْغِنَاءِ وَثَمَرَتِهِ، فَإِنَّهُ مَا اعْتَادَهُ أَحَدٌ إِلَّا نَافَقَ قَلْبُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَلَوْ عَرَفَ حَقِيقَةَ النِّفَاقِ وَغَايَتَهُ لَأَبْصَرَهُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ مَا اجْتَمَعَ فِي قَلْبِ عَبْدٍ قَطُّ مَحَبَّةُ الْغِنَاءِ وَمَحَبَّةُ الْقُرْآنِ إِلَّا طَرَدَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَقَدْ شَاهَدْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا ثِقَلَ الْقُرْآنِ عَلَى أَهْلِ الْغِنَاءِ وَسَمَاعِهِ، وَتَبَرُّمَهُمْ بِهِ، وَصِيَاحَهُمْ بِالْقَارِئِ إِذَا طَوَّلَ عَلَيْهِمْ، وَعَدَمَ انْتِفَاعِ قُلُوبِهِمْ بِمَا يَقْرَؤُهُ، فَلَا تَتَحَرَّكُ وَلَا تَطْرَبُ، وَلَا تُهَيِّجُ مِنْهَا بَوَاعِثَ الطَّلَبِ، فَإِذَا جَاءَ قُرْآنُ الشَّيْطَانِ فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَيْفَ تَخْشَعُ مِنْهُمُ الْأَصْوَاتُ، وَتَهْدَأُ الْحَرَكَاتُ، وَتَسْكُنُ الْقُلُوبُ وَتَطْمَئِنُ،

وَيَقَعُ الْبُكَاءُ وَالْوَجْدُ، وَالْحَرَكَةُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ، وَالسَّمَاحَةُ بِالْأَثْمَانِ وَالثِّيَابِ، وَطِيبُ السَّهَرِ، وَتَمَنِّي طُولِ اللَّيْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا نِفَاقًا فَهُوَ آخِيَّةُ النِّفَاقِ وَأَسَاسُهُ. تُلِيَ الْكِتَابُ فَأَطْرَقُوا لَا خِيفَةً ... لَكِنَّهُ إِطْرَاقُ سَاهٍ لَاهِي وَأَتَى الْغِنَاءُ فَكَالَذُّبَابِ تَرَاقَصُوا ... وَاللَّهِ مَا رَقَصُوا مِنْ أَجْلِ اللَّهِ دُفٌّ وَمِزْمَارٌ وَنَغْمَةُ شَاهِدٍ ... فَمَتَى شَهِدْتَ عِبَادَةً بِمَلَاهِي ثَقُلَ الْكِتَابُ عَلَيْهِمُ لَمَّا رَأَوْا ... تَقْيِيدَهُ بِأَوَامِرٍ وَنَوَاهِي وَعَلَيْهِمُ خَفَّ الْغِنَا لَمَّا رَأَوْا ... إِطْلَاقَهُ فِي اللَّهْوِ دُونَ مَنَاهِي يَا فِرْقَةً مَا ضَرَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... وَجَنَى عَلَيْهِ وَمَلَّهُ إِلَّا هِي سَمِعُوا لَهُ رَعْدًا وَبَرْقًا إِذْ حَوَى ... زَجْرًا وَتَخْوِيفًا بِفِعْلِ مَنَاهِي وَرَأَوْهُ أَعْظَمَ قَاطِعٍ لِلنَّفْسِ عَنْ ... شَهَوَاتِهَا يَا وَيْحَهَا الْمُتَنَاهِي وَأَتَى السَّمَاعُ مُوَافِقًا أَغْرَاضَهَا ... فَلِأَجْلِ ذَاكَ غَدًا عَظِيمَ الْجَاهِ أَيْنَ الْمُسَاعِدُ لِلْهَوَى مِنْ قَاطَعٍ ... أَسْبَابَهُ عِنْدَ الْجَهُولِ السَّاهِي إِنْ لَمْ يَكُنْ خَمْرَ الْجُسُومِ فَإِنَّهُ ... خَمْرُ الْعُقُولِ مُمَاثِلٌ وَمُضَاهِي فَانْظُرْ إِلَى النَّشْوَانِ عِنْدَ شَرَابِهِ ... وَانْظُرْ إِلَى النَّشْوَانِ عِنْدَ تَلَاهِي وَانْظُرْ إِلَى تَمْزِيقِ ذَا أَثْوَابَهُ ... مِنْ بَعْدِ تَمْزِيقِ الْفُؤَادِ اللَّاهِي فَاحْكُمْ بِأَيِّ الْخَمْرَتَيْنِ أَحَقُّ بِال ... تَّحْرِيمِ وَالتَّأْثِيمِ عِنْدَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَكُونُ السَّمَاعُ الَّذِي يَسْمَعُهُ الْعَبْدُ بِطَبْعِهِ وَهَوَاهُ أَنْفَعَ لَهُ مِنَ الَّذِي يَسْمَعُهُ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَعَنِ اللَّهِ؟ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ هَذَا السَّمَاعَ الْغِنَائِيَّ الشِّعْرِيَّ كَذَلِكَ، فَهَذَا غَايَةُ اللَّبْسِ عَلَى الْقَوْمِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَسْمَعُ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَعَنِ اللَّهِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَتَحَرَّرُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ صُورَةِ الْمَسْمُوعِ وَحَقِيقَتِهِ وَمَرْتَبَتِهِ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ مَنْ شُرْبُهُ وَنَصِيبُهُ وَذَوْقُهُ وَوَجْدُهُ مِنْ سَمَاعِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ كَمَنْ نَصِيبُهُ وَشُرْبُهُ وَذَوْقُهُ وَوَجْدُهُ مِنْ سَمَاعِ الْغِنَاءِ وَالْأَبِيَّاتِ. وَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ اسْتِدْلَالُ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا السَّمَاعَ مِنْ طَرِيقِ الْقَوْمِ، وَأَنَّهُ مُبَاحٌ بِكَوْنِهِ مُسْتَلَذًّا طَبْعًا، تَسْتَلِذُّهُ النُّفُوسُ، وَتَسْتَرْوِحُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الطِّفْلَ يَسْكُنُ إِلَى الصَّوْتِ الطَّيِّبِ، وَالْجَمَلَ يُقَاسِي تَعَبَ السَّيْرِ وَمَشَقَّةَ الْحُمُولَةِ فَيُهَوَّنُ عَلَيْهِ بِالْحِدَاءِ، وَبِأَنَّ

الصَّوْتَ الطَّيِّبَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَزِيَادَةٌ فِي خَلْقِهِ، وَبِأَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الصَّوْتَ الْفَظِيعَ، فَقَالَ {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] وَبِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ فِيهِ {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15] ، وَبِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ السَّمَاعُ الطَّيِّبُ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَرَامًا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ؟ وَبِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَذِنَ لِشَيْءٍ كَأِذْنِهِ أَيْ كَاسْتِمَاعِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، وَبِأَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ اسْتَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَوْتِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِحُسْنِ الصَّوْتِ، وَقَالَ «لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ اسْتَمَعْتَ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا،» أَيْ زَيَّنْتُهُ لَكَ وَحَسَّنْتُهُ، وَبُقُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» . وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنَ التَّغَنِّي بِمَعْنَى

تَحْسِينِ الصَّوْتِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ مَا اسْتَطَاعَ. وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ عَائِشَةَ عَلَى غِنَاءِ الْقَيْنَتَيْنِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ «دَعْهُمَا، فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ» . وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي الْعُرْسِ فِي الْغِنَاءِ وَسَمَّاهُ لَهْوًا، وَقَدْ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِدَاءَ، وَأَذِنَ فِيهِ، وَكَانَ يَسْمَعُ أَنَسًا وَالصَّحَابَةَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا وَدَخَلَ مَكَّةَ وَالْمُرْتَجِزُ يَرْتَجِزُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِشِعْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَحَدَا بِهِ الْحَادِي فِي مُنْصَرَفِهِ مِنْ خَيْبَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا

إِنَّ الَّذِينَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا ... وَنَحْنُ إِنْ صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا ... وَنَحْنُ عَنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا فَدَعَا لِقَائِلِهِ. وَسَمِعَ قَصِيدَةَ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَأَجَازَهُ بِبُرْدَةٍ. وَاسْتَنْشَدَ الْأَسْوَدَ بْنَ سَرِيعٍ قَصَائِدَ حَمِدَ بِهَا رَبَّهُ. وَاسْتَنْشَدَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ مِائَةَ قَافِيَةٍ. وَأَنْشَدَهُ الْأَعْشَى شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ فَسَمِعَهُ. وَصَدَّقَ لَبِيدًا فِي قَوْلِهِ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ. وَدَعَا لِحَسَّانَ أَنْ يُؤَيِّدَهُ اللَّهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ مَا دَامَ يُنَافِحُ عَنْهُ، وَكَانَ يُعْجِبُهُ شِعْرُهُ،

وَقَالَ لَهُ «اهْجُهُمْ، وَرُوحُ الْقُدُسِ مَعَكَ» . وَأَنْشَدَتْهُ عَائِشَةُ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ: وَمُبَرَّإٍ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ ... وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُغْيِلِ وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ ... بَرَقَتْ كَبَرْقِ الْعَارِضِ الْمُتَهَلِّلِ وَقَالَتْ: أَنْتَ أَحَقُّ بِهَذَا الْبَيْتِ، فَسُّرَ بِقَوْلِهَا. وَبِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَخَّصَ فِيهِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ، وَبِأَنَّ كَذَا وَكَذَا وَلِيًّا لِلَّهِ حَضَرُوهُ وَسَمِعُوهُ، فَمَنْ حَرَّمَهُ فَقَدْ قَدَحَ فِي هَؤُلَاءِ السَّادَةِ الْقُدْوَةِ الْأَعْلَامِ. وَبِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى إِبَاحَةِ أَصْوَاتِ الطُّيُورِ الْمُطْرِبَةِ الشَّجِيَّةِ، فَلَذَّةُ سَمَاعِ صَوْتِ الْآدَمِيِّ أَوْلَى بِالْإِبَاحَةِ، أَوْ مُسَاوِيَةٌ. وَبِأَنَّ السَّمَاعَ يَحْدُو رُوحَ السَّامِعِ وَقَلْبَهُ إِلَى نَحْوِ مَحْبُوبِهِ، فَإِنْ كَانَ مَحْبُوبُهُ حَرَامًا كَانَ السَّمَاعُ مُعِينًا لَهُ عَلَى الْحَرَامِ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا كَانَ السَّمَاعُ فِي حَقِّهِ مُبَاحًا، وَإِنْ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ رَحْمَانِيَّةً كَانَ السَّمَاعُ فِي حَقِّهِ قُرْبَةً وَطَاعَةً، لِأَنَّهُ يُحَرِّكُ الْمَحَبَّةَ الرَّحْمَانِيَّةَ وَيُقَوِّيهَا وَيُهَيِّجُهَا. وَبِأَنَّ الْتِذَاذَ الْأُذُنِ بِالصَّوْتِ الطَّيِّبِ كَالْتِذَاذِ الْعَيْنِ بِالْمَنْظَرِ الْحَسَنِ، وَالشَّمِّ بِالرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ، وَالْفَمِ بِالطُّعُومِ الطَّيِّبَةِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا حَرَامًا كَانَتْ جَمِيعُ هَذِهِ اللَّذَّاتِ وَالْإِدْرَاكَاتِ مُحَرَّمَةً. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ حَيْدَةٌ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَرَوَغَانٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَتَعَلُّقٌ بِمَا لَا

مُتَعَلَّقَ بِهِ، فَإِنَّ جِهَةَ كَوْنِ الشَّيْءِ مُسْتَلَذًا لِلْحَاسَّةِ مُلَائِمًا لَهَا، لَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهِ وَلَا تَحْرِيمِهِ، وَلَا كَرَاهَتِهِ وَلَا اسْتِحْبَابِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ اللَّذَّةَ تَكُونُ فِيمَا فِيهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ تَكُونُ فِي الْحَرَامِ، وَالْوَاجِبِ، وَالْمَكْرُوهِ، وَالْمُسْتَحَبِّ، وَالْمُبَاحِ، فَكَيْفَ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ مَنْ يَعْرِفُ شُرُوطَ الدَّلِيلِ، وَمَوَاقِعَ الِاسْتِدْلَالِ؟ . وَهَلْ هَذَا إِلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ الزِّنَا بِمَا يَجِدُهُ فَاعِلُهُ مِنَ اللَّذَّةِ، وَأَنَّ لَذَّتَهُ لَا يُنْكِرُهَا مَنْ لَهُ طَبْعٌ سَلِيمٌ، وَهَلْ يَسْتَدِلُّ بِوُجُودِ اللَّذَّةِ وَالْمُلَاءَمَةِ عَلَى حِلِّ اللَّذِيذِ الْمُلَائِمِ أَحَدٌ؟ وَهَلْ خَلَتَ غَالِبُ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ اللَّذَّاتِ؟ وَهَلْ أَصْوَاتُ الْمَعَازِفِ الَّتِي صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمُهَا، وَأَنَّ فِي أُمَّتِهِ مَنْ سَيَسْتَحِلُّهَا بِأَصَحِّ إِسْنَادٍ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ بَعْضِهَا، وَقَالَ جُمْهُورُهُمْ بِتَحْرِيمِ جُمْلَتِهَا إِلَّا لَذِيذَةً تُلِذُّ السَّمْعَ؟ وَهَلْ فِي الْتِذَاذِ الْجَمَلِ وَالطِّفْلِ بِالصَّوْتِ الطَّيِّبِ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمِهِ مِنْ إِبَاحَةٍ، أَوْ تَحْرِيمٍ؟ . وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الصَّوْتَ الطَّيِّبَ، وَهُوَ زِيَادَةُ نِعْمَةٍ مِنْهُ لِصَاحِبِهِ. فَيُقَالُ: وَالصُّورَةُ الْحَسَنَةُ الْجَمِيلَةُ، أَلَيْسَتْ زِيَادَةً فِي النِّعْمَةِ، وَاللَّهُ خَالِقُهَا. وَمُعْطِي حُسْنِهَا؟ أَفَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ التَّمَتُّعِ بِهَا، وَالِالْتِذَاذِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِهَا؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا مَذْهَبُ أَهْلِ الْإِبَاحَةِ الْجَارِينَ مَعَ رُسُومِ الطَّبِيعَةِ؟ . وَهَلْ فِي ذَمِّ اللَّهِ لِصَوْتِ الْحِمَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَاتِ بِالنَّغَمَاتِ الْمَوْزُونَاتِ، وَالْأَلْحَانِ اللَّذِيذَاتِ، مِنَ الصُّوَرِ الْمُسْتَحْسَنَاتِ، بِأَنْوَاعِ الْقَصَائِدِ الْمُنَغَّمَاتِ بِالدُّفُوفِ وَالشَّبَّابَاتِ؟ ! . وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِسَمَاعِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا أَجْدَرَ صَاحِبَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى إِبَاحَةِ الْخَمْرِ بِأَنَّ فِي الْجَنَّةِ خَمْرًا، وَعَلَى حِلِّ لِبَاسِ الْحَرِيرِ بِأَنَّ لِبَاسَ أَهْلِهَا حَرِيرٌ، وَعَلَى حِلِّ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالتَّحَلِّي بِهِمَا لِلرِّجَالِ بِكَوْنِ ذَلِكَ ثَابِتًا بِوُجُودِ النَّعِيمِ بِهِ فِي الْجَنَّةِ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى تَحْرِيمِ السَّمَاعِ. قِيلَ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ آخَرُ غَيْرُ الِاسْتِدْلَالِ بِإِبَاحَتِهِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، فَعُلِمَ أَنَّ اسْتِدْلَالَكُمْ بِإِبَاحَتِهِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ، لَا يَرْضَى بِهِ مُحَصِّلٌ.

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ السَّمَاعِ. فَيُقَالُ لَكَ: أَيَّ السَّمَاعَاتِ تَعْنِي؟ وَأَيَّ الْمَسْمُوعَاتِ تُرِيدُ؟ فَالسَّمَاعَاتُ وَالْمَسْمُوعَاتُ مِنْهَا الْمُحَرَّمُ، وَالْمَكْرُوهُ، وَالْمُبَاحُ، وَالْوَاجِبُ، وَالْمُسْتَحَبُّ، فَعَيِّنْ نَوْعًا يَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. فَإِنْ قُلْتَ: سَمَاعُ الْقَصَائِدِ، قِيلَ لَكَ: أَيَّ الْقَصَائِدِ تَعْنِي؟ مَا مُدِحَ بِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَدِينُهُ وَكِتَابُهُ، وَهُجِيَ بِهِ أَعْدَاؤُهُ؟ . فَهَذِهِ لَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ يَرْوُونَهَا وَيَسْمَعُونَهَا وَيَتَدَارَسُونَهَا، وَهِيَ الَّتِي سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَأَثَابَ عَلَيْهَا، وَحَرَّضَ حَسَّانَ عَلَيْهَا، وَهِيَ الَّتِي غَرَّتْ أَصْحَابَ السَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ، فَقَالُوا: تِلْكَ قَصَائِدُ، وَسَمَاعُنَا قَصَائِدُ، فَنَعَمْ إِذَنْ، وَالسُّنَّةُ كَلَامٌ، وَالْبِدْعَةُ كَلَامٌ، وَالتَّسْبِيحُ كَلَامٌ، وَالْغِيبَةُ كَلَامٌ، وَالدُّعَاءُ كَلَامٌ، وَالْقَذْفُ كَلَامٌ، وَلَكِنْ هَلْ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ سَمَاعَكُمْ هَذَا الشَّيْطَانِيَّ الْمُشْتَمِلَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَفْسَدَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ أَشَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى بَعْضِهَا؟ . وَنَظِيرُ هَذَا: مَا غَرَّهُمْ مِنَ اسْتِحْسَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّوْتَ الْحَسَنَ بِالْقُرْآنِ، وَأَذَنِهِ لَهُ وَإِذْنِهِ فِيهِ، وَمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ. فَنَقَلُوا هَذَا الِاسْتِحْسَانَ إِلَى صَوْتِ النِّسْوَانِ وَالْمُرْدَانِ وَغَيْرِهِمْ، بِالْغَنَاءِ الْمَقْرُونِ بِالْمَعَازِفِ وَالشَّاهِدِ، وَذِكْرِ الْقَدِّ وَالنَّهْدِ وَالْخَصْرِ، وَوَصْفِ الْعُيُونِ وَفِعْلِهَا، وَالشَّعْرِ الْأَسْوَدِ، وَمَحَاسِنِ الشَّبَابِ، وَتَوْرِيدِ الْخُدُودِ، وَذِكْرِ الْوَصْلِ وَالصَّدِّ، وَالتَّجَنِّي وَالْهِجْرَانِ، وَالْعِتَابِ وَالِاسْتِعْطَافِ، وَالِاشْتِيَاقِ، وَالْقَلَقِ وَالْفِرَاقِ، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى، مِمَّا هُوَ أَفْسَدُ لِلْقَلْبِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا، وَأَيُّ نِسْبَةٍ لِمَفْسَدَةِ سُكْرِ يَوْمٍ وَنَحْوِهِ إِلَى سَكْرَةِ الْعِشْقِ الَّتِي لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهَا إِلَّا فِي عَسْكَرِ الْهَالِكِينَ، سَلِيبًا حَرْبِيًّا، أَسِيرًا قَتِيلًا؟ . وَهَلْ تُقَاسُ سَكْرَةُ الشَّرَابِ بِسَكْرَةِ الْأَرْوَاحِ بِالسَّمَاعِ؟ وَهَلْ يُظَنُّ بِحَكِيمٍ أَنْ يُحَرِّمَ سُكْرًا لِمَفْسَدَةٍ فِيهِ مَعْلُومَةٍ، وَيُبِيحَ سُكْرًا مَفْسَدَتُهُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَفْسَدَةِ الشَّرَابِ؟ حَاشَا أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ. فَإِنْ نَازَعُوا فِي سُكْرِ السَّمَاعِ، وَتَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُولِ وَالْأَرْوَاحِ خَرَجُوا عَنِ الذَّوْقِ وَالْحِسِّ، وَظَهَرَتْ مُكَابَرَةُ الْقَوْمِ، فَكَيْفَ يَحْمِي الطَّبِيبُ الْمَرِيضَ عَمَّا يُشَوِّشُ عَلَيْهِ صِحَّتَهُ،

وَيُبِيحُ لَهُ مَا فِيهِ أَعْظَمُ السُّقْمِ؟ وَالْمُنْصِفُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ بَيْنَ سُقْمِ الْأَرْوَاحِ بِسُكْرِ الشَّرَابِ، وَسُقْمِهَا بِسُكْرِ السَّمَاعِ. وَكَلَامُنَا مَعَ وَاجِدٍ لَا فَاقِدٍ، فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ. وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا: اسْتِدْلَالُكُمْ عَلَى إِبَاحَةِ السَّمَاعِ الْمُرَكَّبِ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بِغِنَاءِ بُنَيَّتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ دُونَ الْبُلُوغِ، عِنْدَ امْرَأَةٍ صَبِيَّةٍ فِي يَوْمِ عِيدٍ وَفَرَحٍ، بِأَبْيَاتٍ مِنْ أَبْيَاتِ الْعَرَبِ، فِي وَصْفِ الشَّجَاعَةِ وَالْحُرُوبِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ . وَالْعَجَبُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الصِّدِّيقَ الْأَكْبَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمَّى ذَلِكَ مَزْمُورًا مِنْ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ وَأَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ وَرَخَّصَ فِيهِ لِجُوَيْرِيَّتَيْنِ غَيْرِ مُكَلَّفَتَيْنِ، وَلَا مَفْسَدَةَ فِي إِنْشَادِهِمَا، وَلَا اسْتِمَاعِهِمَا، أَفَيَدُلُّ هَذَا عَلَى إِبَاحَةِ مَا تَعْمَلُونَهُ وَتَعْلَمُونَهُ مِنَ السَّمَاعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى؟ فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ! كَيْفَ ضَلَّتِ الْعُقُولُ وَالْأَفْهَامُ؟ . وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِبَاحَتِهِ بِمَا سَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحِدَاءِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْحَقِّ وَالتَّوْحِيدِ؟ ! وَهَلْ حَرَّمَ أَحَدٌ مُطْلَقَ الشِّعْرِ، وَقَوْلَهُ وَاسْتِمَاعَهُ؟ فَكَمْ فِي هَذَا التَّعَلُّقِ بِبُيُوتِ الْعَنْكَبُوتِ؟ . وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِبَاحَتِهِ بِإِبَاحَةِ أَصْوَاتِ الطُّيُورِ اللَّذِيذَةِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَأَيْنَ أَصْوَاتُ الطُّيُورِ إِلَى نَغَمَاتِ الْغِيدِ الْحِسَانِ، وَالْأَوْتَارِ وَالْعِيدَانِ، وَأَصْوَاتِ أَشْبَاهِ النِّسَاءِ مَنِ الْمُرْدَانِ، وَالْغِنَاءِ بِمَا يَحْدُو الْأَرْوَاحَ وَالْقُلُوبَ إِلَى مُوَاصَلَةِ كُلِّ مَحْبُوبَةٍ وَمَحْبُوبٍ؟ وَأَيْنَ الْفِتْنَةُ بِهَذَا إِلَى الْفِتْنَةِ بِصَوْتِ الْقُمْرِيِّ وَالْبُلْبُلِ وَالْهَزَارِ وَنَحْوِهَا؟ . بَلْ نَقُولُ: لَوْ كَانَا سَوَاءً لَكَانَ اتِّخَاذُ هَذَا السَّمَاعِ قُرْبَةً وَطَاعَةً تُسْتَنْزَلُ بِهِ الْمَعَارِفُ وَالْأَذْوَاقُ وَالْمَوَاجِيدُ، وَتُحَرَّكُ بِهِ الْأَحْوَالُ بِمَنْزِلَةِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِأَصْوَاتِ الطُّيُورِ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَا سَوَاءً. وَالَّذِي يَفْصِلُ النِّزَاعَ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ قَوَاعِدَ، مِنْ أَهَمِّ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ وَالسُّلُوكِ، فَمَنْ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهَا فَبِنَاؤُهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ.

الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ الذَّوْقَ وَالْحَالَ وَالْوَجْدَ: هَلْ هُوَ حَاكِمٌ أَوْ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ، فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحَاكِمٍ آخَرَ، وَيَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ؟ . فَهَذَا مَنْشَأُ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنَ الْمُفْسِدِينَ لِطَرِيقِ الْقَوْمِ الصَّحِيحَةِ، حَيْثُ جَعَلُوهُ حَاكِمًا، فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ فِيمَا يَسُوغُ وَيَمْتَنِعُ، وَفِيمَا هُوَ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ، وَجَعَلُوهُ مَحَكًّا لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَنَبَذُوا لِذَلِكَ مُوجَبَ الْعِلْمِ وَالنُّصُوصِ، وَحَكَّمُوا فِيهَا الْأَذْوَاقَ وَالْأَحْوَالَ وَالْمَوَاجِيدَ، فَعَظُمَ الْأَمْرُ، وَتَفَاقَمَ الْفَسَادُ وَالشَّرُّ، وَطُمِسَتْ مَعَالِمُ الْإِيمَانِ وَالسُّلُوكِ الْمُسْتَقِيمِ، وَانْعَكَسَ السَّيْرُ، وَكَانَ إِلَى اللَّهِ فَصَيَّرُوهُ إِلَى النُّفُوسِ، فَالنَّاسُ الْمَحْجُوبُونَ عَنْ أَذْوَاقِهِمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَهَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ نُفُوسَهُمْ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي أَنْوَاعِ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ وَالزُّهْدِ، لِيَتَجَرَّدُوا عَنْ شَهَوَاتِ النُّفُوسِ وَحُظُوظِهَا، فَانْتَقَلُوا مِنْ شَهَوَاتٍ إِلَى شَهَوَاتٍ أَكْبَرَ مِنْهَا، وَمِنْ حُظُوظٍ إِلَى حُظُوظٍ أَحَطَّ مِنْهَا، وَكَانَ حَالُهُمْ فِي شَهَوَاتِ نُفُوسِهِمُ الَّتِي انْتَقَلُوا عَنْهَا أَكْمَلَ، وَحَالُ أَرْبَابِهَا خَيْرًا مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُعَارِضُوا بِهَا الْعِلْمَ، وَلَا قَدَّمُوهَا عَلَى النُّصُوصِ، وَلَا جَعَلُوهَا دِينًا وَقُرْبَةً، وَلَا ازْدَرَوْا مِنْ أَجْلِهَا الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ. وَالشَّهَوَاتُ الَّتِي انْتَقَلُوا إِلَيْهَا جَعَلُوهَا أَعْلَى مَا يُشَمِّرُونَ إِلَيْهَا، فَهِيَ قِبْلَةُ قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ حَوْلَهَا عَاكِفُونَ، وَاقِفُونَ مَعَ حُظُوظِهِمْ مِنَ اللَّهِ، فَانُونَ بِهَا عَنْ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُمْ، النَّاسُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ أَنْفُسَهُمْ، عَائِبُونَ عَلَى أَهْلِ الْحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ وَمُزْدَرُونَ لَهُمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حُظُوظًا، وَإِنَّمَا زَهِدُوا فِي حَظٍّ إِلَى حَظٍّ أَعْلَى مِنْهُ، وَإِنَّمَا تَرَكُوا شَهْوَةً لِشَهْوَةٍ أَحَطَّ. فَلْيَتَدَبَّرِ اللَّبِيبُ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ، فَكُلُّ مَا خَالَفَ مُرَادَ اللَّهِ الدِّينِيَّ مِنَ الْعَبْدِ فَهُوَ حَظُّهُ وَشَهْوَتُهُ، مَالًا كَانَ، أَوْ رِيَاسَةً، أَوْ صُورَةً، أَوْ حَالًا، أَوْ ذَوْقًا، أَوْ وَجْدًا. ثُمَّ مَنْ قَدَّمَهُ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ فَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِمَّنْ عَرَفَ أَنَّهُ نَقْصٌ وَمِحْنَةٌ، وَأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مِنْهُ، فَهُوَ يَتُوبُ مِنْهُ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى اللَّهِ. ثُمَّ إِنَّهُ وَقَعَ مِنْ تَحْكِيمِ الذَّوْقِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ الْأَذْوَاقَ مُخْتَلِفَةٌ فِي أَنْفُسِهَا، كَثِيرَةُ الْأَلْوَانِ، مُتَبَايِنَةٌ أَعْظَمَ التَّبَايُنِ، فَكُلُّ طَائِفَةٍ لَهُمْ أَذْوَاقٌ وَأَحْوَالٌ وَمَوَاجِيدُ، بِحَسَبِ مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ. فَالْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ لَهُمْ ذَوْقٌ وَحَالٌ وَوَجْدٌ فِي مُعْتَقَدِهِمْ بِحَسَبِهِ، وَالنَّصَارَى لَهُمْ ذَوْقٌ فِي النَّصْرَانِيَّةِ بِحَسَبِ رِيَاضَتِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ، وَكُلُّ مَنِ اعْتَقَدَ شَيْئًا أَوْ سَلَكَ

سُلُوكًا حَقًّا كَانَ أَوْ بَاطِلًا فَإِنَّهُ إِذَا ارْتَاضَ وَتَجَرَّدَ لَزِمَهُ، وَتَمَكَّنَ مِنْ قَلْبِهِ، وَبَقِيَ لَهُ فِيهِ حَالٌ وَذَوْقٌ وَوَجْدٌ، فَيَذُوقُ مَنْ يَزِنُ الْحَقَائِقَ إِذَنْ وَيَعْرِفُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ. وَهَذَا سَيِّدُ أَهْلِ الْأَذْوَاقِ وَالْمَوَاجِيدِ، وَالْكُشُوفِ وَالْأَحْوَالِ، مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَدَّثُ الْمُكَاشَفُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى ذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، حَتَّى يَنْشُدَ عَنْهُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَالْأَعْرَابَ، فَإِذَا أَخْبَرُوهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَوْقِهِ، وَلَا إِلَى وَجْدِهِ وَخِطَابِهِ، بَلْ يَقُولُ " لَوْ لَمْ نَسْمَعْ بِهَذَا لَقَضَيْنَا بِغَيْرِهِ " وَيَقُولُ " أَيُّهَا النَّاسُ، رَجُلٌ أَخْطَأَ وَامْرَأَةٌ أَصَابَتْ " فَهَذَا فِعْلُ النَّاصِحِ لِنَفْسِهِ وَلِلْأُمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَيْسَ كَفِعْلِ مَنْ غَشَّ نَفْسَهُ وَالدِّينَ وَالْأُمَّةَ. الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي حُكْمِ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، أَوْ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَوْ ذَوْقٍ مِنَ الْأَذْوَاقِ، هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَوْ فَاسِدٌ؟ وَحَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ؟ وَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الْحُجَّةِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ وَحْيُهُ الَّذِي تُتَلَقَّى أَحْكَامُ النَّوَازِلِ وَالْأَحْوَالِ وَالْوَارِدَاتِ مِنْهُ، وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ وَتُوزَنُ بِهِ، فَمَا زَكَّاهُ مِنْهَا وَقَبِلَهُ وَرَجَّحَهُ وَصَحَّحَهُ فَهُوَ الْمَقْبُولُ، وَمَا أَبْطَلَهُ وَرَدَّهُ فَهُوَ الْبَاطِلُ الْمَرْدُودُ، وَمَنْ لَمْ يَبْنِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عِلْمَهُ وَسُلُوكَهُ وَعَمَلَهُ فَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ، وَإِنْ وَإِنْ، وَإِنَّمَا مَعَهُ خُدَعٌ وَغُرُورٌ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] . الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا أَشْكَلَ عَلَى النَّاظِرِ أَوِ السَّالِكِ حُكْمُ شَيْءٍ هَلْ هُوَ الْإِبَاحَةُ أَوِ التَّحْرِيمُ؟ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَفْسَدَتِهِ وَثَمَرَتِهِ وَغَايَتِهِ، فَإِنْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ ظَاهِرَةٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَى الشَّارِعِ الْأَمْرُ بِهِ أَوْ إِبَاحَتُهُ، بَلِ الْعِلْمُ بِتَحْرِيمِهِ مِنْ شَرْعِهِ قَطْعِيٌّ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ طَرِيقًا مُفْضِيًا إِلَى مَا يُغْضِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مُوصِلًا إِلَيْهِ عَنْ قُرْبٍ

فصل تحكيم الوحي في الأحوال والأذواق

، وَهُوَ رُقْيَةٌ لَهُ وَرَائِدٌ وَبَرِيدٌ، فَهَذَا لَا يَشُكُّ فِي تَحْرِيمِهِ أُولُو الْبَصَائِرِ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِالْحَكِيمِ الْخَبِيرِ أَنْ يُحَرِّمَ مِثْلَ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِنَ الْمُسْكِرِ لِأَنَّهُ يَسُوقُ النَّفْسَ إِلَى السُّكْرِ الَّذِي يَسُوقُهَا إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ ثُمَّ يُبِيحُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ سَوْقًا لِلنُّفُوسِ إِلَى الْحَرَامِ بِكَثِيرٍ؟ فَإِنَّ الْغِنَاءَ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ رُقْيَةُ الزِّنَا، وَقَدْ شَاهَدَ النَّاسُ أَنَّهُ مَا عَانَاهُ صَبِيٌّ إِلَّا وَفَسَدَ، وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا وَبَغَتْ، وَلَا شَابٌّ إِلَّا وَإِلَّا، وَلَا شَيْخٌ إِلَّا وَإِلَّا، وَالْعِيَانُ مِنْ ذَلِكَ يُغْنِي عَنِ الْبُرْهَانِ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا جَمَعَ هَيْئَةً تَحْدُو النُّفُوسَ أَعْظَمَ حَدْوٍ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْفُجُورِ، بِأَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي لِأَهْلِهِ، مِنَ الْمَكَانِ وَالْإِمْكَانِ، وَالْعُشَرَاءِ وَالْإِخْوَانِ، وَآلَاتِ الْمَعَازِفِ مِنَ الْيَرَاعِ، وَالدُّفِّ، وَالْأَوْتَارِ وَالْعِيدَانِ، وَكَانَ الْقَوَّالُ شَادِنًا شَجِيَّ الصَّوْتِ، لِطَيْفَ الشَّمَائِلِ مِنَ الْمُرْدَانِ أَوِ النِّسْوَانِ، وَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْعِشْقِ وَالْوِصَالِ، وَالصَّدِّ وَالْهِجْرَانِ. وَدَارَتْ كُئُوسُ الْهَوَى بَيْنَهُمْ ... فَلَسْتَ تَرَى فِيهِمْ صَاحِيَا فَكُلٌّ عَلَى قَدْرِ مَشْرُوبِهِ ... وَكُلٌّ أَجَابَ الْهَوَى الدَّاعِيَا فَمَالُوا سُكَارَى وَلَا سُكْرَ مِنْ ... تَنَاوُلِ أُمِّ الْهَوَى خَالِيَا وَجَارٍ عَلَى الْقَوْمِ سَاقِيهِمُ ... وَلَمْ يُؤْثِرُوا غَيْرَهُ سَاقِيَا فَمَزَّقَ مِنْهُمْ قُلُوبًا غَدَتْ ... لِبَاسًا عَلَيْهِ يُرَى ضَافِيَا فَلَمْ يَسْتَفِيقُوا إِلَى أَنْ أَتَى ... إِلَيْهِمْ مُنَادِي اللِّقَا دَاعِيَا أَجِيبُوا فَكُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمُ ... عَلَى حَالِهِ رَبَّهُ لَاقَيَا هُنَالِكَ تَعْلَمُ مِنْ حَمْأَةٍ ... شَرِبْتَ مَعَ الْقَوْمِ أَمْ صَافِيَا؟ وَبِاللَّهِ لَا بُدَّ قَبْلَ اللِّقَا ... سَنَعْلَمُ ذَا إِنْ تَكُ وَاعِيَا لَا بُدَّ تَصْحُو فَإِمَّا هُنَا ... وَإِمَّا هُنَاكَ فَكُنْ رَاضِيَا [فَصْلٌ تَحْكِيمُ الْوَحْيِ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَذْوَاقِ] فَصْلٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْمُحَاكَمَةِ إِلَى الذَّوْقِ، فَهَلُمَّ نُحَاكِمُكَ إِلَى ذَوْقٍ لَا نُنْكِرُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ غَيْرِ هَذِهِ الْأَذْوَاقِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. فَالْقَلْبُ يَعْرِضُ لَهُ حَالَتَانِ: حَالَةُ حَزْنٍ وَأَسَفٍ عَلَى مَفْقُودٍ، وَحَالَةُ فَرَحٍ وَرِضًى بِمَوْجُودٍ، وَلَهُ بِمُقْتَضَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ عُبُودِيَّتَانِ. وَلَهُ بِمُقْتَضَى الْحَالَةِ الْأُولَى عُبُودِيَّةُ الرِّضَاءِ، وَهِيَ لِلسَّابِقِينَ، وَالصَّبْرِ وَهِيَ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ.

وَلَهُ بِمُقْتَضَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ عُبُودِيَّةُ الشُّكْرِ، وَالشَّاكِرُونَ فِيهَا أَيْضًا نَوْعَانِ: سَابِقُونَ، وَأَصْحَابُ يَمِينٍ، فَاقْتَطَعَتْهُ النَّفْسُ وَالشَّيْطَانُ عَنْ هَاتَيْنِ الْعُبُودِيَّتَيْنَ، بِصَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ، هُمَا لِلشَّيْطَانِ لَا لِلرَّحْمَنِ: صَوْتِ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ عِنْدَ الْحُزْنِ وَفَوَاتِ الْمَحْبُوبِ، وَصَوْتِ اللَّهْوِ وَالْمِزْمَارِ وَالْغَنَاءِ عِنْدَ الْفَرَحِ وَحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، فَعَوَّضَهُ الشَّيْطَانُ بِهَذَيْنِ الصَّوْتَيْنِ عَنْ تَيْنِكَ الْعُبُودِيَّتَيْنِ. وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " «إِنَّمَا نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ، فَاجِرَيْنِ: صَوْتِ وَيْلٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، وَصَوْتِ مِزْمَارٍ عِنْدَ نِعْمَةٍ» ". وَوَافَقَ ذَلِكَ رَاحَةً مِنَ النَّفْسِ وَشَهْوَةً وَلَذَّةً، وَسَرَتْ فِيهَا تِلْكَ الرَّقَائِقُ حَتَّى تَعَبَّدَ بِهَا مَنْ قَلَّ نَصِيبُهُ مِنَ النُّورِ النَّبَوِيِّ، وَقَلَّ مَشْرَبُهُ مِنَ الْعَيْنِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَانْضَافَ ذَلِكَ إِلَى صِدْقٍ وَطَلَبٍ وَإِرَادَةٍ مُضَادَّةٍ لِشَهَوَاتِ أَهْلِ الْغَيِّ وَأَهْلِ الْبِطَالَةِ، وَرَأَوْا قَسَاوَةَ قُلُوبِ الْمُنْكِرِينَ لِطَرِيقَتِهِمْ، وَكَثَافَةَ حَجْبِهِمْ، وَغِلْظَةَ طِبَاعِهِمْ، وَثِقَلَ أَرْوَاحِهِمْ، وَصَادَفَ ذَلِكَ تَحَرُّكًا لِسَوَاكِنِهِمْ، وَانْقِيَادًا لِلَوَاعِجِ الْحُبِّ، وَإِزْعَاجًا لِلنُّفُوسِ إِلَى أَوْطَانِهَا الْأُولَى وَمَعَاهِدِهَا الَّتِي سُبِيَتْ مِنْهَا. وَالنُّفُوسُ الطَّالِبَةُ الْمُرْتَاضَةُ السَّائِرَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحَرِّكٍ يُحَرِّكُهَا، وَحَادٍ يَحْدُوهَا، وَلَيْسَ لَهَا مِنْ حَادِي الْقُرْآنِ عِوَضٌ عَنْ حَادِي السَّمَاعِ. فَتَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إِيثَارٌ مِنْهُمْ لِلسَّمَاعِ، وَمَحَبَّةٌ صَادِقَةٌ لَهُ، تَزُولُ الْجِبَالُ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَلَا تُفَارِقُ قُلُوبَهُمْ، إِذْ هُوَ مُثِيرُ عَزَمَاتِهِمْ وَمُحَرِّكُ سَوَاكِنِهِمْ، وَمُزْعِجُ بَوَاطِنِهِمْ. فَدَوَاءُ صَاحِبِ مِثْلِ هَذَا الْحَالِ أَنْ يُنْقَلَ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ بِالْأَصْوَاتِ الطَّيِّبَةِ، مَعَ الْإِمْعَانِ فِي تَفَهُّمِ مَعَانِيهِ، وَتَدَبُّرِ خِطَابِهِ قَلِيلًا قَلِيلًا، إِلَى أَنْ يَنْخَلِعَ مِنْ قَلْبِهِ سَمَاعُ الْأَبْيَاتِ، وَيَلْبَسَ مَحَبَّةَ سَمَاعِ الْآيَاتِ، وَيَصِيرَ ذَوْقُهُ وَشُرْبُهُ وَحَالُهُ وَوَجْدُهُ فِيهِ، فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ، وَيَتَمَثَّلُ حِينَئِذٍ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: وَكُنْتُ أَرَى أَنْ قَدْ تَنَاهَى بِيَ الْهَوَى ... إِلَى غَايَةٍ مَا فَوْقَهَا لِي مَطْلَبُ فَلَمَّا تَلَاقَيْنَا وَعَايَنْتُ حُسْنَهَا ... تَيَقَّنْتُ أَنِّي إِنَّمَا كُنْتُ أَلْعَبُ وَمُنَافَاةُ النَّوْحِ لِلصَّبْرِ وَالْغِنَاءِ لِلشُّكْرِ: أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ، لَا يَمْتَرِي فِيهِ إِلَّا أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، فَإِنَّ الشُّكْرَ هُوَ الِاشْتِغَالُ بِطَاعَةِ اللَّهِ لَا بِالصَّوْتِ

الْأَحْمَقِ الْفَاجِرِ، الَّذِي هُوَ الشَّيْطَانُ، وَكَذَلِكَ النَّوْحُ ضِدُّ الصَّبْرِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي النَّائِحَةِ وَقَدْ ضَرَبَهَا حَتَّى بَدَا شَعْرُهَا وَقَالَ: لَا حُرْمَةَ لَهَا، إِنَّهَا تَأْمُرُ بِالْجَزَعِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَتَنْهَى عَنِ الصَّبْرِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَفْتِنُ الْحَيَّ وَتُؤْذِي الْمَيِّتَ، وَتَبِيعُ عَبْرَتَهَا، وَتَبْكِي شَجْوَ غَيْرِهَا. وَمَعْلُومٌ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ أَنَّ فِتْنَةَ سَمَاعِ الْغَنَاءِ وَالْمَعَازِفِ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ النَّوْحِ بِكَثِيرٍ، وَالَّذِي شَاهَدْنَاهُ نَحْنُ وَغَيْرُنَا وَعَرَفْنَاهُ بِالتَّجَارِبِ أَنَّهُ مَا ظَهَرَتِ الْمَعَازِفُ وَآلَاتُ اللَّهْوِ فِي قَوْمٍ، وَفَشَتْ فِيهِمْ، وَاشْتَغَلُوا بِهَا، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَدُوَّ، وَبُلُوا بِالْقَحْطِ وَالْجَدْبِ وَوُلَاةِ السُّوءِ، وَالْعَاقِلُ يَتَأَمَّلُ أَحْوَالَ الْعَالَمِ وَيَنْظُرُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَلَا تَسْتَطِلْ كَلَامَنَا فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَإِنَّ لَهَا عِنْدَ الْقَوْمِ شَأْنًا عَظِيمًا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: مَنْ أَنْكَرَ عَلَى أَهْلِهِ فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى كَذَا وَكَذَا وَلِيٍّ لِلَّهِ، فَحُجَّةٌ عَامِّيَّةٌ، نَعَمْ إِذَا أَنْكَرَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَانَ مَاذَا؟ فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ عَدَدًا، وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ قَدْرًا، وَأَقْرَبُ بِالْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ عَهْدًا، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ وَلِيِّ اللَّهِ الْعِصْمَةُ، وَقَدْ تَقَاتَلَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فِي صِفِّينَ بِالسُّيُوفِ، وَلَمَّا سَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كَانَ يُقَالُ: سَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَكَوْنُ وَلِيِّ اللَّهِ يَرْتَكِبُ الْمَحْظُورَ وَالْمَكْرُوهَ مُتَأَوِّلًا أَوْ عَاصِيًا لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَصْلِ وِلَايَةِ اللَّهِ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَقَدِّمِينَ حَضَرَ هَذَا السَّمَاعَ الْمُحْدَثَ الْمُبْتَدَعَ، الْمُشْتَمِلَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الَّتِي تَفْتِنُ الْقُلُوبَ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَشْرُوبِ، وَحَاشَا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا السَّمَاعُ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُ الْقَوْمِ: اجْتِمَاعُهُمْ فِي مَكَانٍ خَالٍ مِنَ الْأَغْيَارِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، وَيَتْلُونَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَقُومُ بَيْنَهُمْ قَوَّالٌ يُنْشِدُهُمْ شَيْئًا مِنَ الْأَشْعَارِ الْمُزَهِّدَةِ فِي الدُّنْيَا، الْمُرَغِّبَةِ فِي لِقَاءِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَيُنَبِّهُهُمْ عَلَى بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ يَقَظَةٍ أَوْ غَفْلَةٍ، أَوْ بُعْدٍ أَوِ انْقِطَاعٍ، أَوْ تَأَسُّفٍ عَلَى فَائِتٍ، أَوْ تَدَارُكٍ لِفَارِطٍ، أَوْ وَفَاءٍ بِعَهْدٍ، أَوْ تَصْدِيقٍ بِوَعْدٍ، أَوْ ذِكْرِ قَلَقٍ وَشَوْقٍ، أَوْ خَوْفِ فُرْقَةٍ أَوْ صَدٍّ، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى. فَهَذَا السَّمَاعُ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ الْقَوْمُ، لَا سَمَاعُ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ، وَالْمَعَازِفِ وَالْخَمْرِيَّاتِ. وَعِشْقُ الصُّوَرِ مِنَ الْمُرْدَانِ وَالنِّسْوَانِ، وَذِكْرُ مَحَاسِنِهَا وَوِصَالِهَا وَهِجْرَانِهَا، فَهَذَا لَوْ سُئِلَ عَنْهُ مَنْ سُئِلَ مِنْ أُولِي الْعُقُولِ لَقَضَى بِتَحْرِيمِهِ، وَعَلِمَ أَنَّ الشَّرْعَ لَا يَأْتِي بِإِبَاحَتِهِ

فصل درجات السماع الثلاث

، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النَّاسِ أَضَرُّ مِنْهُ، وَلَا أَفْسَدُ لِعُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ السَّمَاعِ الثَّلَاثُ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: السَّمَاعُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: سَمَاعُ الْعَامَّةِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: إِجَابَةُ زَجْرِ الْوَعِيدِ رَغْبَةً، وَإِجَابَةُ دَعْوَةِ الْوَعْدِ جَهْدًا، وَبُلُوغُ مُشَاهَدَةِ الْمِنَّةِ اسْتِبْصَارًا. الْوَعِيدُ يَكُونُ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورِ، وَإِجَابَةُ دَاعِيهِ هُوَ الْعَمَلُ بِالطَّاعَةِ. وَقَوْلُهُ: رَغْبَةً، يَعْنِي امْتِثَالًا لِكَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ وَنَهَى وَأَوْعَدَ. وَحَقِيقَةُ الرَّجَاءِ: الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ، فَيَفْعَلُ مَا أَمَرَ بِهِ عَلَى نُورِ الْإِيمَانِ، رَاجِيًا الثَّوَابَ، وَيَتْرُكُ مَا نَهَى عَنْهُ عَلَى نُورِ الْإِيمَانِ خَائِفًا مِنَ الْعِقَابِ. وَفِي الرَّغْبَةِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ فِعْلَهُ يَكُونُ فِعْلَ رَاغِبٍ مُخْتَارٍ، لَا فِعْلَ كَارِهٍ، كَأَنَّمَا يُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ وَهُوَ يَنْظُرُ. وَأَمَّا إِجَابَةُ الْوَعْدِ جَهْدًا: فَهُوَ امْتِثَالُ الْأَمْرِ طَلَبًا لِلْوُصُولِ إِلَى الْمَوْعُودِ بِهِ، بَاذِلًا جُهْدَهُ فِي ذَلِكَ، مُسْتَفْرِغًا فِيهِ قُوَاهُ. وَأَمَّا بُلُوغُ مُشَاهَدَةِ الْمِنَّةِ اسْتِبْصَارًا: فَهُوَ تَنَبُّهُ السَّامِعِ فِي سَمَاعِهِ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا وَصَلَهُ مِنْ خَيْرٍ فَمِنْ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَبِفَضْلِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُ، وَلَا بَذْلِ عِوَضٍ اسْتَوْجَبَ بِهِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] . وَكَذَلِكَ يَشْهَدُ أَنَّ مَا زُوِيَ عَنْهُ مِنَ الدُّنْيَا، أَوْ مَا لَحِقَهُ مِنْهَا مِنْ ضَرَرٍ وَأَذًى فَهُوَ مِنَّةٌ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَيَسْتَخْرِجُهَا الْفِكْرُ الصَّحِيحُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تَدْرِي أَيُّ النِّعْمَتَيْنِ عَلَيْكَ أَفْضَلُ: نِعْمَتُهُ فِيمَا أَعْطَاكَ، أَوْ نِعْمَتُهُ فِيمَا زَوَى عَنْكَ؟ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا أُبَالِي عَلَى أَيِّ حَالٍ أَصْبَحْتُ أَوْ أَمْسَيْتُ، إِنْ كَانَ الْغِنَى، إِنَّ فِيهِ لِلشُّكْرِ، وَإِنْ كَانَ الْفَقْرَ، إِنَّ فِيهِ لِلصَّبْرِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ:

نِعْمَتُهُ فِيمَا زَوَى عَنِّي مِنَ الدُّنْيَا أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَتِهِ فِيمَا بَسَطَ لِي مِنْهَا، إِنِّي رَأَيْتُهُ أَعْطَاهَا قَوْمًا فَاغْتَرُّوا. إِذَا عَمَّ بِالسَّرَّاءِ أَعْقَبَ شُكْرَهَا ... وَإِنْ مَسَّ بِالضَّرَّاءِ أَعْقَبَهَا الْأَجْرُ وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا لَهُ فِيهِ نِعْمَةٌ ... تَضِيقُ بِهَا الْأَوْهَامُ وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلْ يَشْهَدُ مِنَّتَهُ فِيمَا لَحِقَهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالذَّنْبِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ، وَالْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ، كَانَتْ مِنْ أَعْظَمَ الْمِنَنِ عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. فَصْلٌ. قَالَ: وَسَمَاعُ الْخَاصَّةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: شُهُودُ الْمَقْصُودِ فِي كُلِّ رَمْزٍ، وَالْوُقُوفُ عَلَى الْغَايَةِ فِي كُلِّ حِينٍ، وَالْخَلَاصُ مِنَ التَّلَذُّذِ بِالتَّفَرُّقِ. وَالْمَقْصُودُ فِي كُلِّ رَمْزٍ: هُوَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِنَّ الْمَسْمُوعَ كُلَّهُ يُعَرِّفُ بِهِ وَبِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ، وَهَذَا الشُّهُودُ يُنَالُ بِالسَّمَاعِ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَفِي اللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ. أَمَّا السَّمَاعُ بِهِ: فَأَنْ لَا يَسْمَعَ وَفِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ بَقِيَّةٌ قَطَعَهَا كَمَالُ تَعَلُّقِهِ بِالْمَسْمُوعِ، فَيَكُونُ سَمَاعُهُ بِقَيُّومِيَّتِهِ مُجَرَّدًا مِنَ الْتِفَاتِهِ إِلَى نَفْسِهِ. وَأَمَّا السَّمَاعُ لَهُ: فَأَنْ يُجَرِّدَ النَّفْسَ فِي السَّمَاعِ مِنْ كُلِّ إِرَادَةٍ تُزَاحِمُ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهُ. وَتَجَمُّعُ قُوَى سَمْعِهِ عَلَى تَحْصِيلِ مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْمَسْمُوعِ. وَأَمَّا السَّمَاعُ فِيهِ: فَشَأْنٌ آخَرُ، وَهُوَ تَجْرِيدُ مَا لَا يَلِيقُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ وَصْفٍ، أَوْ سِمَةٍ أَوْ نَعْتٍ، أَوْ فِعْلٍ، مِمَّا هُوَ لَائِقٌ بِكَمَالِهِ، فَيُثْبِتُ لَهُ مَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ مِنَ الْمَسْمُوعِ، وَيُنَزِّهُهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ لَمْ يَتَخَلَّصْ فِيهِ إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَأَضَلَّ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلَ التَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ، وَالتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَ {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] .

وَأَمَّا السَّمَاعُ مِنْهُ فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِوَاسِطَةٍ، فَهُوَ سَمَاعٌ مُقَيَّدٌ، وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَلَا مَطْمَعَ فِيهِ فِي عَالَمِ الْفَنَاءِ، إِلَّا لِمَنِ اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، وَلَكِنَّ السَّمَاعَ لِكَلَامِهِ كَالسَّمَاعِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ كَلَامُهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ حَقًّا، فَمَنْ سَمِعَهُ فَلْيُقَدِّرْ نَفْسَهُ كَأَنَّهُ يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ. هَذَا هُوَ السَّمَاعُ مِنَ اللَّهِ، لَا سَمَاعَ أَرْبَابِ الْخَيَالِ، وَدَعْوَى الْمُحَالِ الْقَائِلِ أَحَدُهُمْ: نَادَانِي فِي سِرِّي، وَخَاطَبَنِي، وَقَالَ لِي، يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنِ الْمُنَادِي لَكَ؟ وَمَنِ الْمُخَاطِبُ، يَا مَخْدُوعُ يَا مَغْرُورُ؟ فَمَا يُدْرِيكَ أَنِدَاءٌ شَيْطَانِيٌّ، أَمْ رَحْمَانِيٌّ؟ وَمَا الْبُرْهَانُ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطِبَ لَكَ هُوَ الرَّحْمَنُ؟ نَعَمْ نَحْنُ لَا نُنْكِرُ النِّدَاءَ وَالْخِطَابَ وَالْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي الْمُنَادِي الْمُخَاطِبِ الْمُحَدِّثِ، فَهَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَلْيُقَدِّرْ نَفْسَهُ كَأَنَّمَا يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ يُخَاطِبُهُ بِهِ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ السَّمَاعُ بِهِ وَلَهُ وَفِيهِ ازْدَحَمَتْ مَعَانِي الْمَسْمُوعِ وَلَطَائِفُهُ وَعَجَائِبُهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَازْدَلَفَتْ إِلَيْهِ بِأَيِّهِمَا يَبْدَأُ، فَمَا شِئْتَ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، وَتَعَرُّفٍ وَبَصِيرَةٍ، وَهِدَايَةٍ وَغَيْرَةٍ. وَأَمَّا الْوُقُوفُ عَلَى الْغَايَةِ فِي كُلِّ حِينٍ: فَهُوَ التَّطَلُّبُ وَالسَّفَرُ إِلَى الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالْمَسْمُوعِ الَّذِي جُعِلَ وَسِيلَةً إِلَيْهَا. وَهُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ غَايَةُ كُلِّ مَطْلَبٍ {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42] وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ مَرْمَى، وَلَا دُونَهُ مُسْتَقَرٌّ، وَلَا تَقَرُّ الْعَيْنُ بِغَيْرِهِ الْبَتَّةَ، وَكُلُّ مَطْلُوبٍ سِوَاهُ فَظِلٌّ زَائِلٌ، وَخَيَالٌ مُفَارِقٌ مَائِلٌ وَإِنْ تَمَتَّعَ بِهِ صَاحِبُهُ فَمَتَاعُ الْغُرُورِ. وَأَمَّا الْخِلَافُ مِنَ التَّلَذُّذِ بِالتَّفَرُّقِ: فَالتَّفَرُّقُ فِي مَعَانِي الْمَسْمُوعِ، وَتَنَقُّلُ الْقَلْبِ فِي مَنَازِلِهَا يُوجِبُ لَهُ لَذَّةً، كَمَا هُوَ الْمَأْلُوفُ فِي الِانْتِقَالِ، فَلْيَتَخَلَّصْ مِنْ لَذَّةِ تَفَرُّقِهِ الَّتِي هِيَ حَظُّهُ، إِلَى الْجَمْعِيَّةِ عَلَى الْمَسْمُوعِ بِهِ وَلَهُ وَمِنْهُ. وَلَمْ يَقُلِ الشَّيْخُ " مِنَ التَّفَرُّقِ " فَإِنَّ الْمَسْمُوعَ إِنَّمَا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ وَيُفْهَمُ بِالتَّفَرُّقِ لِتَنَوُّعِهِ، وَلَكِنْ لِيُتَخَلَّصَ مِنْ لَذَّتِهِ، لَا مِنْهُ، لِئَلَّا يَكُونَ مَعَ حَظِّهِ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِ أَحْوَالِ السَّامِعِينَ الْمُخْلِصِينَ. فَصْلٌ. قَالَ: وَسَمَاعُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ: سَمَاعٌ يَنْفِي الْعِلَلَ عَنِ الْكَشْفِ، وَيَصِلُ الْأَبَدَ إِلَى

فصل منزلة الحزن

الْأَزَلِ، وَيَرُدُّ النِّهَايَاتِ إِلَى الْأُوَلِ. فَالْكَشْفُ هُوَ مُكَافَحَةُ الْقَلْبِ لِحَقِيقَةِ الْمَسْمُوعِ. وَعِلَلُهُ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: الشُّبَهُ الَّتِي تَنْتَفِي بِهَذِهِ الْمُكَافَحَةِ، فَلَا تَبْقَى مَعَهَا شُبْهَةٌ، فَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْيَقِينِ. وَالثَّانِي: نَفْيُ الْوَسَائِطِ بَيْنَ السَّامِعِ وَالْمَسْمُوعِ، فَيَغِيبُ بِمَسْمُوعِهِ عَنْهَا، وَيَفْنَى عَنْ شُهُودِهَا، وَيَفْنَى عَنْ شُهُودِ فَنَائِهِ عَنْهَا، بِحَيْثُ يَشْهَدُهُ هُوَ الْمُسْمِعُ لَا الْوَاسِطَةُ وَهُوَ الْهَادِي، فَمِنْهُ الْإِسْمَاعُ، وَمِنْهُ الْهِدَايَةُ، وَمِنْهُ الِابْتِدَاءُ، وَإِلَيْهِ الِانْتِهَاءُ. وَأَمَّا وَصْلُهُ الْأَبَدَ إِلَى الْأَزَلِ فَهَذَا إِنْ أُخِذَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْأَبَدَ وَالْأَزَلَ مُتَقَابِلَانِ تَقَابُلَ التَّنَاقُضِ، فَإِيصَالُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ عَيْنُ الْمُحَالِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّ مَا يَكُونُ فِي الْأَبَدِ مَوْجُودًا مَشْهُودًا فَقَدْ كَانَ فِي الْأَزَلِ مَعْلُومًا مُقَدَّرًا، فَعَادَ حُكْمُ الْأَبَدِ إِلَى الْأَزَلِ عِلْمًا وَحَقِيقَةً، وَصَارَ الْأَزَلِيُّ أَبَدِيًّا، كَمَا كَانَ الْأَبَدِيُّ أَزَلِيًّا فِي الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْأَبَدَ ظَهَرَ فِيهِ مَا كَانَ كَامِنًا فِي الْأَزَلِ خَافِيًا، فَانْتَهَى الْأَمْرُ كُلُّهُ إِلَى عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَذَلِكَ أَزَلِيٌّ، وَهَذَا رَدُّ النِّهَايَاتِ إِلَى الْأُوَلِ، فَتَصِيرُ الْخَاتِمَةُ هِيَ عَيْنَ السَّابِقَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَكُلُّ مَا كَانَ وَيَكُونُ آخِرًا فَمَرْدُودٌ إِلَى سَابِقِ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ، فَرَجَعَ الْأَبَدُ إِلَى الْأَزَلِ، وَالنِّهَايَاتُ إِلَى الْأُوَلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْحُزْنِ] وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْحُزْنِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْمَنَازِلِ الْمَطْلُوبَةِ، وَلَا الْمَأْمُورِ بِنُزُولِهَا، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لِلسَّالِكِ مِنْ نُزُولِهَا، وَلَمْ يَأْتِ الْحُزْنُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مَنْهِيًّا عَنْهُ، أَوْ مَنْفِيًّا. فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [آل عمران: 139] وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر: 88] فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَقَوْلِهِ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وَالْمَنْفِيُّ كَقَوْلِهِ: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] .

وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الْحُزْنَ مُوقِفٌ غَيْرُ مُسَيِّرٍ، وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْقَلْبِ، وَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الشَّيْطَانِ أَنْ يَحْزَنَ الْعَبْدُ لِيَقْطَعَهُ عَنْ سَيْرِهِ، وَيُوقِفَهُ عَنْ سُلُوكِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10] وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَةَ أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ مِنْهُمْ دُونَ الثَّالِثِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ. فَالْحُزْنُ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ، وَلَا مَقْصُودٍ، وَلَا فِيهِ فَائِدَةٌ، وَقَدِ اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ» فَهُوَ قَرِينُ الْهَمِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَكْرُوهَ الَّذِي يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ، إِنْ كَانَ لِمَا يُسْتَقْبَلُ أَوْرَثَهُ الْهَمَّ، وَإِنْ كَانَ لِمَا مَضَى أَوْرَثَهُ الْحُزْنَ، وَكِلَاهُمَا مُضْعِفٌ لِلْقَلْبِ عَنِ السَّيْرِ، مُقَتِّرٌ لِلْعَزْمِ. وَلَكِنَّ نُزُولَ مَنْزِلَتِهِ ضَرُورِيٌّ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ، وَلِهَذَا يَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانَ يُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا الْحَزَنُ، كَمَا يُصِيبُهُمْ سَائِرُ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَنْ لَا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] فَلَمْ يُمْدَحُوا عَلَى نَفْسِ الْحَزَنِ، وَإِنَّمَا مُدِحُوا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَزَنُ مِنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ، حَيْثُ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَجْزِهِمْ عَنِ النَّفَقَةِ، فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَمْ يَحْزَنُوا عَلَى تَخَلُّفِهِمْ، بَلْ غَبَطُوا نُفُوسَهُمْ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ هَمٍّ وَلَا نَصَبٍ وَلَا حَزَنٍ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ خَطَايَاهُ» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُصِيبَةٌ مِنَ اللَّهِ يُصِيبُ بِهَا الْعَبْدَ،

يُكَفِّرُ بِهَا مِنْ سَيِّئَاتِهِ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَقَامٌ يَنْبَغِي طَلَبُهُ وَاسْتِيطَانُهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ هِنْدِ بْنِ أَبِي هَالَةَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ كَانَ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ فَحَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ. وَكَيْفَ يَكُونُ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ، وَقَدْ صَانَهُ اللَّهُ عَنِ الْحُزْنِ عَلَى الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا، وَنَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَغَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَمِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِ الْحُزْنُ؟ . بَلْ كَانَ دَائِمَ الْبِشْرِ، ضَحُوكَ السِّنِّ، كَمَا فِي صِفَتِهِ " الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ " صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ» " فَلَا يُعْرَفُ إِسْنَادُهُ، وَلَا مَنْ رَوَاهُ، وَلَا تُعْلَمُ صِحَّتُهُ. وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَالْحُزْنُ مُصِيبَةٌ مِنَ الْمَصَائِبِ، الَّتِي يَبْتَلِي اللَّهُ بِهَا عَبْدَهُ، فَإِذَا ابْتَلَى بِهِ الْعَبْدَ فَصَبَرَ عَلَيْهِ، أَحَبَّ صَبْرَهُ عَلَى بَلَائِهِ. وَأَمَّا الْأَثَرُ الْآخَرُ " «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَصَبَ فِي قَلْبِهِ نَائِحَةً، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا جَعَلَ فِي قَلْبِهِ مِزْمَارًا» " فَأَثَرٌ إِسْرَائِيلِيٌّ، قِيلَ: إِنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ حَزِينٌ عَلَى ذُنُوبِهِ، وَالْفَاجِرَ لَاهٍ لَاعِبٌ، مُتَرَنِّمٌ فَرِحٌ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ إِسْرَائِيلَ {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84] فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ بِمُصَابِهِ بِفَقْدِ وَلَدِهِ، وَحَبِيبِهِ، وَأَنَّهُ ابْتَلَاهُ بِذَلِكَ كَمَا ابْتَلَاهُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَأَجْمَعَ أَرْبَابُ السُّلُوكِ عَلَى أَنَّ حُزْنَ الدُّنْيَا غَيْرُ مَحْمُودٍ إِلَّا أَبَا عُثْمَانَ الْحِيرِيَّ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْحُزْنُ بِكُلِّ وَجْهِ فَضِيلَةٌ، وَزِيَادَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، مَا لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ مَعْصِيَةٍ، قَالَ: لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُوجِبْ تَخْصِيصًا، فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَمْحِيصًا. فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّهُ مِحْنَةٌ وَبَلَاءٌ مِنَ اللَّهِ، بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ وَالْهَمِّ وَالْغَمِّ، وَأَمَّا إِنَّهُ مِنْ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ فَلَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْحُزْنُ تَوَجُّعٌ لِفَائِتٍ، وَتَأَسُّفٌ عَلَى مُمْتَنِعٍ. يُرِيدُ أَنَّ مَا يَفُوتُ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مَقْدُورًا لَهُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا تَوَجَّعَ لِفَوْتِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ تَأَسَّفَ لِامْتِنَاعِهِ. قَالَ: وَلَهُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ، الْأُولَى: حُزْنُ الْعَامَّةِ، وَهُوَ حَزْنٌ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي الْخِدْمَةِ، وَعَلَى التَّوَرُّطِ فِي الْجَفَاءِ، وَعَلَى ضَيَاعِ الْأَيَّامِ. التَّفْرِيطُ فِي الْخِدْمَةِ عِنْدَهُمْ فَوْقَ التَّفْرِيطِ فِي الْعَمَلِ وَتَضْيِيعِهِ، بَلْ هَذَا الْحُزْنُ يَكُونُ مَعَ الْقِيَامِ وَالْعَمَلِ، فَإِنَّ الْخِدْمَةَ عِنْدَهُمْ مِنْ بَابِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، لَا مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ، وَهِيَ حَقُّ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَدَبُهَا وَوَاجِبُهَا، وَصَاحِبُ هَذَا الْحُزْنِ بِالْأَوْلَى: أَنْ يَحْزَنَ لِتَضْيِيعِ الْعَمَلِ. وَأَمَّا التَّوَرُّطُ فِي الْجَفَاءِ فَهُوَ أَيْضًا أَخَصُّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِفَقْدِ أُنْسٍ سَابِقٍ مَعَ اللَّهِ، فَإِذَا تَوَارَى عَنْهُ تَوَرَّطَ فِي الْجَفْوَةِ، فَإِنَّ الشَّيْخَ ذَكَرَ الْحُزْنَ فِي قِسْمِ الْأَبْوَابِ وَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ قِسْمِ الْبِدَايَاتِ. وَأَمَّا تَضْيِيعُ الْأَيَّامِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: تَضْيِيعُهَا بِخُلُوِّهَا عَنِ الطَّاعَاتِ، وَتَضْيِيعُهَا

بِخُلُوِّهَا عَنْ مَوَاجِيدِ الْإِيمَانِ، وَذَوْقِ حَلَاوَتِهِ، وَالْأُنْسِ بِاللَّهِ، وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ مَعَهُ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ نَوْعَانِ لِأَهْلِ الْبِدَايَةِ، وَلِلسَّالِكِينَ الْمُتَوَسِّطِينَ. وَكَلَامُهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِالثَّانِي أَخَصَّ. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ حُزْنُ أَهْلِ الْإِرَادَةِ، وَهُوَ حُزْنٌ عَلَى تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالتَّفْرِقَةِ، وَعَلَى اشْتِغَالِ النَّفْسِ عَنِ الشُّهُودِ، وَعَلَى التَّسَلِّي عَنِ الْحُزْنِ. تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالتَّفْرِقَةِ: هُوَ عَدَمُ الْجَمْعِيَّةِ فِي الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ، وَتَشْتِيتُ الْخَوَاطِرِ فِي أَوْدِيَةِ الْمُرَادَاتِ. وَأَمَّا اشْتِغَالُ النَّفْسِ عَنِ الشُّهُودِ فَهُوَ نَوْعَانِ: اشْتِغَالُهَا عَنِ الذِّكْرِ الَّذِي يُوجِبُ الشُّهُودَ وَيُثْمِرُهُ بِغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: اشْتِغَالُهَا عَنِ الشُّهُودِ، لِضَعْفِ الذِّكْرِ، أَوْ لِضَعْفِ الْقَلْبِ عَنِ الشُّهُودِ، أَوْ لِمَانِعٍ آخَرَ، وَلَكِنْ إِذَا قَهَرَ الشُّهُودُ النَّفْسَ لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنَ التَّشَاغُلِ عَنْهُ إِلَّا بِقَاهِرٍ يَقْهَرُهَا عَنْهُ. وَأَمَّا التَّسَلِّي عَنِ الْحُزْنِ فَيَعْنِي أَنَّ وُجُودَ الْحُزْنِ فِي الْقَلْبِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ، فَفَقْدُهُ وَالتَّسَلِّي عَنْهُ نَقْصٌ، فَيَحْزَنُ عَلَى فَقْدِ الْحُزْنِ، كَمَا يَبْكِي عَلَى فَقْدِ الْبُكَاءِ، وَيَخَافُ مِنْ عَدَمِ الْخَوْفِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَإِنَّمَا يُحْمَدُ الْحُزْنُ عَلَى فَقْدِ الْحُزْنِ، أَمَّا إِذَا اشْتَغَلَ عَنِ الْحُزْنِ بِفَرَحٍ مَحْمُودٍ وَهُوَ الْفَرَحُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَلَا مَعْنَى لِلْحُزْنِ عَلَى فَوَاتِ الْحُزْنِ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَلَيْسَتِ الْخَاصَّةُ مِنْ مَقَامِ الْحُزْنِ فِي شَيْءٍ، لِأَنَّ الْحُزْنَ فَقْدٌ، وَالْخَاصَّةَ أَهْلُ وِجْدَانٍ. وَهَذَا إِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ تَعَمُّدُ الْحُزْنِ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ لَا يَعْرِضُ لَهُمْ حُزْنٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْحُزْنُ مِنْ لَوَازِمِ الطَّبِيعَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ بِمَقَامٍ. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْحُزْنِ التَّحَزُّنُ لِلْمُعَارِضَاتِ دُونَ الْخَوَاطِرِ

وَمُعَارِضَاتُ الْقُصُودِ، وَاعْتِرَاضَاتُ الْأَحْكَامِ. هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ، بِحَسَبِ الشُّهُودِ وَالْإِرَادَةِ. الْأَوَّلُ: حُزْنُ الْمُعَارِضَاتِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ يَعْتَرِضُهُ وَارِدُ الرَّجَاءِ مَثَلًا، فَلَمْ يَنْشَبْ أَنْ يُعَارِضَهُ وَارِدُ الْخَوْفِ، وَبِالْعَكْسِ، وَيَعْتَرِضُهُ وَارِدُ الْبَسْطِ، فَلَمْ يَنْشَبْ أَنْ يَعْتَرِضَهُ وَارِدُ الْقَبْضِ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ وَارِدُ الْأُنْسِ، فَيَعْتَرِضُهُ وَارِدُ الْهَيْبَةِ، فَيُوجِبُ لَهُ اخْتِلَافُ هَذِهِ الْمُعَارِضَاتِ عَلَيْهِ حُزْنًا لَا مَحَالَةَ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمُعَارِضَاتُ مِنْ قَبِيلِ الْخَوَاطِرِ، بَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْوَارِدَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ " دُونَ الْخَوَاطِرِ " فَإِنَّ مُعَارِضَاتِ الْخَوَاطِرِ غَيْرُ هَذَا. وَعِنْدَ الْقَوْمِ هَذَا مِنْ آثَارِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَاتِّصَالِ أَشِعَّةِ أَنْوَارِهَا بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالتَّجَلِّي. وَأَمَّا مُعَارِضَاتٌ الْقُصُودِ فَهِيَ أَصْعَبُ مَا عَلَى الْقَوْمِ، وَفِيهِ يَظْهَرُ اضْطِرَارُهُمْ إِلَى الْعِلْمِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ، فَإِنَّ الصَّادِقَ يَتَحَرَّى فِي سُلُوكِهِ كُلِّهِ أَحَبَّ الطُّرُقِ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ سَالِكٌ بِهِ وَإِلَيْهِ، فَيَعْتَرِضُهُ طَرِيقَانِ لَا يَدْرِي أَيَّهُمَا أَرْضَى لِلَّهِ وَأَحَبَّ إِلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُحَكِّمُ الْعِلْمَ بِجُهْدِهِ اسْتِدْلَالًا، فَإِنْ عَجَزَ فَتَقْلِيدًا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُمَا سَكَنَ يَنْتَظِرُ مَا يَحْكُمُ لَهُ بِهِ الْقَدَرُ، وَيُخْلِي بَاطِنَهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ جُمْلَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْقِي الْكُلَّ عَلَى شَيْخِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ شَيْخٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْجَأُ إِلَى الِاسْتِخَارَةِ وَالدُّعَاءِ، ثُمَّ يَنْتَظِرُ مَا يَجْرِي بِهِ الْقَدَرُ. وَأَصْحَابُ الْعَزَائِمِ يَبْذُلُونَ وُسْعَهُمْ فِي طَلَبِ الْأَرْضَى عِلْمًا وَمَعْرِفَةً، فَإِنْ أَعْجَزَهُمْ قَنِعُوا بِالظَّنِّ الْغَالِبِ، فَإِنْ تَسَاوَى عِنْدَهُمُ الْأَمْرَانِ، قَدَّمُوا أَرْجَحَهُمَا مَصْلَحَةً. وَلِتَرْجِيحِ الْمَصَالِحِ رُتَبٌ مُتَفَاوِتَةٌ، فَتَارَةً تَتَرَجَّحُ بِعُمُومِ النَّفْعِ، وَتَارَةً تَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَتَارَةً تَتَرَجَّحُ بِمُخَالَفَةِ النَّفْسِ، وَتَارَةً تَتَرَجَّحُ بِاسْتِجْلَابِ مَصْلَحَةٍ أُخْرَى لَا تَحْصُلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَتَارَةً تَتَرَجَّحُ بِأَمْنِهَا مِنَ الْخَوْفِ مِنْ مَفْسَدَةٍ لَا تُؤْمَنُ فِي غَيْرِهَا. فَهَذِهِ خَمْسُ جِهَاتٍ مِنَ التَّرْجِيحِ، قَلَّ أَنْ يَعْدِمَ وَاحِدَةً مِنْهَا. فَإِنْ أَعْوَزَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ تَخَلَّى عَنِ الْخَوَاطِرِ جُمْلَةً، وَانْتَظَرَ مَا يُحَرِّكُهُ بِهِ مُحَرِّكُ الْقَدَرِ

، وَافْتَقَرَ إِلَى رَبِّهِ افْتِقَارَ مُسْتَنْزِلٍ مَا يُرْضِيهِ وَيُحِبُّهُ، فَإِذَا جَاءَتْهُ الْحَرَكَةُ اسْتَخَارَ اللَّهَ، وَافْتَقَرَ إِلَيْهِ افْتِقَارًا ثَانِيًا، خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْحَرَكَةُ نَفْسِيَّةً أَوْ شَيْطَانِيَّةً، لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّهِ، وَاسْتِمْرَارِ الْمِحْنَةِ بِعَدُوِّهِ، مَا دَامَ فِي عَالَمِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، ثُمَّ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ. فَهَذَا نِهَايَةُ مَا فِي مَقْدُورِ الصَّادِقِينَ. وَلِأَهْلِ الْجِهَادِ فِي هَذَا مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْكَشْفِ مَا لَيْسَ لِأَهْلِ الْمُجَاهَدَةِ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ: إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ فَانْظُرُوا مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الثَّغْرِ، يَعْنِي أَهْلَ الْجِهَادِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] . وَأَمَّا اعْتِرَاضَاتُ الْأَحْكَامِ فَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَحْكَامِ الْأَحْكَامَ الْكَوْنِيَّةَ، وَهُوَ أَظْهَرُ، وَأَنْ يُرِيدَ بِهَا الْأَحْكَامَ الدِّينِيَّةَ، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْأَحْوَالِ يَقَعُ مِنْهُمُ اعْتِرَاضَاتٌ عَلَى الْأَحْكَامِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ مَا يُرِيدُونَهُ، فَيَحْزَنُونَ عِنْدَ إِدْرَاكِهِمْ لِتِلْكَ الِاعْتِرَاضَاتِ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ. وَتِلْكَ الِاعْتِرَاضَاتُ هِيَ إِرَادَتُهُمْ خِلَافَ مَا جَرَى لَهُمْ بِهِ الْقَدَرُ، فَيَحْزَنُونَ عَلَى عَدَمِ الْمُوَافَقَةِ، وَإِرَادَةِ خِلَافِ مَا أُرِيدَ بِهِمْ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَحْكَامَ الدِّينِيَّةَ فَإِنَّهُمْ تَعْرِضُ لَهُمْ أَحْوَالٌ لَا يُمْكِنُهُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَحْكَامِ الْأَمْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَجِدُونَ بُدًّا مِنَ الْقِيَامِ بِأَحْكَامِ الْأَمْرِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمُ اعْتِرَاضٌ خَفِيٌّ أَوْ جَلِيٌّ، بِحَسَبِ انْقِطَاعِهِمْ عَنِ الْحَالِ بِالْأَمْرِ، فَيَحْزَنُونَ لِوُجُودِ

فصل منزلة الخوف

هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ، فَإِذَا قَامُوا بِأَحْكَامِ الْأَمْرِ، وَرَأَوْا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي حَقِّهِمْ ذَلِكَ، وَحَمِدُوا عَاقِبَتَهُ حَزِنُوا عَلَى تَسَرُّعِهِمْ عَلَى الْمُعَارَضَةِ. فَالتَّسْلِيمُ لِدَاعِي الْعِلْمِ وَاجِبٌ، وَمُعَارَضَةُ الْحَالِ مِنْ قَبِيلِ الْإِرَادَاتِ وَالْعِلَلِ، فَيَحْزَنُ عَلَى نَفْيِهِمَا فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْخَوْفِ] وَمِنْ مَنَازِلِ ( {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ) مَنْزِلَةُ الْخَوْفِ. وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ وَأَنْفَعِهَا لِلْقَلْبِ، وَهِيَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] وَقَالَ تَعَالَى {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] وَقَالَ {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44] وَمَدَحَ أَهْلَهُ فِي كِتَابِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57] إِلَى قَوْلِهِ {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ «عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْلُ اللَّهِ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] أَهْوَ الَّذِي يَزْنِي، وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَسْرِقُ؟ قَالَ: لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ، وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ» قَالَ الْحَسَنُ: عَمِلُوا وَاللَّهِ بِالطَّاعَاتِ، وَاجْتَهَدُوا فِيهَا، وَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَخَشْيَةً، وَالْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا. وَ ((الْوَجَلُ)) وَ ((الْخَوْفُ)) وَ ((الْخَشْيَةُ)) وَ ((الرَّهْبَةُ)) أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَرَادِفَةٍ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ: الْخَوْفُ تَوَقُّعُ الْعُقُوبَةِ عَلَى مَجَارِي الْأَنْفَاسِ.

وَقِيلَ: الْخَوْفُ اضْطِرَابُ الْقَلْبِ وَحَرَكَتُهُ مِنْ تَذَكُّرِ الْمَخُوفِ. وَقِيلَ: الْخَوْفُ قُوَّةُ الْعِلْمِ بِمَجَارِي الْأَحْكَامِ، وَهَذَا سَبَبُ الْخَوْفِ، لَا أَنَّهُ نَفْسُهُ وَقِيلَ: الْخَوْفُ هَرَبُ الْقَلْبِ مِنْ حُلُولِ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِهِ. وَ ((الْخَشْيَةُ)) أَخَصُّ مِنَ الْخَوْفِ، فَإِنَّ الْخَشْيَةَ لِلْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فَهِيَ خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِمَعْرِفَةٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» . فَالْخَوْفُ حَرَكَةٌ، وَالْخَشْيَةُ انْجِمَاعٌ، وَانْقِبَاضٌ وَسُكُونٌ، فَإِنَّ الَّذِي يَرَى الْعَدُوَّ وَالسَّيْلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: حَرَكَةٌ لِلْهَرَبِ مِنْهُ، وَهِيَ حَالَةُ الْخَوْفِ. وَالثَّانِيَةُ: سُكُونُهُ وَقَرَارُهُ فِي مَكَانٍ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَهِيَ الْخَشْيَةُ، وَمِنْهُ: انْخَشَى الشَّيْءُ، وَالْمُضَاعَفُ وَالْمُعْتَلُّ أَخَوَانِ، كَتَقَضِّي الْبَازِيِّ وَتَقَضَّضَ. وَأَمَّا الرَّهْبَةُ فَهِيَ الْإِمْعَانُ فِي الْهَرَبِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَهِيَ ضِدُّ الرَّغْبَةِ الَّتِي هِيَ سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ. وَبَيْنَ الرَّهَبِ وَالْهَرَبِ تَنَاسُبٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، يَجْمَعُهُمَا الِاشْتِقَاقُ الْأَوْسَطُ الَّذِي هُوَ عَقْدُ تَقَالِيبِ الْكَلِمَةِ عَلَى مَعْنًى جَامِعٍ. وَأَمَّا الْوَجَلُ فَرَجَفَانُ الْقَلْبِ، وَانْصِدَاعُهُ لِذِكْرِ مَنْ يُخَافُ سُلْطَانُهُ وَعُقُوبَتُهُ، أَوْ لِرُؤْيَتِهِ. وَأَمَّا الْهَيْبَةُ فَخَوْفٌ مُقَارِنٌ لِلتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ مَعَ الْمَحَبَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَالْإِجْلَالُ: تَعْظِيمٌ مَقْرُونٌ بِالْحُبِّ. فَالْخَوْفُ لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْخَشْيَةُ لِلْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ، وَالْهَيْبَةُ لِلْمُحِبِّينَ، وَالْإِجْلَالُ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَعَلَى قَدْرِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ يَكُونُ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» وَفِي رِوَايَةٍ " خَوْفًا " وَقَالَ «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ

تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى» . فَصَاحِبُ الْخَوْفِ يَلْتَجِئُ إِلَى الْهَرَبِ، وَالْإِمْسَاكِ، وَصَاحِبُ الْخَشْيَةِ يَلْتَجِئُ إِلَى الِاعْتِصَامِ بِالْعِلْمِ، وَمَثَلُهُمَا مَثَلُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالطِّبِّ، وَمَثَلُ الطَّبِيبِ الْحَاذِقِ، فَالْأَوَّلُ يَلْتَجِئُ إِلَى الْحِمْيَةِ وَالْهَرَبِ، وَالطَّبِيبُ يَلْتَجِئُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْأَدْوِيَةِ وَالْأَدْوَاءِ. قَالَ أَبُو حَفْصٍ: الْخَوْفُ سَوْطُ اللَّهِ، يُقَوِّمُ بِهِ الشَّارِدِينَ عَنْ بَابِهِ، وَقَالَ: الْخَوْفُ سِرَاجٌ فِي الْقَلْبِ، بِهِ يُبْصَرُ مَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَكُلُّ أَحَدٍ إِذَا خِفْتَهُ هَرَبْتَ مِنْهُ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّكَ إِذْ خِفْتَهُ هَرَبْتَ إِلَيْهِ. فَالْخَائِفُ هَارِبٌ مِنْ رَبِّهِ إِلَى رَبِّهِ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: مَا فَارَقَ الْخَوْفُ قَلْبًا إِلَّا خَرِبَ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ: إِذَا سَكَنَ الْخَوْفُ الْقُلُوبَ أَحْرَقَ مَوَاضِعَ الشَّهَوَاتِ مِنْهَا، وَطَرَدَ الدُّنْيَا عَنْهَا، وَقَالَ ذُو النُّونِ: النَّاسُ عَلَى الطَّرِيقِ مَا لَمْ يَزُلْ عَنْهُمُ الْخَوْفُ، فَإِذَا زَالَ عَنْهُمُ الْخَوْفُ ضَلُّوا الطَّرِيقَ، وَقَالَ

حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: لَا تَغْتَرَّ بِمَكَانٍ صَالِحٍ، فَلَا مَكَانَ أَصْلَحُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَقِيَ فِيهَا آدَمُ مَا لَقِيَ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ إِبْلِيسَ بَعْدَ طُولِ الْعِبَادَةِ لَقِيَ مَا لَقِيَ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ بَلْعَامَ بْنَ بَاعُورَا لَقِيَ مَا لَقِيَ وَكَانَ يَعْرِفُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَلَا تَغْتَرَّ بِلِقَاءِ الصَّالِحِينَ وَرُؤْيَتِهِمْ، فَلَا شَخْصَ أَصْلَحُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِلِقَائِهِ أَعْدَاؤُهُ وَالْمُنَافِقُونَ. وَالْخَوْفُ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، بَلْ هُوَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ قَصْدَ الْوَسَائِلِ، وَلِهَذَا يَزُولُ بِزَوَالِ الْمَخُوفِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالْخَوْفُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ، وَالْمَحَبَّةُ تَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وَلِهَذَا تَتَضَاعَفُ مَحَبَّةُ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ إِذَا دَخَلُوا دَارَ النَّعِيمِ، وَلَا يَلْحَقُهُمْ فِيهَا خَوْفٌ، وَلِهَذَا كَانَتْ مَنْزِلَةُ الْمَحَبَّةِ وَمَقَامُهَا أَعْلَى وَأَرْفَعَ مِنْ مَنْزِلَةِ الْخَوْفِ وَمَقَامِهِ. وَالْخَوْفُ الْمَحْمُودُ الصَّادِقُ: مَا حَالَ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ مَحَارِمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ خِيفَ مِنْهُ الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: صِدْقُ الْخَوْفِ هُوَ الْوَرَعُ عَنِ الْآثَامِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: الْخَوْفُ الْمَحْمُودُ مَا حَجَزَكَ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْخَوْفُ هُوَ الِانْخِلَاعُ مِنْ طُمَأْنِينَةِ الْأَمْنِ بِمُطَالَعَةِ الْخَبَرِ. يَعْنِي الْخُرُوجَ عَنْ سُكُونِ الْأَمْنِ بِاسْتِحْضَارِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الْخَوْفُ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَهُوَ الْخَوْفُ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ الْإِيمَانُ، وَهُوَ خَوْفُ الْعَامَّةِ، وَهُوَ يَتَوَلَّدُ مِنْ تَصْدِيقِ الْوَعِيدِ، وَذِكْرِ الْجِنَايَةِ، وَمُرَاقَبَةِ الْعَاقِبَةِ. وَالْخَوْفُ مَسْبُوقٌ بِالشُّعُورِ وَالْعِلْمِ، فَمُحَالٌ خَوْفُ الْإِنْسَانِ مِمَّا لَا شُعُورَ لَهُ بِهِ. وَلَهُ مُتَعَلَّقَانِ، أَحَدُهُمَا: نَفْسُ الْمَكْرُوهِ الْمَحْذُورِ وُقُوعُهُ، وَالثَّانِي: السَّبَبُ وَالطَّرِيقُ الْمُفْضِي إِلَيْهِ، فَعَلَى قَدْرِ شُعُورِهِ بِإِفْضَاءِ السَّبَبِ إِلَى الْمَخُوفِ، وَبِقَدْرِ الْمُخَوِّفِ يَكُونُ خَوْفُهُ، وَمَا نَقَصَ مِنْ شُعُورِهِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ نَقَصَ مِنْ خَوْفِهِ بِحَسَبِهِ. فَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ سَبَبَ كَذَا يُفْضِي إِلَى مَحْذُورِ كَذَا لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى مَكْرُوهٍ مَا، وَلَمْ يَعْرِفْ قَدْرَهُ لَمْ يَخَفْ مِنْهُ ذَلِكَ الْخَوْفَ، فَإِذَا عَرَفَ قَدْرَ الْمُخَوِّفِ، وَتَيَقَّنَ إِفْضَاءَ السَّبَبِ إِلَيْهِ حَصَلَ لَهُ الْخَوْفُ. هَذَا مَعْنَى تَوَلُّدِهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْوَعِيدِ، وَذِكْرِ الْجِنَايَةِ، وَمُرَاقَبَةِ الْعَاقِبَةِ. وَفِي مُرَاقَبَةِ الْعَاقِبَةِ: زِيَادَةُ اسْتِحْضَارِ الْمُخَوِّفِ، وَجَعْلُهُ نُصْبَ عَيْنِهِ، بِحَيْثُ لَا يَنْسَاهُ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ لَكِنَّ نِسْيَانَهُ وَعَدَمَ مُرَاقَبَتِهِ يَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ الْخَوْفِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْخَوْفُ عَلَامَةَ صِحَّةِ الْإِيمَانِ، وَتَرَحُّلُهُ مِنَ الْقَلْبِ عَلَامَةُ تَرَحُّلِ الْإِيمَانِ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: خَوْفُ الْمَكْرِ فِي جَرَيَانِ الْأَنْفَاسِ الْمُسْتَغْرِقَةِ فِي الْيَقَظَةِ، الْمَشُوبَةِ بِالْحَلَاوَةِ.

يُرِيدُ أَنَّ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ الْيَقَظَةُ بِلَا غَفْلَةٍ، وَاسْتَغْرَقَتْ أَنْفَاسُهُ فِيهَا اسْتَحْلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا أَحْلَى مِنَ الْحُضُورِ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَخَافَ الْمَكْرَ، وَأَنْ يُسْلَبَ هَذَا الْحُضُورَ، وَالْيَقَظَةَ وَالْحَلَاوَةَ، فَكَمْ مِنْ مَغْبُوطٍ بِحَالِهِ انْعَكَسَ عَلَيْهِ الْحَالُ، وَرَجَعَ مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ إِلَى قَبِيحِ الْأَعْمَالِ، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ وَيَضْرِبُ بِالْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ؟ بَيْنَمَا بَدْرُ أَحْوَالِهِ مُسْتَنِيرًا فِي لَيَالِي التَّمَامِ، إِذْ أَصَابَهُ الْكُسُوفُ فَدَخَلَ فِي الظَّلَامِ، فَبُدِّلَ بِالْأُنْسِ وَحْشَةً، وَبِالْحُضُورِ غَيْبَةً، وَبِالْإِقْبَالِ إِعْرَاضًا، وَبِالتَّقْرِيبِ إِبْعَادًا، وَبِالْجَمْعِ تَفْرِقَةً، كَمَا قِيلَ: أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ ... وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ وَسَالَمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا ... وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ [دَرَجَةُ الْخَاصَّةِ] وَلَيْسَ فِي مَقَامِ أَهْلِ الْخُصُوصِ وَحْشَةُ الْخَوْفِ، إِلَّا هَيْبَةَ الْجَلَالِ، وَهِيَ أَقْصَى دَرَجَةٍ يُشَارُ إِلَيْهَا فِي غَايَةِ الْخَوْفِ. يَعْنِي أَنَّ وَحْشَةَ الْخَوْفِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ الِانْقِطَاعِ وَالْإِسَاءَةِ، وَأَهْلُ الْخُصُوصِ أَهْلُ وُصُولٍ إِلَى اللَّهِ وَقُرْبٍ مِنْهُ، فَلَيْسَ خَوْفُهُمْ خَوْفَ وَحْشَةٍ، كَخَوْفِ الْمُسِيئِينَ الْمُنْقَطِعِينَ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَعَهُمْ بِصِفَةِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَحَبَّةِ لَهُمْ، وَهَذَا بِخِلَافِ هَيْبَةِ الْجَلَالِ، فَإِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَكُلَّمَا كَانَ عَبْدُهُ بِهِ أَعْرَفَ وَإِلَيْهِ أَقْرَبَ، كَانَتْ هَيْبَتُهُ وَإِجْلَالُهُ فِي قَلْبِهِ أَعْظَمَ، وَهِيَ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ خَوْفِ الْعَامَّةِ. قَالَ: وَهِيَ هَيْبَةٌ تُعَارِضُ الْمُكَاشِفَ أَوْقَاتَ الْمُنَاجَاةِ، وَتَصُونُ الْمُسَامِرَ أَحْيَانَ الْمُسَامَرَةِ، وَتَفْصِمُ الْمُعَايِنَ بِصَدْمَةِ الْعِزَّةِ. يَعْنِي أَنَّ أَكْثَرَ مَا تَكُونُ الْهَيْبَةُ أَوْقَاتَ الْمُنَاجَاةِ، وَهُوَ وَقْتُ تَمَلُّقِ الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَتَضَرُّعِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتِعْطَافِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِآلَائِهِ وَأَسْمَائِهِ وَأَوْصَافِهِ، أَوْ مُنَاجَاتِهِ بِكَلَامِهِ، هَذَا هُوَ مُرَادُ الْقَوْمِ بِالْمُنَاجَاةِ. وَهَذِهِ الْمُنَاجَاةُ تُوجِبُ كَشْفَ الْغِطَاءِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ الرَّبِّ، وَرَفْعَ الْحِجَابِ الْمَانِعِ مِنْ مُكَافَحَةِ الْقَلْبِ لِأَنْوَارِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَتَجَلِّيهَا عَلَيْهِ، فَتُعَارِضُهُ الْهَيْبَةُ فِي خِلَالِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَيَفِيضُ مِنْ عَنَانِ مُنَاجَاتِهِ بِحَسَبِ قُوَّةِ وَارِدِهَا. وَأَمَّا صَوْنُ الْمُسَامِرِ أَحْيَانَ الْمُسَامَرَةِ: فَالْمُسَامَرَةُ عِنْدَهُمْ: أَخَصُّ مِنَ الْمُنَاجَاةِ، وَهِيَ

فصل منزلة الإشفاق

مُخَاطَبَةُ الْقَلْبِ لِلرَّبِّ خِطَابَ الْمُحِبِّ لِمَحْبُوبِهِ، فَإِنْ لَمْ يُقَارِنْهَا هَيْبَةُ جَلَالِهِ، أَخَذَتْ بِهِ فِي الِانْبِسَاطِ وَالْإِدْلَالِ، فَتَجِيءُ الْهَيْبَةُ صَائِنَةً لِلْمُسَامِرِ فِي مُسَامَرَتِهِ عَنِ انْخِلَاعِهِ مِنْ أَدَبِ الْعُبُودِيَّةِ. وَأَمَّا فَصْمُهَا الْمُعَايِنَ بِصَدْمَةِ الْعِزَّةِ فَإِنَّ الْفَصْمَ هُوَ الْقَطْعُ أَيْ تَكَادُ تَقْتُلُهُ وَتَمْحَقُهُ بِصَدْمَةِ عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِمَعَانِيهَا الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ عِزَّةُ الِامْتِنَاعِ، وَعِزَّةُ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَعِزَّةُ السُّلْطَانِ وَالْقَهْرِ، فَإِذَا صَدَمَتِ الْمُعَايِنَ كَادَتْ تَفْصِمُهُ وَتَمْحَقُ أَثَرَهُ، إِذْ لَا يَقُومُ لِعِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ شَيْءٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْإِشْفَاقِ] الْقَلْبُ فِي سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِرِ، فَالْمَحَبَّةُ رَأْسُهُ، وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ جَنَاحَاهُ، فَمَتَى سَلِمَ الرَّأْسُ وَالْجَنَاحَانِ فَالطَّائِرُ جَيِّدُ الطَّيَرَانِ، وَمَتَى قُطِعَ الرَّأْسُ مَاتَ الطَّائِرُ، وَمَتَى فُقِدَ الْجَنَاحَانِ فَهُوَ عُرْضَةٌ لِكُلِّ صَائِدٍ وَكَاسِرٍ، وَلَكِنَّ السَّلَفَ اسْتَحَبُّوا أَنْ يَقْوَى فِي الصِّحَّةِ جَنَاحُ الْخَوْفِ عَلَى جَنَاحِ الرَّجَاءِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا يَقْوَى جَنَاحُ الرَّجَاءِ عَلَى جَنَاحِ الْخَوْفِ، هَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِ، قَالَ: يَنْبَغِي لِلْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْخَوْفَ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ فَسَدَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ: اعْتِدَالُ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَغَلَبَةُ الْحُبِّ، فَالْمَحَبَّةُ هِيَ الْمَرْكَبُ. وَالرَّجَاءُ حَادٍ، وَالْخَوْفُ سَائِقٌ، وَاللَّهُ الْمُوَصِّلُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. فَصْلٌ. مَنْزِلَةُ الْإِشْفَاقِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْإِشْفَاقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49] وَقَالَ تَعَالَى {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ - قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ - فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 25 - 27] .

الْإِشْفَاقُ رِقَّةُ الْخَوْفِ، وَهُوَ خَوْفٌ بِرَحْمَةٍ مِنَ الْخَائِفِ لِمَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ، فَنِسْبَتُهُ إِلَى الْخَوْفِ نِسْبَةُ الرَّأْفَةِ إِلَى الرَّحْمَةِ، فَإِنَّهَا أَلْطَفُ الرَّحْمَةِ وَأَرَقُّهَا، وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْإِشْفَاقُ: دَوَامُ الْحَذَرِ، مَقْرُونًا بِالتَّرَحُّمِ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الْأُولَى: إِشْفَاقٌ عَلَى النَّفْسِ أَنْ تَجْمَحَ إِلَى الْعِنَادِ. أَيْ تُسْرِعَ وَتَذْهَبَ إِلَى طَرِيقِ الْهَوَى وَالْعِصْيَانِ، وَمُعَانَدَةِ الْعُبُودِيَّةِ. وَإِشْفَاقٌ عَلَى الْعَمَلِ: أَنْ يَصِيرَ إِلَى الضَّيَاعِ. أَيْ يَخَافُ عَلَى عَمَلِهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] وَهِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَعَلَى غَيْرِ أَمْرِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَخَافُ أَيْضًا أَنْ يَضِيعَ عَمَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِمَّا بِتَرْكِهِ، وَإِمَّا بِمَعَاصِي تُفَرِّقُهُ وَتُحْبِطُهُ، فَيَذْهَبُ ضَائِعًا، وَيَكُونُ حَالُ صَاحِبِهِ كَالْحَالِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِهَا {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 266] الْآيَةَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: فِيمَنْ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ؟ فَقَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَغَضِبَ عُمَرُ، وَقَالَ: قُولُوا: نَعْلَمُ، أَوْ لَا نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي قُلْ، وَلَا تَحْقِرَنَّ نَفْسَكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ، قَالَ عُمَرُ: أَيُّ عَمَلٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِعَمَلٍ، قَالَ عُمَرُ: لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ الشَّيْطَانَ، فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ. قَالَ: وَإِشْفَاقٌ عَلَى الْخَلِيقَةِ لِمَعْرِفَةِ مَعَاذِيرِهَا. هَذَا قَدْ يُوهِمُ نَوْعَ تَنَاقُضٍ، فَإِنَّهُ كَيْفَ يُشْفِقُ مَعَ مَعْرِفَةِ الْعُذْرِ؟ وَلَيْسَ بِمُتَنَاقِضٍ، فَإِنَّ الْإِشْفَاقَ كَمَا تَقَدَّمَ خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِرَحْمَةٍ، فَيُشْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، مَعَ نَوْعِ رَحْمَةٍ، بِمُلَاحَظَةِ جَرَيَانِ الْقَدَرِ عَلَيْهِمْ. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: إِشْفَاقٌ عَلَى الْوَقْتِ أَنْ يَشُوبَهُ تَفَرُّقٌ.

أَيْ يَحْذَرُ عَلَى وَقْتِهِ أَنْ يُخَالِطَهُ مَا يُفَرِّقُهُ عَنِ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَعَلَى الْقَلْبِ أَنْ يُزَاحِمَهُ عَارِضٌ. وَالْعَارِضُ الْمُزَاحِمُ إِمَّا فَتْرَةٌ، وَإِمَّا شُبْهَةٌ، وَإِمَّا شَهْوَةٌ، وَكُلُّ سَبَبٍ يَعُوقُ السَّالِكَ. قَالَ: وَعَلَى الْيَقِينِ أَنْ يُدَاخِلَهُ سَبَبٌ هُوَ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ الْأَسْبَابُ كُلُّهَا، فَمَتَى دَاخَلَ يَقِينَهُ رُكُونٌ إِلَى سَبَبٍ وَتَعَلُّقٌ بِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ قَدَحَ ذَلِكَ فِي يَقِينِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ قَطْعَ الْأَسْبَابِ عَنْ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا، وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا فَإِنَّ هَذَا زَنْدَقَةٌ وَكُفْرٌ وَمُحَالٌ، فَإِنَّ الرَّسُولَ سَبَبٌ فِي حُصُولِ الْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ، وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ النَّجَاةِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالْكُفْرَ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ، وَالْأَسْبَابَ الْمُشَاهَدَةَ أَسْبَابٌ لِمُسَبَّبَاتِهَا وَلَكِنَّ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَحَذَرَ مِنْهُ إِضَافَةَ يَقِينِهِ إِلَى سَبَبٍ غَيْرِ اللَّهِ، وَلَا يَتَعَلَّقَ بِالْأَسْبَابِ بَلْ يَفْنَى بِالْمُسَبَّبِ عَنْهَا. وَالشَّيْخُ مِمَّنْ يُبَالِغُ فِي إِنْكَارِ الْأَسْبَابِ، لَا يَرَى وَرَاءَ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ غَايَةً، وَكَلَامُهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ فِي مُعْظَمِ الْأَبْوَابِ يَرْجِعُ إِلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِمَا، وَأَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُهُمَا، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْأَسْبَابِ وَالْقُوَى، وَأَنَّ الْفَنَاءَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَيْسَ هُوَ غَايَةَ الطَّرِيقِ، بَلْ فَوْقَهُ مَا هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ وَأَعْلَى وَأَشْرَفُ. وَمِنْ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ عَرَضَ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ مَا عَرَضَ. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: إِشْفَاقٌ يَصُونُ سَعْيَهُ عَنِ الْعُجْبِ، وَيَكُفُّ صَاحِبَهُ عَنْ مُخَاصَمَةِ الْخَلْقِ، وَيَحْمِلُ الْمُرِيدَ عَلَى حِفْظِ الْجِدِّ. الْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ، وَالثَّانِي بِالْخُلُقِ، وَالثَّالِثُ بِالْإِرَادَةِ، وَكُلٌّ مِنْهَا لَهُ مَا يُفْسِدُهُ. فَالْعُجْبُ: يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُهُ الرِّيَاءُ، فَيُشْفِقُ عَلَى سَعْيِهِ مِنْ هَذَا الْمُفْسِدِ شَفَقَةً تَصُونُهُ عَنْهُ. وَالْمُخَاصَمَةُ لِلْخَلْقِ مُفْسِدَةٌ لِلْخُلُقِ، فَيُشْفِقُ عَلَى خُلُقِهِ مِنْ هَذَا الْمُفْسِدِ شَفَقَةً تَصُونُهُ عَنْهُ. وَالْإِرَادَةُ يُفْسِدُهَا عَدَمُ الْجِدِّ، وَهُوَ الْهَزْلُ وَاللَّعِبُ، فَيُشْفِقُ عَلَى إِرَادَتِهِ مِمَّا يُفْسِدُهَا.

فصل منزلة الخشوع

فَإِذَا صَحَّ لَهُ عَمَلُهُ وَخُلُقُهُ وَإِرَادَتُهُ اسْتَقَامَ سُلُوكُهُ وَقَلْبُهُ وَحَالُهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْخُشُوعِ] وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْخُشُوعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَبْطَأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَقَالَ تَعَالَى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1] . وَالْخُشُوعُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الِانْخِفَاضُ، وَالذُّلُّ، وَالسُّكُونُ، قَالَ تَعَالَى {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه: 108] أَيْ سَكَنَتْ، وَذَلَّتْ، وَخَضَعَتْ، وَمِنْهُ وَصْفُ الْأَرْضِ بِالْخُشُوعِ، وَهُوَ يُبْسُهَا، وَانْخِفَاضُهَا، وَعَدَمُ ارْتِفَاعِهَا بِالرَّيِّ وَالنَّبَاتِ، قَالَ تَعَالَى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت: 39] . وَالْخُشُوعُ: قِيَامُ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ بِالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ، وَالْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ وَقِيلَ: الْخُشُوعُ الِانْقِيَادُ لِلْحَقِّ، وَهَذَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْخُشُوعِ. فَمِنْ عَلَامَاتِهِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا خُولِفَ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ اسْتَقْبَلَ ذَلِكَ بِالْقَبُولِ وَالِانْقِيَادِ. وَقِيلَ: الْخُشُوعُ خُمُودُ نِيرَانِ الشَّهْوَةِ، وَسُكُونُ دُخَانِ الصُّدُورُ، وَإِشْرَاقُ نُورِ التَّعْظِيمِ فِي الْقَلْبِ.

وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الْخُشُوعُ تَذَلُّلُ الْقُلُوبِ لِعَلَّامِ الْغُيُوبِ. وَأَجْمَعَ الْعَارِفُونَ عَلَى أَنَّ الْخُشُوعَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَثَمَرَتُهُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَهِيَ تُظْهِرُهُ، «وَرَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ» «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّقْوَى هَاهُنَا وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: حُسْنُ أَدَبِ الظَّاهِرِ عُنْوَانُ أَدَبِ الْبَاطِنِ، وَرَأَى بَعْضُهُمْ رَجُلًا خَاشِعَ الْمَنْكِبَيْنِ وَالْبَدَنِ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ، الْخُشُوعُ هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ، لَا هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى مَنْكِبَيْهِ. وَكَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ حُذَيْفَةُ، يَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَخُشُوعَ النِّفَاقِ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا خُشُوعُ النِّفَاقِ؟ قَالَ: أَنْ تَرَى الْجَسَدَ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ لَيْسَ بِخَاشِعٍ، وَرَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا طَأْطَأَ رَقَبَتَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: يَا صَاحِبَ الرَّقَبَةِ، ارْفَعْ رَقَبَتَكَ، لَيْسَ الْخُشُوعُ فِي الرِّقَابِ، إِنَّمَا الْخُشُوعُ فِي الْقُلُوبِ، وَرَأَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا شَبَابًا يَمْشُونَ وَيَتَمَارَوْنَ فِي مِشْيَتِهِمْ، فَقَالَتْ لِأَصْحَابِهَا: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالُوا: نُسَّاكٌ، فَقَالَتْ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا مَشَى أَسْرَعَ، وَإِذَا قَالَ أَسْمَعَ، وَإِذَا ضَرَبَ أَوْجَعَ، وَإِذَا أَطْعَمَ أَشْبَعَ، وَكَانَ هُوَ النَّاسِكَ حَقًّا، وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: كَانَ يُكْرَهُ أَنْ يُرِيَ الرَّجُلُ مِنَ الْخُشُوعِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي قَلْبِهِ، وَقَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْخُشُوعُ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الصَّلَاةُ، وَرُبَّ مُصَلٍّ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَيُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ الْجَمَاعَةِ فَلَا تَرَى فِيهِمْ خَاشِعًا، وَقَالَ سَهْلٌ: مَنْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَمْ يَقْرَبْ مِنْهُ الشَّيْطَانُ.

فَصْلٌ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْخُشُوعُ: خُمُودُ النَّفْسِ، وَهُمُودُ الطِّبَاعِ لِمُتَعَاظِمٍ، أَوْ مُفْزِعٍ. يَعْنِي انْقِبَاضَ النَّفْسِ وَالطَّبْعِ، وَهُوَ خُمُودُ قُوَى النَّفْسِ عَنِ الِانْبِسَاطِ لِمَنْ لَهُ فِي الْقُلُوبِ عَظَمَةٌ وَمَهَابَةٌ، أَوْ لِمَا يَفْزَعُ مِنْهُ الْقَلْبُ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْخُشُوعَ مَعْنًى يَلْتَئِمُ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ. قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى: التَّذَلُّلُ لِلْأَمْرِ، وَالِاسْتِسْلَامُ لِلْحُكْمِ، وَالِاتِّضَاعُ لِنَظَرِ الْحَقِّ. التَّذَلُّلُ لِلْأَمْرِ تَلَقِّيهِ بِذِلَّةِ الْقَبُولِ وَالِانْقِيَادِ وَالِامْتِثَالِ. وَمُوَاطَأَةُ الظَّاهِرِ الْبَاطِنَ، مَعَ إِظْهَارِ الضَّعْفِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَى الْهِدَايَةِ لِلْأَمْرِ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ حَالَ الْفِعْلِ، وَقَبُولِهِ بَعْدَ الْفِعْلِ. وَأَمَّا الِاسْتِسْلَامُ لِلْحُكْمِ فَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْحُكْمَ الدِّينِيَّ الشَّرْعِيَّ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ عَدَمَ مُعَارَضَتِهِ بِرَأْيٍ أَوْ شَهْوَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الِاسْتِسْلَامَ لِلْحُكْمِ الْقَدَرِيِّ، وَهُوَ عَدَمُ تَلَقِّيهِ بِالتَّسَخُّطِ وَالْكَرَاهَةِ وَالِاعْتِرَاضِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْخُشُوعَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ بِالْمَسْكَنَةِ وَالذُّلِّ لِأَمْرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ. وَأَمَّا الِاتِّضَاعُ لِنَظَرِ الْحَقِّ فَهُوَ اتِّضَاعُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، وَانْكِسَارُهَا لِنَظَرِ الرَّبِّ إِلَيْهَا، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى تَفَاصِيلِ مَا فِي الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] وَهُوَ مَقَامُ الرَّبِّ عَلَى عَبْدِهِ بِالِاطِّلَاعِ وَالْقُدْرَةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ. فَخَوْفُهُ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ يُوجِبُ لَهُ خُشُوعَ الْقَلْبِ لَا مَحَالَةَ، وَكُلَّمَا كَانَ أَشَدَّ

اسْتِحْضَارًا لَهُ كَانَ أَشَدَّ خُشُوعًا، وَإِنَّمَا يُفَارِقُ الْقَلْبَ إِذَا غَفَلَ عَنِ اطِّلَاعِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَنَظَرِهِ إِلَيْهِ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَقَامُ الْعَبْدِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ عِنْدَ لِقَائِهِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ. وَعَلَى الثَّانِي وَهُوَ أَلْيَقُ بِالْآيَةِ يَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمُخَوِّفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَرَقُّبُ آفَاتِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، وَرُؤْيَةُ فَضْلِ كُلِّ ذِي فَضْلٍ عَلَيْكَ، وَتَنَسُّمُ نَسِيمِ الْفَنَاءِ. يُرِيدُ انْتِظَارَ ظُهُورِ نَقَائِصِ نَفْسِكِ وَعَمَلِكَ وَعُيُوبِهِمَا لَكَ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْقَلْبَ خَاشِعًا لَا مَحَالَ، لِمُطَالَعَةِ عُيُوبِ نَفْسِهِ وَأَعْمَالِهِ وَنَقَائِصِهِمَا مِنَ الْكِبْرِ، وَالْعُجْبِ، وَالرِّيَاءِ، وَضَعْفِ الصِّدْقِ، وَقِلَّةِ الْيَقِينِ، وَتَشَتُّتِ النِّيَّةِ، وَعَدَمِ تَجَرُّدِ الْبَاعِثِ مِنَ الْهَوَى النَّفْسَانِيِّ، وَعَدَمِ إِيقَاعِ الْعَمَلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَرْضَاهُ لِرَبِّكَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عُيُوبِ النَّفْسِ، وَمُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ. وَأَمَّا رُؤْيَةُ فَضْلِ كُلِّ ذِي فَضْلٍ عَلَيْكَ فَهُوَ أَنْ تُرَاعِيَ حُقُوقَ النَّاسِ فَتُؤَدِّيَهَا، وَلَا تَرَى أَنَّ مَا فَعَلُوهُ مِنْ حُقُوقِكَ عَلَيْهِمْ، فَلَا تُعَاوِضَهُمْ عَلَيْهَا. فَإِنَّ هَذَا مِنْ رُعُونَاتِ النَّفْسِ وَحَمَاقَاتِهَا. وَلَا تُطَالِبُهُمْ بِحُقُوقِ نَفْسِكَ، وَتَعْتَرِفُ بِفَضْلِ ذِي الْفَضْلِ مِنْهُمْ، وَتَنْسَى فَضْلَ نَفْسِكَ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: الْعَارِفُ لَا يَرَى لَهُ عَلَى أَحَدٍ حَقًّا، وَلَا يَشْهَدُ عَلَى غَيْرِهِ فَضْلًا، وَلِذَلِكَ لَا يُعَاتِبُ، وَلَا يُطَالِبُ، وَلَا يُضَارِبُ. وَأَمَّا تَنَسُّمُ نَسِيمِ الْفَنَاءِ فَلَمَّا كَانَ الْفَنَاءُ عِنْدَهُ غَايَةً، جَعَلَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ كَالنَّسِيمِ لِرِقَّتِهِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالنَّسِيمِ لِلُطْفِ مَوْقِعِهِ مِنَ الرُّوحِ، وَشَدَّةِ تَشَبُّثِهَا بِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْخُشُوعَ سَبَبٌ مُوصِلٌ إِلَى الْفَنَاءِ، فَاضِلَهُ وَمَفْضُولَهُ.

فَصْلٌ. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: حِفْظُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ الْمُكَاشَفَةِ، وَتَصْفِيَةُ الْوَقْتِ مِنْ مُرَاءَاةِ الْخَلْقِ، وَتَجْرِيدُ رُؤْيَةِ الْفَضْلِ. أَمَّا حِفْظُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ الْمُكَاشَفَةِ فَهُوَ ضَبْطُ النَّفْسِ بِالذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ عَنِ الْبَسْطِ وَالْإِدْلَالِ، الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْمُكَاشَفَةُ، فَإِنَّ الْمُكَاشَفَةَ تُوجِبُ بَسْطًا، وَيُخَافُ مِنْهُ شَطْحٌ، إِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ خُشُوعٌ يَحْفَظُ الْحُرْمَةَ. وَأَمَّا تَصْفِيَةُ الْوَقْتِ مِنْ مُرَاءَاةِ الْخَلْقِ فَلَا يُرِيدُ بِهِ أَنْ يُصَفِّيَ وَقْتَهُ عَنِ الرِّيَاءِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَجَلُّ قَدْرًا وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يُخْفِيَ أَحْوَالَهُ عَنِ الْخَلْقِ جُهْدَهُ، كَخُشُوعِهِ وَذُلِّهِ وَانْكِسَارِهِ، لِئَلَّا يَرَاهَا النَّاسُ فَيُعْجِبُهُ اطِّلَاعُهُمْ عَلَيْهَا، وَرُؤْيَتُهُمْ لَهَا، فَيُفْسِدُ عَلَيْهِ وَقْتَهُ وَقَلْبَهُ وَحَالَهُ مَعَ اللَّهِ، وَكَمْ قَدِ اقْتَطَعَ فِي هَذِهِ الْمَفَازَةِ مِنْ سَالِكٍ؟ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، فَلَا شَيْءَ أَنْفَعُ لِلصَّادِقِ مِنَ التَّحَقُّقِ بِالْمَسْكَنَةِ وَالْفَاقَةِ وَالذُّلِّ، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَصِحَّ لَهُ بَعْدُ الْإِسْلَامُ حَتَّى يَدَّعِيَ الشَّرَفَ فِيهِ. وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا لَمْ أُشَاهِدْهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَانَ يَقُولُ كَثِيرًا: مَا لِي شَيْءٌ، وَلَا مِنِّي شَيْءٌ، وَلَا فِيَّ شَيْءٌ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ: أَنَا الْمُكَدِّي وَابْنُ الْمُكَدِّي ... وَهَكَذَا كَانَ أَبِي وَجَدِّي وَكَانَ إِذَا أُثْنِي عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي إِلَى الْآنِ أُجَدِّدُ إِسْلَامِي كُلَّ وَقْتٍ، وَمَا أَسْلَمْتُ بَعْدُ إِسْلَامًا جَيِّدًا. وَبَعَثَ إِلَيَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ قَاعِدَةً فِي التَّفْسِيرِ بِخَطِّهِ، وَعَلَى ظَهْرِهَا أَبْيَاتٌ بِخَطِّهِ مِنْ نَظْمِهِ: أَنَا الْفَقِيرُ إِلَى رَبِّ الْبَرِيَّاتِ ... أَنَا الْمُسَيْكِينُ فِي مَجْمُوعِ حَالَاتِي أَنَا الظَّلُومُ لِنَفْسِي وَهِيَ ظَالِمَتِي ... وَالْخَيْرُ إِنْ يَأْتِنَا مِنْ عِنْدِهِ يَأْتِي لَا أَسْتَطِيعُ لِنَفْسِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ ... وَلَا عَنِ النَّفْسِ لِي دَفْعُ الْمَضَرَّاتِ

وَلَيْسَ لِي دُونَهُ مَوْلًى يُدَبِّرُنِي ... وَلَا شَفِيعٌ إِذَا حَاطَتْ خَطِيئَاتِي إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ الرَّحْمَنِ خَالِقِنَا ... إِلَى الشَّفِيعِ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْآيَاتِ وَلَسْتُ أَمْلِكُ شَيْئًا دُونَهُ أَبَدًا ... وَلَا شَرِيكٌ أَنَا فِي بَعْضِ ذَرَّاتِ وَلَا ظُهَيْرٌ لَهُ كَيْ يَسْتَعِينَ بِهِ ... كَمَا يَكُونُ لِأَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتِ لَازِمٍ أَبَدًا ... كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي وَهَذِهِ الْحَالُ حَالُ الْخَلْقِ أَجْمَعِهِمْ ... وَكُلُّهُمْ عِنْدَهُ عَبْدٌ لَهُ آتِي فَمَنْ بَغَى مَطْلَبًا مِنْ غَيْرِ خَالِقِهِ ... فَهُوَ الْجَهُولُ الظَّلُومُ الْمُشْرِكُ الْعَاتِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ الْكَوْنِ أَجْمَعِهِ ... مَا كَانَ مِنْهُ وَمَا مِنْ بَعْدُ قَدْ يَاتِي وَأَمَّا تَجْرِيدُ رُؤْيَةِ الْفَضْلِ فَهُوَ أَنْ لَا يَرَى الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، فَهُوَ الْمَانُّ بِهِ بِلَا سَبَبٍ مِنْكَ، وَلَا شَفِيعٍ لَكَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِالشَّفَاعَةِ، وَلَا وَسِيلَةٍ سَبَقَتْ مِنْكَ تَوَسَّلْتَ بِهَا إِلَى إِحْسَانِهِ. وَالتَّجْرِيدُ هُوَ تَخْلِيصُ شُهُودِ الْفَضْلِ لِوَلِيِّهِ، حَتَّى لَا يَنْسُبَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُجَرَّدٌ عَنِ النِّسْبَةِ إِلَى سِوَاهُ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي تَجْرِيدِهِ فِي الشُّهُودِ، لِيُطَابِقَ الشُّهُودُ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقُولُونَ فِي صَلَاةٍ مِنْ عَدَمِ خُشُوعٍ هَلْ يُعْتَدُّ بِهَا أَمْ لَا؟ قِيلَ: أَمَّا الِاعْتِدَادُ بِهَا فِي الثَّوَابِ فَلَا يُعْتَدُّ لَهُ فِيهَا إِلَّا بِمَا عَقِلَ فِيهِ مِنْهَا، وَخَشَعَ فِيهِ لِرَبِّهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَيْسَ لَكَ مِنْ صَلَاتِكَ إِلَّا مَا عَقِلْتَ مِنْهَا. وَفِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ، وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ إِلَّا نِصْفُهَا، أَوْ ثُلُثُهَا، أَوْ

رُبُعُهَا حَتَّى بَلَغَ عُشْرَهَا» . وَقَدْ عَلَّقَ اللَّهُ فَلَاحَ الْمُصَلِّينَ بِالْخُشُوعِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَخْشَعْ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْفَلَاحِ، وَلَوِ اعْتَدَّ لَهُ بِهَا ثَوَابًا لَكَانَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ. وَأَمَّا الِاعْتِدَادُ بِهَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَسُقُوطِ الْقَضَاءِ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهَا الْخُشُوعُ وَتَعَقَّلَهَا اعْتُدَّ بِهَا إِجْمَاعًا، وَكَانَتِ السُّنَنُ، وَالْأَذْكَارُ عَقِيبَهَا جَوَابِرَ وَمُكَمِّلَاتٍ لِنَقْصِهَا. وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ عَدَمُ الْخُشُوعِ فِيهَا، وَعَدَمُ تَعَقُّلِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ إِعَادَتِهَا، فَأَوْجَبَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَائِهِ، لَا فِي وَسِيطِهِ وَبَسِيطِهِ.

وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يُثَابُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُضْمَنْ لَهُ فِيهَا الْفَلَاحُ، فَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا، وَيَسْقُطُ الْقَضَاءُ عَنْهُ كَصَلَاةِ الْمُرَائِي. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْخُشُوعَ وَالْعَقْلَ رُوحُ الصَّلَاةِ وَمَقْصُودُهَا وَلُبُّهَا، فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِصَلَاةٍ فَقَدَتْ رُوحَهَا وَلُبَّهَا، وَبَقِيَتْ صُورَتُهَا وَظَاهِرُهَا؟ . قَالُوا: وَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِهَا عَمْدًا لَأَبْطَلَهَا تَرْكُهُ. وَغَايَتُهُ: أَنْ يَكُونَ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِهَا بِمَنْزِلَةِ فَوَاتِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَكَيْفَ إِذَا عَدِمَتْ رُوحَهَا، وَلُبَّهَا وَمَقْصُودَهَا؟ وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَيِّتِ، إِذَا لَمْ يُعْتَدَّ بِالْعَبْدِ الْمَقْطُوعِ الْيَدِ، يَعْتِقُهُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كَفَّارَةٍ وَاجِبَةٍ، فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِالْعَبْدِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الصَّلَاةُ كَجَارِيَةٍ تُهْدَى إِلَى مَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ يَهْدِي إِلَيْهِ جَارِيَةً شَلَّاءَ، أَوْ عَوْرَاءَ، أَوْ عَمْيَاءَ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، أَوْ مَرِيضَةً، أَوْ دَمِيمَةً، أَوْ قَبِيحَةً، حَتَّى يُهْدِيَ إِلَيْهِ جَارِيَةً مَيِّتَةً بِلَا رُوحٍ وَجَارِيَةً قَبِيحَةً، فَكَيْفَ بِالصَّلَاةِ الَّتِي يُهْدِيهَا الْعَبْدُ، وَيَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى؟ وَاللَّهُ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَلَيْسَ مِنَ الْعَمَلِ الطَّيِّبِ صَلَاةٌ لَا رُوحَ فِيهَا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعِتْقِ الطَّيِّبِ عِتْقُ عَبْدٍ لَا رُوحَ فِيهِ. قَالُوا: وَتَعْطِيلُ الْقَلْبِ عَنْ عُبُودِيَّةِ الْحُضُورِ وَالْخُشُوعِ: تَعْطِيلٌ لِمَلِكِ الْأَعْضَاءِ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ، وَعَزْلٌ لَهُ عَنْهَا، فَمَاذَا تُغْنِي طَاعَةُ الرَّعِيَّةِ وَعُبُودِيَّتُهَا، وَقَدْ عُزِلَ مِلْكُهَا وَتَعَطَّلَ؟ . قَالُوا: وَالْأَعْضَاءُ تَابِعَةٌ لِلْقَلْبِ، تَصْلُحُ بِصَلَاحِهِ، وَتَفْسُدُ بِفَسَادِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِعُبُودِيَّتِهِ، فَالْأَعْضَاءُ أَوْلَى أَنْ لَا يُعْتَدَّ بِعُبُودِيَّتِهَا، وَإِذَا فَسَدَتْ عُبُودِيَّتُهُ بِالْغَفْلَةِ وَالْوَسْوَاسِ فَأَنَّى تَصِحُّ عُبُودِيَّةُ رَعِيَّتِهِ وَجُنْدِهِ وَمَادَّتُهُمْ مِنْهُ، وَعَنْ أَمْرِهِ يُصْدِرُونَ، وَبِهِ يَأْتَمِرُونَ؟ . قَالُوا: وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ الدُّعَاءَ مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ» وَهَذَا إِمَّا خَاصٌّ بِدُعَاءِ الْعِبَادَةِ، وَإِمَّا عَامٌّ لَهُ وَلِدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِمَّا خَاصٌّ

بِدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ، فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دُعَاءَ الْعِبَادَةِ الَّذِي هُوَ خَاصٌّ حَقُّهُ مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ. قَالُوا: وَلِأَنَّ عُبُودِيَّةَ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ وَالسَّهْوُ فِي الْغَالِبِ لَا تَكُونُ مُصَاحِبَةً لِلْإِخْلَاصِ، فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ قَصْدُ الْمَعْبُودِ وَحْدَهُ بِالتَّعَبُّدِ. وَالْغَافِلُ لَا قَصْدَ لَهُ، فَلَا عُبُودِيَّةَ لَهُ. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4] وَلَيْسَ السَّهْوُ عَنْهَا تَرْكَهَا، وَإِلَّا لَمْ يَكُونُوا مُصَلِّينَ، وَإِنَّمَا هُوَ السَّهْوُ عَنْ وَاجِبِهَا إِمَّا عَنِ الْوَقْتِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ، وَإِمَّا عَنِ الْحُضُورِ وَالْخُشُوعِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَ لَهُمْ صَلَاةً، وَوَصَفَهُمْ بِالسَّهْوِ عَنْهَا فَهُوَ السَّهْوُ عَنْ وَقْتِهَا الْوَاجِبِ، أَوْ عَنْ إِخْلَاصِهَا وَحُضُورِهَا الْوَاجِبِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِالرِّيَاءِ، وَلَوْ كَانَ السَّهْوُ سَهْوَ تَرْكٍ لَمَا كَانَ هُنَاكَ رِيَاءٌ. قَالُوا: وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ السَّهْوُ عَنْ وَاجِبٍ فَقَطْ، فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى التَّوَعُّدِ بِالْوَيْلِ عَلَى سَهْوِ الْإِخْلَاصِ وَالْحُضُورِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَقْتَ يَسْقُطُ فِي حَالِ الْعُذْرِ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى بَدَلِهِ، وَالْإِخْلَاصَ وَالْحُضُورَ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ، وَلَا بَدَلَ لَهُ. الثَّانِي: أَنَّ وَاجِبَ الْوَقْتِ يَسْقُطُ لِتَكْمِيلِ مَصْلَحَةِ الْحُضُورِ، فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلشُّغْلِ الْمَانِعِ مِنْ فِعْلِ إِحْدَاهُمَا فِي وَقْتِهَا بِلَا قَلْبٍ وَلَا حُضُورٍ، كَالْمُسَافِرِ، وَالْمَرِيضِ، وَذِي الشُّغْلِ الَّذِي يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْجَمْعِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. فَبِالْجُمْلَةِ: مَصْلَحَةُ الْإِخْلَاصِ وَالْحُضُورِ، وَجَمْعِيَّةُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ أَرْجَحُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ مِنْ مَصْلَحَةِ سَائِرِ وَاجِبَاتِهَا، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يُبْطِلُهَا بِتَرْكِ تَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوِ اعْتِدَالٍ فِي رُكْنٍ، أَوْ تَرْكِ حَرْفٍ، أَوْ شَدَّةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ تَرْكِ تَسْبِيحَةٍ أَوْ قَوْلِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَوْ قَوْلِ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ أَوْ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَحِّحُهَا مَعَ فَوْتِ لُبِّهَا، وَمَقْصُودِهَا الْأَعْظَمِ، وَرُوحِهَا وَسِرِّهَا. فَهَذَا مَا احْتَجَّتْ بِهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ، وَهِيَ حُجَجٌ كَمَا تَرَاهَا قُوَّةً وَظُهُورًا. قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ: قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ «إِذَا أَذَّنَ

الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، فَيُذَكِّرُهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، وَيَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ» . قَالُوا: فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ الَّتِي قَدْ أَغْفَلَهُ الشَّيْطَانُ فِيهَا، حَتَّى لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى بِأَنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَتِهَا، وَلَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً كَمَا زَعَمْتُمْ لَأَمَرَهُ بِإِعَادَتِهَا. قَالُوا: وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ فِي وَسْوَسَتِهِ لِلْعَبْدِ، وَكَوْنِهِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ. وَلِهَذَا سَمَّاهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْمُرْغِمَتَيْنِ "، وَأَمَرَ مَنْ سَهَا بِهِمَا وَلَمْ يُفَصِّلْ فِي سَهْوِهِ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ مُوجِبَ السُّجُودِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْغَالِبِ وَالْمَغْلُوبِ، وَقَالَ «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ» وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ السَّهْوِ الْغَالِبِ، مَعَ أَنَّهُ الْغَالِبُ. قَالُوا: وَلِأَنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ عَلَى الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، وَأَمَّا حَقَائِقُ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةُ فَتِلْكَ عَلَيْهَا شَرَائِعُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَلِلَّهِ تَعَالَى حُكْمَانِ: حُكْمٌ فِي الدُّنْيَا عَلَى الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَحُكْمٌ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَالْبَوَاطِنِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ عَلَانِيَةَ الْمُنَافِقِينَ، وَيَكِلُ أَسْرَارَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَيُنَاكِحُونَ، وَيَرِثُونَ وَيُورَثُونَ، وَيُعْتَدُّ بِصَلَاتِهِمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَلَا يَكُونُ حُكْمُهُمْ حُكْمَ تَارِكِ الصَّلَاةِ، إِذْ قَدْ أَتَوْا بِصُورَتِهَا الظَّاهِرَةِ، وَأَحْكَامُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَيْسَتْ إِلَى الْبَشَرِ، بَلْ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّاهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. نَعَمْ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ هَذِهِ الصَّلَاةِ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ عَاجِلًا وَلَا آجِلًا، فَإِنَّ لِلصَّلَاةِ

مَزِيدَ ثَوَابٍ عَاجِلٍ فِي الْقَلْبِ مِنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِ، وَاسْتِنَارَتِهِ، وَانْشِرَاحِهِ وَانْفِسَاحِهِ وَوُجُودِ حَلَاوَةِ الْعِبَادَةِ، وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَاللَّذَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ لِمَنِ اجْتَمَعَ هَمُّهُ وَقَلْبُهُ عَلَى اللَّهِ، وَحَضَرَ قَلْبُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا يَحْصُلُ لِمَنْ قَرَّبَهُ السُّلْطَانُ مِنْهُ، وَخَصَّهُ بِمُنَاجَاتِهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ. وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ لِهَذَا مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الْآخِرَةِ، وَمُرَافَقَةِ الْمُقَرَّبِينَ. كُلُّ هَذَا يَفُوتُهُ بِفَوَاتِ الْحُضُورِ وَالْخُضُوعِ، وَإِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونُ مُقَامُهُمَا فِي الصَّفِّ وَاحِدًا، وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي هَذَا كُلِّهِ. فَإِنْ أَرَدْتُمْ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ لَتَحْصُلَ هَذِهِ الثَّمَرَاتُ وَالْفَوَائِدُ فَذَاكَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ أَنْ يُحَصِّلَهَا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُفَوِّتَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِوُجُوبِهَا أَنَّا نُلْزِمُهُ بِهَا وَنُعَاقِبُهُ عَلَى تَرْكِهَا، وَنُرَتِّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامَ تَارِكِ الصَّلَاةِ فَلَا. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي أَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل منزلة الإخبات

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْإِخْبَاتِ] وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْإِخْبَاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34] ثُمَّ كَشَفَ عَنْ مَعْنَاهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 35] وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [هود: 23] . وَ " الْخَبْتُ " فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ. وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَتَادَةُ لَفَظَ الْمُخْبِتَيْنِ وَقَالَا: هُمُ الْمُتَوَاضِعُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُخْبِتُ: الْمُطْمَئِنُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَالْخَبْتُ: الْمَكَانُ الْمُطَمْئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ:

الْخَاشِعُونَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: الْمُصَلُّونَ الْمُخْلِصُونَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الرَّقِيقَةُ قُلُوبُهُمْ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ، وَإِذَا ظَلَمُوا لَمْ يَنْتَصِرُوا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَدُورُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: التَّوَاضُعِ، وَالسُّكُونِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِذَلِكَ عُدِّي بِ " إِلَى " تَضْمِينًا لِمَعْنَى الطُّمَأْنِينَةِ، وَالْإِنَابَةِ وَالسُّكُونِ إِلَى اللَّهِ. قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": " هُوَ مِنْ أَوَّلِ مَقَامَاتِ الطُّمَأْنِينَةِ ". كَالسَّكِينَةِ، وَالْيَقِينِ، وَالثِّقَةِ بِاللَّهِ وَنَحْوِهَا. فَالْإِخْبَاتُ مُقَدِّمَتُهَا وَمَبْدَؤُهَا. قَالَ: وَهُوَ وُرُودُ الْمَأْمَنِ مِنَ الرُّجُوعِ وَالتَّرَدُّدِ. لَمَّا كَانَ الْإِخْبَاتُ أَوَّلَ مَقَامٍ يَتَخَلَّصُ فِيهِ السَّالِكُ مِنَ التَّرَدُّدِ - الَّذِي هُوَ نَوْعُ غَفْلَةٍ وَإِعْرَاضٍ - وَالسَّالِكُ مُسَافِرٌ إِلَى رَبِّهِ، سَائِرٌ إِلَيْهِ عَلَى مَدَى أَنْفَاسِهِ. لَا يَنْتَهِي مَسِيرُهُ إِلَيْهِ مَا دَامَ نَفَسُهُ يَصْحَبُهُ - شَبَّهَ حُصُولَ الْإِخْبَاتِ لَهُ بِالْمَاءِ الْعَذْبِ الَّذِي يَرُدُّهُ الْمُسَافِرُ عَلَى ظَمَأٍ وَحَاجَةٍ فِي أَوَّلِ مَنَاهِلِهِ. فَيَرْوِيهِ مَوْرِدَهُ، وَيُزِيلُ عَنْهُ خَوَاطِرَ تَرَدُّدَهُ فِي إِتْمَامِ سَفَرِهِ، أَوْ رُجُوعِهِ إِلَى وَطَنِهِ لِمَشَقَّةِ السَّفَرِ. فَإِذَا وَرَدَ ذَلِكَ الْمَاءَ زَالَ عَنْهُ التَّرَدُّدُ وَخَاطِرُ الرُّجُوعِ. كَذَلِكَ

السَّالِكُ إِذَا وَرَدَ مَوْرِدَ الْإِخْبَاتِ تَخَلَّصَ مِنَ التَّرَدُّدِ وَالرُّجُوعِ، وَنَزَلَ أَوَّلَ مَنَازِلِ الطُّمَأْنِينَةِ بِسِفْرِهِ، وَجَدَّ فِي السَّيْرِ. قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تَسْتَغْرِقَ الْعِصْمَةُ الشَّهْوَةَ وَتَسْتَدْرِكَ الْإِرَادَةُ الْغَفْلَةَ. وَيَسْتَهْوِي الطَّلَبُ السَّلْوَةَ. الْمُرِيدُ السَّالِكُ: تَعْرِضُ لَهُ غَفْلَةٌ عَنْ مُرَادِهِ، تُضْعِفُ إِرَادَتَهُ. وَشَهْوَةٌ تَعَارُضُ إِرَادَتَهُ فَتَصُدُّهُ عَنْ مُرَادِهِ. وَرُجُوعٌ عَنْ مُرَادِهِ، وَسَلْوَةٌ عَنْهُ. فَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْإِخْبَاتِ تَحْمِيهِ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. فَتَسْتَغْرِقُ عِصْمَتُهُ شَهْوَتَهُ. وَالْعِصْمَةُ هِيَ الْحِمَايَةُ وَالْحِفْظُ. وَالشَّهْوَةُ الْمَيْلُ إِلَى مَطَالِبِ النَّفْسِ. وَالِاسْتِغْرَاقُ لِلشَّيْءِ الِاحْتِوَاءُ عَلَيْهِ وَالْإِحَاطَةُ بِهِ. يَقُولُ: تَغْلِبُ عِصْمَتُهُ شَهْوَتَهُ وَتَقْهَرُهَا، وَتَسْتَوْفِي جَمِيعَ أَجْزَائِهَا. فَإِذَا اسْتَوْفَتِ الْعِصْمَةُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الشَّهْوَةِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى إِخْبَاتِهِ وَدُخُولِهِ فِي مَقَامِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَنُزُولِهِ أَوَّلَ مَنَازِلِهَا، وَخَلَاصِهِ فِي هَذَا الْمَنْزِلِ مِنْ تَرَدُّدِ الْخَوَاطِرِ بَيْنَ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ، وَالرُّجُوعِ وَالْعَزْمِ، إِلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالْعَزْمِ الْجَازِمِ، وَالْجِدِّ فِي السَّيْرِ. وَذَلِكَ عَلَامَةُ السَّكِينَةِ. وَتَسْتَدْرِكُ إِرَادَتُهُ غَفْلَتَهُ. وَالْإِرَادَةُ عِنْدَ الْقَوْمِ هِيَ اسْمٌ لِأَوَّلِ مَنَازِلِ الْقَاصِدِينَ إِلَى اللَّهِ. وَالْمُرِيدُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ وَطَنِ طَبْعِهِ وَنَفْسِهِ. وَأَخَذَ فِي السَّفَرِ إِلَى اللَّهِ، وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا نَزَلَ فِي مَنْزِلِ الْإِخْبَاتِ أَحَاطَتْ إِرَادَتُهُ بِغَفْلَتِهِ. فَاسْتَدْرَكَهَا، وَاسْتَدْرَكَ بِهَا فَارِطَهَا. وَأَمَّا اسْتِهْوَاءُ طَلَبِهِ لِسَلْوَتِهِ فَهُوَ قَهْرُ مَحَبَّتِهِ لِسَلْوَتِهِ، وَغَلَبَتُهَا لَهُ. بِحَيْثُ تَهْوِي السَّلْوَةُ وَتَسْقُطُ، كَالَّذِي يَهْوِي فِي بِئْرٍ. وَهَذَا عَلَامَةُ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ أَنْ تَقْهَرَ فِيهِ وَارِدَ السَّلْوَةِ، وَتَدْفِنَهَا فِي هُوَّةٍ لَا تَحْيَا بَعْدَهَا أَبَدًا. فَالْحَاصِلُ: أَنَّ عِصْمَتَهُ وَحِمَايَتَهُ تَقْهَرُ شَهْوَتَهُ. وَإِرَادَتُهُ تَقْهَرُ غَفْلَتَهُ. وَمَحَبَّتُهُ تَقْهَرُ سَلْوَتَهُ. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَنْقَضُّ إِرَادَتَهُ سَبَبٌ. وَلَا يُوحِشُ قَلْبَهُ عَارِضٌ. وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ فِتْنَةٌ.

هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أُخْرَى. تَعْرِضُ لِصَادِقِ الْإِرَادَةِ: سَبَبٌ يَعْرِضُ لَهُ يَنْقُضُ عَزْمَهُ وَإِرَادَتَهُ. وَوَحْشَةٌ تَعْرِضُ لَهُ فِي طَرِيقِ طَلَبِهِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ تَفَرُّدِهِ. وَفِتْنَةٌ تَخْرُجُ عَلَيْهِ، تَقْصِدُ قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ. فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ مَنْزِلِ الْإِخْبَاتِ انْدَفَعَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْآفَاتُ؛ لِأَنَّ إِرَادَتَهُ إِذَا قَوِيَتْ، وَجَدَّ بِهِ الْمَسِيرُ لَمْ يَنْقُضْهَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّخَلُّفِ. وَالنَّقْضُ هُوَ الرُّجُوعُ عَنْ إِرَادَتِهِ، وَالْعُدُولُ عَنْ جِهَةِ سَفَرِهِ. وَلَا يُوحِشُ أُنْسَهُ بِاللَّهِ فِي طَرِيقِهِ عَارِضٌ مِنَ الْعَوَارِضِ الشَّوَاغِلِ لِلْقَلْبِ، وَالْجَوَاذِبِ لَهُ عَمَّنْ هُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ. وَالْعَارِضُ هُوَ الْمُخَالِفُ. كَالشَّيْءِ الَّذِي يَعْتَرِضُكَ فِي طَرِيقِكَ. فَيَجِيءُ فِي عَرْضِهَا. وَمِنْ أَقْوَى هَذِهِ الْعَوَارِضِ عَارِضُ وَحْشَةِ التَّفَرُّدِ. فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّادِقِينَ: انْفِرَادُكَ فِي طَرِيقِ طَلَبِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الطَّلَبِ. وَقَالَ آخَرُ: لَا تَسْتَوْحِشْ فِي طَرِيقِكَ مِنْ قِلَّةِ السَّالِكِينَ. وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ. وَأَمَّا الْفِتْنَةُ الَّتِي تَقْطَعُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ فَهِيَ الْوَارِدَاتُ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الْقُلُوبِ، تَمْنَعُهَا مِنْ مُطَالَعَةِ الْحَقِّ وَقَصْدِهِ. فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ مَنْزِلِ الْإِخْبَاتِ وَصِحَّةِ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ لَمْ يَطْمَعْ فِيهِ عَارِضُ الْفِتْنَةِ. وَهَذِهِ الْعَزَائِمُ لَا تَصِحُّ إِلَّا لِمَنْ أَشْرَقَ عَلَى قَلْبِهِ أَنْوَارُ آثَارِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَتَجَلَّتْ عَلَيْهِ مَعَانِيهَا. وَكَافَحَ قَلْبَهُ حَقِيقَةُ الْيَقِينِ بِهَا. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ أَخَذَ الْعِلْمَ مِنْ عَيْنِ الْعِلْمِ ثَبَتَ. وَمَنْ أَخَذَهُ مِنْ جَرَيَانِهِ أَخَذَتْهُ أَمْوَاجُ الشُّبَهِ. وَمَالَتْ بِهِ الْعِبَارَاتُ، وَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ الْأَقْوَالُ. قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ، وَتَدُومَ لَائِمَتُهُ لِنَفْسِهِ. وَيَعْمَى عَنْ نُقْصَانِ الْخَلْقِ عَنْ دَرَجَتِهِ. اعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى اسْتَقَرَّتْ قَدَمُ الْعَبْدِ فِي مَنْزِلَةِ الْإِخْبَاتِ وَتَمَكَّنَ فِيهَا ارْتَفَعَتْ هِمَّتُهُ، وَعَلَتْ نَفْسُهُ عَنْ خَطْفَاتِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ. فَلَا يَفْرَحُ بِمَدْحِ النَّاسِ. وَلَا يَحْزَنُ لِذَمِّهِمْ. هَذَا وَصْفُ مَنْ خَرَجَ عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ، وَتَأَهَّلَ لِلْفَنَاءِ فِي عُبُودِيَّةِ رَبِّهِ. وَصَارَ قَلْبُهُ مُطَّرِحًا لِأَشِعَّةِ أَنْوَارِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَبَاشَرَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ قَلْبُهُ.

وَالْوُقُوفُ عِنْدَ مَدْحِ النَّاسِ وَذَمِّهِمْ عَلَامَةُ انْقِطَاعِ الْقَلْبِ، وَخُلُوِّهِ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَمْ تُبَاشِرْهُ رُوحُ مَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَلَمْ يَذُقْ حَلَاوَةَ التَّعَلُّقِ بِهِ وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْ تَدُومَ لَائِمَتُهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ أَنَّ صَاحِبُ هَذَا الْمَنْزِلِ لَا يَرْضَى عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُبْغِضٌ لَهَا مُتَمَنٍّ لِمُفَارَقَتِهَا. وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ، عِنْدَ الْقَوْمِ: مَا كَانَ مَعْلُومًا مِنْ أَوْصَافِ الْعَبْدِ، مَذْمُومًا مِنْ أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ كَسْبِيًّا، أَوْ خَلْقِيًّا. فَهُوَ شَدِيدُ اللَّائِمَةِ لَهَا. وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ: تَلُومُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَلَا تَصْبِرُ عَلَى السَّرَّاءِ. وَلَا عَلَى الضَّرَّاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: اللَّوَّامَةُ هِيَ الْفَاجِرَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ، وَتَقُولُ: لَوْ فَعَلْتُ؟ وَلَوْ لَمْ أَفْعَلْ؟ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ إِلَّا وَهِيَ تَلُومُ نَفْسَهَا إِنْ كَانَتْ عَمِلَتْ خَيْرًا قَالَتْ: هَلَّا زِدْتُ؟ وَإِنْ عَمِلَتْ شَرًّا قَالَتْ: لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ النَّفْسُ الْمُؤْمِنَةُ. إِنَّ الْمُؤْمِنَ - وَاللَّهِ - مَا تَرَاهُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ: مَا أَرَدْتِ بِكَلِمَةِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتِ بِأَكْلَةِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتِ بِكَذَا؟ مَا أَرَدْتِ بِكَذَا؟ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَمْضِي قُدُمًا قُدُمًا، وَلَا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ وَلَا يُعَاتِبُهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ النَّفْسُ الْكَافِرَةُ، تَلُومُ نَفْسَهَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا فَرَّطَتْ فِي أَمْرِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا. وَالْقَصْدُ: أَنَّ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِصِدْقٍ كَرِهَ بَقَاءَهُ مَعَهَا؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَقَبَّلَهَا مَنْ بُذِلَتْ لَهُ. وَلِأَنَّهُ قَدْ قَرَّبَهَا لَهُ قُرْبَانًا. وَمَنْ قَرَّبَ قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْهُ لَيْسَ كَمَنْ رُدَّ عَلَيْهِ قُرْبَانُهُ. فَبَقَاءُ نَفْسِهِ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْقَوْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا بَيْنَهُمْ، الَّتِي اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَمُحِقِّهِمْ وَمُبْطِلِهِمْ عَلَيْهَا أَنَّ النَّفْسَ حِجَابٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ حَتَّى يَقْطَعَ هَذَا الْحِجَابَ. كَمَا قَالَ أَبُو يَزِيدٍ: رَأَيْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ. فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: خَلِّ نَفْسَكَ وَتَعَالَ.

فَالنَّفْسُ جَبَلٌ عَظِيمٌ شَاقٌّ فِي طَرِيقِ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكُلُّ سَائِرٍ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ. فَلَابُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ شَاقٌّ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ سَهْلٌ عَلَيْهِ. وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَفِي ذَلِكَ الْجَبَلِ أَوْدِيَةٌ وَشُعُوبٌ، وَعَقَبَاتٌ وَوُهُودٌ، وَشَوْكٌ وَعَوْسَجٌ، وَعَلِيقٌ وَشَبْرَقٌ، وَلُصُوصٌ يَقْتَطِعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى السَّائِرِينَ. وَلَا سِيَّمَا أَهْلَ اللَّيْلِ الْمُدْلِجِينَ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ عُدَدُ الْإِيمَانِ، وَمَصَابِيحُ الْيَقِينِ تَتَّقِدُ بِزَيْتِ الْإِخْبَاتِ، وَإِلَّا تَعَلَّقَتْ بِهِمْ تِلْكَ الْمَوَانِعُ. وَتَشَبَّثَتْ بِهِمْ تِلْكَ الْقَوَاطِعُ وَحَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّيْرِ. فَإِنَّ أَكْثَرَ السَّائِرِينَ فِيهِ رَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَمَّا عَجَزُوا عَنْ قَطْعِهِ وَاقْتِحَامِ عَقَبَاتِهِ. وَالشَّيْطَانُ عَلَى قُلَّةِ ذَلِكَ الْجَبَلِ يُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْ صُعُودِهِ وَارْتِفَاعِهِ، وَيُخَوِّفُهُمْ مِنْهُ. فَيَتَّفِقُ مَشَقَّةُ الصُّعُودِ وَقُعُودُ ذَلِكَ الْمُخَوِّفِ عَلَى قُلَّتِهِ، وَضَعْفُ عَزِيمَةِ السَّائِرِ وَنِيَّتِهِ. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ الِانْقِطَاعُ وَالرُّجُوعُ. وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ. وَكُلَّمَا رَقَى السَّائِرُ فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ اشْتَدَّ بِهِ صِيَاحُ الْقَاطِعِ، وَتَحْذِيرُهُ وَتَخْوِيفُهُ، فَإِذَا قَطَعَهُ وَبَلَغَ قُلَّتَهُ: انْقَلَبَتْ تِلْكَ الْمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانًا. وَحِينَئِذٍ يَسْهُلُ السَّيْرُ، وَتَزُولُ عَنْهُ عَوَارِضُ الطَّرِيقِ، وَمَشَقَّةُ عَقَبَاتِهَا، وَيَرَى طَرِيقًا وَاسِعًا آمِنًا. يُفْضِي بِهِ إِلَى الْمَنَازِلِ وَالْمَنَاهِلِ. وَعَلَيْهِ الْأَعْلَامُ. وَفِيهِ الْإِقَامَاتُ، قَدْ أُعِدَّتْ لِرَكْبِ الرَّحْمَنِ. فَبَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ السَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ قُوَّةُ عَزِيمَةٍ، وَصَبْرُ سَاعَةٍ، وَشَجَاعَةُ نَفْسٍ، وَثَبَاتُ قَلْبٍ. وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. فَصْلٌ وَقَوْلُهُ: وَيَعْمَى عَنْ نُقْصَانِ الْخَلْقِ عَنْ دَرَجَتِهِ. يَعْنِي أَنَّهُ - وَإِنْ كَانَ أَعْلَى مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ مِنَ النَّاقِصِينَ عَنْ دَرَجَتِهِ - إِلَّا أَنَّهُ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهِ وَامْتِلَاءِ قَلْبِهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ يَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ مُلَاحَظَةِ حَالِ غَيْرِهِ، وَعَنْ شُهُودِ النِّسْبَةِ بَيْنَ حَالِهِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ. وَيَرَى اشْتِغَالَهُ بِذَلِكَ وَالْتِفَاتَهُ إِلَيْهِ نُزُولًا عَنْ مَقَامِهِ، وَانْحِطَاطًا عَنْ دَرَجَتِهِ، وَرُجُوعًا عَلَى عَقِبَيْهِ. فَإِنْ هَجَمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ - بِغَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ وَاخْتِيَارٍ - فَلْيُدَاوِهِ بِشُهُودِ الْمِنَّةِ، وَخَوْفِ الْمَكْرِ، وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْعَاقِبَةِ الَّتِي يُوَافَى عَلَيْهَا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

فصل منزلة الزهد

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الزُّهْدِ] [حَقِيقَةُ الزُّهْدِ] وَمِنْ مَنَازِلِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " مَنْزِلَةُ الزُّهْدِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] وَقَالَ تَعَالَى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} [يونس: 24] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45]- إِلَى قَوْلِهِ - {وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77] وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16] وَقَالَ: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 7] وَقَالَ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف: 33] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35] .

وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنَ التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِخْبَارِ بِخِسَّتِهَا، وَقِلَّتِهَا وَانْقِطَاعِهَا، وَسُرْعَةِ فَنَائِهَا. وَالتَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْإِخْبَارِ بِشَرَفِهَا وَدَوَامِهَا. فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا أَقَامَ فِي قَلْبِهِ شَاهِدًا يُعَايِنُ بِهِ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيُؤْثِرُ مِنْهُمَا مَا هُوَ أَوْلَى بِالْإِيثَارِ. وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الزُّهْدِ وَكَلٌّ أَشَارَ إِلَى ذَوْقِهِ. وَنَطَقَ عَنْ حَالِهِ وَشَاهِدِهِ. فَإِنَّ غَالِبَ عِبَارَاتِ الْقَوْمِ عَنْ أَذْوَاقِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. وَالْكَلَامُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ أَوْسَعُ مِنَ الْكَلَامِ بِلِسَانِ الذَّوْقِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ: الزُّهْدُ تَرْكُ مَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ. وَالْوَرَعُ تَرْكَ مَا تَخَافُ ضَرَرُهُ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَأَجْمَعِهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قِصَرُ الْأَمَلِ. لَيْسَ بِأَكْلِ الْغَلِيظِ، وَلَا لُبْسِ الْعَبَاءِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: سَمِعْتُ سَرِيًّا يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَلَبَ الدُّنْيَا عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَحَمَاهَا عَنْ أَصْفِيَائِهِ، وَأَخْرَجَهَا مِنْ قُلُوبِ أَهْلِ وِدَادِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَهَا لَهُمْ. وَقَالَ: الزُّهْدُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23] فَالزَّاهِدُ لَا يَفْرَحُ مِنَ الدُّنْيَا بِمَوْجُودٍ. وَلَا يَأْسَفُ مِنْهَا عَلَى مَفْقُودٍ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الزُّهْدُ يُورِثُ السَّخَاءَ بِالْمُلْكِ، وَالْحُبُّ يُورِثُ السَّخَاءَ بِالرُّوحِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَلَاءِ: الزُّهْدُ هُوَ النَّظَرُ إِلَى الدُّنْيَا بِعَيْنِ الزَّوَالِ، فَتَصْغُرُ فِي عَيْنَيْكَ،

فَيَسْهُلُ عَلَيْكَ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ خَفِيفٍ: الزُّهْدُ وُجُودُ الرَّاحَةِ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْمُلْكِ. وَقَالَ أَيْضًا: الزُّهْدُ سُلُوُّ الْقَلْبِ عَنِ الْأَسْبَابِ، وَنَفُضُّ الْأَيْدِي مِنَ الْأَمْلَاكِ. وَقِيلَ: هُوَ عُزُوفُ الْقَلْبِ عَنِ الدُّنْيَا بِلَا تَكَلُّفٍ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الزُّهْدُ خُلُوُّ الْقَلْبِ عَمَّا خَلَتْ مِنْهُ الْيَدُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قِصَرُ الْأَمَلِ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ عَدَمُ فَرَحِهِ بِإِقْبَالِهَا. وَلَا حُزْنِهِ عَلَى إِدْبَارِهَا. فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ مَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ. هَلْ يَكُونُ زَاهِدًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. عَلَى شَرِيطَةِ أَنْ لَا يَفْرَحَ إِذَا زَادَتْ، وَلَا يَحْزَنَ إِذَا نَقَصَتْ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هُوَ الثِّقَةُ بِاللَّهِ مَعَ حُبِّ الْفَقْرِ. وَهَذَا قَوْلُ شَقِيقٍ وَيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ: الزُّهْدُ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَالدِّرْهَمِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: تَرْكُ مَا يُشْغِلُ عَنِ اللَّهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشِّبْلِيِّ. وَسَأَلَ رُوَيْمٌ الْجُنَيْدَ عَنِ الزُّهْدِ؟ فَقَالَ: اسْتِصْغَارُ الدُّنْيَا، وَمَحْوُ آثَارِهَا مِنَ الْقَلْبِ.

وَقَالَ مَرَّةً: هُوَ خُلُوِّ الْيَدِ عَنِ الْمُلْكِ، وَالْقَلْبِ عَنِ التَّتَبُّعِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ حَقِيقَةَ الزُّهْدِ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: عَمَلٌ بِلَا عَلَاقَةٍ، وَقَوْلٌ بِلَا طَمَعٍ، وَعِزٌّ بِلَا رِيَاسَةٍ. وَقَالَ أَيْضًا: الزَّاهِدُ يُسْعِطُكَ الْخَلَّ وَالْخَرْدَلَ، وَالْعَارِفُ يُشِمُّكَ الْمِسْكَ وَالْعَنْبَرَ. وَقِيلَ: حَقِيقَتُهُ هُوَ الزُّهْدُ فِي النَّفْسِ. وَهَذَا قَوْلُ ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ. وَقِيلَ: الزُّهْدُ الْإِيثَارُ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ، وَالْفُتُوَّةُ: الْإِيثَارُ عِنْدَ الْحَاجَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] . وَقَالَ رَجُلٌ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ: مَتَى أَدْخُلُ حَانُوتَ التَّوَكُّلِ، وَأَلْبَسُ رِدَاءَ الزَّاهِدِينَ، وَأَقْعُدُ مَعَهُمْ؟ فَقَالَ: إِذَا صِرْتَ مِنْ رِيَاضَتِكَ لِنَفْسِكَ إِلَى حَدٍّ لَوْ قَطَعَ اللَّهُ الرِّزْقَ عَنْكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ تَضْعُفْ نَفْسُكَ. فَأَمَّا مَا لَمْ تَبْلُغْ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ فَجُلُوسُكَ عَلَى بِسَاطِ الزَّاهِدِينَ جَهْلٌ، ثُمَّ لَا آمَنُ عَلَيْكَ أَنْ تَفْتَضِحَ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الزُّهْدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ تَرْكُ الْحَرَامِ. وَهُوَ زُهْدُ الْعَوَامِّ. وَالثَّانِي تَرْكُ الْفُضُولِ مِنَ الْحَلَالِ. وَهُوَ زُهْدُ الْخَوَاصِّ. وَالثَّالِثُ تَرْكُ مَا يَشْغَلُ عَنِ اللَّهِ. وَهُوَ زُهْدُ الْعَارِفِينَ. وَهَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ، مَعَ زِيَادَةِ تَفْصِيلِهِ وَتَبْيِينِ دَرَجَاتِهِ. وَهُوَ مِنْ أَجْمَعِ الْكَلَامِ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رِضَى اللَّهِ عَنْهُ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى. وَقَدْ شَهِدَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِمَامَتِهِ فِي ثَمَانِيَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا الزُّهْدُ.

وَالَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعَارِفُونَ أَنَّ الزُّهْدَ سَفَرُ الْقَلْبِ مِنْ وَطَنِ الدُّنْيَا، وَأَخْذُهُ فِي مَنَازِلِ الْآخِرَةِ. وَعَلَى هَذَا صَنَّفَ الْمُتَقَدِّمُونَ كُتُبَ الزُّهْدِ. كَالزُّهْدِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلِوَكِيعٍ، وَلِهَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، وَلِغَيْرِهِمْ. وَمُتَعَلِّقُهُ سِتَّةُ أَشْيَاءَ. لَا يَسْتَحِقُّ الْعَبْدُ اسْمَ الزُّهْدِ حَتَّى يَزْهَدَ فِيهَا. وَهِيَ الْمَالُ، وَالصُّوَرُ، وَالرِّيَاسَةُ، وَالنَّاسُ، وَالنَّفْسُ، وَكُلُّ مَا دُونُ اللَّهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ رَفْضَهَا مِنَ الْمُلْكِ. فَقَدْ كَانَ سُلَيْمَانُ وَدَاوُدُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنْ أَزْهَدِ أَهْلِ زَمَانِهِمَا. وَلَهُمَا مِنَ الْمَالِ وَالْمُلْكِ وَالنِّسَاءِ مَا لَهُمَا. وَكَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْهَدِ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ. وَكَانَ عَلِيُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرُ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنَ الزُّهَّادِ. مَعَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الزُّهَّادِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْثَرِ الْأُمَّةِ مَحَبَّةً لِلنِّسَاءِ وَنِكَاحًا لَهُنَّ، وَأَغْنَاهُمْ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الزُّهَّادِ، مَعَ مَالٍ كَثِيرٍ. وَكَذَلِكَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ

فصل اختلاف الناس في الزهد

أَئِمَّةِ الزُّهَّادِ. وَكَانَ لَهُ رَأْسُ مَالٍ يَقُولُ: لَوْلَا هُوَ لَتَمَنْدَلَ بِنَا هَؤُلَاءِ. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الزُّهْدِ، كَلَامُ الْحَسَنِ أَوْ غَيْرِهِ: «لَيْسَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ. وَلَكِنْ أَنْ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقُ مِنْكَ بِمَا فِي يَدِكَ، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ - إِذَا أُصِبْتَ بِهَا - أَرْغَبُ مِنْكَ فِيهَا لَوْ لَمْ تُصِبْكَ» . فَهَذَا مِنْ أَجْمَعِ كَلَامٍ فِي الزُّهْدِ وَأَحْسَنِهِ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا. [فَصْلٌ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي الزُّهْدِ] فَصْلٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الزُّهْدِ هَلْ هُوَ مُمْكِنٌ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو حَفْصٍ: الزُّهْدُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَلَالِ. وَلَا حَلَالَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا زُهْدَ. وَخَالَفَهُ النَّاسُ فِي هَذَا. وَقَالُوا: بَلِ الْحَلَالُ مَوْجُودٌ فِيهَا. وَفِيهَا الْحَرَامُ كَثِيرًا. وَعَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا الْحَلَالُ، فَهَذَا أَدْعَى إِلَى الزُّهْدِ فِيهَا، وَتَنَاوُلِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْمُضْطَرُّ مِنْهَا، كَتَنَاوُلِهِ لِلْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: لَوْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا بَلَغَ فِي الزُّهْدِ مَنْزِلَةَ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي

فصل الزهد بالنسبة للعامة وللمريد

الدَّرْدَاءِ وَسَلْمَانَ وَالْمِقْدَادِ وَأَشْبَاهِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا قُلْتُ لَهُ زَاهِدٌ؛ لِأَنَّ الزُّهْدَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَلَالِ الْمَحْضِ. وَالْحَلَالُ الْمَحْضُ لَا يُوجَدُ فِي زَمَانِنَا هَذَا. وَأَمَّا الْحَرَامُ فَإِنِ ارْتَكَبْتَهُ عَذَّبَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي مُتَعَلِّقِ الزُّهْدِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الزُّهْدُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَلَالِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْحَرَامِ فَرِيضَةٌ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلِ الزُّهْدُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَرَامِ. وَأَمَّا الْحَلَالُ فَنِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ. وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ. فَشُكْرُهُ عَلَى نِعَمِهِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهَا عَلَى طَاعَتِهِ، وَاتِّخَاذُهَا طَرِيقًا إِلَى جَنَّتِهِ أَفْضَلُ مِنَ الزُّهْدِ فِيهَا، وَالتَّخَلِّي عَنْهَا، وَمُجَانَبَةِ أَسْبَابِهَا. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا إِنْ شَغَلَتْهُ عَنِ اللَّهِ. فَالزُّهْدُ فِيهَا أَفْضَلُ. وَإِنْ لَمْ تَشْغَلْهُ عَنِ اللَّهِ، بَلْ كَانَ شَاكِرًا لِلَّهِ فِيهَا، فَحَالُهُ أَفْضَلُ. وَالزُّهْدُ فِيهَا تَجْرِيدُ الْقَلْبِ عَنِ التَّعَلُّقِ بِهَا، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الزُّهْدُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَامَّةِ وَلِلْمُرِيدِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الزُّهْدُ هُوَ إِسْقَاطُ الرَّغْبَةِ عَنِ الشَّيْءِ بِالْكُلِّيَّةِ. يُرِيدُ بِالشَّيْءِ الْمَزْهُودِ فِيهِ مَا سِوَى اللَّهِ. وَالْإِسْقَاطُ عَنْهُ إِزَالَتُهُ عَنِ الْقَلْبِ وَإِسْقَاطُ تَعَلُّقِ الرَّغْبَةِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: بِالْكُلِّيَّةِ؛ أَيْ بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَشَوَّقُ إِلَيْهِ. قَالَ: وَهُوَ لِلْعَامَّةِ قُرْبَةٌ. وَلِلْمُرِيدِ ضَرُورَةٌ. وَلِلْخَاصَّةِ خَشْيَةٌ. يَعْنِي أَنَّ الْعَامَّةَ تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ. وَالْقُرْبَةُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُتَقَرِّبُ إِلَى مَحْبُوبِهِ. وَهُوَ ضَرُورَةٌ لِلْمُرِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ التَّخَلِّي بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ، إِلَّا بِإِسْقَاطِ الرَّغْبَةِ فِيمَا سِوَى مَطْلُوبِهِ. فَهُوَ مُضْطَرٌّ إِلَى الزُّهْدِ، كَضَرُورَتِهِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. إِذِ التَّعَلُّقُ

درجات الزهد

بِسِوَى مَطْلُوبِهِ لَا يَعْدِمُ مِنْهُ حِجَابًا، أَوْ وَقْفَةً، أَوْ نَكْسَةً، عَلَى حَسَبِ بُعْدِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ مَطْلُوبِهِ، وَقُوَّةِ تَعَلُّقِهِ بِهِ وَضَعْفِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ خَشْيَةً لِلْخَاصَّةِ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَى مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْقُرْبِ وَالْأُنْسِ بِاللَّهِ، وَقُرَّةِ عُيُونِهِمْ بِهِ أَنْ يَتَكَدَّرَ عَلَيْهِمْ صَفْوُهُ بِالْتِفَاتِهِمْ إِلَى مَا سِوَى اللَّهِ. فَزُهْدُهُمْ خَشْيَةٌ وَخَوْفٌ. [دَرَجَاتُ الزُّهْدِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى الزُّهْدُ فِي الشُّبْهَةِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى الزُّهْدُ فِي الشُّبْهَةِ. بَعْدَ تَرْكِ الْحَرَامِ بِالْحَذَرِ مِنَ الْمَعْتَبَةِ، وَالْأَنَفَةِ مِنَ الْمَنْقَصَةِ، وَكَرَاهَةِ مُشَارَكَةِ الْفُسَّاقِ. أَمَّا الزُّهْدُ فِي الشُّبْهَةِ فَهُوَ تَرْكُ مَا يُشْتَبَهُ عَلَى الْعَبْدِ هَلْ هُوَ حَلَالٌ، أَوْ حَرَامٌ؟ كَمَا فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ. وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ. وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ. لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ اتَّقَى الْحَرَامَ. وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبَهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى. يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ. أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى. أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ. أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ. وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ. أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . فَالشُّبُهَاتُ بَرْزَخٌ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ كُلِّ مُتَبَايِنَيْنِ بَرْزَخًا، كَمَا جَعَلَ الْمَوْتَ وَمَا بَعْدَهُ بَرْزَخًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَجَعَلَ الْمَعَاصِيَ بَرْزَخًا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. وَجَعَلَ الْأَعْرَافَ بَرْزَخًا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَكَذَلِكَ جَعَلَ بَيْنَ كُلِّ مَشْعَرَيْنِ مِنْ مَشَاعِرَ الْمَنَاسِكِ بَرْزَخًا حَاجِزًا بَيْنَهُمَا لَيْسَ مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا. فَمُحَسِّرٌ بَرْزَخٌ بَيْنَ مِنًى وَمُزْدَلِفَةَ، لَيْسَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَا يَبِيتُ بِهِ

الدرجة الثانية الزهد في الفضول

الْحَاجُّ لَيْلَةَ جَمْعٍ، وَلَا لَيَالِيَ مِنًى. وَبَطْنُ عُرَنَةَ بَرْزَخٌ بَيْنَ عَرَفَةَ وَبَيْنَ الْحَرَمِ. فَلَيْسَ مِنَ الْحَرَمِ وَلَا مِنْ عَرَفَةَ. وَكَذَلِكَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ بَرْزَخٌ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. لَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ، لِتَصَرُّمِهِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ. وَلَا مِنَ النَّهَارِ لِأَنَّهُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَإِنْ دَخَلَ فِي اسْمِ الْيَوْمَ شَرْعًا. وَكَذَلِكَ مَنَازِلُ السَّيْرِ بَيْنَ كُلِّ مَنْزِلَتَيْنِ بَرْزَخٌ يَعْرِفُهُ السَّائِرُ فِي تِلْكَ الْمَنَازِلِ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْوَارِدَاتِ تَكُونُ بَرَازِخَ، فَيَظُنُّهَا صَاحِبُهَا غَايَةً. وَهَذَا لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهُ إِلَّا فُقَهَاءُ الطَّرِيقِ، وَالْعُلَمَاءُ هُمُ الْأَدِلَّةُ فِيهَا. وَقَوْلُهُ: بَعْدَ تَرْكِ الْحَرَامِ؛ أَيْ تَرْكِ الشُّبْهَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَرْكِ الْحَرَامِ. وَقَوْلُهُ: بِالْحَذَرِ مِنَ الْمَعْتَبَةِ، يَعْنِي أَنْ يَكُونَ سَبَبَ تَرْكِهِ لِلشُّبْهَةِ الْحَذَرُ مِنْ تَوَجُّهِ عَتَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَالْأَنَفَةِ مِنَ الْمَنْقَصَةِ؛ أَيْ يَأْنَفُ لِنَفْسِهِ مِنْ نَقْصِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنَيْهِ. لَا أَنَفَتُهُ مِنْ نَقْصِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ أُعِينُهُمْ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مَذْمُومًا، بَلْ هُوَ مَحْمُودٌ أَيْضًا. وَلَكِنَّ الْمَذْمُومَ أَنْ تَكُونَ أَنَفَتُهُ كُلُّهَا مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَأْنَفُ مِنَ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَكَرَاهَةِ مُشَارَكَةِ الْفُسَّاقِ؛ يَعْنِي أَنَّ الْفُسَّاقَ يَزْدَحِمُونَ عَلَى مَوَاضِعِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا. وَلِتِلْكَ الْمَوَاقِفِ بِهِمْ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ. فَالزَّاهِدُ يَأْنَفُ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ فِي تِلْكَ الْمَوَاقِفِ. وَيَرْفَعُ نَفْسَهُ عَنْهَا، لِخِسَّةِ شُرَكَائِهِ فِيهَا، كَمَا قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: مَا الَّذِي زَهَّدَكَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: قِلَّةُ وَفَائِهَا، وَكَثْرَةُ جَفَائِهَا، وَخِسَّةُ شُرَكَائِهَا. إِذَا لَمْ أَتْرُكِ الْمَاءَ اتِّقَاءً ... تَرَكْتُ لِكَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ فِيهِ إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ عَلَى طَعَامٍ ... رَفَعَتْ يَدَيْ وَنَفْسِي تَشْتَهِيهِ وَتَجْتَنِبُ الْأُسُودُ وُرُودَ مَاءٍ ... إِذَا كَانَ الْكِلَابُ يَلِغْنَ فِيهِ [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الزُّهْدُ فِي الْفُضُولِ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الزُّهْدُ فِي الْفُضُولِ. وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الْمُسْكَةِ وَالْبَلَاغِ مِنَ الْقُوتِ، بِاغْتِنَامِ التَّفَرُّغِ إِلَى عِمَارَةِ الْوَقْتِ. وَحَسْمِ الْجَأْشِ، وَالتَّحَلِّي بِحِلْيَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ.

الْفُضُولُ مَا يَفْضُلُ عَنْ قَدَرِ الْحَاجَةِ. وَالْمُسْكَةُ مَا يَمْسِكُ النَّفْسَ مِنَ الْقُوتِ وَالشَّرَابِ، وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ، وَالْمَنْكَحِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ. وَالْبَلَاغُ هُوَ الْبُلْغَةُ مِنْ ذَلِكَ، الَّذِي يَتَبَلَّغُ بِهِ الْمُسَافِرُ فِي مَنَازِلَ السَّفَرِ. فَيَزْهَدُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، اغْتِنَامًا لِتَفَرُّغِهِ لِعِمَارَةِ وَقْتِهِ. وَلَمَّا كَانَ الزُّهْدُ لِأَهْلِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى خَوْفًا مِنَ الْمَعْتَبَةِ، وَحَذَرًا مِنَ الْمَنْقَصَةِ كَانَ الزُّهْدُ لِأَهْلِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَعْلَى وَأَرْفَعَ. وَهُوَ اغْتِنَامُ الْفَرَاغِ لِعِمَارَةِ أَوْقَاتِهِمْ مَعَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِفُضُولِ الدُّنْيَا، فَاتَهُ نَصِيبُهُ مِنَ انْتِهَازِ فُرْصَةِ الْوَقْتِ. فَالْوَقْتُ سَيْفٌ إِنْ لَمْ تَقْطَعْهُ وَإِلَّا قَطَعَكَ. وَعِمَارَةُ الْوَقْتِ الِاشْتِغَالُ فِي جَمِيعِ آنَائِهِ بِمَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ، أَوْ يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَأْكَلٍ أَوْ مُشْرَبٍ، أَوْ مَنْكَحٍ، أَوْ مَنَامٍ، أَوْ رَاحَةٍ. فَإِنَّهُ مَتَى أَخَذَهَا بِنِيَّةِ الْقُوَّةِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَتَجَنُّبِ مَا يُسْخِطُهُ. كَانَتْ مِنْ عِمَارَةِ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا أَتَمُّ لَذَّةٍ فَلَا تُحْسَبُ عِمَارَةُ الْوَقْتِ بِهَجْرِ اللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ. فَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ رُبَّمَا كَانَ سَيْرُهُ الْقَلْبِيُّ فِي حَالِ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ، وَجِمَاعِ أَهْلِهِ وَرَاحَتِهِ، أَقْوَى مِنْ سَيْرِهِ الْبَدَنِيِّ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَرِدُ عَلَيْهِ - وَهُوَ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِهِ - حَالٌ لَا يَعْهَدُهَا فِي غَيْرِهَا. وَلِهَذَا سَبَبٌ صَحِيحٌ. وَهُوَ اجْتِمَاعُ قُوَى النَّفْسِ وَعَدَمُ الْتِفَاتِهَا حِينَئِذٍ إِلَى شَيْءٍ، مَعَ مَا يَحْصُلُ لَهَا مِنَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ. وَالسُّرُورُ يُذَكِّرُ بِالسُّرُورِ. وَاللَّذَّةُ تُذَكِّرُ بِاللَّذَّةِ. فَتَنْهَضُ الرُّوحُ مِنْ تِلْكَ الْفَرْحَةِ وَاللَّذَّةِ إِلَى مَا لَا نِسْبَةَ بَيْنِهَا وَبَيْنَهَا بِتِلْكَ الْجَمْعِيَّةِ، وَالْقُوَّةِ وَالنَّشَاطِ، وَقَطْعِ أَسْبَابِ الِالْتِفَاتِ، فَيُورِثُهُ ذَلِكَ حَالًا عَجِيبَةً. وَلَا تَعْجَلْ بِالْإِنْكَارِ. وَانْظُرْ إِلَى قَلْبِكَ عِنْدَ هُجُومِ أَعْظَمِ مَحْبُوبٍ لَهُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، كَيْفَ تَرَاهُ؟ فَهَكَذَا حَالُ غَيْرِكَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا نَالَتْ حَظًّا صَالِحًا مِنَ الدُّنْيَا قَوِيتْ بِهِ وَسُرَّتْ، وَاسْتَجْمَعَتْ قُوَاهَا وَجَمْعِيَّتَهَا. وَزَالَ تَشَتُّتُهَا. اللَّهُمَّ اغْفِرْ. فَقَدْ طَغَى الْقَلَمُ. وَزَادَ الْكَلِمُ، فَعِيَاذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ مَقْتِكَ. وَأَمَّا حَسْمُ الْجَأْشِ فَهُوَ قَطْعُ اضْطِرَابِ الْقَلْبِ، الْمُتَعَلِّقِ بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا، رَغْبَةً وَرَهْبَةً، وِحُبًّا وَبُغْضًا، وَسَعْيًا. فَلَا يَصِحُّ الزُّهْدُ لِلْعَبْدِ حَتَّى يَقْطَعَ هَذَا الِاضْطِرَابَ مِنْ قَلْبِهِ. بِأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهَا، وَلَا يَتَعَلَّقَ بِهَا فِي حَالَتَيْ مُبَاشَرَتِهِ لَهَا وَتَرْكِهِ. فَإِنَّ الزُّهْدَ زُهْدُ

فصل الدرجة الثالثة الزهد في الزهد

الْقَلْبِ، لَا زُهْدُ التَّرْكِ مِنَ الْيَدِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ. فَهُوَ تَخَلِّي الْقَلْبِ عَنْهَا. لَا خُلُوُّ الْيَدِ مِنْهَا. وَأَمَّا التَّحَلِّي بِحِلْيَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا حَقًّا. إِذْ هُمْ مُشَمِّرُونَ إِلَى عَلَمٍ قَدْ رُفِعَ لَهُمْ غَيْرُهَا. فَهُمْ زَاهِدُونَ، وَإِنْ كَانُوا لَهَا مُبَاشِرِينَ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الزُّهْدُ فِي الزُّهْدِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الزُّهْدُ فِي الزُّهْدِ. وَهُوَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: اسْتِحْقَارُ مَا زَهِدْتَ فِيهِ. وَاسْتِوَاءُ الْحَالَاتِ فِيهِ عِنْدَكَ. وَالذَّهَابُ عَنْ شُهُودِ الِاكْتِسَابِ، نَاظِرًا إِلَى وَادِي الْحَقَائِقِ. وَقَدْ فَسَّرَ الشَّيْخُ مُرَادَهُ بِالزُّهْدِ فِي الزُّهْدِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: احْتِقَارُهُ مَا زَهِدَ فِيهِ. فَإِنَّ مَنِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ لَا يَرَى أَنَّ مَا تَرَكَهُ لِأَجْلِهِ مِنَ الدُّنْيَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجْعَلَ قُرْبَانًا؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لَا تُسَاوِي عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. فَالْعَارِفُ لَا يَرَى زُهْدَهُ فِيهَا كَبِيرَ أَمْرٍ يُعْتَدُّ بِهِ وَيُحْتَفَلُ لَهُ، فَيَسْتَحِي مَنْ صَحَّ لَهُ الزُّهْدُ أَنْ يَجْعَلَ لِمَا تَرَكَهُ لِلَّهِ قَدْرًا يُلَاحَظُ زُهْدَهُ فِيهِ، بَلْ يَفْنَى عَنْ زُهْدِهِ فِيهِ كَمَا فَنِيَ عَنْهُ. وَيَسْتَحِي مِنْ ذِكْرِهِ بِلِسَانِهِ، وَشُهُودِهِ بِقَلْبِهِ. وَأَمَّا اسْتِوَاءُ الْحَالَاتِ فِيهِ عِنْدَهُ فَهُوَ أَنْ يَرَى تَرْكَ مَا زَهِدَ فِيهِ وَأَخْذَهُ مُتَسَاوِيَيْنِ عِنْدَهُ. إِذْ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ قَدْرٌ. وَهَذَا مِنْ دَقَائِقَ فِقْهِ الزُّهْدِ. فَيَكُونُ زَاهِدًا فِي حَالِ أَخْذِهِ، كَمَا هُوَ زَاهِدٌ فِي حَالِ تَرْكِهِ، إِذْ هِمَّتُهُ أَعْلَى مِنْ مُلَاحَظَتِهِ أَخْذًا وَتَرْكًا، لِصِغَرِهِ فِي عَيْنِهِ. وَأَمَّا الذَّهَابُ عَنْ شُهُودِ الِاكْتِسَابِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنِ اسْتَصْغَرَ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَاسْتَوَتِ الْحَالَاتُ فِي أَخْذِهَا وَتَرْكِهَا عِنْدَهُ لَمْ يَرَ أَنَّهُ اكْتَسَبَ بِتَرْكِهَا عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَةً الْبَتَّهَ؛ لِأَنَّهَا أَصْغَرُ فِي عَيْنِهِ مِنْ أَنْ يَرَى أَنَّهُ اكْتَسَبَ بِتَرْكِهَا الدَّرَجَاتِ. وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يُشَاهِدَ تَفَرُّدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ. فَلَا يَرَى أَنَّهُ تَرَكَ شَيْئًا وَلَا أَخَذَ شَيْئًا. بَلِ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ. فَمَا أَخَذَهُ فَهُوَ مَجْرًى لِعَطَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ، كَمَجْرَى الْمَاءِ فِي النَّهْرِ. وَمَا تَرَكَهُ لِلَّهِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي مَنَعَهُ مِنْهُ. فَيَذْهَبُ بِمُشَاهَدَةِ الْفَعَّالِ وَحْدَهُ عَنْ شُهُودِ كَسْبِهِ وَتَرْكِهِ. فَإِذَا نَظَرَ إِلَى الْأَشْيَاءِ بِعَيْنِ الْجَمْعِ، وَسَلَكَ فِي وَادِي الْحَقِيقَةِ، غَابَ عَنْ شُهُودِ اكْتِسَابِهِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: نَاظِرًا إِلَى وَادِي الْحَقَائِقِ. وَهَذَا أَلْيَقُ الْمَعْنَيَيْنِ بِكَلَامِهِ. فَهَذَا زُهْدُ الْخَاصَّةِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

فصل منزلة الورع

إِذَا زَهَّدَتْنِي فِي الْهَوَى خَشْيَةُ الرَّدَى ... جَلَتْ لِي عَنْ وَجْهٍ يُزَهِّدُ فِي الزُّهْدِ [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْوَرَعِ] [حَقِيقَةُ الْوَرَعِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْوَرَعِ وَمِنْ مَنَازِلِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " مَنْزِلَةُ الْوَرَعِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: نَفْسَكَ فَطَهِّرْ مِنَ الذَّنْبِ. فَكَنَّى عَنِ النَّفْسِ بِالثَّوْبِ. وَهَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ، النَّخَعِيِّ وَالضَّحَّاكِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَلْبَسْهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَا غَدْرٍ. ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ: وَإِنِّي - بِحَمْدِ اللَّهِ - لَا ثَوْبَ غَادِرٍ لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي وَصْفِ الرَّجُلِ بِالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ: طَاهِرُ الثِّيَابِ. وَتَقُولُ لِلْغَادِرِ وَالْفَاجِرِ: دَنِسُ الثِّيَابِ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: لَا تَلْبَسْهَا عَلَى الْغَدْرِ، وَالظُّلْمِ وَالْإِثْمِ. وَلَكِنِ الْبِسْهَا وَأَنْتَ بَرٌّ طَاهِرُ.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَمَلَكَ فَأَصْلِحْ. قَالَ السَّعْدِيُّ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ صَالِحًا: إِنَّهُ لَطَاهِرُ الثِّيَابِ. وَإِذَا كَانَ فَاجِرًا: إِنَّهُ لَخَبِيثُ الثِّيَابِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَقَلْبَكَ وَبَيْتَكَ فَطَهِّرْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْقُرَظِيُّ: وَخُلُقَكَ فَحَسِّنْ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ زَيْدٍ: أَمَرَ بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الَّتِي لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَتَطَهَّرُونَ، وَلَا يُطَهِّرُونَ ثِيَابَهُمْ. وَقَالَ طَاوُسٌ: وَثِيَابَكَ فَقَصِّرْ؛ لِأَنَّ تَقْصِيرَ الثِّيَابِ طُهْرَةً لَهَا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَطْهِيرَهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ وَتَقْصِيرَهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّطْهِيرِ الْمَأْمُورِ بِهِ، إِذْ بِهِ تَمَامُ إِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الظَّاهِرِ تُورِثُ نَجَاسَةَ الْبَاطِنِ. وَلِذَلِكَ أَمَرَ الْقَائِمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِإِزَالَتِهَا وَالْبُعْدِ عَنْهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْوَرِعَ يُطَهِّرُ دَنَسَ الْقَلْبِ وَنَجَاسَتَهُ. كَمَا يُطَهِّرُ الْمَاءُ دَنَسَ الثَّوْبِ وَنَجَاسَتَهُ. وَبَيْنَ الثِّيَابِ وَالْقُلُوبِ مُنَاسِبَةٌ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ. وَلِذَلِكَ تَدُلُّ ثِيَابُ الْمَرْءِ فِي الْمَنَامِ عَلَى قَلْبِهِ وَحَالِهِ. وَيُؤَثِّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ. وَلِهَذَا نَهَى عَنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، وَجُلُودِ السِّبَاعِ، لِمَا تُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ مِنَ الْهَيْئَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلْعُبُودِيَّةِ وَالْخُشُوعِ. وَتَأْثِيرُ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ فِي الثِّيَابِ أَمْرٌ خَفِيٌّ يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصَائِرِ مِنْ نَظَافَتِهَا وَدَنَسِهَا وَرَائِحَتِهَا، وَبَهْجَتِهَا وَكَسْفَتِهَا، حَتَّى إِنَّ ثَوْبَ الْبَرِّ لَيُعْرَفُ مِنْ ثَوْبِ الْفَاجِرِ، وَلَيْسَا عَلَيْهِمَا. وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَرَعَ كُلَّهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالَ: " «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» فَهَذَا يَعُمُّ التَّرْكَ لِمَا لَا يَعْنِي مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ، وَالِاسْتِمَاعِ، وَالْبَطْشِ،

وَالْمَشْيِ، وَالْفِكْرِ، وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ كَافِيَةٌ شَافِيَةٌ فِي الْوَرَعِ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: الْوَرَعُ تَرْكُ كُلِّ شُبْهَةٍ، وَتَرْكُ مَالَا يَعْنِيكَ هُوَ تَرْكُ الْفَضَلَاتِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا، تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ» . قَالَ الشِّبْلِيُّ: الْوَرَعُ أَنْ يُتَوَرَّعَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ خَلَفٍ: الْوَرَعُ فِي الْمَنْطِقِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالزُّهْدُ فِي الرِّيَاسَةِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِأَنَّهُمَا يُبْذَلَانِ فِي طَلَبِ الرِّيَاسَةِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: الْوَرَعُ أَوَّلُ الزُّهْدِ، كَمَا أَنَّ الْقَنَاعَةَ أَوَّلُ الرِّضَا. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْوَرَعُ الْوُقُوفُ عَلَى حَدِّ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ. وَقَالَ: الْوَرَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَرَعٌ فِي الظَّاهِرِ، وَوَرَعٌ فِي الْبَاطِنِ، فَوَرَعُ الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَتَحَرَّكَ إِلَّا لِلَّهِ، وَوَرَعُ الْبَاطِنِ هُوَ أَنْ لَا تُدْخِلَ قَلْبَكَ سِوَاهُ. وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الدَّقِيقِ مِنَ الْوَرَعِ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْجَلِيلِ مِنَ الْعَطَاءِ. وَقِيلَ: الْوَرَعُ الْخُرُوجُ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَتَرَكُ السَّيِّئَاتِ. وَقِيلَ: مَنْ دَقَّ فِي الدُّنْيَا وَرَعُهُ - أَوْ نَظَرُهُ - جَلَّ فِي الْقِيَامَةِ خَطَرُهُ. وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: الْوَرَعُ الْخُرُوجُ مِنْ كُلِّ شُبْهَةِ، وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ.

فصل تعريف ابن القيم للورع

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَسْهَلَ مِنَ الْوَرَعِ، مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ فَاتْرُكْهُ. وَقَالَ سَهْلٌ: الْحَلَالُ هُوَ الَّذِي لَا يُعْصَى اللَّهُ فِيهِ، وَالصَّافِي مِنْهُ الَّذِي لَا يُنْسَى اللَّهُ فِيهِ، وَسَأَلَ الْحَسَنُ غُلَامًا. فَقَالَ لَهُ: مَا مِلَاكُ الدِّينِ؟ قَالَ: الْوَرَعُ. قَالَ: فَمَا آفَتُهُ؟ قَالَ: الطَّمَعُ. فَعَجِبَ الْحَسَنُ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْوَرَعِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ مِثْقَالٍ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: جُلَسَاءُ اللَّهِ غَدًا أَهْلُ الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ. وَقَالَ بَعْضَ السَّلَفِ: لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ. وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: كُنَّا نَدَعُ سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ نَقَعَ فِي بَابٍ مِنَ الْحَرَامِ. [فَصْلٌ تَعْرِيفُ ابْنِ الْقَيِّمِ لِلْوَرَعِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الْوَرَعُ تَوْقٌ مُسْتَقْصًى عَلَى حَذَرٍ. وَتَحَرُّجٌ عَلَى تَعْظِيمٍ. يَعْنِي أَنْ يَتَوَقَّى الْحَرَامَ وَالشُّبَهَ، وَمَا يَخَافُ أَنْ يَضُرَّهُ أَقْصَى مَا يُمْكِنُهُ مِنَ التَّوَقِّي؛ لِأَنَّ التَّوَقِّيَ وَالْحَذَرَ مُتَقَارِبَانِ. إِلَّا أَنَّ التَّوَقِّيَ فِعْلُ الْجَوَارِحِ. وَالْحَذَرُ فِعْلُ الْقَلْبِ. فَقَدْ يَتَوَقَّى الْعَبْدُ الشَّيْءَ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَذَرِ وَالْخَوْفِ. وَلَكِنْ لِأُمُورٍ أُخْرَى مِنْ إِظْهَارِ نَزَاهَةٍ، وَعِزَّةٍ وَتَصَوُّفٍ، أَوِ اعْتِرَاضٍ آخَرَ، كَتَوَقِّي الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَعَادٍ، وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ مَا يَتَوَقَّوْنَهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالدَّنَاءَةِ، تَصَوُّنًا عَنْهَا، وَرَغْبَةً بِنُفُوسِهِمْ عَنْ مُوَاقَعَتِهَا، وَطَلَبًا لِلْمَحْمَدَةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: " أَوْ تَحَرُّجٌ عَلَى تَعْظِيمٍ " يَعْنِي أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الْوَرَعِ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالشُّبَهِ إِمَّا حَذَرُ حُلُولِ الْوَعِيدِ، وَإِمَّا تَعْظِيمُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَإِجْلَالًا لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمَا نَهَى عَنْهُ. فَالْوَرَعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ: إِمَّا تَخَوُّفٌ، أَوْ تَعْظِيمٌ. وَاكْتَفَى بِذِكْرِ التَّعْظِيمِ عَنْ ذِكْرِ الْحُبِّ

درجات الورع

الْبَاعِثِ عَلَى تَرْكِ مَعْصِيَةِ الْمَحْبُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ تَعْظِيمِهِ. وَإِلَّا فَلَوْ خَلَا الْقَلْبُ مِنْ تَعْظِيمِهِ لَمْ تَسْتَلْزِمْ مَحَبَّتُهُ تَرْكَ مُخَالَفَتِهِ؛ كَمَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ وَلَدَهُ وَعَبْدَهُ وَأَمَتَهُ. فَإِذَا قَارَنَهُ التَّعْظِيمُ أَوْجَبَ تَرْكَ الْمُخَالَفَةِ. قَالَ: وَهُوَ آخِرُ مَقَامِ الزُّهْدِ لِلْعَامَّةِ، وَأَوَّلُ مَقَامِ الزُّهْدِ لِلْمُرِيدِ. يَعْنِي أَنَّ هَذَا التَّوَقِّيَ وَالتَّحَرُّجَ - بِوَصْفِ الْحَذَرِ وَالتَّعْظِيمِ - هُوَ نِهَايَةٌ لِزُهْدِ الْعَامَّةِ، وَبِدَايَةٌ لِزُهْدِ الْمُرِيدِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَرَعَ - كَمَا تَقَدَّمَ - هُوَ أَوَّلُ الزُّهْدِ وَرُكْنُهُ، وَزُهْدُ الْمُرِيدُ فَوْقَ زُهْدِ الْعَامَّةِ. وَنِهَايَةُ الْعَامَّةِ هِيَ بِدَايَةُ الْمُرِيدِ. فَنِهَايَةُ مَقَامِ هَذَا هِيَ بِدَايَةُ مَقَامِ هَذَا. فَإِذَا انْتَهَى وَرَعُ الْعَامَّةِ صَارَ زُهْدًا. وَهُوَ أَوَّلُ وَرَعِ الْمُرِيدِ. [دَرَجَاتُ الْوَرَعِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى تَجَنُّبُ الْقَبَائِحِ لِصَوْنِ النَّفْسِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَجَنُّبُ الْقَبَائِحِ لِصَوْنِ النَّفْسِ. وَتَوْفِيرُ الْحَسَنَاتِ. وَصِيَانَةُ الْإِيمَانِ. هَذِهِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ مِنْ فَوَائِدِ تَجَنُّبِ الْقَبَائِحِ. إِحْدَاهَا: صَوْنُ النَّفْسِ. وَهُوَ حِفْظُهَا وَحِمَايَتُهَا عَمَّا يَشِينُهَا، وَيَعِيبُهَا وَيُزْرِي بِهَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتِهِ، وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَسَائِرِ خَلْقِهِ. فَإِنَّ مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَكَبُرَتْ عِنْدَهُ صَانَهَا وَحَمَاهَا، وَزَكَّاهَا وَعَلَّاهَا، وَوَضَعَهَا فِي أَعْلَى الْمَحَالِّ. وَزَاحَمَ بِهَا أَهْلَ الْعَزَائِمِ وَالْكِمَالَاتِ. وَمَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَصَغُرَتْ عِنْدَهُ أَلْقَاهَا فِي الرَّذَائِلِ. وَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا، وَحَلَّ زِمَامَهَا وَأَرْخَاهُ. وَدَسَّاهَا وَلَمْ يَصُنْهَا عَنْ قَبِيحٍ. فَأَقَلُّ مَا فِي تَجَنُّبِ الْقَبَائِحِ: صَوْنُ النَّفْسِ. وَأَمَّا تَوْفِيرُ الْحَسَنَاتِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَوْفِيرُ زَمَانِهِ عَلَى اكْتِسَابِ الْحَسَنَاتِ. فَإِذَا اشْتَغَلَ بِالْقَبَائِحِ نَقَصَتْ عَلَيْهِ الْحَسَنَاتُ الَّتِي كَانَ مُسْتَعِدًّا لِتَحْصِيلِهَا. وَالثَّانِي: تَوْفِيرُ الْحَسَنَاتِ الْمُفَعْوِلَةِ عَنْ نُقْصَانِهَا بِمُوَازَنَةِ السَّيِّئَاتِ وَحُبُوطِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ أَنَّ السَّيِّئَاتِ قَدْ تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ، وَقَدْ تَسْتَغْرِقُهَا بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ تُنْقِصُهَا. فَلَا بُدَّ أَنْ تُضْعِفَهَا قَطْعًا، فَتَجَنُّبُهَا يُوَفِّرُ دِيوَانَ الْحَسَنَاتِ. وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ مَالٌ حَاصِلٌ. فَإِذَا اسْتَدَانَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَسْتَغْرِقَهُ الدَّيْنُ أَوْ يُكْثِرَهُ أَوْ يُنْقِصَهُ، فَهَكَذَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ سَوَاءً.

وَأَمَّا صِيَانَةُ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ. وَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَإِضْعَافُ الْمَعَاصِي لِلْإِيمَانِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالذَّوْقِ وَالْوُجُودِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ - كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ - «إِذَا أَذْنَبَ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ. فَإِنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ. وَإِنْ عَادَ فَأَذْنَبَ نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ أُخْرَى، حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ. وَذَلِكَ الرَّانُّ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] » . فَالْقَبَائِحُ تُسَوِّدُ الْقَلْبَ، وَتُطْفِئُ نُورَهُ. وَالْإِيمَانُ هُوَ نُورٌ فِي الْقَلْبِ. وَالْقَبَائِحُ تَذْهَبُ بِهِ أَوْ تُقَلِّلُهُ قَطْعًا. فَالْحَسَنَاتُ تَزِيدُ نُورَ الْقَلْبِ. وَالسَّيِّئَاتُ تُطْفِئُ نُورَ الْقَلْبِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ كَسْبَ الْقُلُوبِ سَبَبٌ لِلرَّانِّ الَّذِي يَعْلُوهَا. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْكَسَ الْمُنَافِقِينَ بِمَا كَسَبُوا. فَقَالَ: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] . وَأَخْبَرَ أَنَّ نَقْضَ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى عِبَادِهِ سَبَبٌ لِتَقْسِيَةِ الْقَلْبِ. فَقَالَ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13] . فَجَعَلَ ذَنْبَ النَّقْضِ مُوجِبًا لِهَذِهِ الْآثَارِ مِنْ تَقْسِيَةِ الْقَلْبِ، وَاللَّعْنَةِ، وَتَحْرِيفِ الْكَلِمِ، وَنِسْيَانِ الْعِلْمِ. فَالْمَعَاصِي لِلْإِيمَانِ كَالْمَرَضِ وَالْحُمَّى لِلْقُوَّةِ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ السَّلَفُ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ، كَمَا أَنَّ الْحُمَّى بَرِيدُ الْمَوْتِ. فَإِيمَانُ صَاحِبِ الْقَبَائِحِ كَقُوَّةِ الْمَرِيضِ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْمَرَضِ وَضَعْفِهِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ - وَهِيَ صَوْنُ النَّفْسِ، وَتَوْفِيرُ الْحَسَنَاتِ، وَصِيَانَةُ الْإِيمَانِ - هِيَ أَرْفَعُ مِنْ بَاعِثِ الْعَامَّةِ عَلَى الْوَرَعِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا أَرْفَعُ هِمَّةً، لِأَنَّهُ عَامِلٌ عَلَى تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَصَوْنِهَا، وَتَأْهِيلِهَا لِلْوُصُولِ إِلَى رَبِّهَا. فَهُوَ يَصُونُهَا عَمَّا يَشِينُهَا عِنْدَهُ. وَيَحْجُبُهَا عَنْهُ. وَيَصُونُ حَسَنَاتِهِ عَمَّا يُسْقِطُهَا وَيَضَعُهَا؛ لِأَنَّهُ يَسِيرُ بِهَا إِلَى رَبِّهِ. وَيَطْلُبُ بِهَا رِضَاهُ. وَيَصُونُ إِيمَانَهُ بِرَبِّهِ مِنْ حُبِّهِ لَهُ، وَتَوْحِيدِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ إِيَّاهُ عَمَّا يُطْفِئُ نُورَهُ. وَيُذْهِبُ بَهْجَتَهُ، وَيُوهِنُ قُوَّتَهُ. قَالَ الشَّيْخُ: " وَهَذِهِ الثَّلَاثُ الصِّفَاتِ: هِيَ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى مِنْ وَرَعِ الْمُرِيدِينَ.

الدرجة الثانية حفظ الحدود عند مالا بأس به

يَعْنِي أَنَّ لِلْمُرِيدِينَ دَرَجَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ مِنَ الْوَرَعِ فَوْقَ هَذِهِ. ثُمَّ ذَكَرَهُمَا فَقَالَ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ حِفْظُ الْحُدُودِ عِنْدَ مَالَا بَأْسَ بِهِ] ِ، إِبْقَاءً عَلَى الصِّيَانَةِ وَالتَّقْوَى. وَصُعُودًا عَنِ الدَّنَاءَةِ. وَتَخَلُّصًا عَنِ اقْتِحَامِ الْحُدُودِ. يَقُولُ: إِنَّ مَنْ صَعَدَ عَنِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْوَرَعِ يَتْرُكُ كَثِيرًا مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ مِنَ الْمُبَاحِ، إِبْقَاءً عَلَى صِيَانَتِهِ، وَخَوْفًا عَلَيْهَا أَنْ يَتَكَدَّرَ صَفْوُهَا. وَيُطْفَأَ نُورُهَا. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُبَاحِ يُكَدِّرُ صَفْوَ الصِّيَانَةِ، وَيُذْهِبُ بَهْجَتَهَا، وَيُطْفِئُ نُورَهَا، وَيُخْلِقُ حُسْنَهَا وَبَهْجَتَهَا. وَقَالَ لِي يَوْمًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُبَاحِ: هَذَا يُنَافِي الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ شَرْطًا فِي النَّجَاةِ. أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ. فَالْعَارِفُ يَتْرُكُ كَثِيرًا مِنَ الْمُبَاحِ إِبْقَاءً عَلَى صِيَانَتِهِ. وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمُبَاحُ بَرْزَخًا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَإِنَّ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا - كَمَا تَقَدَّمَ - فَتَرْكُهُ لِصَاحِبِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ كَالْمُتَعَيِّنِ الَّذِي لَابُدَّ مِنْهُ لِمُنَافَاتِهِ لِدَرَجَتِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ صَاحِبِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَصَاحِبِ هَذِهِ: أَنَّ ذَلِكَ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ الصِّيَانَةِ. وَهَذَا يَسْعَى فِي حِفْظِ صَفْوِهَا أَنْ يَتَكَدَّرَ، وَنُورِهَا أَنْ يُطْفَأَ وَيَذْهَبَ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِبْقَاءً عَلَى الصِّيَانَةِ. وَأَمَّا الصُّعُودُ عَنِ الدَّنَاءَةِ فَهُوَ الرَّفْعُ عَنْ طُرُقَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا. وَأَمَّا التَّخَلُّصُ عَنِ اقْتِحَامِ الْحُدُودِ، فَالْحُدُودُ هِيَ النِّهَايَاتُ. وَهِيَ مَقَاطِعُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. فَحَيْثُ يَنْقَطِعُ وَيَنْتَهِي، فَذَلِكَ حَدُّهُ. فَمَنِ اقْتَحَمَهُ وَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تَعَدِّي حُدُودِهِ وَقُرْبَانِهِ. فَقَالَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] . وَقَالَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] . فَإِنَّ الْحُدُودَ يُرَادُ بِهَا أَوَاخِرُ الْحَلَالِ. وَحَيْثُ نَهَى عَنِ الْقُرْبَانِ فَالْحُدُودُ هُنَاكَ: أَوَائِلُ الْحَرَامِ. يَقُولُ سُبْحَانَهُ: لَا تَتَعَدُّوا مَا أَبَحْتُ لَكُمْ، وَلَا تَقْرُبُوا مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ. فَالْوَرِعُ يُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ قُرْبَانِ هَذِهِ وَتَعَدِّي هَذِهِ. وَهُوَ اقْتِحَامُ الْحُدُودِ.

الدرجة الثالثة التورع عن كل داعية تدعو إلى شتات الوقت

[الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ التَّوَرُّعُ عَنْ كُلِّ دَاعِيَةٍ تَدْعُو إِلَى شَتَاتِ الْوَقْتِ] وَقَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: التَّوَرُّعُ عَنْ كُلِّ دَاعِيَةٍ تَدْعُو إِلَى شَتَاتِ الْوَقْتِ. وَالتَّعَلُّقِ بِالتَّفَرُّقِ. وَعَارِضٍ يُعَارِضُ حَالَ الْجَمْعِ. الْفَرْقُ بَيْنَ شَتَاتِ الْوَقْتِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالتَّفَرُّقِ: كَالْفَرْقِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ، وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. فَإِنَّهُ يَتَشَتَّتُ وَقْتَهُ. فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنَ التَّعَلُّقِ بِمَا سِوَى مَطْلُوبِهِ الْحَقِّ. إِذْ لَا تَعْطِيلَ فِي النَّفْسِ وَلَا فِي الْإِرَادَةِ. فَمَنْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مُرَادَهُ أَرَادَ مَا سِوَاهُ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ وَحْدَهُ مَعْبُودَهُ عَبَدَ مَا سِوَاهُ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ لِلَّهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ لِغَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا. فَالْمُخْلِصُ يَصُونُهُ اللَّهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ وَخَشِيَتِهِ وَحْدَهُ، وَرَجَائِهِ وَحْدَهُ، وَالطَّلَبِ مِنْهُ، وَالذُّلِّ لَهُ، وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَعْلَى مِنَ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ: لِأَنَّ أَرْبَابَهَا اشْتَغَلُوا بِحِفْظِ الصِّيَانَةِ مِنَ الْكَدَرِ وَمُلَاحَظَتِهَا. وَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ: تَفَرُّقٌ عَنِ الْحَقِّ. وَاشْتِغَالٌ عَنْ مُرَاقَبَتِهِ بِحَالِ نُفُوسِهِمْ. فَأَدَبُ أَهْلِ هَذِهِ أَدَبُ حُضُورٍ، وَأَدَبُ أُولَئِكَ أَدَبُ غَيْبَةٍ. وَأَمَّا " الْوَرَعُ عَنْ كُلِّ حَالٍ يُعَارِضُ حَالَ الْجَمْعِ ". فَمَعْنَاهُ أَنْ يَسْتَغْرِقَ الْعَبْدُ شُهُودَ فَنَائِهِ فِي التَّوْحِيدِ، وَجَمْعِيَّتَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ عَنْ كُلِّ حَالٍ يُعَارِضُ هَذَا الْفَنَاءَ وَالْجَمْعِيَّةَ. وَهَذَا عِنْدَ الشَّيْخِ لَمَّا كَانَ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي لَيْسَ بَعْدَهَا مَطْلَبٌ جَعَلَ كُلَّ حَالٍ يُعَارِضُهَا وَيَقْطَعُ عَنْهَا نَاقِصًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا. فَالرَّغْبَةُ عَنْهُ غَيْرُ وَرَعِ صَاحِبِهَا. وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ. وَأَنَّ فَوْقَ هَذَا مَقَامٌ أَرْفَعُ مِنْهُ وَأَعْلَى. وَهُوَ الْوَرَعُ عَنْ كُلِّ حَظٍّ يُزَاحِمُ مُرَادَهُ مِنْكَ، وَلَوْ كَانَ الْحَظُّ فَنَاءً وَجَمْعِيَّةً، أَوْ كَائِنًا مَا كَانَ. وَبَيَّنَّا أَنَّ الْفَنَاءَ وَالْجَمْعِيَّةَ حَظُّ الْعَبْدِ. وَأَنَّ حَقَّ الرَّبِّ وَرَاءَ ذَلِكَ. وَهُوَ الْبَقَاءُ بِمُرَادِهِ فَرْقًا وَجَمْعًا بِهِ وَلَهُ. وَعَلَى هَذَا فَالْوَرِعُ الْخَاصُّ: الْوَرِعُ عَنْ كُلِّ حَالٍ يُعَارِضُ حَالَ الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ، وَالْبَقَاءِ بِهِ فَرْقًا وَجَمْعًا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ الْخَوْفُ يُثْمِرُ الْوَرَعَ] فَصْلٌ الْخَوْفُ يُثْمِرُ الْوَرَعَ وَالِاسْتِعَانَةَ وَقِصَرَ الْأَمَلِ. وَقُوَّةُ الْإِيمَانِ بِاللِّقَاءِ تُثْمِرُ الزُّهْدَ. وَالْمَعْرِفَةُ تُثْمِرُ الْمَحَبَّةَ وَالْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ. وَالْقَنَاعَةُ تُثْمِرُ الرِّضَاءَ. وَالذِّكْرُ يُثْمِرُ حَيَاةَ الْقَلْبِ.

فصل منزلة التبتل

وَالْإِيمَانُ بِالْقَدْرِ يُثْمِرُ التَّوَكُّلَ. وَدَوَامُ تَأَمُّلِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ يُثْمِرُ الْمَعْرِفَةَ. وَالْوَرَعُ يُثْمِرُ الزُّهْدَ أَيْضًا. وَالتَّوْبَةُ تُثْمِرُ الْمَحَبَّةَ أَيْضًا، وَدَوَامُ الذِّكْرِ يُثْمِرُهَا. وَالرِّضَا يُثْمِرُ الشُّكْرَ. وَالْعَزِيمَةُ وَالصَّبْرُ يُثْمِرَانِ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ. وَالْإِخْلَاصُ وَالصِّدْقُ كُلٌّ مِنْهُمَا يُثْمِرُ الْآخَرَ وَيَقْتَضِيهِ. وَالْمَعْرِفَةُ تُثْمِرُ الْخُلُقَ. وَالْفِكْرُ يُثْمِرُ الْعَزِيمَةَ. وَالْمُرَاقَبَةُ تُثْمِرُ عِمَارَةَ الْوَقْتِ، وَحِفْظَ الْأَيَّامِ وَالْحَيَاءَ، وَالْخَشْيَةَ وَالْإِنَابَةَ. وَإِمَاتَةُ النَّفْسِ وَإِذْلَالُهَا وَكَسْرُهَا يُوجِبُ حَيَاةَ الْقَلْبِ وَعِزَّهُ وَجَبْرَهُ. وَمَعْرِفَةُ النَّفْسِ وَمَقْتُهَا يُوجِبُ الْحَيَاءَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتِكْثَارَ مَا مِنْهُ، وَاسْتِقْلَالَ مَا مِنْكَ مِنَ الطَّاعَاتِ. وَمَحْوَ أَثَرِ الدَّعْوَى مِنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَصِحَّةُ الْبَصِيرَةِ تُثْمِرُ الْيَقِينَ. وَحَسَنُ التَّأَمُّلِ لِمَا تَرَى وَتَسْمَعُ مِنَ الْآيَاتِ الْمَشْهُودَةِ وَالْمَتْلُوَّةِ يُثْمِرُ صِحَّةَ الْبَصِيرَةِ. وَمِلَاكُ ذَلِكَ كُلِّهِ: أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَنْقُلَ قَلْبَكَ مِنْ وَطَنِ الدُّنْيَا فَتُسْكِنَهُ فِي وَطَنِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ تُقْبِلَ بِهِ كُلِّهِ عَلَى مَعَانِي الْقُرْآنِ وَاسْتِجْلَائِهَا وَتَدَبُّرِهَا، وَفَهْمِ مَا يُرَادُ مِنْهُ وَمَا نَزَلْ لِأَجْلِهِ، وَأَخْذِ نَصِيبِكَ وَحَظِّكَ مِنْ كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ، وَتُنْزِلَهَا عَلَى دَاءِ قَلْبِكَ. فَهَذِهِ طَرِيقٌ مُخْتَصَرَةٌ قَرِيبَةٌ سَهْلَةٌ. مُوَصِّلَةٌ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى. آمِنَةٌ لَا يَلْحَقُ سَالِكَهَا خَوْفٌ وَلَا عَطَبٌ، وَلَا جَوْعٌ وَلَا عَطَشٌ، وَلَا فِيهَا آفَةٌ مِنْ آفَاتِ سَائِرِ الطَّرِيقِ الْبَتَّةَ. وَعَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ حَارِسٌ وَحَافِظٌ يَكْلَأُ السَّالِكِينَ فِيهَا وَيَحْمِيهِمْ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ. وَلَا يَعْرِفُ قَدْرَ هَذِهِ الطَّرِيقِ إِلَّا مِنْ عَرَفَ طُرُقَ النَّاسِ وَغَوَائِلَهَا وَآفَاتِهَا وَقُطَّاعَهَا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّبَتُّلِ] [حَقِيقَةُ التَّبَتُّلِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّبَتُّلِ وَمِنْ مَنَازِلِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " مَنْزِلَةُ التَّبَتُّلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] . وَالتَّبَتُّلُ الِانْقِطَاعُ. وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ الْبَتْلِ وَهُوَ الْقَطْعُ. وَسُمِّيَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ الْبَتُولَ لِانْقِطَاعِهَا عَنِ الْأَزْوَاجِ، وَعَنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا نُظَرَاءُ مِنْ نِسَاءِ زَمَانِهَا. فَفَاقَتْ نِسَاءَ الزَّمَانِ شَرَفًا وَفَضْلًا. وَقُطِعَتْ مِنْهُنَّ. وَمَصْدَرُ بَتَّلَ تَبَتُّلًا كَالتَّعَلُّمِ وَالتَّفَهُّمِ، وَلَكِنْ جَاءَ عَلَى التَّفْعِيلِ - مَصْدَرُ تَفَعَّلَ - لِسِرٍّ لِطَيْفٍ. فَإِنَّ فِي هَذَا الْفِعْلِ إِيذَانًا بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّكَلُّفِ وَالتَّعَمُّلِ وَالتَّكَثُّرِ وَالْمُبَالَغَةِ. فَأَتَى بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَبِالْمَصْدَرِ

درجات التبتل

الدَّالِّ عَلَى الْآخَرِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بَتِّلْ نَفْسَكَ إِلَى اللَّهِ تَبْتِيلًا، وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبَتُّلًا. فَفُهِمَ الْمَعْنَيَانِ مِنَ الْفِعْلِ وَمَصْدَرِهِ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ. قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": التَّبَتُّلُ الِانْقِطَاعُ إِلَى اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: 14] أَيِ التَّجْرِيدِ الْمَحْضِ. وَمُرَادُهُ بِالتَّجْرِيدِ الْمَحْضِ التَّبَتُّلُ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْأَعْوَاضِ. بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْمُتَبَتِّلُ كَالْأَجِيرِ الَّذِي لَا يَخْدِمُ إِلَّا لِأَجْلِ الْأُجْرَةِ. فَإِذَا أَخَذَهَا انْصَرَفَ عَنْ بَابِ الْمُسْتَأْجِرِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ. فَإِنَّهُ يَخْدِمُ بِمُقْتَضَى عُبُودِيَّتِهِ، لَا لِلْأُجْرَةِ. فَهُوَ لَا يَنْصَرِفُ عَنْ بَابِ سَيِّدِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ آبِقًا. وَالْآبِقُ قَدْ خَرَجَ مِنْ شَرَفِ الْعُبُودِيَّةِ. وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ إِطْلَاقُ الْحُرِّيَّةِ. فَصَارَ بِذَلِكَ مَرْكُوسًا عِنْدَ سَيِّدِهِ وَعِنْدَ عَبِيدِهِ. وَغَايَةُ شَرَفِ النَّفْسِ دُخُولُهَا تَحْتَ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا وَمَحَبَّةً، لَا كَرْهًا وَقَهْرًا. كَمَا قِيلَ: شَرَفُ النُّفُوسِ دُخُولُهَا فِي رِقِّهِمْ ... وَالْعَبْدُ يَحْوِي الْفَخْرَ بِالتَّمْلِيكِ وَالَّذِي حَسُنَ اسْتِشْهَادُهُ بِقَوْلِهِ: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: 14] فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: إِرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى. وَأَنَّهُ تَعَالَى صَاحِبُ دَعْوَةِ الْحَقِّ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ لِدَاعِيهِ بِهَا ثَوَابًا. فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا لِذَاتِهِ. فَهُوَ أَهْلٌ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَيُدْعَى وَحْدَهُ، وَيُقْصَدَ وَيُشْكَرَ وَيُحْمَدَ، وَيُحَبَّ وَيُرْجَى وَيُخَافَ، وَيُتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَيُسْتَعَانَ بِهِ، وَيُسْتَجَارَ بِهِ، وَيُلْجَأَ إِلَيْهِ، وَيُصْمَدَ إِلَيْهِ. فَتَكُونُ الدَّعْوَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْحَقُّ لَهُ وَحْدَهُ. وَمَنْ قَامَ بِقَلْبِهِ هَذَا - مَعْرِفَةً وَذَوْقًا وَحَالًا - صَحَّ لَهُ مَقَامُ التَّبَتُّلِ، وَالتَّجْرِيدِ الْمَحْضِ. وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ دَعْوَةَ الْحَقِّ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ وَالصِّدْقِ. وَمُرَادُهُمْ هَذَا الْمَعْنَى. فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْوَةُ الْحَقِّ التَّوْحِيدُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: الدُّعَاءُ بِالْإِخْلَاصِ. وَالدُّعَاءُ الْخَالِصُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ. وَدَعْوَةُ الْحَقِّ دَعْوَةُ الْإِلَهِيَّةِ وَحُقُوقُهَا وَتَجْرِيدُهَا وَإِخْلَاصُهَا. [دَرَجَاتُ التَّبَتُّلِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى تَجْرِيدُ الِانْقِطَاعِ عَنِ الْحُظُوظِ وَاللُّحُوظِ إِلَى الْعَالَمِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَجْرِيدُ الِانْقِطَاعِ عَنِ الْحُظُوظِ

الدرجة الثانية تجريد الانقطاع عن التعريج على النفس بمجانبة الهوى

وَاللُّحُوظُ إِلَى الْعَالَمِ، خَوْفًا أَوْ رَجَاءً، أَوْ مُبَالَاةً بِحَالٍ. قُلْتُ: التَّبَتُّلُ يَجْمَعُ أَمْرَيْنِ اتِّصَالًا وَانْفِصَالًا. لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِمَا. فَالِانْفِصَالُ: انْقِطَاعُ قَلْبِهِ عَنْ حُظُوظِ النَّفْسِ الْمُزَاحِمَةِ لِمُرَادِ الرَّبِّ مِنْهُ. وَعَنِ الْتِفَاتِ قَلْبِهِ إِلَى مَا سِوَى اللَّهِ، خَوْفًا مِنْهُ، أَوْ رَغْبَةً فِيهِ، أَوْ مُبَالَاةً بِهِ، أَوْ فِكْرًا فِيهِ، بِحَيْثُ يُشْغَلُ قَلْبُهُ عَنِ اللَّهِ. وَالِاتِّصَالُ: لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ هَذَا الِانْفِصَالِ. وَهُوَ اتِّصَالُ الْقَلْبِ بِاللَّهِ، وَإِقْبَالُهُ عَلَيْهِ، وَإِقَامَةُ وَجْهِهِ لَهُ، حُبًّا وَخَوْفًا وَرَجَاءً، وَإِنَابَةً وَتَوَكُّلًا. ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ مَا يُعِينُ عَلَى هَذَا التَّجْرِيدِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَحْصُلُ. فَقَالَ: بِحَسْمِ الرَّجَاءِ بِالرِّضَا، وَقَطْعِ الْخَوْفِ بِالتَّسْلِيمِ، وَرَفْضِ الْمُبَالَاةِ بِشُهُودِ الْحَقِيقَةِ. يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يَحْسِمُ مَادَّةَ رَجَاءِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ قَلْبِكَ هُوَ الرِّضَا بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَسْمِهِ لَكَ. فَمَنْ رَضِيَ بِحُكْمِ اللَّهِ وَقَسْمِهِ، لَمْ يَبْقَ لِرَجَاءِ الْخَلْقِ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ. وَالَّذِي يَحْسِمُ مَادَّةَ الْخَوْفِ هُوَ التَّسْلِيمُ لِلَّهِ. فَإِنَّ مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ وَاسْتَسْلَمَ لَهُ، وَعَلِمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ - لَمْ يَبْقَ لِخَوْفِ الْمَخْلُوقِينَ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ أَيْضًا. فَإِنَّ نَفْسَهُ الَّتِي يَخَافُ عَلَيْهَا قَدْ سَلَّمَهَا إِلَى وَلِيِّهَا وَمَوْلَاهَا. وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهَا. وَأَنَّ مَا كُتِبَ لَهَا لَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهَا. فَلَا مَعْنَى لِلْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ بِوَجْهٍ. وَفِي التَّسْلِيمِ أَيْضًا فَائِدَةٌ لَطِيفَةٌ. وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَهَا اللَّهُ فَقَدْ أَوْدَعَهَا عِنْدَهُ. وَأَحْرَزَهَا فِي حِرْزِهِ. وَجَعَلَهَا تَحْتَ كَنَفِهِ. حَيْثُ لَا تَنَالُهَا يَدُ عَدُوٍّ عَادٍ وَلَا بَغْيُ بَاغٍ عَاتٍ. وَالَّذِي يَحْسِمُ مَادَّةَ الْمُبَالَاةِ بِالنَّاسِ شُهُودُ الْحَقِيقَةِ. وَهُوَ رُؤْيَةُ الْأَشْيَاءِ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَفِي قَبْضَتِهِ، وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ. لَا يَتَحَرَّكُ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ. فَمَا وَجْهُ الْمُبَالَاةِ بِالْخَلْقِ بَعْدَ هَذَا الشُّهُودِ؟ [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تَجْرِيدُ الِانْقِطَاعِ عَنِ التَّعْرِيجِ عَلَى النَّفْسِ بِمُجَانَبَةِ الْهَوَى] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تَجْرِيدُ الِانْقِطَاعِ عَنِ التَّعْرِيجِ عَلَى النَّفْسِ بِمُجَانَبَةِ الْهَوَى.

وَتَنَسُّمِ رَوْحِ الْأُنْسِ، وَشَيْمِ بَرْقِ الْكَشْفِ. الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ الْأُولَى انْقِطَاعٌ عَنِ الْخَلْقِ، وَهَذِهِ انْقِطَاعٌ عَنِ النَّفْسِ. وَجَعَلَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: مُجَانَبَةُ الْهَوَى وَمُخَالَفَتُهُ وَنَهْيُ نَفْسِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُ يَصُدُّ عَنِ التَّبَتُّلِ. وَثَانِيهَا: - وَهُوَ بَعْدَ مُخَالَفَةِ الْهَوَى - تَنَسُّمُ رَوْحِ الْأُنْسِ بِاللَّهِ، وَالرَّوْحُ لِلرُّوحِ كَالرُّوحِ لِلْبَدَنِ. فَهُوَ رُوحُهَا وَرَاحَتُهَا. وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُ هَذَا الرَّوْحُ لَمَّا أَعْرَضَ عَنْ هَوَاهُ. فَحِينَئِذٍ تَنَسَّمَ رَوْحَ الْأُنْسِ بِاللَّهِ. وَوَجَدَ رَائِحَتَهُ. إِذِ النَّفْسُ لَا بُدَّ لَهَا مِنَ التَّعَلُّقِ. فَلَمَّا انْقَطَعَ تَعَلُّقُهَا مِنْ هَوَاهَا وَجَدَتْ رَوْحَ الْأُنْسِ بِاللَّهِ. وَهَبَّتْ عَلَيْهَا نَسَمَاتُهُ. فَرَيَّحَتْهَا وَأَحْيَتْهَا. وَثَالِثُهَا: شَيْمُ بَرْقِ الْكَشْفِ. وَهُوَ مُطَالَعَتُهُ وَاسْتِشْرَافُهُ، وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ. لِيَعْلَمَ بِهِ مَوَاقِعَ الْغَيْثِ وَمَسَاقِطَ الرَّحْمَةِ. وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِالْكَشْفِ هَاهُنَا الْكَشْفُ الْجُزْئِيُّ السُّفْلِيُّ، الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، كَالْكَشْفِ عَنْ مُخَبَّآتِ النَّاسِ وَمَسْتُورِهِمْ. وَإِنَّمَا هُوَ الْكَشْفُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، هُنَّ مُنْتَهَى كَشْفِ الصَّادِقِينَ أَرْبَابِ الْبَصَائِرِ. أَحَدُهَا: الْكَشْفُ عَنْ مَنَازِلِ السَّيْرِ. وَالثَّانِي: الْكَشْفُ عَنْ عُيُوبِ النَّفْسِ، وَآفَاتِ الْأَعْمَالِ وَمُفَسَّدَاتِهَا. وَالثَّالِثُ: الْكَشْفُ عَنْ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَحَقَائِقِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَهَذِهِ الْأَبْوَابُ الثَّلَاثَةُ هِيَ مَجَامِعُ عُلُومِ الْقَوْمِ. وَعَلَيْهَا يَحُومُونَ. وَحَوْلَهَا يُدَنْدِنُونَ. وَإِلَيْهَا يُشَمِّرُونَ. فَمِنْهُمْ مَنْ جُلُّ كَلَامِهِ وَمُعْظَمُهُ فِي السَّيْرِ وَصِفَةِ الْمَنَازِلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جُلُّ كَلَامِهِ فِي الْآفَاتِ وَالْقَوَاطِعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جُلُّ كَلَامِهِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَالصَّادِقُ الذَّكِيُّ يَأْخُذُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْحَقِّ. فَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَطْلَبِهِ. وَلَا يَرُدُّ مَا يَجِدُهُ عِنْدَهُ مِنَ الْحَقِّ لِتَقْصِيرِهِ فِي الْحَقِّ الْآخَرِ. وَيَهْدِرُهُ بِهِ. فَالْكَمَالُ الْمُطْلَقُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا مِنَ الْعِبَادِ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ.

الدرجة الثالثة تجريد الانقطاع إلى السبق بتصحيح الاستقامة

[الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَجْرِيدُ الِانْقِطَاعِ إِلَى السَّبْقِ بِتَصْحِيحِ الِاسْتِقَامَةِ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَجْرِيدُ الِانْقِطَاعِ إِلَى السَّبْقِ بِتَصْحِيحِ الِاسْتِقَامَةِ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي قَصْدِ الْوُصُولِ، وَالنَّظَرِ إِلَى أَوَائِلِ الْجَمْعِ. لَمَّا جَعَلَ الدَّرَجَةَ الْأُولَى انْقِطَاعًا عَنِ الْخَلْقِ، وَالثَّانِيَةُ انْقِطَاعًا عَنِ النَّفْسِ، جَعَلَ الثَّالِثَةَ طَلَبًا لِلسَّبْقِ. وَجَعَلَهُ بِتَصْحِيحِ الِاسْتِقَامَةِ. وَهِيَ الْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَى الْحَقِّ. وَلُزُومُ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِمَحَابِّهِ. ثُمَّ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي قَصْدِ الْوُصُولِ. وَهُوَ أَنْ يَشْغَلَهُ طَلَبُ الْوُصُولِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ هُمُومَهُ وَعَزَائِمَهُ وَإِرَادَتَهُ وَأَوْقَاتَهُ. وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ بُدُوِّ بَرْقِ الْكَشْفِ الْمَذْكُورِ لَهُ. وَأَمَّا النَّظَرُ إِلَى أَوَائِلِ الْجَمْعِ فَالْجَمْعُ هُوَ قِيَامُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ بِالْحَقِّ وَحْدَهُ. وَقِيَامُهُ عَلَيْهِمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ. وَالنَّظَرُ إِلَى أَوَائِلِ ذَلِكَ هُوَ الِالْتِفَاتُ إِلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَبِدَايَاتِهِ. وَهِيَ الْعَقَبَةُ الَّتِي يَنْحَدِرُ مِنْهَا عَلَى وَادِي الْفَنَاءِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا وَقْفَةٌ تَعْتَرِضُ الْقَاطِعَ لِأَوْدِيَةِ التَّفْرِقَةِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْجَمْعِ. وَمِنْهَا يُشْرِفُ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ الْوَقْفَةُ تَعْتَرِضُ كُلَّ طَالِبِ مَجْدٍ فِي طَلَبِهِ. فَمِنْهَا يَرْجِعُ عَلَى عَقِبِهِ، أَوْ يَصِلُ إِلَى مَطْلَبِهِ كَمَا قِيلَ: لَابُدَّ لِلْعَاشِقِ مِنْ وَقْفَةٍ مَا بَيْنَ سُلْوَانٍ وَبَيْنَ غَرَامِ ... وَعِنْدَهَا يَنْقِلُ أَقْدَامَهُ إِمَّا إِلَى خَلْفٍ وَإِمَّا أَمَامِ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ أَوَائِلَ الْجَمْعِ مَبَادِئُهُ وَلَوَائِحُهُ وَبَوَارِقُهُ. وَبَعْدَ هَذَا دَرَجَةٌ رَابِعَةٌ. وَهِيَ الِانْقِطَاعُ عَنْ مُرَادِهِ مِنْ رَبِّهِ. وَالْفَنَاءُ عَنْهُ إِلَى مُرَادِ رَبِّهِ مِنْهُ، وَالْفَنَاءِ بِهِ. فَلَا يُرِيدُ مِنْهُ، بَلْ يُرِيدُ مَا يُرِيدُهُ، مُنْقَطِعًا بِهِ عَنْ كُلِّ إِرَادَةٍ. فَيَنْظُرُ فِي أَوَائِلِ الْجَمْعِ فِي مُرَادِهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَأَكْثَرُ أَرْبَابِ السُّلُوكِ عِنْدَهُمْ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] فَرْقٌ، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] جَمْعٌ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ تَرْكَ الْجَمْعِ زَنْدَقَةٌ وَكُفْرٌ. فَهُوَ يُعْرِضُ عَنِ الْجَمْعِ إِلَى الْفَرْقِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ مَقَامَ التَّفْرِقَةِ نَاقِصٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ. وَيَرَى سُوءَ حَالِ أَهْلِهِ

فصل منزلة الرجاء

وَتَشَتُّتَهُمْ. فَيَرْغَبُ عَنْهُ عَامِلًا عَلَى الْجَمْعِ. يَتَوَجَّهُ مَعَهُ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهُ. وَالْمُسْتَقِيمُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ السَّالِكِ مِنْ جَمْعٍ وَفَرْقٍ، وَقِيَامُ الْعُبُودِيَّةِ بِهِمَا. فَمَنْ لَا تَفْرِقَةَ لَهُ لَا عُبُودِيَّةَ لَهُ. وَمَنْ لَا جَمْعَ لَهُ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ وَلَا حَالَ. فَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] فَرْقٌ.: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] جَمْعٌ. وَالْحَقُّ: أَنَّ كُلًّا مِنْ مَشْهَدَيْ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مُتَضَمِّنٌ لِلْفَرْقِ وَالْجَمْعِ، وَكَمَالُ الْعُبُودِيَّةِ بِالْقِيَامِ بِهِمَا فِي كُلِّ مَشْهَدٍ. فَفَرْقُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] تَنَوُّعُ مَا يُعْبَدُ بِهِ، وَكَثْرَةُ تَعَلُّقَاتِهِ وَضُرُوبِهِ. وَجَمْعُهُ: تَوْحِيدُ الْمَعْبُودِ بِذَلِكَ كُلِّهِ. وَإِرَادَةُ وَجْهِهِ وَحْدَهُ، وَالْفَنَاءُ عَنْ كُلِّ حَظٍّ وَمُرَادٍ يُزَاحِمُ حَقَّهُ وَمُرَادَهُ. فَتَضَمَّنَ هَذَا الْمَشْهَدُ فَرْقًا فِي جَمْعٍ، وَكَثْرَةً فِي وَحْدَةٍ. فَصَاحِبُهُ يَتَنَقَّلُ فِي مَنَازِلَ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ، وَمَعْبُودٍ وَاحِدٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. وَأَمَّا فَرْقُ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَشُهُودُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَيْهِ، وَمَرْتَبَتَهُ وَمَنْزِلَتَهُ، وَمَحَلَّهِ مِنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَبِدَايَتَهُ وَعَاقِبَتَهُ، وَاتِّصَالَهُ - بَلْ وَانْفِصَالَهُ - وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ. وَيَشْهَدُ - مَعَ ذَلِكَ - فَقْرَ الْمُسْتَعِينِ وَحَاجَتَهُ وَنَقْصَهُ، وَضَرُورَتَهُ إِلَى كَمَالَاتِهِ الَّتِي يَسْتَعِينُ رَبَّهُ فِي تَحْصِيلِهَا، وَآفَاتَهُ الَّتِي يَسْتَعِينُ رَبَّهُ فِي دَفْعِهَا. وَيَشْهَدُ حَقِيقَةَ الِاسْتِعَانَةِ وَكِفَايَةَ الْمُسْتَعَانِ بِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ فَرْقٌ يُثْمِرُ عُبُودِيَّةَ هَذَا الْمَشْهَدِ. وَأَمَّا جَمْعُهُ: فَشُهُودُ تَفَرُّدِهِ سُبْحَانَهُ بِالْأَفْعَالِ، وَصُدُورِ الْكَائِنَاتِ بِأَسْرِهَا عَنْ مَشِيئَتِهِ، وَتَصْرِيفِهَا بِإِرَادَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَغَيْبَتُهُ بِهَذَا الْمَشْهَدِ عَمَّا قَبْلَهُ مِنَ الْفَرْقِ: نَقْصٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ، كَمَا أَنَّ تَفَرُّقَهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ دُونَ مُلَاحَظَتِهِ: نَقْصٌ أَيْضًا. وَالْكَمَالُ إِعْطَاءُ الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ حَقَّهُمَا فِي هَذَا الْمَشْهَدِ وَالْمَشْهَدِ الْأَوَّلِ. فَتَبَيَّنَ تَضَمُّنُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] لِلْجَمْعِ وَالْفَرْقِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الرَّجَاءِ] [حَقِيقَةُ الرَّجَاءِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الرَّجَاءِ

وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الرَّجَاءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] فَابْتِغَاءُ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ: طَلَبُ الْقُرْبِ مِنْهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ. فَذَكَرَ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ الثَّلَاثَةَ الَّتِي عَلَيْهَا بِنَاؤُهُ: الْحُبَّ، وَالْخَوْفَ، وَالرَّجَاءَ. قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5] ، وَقَالَ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] ، وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ - قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ -: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ» ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ» . " الرَّجَاءُ " حَادٍ يَحْدُو الْقُلُوبَ إِلَى بِلَادِ الْمَحْبُوبِ. وَهُوَ اللَّهُ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ. وَيَطِيبُ لَهَا السَّيْرُ. وَقِيلَ: هُوَ الِاسْتِبْشَارُ بِجُودِ وَفَضْلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَالِارْتِيَاحُ لِمُطَالَعَةِ كَرَمِهِ سُبْحَانَهُ.

وَقِيلَ: هُوَ الثِّقَةُ بِجُودِ الرَّبِّ تَعَالَى. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّمَنِّي أَنَّ التَّمَنِّيَ يَكُونُ مَعَ الْكَسَلِ. وَلَا يَسْلُكُ بِصَاحِبِهِ طَرِيقَ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ. وَ " الرَّجَاءُ " يَكُونُ مَعَ بَذْلِ الْجُهْدِ وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ. فَالْأَوَّلُ كَحَالِ مَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ أَرْضٌ يَبْذُرُهَا وَيَأْخُذُ زَرْعَهَا. وَالثَّانِي كَحَالِ مَنْ يَشُقُّ أَرْضَهُ وَيَفْلَحُهَا وَيَبْذُرُهَا. وَيَرْجُو طُلُوعَ الزَّرْعِ. وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ عَلَى أَنَّ الرَّجَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ الْعَمَلِ. قَالَ شَاهٌ الْكَرْمَانِيُّ: عَلَامَةُ صِحَّةِ الرَّجَاءِ حُسْنُ الطَّاعَةِ. وَالرَّجَاءُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعَانِ مَحْمُودَانِ، وَنَوْعٌ غَرُورٌ مَذْمُومٌ. فَالْأَوَّلَانِ رَجَاءُ رَجُلٍ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ. فَهُوَ رَاجٍ لِثَوَابِهِ. وَرَجُلٌ أَذْنَبَ ذُنُوبًا ثُمَّ تَابَ مِنْهَا. فَهُوَ رَاجٍ لِمَغْفِرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَفْوِهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ وَحِلْمِهِ وَكَرَمِهِ. وَالثَّالِثُ: رَجُلٌ مُتَمَادٍ فِي التَّفْرِيطِ وَالْخَطَايَا. يَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ بِلَا عَمَلٍ. فَهَذَا هُوَ الْغُرُورُ وَالتَّمَنِّي وَالرَّجَاءُ الْكَاذِبُ. وَلِلسَّالِكِ نَظَرَانِ: نَظَرٌ إِلَى نَفْسِهِ وَعُيُوبِهِ وَآفَاتِ عَمَلِهِ، يَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الْخَوْفِ إِلَى سِعَةِ فَضْلِ رَبِّهِ وَكَرْمِهِ وَبَرِّهِ. وَنَظَرٌ يَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الرَّجَاءِ. وَلِهَذَا قِيلَ فِي حَدِّ الرَّجَاءِ: هُوَ النَّظَرُ إِلَى سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ: الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ كَجَنَاحَيِ الطَّائِرِ إِذَا اسْتَوَيَا اسْتَوَى الطَّيْرُ وَتَمَّ طَيَرَانُهُ. وَإِذَا نَقَصَ أَحَدَهُمَا وَقَعَ فِيهِ النَّقْصُ. وَإِذَا ذَهَبَا صَارَ الطَّائِرُ فِي حَدِّ الْمَوْتِ.

فصل مناقشة شيخ الإسلام في تعريفه للرجاء

وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ: مَا عَلَامَةُ الرَّجَاءِ فِي الْعَبْدِ؟ فَقَالَ: أَنْ يَكُونَ إِذَا أَحَاطَ بِهِ الْإِحْسَانُ أُلْهِمَ الشُّكْرَ، رَاجِيًا لِتَمَامِ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَمَامِ عَفْوِهِ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ. وَاخْتَلَفُوا، أَيُّ الرَّجَائَيْنِ أَكْمَلُ: رَجَاءُ الْمُحْسِنِ ثَوَابَ إِحْسَانِهِ. أَوْ رَجَاءُ الْمُسِيءِ التَّائِبِ مَغْفِرَةَ رَبِّهِ وَعَفْوِهِ؟ . فَطَائِفَةٌ رَجَّحَتْ رَجَاءَ الْمُحْسِنِ. لِقُوَّةِ أَسْبَابِ الرَّجَاءِ مَعَهُ. وَطَائِفَةٌ رَجَّحَتْ رَجَاءَ الْمُذْنِبِ؛ لِأَنَّ رَجَاءَهُ مُجَرَّدٌ عَنْ عِلَّةِ رُؤْيَةِ الْعَمَلِ، مَقْرُونٌ بِذِلَّةِ رُؤْيَةِ الذَّنْبِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: يَكَادُ رَجَائِي لَكَ مَعَ الذُّنُوبِ يَغْلِبُ رَجَائِي لَكَ مَعَ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنِّي أَجِدُنِي أَعْتَمِدُ فِي الْأَعْمَالِ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَكَيْفَ أُصَفِّيهَا وَأُحْرِزُهَا؟ وَأَنَا بِالْآفَاتِ مَعْرُوفٌ. وَأَجِدُنِي فِي الذُّنُوبِ أَعْتَمِدُ عَلَى عَفْوِكَ، وَكَيْفَ لَا تَغْفِرُهَا وَأَنْتَ بِالْجُودِ مَوْصُوفٌ؟ . وَقَالَ أَيْضًا: إِلَهِي، أَحْلَى الْعَطَايَا فِي قَلْبِي رَجَاؤُكَ. وَأَعْذَبُ الْكَلَامِ عَلَى لِسَانِي ثَنَاؤُكَ. وَأَحَبُّ السَّاعَاتِ إِلَيَّ سَاعَةٌ يَكُونُ فِيهَا لِقَاؤُكَ. [فَصْلٌ مُنَاقَشَةُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي تَعْرِيفِهِ لِلرَّجَاءِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الرَّجَاءُ أَضْعَفُ مَنَازِلِ الْمُرِيدِينَ؛ لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَاعْتِرَاضٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ وُقُوعٌ فِي الرُّعُونَةِ فِي مَذْهَبِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ. وَفَائِدَةٌ وَاحِدَةٌ نَطَقَ بِهَا التَّنْزِيلُ وَالسُّنَّةُ. وَتِلْكَ الْفَائِدَةُ هِيَ كَوْنُهُ يَرُدُّ حَرَارَةَ الْخَوْفِ، حَتَّى لَا يُفْضِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْيَأْسِ. شَيْخُ الْإِسْلَامِ حَبِيبٌ إِلَيْنَا. وَالْحَقُّ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْهُ. وَكُلُّ مَنْ عَدَا الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَتْرُوكٌ، وَنَحْنُ نَحْمِلُ كَلَامَهُ عَلَى أَحْسَنِ مَحَامِلِهِ. ثُمَّ نُبَيِّنُ مَا فِيهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: الرَّجَاءُ أَضْعَفُ مَنَازِلِ الْمُرِيدِينَ، فَيَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُ مِنَ الْمَنَازِلِ، كَمَنْزِلَةِ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَالصِّدْقِ وَالتَّوَكُّلِ، لَا أَنَّ مُرَادَهُ ضَعْفُ حَالِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فِي نَفْسِهَا، وَأَنَّهَا مَنْزِلَةٌ نَاقِصَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَاعْتِرَاضٌ مِنْ وَجْهٍ. فَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِمُرَادِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، مِنَ الْإِحْسَانِ وَالثَّوَابِ وَالْإِفْضَالِ. وَقَدْ يَكُونُ مُرَادُهُ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ، وَمُعَامَلَتَهُ بِحُكْمِ عَدْلِهِ لَهُ. لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ. فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ مِنْهُ مُعَامَلَتَهُ بِحُكْمِ الْفَضْلِ دَخَلَ فِي نَوْعِ مُعَارِضَةٍ. وَكَأَنَّ الرَّاجِيَ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِمَا يُعَارِضُ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ فِي مُلْكِهِ. وَذَلِكَ يُنَافِي حُكْمَ اسْتِسْلَامِهِ وَانْقِيَادِهِ، وَانْطِرَاحِهِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، مُسْتَسْلِمًا لِمَا يَحْكُمُ بِهِ فِيهِ. فَرَجَاؤُهُ مُعَارِضٌ لِحُكْمِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَوُقُوفٌ مَعَ مُرَادِهِ مِنْ سَيِّدِهِ. وَذَلِكَ يُعَارِضُ مُرَادَ سَيِّدِهِ مِنْهُ. وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ مَنْ فَنِيَ بِمُرَادِ مَحْبُوبِهِ عَنْ مُرَادِهِ مِنْهُ. وَلَوْ كَانَ فِيهِ تَعْذِيبُهُ. وَأَمَّا وَجْهُ الِاعْتِرَاضِ: فَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ إِذَا تَعَلَّقَ بِالرَّجَاءِ وَلَمْ يَظْفَرْ بِمَرْجُوِّهِ اعْتَرَضَ. حَيْثُ لَمْ يَحْصُلُ لَهُ مَرْجُوُّهُ، وَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ. وَإِنْ ظَفِرَ بِهِ اعْتَرَضَ. حَيْثُ فَاتَهُ غَيْرُ ذَلِكَ الْمَرْجُوِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرْجُو فَضْلَ اللَّهِ. وَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِهِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى رَبِّهِ تَعَالَى بِمَا يَرْجُو مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرَّاجِيَ مُتَمَنٍّ لِمَا يَرْجُو، مُؤْثِرٌ لَهُ. وَذَلِكَ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْقَدَرِ، مُنَافٍ لِكَمَالِ الِاسْتِسْلَامِ وَالرِّضَا بِمَا سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ. فَإِذَا تَيَقَّنَ لَهُ أَنَّهُ سَبَقَ الْقَضَاءَ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ. فَعَلَّقَ قَلْبَهُ بِرَجَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْفَضْلِ. فَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَى الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَعْرِفْ لِلِاسْتِسْلَامِ لِلْحُكْمِ حَقَّهُ. وَذَلِكَ وُقُوعٌ فِي الرُّعُونَةِ. فِي مَذْهَبِ السَّائِرِينَ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ، النَّاظِرِينَ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ. إِذِ الرُّعُونَةُ هِيَ الْوُقُوفُ مَعَ حَظِّ النَّفْسِ. وَالرَّجَاءُ هُوَ الْوُقُوفُ مَعَ الْحَظِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْحُظُوظِ. وَأَصْحَابُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَوَّلُ طَرِيقِهِمُ الْخُرُوجُ عَنْ نُفُوسِهِمْ، فَضْلًا عَنْ حُظُوظِهَا لِأَنَّهُمْ عَامِلُونَ عَلَى أَنْ يَكُونُوا بِاللَّهِ لَا بِنُفُوسِهِمْ. فَغَايَةُ الْمُحِبِّ أَنَّ يَرْضَى بِأَحْكَامِ مَحْبُوبِهِ عَلَيْهِ، سَاءَتْهُ أَمْ سَرَّتْهُ، حَتَّى يَبْلُغَ بِأَحَدِهِمْ هَذَا الْحَالَ إِلَى أَنْ يَنْشُدَ: أُحِبُّكَ لَا أُحِبُّكَ لِلثَّوَابِ ... وَلَكِنِّي أُحِبُّكَ لِلْعِقَابِ وَكُلُّ مَآرِبِي قَدْ نِلْتُ مِنْهَا سِوَى مَلْذُوذِ وَجْدِي بِالْعَذَابِ وَلَوْ كَانَ نَفْسُ تَلَذُّذِهِ بِالْعَذَابِ مَقْصُودَهُ مِنَ الْعَذَابِ لَكَانَ أَيْضًا وَاقِفًا مَعَ حَظِّهِ

وَلَكِنْ أَرَادَ أَنَّ رِضَاهُ بِمُرَادِ مَحْبُوبِهِ مِنْهُ - وَلَوْ كَانَ عَذَابَهُ - لَمْ يَدَعْ فِيهِ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعًا وَلَا لِلْخَوْفِ. بَلْ يَقُولُ: أَنَا أُحِبُّ مَا تُرِيدُهُ بِي، وَلَوْ أَنَّهُ عَذَابِي. وَقَدْ كَشَفَ بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَتَعْذِيبِي مَعَ الْهِجْرَانِ عِنْدِي ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طِيبِ الْوِصَالِ لِأَنِّي فِي الْوِصَالِ عَبِيدُ حَظِّي وَفِي الْهِجْرَانِ عَبْدٌ لِلْمَوَالِي فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّعْذِيبَ بِالْهِجْرَانِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ طِيبِ الْوِصَالِ، لِكَوْنِ الْوِصَالِ فِيهِ مَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ. وَأَمَّا التَّعْذِيبُ فَلَيْسَ لِلنَّفْسِ فِيهِ مَقْصُودٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا لِفَائِدَةٍ وَاحِدَةٍ. وَهِيَ تَبْرِيدُهُ لِحَرَارَةِ الْخَوْفِ. حَتَّى لَا يُفْضِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْإِيَاسِ. وَهَذَا وَجْهُ كَلَامِهِ، وَحَمْلُهُ عَلَى أَحْسَنِ الْمَحَامِلِ. فَيُقَالُ: هَذَا وَنَحْوَهُ مِنَ الشَّطَحَاتِ الَّتِي تُرْجَى مَغْفِرَتُهَا بِكَثْرَةِ الْحَسَنَاتِ، وَيَسْتَغْرِقُهَا كَمَالُ الصِّدْقِ، وَصِحَّةُ الْمُعَامَلَةِ، وَقُوَّةُ الْإِخْلَاصِ، وَتَجْرِيدُ التَّوْحِيدِ، وَلَمْ تُضْمَنُ الْعِصْمَةُ لِبَشَرٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذِهِ الشَّطَحَاتُ أَوْجَبَتْ فِتْنَةٌ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ. إِحْدَاهُمَا حُجِبَتْ بِهَا عَنْ مَحَاسِنِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَلُطْفِ نُفُوسِهِمْ، وَصِدْقِ مُعَامَلَتِهِمْ، فَأَهْدَرُوهَا لِأَجْلِ هَذِهِ الشَّطَحَاتِ، وَأَنْكَرُوهَا غَايَةَ الْإِنْكَارِ. وَأَسَاءُوا الظَّنَّ بِهِمْ مُطْلَقًا، وَهَذَا عُدْوَانٌ وَإِسْرَافٌ. فَلَوْ كَانَ كُلُّ مَنْ أَخْطَأَ أَوْ غَلِطَ تُرِكَ جُمْلَةً، وَأُهْدِرَتْ مَحَاسِنُهُ، لَفَسَدَتِ الْعُلُومُ وَالصِّنَاعَاتُ، وَالْحُكْمُ، وَتَعَطَّلَتْ مَعَالِمُهَا. وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: حُجِبُوا بِمَا رَأَوْهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْقَوْمِ، وَصَفَاءِ قُلُوبِهِمْ، وَصِحَّةِ عَزَائِمِهِمْ، وَحُسْنِ مُعَامَلَاتِهِمْ عَنْ رُؤْيَةِ عُيُوبِ شَطَحَاتِهِمْ، وَنُقْصَانِهَا. فَسَحَبُوا عَلَيْهَا ذَيْلَ الْمَحَاسِنِ. وَأَجْرَوْا عَلَيْهَا حُكْمَ الْقَبُولِ وَالِانْتِصَارِ لَهَا. وَاسْتَظْهَرُوا بِهَا فِي سُلُوكِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا مُعْتَدُونَ مُفْرِطُونَ. وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: - وَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ - الَّذِينَ أَعْطَوْا كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ، وَأَنْزَلُوا كُلَّ ذِي مَنْزِلَةٍ مَنْزِلَتَهُ، فَلَمْ يَحْكُمُوا لِلصَّحِيحِ بِحُكْمِ السَّقِيمِ الْمَعْلُولِ، وَلَا لِلْمَعْلُولِ السَّقِيمِ بِحُكْمِ الصَّحِيحِ. بَلْ قَبِلُوا مَا يُقْبَلُ. وَرَدُّوا مَا يُرَدُّ. وَهَذِهِ الشَّحَطَاتُ وَنَحْوُهَا هِيَ الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا سَادَاتُ الْقَوْمِ، وَذَمُّوا عَاقِبَتَهَا. وَتَبْرَءُوا

مِنْهَا حَتَّى ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي رِسَالَتِهِ أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ رُؤِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي. وَمَا كَانَ شَيْءٌ أَضَرُّ عَلَيَّ مِنْ إِشَارَاتِ الْقَوْمِ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الشَّحَّامَ يَقُولُ: رَأَيْتُ أَبَا سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيَّ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَقَالَ: دَعِ التَّشْيِيخَ. فَقُلْتُ: وَتِلْكَ الْأَحْوَالُ؟ فَقَالَ: لَمْ تُغْنِ عَنَّا شَيْئًا. فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي بِمَسَائِلَ كَانَتْ تَسْأَلُ عَنْهَا الْعَجَائِزُ. وَذَكَرَ عَنِ الْجَرِيرِيِّ: أَنَّهُ رَأَى الْجُنَيْدَ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقَالَ: كَيْفَ حَالُكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ؟ فَقَالَ: طَاحَتْ تِلْكَ الْإِشَارَاتُ. وَفَنِيَتْ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ. وَمَا نَفَعَنَا إِلَّا تَسْبِيحَاتٌ كُنَّا نَقُولُهَا بِالْغُدْوَاتِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: تُعْرَضُ عَلَيَّ النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ. فَلَا أَقْبَلُهَا إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: مَذْهَبُنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ الْقُرْآنَ، وَيَكْتُبِ

الْحَدِيثَ، لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي طَرِيقِنَا. هَذَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْهُمْ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: الرَّجَاءُ أَضْعَفُ مَنَازِلِ الْمُرِيدِينَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ أَجَلِّ مَنَازِلِهِمْ، وَأَعْلَاهَا وَأَشْرَفِهَا. وَعَلَيْهِ وَعَلَى الْحُبِّ وَالْخَوْفِ مَدَارُ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ. فَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ - «يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي.» وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ. إِذَا ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي. وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ. وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ شِبْرًا، اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا. وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا. وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ خَوَاصِّ عِبَادِهِ الَّذِينَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: أَنَّهُمْ كَانُوا رَاجِينَ لَهُ، خَائِفِينَ مِنْهُ. فَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56] . يَقُولُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِي: هُمْ عِبَادِي، يَتَقَرَّبُونَ إِلَيَّ بِطَاعَتِي، وَيَرْجُونَ رَحْمَتِي، وَيَخَافُونَ عَذَابِي، فَلِمَاذَا تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِي؟ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَفْضَلِ أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ مِنَ الْحُبِّ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَاعْتِرَاضٌ مِنْ وَجْهٍ.

يُقَالُ: وَهُوَ عُبُودِيَّةٌ، وَتَعَلُّقٌ بِاللَّهِ مِنْ حَيْثُ اسْمُهُ الْمُحْسِنُ الْبَرُّ فَذَلِكَ التَّعَلُّقُ وَالتَّعَبُّدُ بِهَذَا الِاسْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ لِلْعَبْدِ الرَّجَاءَ، مِنْ حَيْثُ يَدْرِي وَمِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي. فَقُوَّةُ الرَّجَاءِ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَغَلَبَةِ رَحْمَتِهِ غَضَبَهُ. وَلَوْلَا رُوحُ الرَّجَاءِ لَعُطِّلَتْ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ. وَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ، وَبَيْعٌ، وَصَلَوَاتٌ، وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا. بَلْ لَوْلَا رُوحُ الرَّجَاءِ لَمَا تَحَرَّكَتِ الْجَوَارِحُ بِالطَّاعَةِ. وَلَوْلَا رِيحُهُ الطَّيِّبَةُ لَمَا جَرَتْ سُفُنُ الْأَعْمَالِ فِي بَحْرِ الْإِرَادَاتِ. وَلِي مِنْ أَبْيَاتٍ: لَوْلَا التَّعَلُّقُ بِالرَّجَاءِ تَقَطَّعَتْ ... نَفْسُ الْمُحِبِّ تَحَسُّرًا وَتَمَزُّقَا وَكَذَاكَ لَوْلَا بَرْدُهُ بِحَرَارَةِ الْ ... أَكْبَادِ ذَابَتْ بِالْحِجَابِ تَحَرُّقَا أَيَكُونُ قَطُّ حَلِيفُ حُبٍّ لَا يُرَى ... بِرَجَائِهِ لِحَبِيبِهِ مُتَعَلِّقًا؟ ! أَمْ كُلَّمَا قَوِيَتْ مَحَبَّتُهُ لَهُ ... قَوِيَ الرَّجَاءُ فَزَادَ فِيهِ تَشَوُّقَا لَوْلَا الرَّجَا يَحْدُو الْمَطِيَّ لَمَا سَرَتْ ... بِحُمُولِهَا لِدِيَارِهِمْ تَرْجُو اللِّقَا وَعَلَى حَسَبِ الْمَحَبَّةِ وَقُوَّتِهَا يَكُونُ الرَّجَاءُ. فَكُلُّ مُحِبٍّ رَاجٍ خَائِفٌ بِالضَّرُورَةِ فَهُوَ أَرْجَى مَا يَكُونُ لِحَبِيبِهِ، أَحَبُّ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ خَوْفُهُ. فَإِنَّهُ يَخَافُ سُقُوطَهُ مِنْ عَيْنَيْهِ. وَطَرْدَ مَحْبُوبِهِ لَهُ وَإِبْعَادَهُ. وَاحْتِجَابَهُ عَنْهُ. فَخَوْفُهُ أَشَدُّ خَوْفٍ. وَرَجَاؤُهُ ذَاتِيٌّ لِلْمَحَبَّةِ. فَإِنَّهُ يَرْجُوهُ قَبْلَ لِقَائِهِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ. فَإِذَا لَقِيَهُ وَوَصَلَ إِلَيْهِ اشْتَدَّ الرَّجَاءُ لَهُ، لِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ رُوحِهِ، وَنَعِيمِ قَلْبِهِ مِنْ أَلْطَافِ مَحْبُوبِهِ، وَبِرِّهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ، وَنَظَرِهِ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الرِّضَا، وَتَأْهِيلِهِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَيَاةَ لِلْمُحِبِّ، وَلَا نَعِيمَ وَلَا فَوْزَ إِلَّا بِوُصُولِهِ إِلَيْهِ مِنْ مَحْبُوبِهِ. فَرَجَاؤُهُ أَعْظَمُ رَجَاءٍ، وَأَجَلُّهُ وَأَتَمُّهُ. فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ حَقَّ التَّأَمُّلِ يُطْلِعْكَ عَلَى أَسْرَارٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَسْرَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ. فَكُلُّ مَحَبَّةٍ فَهِيَ مَصْحُوبَةٌ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. وَعَلَى قَدْرِ تَمَكُّنِهَا مِنْ قَلْبِ الْمُحِبِّ يَشْتَدُّ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ، لَكِنَّ خَوْفَ الْمُحِبِّ لَا يَصْحَبُهُ وَحْشَةٌ. بِخِلَافِ خَوْفِ الْمُسِيءِ، وَرَجَاءِ الْمُحِبِّ لَا يَصْحَبُهُ عِلَّةٌ، بِخِلَافِ رَجَاءِ الْأَجِيرِ. وَأَيْنَ رَجَاءُ الْمُحِبِّ مِنْ رَجَاءِ الْأَجِيرِ؟ ! وَبَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ حَالَيْهِمَا. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالرَّجَاءُ ضَرُورِيٌّ لِلْمُرِيدِ السَّالِكِ، وَالْعَارِفُ لَوْ فَارَقَهُ لَحْظَةً لَتَلِفَ أَوْ كَادَ. فَإِنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ ذَنْبٍ يَرْجُو غُفْرَانَهُ، وَعَيْبٍ يَرْجُو إِصْلَاحَهُ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ يَرْجُو قَبُولَهُ، وَاسْتِقَامَةٍ يَرْجُو حُصُولَهَا وَدَوَامَهَا، وَقُرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَنْزِلَةٍ عِنْدَهُ يَرْجُو وُصُولَهُ إِلَيْهَا. وَلَا يَنْفَكُّ أَحَدٌ مِنَ السَّالِكِينَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ بَعْضِهَا. فَكَيْفَ يَكُونُ الرَّجَاءُ مِنْ أَضْعَفِ مَنَازِلِهِ. وَهَذَا حَالُهُ؟

وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُعَارَضَةِ وَالِاعْتِرَاضِ فَبَاطِلٌ. فَإِنَّ الرَّاجِيَ لَيْسَ مُعَارِضًا. وَلَا مُعْتَرِضًا، بَلْ رَاغِبًا رَاهِبًا. مُؤَمِّلًا لِفَضْلِ رَبِّهِ. حَسَنَ الظَّنِّ بِهِ، مُتَعَلِّقَ الْأَمَلِ بِبِرِّهِ وَجُودِهِ، عَابِدًا لَهُ بِأَسْمَائِهِ: الْمُحْسِنِ، الْبَرِّ، الْمُعْطِي، الْحَلِيمِ، الْغَفُورِ، الْجَوَادِ، الْوَهَّابِ، الرَّزَاقِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْجُوَهُ. وَلِذَلِكَ كَانَ عِنْدَ رَجَاءِ الْعَبْدِ لَهُ وَظَنِّهِ بِهِ. وَالرَّجَاءُ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعَبْدُ مَا يَرْجُوهُ مِنْ رَبِّهِ، بَلْ هُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ. وَلَوْ تَضَمَّنَ مُعَارَضَةً وَاعْتِرَاضًا لَكَانَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ وَالْمَسْأَلَةِ أَوْلَى فَكَانَ دُعَاءُ الْعَبْدِ رَبَّهُ وَسُؤَالُهُ - أَنْ يَهْدِيَهُ وَيُوَفِّقَهُ وَيُسَدِّدَهُ، وَيُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَيُجَنِّبَهُ مَعْصِيَتَهُ، وَيَغْفِرَ ذُنُوبَهُ، وَيَدْخُلَهُ جَنَّتَهُ، وَيُنْجِيَهُ مِنَ النَّارِ - مُعَارَضَةً وَاعْتِرَاضًا؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ رَاجٍ وَطَالِبٌ مَا يَرْجُوهُ. فَهُوَ أَوْلَى حِينَئِذٍ بِالْمُعَارَضَةِ وَالِاعْتِرَاضِ. وَالَّذِي أَوْجَبَ لِلشَّيْخِ هَذَا الْقَدْرَ: الِاسْتِرْسَالُ فِي الْقَدَرِ. وَالْفَنَاءُ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ. فَإِنَّهُ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِيهِ، الَّذِينَ لَا تَأْخُذُهُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. وَهُوَ شَدِيدٌ فِي إِنْكَارِ الْأَسْبَابِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامُ أَئِمَّةٍ أَعْلَامٍ. وَلَوْلَا أَنَّ حَقَّ الْحَقِّ أَوْجَبُ مِنْ حَقِّ الْخَلْقِ لَكَانَ فِي الْإِمْسَاكِ فُسْحَةٌ وَمُتَّسَعٌ. وَلَيْسَ فِي الرَّجَاءِ وَلَا فِي الدُّعَاءِ مُعَارَضَةٌ لِتَصَرُّفِ الْمَالِكِ فِي مُلْكِهِ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَرْجُو تَصَرُّفَهُ فِي مُلْكِهِ أَيْضًا بِمَا هُوَ أَوْلَى وَأَحَبُّ الْأَمْرَيْنِ إِلَيْهِ. فَإِنَّ الْفَضْلَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَدْلِ، وَالْعَفْوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الِانْتِقَامِ، وَالْمُسَامَحَةَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الِاسْتِقْصَاءِ، وَالتَّرْكَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الِاسْتِيفَاءِ، وَرَحْمَتَهُ غَلَبَتْ غَضَبَهُ. فَالرَّاجِي عَلَّقَ رَجَاءَهُ بِتَصَرُّفِهِ الْمَحْبُوبِ لَهُ الْمُرْضِي لَهُ. فَلَمْ يُوجِبْ رَجَاؤُهُ خُرُوجَهُ عَنْ تَصَرُّفِهِ فِي مُلْكِهِ. بَلِ اقْتَضَى عُبُودِيَّتَهُ، وَحُصُولَ أَحَبِّ التَّصَرُّفَيْنِ إِلَيْهِ. وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى لَا يَنْتَفِعُ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَعُقُوبَةِ عَبْدِهِ، حَتَّى يَكُونَ رَجَاؤُهُ مُبْطِلًا لِذَلِكَ. وَإِنَّمَا الْعَبْدُ اسْتَدْعَى الْعُقُوبَةَ، وَأَخَذَ الْحَقَّ مِنْهُ لِشِرْكِهِ بِاللَّهِ وَكُفْرِهِ بِهِ. وَاجْتِهَادِهِ فِي غَضَبِهِ. وَلِغَضَبِهِ مُوجِبَاتٌ وَآثَارٌ وَمُقْتَضَيَاتٌ، وَالْعَبْدُ مُؤْثِرٌ لَهَا، سَاعٍ فِي تَحْصِيلِهَا، عَامِلٍ عَلَيْهَا بِإِيثَارِهِ إِيَّاهَا وَسَعْيِهِ فِي أَسْبَابِهَا. فَهُوَ الْمُهْلِكُ لِنَفْسِهِ. وَرَبُّهُ يُحَذِّرُهُ وَيُبَصِّرُهُ وَيُنَادِيهِ: هَلُمَّ إِلَيَّ أَحْمِكَ وَأَصُنْكَ، وَأُنْجِكَ مِمَّا تَحْذَرُ، وَأُؤَمِّنْكَ مِنْ كُلِّ مَا تَخَافُ، وَهُوَ يَأْبَى إِلَّا شُرُودًا عَلَيْهِ وَنِفَارًا عَنْهُ، وَمُصَالَحَةً لِعَدُوِّهِ، وَمُظَاهَرَةً لَهُ عَلَى رَبِّهِ. وَمُتَطَلِّبًا لِمَرْضَاةِ خَلْقِهِ بِمَسَاخِطِهِ. رِضَا الْمَخْلُوقِ آثَرُ عِنْدَهُ مِنْ رِضَا خَالِقِهِ. وَحَقُّهُ آكُدُ عِنْدَهُ مِنْ حَقِّهِ. وَخَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ وَحُبُّهُ فِي قَلْبِهِ أَعْظَمُ مِنْ خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ وَرَجَائِهِ وَحُبِّهِ. فَلَمْ يَدَعْ لِفَضْلِ رَبِّهِ وَكَرَامَتِهِ وَثَوَابِهِ إِلَيْهِ طَرِيقًا، بَلْ سَدَّ دُونَهُ طُرُقَ مَجَارِيهَا بِجُهْدِهِ. وَأَعْطَى بِيَدِهِ لِعَدُوِّهِ. فَصَالَحَهُ وَسَمِعَ لَهُ

وَأَطَاعَ. وَانْقَادَ إِلَى مَرْضَاتِهِ. فَجَاءَ مِنَ الظُّلْمِ بِأَقْبَحِهِ وَأَشَدِّهِ. فَهُوَ الَّذِي عَارَضَ مُرَادَهُ بِهِ مِنْهُ بِمُرَادِهِ وَهَوَاهُ وَشَهْوَتِهِ. وَاعْتَرَضَ لِمَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ بِالدَّفْعِ. وَلَمْ يَأْذَنْ لَهَا فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ. فَأَضَاعَ حَظَّهُ وَبَخَسَ حَقَّهُ. وَظَلَمَ نَفْسَهُ. وَعَادَى حَبِيبَهُ. وَوَالَى عَدُوَّهُ. وَأَسْخَطَ مِنْ حَيَاتِهِ فِي رِضَاهُ. وَأَرْضَى مِنْ حَيَاتِهِ فِي سَخَطِهِ. وَجَادَ بِنَفْسِهِ لِعَدُوِّهِ. وَبَخِلَ بِهَا عَنْ حَبِيبِهِ وَوَلِيِّهِ. وَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ لَهُ ثَأْرٌ عِنْدَ عَبْدِهِ فَيُدْرِكَهُ بِعُقُوبَتِهِ. وَلَا يَتَشَفَّى بِعِقَابِهِ. وَلَا يَزِيدُ ذَلِكَ فِي مُلْكِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ مُلْكِهِ. كَيْفَ، وَالرَّحْمَةُ أَوْسَعُ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَأَسْبَقُ مِنَ الْغَضَبِ وَأَغْلَبُ لَهُ؟ وَهُوَ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. فَرَجَاءُ الْعَبْدِ لَهُ لَا يُنْقِصُ شَيْئًا مِنْ حِكْمَتِهِ. وَلَا يُنْقِصُ ذَرَّةً مِنْ مُلِكِهِ. وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَمَالِ تَصَرُّفِهِ. وَلَا يُوجِبُ خِلَافَ كَمَالِهِ. وَلَا تَعْطِيلَ أَوْصَافِهِ وَأَسْمَائِهِ. وَلَوْلَا أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ طُرُقَ الْخَيْرَاتِ، وَأَغْلَقَ دُونَهَا أَبْوَابَ الرَّحْمَةِ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ لَكَانَ رَبُّهُ لَهُ فَوْقَ رَجَائِهِ وَفَوْقَ أَمَلِهِ. وَأَمَّا اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَاسْتِسْلَامُهُ بِانْطِرَاحِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرِضَاهُ بِمَوَاقِعِ حُكْمِهِ فِيهِ فَمَا ذَاكَ إِلَّا رَجَاءً مِنْهُ أَنْ يَرْحَمَهُ، وَيُقِيلَهُ عَثْرَتَهُ وَيَعْفُوَ عَنْهُ، وَيَقْبَلَ حَسَنَاتِهِ مَعَ عُيُوبِ أَعْمَالِهِ وَآفَاتِهَا. وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِ. فَقُوَّةُ رَجَائِهِ أَوْجَبَتْ لَهُ هَذَا الِاسْتِسْلَامَ وَالِانْقِيَادَ، وَالِانْطِرَاحَ بِالْبَابِ. وَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا بِدُونِ الرَّجَاءِ أَلْبَتَّةَ. فَالرَّجَاءُ حَيَاةُ الطَّلَبِ. وَالْإِرَادَةُ رُوحُهَا. وَأَمَّا رِضَاهُ بِمُرَادِهِ مِنْهُ وَإِنْ عَذَّبَهُ فَهَذَا هُوَ الرُّعُونَةُ كُلُّ الرُّعُونَةِ. فَإِنَّ مُرَادَهُ سُبْحَانَهُ نَوْعَانِ: مُرَادٌ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَيَمْدَحُ فَاعِلَهُ وَيُوَالِيهِ. فَمُوَافَقَتُهُ فِي هَذَا الْمُرَادِ هِيَ عَيْنُ مَحَبَّتِهِ، وَإِرَادَةُ خِلَافِهِ رُعُونَةٌ وَمُعَارَضَةٌ وَاعْتِرَاضٌ. وَمُرَادٌ يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ وَيَمْقُتُ فَاعِلَهُ وَيُعَادِيهِ. فَمُوَافَقَتُهُ فِي هَذَا الْمُرَادِ عَيْنُ مُشَاقَّتِهِ وَمُعَادَاتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ وَالتَّعَرُّضِ لِمَقْتِهِ وَسَخَطِهِ. فَهَذَا الْمَوْضِعُ مَوْضِعُ فُرْقَانٍ. فَالْمُوَافَقَةُ كُلُّ الْمُوَافَقَةِ مُعَارَضَةُ هَذَا الْمُرَادِ، وَاعْتِرَاضُهُ بِالدَّفْعِ وَالرَّدِّ بِالْمُرَادِ الْآخَرِ. فَالْعُبُودِيَّةُ الْحَقُّ مُعَارَضَةُ مُرَادِهِ بِمُرَادِهِ، وَمُزَاحَمَةُ أَحْكَامِهِ بِأَحْكَامِهِ. فَاسْتِسْلَامُهُ لِهَذَا الْمُرَادِ الْمَكْرُوهِ الْمَسْخُوطِ، وَمَا يُوجِبُهُ وَيَقْتَضِيهِ عَيْنُ الرُّعُونَةِ. وَالْخُرُوجُ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ. وَهُوَ عَيْنُ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ مَصْدَرَ ذَلِكَ الِاسْتِسْلَامُ وَالْمُوَافَقَةُ، وَتَرَكُ الِاعْتِرَاضِ وَالْمُعَارَضَةِ، لَكَانَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِمَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ، وَأَوَامِرِهِ

الَّتِي الِاسْتِسْلَامُ لَهَا وَالْمُوَافَقَةُ فِيهَا، وَتَرْكُ مُعَارَضَتِهَا، وَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا - هُوَ عَيْنُ الْمَحَبَّةِ وَالْمُوَالَاةِ. وَأَمَّا الْفَنَاءُ بِمُرَادِ رَبِّهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَحْمُودَ مِنْهُ هُوَ ذَلِكَ الْفَنَاءُ بِمُرَادِهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ، لَا الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ. فَإِنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ مُرَادُهُ الْقَدَرِيُّ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ. وَأَمَّا تَعَلُّقُ الرَّجَاءِ بِمُرَادِهِ دُونَ مُرَادِ سَيِّدِهِ فَهُوَ إِنَّمَا عَلَّقَهُ بِمُرَادِهِ الْمَحْبُوبِ لَهُ، هَارِبًا مِنْ مُرَادِهِ الْمَسْخُوطِ الْمَكْرُوهِ لَهُ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا لَهُ - إِذَا كَانَ انْتِقَامًا - فَالْعَفْوُ وَالْفَضْلُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهُ. فَهُوَ إِنَّمَا عَلَّقَ رَجَاءَهُ بِأَحَبِّ الْمُرَادَيْنِ إِلَيْهِ. وَأَمَّا كَوْنُ الرَّجَاءِ اعْتِرَاضًا عَلَى مَا سَبَقَ بِهِ الْحُكْمُ: فَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ تَعَلُّقًا بِمَا سَبَقَ بِهِ الْحُكْمُ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَرْجُو فَضْلًا وَإِحْسَانًا، وَرَحْمَةً سَبَقَ بِهَا الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ، وَجَعَلَ الرَّجَاءَ أَحَدَ أَسْبَابِ حُصُولِهَا. فَلَيْسَ الرَّجَاءُ اعْتِرَاضًا عَلَى الْقَدَرِ، وَلَا مُعَارَضَةً لِلْقَدَرِ. بَلْ طَلَبًا لِمَا سَبَقَ بِهِ الْقَدَرُ. وَأَمَّا اعْتِرَاضُهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلُ لَهُ مَرْجُوُّهُ فَهَذَا نَقْصٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَجَهْلٌ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. فَإِنَّ الرَّاجِي وَالدَّاعِي يَرْجُو وَيَدْعُو فَضْلًا لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَلَا يَسْتَوْجِبُهُ بِمُعَاوَضَةٍ. فَإِنْ أُعْطِيَهُ فَمَحْضُ الْمِنَّةِ وَالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ مُنِعَهُ فَلَمْ يُمْنَعْ حَقًّا هُوَ لَهُ. فَاعْتِرَاضُهُ رُعُونَةٌ وَجَهَالَةٌ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ فَوَاتِ الْمَرْجُوِّ، أَوْ عَدَمِ حُصُولِ الْمَدْعُوِّ بِهِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الصَّادِقِ، مُعَارَضَةٌ وَلَا اعْتِرَاضٌ. وَقَدْ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثَلَاثَ خِصَالٍ لِأُمَّتِهِ. فَأَعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَهُ وَاحِدَةً. فَرَضِيَ بِمَا أَعْطَاهُ. وَلَمْ يَعْتَرِضْ فِيمَا مَنَعَهُ بَلْ رَضِيَ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا كَوْنُ الرَّجَاءِ وُقُوفًا مَعَ الْحَظِّ، وَأَصْحَابِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ قَدْ خَرَجُوا عَنْ نُفُوسِهِمْ فَكَيْفَ حُظُوظُهُمْ؟ فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ! أَيُّ رُعُونَةٍ فِيمَنْ يَجْعَلُ رَجَاءَ الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَطَمَعَهُ فِي بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ، وَسُؤَالَهُ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ؟ فَإِنَّ الرَّجَاءَ هُوَ اسْتِشْرَافُ الْقَلْبِ لِنَيْلِ مَا يَرْجُوهُ. فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ دَائِمًا مُسْتَشْرِفًا بِقَلْبِهِ، سَائِلًا بِلِسَانِهِ، طَالِبًا لِفَضْلِ رَبِّهِ. فَأَيُّ رُعُونَةٍ هَاهُنَا؟ وَهَلِ

الرُّعُونَةُ كُلُّ الرُّعُونَةِ إِلَّا خِلَافُ ذَلِكَ؟ وَمِنَ الْعَجَبِ دَعْوَاهُمْ خُرُوجَهُمْ عَنْ نُفُوسِهِمْ. وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ عِبَادَةً لِنُفُوسِهِمْ. وَلَيْسَ الْخَارِجُ عَنْ نَفْسِهِ إِلَّا مَنْ جَعَلَهَا حَبْسًا عَلَى مُرَادِ اللَّهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ النَّبَوِيِّ. وَبَذَلَهَا لِلَّهِ فِي إِقَامَةِ دِينِهِ. وَتَنْفِيذِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِنَادِ وَالْمُعَارَضَةِ وَالْبَغْيِ. فَانْغَمَسَ فِيهِمْ يُمَزِّقُونَ أَدِيمَهُ، وَيَرْمُونَهُ بِالْعَظَائِمِ. وَيُخِيفُونَهُ بِأَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ، وَيَتَطَلَّبُونَ دَمَهُ بِجُهْدِهِمْ، لَا تَأْخُذُهُ فِي جِهَادِهِمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. يَصْدَعُ بِالْحَقِّ عِنْدَ مَنْ يَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ، قَدْ زَهِدَ فِي مَدْحِهِمْ وَثَنَائِهِمْ. وَتَعْظِيمِهِمْ وَتَشْيِيخِهِمْ لَهُ، وَتَقْبِيلِ يَدِهِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِ. يَصِيحُ فِيهِمْ بِالنَّصَائِحِ جِهَارًا. وَيُعْلِنُ لَهُمْ بِهَا. وَيُسِرُّ لَهُمْ إِسْرَارًا. قَدْ تَجَرَّدَ عَنِ الْأَوْضَاعِ وَالْقُيُودِ وَالرُّسُومِ. وَتَعَلَّقَ بِمَرَاضِيِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ. مَقَامُهُ سَاعَةٌ فِي جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ. وَرِبَاطُهُ لَيْلَةٌ عَلَى ثَغْرِ الْإِيمَانِ، آثَرُ عِنْدَهُ وَأَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ فَنَاءٍ وَمُشَاهَدَاتٍ وَأَحْوَالٍ هِيَ أَعْظَمُ عَيْشِ النَّفْسِ وَأَعْلَى قُوَّتِهَا، وَأَوْفَرُ حَظِّهَا. وَيَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَكَيْفَ حَظُّهَا؟ وَلَعَلَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ مُرَادِ رَبِّهِ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ إِلَى عَيْنِ مُرَادِهِ. وَهُوَ حَظُّهُ. وَلَوْ فَتَّشَ نَفْسَهُ لَرَأَى ذَلِكَ فِيهَا عَيَانًا. وَهَلِ الرُّعُونَةُ كُلُّ الرُّعُونَةِ إِلَّا دَعْوَاهُ أَنَّهُ يُحِبُّ رَبَّهُ لِعَذَابِهِ لَا لِثَوَابِهِ؟ وَأَنَّهُ إِذَا أَحَبَّهُ وَأَطَاعَهُ لِلثَّوَابِ كَانَ ذَلِكَ حَظًّا وَإِيثَارًا لِمُرَادِ النَّفْسِ؟ بِخِلَافِ مَا إِذَا أَحَبَّهُ وَأَطَاعَهُ لِيُعَذِّبَهُ. فَإِنَّهُ لَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِي ذَلِكَ؟ فَوَاللَّهِ لَيْسَ فِي أَنْوَاعِ الرُّعُونَةِ وَالْحَمَاقَةِ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَلَا أَسْمَجُ. وَمَاذَا يَلْعَبُ الشَّيْطَانُ بِالنُّفُوسِ؟ وَإِنَّ نَفْسًا وَصَلَ بِهَا تَلْبِيسُ الشَّيْطَانِ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى سُؤَالِ الْمُعَافَاةِ. فَزِنْ أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالصِّدِّيقِينَ، وَسُؤَالَهُمْ رَبَّهُمْ، عَلَى أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الْغَالِطِينَ، الَّذِينَ مَرَجَتْ بِهِمْ نُفُوسُهُمْ. ثُمَّ قَايِسْ بَيْنَهُمَا. وَانْظُرِ التَّفَاوُتَ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» ؟ وَقَوْلِهِ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «يَا عَبَّاسُ، يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ، سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.» وَقَوْلِهِ لِلصِّدِّيقِ

الْأَكْبَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ سَأَلَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِهِ - «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا. وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ. وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.» وَقَوْلِهِ لِصِدِّيقَةِ النِّسَاءِ - وَقَدْ سَأَلَتْهُ دُعَاءً تَدْعُو بِهِ، إِنْ وَافَقَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ - فَقَالَ: «قَوْلِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفْوٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي.» وَقَوْلِهِ فِي دُعَائِهِ الَّذِي كَانَ لَا يَدَعُهُ: وَإِنْ دَعَا بِدُعَاءٍ أَرْدَفَهُ إِيَّاهُ: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً. وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» ؟ وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خَاصَّتِهِ، وَهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ، بِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ، فَقَالُوا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ حَبِيبَةَ: «لَوْ سَأَلَتِ اللَّهَ أَنْ يُجِيرَكِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ» ، وَكَانَ يَسْتَعِيذُ كَثِيرًا مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِيذُوا فِي تَشَهُّدِهِمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ. وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ. وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ حَتَّى قِيلَ:

إِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ. لَا تَصِحُّ إِلَّا بِهِ. وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ نَسْتَقْصِيَهُ. وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ. فَرَآهُ مِثْلَ الْفَرْخِ فَقَالَ: «مَا كُنْتُ تَدْعُو بِهِ؟ فَقَالَ: كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبَنِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَاقِبْنِي بِهِ فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! إِنَّكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ. أَلَا سَأَلْتَ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ؟» . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ سُؤَالِ الْعَفْوِ وَالْعَافِيَةِ.» وَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: «مَا تَقُولُ إِذَا صَلَّيْتَ؟ فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ. وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، أَمَا إِنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ، وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» . فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حَالِ مَنْ قَالَ: لَا أُحِبُّكَ لِثَوَابِكَ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ حَظِّي. وَإِنَّمَا أُحِبُّكَ لِعِقَابِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لِي فِيهِ. وَالرَّجَاءُ عَيْنُ الْحَظِّ. وَنَحْنُ قَدْ خَرَجْنَا عَنْ نُفُوسِنَا، فَمَا لَنَا وَلِلرَّجَاءِ؟ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ أَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِيهِمْ: إِنَّهُ شَطَحَ قَدْ يُعْذَرُ فِيهِ صَاحِبُهُ إِذَا كَانَ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ. كَالسَّكْرَانِ وَنَحْوِهِ. وَلَا تُهْدَرُ مَحَاسِنُهُ وَمُعَامَلَاتُهُ وَأَحْوَالُهُ وَزُهْدُهُ. وَلَكِنَّ الَّذِي يُنْكَرُ كَوْنُ هَذَا مِنَ الْأَحْوَالِ الصَّحِيحَةِ، وَالْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ. الَّتِي يَتَعَاطَاهَا الْعَبْدُ. وَيُشَمِّرُ إِلَيْهَا. فَهَذَا الَّذِي لَا تُلْبَسُ عَلَيْهِ الثِّيَابُ. وَلَا تَصْبِرُ عَلَيْهِ نُفُوسُ الْعُلَمَاءِ. وَحَاشَا سَادَاتِ الْقَوْمِ وَأَئِمَّتَهُمْ مِنْ هَذِهِ الرُّعُونَاتِ. بَلْ هُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْهَا.

نَعَمْ، قَدْ يَعْرِضُ لِأَحَدِهِمْ حَالٌ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِ بِأَنَّهُ لَوْ عَذَّبَهُ لَكَانَ رَاضِيًا بِعَذَابِهِ، كَرِضَا صَاحِبِ الثَّوَابِ بِثَوَابِهِ. وَيَعْزِمُ عَلَى ذَلِكَ بِقَلْبِهِ. وَلَكِنَّ هَذَا عَزْمٌ وَأُمْنِيَةٌ، وَعِنْدَ الْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ لِذَلِكَ أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ. وَلَوِ امْتَحَنَهُ بِأَدْنَى مِحْنَةٍ لَصَاحَ وَاسْتَغَاثَ. وَسَأَلَ الْعَافِيَةَ. كَمَا جَرَى لِلْقَائِلِ. وَهُوَ سَمْنُونٌ: وَلَيْسَ لِي مِنْ هَوَاكَ بُدٌّ ... فَكَيْفَمَا شِئْتَ فَامْتَحِنِّي فَامْتَحَنَهُ بِعُسْرِ الْبَوْلِ. فَطَاحَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْهُ، وَاضْمَحَلَّ حَالُهَا. وَجَعَلَ يَطُوفُ عَلَى صِبْيَانِ الْمَكَاتِبِ، وَيَقُولُ: ادْعُوَا لِعَمِّكُمُ الْكَذَّابِ. فَالْعَزْمُ عَلَى الرِّضَا لَوْنٌ. وَحَقِيقَتُهُ لَوْنٌ آخَرُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا نَطَقَ بِهِ التَّنْزِيلُ: لِفَائِدَةٍ. وَهِيَ كَوْنُهُ يَبَرِّدُ حَرَارَةَ الْخَوْفِ فَيُقَالُ: بَلْ لِفَوَائِدَ كَثِيرَةٍ أُخَرَ مُشَاهَدَةٍ. مِنْهَا: إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْفَاقَةِ، وَالْحَاجَةِ إِلَى مَا يَرْجُوهُ مِنْ رَبِّهِ، وَيَسْتَشْرِفُهُ مِنْ إِحْسَانِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَمِنْهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يُؤَمِّلُوهُ وَيَرْجُوهُ. وَيَسْأَلُوهُ مِنْ فَضْلِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْجَوَادُ، أَجْوَدُ مَنْ سُئِلَ، وَأَوْسَعُ مَنْ أَعْطَى. وَأَحَبُّ مَا إِلَى الْجَوَادِ أَنْ يُرْجَى وَيُؤَمَّلَ وَيُسْأَلَ. وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ،» وَالسَّائِلُ رَاجٍ وَطَالِبٌ. فَمَنْ لَمْ يَرْجُ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ. فَهَذِهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى مِنْ فَوَائِدِ الرَّجَاءِ. وَهِيَ التَّخَلُّصُ بِهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ.

وَمِنْهَا أَنَّ الرَّجَاءَ حَادٍ يَحْدُو بِهِ فِي سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ. وَيُطِيبُ لَهُ الْمَسِيرَ. وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ. وَيَبْعَثُهُ عَلَى مُلَازَمَتِهِ. فَلَوْلَا الرَّجَاءُ لَمَا سَارَ أَحَدٌ. فَإِنَّ الْخَوْفَ وَحْدَهُ لَا يُحَرِّكُ الْعَبْدَ. وَإِنَّمَا يُحَرِّكُهُ الْحُبُّ. وَيُزْعِجُهُ الْخَوْفُ. وَيَحْدُوهُ الرَّجَاءُ. وَمِنْهَا أَنَّ الرَّجَاءَ يَطْرَحُهُ عَلَى عَتَبَةِ الْمَحَبَّةِ، وَيُلْقِيَهِ فِي دِهْلِيزِهَا. فَإِنَّهُ كُلَّمَا اشْتَدَّ رَجَاؤُهُ وَحَصَلَ لَهُ مَا يَرْجُوهُ ازْدَادَ حُبًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَشُكْرًا لَهُ، وَرِضًا بِهِ وَعَنْهُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يَبْعَثُهُ عَلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ. وَهُوَ مَقَامُ الشُّكْرِ، الَّذِي هُوَ خُلَاصَةُ الْعُبُودِيَّةِ. فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ لَهُ مَرْجُوُّهُ كَانَ أَدْعَى لِشُكْرِهِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يُوجِبُ لَهُ الْمَزِيدَ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَمَعَانِيهَا، وَالتَّعَلُّقِ بِهَا. فَإِنَّ الرَّاجِيَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، مُتَعَبِّدٌ بِهَا، دَاعٍ بِهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَطَّلَ دُعَاؤُهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مَا يَدْعُو بِهَا الدَّاعِيَ. فَالْقَدْحُ فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ تَعْطِيلٌ لِعُبُودِيَّةِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَتَعْطِيلٌ لِلدُّعَاءِ بِهَا. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الرَّجَاءِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمُدُّ الْآخَرَ وَيُقَوِّيهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْخَوْفَ مُسْتَلْزِمٌ لِلرَّجَاءِ. وَالرَّجَاءُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْخَوْفِ. فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ. وَكُلُّ خَائِفٍ رَاجٍ. وَلِأَجْلِ هَذَا حَسُنَ وُقُوعُ الرَّجَاءِ فِي مَوْضِعٍ يَحْسُنُ فِيهِ وُقُوعُ الْخَوْفِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى مَا لَكَمَ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً؟ قَالُوا: وَالرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ مُلَازِمٌ لَهُ. فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ مِنْ فَوَاتِ مَرْجُوِّهِ. وَالْخَوْفُ بِلَا رَجَاءٍ يَأْسٌ وَقُنُوطٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] قَالُوا فِي تَفْسِيرِهَا: لَا يَخَافُونَ وَقَائِعَ اللَّهِ بِهِمْ، كَوَقَائِعِهِ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِرَجَاءِ رَبِّهِ، فَأَعْطَاهُ مَا رَجَاهُ، كَانَ ذَلِكَ أَلْطَفَ مَوْقِعًا، وَأَحْلَى عِنْدَ الْعَبْدِ. وَأَبْلَغَ مِنْ حُصُولِ مَا لَمْ يَرْجُهُ. وَهَذَا أَحَدُ الْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ

فصل درجات الرجاء

فِي جَعْلِ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ فِي هَذِهِ الدَّارِ. فَعَلَى قَدْرِ رَجَائِهِمْ وَخَوْفِهِمْ يَكُونُ فَرَحُهُمْ فِي الْقِيَامَةِ بِحُصُولِ مَرْجُوِّهِمْ وَانْدِفَاعِ مُخَوِّفِهِمْ. وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُرِيدُ مِنْ عَبْدِهِ تَكْمِيلَ مَرَاتِبَ عُبُودِيَّتِهِ مِنَ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ، وَالتَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَالرِّضَا وَالْإِنَابَةِ وَغَيْرِهَا. وَلِهَذَا قَدَّرَ عَلَيْهِ الذَّنْبَ وَابْتَلَاهُ بِهِ، لِتَكْمُلَ مَرَاتِبُ عُبُودِيَّتِهِ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَحَبِّ عُبُودِيَّاتِ عَبْدِهِ إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ تَكْمِيلُهَا بِالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ. وَمِنْهَا: أَنَّ فِي الرَّجَاءِ - مِنَ الِانْتِظَارِ وَالتَّرَقُّبِ وَالتَّوَقُّعِ لِفَضْلِ اللَّهِ - مَا يُوجِبُ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِذِكْرِهِ وَدَوَامِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ بِمُلَاحَظَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَتَنَقُّلَ الْقَلْبِ فِي رِيَاضِهَا الْأَنِيقَةِ، وَأَخْذَهُ بِنَصِيبِهِ مِنْ كُلِّ اسْمِ وَصْفَةٍ - كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ - فَإِذَا فَنَى عَنْ ذَلِكَ وَعَابَ عَنْهُ، فَاتَهُ حَظُّهُ وَنَصِيبُهُ مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. إِلَى فَوَائِدَ أُخْرَى كَثِيرَةٍ. يُطَالِعُهَا مَنْ أَحْسَنَ تَأَمُّلَهُ وَتَفَكُّرَهُ فِي اسْتِخْرَاجِهَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَاللَّهُ يَشْكُرُ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ سَعْيَهُ، وَيُعْلِي دَرَجَتَهُ. وَيَجْزِيهِ أَفْضَلَ جَزَائِهِ. وَيَجْمَعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي مَحَلِّ كَرَامَتِهِ. فَلَوْ وَجَدَ مُرِيدُهُ سِعَةً وَفُسْحَةً فِي تَرْكِ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ وَاعْتِرَاضِ كَلَامِهِ لَمَا فَعَلَ. كَيْفَ وَقَدْ نَفَعَهُ اللَّهُ بِكَلَامِهِ؟ وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَجْلِسَ التِّلْمِيذِ مِنْ أُسْتَاذِهِ، وَهُوَ أَحَدُ مَنْ كَانَ عَلَى يَدَيْهِ فَتْحُهُ يَقَظَةً وَمَنَامًا؟ وَهَذَا غَايَةُ جُهْدِ الْمُقِلِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ عِلْمٍ فَلْيَجُدْ بِهِ، أَوْ فَلْيَعْذُرْ، وَلَا يُبَادِرُ إِلَى الْإِنْكَارِ. فَكَمْ بَيْنَ الْهُدْهُدِ وَنَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ؟ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] وَلَيْسَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَعْلَمَ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ. وَلَا الْمُعْتَرِضُ عَلَيْهِ بِأَجْهَلَ مِنْ هُدْهُدٍ. وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ وَهُوَ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الرَّجَاءِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى رَجَاءٌ يَبْعَثُ الْعَامِلَ عَلَى الِاجْتِهَادِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الرَّجَاءُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: رَجَاءٌ يَبْعَثُ الْعَامِلَ عَلَى الِاجْتِهَادِ. وَيُوَلِّدُ التَّلَذُّذَ بِالْخِدْمَةِ، وَيُوقِظُ الطِّبَاعَ لِلسَّمَاحَةِ بِتَرْكِ الْمَنَاهِي.

الدرجة الثانية رجاء أرباب الرياضات أن يبلغوا موقفا تصفو فيه هممهم

أَيْ يُنَشِّطُهُ لِبَذْلِ جُهْدِهِ لِمَا يَرْجُوهُ مِنْ ثَوَابِ رَبِّهِ. فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ قَدْرَ مَطْلُوبِهِ هَانَ عَلَيْهِ مَا يَبْذُلُ فِيهِ. وَأَمَّا تَوْلِيدُهُ لِلتَّلَذُّذِ بِالْخِدْمَةِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا طَالَعَ قَلْبُهُ ثَمَرَتَهَا وَحُسْنَ عَاقِبَتِهَا الْتَذَّ بِهَا. وَهَذَا كَحَالِ مَنْ يَرْجُو الْأَرْبَاحَ الْعَظِيمَةَ فِي سَفَرِهِ، وَيُقَاسِي مَشَاقَّ السَّفَرِ لِأَجْلِهَا. فَكُلَّمَا صَوَّرَهَا لِقَلْبِهِ هَانَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْمَشَاقُّ وَالْتَذَّ بِهَا. وَكَذَلِكَ الْمُحِبُّ الصَّادِقُ السَّاعِي فِي مَرَاضِي مَحْبُوبِهِ الشَّاقَّةِ عَلَيْهِ، كُلَّمَا تَأَمَّلَ ثَمَرَةَ رِضَاهُ عَنْهُ وَقَبُولِهِ سَعْيَهُ، وَقُرْبِهِ مِنْهُ تَلَذَّذَ بِتِلْكَ الْمَسَاعِي، وَكُلَّمَا قَوِيَ عِلْمُ الْعَبْدِ بِإِفْضَاءِ ذَلِكَ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبِّبِ الْمَطْلُوبِ، وَقَوِيَ عِلْمُهُ بِقَدْرِ الْمُسَبِّبِ وَقُرْبِ السَّبَبِ مِنْهُ ازْدَادَ الْتِذَاذًا بِتَعَاطِيهِ. وَأَمَّا إِيقَاظُ الطِّبَاعِ لِلسَّمَاحَةِ بِتَرْكِ الْمَنَاهِي: فَإِنَّ الطِّبَاعَ لَهَا مَعْلُومٌ وَرُسُومٌ تَتَقَاضَاهَا مِنَ الْعَبْدِ. وَلَا تَسْمَحُ لَهُ بِتَرْكِهَا إِلَّا بِعِوَضٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْ مَعْلُومِهَا وَرُسُومِهَا، وَأَجَلُّ عِنْدِهَا مِنْهُ وَأَنْفَعُ لَهَا. فَإِذَا قَوِيَ تَعَلُّقُ الرَّجَاءِ بِهَذَا الْعِوَضِ الْأَفْضَلِ الْأَشْرَفِ سَمَحَتِ الطِّبَاعُ بِتَرْكِ تِلْكَ الرُّسُومِ وَذَلِكَ الْمَعْلُومِ. فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَتْرُكُ مَحْبُوبًا إِلَّا لِمَحْبُوبٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْهُ. أَوْ حَذَرًا مِنْ مُخَوِّفٍ هُوَ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً لَهَا مِنْ حُصُولِ مَصْلَحَتِهَا بِذَلِكَ الْمَحْبُوبِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ فَفِرَارُهَا مِنْ ذَلِكَ الْمُخَوِّفِ إِيثَارٌ لِضِدِّهِ الْمَحْبُوبِ لَهَا. فَمَا تَرَكَتْ مَحْبُوبًا إِلَّا لِمَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْهُ. فَإِنَّ مَنْ قُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ لَذِيذٌ يَضُرُّهُ وَيُوجِبُ لَهُ السَّقَمَ. فَإِنَّمَا يَتْرُكُهُ مَحَبَّةً لِلْعَافِيَةِ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ. [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ رَجَاءُ أَرْبَابِ الرِّيَاضَاتِ أَنْ يَبْلُغُوا مَوْقِفًا تَصْفُو فِيهِ هِمَمُهُمْ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ رَجَاءُ أَرْبَابِ الرِّيَاضَاتِ أَنْ يَبْلُغُوا مَوْقِفًا تَصْفُو فِيهِ هِمَمُهُمْ، بِرَفْضِ الْمَلْذُوذَاتِ، وَلُزُومِ شُرُوطِ الْعِلْمِ، وَاسْتِقْصَاءِ حُدُودِ الْحَمِيَّةِ. أَرْبَابُ الرِّيَاضَاتِ: هُمُ الْمُجَاهِدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَرْكِ مَأْلُوفَاتِهَا، وَالِاسْتِبْدَالِ بِهَا مَأْلُوفَاتٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَكْمَلُ، فَرَجَاؤُهُمْ أَنْ يَبْلُغُوا مَقْصُودَهُمْ بِصَفَاءِ الْوَقْتِ، وَالْهِمَّةِ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْمَلْذُوذَاتِ. وَتَجْرِيدِ الْهَمِّ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا. وَبِلُزُومِ شُرُوطِ الْعِلْمِ. وَهُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ. فَإِنَّ رَجَاءَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِحُصُولِ ذَلِكَ لَهُمْ، وَاسْتِقْصَاءِ حُدُودِ الْحَمِيَّةِ. وَ " الْحَمِيَّةُ " الْعِصْمَةُ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ تَنَاوُلِ مَا يُخْشَى ضَرَرُهُ آجِلًا أَوْ عَاجِلًا. وَلَهُ حُدُودٌ مَتَى خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْهَا انْتَقَضَ عَلَيْهِ مَطْلُوبُهُ، وَالْوُقُوفُ عَلَى حُدُودِهَا بِلُزُومِ شُرُوطِ الْعِلْمِ. وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ بِأَمْرَيْنِ: بَذْلِ الْجُهْدِ فِي مَعْرِفَتِهَا عِلْمًا، وَأَخْذِ النَّفْسِ

الدرجة الثالثة رجاء أرباب القلوب

بِالْوُقُوفِ عِنْدَهَا طَلَبًا وَقَصْدًا. [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ رَجَاءُ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: رَجَاءُ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ. وَهُوَ رَجَاءُ لِقَاءِ الْخَالِقِ الْبَاعِثِ عَلَى الِاشْتِيَاقِ، الْمُبَغِّضِ الْمُنَغِّصِ لِلْعَيْشِ، الْمُزَهِّدِ فِي الْخَلْقِ. هَذَا الرَّجَاءُ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الرَّجَاءِ وَأَعْلَاهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5] . وَهَذَا الرَّجَاءُ هُوَ مَحْضُ الْإِيمَانِ وَزُبْدَتُهُ، وَإِلَيْهِ شَخَصَتْ أَبْصَارُ الْمُشْتَاقِينَ. وَلِذَلِكَ سَلَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِتْيَانِ أَجَلِ لِقَائِهِ. وَضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا يُسَكِّنُ نُفُوسَهُمْ وَيُطَمْئِنُهَا. وَالِاشْتِيَاقُ هُوَ سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ مَحْبُوبِهِ. وَاخْتَلَفَ الْمُحِبُّونَ: هَلْ يَبْقَى عِنْدَ لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ أَمْ يَزُولُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَزُولُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْغَيْبَةِ. وَهُوَ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ. فَإِذَا انْتَهَى السَّفَرُ، وَاجْتَمَعَ بِمَحْبُوبِهِ، وَضَعَ عَصَا الِاشْتِيَاقِ عَنْ عَاتِقِهِ. وَصَارَ الِاشْتِيَاقُ أُنْسًا بِهِ وَلَذَّةً بِقُرْبِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يَزِيدُ وَلَا يَزُولُ بِاللِّقَاءِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْحُبَّ يَقْوَى بِمُشَاهَدَةِ جَمَالِ الْمَحْبُوبِ أَضْعَافَ مَا كَانَ حَالَ غَيْبَتِهِ. وَإِنَّمَا يُوَارِي سُلْطَانُهُ فَنَاءَهُ وَدَهْشَتَهُ بِمُعَايَنَةِ مَحْبُوبِهِ، حَتَّى إِذَا تَوَارَى عَنْهُ ظَهَرَ سُلْطَانُ شَوْقِهِ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قِيلَ: وَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ الشَّوْقُ يَوْمًا ... إِذَا دَنَتِ الْخِيَامُ مِنَ الْخِيَامِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَقْصَاةً وَتَوَابِعَهَا فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ فِي الْمَحَبَّةِ. وَفِي كِتَابِ " سَفَرُ الْهِجْرَتَيْنِ ". وَسَنَعُودُ إِلَيْهَا إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى مَنْزِلَتِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ " الْمُنَغِّصُ لِلْعَيْشِ " فَلَا رَيْبَ أَنَّ عَيْشَ الْمُشْتَاقِ مُنَغَّصٌ حَتَّى يَلْقَى مَحْبُوبَهُ. فَهُنَاكَ تَقَرُّ عَيْنُهُ. وَيَزُولُ عَنْ عَيْشِهِ تَنْغِيصُهُ. وَكَذَلِكَ يَزْهَدُ فِي الْخَلْقِ غَايَةَ التَّزْهِيدِ؛ لِأَنَّ

فصل منزلة الرغبة

صَاحِبَهُ طَالِبٌ لِلْأُنْسِ بِاللَّهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ. فَهُوَ أَزْهَدُ شَيْءٍ فِي الْخَلْقِ، إِلَّا مَنْ أَعَانَهُ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ مِنْهُمْ وَأَوْصَلَهُ إِلَيْهِ. فَهُوَ أَحَبُّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ. وَلَا يَأْنَسُ مِنَ الْخَلْقِ بِغَيْرِهِ. وَلَا يَسْكُنُ إِلَى سِوَاهُ. فَعَلَيْكَ بِطَلَبِ هَذَا الرَّفِيقِ جُهْدَكَ. فَإِنْ لَمْ تَظْفَرْ بِهِ فَاتَّخِذِ اللَّهَ صَاحِبًا. وَدَعِ النَّاسَ كُلَّهُمْ جَانِبًا. مُتْ بِدَاءِ الْهَوَى، وَإِلَّا فَخَاطِرْ ... وَاطْرُقِ الْحَيَّ وَالْعُيُونَ نَوَاظِرْ لَا تَخَفْ وَحْشَةَ الطَّرِيقِ إِذَا جِئْ ... تَ وَكُنْ فِي خِفَارَةِ الْحُبِّ سَائِرْ وَاصْبِرِ النَّفْسَ سَاعَةً عَنْ سِوَاهُمْ فَإِذَا لَمْ تُجَبْ لِصَبْرٍ فَصَابِرْ ... وَصُمِ الْيَوْمَ وَاجْعَلِ الْفِطْرَ يَوْمًا فِيهِ تَلْقَى الْحَبِيبَ بِالْبِشْرِ شَاكِرْ ... وَافْطُمِ النَّفْسَ عَنْ سِوَاهُ فَكُلُّ الْ عَيْشِ بَعْدَ الْفِطَامِ نَحْوَكَ صَائِرْ ... وَتَأَمَّلْ سَرِيرَةَ الْقَلْبِ وَاسْتَحِ يِ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرْ ... وَاجْعَلِ الْهَمَّ وَاحِدًا يَكْفِكَ اللَّهُ هُمُومًا شَتَّى فَرَبُّكَ قَادِرْ ... وَانْتَظِرْ يَوْمَ دَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ رَبِّهِمْ مِنْ بُطُونِ الْمَقَابِرْ ... وَاسْتَمِعْ مَا الَّذِي بِهِ أَنْتَ تُدْعَى بِهِ مِنْ صِفَاتٍ تَلُوحُ وَسْطَ الْمَحَاضِرْ ... وَسِمَاتٍ تَبْدُو عَلَى أَوْجُهِ الْخَلْ قِ عَيَانًا تُجَلَّى عَلَى كُلِّ نَاظِرْ ... يَا أَخَا اللُّبِّ، إِنَّمَا السَّيْرُ عَزْمٌ ثُمَّ صَبْرٌ مُؤَيَّدٌ بِالْبَصَائِرْ ... يَا لَهَا مِنْ ثَلَاثَةٍ مَنْ يَنَلْهَا يَرْقَ يَوْمَ الْمَزِيدِ فَوْقَ الْمَنَابِرْ ... فَاجْتَهِدْ فِي الَّذِي يُقَالُ لَكَ الْ بُشْرَى بِذَا، يَوْمَ ضَرْبِ الْبَشَائِرْ ... عَمَلٌ خَالِصٌ بِمِيزَانِ وَحْيٍ مَعَ سِرٍّ هُنَاكَ فِي الْقَلْبِ حَاضِرْ [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الرَّغْبَةِ] [الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّغْبَةِ وَالرَّجَاءِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الرَّغْبَةِ وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الرَّغْبَةِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّغْبَةِ وَالرَّجَاءِ أَنَّ الرَّجَاءَ طَمَعٌ. وَالرَّغْبَةُ طَلَبٌ. فَهِيَ ثَمَرَةُ الرَّجَاءِ. فَإِنَّهُ إِذَا رَجَا الشَّيْءَ طَلَبَهُ. وَالرَّغْبَةُ مِنَ الرَّجَاءِ كَالْهَرَبِ مِنَ الْخَوْفِ. فَمَنْ رَجَا شَيْئًا طَلَبَهُ وَرَغِبَ فِيهِ. وَمَنْ خَافَ شَيْئًا هَرَبَ مِنْهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرَّاجِيَ طَالِبٌ، وَالْخَائِفَ هَارِبٌ. قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ":

درجات الرغبة

الرَّغْبَةُ هِيَ مِنَ الرَّجَاءِ بِالْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الرَّجَاءَ طَمَعٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْقِيقٍ وَالرَّغْبَةُ سُلُوكٌ عَلَى التَّحْقِيقِ. أَيِ الرَّغْبَةُ تَتَوَلَّدُ مِنَ الرَّجَاءِ. لَكِنَّهُ طَمَعٌ. وَهِيَ سُلُوكٌ وَطَلَبٌ. وَقَوْلُهُ: الرَّجَاءُ طَمَعٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْقِيقِ أَيْ طَمَعٌ فِي مَغِيبٍ عَنْهُ مَشْكُوكٍ فِي حُصُولِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَحَقِّقًا فِي نَفْسِهِ، كَرَجَاءِ الْعَبْدِ دُخُولَ الْجَنَّةِ. فَإِنَّ الْجَنَّةَ مُتَحَقِّقَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا. وَإِنَّمَا الشَّكُّ فِي دُخُولِهِ إِلَيْهَا. وَهَلْ يُوَافِي رَبَّهُ بِعَمَلٍ يَمْنَعُهُ مِنْهَا أَمْ لَا؟ بِخِلَافِ الرَّغْبَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ مَا يَرْغَبُ فِيهِ. فَالْإِيمَانُ فِي الرَّغْبَةِ أَقْوَى مِنْهُ فِي الرَّجَاءِ. فَلِذَلِكَ قَالَ: وَالرَّغْبَةُ سُلُوكٌ عَلَى التَّحْقِيقِ. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّ الرَّغْبَةَ أَيْضًا طَلَبُ مَغِيبٍ، هُوَ عَلَى شَكٍّ مِنْ حُصُولِهِ. فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرْغَبُ فِي الْجَنَّةِ وَلَيْسَ بِجَازِمٍ بِدُخُولِهَا. فَالْفَرْقُ الصَّحِيحُ أَنَّ الرَّجَاءَ طَمَعٌ وَالرَّغْبَةُ طَلَبٌ. فَإِذَا قَوِيَ الطَّمَعُ صَارَ طَلَبًا. [دَرَجَاتُ الرَّغْبَةِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى رَغْبَةُ أَهْلِ الْخَبَرِ] قَالَ: وَالرَّغْبَةُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: رَغْبَةُ أَهْلِ الْخَبَرِ. تَتَوَلَّدُ مِنَ الْعِلْمِ. فَتَبْعَثُ عَلَى الِاجْتِهَادِ الْمَنُوطِ بِالشُّهُودِ. وَتَصُونُ السَّالِكَ عَنْ وَهَنِ الْفَتْرَةِ وَتَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى غَثَاثَةِ الرُّخَصِ. أَرَادَ بِالْخَبَرِ هَاهُنَا الْإِيمَانَ الصَّادِرَ عَنِ الْأَخْبَارِ. وَلِهَذَا جَعَلَ تَوَلُّدَهَا مِنَ الْعِلْمِ. وَلَكِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ مُتَّصِلٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْسَانِ مِنْهُ، يُشْرِفُ عَلَيْهِ، وَيَصِلُ إِلَيْهِ. وَلِهَذَا قَالَ: الْمَنُوطُ بِالْمَشْهُودِ. أَيِ الْمُقْتَرِنُ بِالشُّهُودِ. وَذَلِكَ الشُّهُودُ: هُوَ مَشْهَدُ مَقَامِ الْإِحْسَانِ. وَهُوَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. وَلَا مَشْهَدَ لِلْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا أَعْلَى مِنْ هَذَا. وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ فَوْقَهُ مَشْهَدًا أَعْلَى مِنْهُ. وَهُوَ شُهُودُ الْحَقِّ مَعَ غَيْبَتِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَهُوَ مَقَامُ الْفَنَاءِ. وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ. وَلَوْ كَانَ فَوْقَ مَقَامِ الْإِحْسَانِ مَقَامٌ آخَرُ لَذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ. وَلَسَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنْهُ. فَإِنَّهُ جَمَعَ مَقَامَاتِ الدِّينِ كُلَّهَا فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ.

نَعَمْ الْفَنَاءُ الْمَحْمُودُ هُوَ تَحْقِيقُ مَقَامِ الْإِحْسَانِ. وَهُوَ أَنْ يَفْنَى بِحُبِّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَعِبَادَتِهِ، وَالتَّبَتُّلِ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَلَيْسَ فَوْقَ ذَلِكَ مَقَامٌ يُطْلَبُ إِلَّا مَا هُوَ مِنْ عَوَارِضَ الطَّرِيقِ. قَوْلُهُ: وَتَصُونُ السَّالِكَ عَنْ وَهَنِ الْفَتْرَةِ؛ أَيْ تَحَفَظُهُ عَنْ وَهَنِ فُتُورِهِ وَكَسَلِهِ، الَّذِي سَبَّبَهُ عَدَمُ الرَّغْبَةِ أَوْ قِلَّتُهَا. وَقَوْلُهُ: وَتَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى غَثَاثَةِ الرُّخَصِ. أَهْلُ الْعَزَائِمِ بِنَاءُ أَمْرِهِمْ عَلَى الْجِدِّ وَالصِّدْقِ. فَالسُّكُونُ مِنْهُمْ إِلَى الرُّخَصِ رُجُوعٌ وَبَطَالَةٌ. وَهَذَا مَوْضِعٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ. لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ. فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ. وَفِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» . فَجَعَلَ الْأَخْذَ بِالرُّخَصِ قُبَالَةَ إِتْيَانِ الْمَعَاصِي. وَجَعَلَ حَظَّ هَذَا: الْمَحَبَّةَ. وَحَظَّ هَذَا: الْكَرَاهِيَةَ. وَمَا عُرِضَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَانِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا وَالرُّخْصَةُ أَيْسَرُ مِنَ الْعَزِيمَةِ. وَهَكَذَا كَانَ حَالُهُ فِي فِطْرِهِ وَسَفَرِهِ، وَجَمْعِهِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَالِاقْتِصَارِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَنَقُولُ: الرُّخْصَةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الرُّخْصَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ الْمَعْلُومَةُ مِنَ الشَّرْعِ نَصًّا، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ قِيلَ لَهَا عَزِيمَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَمْرِ وَالْوُجُوبِ. فَهِيَ

رُخْصَةٌ بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ وَالتَّوْسِعَةِ. وَكَفِطْرِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، وَصَلَاةِ الْمَرِيضِ إِذَا شَقَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ قَاعِدًا، وَفِطْرِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ خَوْفًا عَلَى وَلَدَيْهِمَا، وَنِكَاحِ الْأَمَةِ خَوْفًا مِنَ الْعَنَتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَلَيْسَ فِي تَعَاطِي هَذِهِ الرُّخَصِ مَا يُوهِنُ رَغْبَتَهُ. وَلَا يَرُدُّ إِلَى غَثَاثَةٍ. وَلَا يُنْقِصُ طَلَبَهُ وَإِرَادَتَهُ أَلْبَتَّةَ. فَإِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَمِنْهَا مَا هُوَ رَاجِحُ الْمَصْلَحَةِ، كَفِطْرِ الصَّائِمِ الْمَرِيضِ، وَقَصْرِ الْمُسَافِرِ وَفِطْرِهِ. وَمِنْهَا مَا مَصْلَحَتُهُ لِلْمُتَرَخِّصِ وَغَيْرِهِ. فَفِيهِ مَصْلَحَتَانِ قَاصِرَةٌ وَمُتَعَدِّيَةٌ. كَفِطْرِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ. فَفِعْلُ هَذِهِ الرُّخَصِ أَرْجَحُ وَأَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهَا. النَّوْعُ الثَّانِي: رُخَصُ التَّأْوِيلَاتِ، وَاخْتِلَافُ الْمَذَاهِبِ. فَهَذِهِ تَتَبُّعُهَا حَرَامٌ يُنْقِصُ الرَّغْبَةَ، وَيُوهِنُ الطَّلَبَ، وَيَرْجِعُ بِالْمُتَرَخِّصِ إِلَى غَثَاثَةِ الرُّخَصِ. فَإِنَّ مَنْ تَرَخَّصَ بِقَوْلِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الصَّرْفِ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ فِي الْأَشْرِبَةِ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَأَصْحَابِ الْحِيَلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُتْعَةِ، وَإِبَاحَةِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ نِكَاحَ الْبَغَايَا الْمَعْرُوفَاتِ بِالْبِغَاءِ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ زَوْجَ قَحْبَةٍ، وَقَوْلِ مَنْ أَبَاحَ آلَاتِ اللَّهْوِ وَالْمَعَازِفِ مِنَ الْيَرَاعِ وَالطُّنْبُورِ، وَالْعُودِ وَالطَّبْلِ وَالْمِزْمَارِ، وَقَوْلِ مَنْ أَبَاحَ الْغِنَاءَ، وَقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ اسْتِعَارَةَ الْجَوَارِي الْحِسَانِ لِلْوَطْءِ، وَقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ لِلصَّائِمِ أَكَلَ الْبَرَدِ. وَقَالَ: لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ، وَقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ الْأَكْلَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ لِلصَّائِمِ، وَقَوْلِ مَنْ صَحَّحَ الصَّلَاةَ بِمُدْهَامَّتَانِ بِالْفَارِسِيَّةِ.

الدرجة الثانية رغبة أرباب الحال

وَرَكَعَ كَلَحْظَةِ الطَّرْفِ، ثُمَّ هَوَى مِنْ غَيْرِ اعْتِدَالٍ. وَفَصَلَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ كَحَدِّ السَّيْفِ. وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ مِنَ الصَّلَاةِ بِحَبْقَةٍ. وَقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ وَطْءَ النِّسَاءِ فِي أَعْجَازِهِنَّ، وَنِكَاحَ بِنْتِهِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ مَائِهِ، الْخَارِجَةِ مِنْ صُلْبِهِ حَقِيقَةً، إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْحَمْلُ مِنْ زِنًى، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ. فَهَذَا الَّذِي تَنْقُصُ بِتَرَخُّصِهِ رَغْبَتُهُ، وَيُوهِنُ طَلَبُهُ. وَيُلْقِيهِ فِي غَثَاثَةِ الرُّخَصِ. فَهَذَا لَوْنٌ وَالْأَوَّلُ لَوْنٌ. [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ رَغْبَةُ أَرْبَابِ الْحَالِ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ رَغْبَةُ أَرْبَابِ الْحَالِ. وَهِيَ رَغْبَةٌ لَا تُبْقِي مِنَ الْمَجْهُودِ مَبْذُولًا. وَلَا تَدَعُ لِلْهِمَّةِ ذُبُولًا. وَلَا تَتْرُكُ غَيْرَ الْقَصْدِ مَأْمُولًا. يَعْنِي أَنَّ الرَّغْبَةَ الْحَاصِلَةَ لِأَرْبَابِ الْحَالِ فَوْقَ رَغْبَةِ أَصْحَابِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَالِ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى رَغْبَتِهِ وَإِرَادَتِهِ. فَهُوَ كَالْفَرَاشِ الَّذِي إِذَا رَأَى النُّورَ أَلْقَى نَفْسَهُ فِيهِ. وَلَا يُبَالِي مَا أَصَابَهُ. فَرَغْبَتُهُ لَا تَدَعُ مِنْ مَجْهُودِهِ مَقْدُورًا لَهُ إِلَّا بَذَلَهُ. وَلَا تَدَعُ لِهِمَّتِهِ وَعَزِيمَتِهِ فَتْرَةً وَلَا خُمُودًا، وَعَزِيمَتُهُ فِي مَزِيدٍ بِعَدَدِ الْأَنْفَاسِ. وَلَا تَتْرُكُ فِي قَلْبِهِ نَصِيبًا لِغَيْرِ مَقْصُودِهِ، وَذَلِكَ لِغَلَبَةِ سُلْطَانِ الْحَالِ. وَصَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ لَا يُقَاوِمُهُ إِلَّا حَالٌ مِثْلُ حَالِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ. وَمَتَى لَمْ يُصَادِفْهُ حَالٌ تُعَارِضُهُ فَلَهُ مِنَ النُّفُوذِ وَالتَّأْثِيرِ بِحَسَبِ حَالِهِ. [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ رَغْبَةُ أَهْلِ الشُّهُودِ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: رَغْبَةُ أَهْلِ الشُّهُودِ. وَهِيَ تَشَرُّفٌ يَصْحَبُهُ تَقِيَّةٌ. تَحْمِلُهُ عَلَيْهَا هِمَّةٌ نَقِيَّةٌ. لَا تُبْقِي مَعَهُ مِنَ التَّفَرُّقِ بَقِيَّةً. يُشِيرُ الشَّيْخُ بِذَلِكَ إِلَى حَالَةِ الْفَنَاءِ الَّتِي يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا هِمَّةٌ نَقِيَّةٌ مِنْ أَدْنَاسِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا سِوَى الْحَقِّ. بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مَعَهُ بَقِيَّةٌ مِنْ تَفْرِقَةٍ. بَلْ قَدِ اجْتَمَعَ شَاهِدُهُ كُلُّهُ وَانْحَصَرَ فِي مَشْهُودِهِ. وَأَرَادَ بِالشُّهُودِ هَاهُنَا شُهُودَ الْحَقِيقَةِ. وَقَوْلُهُ: تَشَرُّفٌ؛ أَيِ اسْتَشْرَفَ الْغَيْبَةَ فِي الْفَنَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَشَرُّفًا عَنِ الْتِفَاتِهِ إِلَى مَا سِوَى مَشْهُودِهِ.

فصل منزلة الرعاية

وَالتَّقِيَّةُ الَّتِي تَصْحَبُ هَذَا التَّشَرُّفَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا التَّقِيَّةَ مِنْ إِظْهَارِ النَّاسِ عَلَى حَالِهِ، وَإِطْلَاعِهِمْ عَلَيْهَا، صِيَانَةً لَهَا وَغَيْرَةً عَلَيْهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْحَذَرَ مِنَ الْتِفَاتِهِ فِي شُهُودِهِ إِلَى مَا سِوَى حَضْرَةِ مَشْهُودِهِ. فَهِيَ تَتَّقِي ذَلِكَ الِالْتِفَاتَ وَتَحْذَرُهُ كُلَّ الْحَذَرِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى هَذِهِ الرَّغْبَةِ. وَهِيَ اللَّطِيفَةُ الْمُدْرِكَةُ الْمُرِيدَةُ الَّتِي قَدْ تَطَهَّرَتْ قَبْلَ وُصُولِهَا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ. وَهِيَ الْهِمَّةُ النَّقِيَّةُ. وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا كَمَالُ الطَّهَارَةِ لَبَقِيَتْ عَلَيْهَا بَقِيَّةٌ مِنْهَا تَمْنَعُهَا مِنْ وُصُولِهَا إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الرِّعَايَةِ] [حَقِيقَةُ الرِّعَايَةِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الرِّعَايَةِ وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الرِّعَايَةِ. وَهِيَ مُرَاعَاةُ الْعِلْمِ وَحِفْظُهُ بِالْعَمَلِ. وَمُرَاعَاةُ الْعَمَلِ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِخْلَاصِ. وَحِفْظُهُ مِنَ الْمُفْسِدَاتِ. وَمُرَاعَاةُ الْحَالِ بِالْمُوَافَقَةِ. وَحِفْظُهُ بِقَطْعِ التَّفْرِيقِ. فَالرِّعَايَةُ صِيَانَةٌ وَحِفْظٌ. وَمَرَاتِبُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ثَلَاثَةٌ: رِوَايَةٌ: وَهِيَ مُجَرَّدُ النَّقْلِ وَحَمْلِ الْمُرْوِيِّ. وَدِرَايَةٌ: وَهِيَ فَهْمُهُ وَتَعَقُّلُ مَعْنَاهُ. وَرِعَايَةٌ: وَهِيَ الْعَمَلُ بِمُوجِبِ مَا عَلِمَهُ وَمُقْتَضَاهُ. فَالنَّقَلَةُ هَمَّتْهُمُ الرِّوَايَةُ. وَالْعُلَمَاءُ هَمَّتْهُمُ الدِّرَايَةُ. وَالْعَارِفُونَ هَمَّتْهُمُ الرِّعَايَةُ. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ لَمْ يَرْعَ مَا اخْتَارَهُ وَابْتَدَعَهُ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ حَقَّ رِعَايَتِهِ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] . " رَهْبَانِيَّةً " مَنْصُوبٌ بِ " ابْتَدَعُوهَا " عَلَى الِاشْتِغَالِ. إِمَّا بِنَفْسِ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ - عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ - وَإِمَّا بِمُقَدَّرٍ مَحْذُوفٍ مُفَسَّرٌ بِهَذَا الْمَذْكُورِ - عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ - أَيْ: وَابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً. وَلَيْسَ مَنْصُوبًا بِوُقُوعِ الْجَعْلِ عَلَيْهِ. فَالْوُقُوفُ التَّامُّ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَرَحْمَةً} [الحديد: 27] ثُمَّ يَبْتَدِئُ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27] أَيْ: لَمْ نَشْرَعْهَا لَهُمْ. بَلْ هُمُ ابْتَدَعُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ نَكْتُبْهَا عَلَيْهِمْ. وَفِي نَصْبِ قَوْلِهِ: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27] ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ.

فصل درجات الرعاية

أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ لَمْ نَكْتُبْهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ. وَهَذَا فَاسِدٌ. فَإِنَّهُ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ. كَيْفَ وَقَدْ أَخْبَرَ: أَنَّهُمْ هُمُ ابْتَدَعُوهَا. فَهِيَ مُبْتَدَعَةٌ غَيْرُ مَكْتُوبَةٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَفْعُولَ لِأَجْلِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِفِعْلِ الْفَاعِلِ الْمَذْكُورِ مَعَهُ. فَيَتَّحِدُ السَّبَبُ وَالْغَايَةُ. نَحْوُ: قُمْتُ إِكْرَامًا. فَالْقَائِمُ هُوَ الْمُكْرِمُ. وَفِعْلُ الْفَاعِلِ الْمُعَلَّلِ هَاهُنَا هُوَ الْكِتَابَةُ وَ " {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27] " فِعْلُهُمْ، لَا فِعْلُ اللَّهِ. فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِفِعْلِ اللَّهِ. لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ. وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ مَفْعُولِ " كَتَبْنَاهَا "؛ أَيْ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ. وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ إِذْ لَيْسَ ابْتِغَاءُ رِضْوَانِ اللَّهِ عَيْنَ الرَّهْبَانِيَّةِ، فَتَكُونُ بَدَلَ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ. وَلَا بَعْضَهَا، فَتَكُونُ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ. وَلَا أَحَدُهُمَا مُشْتَمِلٌ عَلَى الْآخَرِ. فَتَكُونُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ. وَلَيْسَ بَدَلَ غَلَطٍ. فَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ نَصْبَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ. أَيْ لَمْ يَفْعَلُوهَا وَلَمْ يَبْتَدِعُوهَا إِلَّا لِطَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ " ابْتَدَعُوهَا " ثُمَّ ذَكَرَ الْحَامِلَ لَهُمْ وَالْبَاعِثَ عَلَى ابْتِدَاعِ هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ هُوَ طَلَبُ الرِّضْوَانِ. ثُمَّ ذَمَّهُمْ بِتَرْكِ رِعَايَتِهَا؛ إِذْ مَنِ الْتَزَمَ لِلَّهِ شَيْئًا لَمْ يُلْزِمْهُ اللَّهُ إِيَّاهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرَبِ لَزِمَهُ رِعَايَتَهُ وَإِتْمَامَهُ. حَتَّى أَلْزَمَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ شَرَعَ فِي طَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ حُكْمُهُ بِإِتْمَامِهَا. وَجَعَلُوا الْتِزَامَهَا بِالشُّرُوعِ كَالْتِزَامِهَا بِالنَّذْرِ. كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ إِجْمَاعٌ - أَوْ كَالْإِجْمَاعِ - فِي أَحَدِ النُّسُكَيْنِ. قَالُوا: وَالِالْتِزَامُ بِالشُّرُوعِ أَقْوَى مِنَ الِالْتِزَامِ بِالْقَوْلِ. فَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ وَفَاءً، يَجِبُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ مَا الْتَزَمَهُ بِالْفِعْلِ إِتْمَامًا. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَالْقَصْدُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَمَّ مَنْ لَمْ يَرْعَ قُرْبَةً ابْتَدَعَهَا لِلَّهِ تَعَالَى حَقَّ رِعَايَتِهَا؛ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَرْعَ قُرْبَةً شَرَعَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَأَذِنَ بِهَا وَحَثَّ عَلَيْهَا؟ ! [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الرِّعَايَةِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى رِعَايَةُ الْأَعْمَالِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الرِّعَايَةُ صَوْنٌ بِالْعِنَايَةِ. وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الرِّعَايَةِ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: رِعَايَةُ الْأَعْمَالِ. وَالثَّانِيَةُ: رِعَايَةُ الْأَحْوَالِ. وَالثَّالِثَةُ: رِعَايَةُ الْأَوْقَاتِ.

فَأَمَّا رِعَايَةُ الْأَعْمَالِ فَتَوْفِيرُهَا بِتَحْقِيرِهَا. وَالْقِيَامُ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَيْهَا. وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى مَجْرَى الْعِلْمِ، لَا عَلَى التَّزَيُّنِ بِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: صَوْنٌ بِالْعِنَايَةِ أَيْ حِفْظٌ بِالِاعْتِنَاءِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّ الشَّيْءِ الَّذِي يَرْعَاهُ. وَمِنْهُ رَاعِي الْغَنَمِ. وَقَوْلُهُ: أَمَّا رِعَايَةُ الْأَعْمَالِ: فَتَوْفِيرُهَا بِتَحْقِيرِهَا. فَالتَّوْفِيرُ: سَلَامَةٌ مِنْ طَرَفَيِ التَّفْرِيطِ بِالنَّقْصِ، وَالْإِفْرَاطِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فِي حُدُودِهَا وَصِفَاتِهَا وَشُرُوطِهَا وَأَوْقَاتِهَا. وَأَمَّا تَحْقِيرُهَا فَاسْتِصْغَارُهَا فِي عَيْنِهِ. وَاسْتِقْلَالُهَا، وَأَنَّ مَا يَلِيقُ بِعَظْمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَحُقُوقِ عُبُودِيَّتِهِ أَمْرٌ آخَرُ. وَأَنَّهُ لَمْ يُوَفِّهِ حَقَّهُ. وَأَنَّهُ لَا يَرْضَى لِرَبِّهِ بِعَمَلِهِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهُ. وَقَدْ قِيلَ: عَلَامَةُ رِضَا اللَّهِ عَنِ الْإِنْسَانِ عَنْكَ إِعْرَاضُكَ عَنْ نَفْسِكَ. وَعَلَامَةُ قَبُولِ عَمَلِكَ عَلَامَةُ قَبُولِ الْعَمَلِ احْتِقَارُهُ وَاسْتِقْلَالُهُ، وَصِغَرُهُ فِي قَلْبِكَ. حَتَّى إِنَّ الْعَارِفَ لَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عُقَيْبَ طَاعَتِهِ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ ثَلَاثًا. وَأَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ عُقَيْبَ الْحَجِّ. وَمَدَحَهُمْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ عُقَيْبَ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَشَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقَيْبَ الطُّهُورِ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ. فَمَنْ شَهِدَ وَاجِبَ رَبِّهِ وَمِقْدَارَ عَمَلِهِ، وَعَيْبَ نَفْسِهِ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ اسْتِغْفَارِ رَبِّهِ مِنْهُ، وَاحْتِقَارِهِ إِيَّاهُ وَاسْتِصْغَارِهِ. وَأَمَّا الْقِيَامُ بِهَا فَهُوَ تَوْفِيَتُهَا حَقَّهَا، وَجَعْلُهَا قَائِمَةً كَالشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، وَالشَّجَرَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى سَاقِهَا الَّتِي لَيْسَتْ بِسَاقِطَةٍ. وَقَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَيْهَا؛ أَيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهَا وَيُعَدِّدَهَا وَيَذْكُرَهَا مَخَافَةَ الْعَجَبِ وَالْمِنَّةِ بِهَا. فَيَسْقُطُ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ. وَيَحْبَطُ عَمَلُهُ. وَقَوْلُهُ: وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى مَجْرَى الْعِلْمِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ الْمَأْخُوذِ

الدرجة الثانية رعاية الأحوال

مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، إِخْلَاصًا لِلَّهِ. وَإِرَادَةً لِوَجْهِهِ. وَطَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ، لَا عَلَى وَجْهِ التَّزَيُّنِ بِهَا عِنْدَ النَّاسِ. [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ رِعَايَةُ الْأَحْوَالِ] قَالَ: وَأَمَّا رِعَايَةُ الْأَحْوَالِ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الرِّعَايَةِ فَهُوَ أَنْ يَعُدَّ الِاجْتِهَادَ مُرَاءَاةً، وَالْيَقِينَ تَشَبُّعًا، وَالْحَالَ دَعْوَى. أَيْ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي اجْتِهَادِهِ أَنَّهُ رَاءَى النَّاسَ. فَلَا يَطْغَى بِهِ. وَلَا يَسْكُنُ إِلَيْهِ. وَلَا يَعْتَدُّ بِهِ. وَأَمَّا عَدُّهُ الْيَقِينَ تَشَبُّعًا. فَالتَّشَبُّعُ: افْتِخَارُ الْإِنْسَانِ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» . وَعَدُّ الْيَقِينِ تَشَبُّعًا: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْيَقِينِ لَمْ يَكُنْ بِهِ، وَلَا مِنْهُ، وَلَا اسْتَحَقَّهُ بَعِوَضٍ. وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلُ اللَّهِ وَعَطَاؤُهُ، وَوَدِيعَتُهُ عِنْدَهُ، وَمُجَرَّدُ مِنَّتِهِ عَلَيْهِ. فَهُوَ خُلْعَةٌ خَلَعَهَا سَيِّدُهُ عَلَيْهِ. وَالْعَبْدُ وَخُلْعَتُهُ مِلْكُهُ وَلَهُ. فَمَا لِلْعَبْدِ فِي الْيَقِينِ مَدْخَلٌ. وَإِنَّمَا هُوَ مُتَشَبِّعٌ بِمَا هُوَ مِلْكٌ لِلَّهِ وَفَضْلُهُ وَمِنَّتُهُ عَلَى عَبْدِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّهِمَ يَقِينَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْيَقِينُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، بَلْ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْهُ هُوَ كَالْعَارِيَّةِ لَا الْمِلْكِ الْمُسْتَقِرِّ، فَهُوَ مُتَشَبِّعٌ بِزَعْمِ نَفْسِهِ بِأَنَّ الْيَقِينَ مِلْكُهُ وَلَهُ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْيَقِينِ، بَلْ بِسَائِرِ الْأَحْوَالِ. فَالصَّادِقُ يَعُدُّ صِدْقَهُ تَشَبُّعًا. وَكَذَا الْمُخْلِصُ يَعُدُّ إِخْلَاصَهُ. وَكَذَا الْعَالَمُ. لِاتِّهَامِهِ لِصِدْقِهِ وَإِخْلَاصِهِ وَعِلْمِهِ. وَأَنَّهُ لَمْ تَرْسَخْ قَدَمُهُ فِي ذَلِكَ. وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ فِيهِ مِلْكَةً. فَهُوَ كَالْمُتَشَبِّعِ بِهِ. وَلَمَّا كَانَ الْيَقِينُ رُوحَ الْأَعْمَالِ وَعَمُودَهَا، وَذُرْوَةَ سِنَامِهَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ. تَنْبِيهًا عَلَى مَا دُونَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي حُصُولِ الْيَقِينِ. فَإِذَا حَصَلَ فَلَيْسَ حُصُولُهُ بِهِ وَلَا مِنْهُ، وَلَا لَهُ فِيهِ شَيْءٌ، فَهُوَ يَذُمُّ نَفْسَهُ فِي عَدَمِ حُصُولِهِ. وَلَا يَحْمَدُهَا عِنْدَ حُصُولِهِ. وَأَمَّا عَدُّ الْحَالِ دَعْوَى؛ أَيْ دَعْوَى كَاذِبَةً، اتِّهَامًا لِنَفْسِهِ، وَتَطْهِيرًا لَهَا مِنْ رُعُونَةِ

فصل الدرجة الثالثة رعاية الأوقات

الدَّعْوَى، وَتَخْلِيصًا لِلْقَلْبِ مِنْ نَصِيبِ الشَّيْطَانِ. فَإِنَّ الدَّعْوَى مِنْ نَصِيبِ الشَّيْطَانِ. وَكَذَلِكَ الْقَلْبُ السَّاكِنُ إِلَى الدَّعْوَى مَأْوَى الشَّيْطَانِ. أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنَ الدَّعْوَى وَمِنَ الشَّيْطَانِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ رِعَايَةُ الْأَوْقَاتِ] فَصْلٌ قَالَ وَأَمَّا: رِعَايَةُ الْأَوْقَاتِ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الرِّعَايَةِ فَأَنْ يَقِفَ مَعَ كُلِّ خُطْوَةٍ. ثُمَّ أَنْ يَغِيبَ عَنْ حُضُورِهِ بِالصَّفَاءِ مِنْ رَسْمِهِ. ثُمَّ أَنْ يَذْهَبَ عَنْ شُهُودِ صَفْوِ صَفْوِهِ. أَيْ يَقِفَ مَعَ حَرَكَةِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ بِمِقْدَارِ تَصْحِيحِهَا نِيَّةً وَقَصْدًا وَإِخْلَاصًا وَمُتَابَعَةً، فَلَا يَخْطُوَ هَجْمًا وَهَمَجًا، بَلْ يَقِفَ قَبْلَ الْخَطْوِ حَتَّى يُصَحِّحَ الْخُطْوَةَ، ثُمَّ يَنْقُلَ قَدَمَ عَزْمِهِ. فَإِذَا صَحَّتْ لَهُ وَنَقَلَ قَدَمَهُ انْفَصَلَ عَنْهَا. وَقَدْ صَحَّتِ الْغَيْبَةُ عَنْ شُهُودِهَا وَرُؤْيَتِهَا. فَيَغِيبُ عَنْ شُهُودِ تَقَدُّمِهِ بِنَفْسِهِ. فَإِنَّ رَسْمَهُ هُوَ نَفْسُهُ. فَإِذَا غَابَ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ وَتَقَدُّمِهِ بِهَا فِي كُلِّ خُطْوَةٍ. فَذَلِكَ عَيْنُ الصَّفَاءِ مِنْ رَسْمِهِ الَّذِي هُوَ نَفْسُهُ. فَعِنْدَ ذَلِكَ يُشَاهِدُ فَضْلَ رَبِّهِ. وَلَمَّا كَانَتِ النَّفْسُ مَحَلَّ الْأَكْدَارِ. سُمِّيَ انْفِصَالُهُ عَنْهَا صَفَاءً. وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَسْتَدْعِي لُطْفَ إِدْرَاكٍ، وَاسْتِعْدَادًا مِنَ الْعَبْدِ. وَذَلِكَ عَيْنُ الْمِنَّةُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا ذَهَابُهُ عَنْ شُهُودِ صَفْوِهِ أَيْ لَا يَسْتَحْضِرُهُ فِي قَلْبِهِ. وَيَشْهَدُ ذَلِكَ الصَّفْوَ الْمَطْلُوبَ. وَيَقِفُ عِنْدَهُ. فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَقَايَا النَّفْسِ وَأَحْكَامِهَا، وَهُوَ كَدَرٌ. فَإِذَا تَخَلَّصَ مِنَ الْكَدَرِ لَا يَنْبَغِي لَهُ الِالْتِفَاتُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ. فَيَصْفُوَ مِنَ الرَّسْمِ. وَيَغِيبَ عَنِ الصَّفْوِ بِمُشَاهَدَةِ الْمَطْلَبِ الْأَعْلَى. وَالْمَقْصِدِ الْأَسْنَى. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْمُرَاقَبَةِ] [حَقِيقَةُ الْمُرَاقَبَةِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْمُرَاقَبَةِ وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْمُرَاقَبَةُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] . وَقَالَ تَعَالَى:

: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ «سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِحْسَانِ؟ فَقَالَ لَهُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . الْمُرَاقَبَةُ تَعْرِيفُهَا: دَوَامُ عِلْمِ الْعَبْدِ، وَتَيَقُّنِهِ بِاطِّلَاعِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ. فَاسْتَدَامَتُهُ لِهَذَا الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ هِيَ الْمُرَاقَبَةُ وَهِيَ ثَمَرَةُ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَقِيبٌ عَلَيْهِ، نَاظِرٌ إِلَيْهِ، سَامِعٌ لِقَوْلِهِ. وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَى عَمَلِهِ كُلَّ وَقْتٍ وَكُلَّ لَحْظَةٍ، وَكُلَّ نَفَسٍ وَكُلَّ طَرْفَةِ عَيْنٍ. وَالْغَافِلُ عَنْ هَذَا بِمَعْزِلٍ عَنْ حَالِ أَهْلِ الْبِدَايَاتِ. فَكَيْفَ بِحَالِ الْمُرِيدِينَ؟ فَكَيْفَ بِحَالِ الْعَارِفِينَ؟ . قَالَ الْجَرِيرِيُّ: مَنْ لَمْ يُحَكِّمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّقْوَى وَالْمُرَاقَبَةَ: لَمْ يَصِلْ إِلَى الْكَشْفِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَقِيلَ: مَنْ رَاقَبَ اللَّهَ فِي خَوَاطِرِهِ، عَصَمَهُ فِي حَرَكَاتِ جَوَارِحِهِ. وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: مَتَى يَهُشُّ الرَّاعِي غَنَمَهُ بِعَصَاهُ عَنْ مَرَاتِعَ الْهَلَكَةِ؟ فَقَالَ: إِذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ رَقِيبًا. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: مَنْ تَحَقَّقَ فِي الْمُرَاقَبَةِ خَافَ عَلَى فَوَاتِ لَحْظَةٍ مِنْ رَبِّهِ لَا غَيْرَ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: عَلَامَةُ الْمُرَاقَبَةِ إِيثَارُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَتَعْظِيمُ مَا عَظَّمَ اللَّهُ، وَتَصْغِيرُ مَا

فصل درجات المراقبة

صَغَّرَ اللَّهُ. وَقِيلَ: الرَّجَاءُ يُحَرِّكُ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْخَوْفُ يُبْعِدُ عَنِ الْمَعَاصِي، وَالْمُرَاقَبَةُ تُؤَدِّيكَ إِلَى طَرِيقِ الْحَقَائِقِ. وَقِيلَ: الْمُرَاقَبَةُ مُرَاعَاةُ الْقَلْبِ لِمُلَاحَظَةِ الْحَقِّ مَعَ كُلِّ خَطْرَةٍ وَخُطْوَةٍ. وَقَالَ الْجَرِيرِيُّ: أَمْرُنَا هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَنْ تُلْزِمَ نَفْسَكَ الْمُرَاقَبَةَ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ عَلَى ظَاهِرِكَ قَائِمًا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ: الْمُرَاقَبَةُ خُلُوصُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: أَفْضَلُ مَا يُلْزِمُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: الْمُحَاسَبَةُ وَالْمُرَاقَبَةُ، وَسِيَاسَةُ عَمَلِهِ بِالْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ لِ أَبِي عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ: إِذَا جَلَسْتَ لِلنَّاسِ فَكُنْ وَاعِظًا لِقَلْبِكَ وَنَفْسِكَ. وَلَا يَغُرَّنَّكَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَيْكَ. فَإِنَّهُمْ يُرَاقِبُونَ ظَاهِرَكَ. وَاللَّهُ يُرَاقِبُ بَاطِنَكَ. وَأَرْبَابُ الطَّرِيقِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مُرَاقَبَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخَوَاطِرِ: سَبَبٌ لِحِفْظِهَا فِي حَرَكَاتِ الظَّوَاهِرِ. فَمَنْ رَاقَبَ اللَّهَ فِي سِرِّهِ، حَفِظَهُ اللَّهُ فِي حَرَكَاتِهِ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ. وَالْمُرَاقَبَةُ هِيَ التَّعَبُّدُ بِاسْمِهِ الرَّقِيبِ، الْحَفِيظِ، الْعَلِيمِ، السَّمِيعِ، الْبَصِيرِ، فَمَنْ عَقَلَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ، وَتَعَبَّدَ بِمُقْتَضَاهَا: حَصَلَتْ لَهُ الْمُرَاقَبَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْمُرَاقَبَةِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى مُرَاقَبَةُ الْحَقِّ تَعَالَى فِي السَّيْرِ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ] قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الْمُرَاقَبَةُ: دَوَامُ مُلَاحَظَةِ الْمَقْصُودِ. وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الْمُرَاقَبَةِ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُرَاقَبَةُ الْحَقِّ تَعَالَى فِي السَّيْرِ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، بَيْنَ تَعْظِيمٍ مُذْهِلٍ، وَمُدَانَاةٍ حَامِلَةٍ. وَسُرُورٍ بَاعِثٍ. فَقَوْلُهُ: دَوَامُ مُلَاحَظَةِ الْمَقْصُودِ أَيْ دَوَامُ حُضُورِ الْقَلْبِ مَعَهُ.

وَقَوْلُهُ: بَيْنَ تَعْظِيمٍ مُذْهِلٍ فَهُوَ امْتِلَاءُ الْقَلْبِ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. بِحَيْثُ يُذْهِلُهُ ذَلِكَ عَنْ تَعْظِيمِ غَيْرِهِ، وَعَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ. فَلَا يَنْسَى هَذَا التَّعْظِيمَ عِنْدَ حُضُورِ قَلْبِهِ مَعَ اللَّهِ. بَلْ يَسْتَصْحِبُهُ دَائِمًا. فَإِنَّ الْحُضُورَ مَعَ اللَّهِ يُوجِبُ أُنْسًا وَمَحَبَّةً، إِنْ لَمْ يُقَارِنْهُمَا تَعْظِيمٌ، أَوْرَثَاهُ خُرُوجًا عَنْ حُدُودِ الْعُبُودِيَّةِ وَرُعُونَةً. فَكُلُّ حُبٍّ لَا يُقَارِنُهُ تَعْظِيمُ الْمَحْبُوبِ فَهُوَ سَبَبٌ لِلْبُعْدِ عَنْهُ، وَالسُّقُوطِ مِنْ عَيْنَيْهِ. فَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ خَمْسَةَ أُمُورٍ: سَيْرٌ إِلَى اللَّهِ، وَاسْتِدَامَةُ هَذَا السَّيْرِ، وَحُضُورُ الْقَلْبِ مَعَهُ، وَتَعْظِيمُهُ، وَالذُّهُولُ بِعَظَمَتِهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمُدَانَاةٍ حَامِلَةٍ، فَيُرِيدُ دُنُوًّا وَقُرْبًا حَامِلًا عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ. وَهَذَا الدُّنُوُّ يَحْمِلُهُ عَلَى التَّعْظِيمِ الَّذِي يُذْهِلُهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَعَنْ غَيْرِهِ. فَإِنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَ قُرْبًا مِنَ الْحَقِّ ازْدَادَ لَهُ تَعْظِيمًا، وَذُهُولًا عَنْ سِوَاهُ، وَبُعْدًا عَنِ الْخَلْقِ. وَأَمَّا السُّرُورُ الْبَاعِثُ فَهُوَ الْفَرْحَةُ وَالتَّعْظِيمُ، وَاللَّذَّةُ الَّتِي يَجِدُهَا فِي تِلْكَ الْمُدَانَاةِ، فَإِنَّ سُرُورَ الْقَلْبِ بِاللَّهِ وَفَرَحَهُ بِهِ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ بِهِ. لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا أَلْبَتَّةَ. وَلَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ يُقَاسُ بِهِ. وَهُوَ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا: إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا، إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا السُّرُورَ يَبْعَثُهُ عَلَى دَوَامِ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي طَلَبِهِ، وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَذَا السُّرُورَ، وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، فَلْيَتَّهِمْ إِيمَانَهُ وَأَعْمَالَهُ. فَإِنَّ لِلْإِيمَانِ حَلَاوَةً، مَنْ لَمْ يَذُقْهَا فَلْيَرْجِعْ، وَلْيَقْتَبِسْ نُورًا يَجِدُ بِهِ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ وَوَجَدَ حَلَاوَتَهُ. فَذَكَرَ الذَّوْقَ وَالْوَجْدَ، وَعَلَّقَهُ بِالْإِيمَانِ. فَقَالَ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» . وَقَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجْدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ - بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ - كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» .

الدرجة الثانية مراقبة نظر الحق برفض المعارضة

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ: إِذَا لَمْ تَجِدْ لِلْعَمَلِ حَلَاوَةً فِي قَلْبِكَ وَانْشِرَاحًا، فَاتَّهِمُهُ، فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى شَكُورٌ. يَعْنِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُثِيبَ الْعَامِلَ عَلَى عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَلَاوَةٍ يَجِدُهَا فِي قَلْبِهِ، وَقُوَّةِ انْشِرَاحٍ وَقُرَّةِ عَيْنٍ. فَحَيْثُ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فَعَمَلُهُ مَدْخُولٌ. [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مُرَاقَبَةُ نَظَرِ الْحَقِّ بِرَفْضِ الْمُعَارَضَةِ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُرَاقَبَةِ: مُرَاقَبَةُ نَظَرِ الْحَقِّ بِرَفْضِ الْمُعَارَضَةِ، بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الِاعْتِرَاضِ، وَنَقْضِ رُعُونَةِ التَّعَرُّضِ. هَذِهِ مُرَاقَبَةٌ لِمُرَاقَبَةِ اللَّهِ لَكَ. فَهِيَ مُرَاقَبَةٌ لِصِفَةٍ خَاصَّةٍ مُعَيَّنَةٍ. وَهِيَ تُوجِبُ صِيَانَةَ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ. فَصِيَانَةُ الظَّاهِرِ: بِحِفْظِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ. وَصِيَانَةُ الْبَاطِنِ: بِحِفْظِ الْخَوَاطِرِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْحَرَكَاتِ الْبَاطِنَةِ، الَّتِي مِنْهَا رَفْضُ مُعَارَضَةِ أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ. فَيَتَجَرَّدُ الْبَاطِنُ مِنْ كُلِّ شَهْوَةٍ وَإِرَادَةٍ تُعَارِضُ أَمْرَهُ، وَمِنْ كُلِّ إِرَادَةِ تُعَارِضُ إِرَادَتَهُ. وَمِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ تُعَارِضُ خَبَرَهُ. وَمِنْ كُلِّ مَحَبَّةٍ تُزَاحِمُ مَحَبَّتَهُ. وَهَذِهِ حَقِيقَةُ الْقَلْبِ السَّلِيمِ الَّذِي لَا يَنْجُو إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِهِ. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ تَجْرِيدِ الْأَبْرَارِ الْمُقَرَّبِينَ الْعَارِفِينَ. وَكُلُّ تَجْرِيدٍ سِوَى هَذَا فَنَاقِصٌ. وَهَذَا تَجْرِيدُ أَرْبَابِ الْعَزَائِمِ. ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ سَبَبَ الْمُعَارَضَةِ، وَبِمَاذَا يَرْفُضُهَا الْعَبْدُ. فَقَالَ: بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الِاعْتِرَاضِ. فَإِنَّ الْمُعَارَضَةَ تَتَوَلَّدُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ. وَالِاعْتِرَاضُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ سَارِيَةٌ فِي النَّاسِ. وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهَا. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الِاعْتِرَاضُ عَلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بِالشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ، الَّتِي يُسَمِّيهَا أَرْبَابُهَا قَوَاطِعَ عَقْلِيَّةً. وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ خَيَالَاتٌ جَهْلِيَّةٌ، وَمُحَالَاتٌ ذِهْنِيَّةٌ، اعْتَرَضُوا بِهَا عَلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَحَكَمُوا بِهَا عَلَيْهِ. وَنَفَوْا لِأَجَلِّهَا مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ، وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَثْبَتُوا مَا نَفَاهُ، وَوَالَوْا بِهَا أَعْدَاءَهُ. وَعَادَوْا بِهَا أَوْلِيَاءَهُ. وَحَرَّفُوا بِهَا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَنَسُوا بِهَا نَصِيبًا كَثِيرًا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَتَقَطَّعُوا لَهَا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. وَالْعَاصِمُ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ التَّسْلِيمُ الْمَحْضُ لِلْوَحْيِ. فَإِذَا سَلَّمَ الْقَلْبُ لَهُ رَأَى صِحَّةَ مَا جَاءَ بِهِ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ. فَاجْتَمَعَ لَهُ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ. وَهَذَا أَكْمَلُ الْإِيمَانِ. لَيْسَ كَمَنِ الْحَرْبُ قَائِمٌ بَيْنَ سَمْعِهِ وَعَقْلِهِ وَفِطْرَتِهِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: الِاعْتِرَاضُ عَلَى شَرْعِهِ وَأَمْرِهِ. وَأَهْلُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: الْمُعْتَرِضُونَ عَلَيْهِ بِآرَائِهِمْ وَأَقْيِسَتِهِمْ، الْمُتَضَمِّنَةِ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَتَحْرِيمَ مَا أَبَاحَهُ، وَإِسْقَاطَ مَا أَوْجَبَهُ، وَإِيجَابَ مَا أَسْقَطَهُ، وَإِبْطَالَ مَا صَحَّحَهُ، وَتَصْحِيحَ مَا أَبْطَلَهُ، وَاعْتِبَارَ مَا أَلْغَاهُ، وَإِلْغَاءَ مَا اعْتَبَرَهُ، وَتَقْيِيدَ مَا أَطْلَقَهُ، وَإِطْلَاقَ مَا قَيَّدَهُ. وَهَذِهِ هِيَ الْآرَاءُ وَالْأَقْيِسَةُ الَّتِي اتَّفَقَ السَّلَفُ قَاطِبَةً عَلَى ذَمِّهَا، وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا. وَصَاحُوا عَلَى أَصْحَابِهَا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ. وَحَذَّرُوا مِنْهُمْ، وَنَفَرُوا عَنْهُمْ. النَّوْعُ الثَّانِي: الِاعْتِرَاضُ عَلَى حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَالشَّرْعِ بِالْأَذْوَاقِ وَالْمَوَاجِيدِ وَالْخَيَالَاتِ، وَالْكُشُوفَاتِ الْبَاطِلَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، الْمُتَضَمِّنَةِ شَرَعَ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَإِبْطَالَ دِينِهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَالتَّعَوُّضَ عَنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ بِخُدَعِ الشَّيْطَانِ وَحُظُوظِ النُّفُوسِ الْجَاهِلَةِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ أَرْبَابَهَا يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْلِ الْحُظُوظِ. وَكُلُّ مَا هُمْ فِيهِ فَحَظٌّ، وَلَكِنَّ حَظَّهُمْ مُتَضَمِّنٌ مُخَالَفَةَ مُرَادِ اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْ دِينِهِ، وَاعْتِقَادَ أَنَّهُ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حُظُوظِ أَصْحَابِ الشَّهَوَاتِ، الْمُعْتَرِفِينَ بِذَمِّهَا، الْمُسْتَغْفِرِينَ مِنْهَا، الْمُقِرِّينَ بِنَقْصِهِمْ وَعَيْبِهِمْ، وَأَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِلدِّينِ؟ وَهَؤُلَاءِ فِي حُظُوظٍ اتَّخَذُوهَا دِينًا، وَقَدَّمُوهَا عَلَى شَرْعِ اللَّهِ وَدِينِهِ. وَاغْتَالُوا بِهَا الْقُلُوبَ. وَاقْتَطَعُوهَا عَنْ طَرِيقِ اللَّهِ. فَتَوَلَّدَ مِنْ مَعْقُولِ أُولَئِكَ، وَآرَاءِ الْآخَرِينَ وَأَقْيِسَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَأَذْوَاقِ هَؤُلَاءِ خَرَابُ الْعَالَمِ، وَفَسَادُ الْوُجُودِ، وَهَدْمُ قَوَاعِدِ الدِّينِ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَكَادَ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يَقُومُ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ، وَيُبَيِّنُ مَعَالِمَهُ، وَيَحْمِيهِ مِنْ كَيْدِ مَنْ يَكِيدُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: الِاعْتِرَاضُ عَلَى ذَلِكَ بِالسِّيَاسَاتِ الْجَائِرَةِ، الَّتِي لِأَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ الَّتِي قَدَّمُوهَا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَحَكَمُوا بِهَا بَيْنَ عِبَادِهِ، وَعَطَّلُوا لَهَا وَبِهَا شَرْعَهُ وَعَدَلَهُ وَحُدُودَهُ. فَقَالَ الْأَوَّلُونَ: إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ أَيُّهُمَا يُقَدَّمُ؟ : قَدَّمْنَا الْعَقْلَ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: إِذَا تَعَارَضَ الْأَثَرُ وَالْقِيَاسُ: قَدَّمْنَا الْقِيَاسَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الذَّوْقِ وَالْكَشْفِ وَالْوَجْدِ: إِذَا تَعَارَضَ الذَّوْقُ وَالْوَجْدُ وَالْكَشْفُ وَظَاهِرُ الشَّرْعِ: قَدَّمْنَا الذَّوْقَ وَالْوَجْدَ وَالْكَشْفَ.

وَقَالَ أَصْحَابُ السِّيَاسَةِ: إِذَا تَعَارَضَتِ السِّيَاسَةُ وَالشَّرْعُ، قَدَّمْنَا السِّيَاسَةَ. فَجَعَلَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ قُبَالَةَ دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ طَاغُوتًا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ. فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَكُمُ النَّقْلُ وَلَنَا الْعَقْلُ. وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ: أَنْتُمْ أَصْحَابُ آثَارٍ وَأَخْبَارٍ وَنَحْنُ أَصْحَابُ أَقْيِسَةٍ وَآرَاءٍ وَأَفْكَارٍ. وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: أَنْتُمْ أَرْبَابُ الظَّاهِرِ، وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَقَائِقِ. وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ: لَكُمُ الشَّرْعُ وَلَنَا السِّيَاسَةُ. فِيَا لَهَا مِنْ بَلِيَّةٍ، عَمَّتْ فَأَعْمَتْ، وَرَزِيَّةٍ رَمَتْ فَأَصَمَّتْ، وَفِتْنَةٍ دَعَتِ الْقُلُوبَ فَأَجَابَهَا كُلُّ قَلْبٍ مَفْتُونٍ، وَأَهْوِيَةٍ عَصَفَتْ. فَصُمَّتْ مِنْهَا الْآذَانُ، وَعَمِيَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ. عُطِّلَتْ لَهَا - وَاللَّهِ - مَعَالِمُ الْأَحْكَامِ. كَمَا نُفِيَتْ لَهَا صِفَاتُ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَاسْتَنَدَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى ظُلْمِ وَظُلُمَاتِ آرَائِهِمْ، وَحَكَمُوا عَلَى اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ بِمَقَالَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَأَهْوَائِهِمْ. وَصَارَ لِأَجْلِهَا الْوَحْيُ عُرْضَةً لِكُلِّ تَحْرِيفٍ وَتَأْوِيلٍ، وَالدِّينُ وَقْفًا عَلَى كُلِّ إِفْسَادٍ وَتَبْدِيلٍ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: الِاعْتِرَاضُ عَلَى أَفْعَالِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَهَذَا اعْتِرَاضُ الْجُهَّالِ. وَهُوَ مَا بَيْنَ جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ لَا تُحْصَى. وَهُوَ سَارٍ فِي النُّفُوسِ سَرَيَانَ الْحُمَّى فِي بَدَنِ الْمَحْمُومِ. وَلَوْ تَأَمَّلَ الْعَبْدُ كَلَامَهُ وَأُمْنِيَتَهُ وَإِرَادَتَهُ وَأَحْوَالَهُ، لَرَأَى ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ عَيَانًا، فَكُلُّ نَفْسٍ مُعْتَرِضَةٍ عَلَى قَدَرِ اللَّهِ وَقَسْمِهِ وَأَفْعَالِهِ، إِلَّا نَفْسًا قَدِ اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ، وَعَرَفَتْهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي يُمْكِنُ وُصُولُ الْبَشَرِ إِلَيْهَا. فَتِلْكَ حَظُّهَا التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ. وَالرِّضَا كُلُّ الرِّضَاءِ. وَأَمَّا نَقْضُ رُعُونَةِ التَّعَرُّضِ، فَيُشِيرُ بِهِ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، لَا تَتِمُّ الْمُرَاقَبَةُ عِنْدَهُ إِلَّا بِنَقْضِهِ، وَهُوَ إِحْسَاسُ الْعَبْدِ بِنَفْسِهِ وَخَوَاطِرِهِ وَأَفْكَارِهِ حَالَ الْمُرَاقِبَةِ، وَالْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ تَعَرُّضٌ مِنْهُ، لِحِجَابِ الْحَقِّ لَهُ عَنْ كَمَالِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعَبْدِ مَعَ مَدَارِكِهِ وَحَوَاسِّهِ وَمَشَاعِرِهِ، وَأَفْكَارِهِ وَخَوَاطِرِهِ، عِنْدَ الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ، هُوَ تَعَرُّضٌ لِلْحِجَابِ. فَيَنْبَغِي أَنَّ تَتَخَلَّصَ مُرَاقَبَةُ نَظَرِ الْحَقِّ إِلَيْكَ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ. وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي الذِّكْرِ. فَتُذْهَلُ بِهِ عَنْ نَفْسِكَ وَعَمَّا مِنْكَ. لِتَكُونَ بِذَلِكَ مُتَهَيِّئًا مُسْتَعِدًّا لِلْفَنَاءِ عَنْ وُجُودِكَ، وَعَنْ وُجُودِ كُلِّ مَا سِوَى الْمَذْكُورِ سُبْحَانَهُ. وَهَذَا التَّهَيُّؤُ وَالِاسْتِعْدَادُ: لَا يَكُونُ إِلَّا بِنَقْضِ تِلْكَ الرُّعُونَةِ. وَالذِّكْرُ يُوجِبُ الْغَيْبَةَ عَنِ الْحِسِّ. فَمَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِنَظَرِ الْحَقِّ إِلَيْهِ مِنْ إِقْبَالِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ حَدِيثِ نَفْسِهِ وَخَوَاطِرِهِ وَأَفْكَارِهِ: فَقَدْ تَعَرَّضَ وَاسْتَدْعَى عَوَالِمَ نَفْسِهِ، وَاحْتِجَابَ الْمَذْكُورِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ حَضْرَةَ الْحَقِّ تَعَالَى لَا يَكُونُ فِيهَا غَيْرُهُ.

فصل الدرجة الثالثة مراقبة الأزل

وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ إِلَّا بِمَلَكَةٍ قَوِيَّةٍ مِنَ الذِّكْرِ، وَجَمْعِ الْقَلْبِ فِيهِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مُرَاقَبَةُ الْأَزَلِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُرَاقَبَةِ: مُرَاقَبَةُ الْأَزَلِ، بِمُطَالَعَةِ عَيْنِ السَّبْقِ، اسْتِقْبَالًا لِعِلْمِ التَّوْحِيدِ. وَمُرَاقَبَةُ ظُهُورِ إِشَارَاتِ الْأَزَلِ عَلَى أَحَايِينِ الْأَبَدِ، وَمُرَاقِبَةُ الْإِخْلَاصِ مِنْ وَرْطَةِ الْمُرَاقِبَةِ. قَوْلُهُ: مُرَاقَبَةُ الْأَزَلِ؛ أَيْ شُهُودُ مَعْنَى الْأَزَلِ، وَهُوَ الْقِدَمُ الَّذِي لَا أَوَّلَ لَهُ بِمُطَالَعَةِ عَيْنِ السَّبْقِ؛ أَيْ بِشُهُودِ سَبْقِ الْحَقِّ تَعَالَى لِكُلِّ مَا سِوَاهُ؛ إِذْ هُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ. فَمَتَى طَالَعَ الْعَبْدُ عَيْنَ هَذَا السَّبْقِ شَهِدَ مَعْنَى الْأَزَلِ وَعَرَفَ حَقِيقَتَهُ، فَبَدَا لَهُ حِينَئِذٍ عِلْمُ التَّوْحِيدِ، فَاسْتَقْبَلَهُ كَمَا يَسْتَقْبِلُ أَعْلَامَ الْبَلَدِ، وَأَعْلَامَ الْجَيْشِ. وَرُفِعَ لَهُ فَشَمَّرَ إِلَيْهِ. وَهُوَ شُهُودُ انْفِرَادِ الْحَقِّ بِأَزَلِيَّتِهِ وَحْدَهُ. وَأَنَّهُ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ أَلْبَتَّةَ. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَكَائِنٌ بَعْدَ عَدَمِهِ بِتَكْوِينِهِ. فَإِذَا عَدِمَتِ الْكَائِنَاتُ مِنْ شُهُودِهِ، كَمَا كَانَتْ مَعْدُومَةً فِي الْأَزَلِ. فَطَالَعَ عَيْنَ السَّبْقِ، وَفَنِيَ بِشُهُودِ مَنْ لَمْ يَزَلْ عَنْ شُهُودِ مَنْ لَمْ يَكُنْ. فَقَدِ اسْتَقْبَلَ عِلْمَ التَّوْحِيدِ. وَأَمَّا مُرَاقَبَةُ ظُهُورِ إِشَارَاتِ الْأَزَلِ عَلَى أَحَايِينِ الْأَبَدِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يَظْهَرُ فِي الْأَبَدِ هُوَ عَيْنُ مَا كَانَ مَعْلُومًا فِي الْأَزَلِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا تَجَدَّدَتْ أَحَايِينُهُ، وَهِيَ أَوْقَاتُ ظُهُورِهِ. فَقَدْ ظَهَرَتْ إِشَارَاتُ الْأَزَلِ، وَهِيَ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْعَقْلُ بِالْأَزَلِيَّةِ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى أَحَايِينِ الْأَبَدِ. هَذَا مَعْنَاهُ الصَّحِيحُ عِنْدِي. وَالْقَوْمُ يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ اتِّصَالُ الْأَبَدِ بِالْأَزَلِ فِي الشُّهُودِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَطْوِيَ بِسَاطَ الْكَائِنَاتِ عَنْ شُهُودِهِ طَيًّا كُلِّيًّا، وَيَشْهَدَ اسْتِمْرَارَ وُجُودِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَيَصِلُ - بِهَذَا الشُّهُودِ - الْأَزَلَ بِالْأَبَدِ، وَيَصِيرَانِ شَيْئًا وَاحِدًا. وَهُوَ دَوَامُ وَجُودِهِ سُبْحَانَهُ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كُلِّ حَادِثٍ. وَالشُّهُودُ الْأَوَّلُ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ. وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَتَقَدَّمَ عِلْمُهُ بِالْأَشْيَاءِ، وَوُقُوعِهَا فِي الْأَبَدِ مُطَابِقَةً لِعِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ، فَهَذَا الشُّهُودُ يُعْطِي إِيمَانًا وَمَعْرِفَةً، وَإِثْبَاتًا لِلْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَالْفِعْلِ وَالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.

وَأَمَّا الشُّهُودُ الثَّانِي فَلَا يُعْطَى صَاحِبُهُ مَعْرِفَةً وَلَا إِيمَانًا، وَلَا إِثْبَاتًا لِاسْمٍ وَلَا صِفَةٍ، وَلَا عُبُودِيَّةٍ نَافِعَةٍ. وَهُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ. يَشْهَدُهُ كُلُّ مَنْ أَقَرَّ بِالصَّانِعِ، مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ. فَإِذَا اسْتَغْرَقَ فِي شُهُودِ أَزَلِيَّتِهِ، وَتَفَرُّدِهِ بِالْقِدَمِ، وَغَابَ عَنِ الْكَائِنَاتِ، اتَّصَلَ فِي شُهُودِهِ الْأَزَلُ بِالْأَبَدِ. فَأَيُّ كَبِيرِ أَمْرٍ فِي هَذَا؟ وَأَيُّ إِيمَانٍ وَيَقِينٍ يَحْصُلُ بِهِ؟ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَوْقَهُ، وَلَا نَقْدَحُ فِي وُجُودِهِ؛ وَإِنَّمَا نَقْدَحُ فِي مَرْتَبَتِهِ وَتَفْضِيلِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ لِخَاصَّةِ الْخَاصَّةِ. وَمَا قَبْلَهُ لِمَنْ هُمْ دُونَهُمْ. فَهَذَا عَيْنُ الْوَهْمِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. فَإِذَا اتَّصَلَ فِي شُهُودِ الشَّاهِدِ الْأَزَلُ الَّذِي لَا بِدَايَةَ لَهُ، بِالْأَزْمِنَةِ الَّتِي يُعْقَلُ لَهَا بِدَايَةٌ - وَهِيَ أَزْمِنَةُ الْحَوَادِثِ - ثُمَّ اتَّصَلَ ذَلِكَ بِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، بِحَيْثُ صَارَتِ الْأَزْمِنَةُ الثَّلَاثَةُ وَاحِدًا. لَا مَاضِيَ فِيهِ، وَلَا حَاضِرَ، وَلَا مُسْتَقْبَلَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا شَهِدَ فَنَاءَ الْحَوَادِثِ فَنَاءً مُطْلَقًا، وَعَدَمَهَا عَدْمًا كُلِّيًّا. وَذَلِكَ تَقْدِيرٌ وَهْمِيٌّ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ. وَهُوَ تَجْرِيدٌ خَيَالِيٌّ، يُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي بَحْرٍ طَامِسٍ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَلَيْلٍ دَامِسٍ لَا فَجْرَ لَهُ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ مَشْهَدِ تَنَوُّعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ؟ وَتَعَلُّقِهَا بِأَنْوَاعِ الْكَائِنَاتِ، وَارْتِبَاطِهَا بِجَمِيعِ الْحَادِثَاتِ؟ وَإِعْطَاءِ كُلِّ اسْمٍ مِنْهَا وَصِفَةٍ حَقَّهَا مِنَ الشُّهُودِ وَالْعُبُودِيَّةِ؟ وَالنَّظَرِ إِلَى سَرَيَانِ آثَارِهَا فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَدَارِ الدُّنْيَا وَدَارِ الْآخِرَةِ؟ وَقِيَامُهُ بِالْفَرْقِ وَالْجَمْعِ فِي ذَلِكَ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَحَالًا؟ ! وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَوْلُهُ: وَمُرَاقَبَةُ الْإِخْلَاصِ مِنْ وَرْطَةِ الْمُرَاقَبَةِ. يُشِيرُ إِلَى فَنَاءِ شُهُودِ الْمُرَاقِبِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَا مِنْهَا. وَأَنَّهُ يَفْنَى بِمَنْ يُرَاقِبُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَا مِنْهَا. فَإِذَا كَانَ بَاقِيًا بِشُهُودِ مُرَاقَبَتِهِ: فَهُوَ فِي وَرْطَتِهَا لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهَا؛ لِأَنَّ شُهُودَ الْمُرَاقَبَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ بَقَائِهِ. وَالْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ الْفَنَاءُ وَالتَّخَلُّصُ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ صِفَاتِهَا وَمَا مِنْهَا. وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ فَوْقَ هَذَا دَرَجَةً أَعْلَى مِنْهُ وَأَرْفَعَ، وَأَشْرَفَ. وَهِيَ مُرَاقَبَةُ مَوَاقِعِ رِضَا الرَّبِّ، وَمَسَاخِطِهِ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ. وَالْفَنَاءِ عَمَّا يُسْخِطُهُ بِمَا يُحِبُّ، وَالتَّفَرُّقِ لَهُ وَبِهِ وَفِيهِ، نَاظِرًا إِلَى عَيْنِ جَمْعِ الْعُبُودِيَّةِ، فَانِيًا عَنْ مُرَادِهِ مِنْ رَبِّهِ - مَهْمَا عَلَا - بِمُرَادِ رَبِّهِ مِنْهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

فصل منزلة تعظيم حرمات الله

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللَّهِ] [مَا هِيَ حُرُمَاتُ اللَّهِ] وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: حُرُمَاتُ اللَّهِ هَاهُنَا مَغَاضِبُهُ، وَمَا نَهَى عَنْهُ، وَتَعْظِيمُهَا تَرْكُ مُلَابَسَتِهَا. قَالَ اللَّيْثُ: حُرُمَاتُ اللَّهِ: مَا لَا يَحِلُّ انْتِهَاكُهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: الْحُرُمَاتُ: هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحُرْمَةُ مَا وَجَبَ الْقِيَامُ بِهِ، وَحَرُمَ التَّفْرِيطُ فِيهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْحُرُمَاتُ هَاهُنَا الْمَنَاسِكُ، وَمَشَاعِرُ الْحَجِّ زَمَانًا وَمَكَانًا. وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْحُرُمَاتِ تَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ. وَهِيَ جَمْعُ حُرْمَةٍ وَهِيَ مَا يَجِبُ احْتِرَامُهُ، وَحِفْظُهُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَالْأَشْخَاصِ، وَالْأَزْمِنَةِ، وَالْأَمَاكِنِ، فَتَعْظِيمُهَا تَوْفِيَتُهَا حَقَّهَا، وَحِفْظُهَا مِنَ الْإِضَاعَةِ. قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الْحُرْمَةُ: هِيَ التَّحَرُّجُ عَنِ الْمُخَالَفَاتِ وَالْمُجَاسَرَاتِ. التَّحَرُّجُ: الْخُرُوجُ مِنْ حَرَجِ الْمُخَالَفَةِ. وَبِنَاءُ " تَفَعَّلَ " يَكُونُ لِلدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ. كَتَمَنَّى إِذَا دَخَلَ فِي الْأُمْنِيَّةِ، وَتَوَلَّجَ فِي الْأَمْرِ دَخَلَ فِيهِ، وَنَحْوِهِ. وَلِلْخُرُوجِ مِنْهُ، كَتَخَرَّجَ وَتَحَوَّبَ وَتَأَثَّمَ، إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنَ الْحَرَجِ. وَالْحُوبُ هُوَ الْإِثْمُ. أَرَادَ أَنَّ الْحُرْمَةَ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ حَرَجِ الْمُخَالَفَةِ، وَجَسَارَةِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا. وَلَمَّا كَانَ الْمُخَالِفُ قِسْمَيْنِ جَاسِرًا وَهَائِبًا. قَالَ: عَنِ الْمُخَالَفَاتِ وَالْمُجَاسَرَاتِ. [دَرَجَاتُ حُرُمَاتِ اللَّهِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ] قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لَا خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ، فَتَكُونُ خُصُومَةً لِلنَّفْسِ، وَلَا طَلَبًا لِلْمَثُوبَةِ. فَيَكُونُ مُسْتَشْرِفًا لِلْأُجْرَةِ، وَلَا

مُشَاهِدًا لِأَحَدٍ. فَيَكُونُ مُتَزَيِّنًا بِالْمُرَاءَاةِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا مِنْ شُعَبِ عِبَادَةِ النَّفْسِ. هَذَا الْمَوْضِعُ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْقَوْمِ. وَالنَّاسُ بَيْنَ مُعَظِّمٍ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ، مُعْتَقِدٍ أَنَّ هَذَا أَرْفَعُ دَرَجَاتِ الْعُبُودِيَّةِ: أَنْ لَا يَعْبُدَ اللَّهَ وَيَقُومَ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ، وَلَا طَمَعًا فِي ثَوَابِهِ. فَإِنَّ هَذَا وَاقِفٌ مَعَ غَرَضِهِ وَحَظِّ نَفْسِهِ. وَأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَأْبَى ذَلِكَ. فَإِنَّ الْمُحِبَّ لَا حَظَّ لَهُ مَعَ مَحْبُوبِهِ. فَوُقُوفُهُ مَعَ حَظِّهِ عِلَّةٌ فِي مَحَبَّتِهِ، وَأَنَّ طَمَعَهُ فِي الثَّوَابِ تَطَلُّعٌ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أُجْرَةً. فَفِي هَذَا آفَتَانِ: تَطَلُّعُهُ إِلَى الْأُجْرَةِ، وَإِحْسَانُ ظَنِّهِ بِعَمَلِهِ؛ إِذْ تَطَلُّعُهُ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْأَجْرَ، وَخَوْفُهُ مِنَ الْعِقَابِ: خُصُومَةٌ لِلنَّفْسِ، فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يُخَاصِمُهَا إِذَا خَالَفَتْ. وَيَقُولُ: أَمَا تَخَافِينَ النَّارَ، وَعَذَابَهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا؟ فَلَا تَزَالُ الْخُصُومَةُ بِذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا: وَهُوَ أَنَّهُ كَالْمُخَاصِمِ عَنْ نَفْسِهِ، الدَّافِعِ عَنْهَا خَصْمَهُ الَّذِي يُرِيدُ هَلَاكَهُ، وَهُوَ عَيْنُ الِاهْتِمَامِ بِالنَّفْسِ، وَالِالْتِفَاتِ إِلَى حُظُوظِهَا، مُخَاصَمَةً عَنْهَا، وَاسْتِدْعَاءً لِمَا تَلْتَذُّ بِهِ. وَلَا يُخَلِّصُهُ مِنْ هَذِهِ الْمُخَاصَمَةِ، وَذَلِكَ الِاسْتِشْرَافِ إِلَّا تَجْرِيدُ الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ كُلِّ عِلَّةٍ. بَلْ يَقُومُ بِهِ تَعْظِيمًا لِلْآمِرِ النَّاهِي. وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُعْبَدَ، وَتُعَظَّمَ حُرُمَاتُهُ. فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَالتَّعْظِيمَ وَالْإِجْلَالَ لِذَاتِهِ، كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِسْرَائِيلِيِّ: لَوْ لَمْ أَخْلُقْ جَنَّةً وَلَا نَارًا، أَمَا كُنْتُ أَهْلًا أَنْ أُعْبَدَ؟ . وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: هَبِ الْبَعْثَ لَمْ تَأْتِنَا رُسْلُهُ ... وَجَاحِمَةَ النَّارِ لَمْ تُضْرَمِ أَلَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَ ... قِّ عَلَى ذَوِي الْوَرَى الشُّكْرُ لِلْمُنْعِمِ؟ فَالنُّفُوسُ الْعَلِيَّةُ الزَّكِيَّةُ تَعْبُدُهُ لِأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُعْبَدَ، وَيُجَلَّ وَيُحَبَّ وَيُعَظَّمَ. فَهُوَ لِذَاتِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبَادَةِ. قَالُوا: وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ كَأَجِيرِ السُّوءِ. إِنْ أُعْطِيَ أَجْرَهُ عَمِلَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَعْمَلْ. فَهَذَا عَبْدُ الْأُجْرَةِ لَا عَبْدُ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ. قَالُوا: وَالْعُمَّالُ شَاخِصُونَ إِلَى مَنْزِلَتَيْنِ: مَنْزِلَةِ الْآخِرَةِ، وَمَنْزِلَةِ الْقُرْبِ مِنَ الْمُطَاعِ.

قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّهِ دَاوُدَ: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] . فَالزُّلْفَى مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ، وَحُسْنُ الْمَآبِ حُسْنُ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وَالْحُسْنَى: الْجَزَاءُ. وَالزِّيَادَةُ: مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ. وَلِهَذَا فُسِّرَتْ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَانِ هُمَا اللَّذَانِ وَعَدَهُمَا فِرْعَوْنُ لِلسَّحَرَةِ إِنْ غَلَبُوا مُوسَى، فَقَالُوا لَهُ: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف: 113] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] . قَالُوا: وَالْعَارِفُونَ عَمَلُهُمْ عَلَى الْمَنْزِلَةِ وَالدَّرَجَةِ. وَالْعُمَّالُ عَمَلُهُمْ عَلَى الثَّوَابِ وَالْأُجْرَةِ. وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا. فَصْلٌ: وَطَائِفَةٌ ثَانِيَةٌ تَجْعَلُ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ شَطَحَاتِ الْقَوْمِ وَرَعُونَاتِهِمْ. وَتَحْتَجُّ بِأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالصِّدِّيقِينَ، وَدُعَائِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِخَوْفِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَرَجَائِهِمْ لِلْجَنَّةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ خَوَاصِّ عِبَادِهِ الَّذِينَ عَبَدَهُمُ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُمْ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَقَالَ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء: 89]- إِلَى أَنْ قَالَ - {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] . أَيْ رَغَبًا فِيمَا عِنْدَنَا، وَرَهَبًا مِنْ عَذَابِنَا. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: " إِنَّهُمْ " عَائِدٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالرَّغَبُ وَالرَّهَبُ: رَجَاءُ الرَّحْمَةِ، وَالْخَوْفُ مِنَ النَّارِ عِنْدَهُمْ أَجْمَعِينَ. وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ هُمْ خَوَاصُّ خَلْقِهِ. وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ. وَجَعَلَ مِنْهَا: اسْتِعَاذَتَهُمْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا - إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 65 - 66] . وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ: أَنَّهُمْ تَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بِإِيمَانِهِمْ أَنْ يُنْجِيَهُمْ مِنَ النَّارِ. فَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 16]

فَجَعَلُوا أَعْظَمَ وَسَائِلِهِمْ إِلَيْهِ: وَسِيلَةَ الْإِيمَانِ، وَأَنْ يُنْجِيَهُمْ مِنَ النَّارِ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ سَادَاتِ الْعَارِفِينَ أُولِي الْأَلْبَابِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ جَنَّتَهُ. وَيَتَعَوَّذُونَ بِهِ مِنْ نَارِهِ. فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] الْآيَاتِ إِلَى آخِرِهَا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَوْعُودَ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ: هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي سَأَلُوهَا. وَقَالَ عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ - رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 82 - 83] إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ - يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87 - 89] . فَسَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَاسْتَعَاذَ بِهِ مِنَ النَّارِ. وَهُوَ الْخِزْيُ يَوْمَ الْبَعْثِ. وَأَخْبَرَنَا سُبْحَانَهُ عَنِ الْجَنَّةِ: أَنَّهَا كَانَتْ وَعْدًا عَلَيْهِ مَسْئُولًا؛ أَيْ يَسْأَلُهُ إِيَّاهَا عِبَادُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ. وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ: أَنْ يَسْأَلُوا لَهُ فِي وَقْتِ الْإِجَابَةِ - عُقَيْبَ الْأَذَانِ - أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ. وَأَخْبَرَ: أَنَّ مَنْ سَأَلَهَا لَهُ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتُهُ.

«وَقَالَ لَهُ سُلَيْمٌ الْأَنْصَارِيُّ: أَمَّا إِنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَأَسْتَعِيذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: أَنَا وَمُعَاذٌ حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» . وَفِي الصَّحِيحِ - فِي حَدِيثِ الْمَلَائِكَةِ السَّيَّارَةِ الْفُضَّلِ عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ - إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْأَلُهُمْ عَنْ عِبَادِهِ - وَهُوَ أَعْلَمُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَيَقُولُونَ: «أَتَيْنَاكَ مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ يُهَلِّلُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ، فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: وَهَلْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَا يَا رَبِّ. مَا رَأَوْكَ. فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ لَكَانُوا لَكَ أَشَدَّ تَمْجِيدًا. قَالُوا: يَا رَبِّ. وَيَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَعِزَّتِكَ مَا رَأَوْهَا. فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا لَهَا أَشَدَّ طَلَبًا. قَالُوا: وَيَسْتَعِيذُونَ بِكَ مِنَ النَّارِ، فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَعِزَّتِكَ مَا رَأَوْهَا. فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا هَرَبًا. فَيَقُولُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَعَذْتُهُمْ مِمَّا اسْتَعَاذُوا» . وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى عِبَادِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِسُؤَالِ الْجَنَّةِ وَرَجَائِهَا، وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ النَّارِ، وَالْخَوْفِ مِنْهَا. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ» . وَقَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ مُرَافَقَتَهُ فِي الْجَنَّةِ: «أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» . قَالُوا: وَالْعَمَلُ عَلَى طَلَبِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ أُمَّتِهِ لِيَكُونَا دَائِمًا عَلَى ذِكْرٍ مِنْهُمَا فَلَا يَنْسَوْنَهُمَا. وَلِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِمَا شَرْطٌ فِي النَّجَاةِ، وَالْعَمَلَ عَلَى حُصُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ هُوَ مَحْضُ الْإِيمَانِ. قَالُوا: وَقَدْ حَضَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَأُمَّتَهُ، فَوَصَفَهَا وَجَلَّاهَا لَهُمْ لِيَخْطُبُوهَا، وَقَالَ: «أَلَا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؟ فَإِنَّهَا - وَرَبِّ الْكَعْبَةِ - نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ، وَفَاكِهَةٌ نَضِيجَةٌ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ - الْحَدِيثَ - فَقَالَ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،

نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا. فَقَالَ: قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ» . وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ مَا فِي السُّنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: 32 مَنْ عَمِلِ كَذَا وَكَذَا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ تَحْرِيضًا عَلَى عَمَلِهِ لَهَا، وَأَنْ تَكُونَ هِيَ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْعِلْمِ: لَطَالَ ذَلِكَ جِدًّا. وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ. قَالُوا: فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَمَلُ لِأَجْلِ الثَّوَابِ وَخَوْفِ الْعِقَابِ مَعْلُولًا؟ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّضُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ مَنْ فَعَلَ كَذَا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ وَمَنْ «قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ» . وَ «مَنْ كَسَا مُسْلِمًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ» وَ «عَائِدُ الْمَرِيضِ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ» ، وَالْحَدِيثُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذَلِكَ؟ أَفَتَرَاهُ يُحَرِّضُ

الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَطْلَبٍ مَعْلُولٍ نَاقِصٍ، وَيَدَعُ الْمَطْلَبَ الْعَالِي الْبَرِيءَ مِنْ شَوَائِبِ الْعِلَلِ لَا يُحَرِّضُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالُوا: وَأَيْضًا فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَسْأَلُوهُ جَنَّتَهُ، وَيَسْتَعِيذُوا بِهِ مِنْ نَارِهِ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ. وَمَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ يَغْضَبْ عَلَيْهِ. وَأَعْظَمُ مَا سُئِلَ الْجَنَّةُ وَأَعْظَمُ مَا اسْتُعِيذَ بِهِ مِنَ النَّارِ. فَالْعَمَلُ لِطَلَبِ الْجَنَّةِ مَحْبُوبٌ لِلرَّبِّ، مَرْضِيٌّ لَهُ. وَطَلَبُهَا عُبُودِيَّةٌ لِلرَّبِّ. وَالْقِيَامُ بِعُبُودِيَّتِهِ كُلِّهَا أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ بَعْضِهَا. قَالُوا: وَإِذَا خَلَا الْقَلْبُ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَرَجَاءِ هَذِهِ وَالْهَرَبِ مِنْ هَذِهِ فَتَرَتْ عَزَائِمُهُ، وَضَعُفَتْ هِمَّتُهُ، وَوَهَى بَاعِثُهُ، وَكُلَّمَا كَانَ أَشَدَّ طَلَبًا لِلْجَنَّةِ، وَعَمَلًا لَهَا كَانَ الْبَاعِثُ لَهُ أَقْوَى، وَالْهِمَّةُ أَشَدَّ، وَالسَّعْيُ أَتَمَّ. وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالذَّوْقِ. وَقَالُوا: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَطْلُوبًا لِلشَّارِعِ لَمَا وَصَفَ الْجَنَّةَ لِلْعِبَادِ، وَزَيَّنَهَا لَهُمْ، وَعَرَضَهَا عَلَيْهِمْ. وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ تَفَاصِيلِ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ مِنْهَا، وَمَا عَدَاهُ أَخْبَرَهُمْ بِهِ مُجْمَلًا. كُلُّ هَذَا تَشْوِيقًا لَهُمْ إِلَيْهَا، وَحَثًّا لَهُمْ عَلَى السَّعْيِ لَهَا سَعْيَهَا. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] . وَهَذَا حَثٌّ عَلَى إِجَابَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهَا، وَالْمُسَارَعَةِ فِي الْإِجَابَةِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: الْجَنَّةُ لَيْسَتِ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْأَشْجَارِ وَالْفَوَاكِهِ، وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْحُورِ الْعِينِ، وَالْأَنْهَارِ وَالْقُصُورِ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَغْلَطُونَ فِي مُسَمَّى الْجَنَّةِ. فَإِنَّ الْجَنَّةَ اسْمٌ لِدَارِ النَّعِيمِ الْمُطَلَّقِ الْكَامِلِ. وَمِنْ أَعْظَمِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ التَّمَتُّعُ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَسَمَاعُ كَلَامِهِ، وَقُرَّةُ الْعَيْنِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ وَبِرِضْوَانِهِ. فَلَا نِسْبَةَ لِلَذَّةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَالصُّوَرِ، إِلَى هَذِهِ اللَّذَّةِ أَبَدًا. فَأَيْسَرُ يَسِيرٍ مِنْ رِضْوَانِهِ أَكْبَرُ مِنَ الْجِنَانِ وَمَا فِيهَا مِنْ ذَلِكَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] . وَأَتَى بِهِ مُنَكَّرًا فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ؛ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ رِضَاهُ عَنْ عَبْدِهِ: فَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّةِ. قَلِيلٌ مِنْكَ يُقْنِعُنِي وَلَكِنْ ... قَلِيلُكَ لَا يُقَالُ لَهُ قَلِيلُ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ - «فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ

مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ، وَفِي» حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ «إِذَا تَجَلَّى لَهُمْ، وَرَأَوْا وَجْهَهُ عِيَانًا نَسُوا مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَذَهَلُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ» . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَمْرَ هَكَذَا. وَهُوَ أَجَلُّ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ، أَوْ يَدُورُ فِي الْخَيَالِ. وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ فَوْزِ الْمُحِبِّينَ هُنَاكَ بِمَعِيَّةِ الْمُحِبِّ. فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ. وَلَا تَخْصِيصَ فِي هَذَا الْحُكْمِ. بَلْ هُوَ ثَابِتٌ شَاهِدًا وَغَائِبًا. فَأَيُّ نَعِيمٍ، وَأَيُّ لَذَّةٍ، وَأَيُّ قُرَّةِ عَيْنٍ، وَأَيُّ فَوْزٍ يُدَانِي نَعِيمَ تِلْكَ الْمَعِيَّةِ وَلَذَّتَهَا، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ بِهَا؟ وَهَلْ فَوْقَ نَعِيمِ قُرَّةِ الْعَيْنِ بِمَعِيَّةِ الْمَحْبُوبِ، الَّذِي لَا شَيْءَ أَجَلَّ مِنْهُ، وَلَا أَكْمَلَ وَلَا أَجْمَلَ: قُرَّةُ عَيْنٍ الْبَتَّةَ؟ وَهَذَا - وَاللَّهِ - هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي شَمَّرَ إِلَيْهِ الْمُحِبُّونَ، وَاللِّوَاءُ الَّذِي أَمَّهُ الْعَارِفُونَ. وَهُوَ رُوحُ مُسَمَّى الْجَنَّةِ وَحَيَاتُهَا. وَبِهِ طَابَتِ الْجَنَّةُ، وَعَلَيْهِ قَامَتْ. فَكَيْفَ يُقَالُ: لَا يُعْبَدُ اللَّهُ طَلَبًا لِجَنَّتِهِ، وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِهِ؟ وَكَذَلِكَ النَّارُ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا، فَإِنَّ لِأَرْبَابِهَا مِنْ عَذَابِ الْحِجَابِ عَنِ اللَّهِ وَإِهَانَتِهِ، وَغَضَبِهِ وَسَخَطِهِ، وَالْبُعْدِ عَنْهُ: أَعْظَمَ مِنَ الْتِهَابِ النَّارِ فِي أَجْسَامِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ، بَلِ الْتِهَابُ هَذِهِ النَّارِ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ الْتِهَابَهَا فِي أَبْدَانِهِمْ. وَمِنْهَا سَرَتْ إِلَيْهَا. فَمَطْلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ هُوَ الْجَنَّةُ. وَمَهْرَبُهُمْ مِنَ النَّارِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَمَقْصِدُ الْقَوْمِ أَنَّ الْعَبْدَ يَعْبُدُ رَبَّهُ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ. وَالْعَبْدُ إِذَا طَلَبَ مِنْ سَيِّدِهِ أُجْرَةً

عَلَى خِدْمَتِهِ لَهُ كَانَ أَحْمَقَ، سَاقِطًا مِنْ عَيْنِ سَيِّدِهِ، إِنْ لَمْ يَسْتَوْجِبْ عُقُوبَتَهُ. إِذْ عُبُودِيَّتُهُ تَقْتَضِي خِدْمَتَهُ لَهُ. وَإِنَّمَا يَخْدِمُ بِالْأُجْرَةِ مَنْ لَا عُبُودِيَّةَ لِلْمَخْدُومِ عَلَيْهِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُرًّا فِي نَفْسِهِ، أَوْ عَبْدًا لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا مَنِ الْخَلْقُ عَبِيدُهُ حَقًّا، وَمِلْكُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لَيْسَ فِيهِمْ حُرٌّ وَلَا عَبْدٌ لِغَيْرِهِ فَخِدْمَتُهُمْ لَهُ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ، فَاقْتِضَاؤُهُمْ لِلْأُجْرَةِ خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ. وَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا يُقْبَلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَهُوَ مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ وَتَمْيِيزٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ ذِكْرُ طُرُقِ الْخَلْقِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبَيَّنَّا طَرِيقَ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ. فَالنَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمْ: مَنْ لَا يُرِيدُ رَبَّهُ وَلَا يُرِيدُ ثَوَابَهُ. فَهَؤُلَاءِ أَعْدَاؤُهُ حَقًّا. وَهُمْ أَهْلُ الْعَذَابِ الدَّائِمِ. وَعَدَمُ إِرَادَتِهِمْ لِثَوَابِهِ إِمَّا لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ بِهِ، وَإِمَّا لِإِيثَارِ الْعَاجِلِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ سَخَطُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ يُرِيدُهُ وَيُرِيدُ ثَوَابَهُ، وَهَؤُلَاءِ خَوَاصُّ خَلْقِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] فَهَذَا خِطَابُهُ لِخَيْرِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، أَزْوَاجِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ السَّعْيَ الْمَشْكُورَ: سَعْيُ مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ. وَأَصْرَحُ مِنْهَا قَوْلُهُ: لِخَوَاصِّ أَوْلِيَائِهِ - وَهُمْ أَصْحَابُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ - فِي يَوْمِ أُحُدٍ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] فَقَسَمَهُمْ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا. وَقَدْ غَلِطَ مَنْ قَالَ: فَأَيْنَ مَنْ يُرِيدُ اللَّهَ؟ فَإِنَّ إِرَادَةَ الْآخِرَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَوَابِهِ. فَإِرَادَةُ الثَّوَابِ لَا تُنَافِي إِرَادَةَ اللَّهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ يُرِيدُ مِنَ اللَّهِ، وَلَا يُرِيدُ اللَّهَ. فَهَذَا نَاقِصٌ غَايَةَ النَّقْصِ. وَهُوَ حَالُ الْجَاهِلِ بِرَبِّهِ، الَّذِي سَمِعَ: أَنَّ ثَمَّ جَنَّةً وَنَارًا. فَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ غَيْرُ إِرَادَةِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ الْمَخْلُوقِ، لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ سِوَاهُ الْبَتَّةَ. بَلْ هَذَا حَالُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، الْمُنْكِرِينَ رُؤْيَةَ اللَّهِ

تَعَالَى، وَالتَّلَذُّذَ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَسَمَاعَ كَلَامِهِ وَحُبَّهُ. وَالْمُنْكِرِينَ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ. وَهُمْ عَبِيدُ الْأُجْرَةِ الْمَحْضَةِ. فَهَؤُلَاءِ لَا يُرِيدُونَ اللَّهَ تَعَالَى. وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ مُحَالٌ. قَالُوا: لِأَنَّ الْإِرَادَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْحَادِثِ. فَالْقَدِيمُ لَا يُرَادُ. فَهَؤُلَاءِ مُنْكِرُونَ لِإِرَادَةِ اللَّهِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ. وَأَعْلَى الْإِرَادَةِ عِنْدَهُمْ: إِرَادَةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالنِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ فِي الْجَنَّةِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ. فَهَؤُلَاءِ فِي شِقٍّ، وَأُولَئِكَ - الَّذِينَ قَالُوا: لَمْ نَعْبُدْهُ طَلَبًا لِجَنَّتِهِ، وَلَا هَرَبًا مِنْ نَارِهِ - فِي شِقٍّ. وَهُمَا طَرَفَا نَقِيضٍ. بَيْنَهُمَا أَعْظَمُ مِنْ بُعْدِ الْمَشْرِقَيْنِ. وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَكْثَفِ النَّاسِ حِجَابًا، وَأَغْلَظِهِمْ طِبَاعًا، وَأَقْسَاهُمْ قُلُوبًا، وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ رُوحِ الْمَحَبَّةِ وَالتَّأَلُّهِ، وَنَعِيمِ الْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ. وَهُمْ يُكَفِّرُونَ أَصْحَابَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّلَذُّذِ بِحُبِّهِ، وَالتَّصْدِيقِ بِلَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ. وَأُولَئِكَ لَا يَعُدُّونَهُمْ مِنَ الْبَشَرِ إِلَّا بِالصُّورَةِ. وَمَرْتَبَتُهُمْ عِنْدَهُمْ قَرِيبَةٌ مِنْ مَرْتَبَةِ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ. وَهُمْ عِنْدَهُمْ فِي حِجَابٍ كَثِيفٍ عَنْ مَعْرِفَةِ نُفُوسِهِمْ وَكَمَالِهَا، وَمَعْرِفَةِ مَعْبُودِهِمْ وَسِرِّ عُبُودِيَّتِهِ. وَحَالُ الطَّائِفَتَيْنِ عَجَبٌ لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ - وَهُوَ مُحَالٌ -: أَنْ يُرِيدَ اللَّهَ، وَلَا يُرِيدَ مِنْهُ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ مَطْلُوبُهُمْ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ فَفِي سَيْرِهِ عِلَّةٌ، وَأَنَّ الْعَارِفَ يَنْتَهِي إِلَى هَذَا الْمَقَامِ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُرَادَهُ، وَلَا يُرِيدُ مِنْهُ شَيْئًا. كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لِي: مَا تُرِيدُ؟ فَقُلْتُ: أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ. وَهَذَا فِي التَّحْقِيقِ عَيْنُ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ: عَقْلًا وَفِطْرَةً، وَحِسًّا وَشَرْعًا. فَإِنَّ الْإِرَادَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيِّ. وَإِنَّمَا يَعْرِضُ لَهُ التَّجَرُّدُ عَنْهَا بِالْغَيْبَةِ عَنْ عَقْلِهِ وَحِسِّهِ؛ كَالسُّكْرِ وَالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ. فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ التَّجْرِيدَ عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تُزَاحِمُ إِرَادَتُهَا إِرَادَتَهُ. أَفَلَيْسَ صَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ مُرِيدًا لِقُرْبِهِ وَرِضَاهُ، وَدَوَامِ مُرَاقَبَتِهِ، وَالْحُضُورِ مَعَهُ؟ وَأَيُّ إِرَادَةٍ فَوْقَ هَذِهِ؟ نَعَمْ. قَدْ زَهِدَ فِي مُرَادٍ لِمُرَادٍ هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ وَأَعْلَى. فَلَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْإِرَادَةِ. وَإِنَّمَا انْتَقَلَ مِنْ إِرَادَةٍ إِلَى إِرَادَةٍ، وَمِنْ مُرَادٍ إِلَى مُرَادٍ. وَأَمَّا خُلُوُّهُ عَنْ صِفَةِ الْإِرَادَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، مَعَ حُضُورِ عَقْلِهِ وَحِسِّهِ فَمُحَالٌ. وَإِنْ حَاكَمَنَا فِي ذَلِكَ مُحَاكِمٌ إِلَى ذَوْقٍ مُصْطَلِمٍ مَأْخُوذٍ عَنْ نَفْسِهِ، فَانٍ عَنْ عَوَالِمِهَا: لَمْ

نُنْكِرْ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذِهِ حَالٌ عَارِضَةٌ غَيْرُ دَائِمَةٍ، وَلَا هِيَ غَايَةٌ مَطْلُوبَةٌ لِلسَّالِكِينَ، وَلَا مَقْدُورَةٌ لِلْبَشَرِ، وَلَا مَأْمُورٌ بِهَا، وَلَا هِيَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ. فَيُؤْمَرُ بِاكْتِسَابِ أَسْبَابِهَا. فَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. فَصْلٌ قَوْلُهُ: وَلَا مُشَاهِدًا لِأَحَدٍ. فَيَكُونُ مُتَزَيِّنًا بِالْمُرَاءَاةِ. هَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ أَيْضًا. وَهُوَ أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ فِي الْعَمَلِ لِغَيْرِ اللَّهِ نَوْعَانِ. مُشَاهَدَةٌ تَبْعَثُ عَلَيْهِ، أَوْ تُقَوِّي بَاعِثَهُ. فَهَذِهِ مُرَاءَاةٌ خَالِصَةٌ أَوْ مَشُوبَةٌ. كَمَا أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ الْقَاطِعَةَ عَنْهُ أَيْضًا مِنَ الْآفَاتِ وَالْحُجُبِ. وَمُشَاهَدَةٌ لَا تَبْعَثُ عَلَيْهِ وَلَا تُعِينُ الْبَاعِثَ. بَلْ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ وُجُودِهَا وَعَدَمِهَا. فَهَذِهِ لَا تُدْخِلُهُ فِي التَّزَيُّنِ بِالْمُرَاءَاةِ. وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فِي هَذِهِ الْمُشَاهَدَةِ: إِمَّا حِفْظًا وَرِعَايَةً، كَمُشَاهَدَةِ مَرِيضٍ، أَوْ مُشْرِفٍ عَلَى هَلَكَةٍ يَخَافُ وُقُوعَهُ فِيهَا. أَوْ مُشَاهَدَةِ عَدُوٍّ يَخَافُ هُجُومَهُ كَصَلَاةِ الْخَوْفِ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ. أَوْ مُشَاهَدَةُ نَاظِرٍ إِلَيْكَ يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْكَ، فَتَكُونُ مُحْسِنًا إِلَيْهِ بِالتَّعْلِيمِ، وَإِلَى نَفْسِكَ بِالْإِخْلَاصِ. أَوْ قَصْدًا مِنْكَ لِلِاقْتِدَاءِ، وَتَعْرِيفِ الْجَاهِلِ. فَهَذَا رِيَاءٌ مَحْمُودٌ. وَاللَّهُ عِنْدَ نِيَّةِ الْقَلْبِ وَقَصْدِهِ. فَالرِّيَاءُ الْمَذْمُومُ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ قَصْدَ التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ، وَالرَّغْبَةَ فِيمَا عِنْدَ مَنْ تُرَائِيهِ، أَوِ الرَّهْبَةَ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْنَاهُ - مِنْ قَصْدِ رِعَايَتِهِ، أَوْ تَعْلِيمِهِ، أَوْ إِظْهَارِ السُّنَّةِ، وَمُلَاحَظَةِ هُجُومِ الْعَدُوِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَشَاهِدِ رِيَاءٌ، بَلْ قَدْ يَتَصَدَّقُ الْعَبْدُ رِيَاءً مَثَلًا، وَتَكُونُ صَدَقَتُهُ فَوْقَ صَدَقَةِ صَاحِبِ السِّرِّ. مِثَالُ ذَلِكَ: رَجُلٌ مَضْرُورٌ، سَأَلَ قَوْمًا مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. فَعَلِمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ إِنْ أَعْطَاهُ سِرًّا، حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ لَمْ يَقْتَدِ بِهِ أَحَدٌ. وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ سِوَى تِلْكَ الْعَطِيَّةِ، وَأَنَّهُ إِنْ أَعْطَاهُ جَهْرًا اقْتُدِيَ بِهِ وَاتُّبِعَ، وَأَنِفَ الْحَاضِرُونَ مِنْ تَفَرُّدِهِ عَنْهُمْ بِالْعَطِيَّةِ. فَجَهَرَ لَهُ بِالْعَطَاءِ. وَكَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْجَهْرِ إِرَادَةَ سَعَةِ الْعَطَاءِ عَلَيْهِ مِنَ الْحَاضِرِينَ. فَهَذِهِ مُرَاءَاةٌ مَحْمُودَةٌ؛ حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا قَصْدَ التَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ. وَصَاحِبُهَا جَدِيرٌ بِأَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِ أُولَئِكَ الْمُعْطِينَ. قَوْلُهُ: فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا مِنْ شُعَبِ عِبَادَةِ النَّفْسِ. يَعْنِي أَنَّ الْخَائِفَ يَشْتَغِلُ بِحِفْظِ نَفْسِهِ مِنَ الْعَذَابِ. فَفِيهِ عِبَادَةٌ لِنَفْسِهِ؛ إِذْ هُوَ مُتَوَجِّهٌ

فصل الدرجة الثانية إجراء الخبر على ظاهره

إِلَيْهَا. وَطَالِبُ الْمَثُوبَةَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى طَلَبِ حَظِّ نَفْسِهِ. وَذَلِكَ شُعْبَةٌ مِنْ عُبُودِيَّتِهَا وَالْمُشَاهِدُ لِلنَّاسِ فِي عِبَادَتِهِ: فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ عُبُودِيَّةِ نَفْسِهِ، إِذْ هُوَ طَالِبٌ لِتَعْظِيمِهِمْ، وَثَنَائِهِمْ وَمَدْحِهِمْ. فَهَذِهِ شُعَبٌ مِنْ شُعَبِ عُبُودِيَّةِ النَّفْسِ. وَالْأَصْلُ الَّذِي هَذِهِ الشُّعَبُ فُرُوعُهُ هِيَ النَّفْسُ. فَإِذَا مَاتَتْ بِالْمُجَاهَدَةِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِهِ، وَدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ لَهُ مَاتَتْ هَذِهِ الشُّعَبُ. فَلَا جَرَمَ أَنَّ بِنَاءَ أَمْرِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ عَلَى تَرْكِ عِبَادَةِ النَّفْسِ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْخَوْفَ وَطَلَبَ الثَّوَابِ لَيْسَ مِنْ عِبَادَةِ النَّفْسِ فِي شَيْءٍ. نَعَمْ، التَّزَيُّنُ بِالْمُرَاءَاةِ عَيْنُ عِبَادَةِ النَّفْسِ. وَالْكَلَامُ فِي أَمْرٍ أَرْفَعُ مِنْ هَذَا. فَإِنَّ حَالَ الْمُرَائِي أَخَسُّ، وَنَفْسُهُ أَسْقَطُ، وَهِمَّتُهُ أَدْنَى مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فِي شَأْنِ الصَّادِقِينَ وَيُذْكَرَ مَعَ الصَّالِحِينَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ إِجْرَاءُ الْخَبَرِ عَلَى ظَاهِرِهِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: إِجْرَاءُ الْخَبَرِ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَهُوَ أَنْ تَبْقَى أَعْلَامُ تَوْحِيدِ الْعَامَّةِ الْخَبَرِيَّةِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا. وَلَا يَتَحَمَّلُ الْبَحْثُ عَنْهَا تَعَسُّفًا. وَلَا يَتَكَلَّفُ لَهَا تَأْوِيلًا. وَلَا يَتَجَاوَزُ ظَوَاهِرَهَا تَمْثِيلًا. وَلَا يَدَّعِي عَلَيْهَا إِدْرَاكًا أَوْ تَوَهُّمًا. يُشِيرُ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدَّسَ رُوحَهُ - بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ حِفْظَ حُرْمَةِ نُصُوصِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِإِجْرَاءِ أَخْبَارِهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا. وَهُوَ اعْتِقَادُ مَفْهُومِهَا الْمُتَبَادِرِ إِلَى أَذْهَانِ الْعَامَّةِ. وَلَا يَعْنِي بِالْعَامَّةِ الْجُهَّالَ، بَلْ عَامَّةَ الْأُمَّةِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ، حَتَّى عَلَاهُ الرُّحَضَاءُ، ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ.

فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمَعْلُومِ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَبَيْنَ الْكَيْفِ الَّذِي لَا يَعْقِلُهُ الْبَشَرُ. وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَافٍ، عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ. فَمَنْ سَأَلَ عَنْ قَوْلِهِ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] كَيْفَ يَسْمَعُ وَيَرَى؟ أُجِيبَ بِهَذَا الْجَوَابِ بِعَيْنِهِ. فَقِيلَ لَهُ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ مَعْلُومٌ. وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ. وَكَذَلِكَ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْعِلْمِ، وَالْحَيَاةِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ، وَالنُّزُولِ، وَالْغَضَبِ، وَالرِّضَا، وَالرَّحْمَةِ، وَالضَّحِكِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَمَعَانِيهَا كُلُّهَا مَفْهُومَةٌ. وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهَا فَغَيْرُ مَعْقُولَةٍ؛ إِذْ تَعَقُّلُ الْكَيْفِيَّةِ فَرْعُ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ الذَّاتِ وَكُنْهِهَا. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَعْقُولٍ لِلْبَشَرِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ لَهُمْ كَيْفِيَّةُ الصِّفَاتِ؟ وَالْعِصْمَةُ النَّافِعَةُ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. بَلْ تُثْبَتُ لَهُ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ، وَتُنْفَى عَنْهُ مُشَابَهَةُ الْمَخْلُوقَاتِ. فَيَكُونُ إِثْبَاتُكَ مُنَزَّهًا عَنِ التَّشْبِيهِ. وَنَفْيُكَ مُنَزَّهًا عَنِ التَّعْطِيلِ. فَمَنْ نَفَى حَقِيقَةَ الِاسْتِوَاءِ فَهُوَ مُعَطِّلٌ. وَمَنْ شَبَّهَهُ بِاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَهُوَ مُمَثِّلٌ. وَمَنْ قَالَ: اسْتِوَاءٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. فَهُوَ الْمُوَحِّدُ الْمُنَزِّهُ. وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْحَيَاةِ، وَالْإِرَادَةِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْيَدِ، وَالْوَجْهِ، وَالرِّضَا، وَالْغَضَبِ، وَالنُّزُولِ وَالضَّحِكِ، وَسَائِرِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ. وَالْمُنْحَرِفُونَ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ أَشَارَ الشَّيْخُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لَا يَتَحَمَّلُ الْبَحْثُ عَنْهَا تَعَسُّفًا؛ أَيْ لَا يَتَكَلَّفُ التَّعَسُّفَ عَنِ الْبَحْثِ عَنْ كَيْفِيَّاتِهَا. وَالتَّعَسُّفُ سُلُوكُ غَيْرِ الطَّرِيقِ. يُقَالُ: رَكِبَ فُلَانٌ التَّعَاسِيفَ فِي سَيْرِهِ. إِذَا كَانَ يَسِيرُ يَمِينًا وَشِمَالًا، جَائِرًا عَنِ الطَّرِيقِ. وَلَا يَتَكَلَّفُ لَهَا تَأْوِيلًا. أَرَادَ بِالتَّأْوِيلِ هَاهُنَا التَّأْوِيلَ الِاصْطِلَاحِيَّ. وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَعَنِ الْمَعْنَى الرَّاجِحِ إِلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ.

وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى تَرْكِهِ. وَمِمَّنْ حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ، وَأَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ فِي رِسَالَتِهِ النِّظَامِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا سَلَكَهُ فِي شَامِلِهِ وَإِرْشَادِهِ وَمِمَّنْ حَكَاهُ سَعْدُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيُّ. وَقَبْلَ هَؤُلَاءِ خَلَائِقُ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ. وَلَا يَتَجَاوَزُ ظَاهِرَهَا تَمْثِيلًا. أَيْ لَا يُمَثِّلُهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ. وَفِي قَوْلِهِ: لَا يَتَجَاوَزُ ظَاهِرَهَا، إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ. وَهِيَ أَنَّ ظَوَاهِرَهَا لَا تَقْتَضِي التَّمْثِيلَ، كَمَا تَظُنُّهُ الْمُعَطِّلَةُ النُّفَاةُ، وَأَنَّ التَّمْثِيلَ تَجَاوُزٌ لِظَوَاهِرِهَا إِلَى مَا لَا تَقْتَضِيهِ، كَمَا أَنَّ تَأْوِيلَهَا تَكَلُّفٌ، وَحَمْلٌ لَهَا عَلَى مَا لَا تَقْتَضِيهِ. فَهِيَ لَا تَقْتَضِي ظَوَاهِرُهَا تَمْثِيلًا، وَلَا تَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا، بَلْ إِجْرَاءً عَلَى ظَوَاهِرِهَا بِلَا تَأْوِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. فَهَذِهِ طَرِيقَةُ السَّالِكِينَ بِهَا سَوَاءَ السَّبِيلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَدَّعِي عَلَيْهَا إِدْرَاكًا؛ أَيْ لَا يَدَّعِي عَلَيْهَا اسْتِدْرَاكًا وَلَا فَهْمًا، وَلَا مَعْنًى غَيْرَ فَهْمِ الْعَامَّةِ، كَمَا يَدَّعِيهِ أَرْبَابُ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ، الْمَذْمُومِ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا تَوَهُّمًا؛ أَيْ لَا يَعْدِلُ عَنْ ظَوَاهِرِهَا إِلَى التَّوَهُّمِ. وَالتَّوَهُّمُ نَوْعَانِ: تَوَهُّمُ كَيْفِيَّةٍ. لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُهَا، أَوْ تَوَهُّمُ مَعْنًى غَيْرَ مَا تَقْتَضِيهِ ظَوَاهِرُهَا. وَكِلَاهُمَا تَوَهُّمٌ بَاطِلٌ. وَهُمَا تَوَهُّمُ تَشْبِيهٍ وَتَمْثِيلٍ، أَوْ تَحْرِيفٍ وَتَعْطِيلٍ. وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ يُبَيِّنُ مَرْتَبَتَهُ مِنَ السُّنَّةِ، وَمِقْدَارَهُ فِي الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا رَمَاهُ بِهِ أَعْدَاؤُهُ الْجَهْمِيَّةُ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، عَلَى عَادَتِهِمْ فِي رَمْيِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ بِذَلِكَ، كَرَمْيِ الرَّافِضَةِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ نَوَاصِبُ، وَالْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّهُمْ نَوَابِتُ حَشَوِيَّةٌ. وَذَلِكَ مِيرَاثٌ مِنْ أَعْدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمْيِهِ وَرَمْيِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ صَبَأَةٌ. قَدِ

فصل الدرجة الثالثة صيانة الانبساط والسرور والشهود

ابْتَدَعُوا دِينًا مُحْدَثًا. وَمِيرَاثٌ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. بِتَلْقِيبِ أَهْلِ الْبَاطِلِ لَهُمْ بِالْأَلْقَابِ الْمَذْمُومَةِ. وَقَدَّسَ اللَّهُ رُوحَ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ، وَقَدْ نُسِبَ إِلَى الرَّفْضِ: إِنْ كَانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ ... فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلَانِ أَنِّي رَافِضِي وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ شَيْخِنَا أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، حَيْثُ يَقُولُ: إِنْ كَانَ نَصْبًا حُبُّ صَحْبِ مُحَمَّدٍ ... فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلَانِ أَنِّي نَاصِبِي وَعَفَا اللَّهُ عَنِ الثَّالِثِ، حَيْثُ يَقُولُ: فَإِنْ كَانَ تَجْسِيمًا ثُبُوتُ صِفَاتِهِ ... وَتَنْزِيهُهَا عَنْ كُلِّ تَأْوِيلِ مُفْتَرِي فَإِنِّي - بِحَمْدِ اللَّهِ رَبِّي - مُجَسِّمٌ ... هَلُمُّوا شُهُودًا وَامْلَئُوا كُلَّ مَحْضَرِ [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ صِيَانَةُ الِانْبِسَاطِ وَالسُّرُورِ وَالشُّهُودِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: صِيَانَةُ الِانْبِسَاطِ أَنْ تَشُوبَهُ جُرْأَةٌ. وَصِيَانَةُ السُّرُورِ أَنْ يُدَاخِلَهُ أَمْنٌ. وَصِيَانَةُ الشُّهُودِ أَنْ يُعَارِضَهُ سَبَبٌ. لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ عِنْدَهُ مُخْتَصَّةً بِأَهْلِ الْمُشَاهَدَةِ - وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمُ الِانْبِسَاطُ وَالسُّرُورُ - فَإِنَّ صَاحِبَهَا مُتَعَلِّقٌ بِاسْمِهِ الْبَاسِطِ، حَذَّرَهُ مِنْ شَائِبَةِ الْجُرْأَةِ. وَهِيَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَدَبِ الْعُبُودِيَّةِ، وَيُدْخِلُهُ فِي الشَّطْحِ. كَشَطْحِ مَنْ قَالَ: سُبْحَانِي، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الشَّطَحَاتِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُخْرِجَةِ عَنْ أَدَبِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي نِهَايَةُ صَاحِبِهَا أَنْ يُعْذَرَ بِزَوَالِ عَقْلِهِ، وَغَلَبَةِ سُكْرِ الْحَالِ عَلَيْهِ. فَلَا بُدَّ مِنْ مُقَارَنَةِ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، لِبَسْطِ الْمُشَاهَدَةِ، وَإِلَّا وَقَعَ فِي الْجُرْأَةِ وَلَا بُدَّ. فَالْمُرَاقَبَةُ تَصُونُهُ عَنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَصِيَانَةُ السُّرُورِ أَنْ يُدَاخِلَهُ أَمْنٌ. يَعْنِي أَنَّ صَاحِبَ الِانْبِسَاطِ وَالْمُشَاهَدَةِ يُدَاخِلُهُ سُرُورٌ لَا يُشْبِهُهُ سُرُورٌ الْبَتَّةَ. فَيَنْبَغِي

فصل منزلة الإخلاص

لَهُ أَنْ لَا يَأْمَنَ فِي هَذَا الْحَالِ الْمَكْرَ، بَلْ يَصُونُ سُرُورَهُ وَفَرَحَهُ عَنْ خَطْفَاتِ الْمَكْرِ بِخَوْفِ الْعَاقِبَةِ، الْمَطْوِيِّ عَنْهُ عِلْمُ غَيْبِهَا. وَلَا يَغْتَرَّ. وَأَمَّا صِيَانَةُ الشُّهُودِ أَنْ يُعَارِضَهُ سَبَبٌ، فَيُرِيدُ أَنَّ صَاحِبَ الشُّهُودِ قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا فِي شُهُودِ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ. فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ، وَالْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ. فَيُنْسَبُ حُصُولُ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الشُّهُودِ إِلَى سَبَبٍ مِنْهُ. وَذَلِكَ نَقْصٌ فِي تَوْحِيدِهِ وَمَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَوْهِبَةً، لَيْسَ هُوَ كَسْبِيًّا. وَلَوْ كَانَ كَسْبِيًّا فَشُهُودُ سَبَبِهِ نَقْصٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَغَيْبَةٌ عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسَّبَبِ الْمُعَارِضِ لِلشُّهُودِ وُرُودَ خَاطِرٍ عَلَى الشَّاهِدِ، يُكَدِّرُ عَلَيْهِ صَفْوَ شُهُودِهِ. فَيَصُونُهُ عَنْ وُرُودِ سَبَبٍ يُعَارِضُهُ إِمَّا مُعَارِضُ إِرَادَةٍ، أَوْ مُعَارِضُ شُبْهَةٍ. وَقَدْ يَعُمُّ كَلَامُهُ الْأَمْرَيْنِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْإِخْلَاصِ] [حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْإِخْلَاصِ وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْإِخْلَاصِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] . وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2 - 3] . وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي - فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 14 - 15] . وَقَالَ لَهُ: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163] . وَقَالَ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] . قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: هُوَ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ، مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَانَ خَالِصًا، وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا. لَمْ يُقْبَلْ. وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا: لَمْ

يُقْبَلْ. حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ: أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125] . فَإِسْلَامُ الْوَجْهِ: إِخْلَاصُ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ لِلَّهِ. وَالْإِحْسَانُ فِيهِ: مُتَابَعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] . وَهِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ. أَوْ أُرِيدَ بِهَا غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ، فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ خَيْرًا، وَدَرَجَةً وَرِفْعَةً. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» ؛ أَيْ لَا يَبْقَى فِيهِ غِلٌّ، وَلَا يَحْمِلُ

الْغِلَّ مَعَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. بَلْ تَنْفِي عَنْهُ غِلَّهُ. وَتُنَقِّيهِ مِنْهُ. وَتُخْرِجُهُ عَنْهُ. فَإِنَّ الْقَلْبَ يَغِلُّ عَلَى الشِّرْكِ أَعْظَمَ غِلٍّ. وَكَذَلِكَ يَغِلُّ عَلَى الْغِشِّ. وَعَلَى خُرُوجِهِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ. فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَمْلَؤُهُ غِلًّا وَدَغَلًا. وَدَوَاءُ هَذَا الْغِلِّ، وَاسْتِخْرَاجُ أَخْلَاطِهِ بِتَجْرِيدِ الْإِخْلَاصِ وَالنُّصْحِ، وَمُتَابَعَةِ السُّنَّةِ. «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ رِيَاءً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً. وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً: أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَأَخْبَرَ عَنْ أَوَّلِ ثَلَاثَةٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ: قَارِئُ الْقُرْآنِ، وَالْمُجَاهِدُ، وَالْمُتَصَدِّقُ بِمَالِهِ، الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُقَالَ: فُلَانٌ قَارِئٌ، فُلَانٌ شُجَاعٌ، فُلَانٌ مُتَصَدِّقٌ، وَلَمْ تَكُنْ أَعْمَالُهُمْ خَالِصَةً لِلَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ. مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ بِهِ. وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ» . وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: يَقُولُ «لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اذْهَبْ فَخُذْ أَجْرَكَ مِمَّنْ عَمِلْتَ لَهُ. لَا أَجْرَ لَكَ عِنْدَنَا» .

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ» . وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] . وَفِي أَثَرٍ مَرْوِيٍّ إِلَهِيٍّ: «الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي، اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ مِنْ عِبَادِي» . وَقَدْ تَنَوَّعَتْ عِبَارَتُهُمْ فِي الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ، وَالْقَصْدُ وَاحِدٌ. فَقِيلَ: هُوَ إِفْرَادُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِالْقَصْدِ فِي الطَّاعَةِ. وَقِيلَ: تَصْفِيَةُ الْفِعْلِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْمَخْلُوقِينَ. وَقِيلَ: التَّوَقِّي مِنْ مُلَاحَظَةِ الْخَلْقِ حَتَّى عَنْ نَفْسِكَ. وَالصِّدْقُ التَّنَقِّي مِنْ مُطَالَعَةِ النَّفْسِ. فَالْمُخْلِصُ لَا رِيَاءَ لَهُ، وَالصَّادِقُ لَا إِعْجَابَ لَهُ. وَلَا يَتِمُّ الْإِخْلَاصُ إِلَّا بِالصِّدْقِ، وَلَا الصِّدْقُ إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ. وَلَا يَتِمَّانِ إِلَّا بِالصَّبْرِ. وَقِيلَ: مَنْ شَهِدَ فِي إِخْلَاصِهِ الْإِخْلَاصَ، احْتَاجَ إِخْلَاصُهُ إِلَى إِخْلَاصٍ. فَنُقْصَانُ كُلِّ مُخْلِصٍ فِي إِخْلَاصِهِ: بِقَدْرِ رُؤْيَةِ إِخْلَاصِهِ. فَإِذَا سَقَطَ عَنْ نَفْسِهِ رُؤْيَةُ الْإِخْلَاصِ، صَارَ مُخْلِصًا مُخْلَصًا. وَقِيلَ: الْإِخْلَاصُ اسْتِوَاءُ أَعْمَالِ الْعَبْدِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَالرِّيَاءُ: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَهُ خَيْرًا مِنْ بَاطِنِهِ. وَالصِّدْقُ فِي الْإِخْلَاصِ: أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ أَعْمَرَ مِنْ ظَاهِرِهِ.

وَقِيلَ: الْإِخْلَاصُ نِسْيَانُ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ بِدَوَامِ النَّظَرِ إِلَى الْخَالِقِ. وَمَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ. وَمِنْ كَلَامِ الْفُضَيْلِ: تَرْكُ الْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ: رِيَاءٌ. وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ: شِرْكٌ. وَالْإِخْلَاصُ: أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا. قَالَ الْجُنَيْدُ: الْإِخْلَاصُ سِرٌّ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ. لَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ فَيَكْتُبُهُ، وَلَا شَيْطَانٌ فَيُفْسِدُهُ. وَلَا هَوًى فَيُمِيلُهُ. وَقِيلَ لِسَهْلٍ: أَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ؟ فَقَالَ: الْإِخْلَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِيهِ نَصِيبٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِخْلَاصُ أَنْ لَا تَطْلُبَ عَلَى عَمَلِكَ شَاهِدًا غَيْرَ اللَّهِ، وَلَا مُجَازِيًا سِوَاهُ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: مَا أَخْلَصَ عَبْدٌ قَطُّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ. وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَعَزُّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا: الْإِخْلَاصُ. وَكَمْ أَجْتَهِدُ فِي إِسْقَاطِ الرِّيَاءِ عَنْ قَلْبِي. فَكَأَنَّهُ يَنْبُتُ عَلَى لَوْنٍ آخَرَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: إِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ انْقَطَعَتْ عَنْهُ كَثْرَةُ الْوَسَاوِسِ وَالرِّيَاءِ.

فصل درجات الإخلاص

[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْإِخْلَاصِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى إِخْرَاجُ رُؤْيَةِ الْعَمَلِ عَنِ الْعَمَلِ وَالْخَلَاصُ مِنْ طَلَبِ الْعِوَضِ عَلَى الْعَمَلِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الْإِخْلَاصُ: تَصْفِيَةُ الْعَمَلِ مِنْ كُلِّ شَوْبٍ. أَيْ لَا يُمَازِجُ عَمَلَهُ مَا يَشُوبُهُ مِنْ شَوَائِبَ إِرَادَاتُ النَّفْسِ إِمَّا طَلَبُ التَّزَيُّنِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِمَّا طَلَبُ مَدْحِهِمْ، وَالْهَرَبُ مِنْ ذَمِّهِمْ، أَوْ طَلَبُ تَعْظِيمِهِمْ، أَوْ طَلَبُ أَمْوَالِهِمْ أَوْ خِدْمَتِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَقَضَائِهِمْ حَوَائِجَهُ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ وَالشَّوَائِبِ، الَّتِي عَقْدُ مُتَفَرِّقَاتِهَا هُوَ إِرَادَةُ مَا سِوَى اللَّهِ بِعَمَلِهِ، كَائِنًا مَا كَانَ. قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: إِخْرَاجُ رُؤْيَةِ الْعَمَلِ عَنِ الْعَمَلِ، وَالْخَلَاصُ مِنْ طَلَبِ الْعِوَضِ عَلَى الْعَمَلِ، وَالنُّزُولُ عَنِ الرِّضَا بِالْعَمَلِ. يَعْرِضُ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ ثَلَاثُ آفَاتٍ: رُؤْيَتُهُ وَمُلَاحَظَتُهُ، وَطَلَبُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ، وَرِضَاهُ بِهِ وَسُكُونُهُ إِلَيْهِ. فَفِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَتَخَلَّصُ مِنْ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ. فَالَّذِي يُخَلِّصُهُ مِنْ رُؤْيَةِ عَمَلِهِ مُشَاهَدَتُهُ لِمِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَفَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ لَهُ، وَأَنَّهُ بِاللَّهِ لَا بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْجَبَ عَمَلَهُ مَشِيئَةُ اللَّهِ لَا مَشِيئَتُهُ هُوَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] . فَهُنَا يَنْفَعُهُ شُهُودُ الْجَبْرِ، وَأَنَّهُ آلَةٌ مَحْضَةٌ، وَأَنَّ فِعْلَهُ كَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ، وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَأَنَّ الْمُحَرِّكَ لَهُ غَيْرُهُ، وَالْفَاعِلُ فِيهِ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ مَيِّتٌ - وَالْمَيِّتُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا - وَأَنَّهُ لَوْ خُلِّيَ وَنَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ الصَّالِحِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ. فَإِنَّ النَّفْسَ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ، طَبْعُهَا الْكَسَلُ، وَإِيثَارُ الشَّهَوَاتِ وَالْبَطَالَةِ. وَهِيَ مَنْبَعُ كُلِّ شَرٍّ، وَمَأْوَى كُلِّ سُوءٍ. وَمَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ خَيْرٌ، وَلَا هُوَ مِنْ شَأْنِهِ. فَالْخَيْرُ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللَّهِ وَبِهِ. لَا مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا بِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21] ، وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] ، وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِرَسُولِهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] الْآيَةَ. فَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْعَبْدِ فَهُوَ مُجَرَّدُ فَضْلِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَنِعْمَتِهِ. وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ. فَرُؤْيَةُ الْعَبْدِ لِأَعْمَالِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، كَرُؤْيَتِهِ لِصِفَاتِهِ الْخِلْقِيَّةِ: مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَإِدْرَاكِهِ وَقُوَّتِهِ، بَلْ مِنْ صِحَّتِهِ، وَسَلَامَةِ أَعْضَائِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْكُلُّ مُجَرَّدُ عَطَاءِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ وَفَضْلِهِ. فَالَّذِي يُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ: مَعْرِفَةُ رَبِّهِ، وَمَعْرِفَةُ نَفْسِهِ. وَالَّذِي يُخَلِّصُهُ مِنْ طَلَبِ الْعِوَضِ عَلَى الْعَمَلِ: عِلْمُهُ بِأَنَّهُ عَبْدٌ مَحْضٌ. وَالْعَبْدُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى خِدْمَتِهِ لِسَيِّدِهِ عِوَضًا وَلَا أُجْرَةً؛ إِذْ هُوَ يَخْدِمُهُ بِمُقْتَضَى عُبُودِيَّتِهِ. فَمَا يَنَالُهُ مِنْ سَيِّدِهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ تَفَضُّلٌ مِنْهُ، وَإِحْسَانٌ إِلَيْهِ، وَإِنْعَامٌ عَلَيْهِ، لَا مُعَارَضَةٌ؛ إِذِ الْأُجْرَةُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهَا الْحُرُّ، أَوْ عَبْدُ الْغَيْرِ. فَأَمَّا عَبْدُ نَفْسِهِ فَلَا. وَالَّذِي يُخَلِّصُهُ مِنْ رِضَاهُ بِعَمَلِهِ وَسُكُونِهِ إِلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: مُطَالَعَةُ عُيُوبِهِ وَآفَاتِهِ، وَتَقْصِيرِهِ فِيهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ حَظِّ النَّفْسِ، وَنَصِيبِ الشَّيْطَانِ. فَقَلَّ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبٌ، وَإِنْ قَلَّ. وَلِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ. «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْتِفَاتِ الرَّجُلِ فِي صَلَاتِهِ؟ فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ» . فَإِذَا كَانَ هَذَا الْتِفَاتَ طَرْفِهِ أَوْ لَحْظِهِ؛ فَكَيْفَ الْتِفَاتُ قَلْبِهِ إِلَى مَا سِوَى اللَّهِ؟ هَذَا أَعْظَمُ نَصِيبِ الشَّيْطَانِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا مِنْ صَلَاتِهِ، يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ. فَجَعَلَ هَذَا الْقَدْرَ الْيَسِيرَ النَّزْرِ حَظًّا وَنَصِيبًا لِلشَّيْطَانِ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ. فَمَا الظَّنُّ بِمَا فَوْقَهُ؟

فصل الدرجة الثانية الخجل من العمل مع بذل المجهود

وَأَمَّا حَظُّ النَّفْسِ مِنَ الْعَمَلِ فَلَا يَعْرِفُهُ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ الصَّادِقُونَ. الثَّانِي: عِلْمُهُ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ مِنْ حُقُوقِ الْعُبُودِيَّةِ، وَآدَابِهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَشُرُوطِهَا، وَأَنَّ الْعَبْدَ أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقًّا، وَأَنْ يَرْضَى بِهَا لِرَبِّهِ. فَالْعَارِفُ لَا يَرْضَى بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ لِرَبِّهِ، وَلَا يَرْضَى نَفْسَهُ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَيَسْتَحْيِي مِنْ مُقَابَلَةِ اللَّهِ بِعَمَلِهِ. فَسُوءُ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ وَعَمَلِهِ وَبُغْضُهُ لَهَا، وَكَرَاهَتُهُ لِأَنْفَاسِهِ وَصُعُودِهَا إِلَى اللَّهِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّضَا بِعَمَلِهِ، وَالرِّضَا عَنْ نَفْسِهِ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفُ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ أَرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَيَهُزُّهَا. وَيَقُولُ لِنَفْسِهِ: يَا مَأْوَى كُلِّ سُوءٍ، وَهَلْ رَضِيتُكَ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: آفَةُ الْعَبْدِ رِضَاهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ بِاسْتِحْسَانِ شَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَهْلَكَهَا. وَمَنْ لَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ عَلَى دَوَامِ الْأَوْقَاتِ فَهُوَ مَغْرُورٌ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الْخَجَلُ مِنَ الْعَمَلِ مَعَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَجَلُ مِنَ الْعَمَلِ مَعَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ، وَتَوْفِيرِ الْجُهْدِ بِالِاحْتِمَاءِ مِنَ الشُّهُودِ، وَرُؤْيَةِ الْعَمَلِ فِي نُورِ التَّوْفِيقِ مِنْ عَيْنِ الْجُودِ. هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورِ " خَجَلُهُ " مِنْ عَمَلِهِ، وَهُوَ شِدَّةُ حَيَائِهِ مِنَ اللَّهِ؛ إِذْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ الْعَمَلَ صَالِحًا لَهُ، مَعَ بَذْلِ مَجْهُودِهِ فِيهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيُصَلِّي، وَيَتَصَدَّقُ، وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنِّي لَأُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَأَقُومُ عَنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ السَّارِقِ أَوِ الزَّانِي، الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ، حَيَاءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

الدرجة الثالثة إخلاص العمل بالخلاص من العمل

فَالْمُؤْمِنُ: جَمَعَ إِحْسَانًا فِي مَخَافَةٍ وَسُوءَ ظَنٍّ بِنَفْسِهِ. وَالْمَغْرُورُ: حَسَنُ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ مَعَ إِسَاءَتِهِ. الثَّانِي: تَوْفِيرُ الْجُهْدِ بِاحْتِمَائِهِ مِنَ الشُّهُودِ، أَيْ يَأْتِي بِجُهْدِ الطَّاقَةِ فِي تَصْحِيحِ الْعَمَلِ، مُحْتَمِيًا عَنْ شُهُودِهِ مِنْكَ وَبِكَ. الثَّالِثُ: أَنْ تَحْتَمِيَ بِنُورِ التَّوْفِيقِ الَّذِي يُنَوِّرُ اللَّهُ بِهِ بَصِيرَةَ الْعَبْدِ. فَتَرَى فِي ضَوْءِ ذَلِكَ النُّورِ أَنَّ عَمَلَكَ مِنْ عَيْنِ جُودِهِ لَا بِكَ، وَلَا مِنْكَ. فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: عَمَلٌ، وَاجْتِهَادٌ فِيهِ، وَخَجَلٌ، وَحَيَاءٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَصِيَانَةٌ عَنْ شُهُودِهِ مِنْكَ، وَرُؤْيَتُهُ مِنْ عَيْنِ جُودِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمِنْهُ. [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ بِالْخَلَاصِ مِنَ الْعَمَلِ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ بِالْخَلَاصِ مِنَ الْعَمَلِ، تَدَعُهُ يَسِيرُ سَيْرَ الْعِلْمِ. وَتَسِيرُ أَنْتَ مُشَاهِدًا لِلْحُكْمِ، حُرًّا مِنْ رِقِّ الرَّسْمِ. قَدْ فَسَّرَ الشَّيْخُ مُرَادَهُ بِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ مِنَ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ: تَدَعُهُ يَسِيرُ سَيْرَ الْعِلْمِ وَتَسِيرُ أَنْتَ مُشَاهِدًا لِلْحُكْمِ. وَمَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّكَ تَجْعَلُ عَمَلَكَ تَابِعًا لِعِلْمٍ، مُوَافِقًا لَهُ، مُؤْتَمًّا بِهِ. تَسِيرُ بِسَيْرِهِ وَتَقِفُ بِوُقُوفِهِ، وَتَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ. نَازِلًا مَنَازِلَهُ، مُرْتَوِيًا مِنْ مَوَارِدِهِ، نَاظِرًا إِلَى الْحُكْمِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ، مُتَقَيِّدًا بِهِ، فِعْلًا وَتَرْكًا، وَطَلَبًا وَهَرَبًا. نَاظِرًا إِلَى تَرَتُّبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَيْهِ سَبَبًا وَكَسْبًا. وَمَعَ ذَلِكَ فَتَسِيرُ أَنْتَ بِقَلْبِكَ، مُشَاهِدًا لِلْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الْقَضَائِيِّ، الَّذِي تَنْطَوِي فِيهِ الْأَسْبَابُ وَالْمُسَبَّبَاتُ، وَالْحَرَكَاتُ وَالسَّكَنَاتُ. وَلَا يَبْقَى هُنَاكَ غَيْرُ مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، وَتَفَرُّدِ الرَّبِّ وَحْدَهُ بِالْأَفْعَالِ، وَمَصْدَرِهَا عَنْ إِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. فَيَكُونُ قَائِمًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِعْلًا وَتَرْكًا، سَائِرًا بِسَيْرِهِ، وَبِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، إِيمَانًا وَشُهُودًا وَحَقِيقَةً. فَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى الْحَقِيقَةِ. قَائِمٌ بِالشَّرِيعَةِ. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا عُبُودِيَّةُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 29 - 30] . فَتَرْكُ الْعَمَلِ يَسِيرُ سَيْرَ الْعِلْمِ: مَشْهَدُ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28] ، وَسَيْرُ صَاحِبِهِ

فصل حقيقة الإخلاص توحيد المطلوب

مُشَاهِدًا لِلْحُكْمِ: مَشْهَدُ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: حُرًّا مِنْ رِقِّ الرَّسْمِ، فَالْحُرِّيَّةُ الَّتِي يُشِيرُونَ إِلَيْهَا: هِيَ عَدَمُ الدُّخُولِ تَحْتَ عُبُودِيَّةِ الْخَلْقِ وَالنَّفْسِ، وَالدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّ عُبُودِيَّةِ الْحَقِّ وَحْدَهُ. وَمُرَادُهُمْ بِالرَّسْمِ: مَا سِوَى اللَّهِ، فَكُلُّهُ رُسُومٌ. فَإِنَّ الرُّسُومَ هِيَ الْآثَارُ. وَرُسُومُ الْمَنَازِلِ وَالدِّيَارِ: هِيَ الْآثَارُ الَّتِي تَبْقَى بَعْدَ سُكَّانِهَا. وَالْمَخْلُوقَاتُ بِأَسْرِهَا فِي مَنْزِلِ الْحَقِيقَةِ رُسُومٌ وَآثَارٌ لِلْقُدْرَةِ؛ أَيْ فَتُخَلِّصُ نَفْسَكَ مِنْ عُبُودِيَّةِ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، وَتَكُونُ بِقَلْبِكَ مَعَ الْقَادِرِ الْحَقِّ وَحْدَهُ. لَا مَعَ آثَارِ قُدْرَتِهِ الَّتِي هِيَ رُسُومٌ. فَلَا تَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ لِتَشْغَلَهَا بِعُبُودِيَّتِهِ. وَلَا تَطْلُبُ بِعُبُودِيَّتِكَ لَهُ حَالًا وَلَا مَقَامًا. وَلَا مُكَاشَفَةً، وَلَا شَيْئًا سِوَاهُ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: بَذْلُ الْجُهْدِ، وَتَحْكِيمُ الْعِلْمِ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَالتَّخَلُّصُ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ. [فَصْلٌ حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ تَوْحِيدُ الْمَطْلُوبِ] فَصْلٌ الْإِخْلَاصُ عَدَمُ انْقِسَامِ الْمَطْلُوبِ. وَالصِّدْقُ عَدَمُ انْقِسَامِ الطَّلَبِ. فَحَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ: تَوْحِيدُ الْمَطْلُوبِ. وَحَقِيقَةُ الصِّدْقِ: تَوْحِيدُ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ. وَلَا يُثْمِرَانِ إِلَّا بِالِاسْتِسْلَامِ الْمَحْضِ لِلْمُتَابَعَةِ. فَهَذِهِ الْأَرْكَانُ الثَّلَاثَةُ: هِيَ أَرْكَانُ السَّيْرِ، وَأُصُولُ الطَّرِيقِ الَّتِي مَنْ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهَا سُلُوكَهُ وَسَيْرَهُ فَهُوَ مَقْطُوعٌ. وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ سَائِرٌ، فَسَيْرُهُ إِمَّا إِلَى عَكْسِ جِهَةِ مَقْصُودِهِ، وَإِمَّا سَيْرُ الْمُقْعَدِ وَالْمُقَيَّدِ، وَإِمَّا سَيْرُ صَاحِبِ الدَّابَّةِ الْجَمُوحِ. كُلَّمَا مَشَتْ خُطْوَةً إِلَى قُدَّامٍ رَجَعَتْ عَشَرَةً إِلَى الْخَلْفِ. فَإِنْ عَدَمَ الْإِخْلَاصَ وَالْمُتَابَعَةَ: انْعَكَسَ سَيْرُهُ إِلَى خَلْفٍ. وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْ جُهْدَهُ وَيُوَحِّدْ طَلَبَهُ: سَارَ سَيْرَ الْمُقَيَّدِ. وَإِنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ الثَّلَاثَةُ: فَذَلِكَ الَّذِي لَا يُجَارَى فِي مِضْمَارِ سَيْرِهِ. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيِهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

فصل منزلة التهذيب والتصفية

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّهْذِيبِ وَالتَّصْفِيَةِ] [تَعْرِيفُ التَّهْذِيبِ] وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ التَّهْذِيبِ وَالتَّصْفِيَةِ. وَهُوَ سَبْكُ الْعُبُودِيَّةِ فِي كِيرِ الِامْتِحَانِ، طَلَبًا لِإِخْرَاجِ مَا فِيهَا مِنَ الْخَبَثِ وَالْغِشِّ. قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": التَّهْذِيبُ: مِحْنَةُ أَرْبَابِ الْبِدَايَاتِ. وَهُوَ شَرِيعَةٌ مِنْ شَرَائِعَ الرِّيَاضَةِ. يُرِيدُ: أَنَّهُ صَعْبٌ عَلَى الْمُبْتَدِي. فَهُوَ لَهُ كَالْمِحْنَةِ. وَطَرِيقَةٌ لِلْمُرْتَاضِ الَّذِي قَدْ مَرَّنَ نَفْسَهُ حَتَّى اعْتَادَتْ قَبُولَهُ، وَانْقَادَتْ إِلَيْهِ. [دَرَجَاتُ التَّهْذِيبِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى تَهْذِيبُ الْخِدْمَةِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الْأُولَى: تَهْذِيبُ الْخِدْمَةِ؛ أَنْ لَا يُخَالِجَهَا جَهَالَةٌ. وَلَا يَشُوبَهَا عَادَةٌ، وَلَا يَقِفَ عِنْدَهَا هِمَّةٌ. أَيْ: تَخْلِيصُ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَصْفِيَتُهَا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ. وَهِيَ: مُخَالَجَةُ الْجَهَالَةِ، وَشَوْبُ الْعَادَةِ، وَوُقُوفُ هِمَّةِ الطَّالِبِ عِنْدَهَا. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مُخَالَطَةُ الْجُهَّالِ. فَإِنَّ الْجَهَالَةَ مَتَى خَالَطَتِ الْعُبُودِيَّةَ، أَوْرَدَهَا الْعَبْدُ غَيْرَ مَوْرِدِهَا. وَوَضَعَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَفَعَلَهَا فِي غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا، وَفَعَلَ أَفْعَالًا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا صَلَاحٌ. وَهِيَ إِفْسَادٌ لِخِدْمَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، بِأَنْ يَتَحَرَّكَ فِي مَوْضِعِ السُّكُونِ، أَوْ يَسْكُنَ فِي مَوْضِعِ التَّحَرُّكِ. أَوْ يُفَرِّقَ فِي مَوْضِعِ جَمْعٍ، أَوْ يَجْمَعَ فِي مَوْضِعِ فَرْقٍ، أَوْ يَطِيرَ فِي مَوْضِعِ سَفُوفٍ، أَوْ يُسِفَّ فِي مَوْضِعِ طَيَرَانٍ، أَوْ يُقْدِمَ فِي مَوْضِعِ إِحْجَامٍ، أَوْ يُحْجِمَ فِي مَوْضِعِ إِقْدَامٍ، أَوْ يَتَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِ وُقُوفٍ، أَوْ يَقِفَ فِي مَوْضِعِ تَقَدُّمٍ. وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْحَرَكَاتِ، الَّتِي هِيَ فِي حَقِّ الْخِدْمَةِ كَحَرَكَاتِ الثَّقِيلِ الْبَغِيضِ فِي حُقُوقِ النَّاسِ. فَالْخِدْمَةُ مَا لَمْ يَصْحَبْهَا عِلْمٌ ثَانٍ بِآدَابِهَا وَحُقُوقِهَا، غَيْرُ الْعِلْمِ بِهَا نَفْسِهَا، كَانَتْ فِي مَظِنَّةِ أَنْ تُبْعِدَ صَاحِبَهَا، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِهَا التَّقَرُّبَ. وَلَا يَلْزَمُ حُبُوطُ ثَوَابِهَا وَأَجْرِهَا فَهِيَ إِنْ لَمْ تُبْعِدْهُ عَنِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ أَبْعَدَتْهُ عَنِ الْمَنْزِلَةِ وَالْقُرْبَةِ. وَلَا تَنْفَصِلُ مَسَائِلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِلَّا بِمَعْرِفَةٍ خَاصَّةٍ بِاللَّهِ وَأَمْرِهِ، وَمَحَبَّةٍ تَامَّةٍ لَهُ، وَمَعْرِفَةٍ بِالنَّفْسِ وَمَا مِنْهَا.

الدرجة الثانية تهذيب الحال

النَّوْعُ الثَّانِي: شَوْبُ الْعَادَةِ: وَهُوَ أَنْ يُمَازِجَ الْعُبُودِيَّةَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ عَوَائِدِ النَّفْسِ تَكُونُ مُنَفِّذَةً لَهَا، مُعِينَةً عَلَيْهَا، وَصَاحِبُهَا يَعْتَقِدُهَا قُرْبَةً وَطَاعَةً، كَمَنِ اعْتَادَ الصَّوْمَ - مَثَلًا - وَتَمَرَّنَ عَلَيْهِ. فَأَلِفَتْهُ النَّفْسُ، وَصَارَ لَهَا عَادَةً تَتَقَاضَاهَا أَشَدَّ اقْتِضَاءٍ. فَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا التَّقَاضِيَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ. وَإِنَّمَا هُوَ تَقَاضِي الْعَادَةِ. وَعَلَامَةُ هَذَا أَنَّهُ إِذَا عَرَضَ عَلَيْهَا طَاعَةً دُونَ ذَلِكَ، وَأَيْسَرَ مِنْهُ، وَأَتَمَّ مَصْلَحَةً لَمْ تُؤْثِرْهَا إِيثَارَهَا لِمَا اعْتَادَتْهُ وَأَلِفَتْهُ. كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ قَالَ: حَجَجْتُ كَذَا وَكَذَا حَجَّةً عَلَى التَّجْرِيدِ، فَبَانَ لِي أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ كَانَ مَشُوبًا بِحَظِّي. وَذَلِكَ أَنَّ وَالِدَتِي سَأَلَتْنِي أَنْ أَسْتَقِيَ لَهَا جَرْعَةَ مَاءٍ. فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِي. فَعَلِمْتُ أَنَّ مُطَاوَعَةَ نَفْسِي فِي الْحَجَّاتِ كَانَ بِحَظِّ نَفْسِي وَإِرَادَتِهَا. إِذْ لَوْ كَانَتْ نَفْسِي فَانِيَةً لَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهَا مَا هُوَ حَقٌّ فِي الشَّرْعِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: وُقُوفُ هِمَّتِهِ عِنْدَ الْخِدْمَةِ. وَذَلِكَ عَلَامَةُ ضَعْفِهَا وَقُصُورِهَا. فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَحْضَ لَا تَقِفُ هِمَّتُهُ عِنْدَ الْخِدْمَةِ. بَلْ هِمَّتُهُ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ؛ إِذْ هِيَ طَالِبَةٌ لِرِضَا مَخْدُومِهِ. فَهُوَ دَائِمًا مُسْتَصْغِرٌ خِدْمَتَهُ لَهُ. لَيْسَ وَاقِفًا عِنْدَهَا. وَالْقَنَاعَةُ تُحْمَدُ مِنْ صَاحِبِهَا إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّهَا عَيْنُ الْحِرْمَانِ. فَالْمُحِبُّ لَا يَقْنَعُ بِشَيْءٍ دُونَ مَحْبُوبِهِ. فَوُقُوفُ هِمَّةِ الْعَبْدِ مَعَ خِدْمَتِهِ وَأُجْرَتِهَا: سُقُوطٌ فِيهَا وَحِرْمَانٌ. [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تَهْذِيبُ الْحَالِ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَهْذِيبُ الْحَالِ. وَهُوَ أَنْ لَا يَجْنَحَ الْحَالُ إِلَى عِلْمٍ، وَلَا يَخْضَعَ لِرَسْمٍ، وَلَا يَلْتَفِتَ إِلَى حَظٍّ. أَمَّا جُنُوحُ الْحَالِ إِلَى الْعِلْمِ فَهُوَ نَوْعَانِ: مَمْدُوحٌ، وَمَذْمُومٌ. فَالْمَمْدُوحُ: الْتِفَاتُهُ إِلَيْهِ، وَإِصْغَاؤُهُ إِلَى مَا يَأْمُرُ بِهِ، وَتَحْكِيمُهُ عَلَيْهِ، فَمَتَى لَمْ يَجْنَحْ إِلَيْهِ هَذَا الْجُنُوحَ كَانَ حَالًا مَذْمُومًا. نَاقِصًا مُبْعَدًا عَنِ اللَّهِ. فَإِنَّ كُلَّ حَالٍ لَا يَصْحَبُهُ عِلْمٌ يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ خُدَعِ الشَّيْطَانِ. وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي أَفْسَدَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ أَحْوَالَهُمْ، وَعَلَى أَهْلِ الثُّغُورِ ثُغُورَهُمْ، وَشَرَّدَهُمْ عَنِ اللَّهِ كُلَّ مُشَرَّدٍ، وَطَرَدَهُمْ عَنْهُ كُلَّ مَطْرَدٍ؛ حَيْثُ لَمْ يُحَكِّمُوا عَلَيْهِ الْعِلْمَ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُ صَفْحًا، حَتَّى قَادَهُمْ إِلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ، وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ - لَمَّا قِيلَ لَهُ: أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ

يَصِلُونَ إِلَى تَرْكِ الْحَرَكَاتِ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ - فَقَالَ الْجُنَيْدُ: إِنَّ هَذَا كَلَامُ قَوْمٍ تَكَلَّمُوا بِإِسْقَاطِ الْأَعْمَالِ عَنِ الْجَوَارِحِ. وَهُوَ عِنْدِي عَظِيمَةٌ. وَالَّذِي يَزْنِي وَيَسْرِقُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الَّذِي يَقُولُ هَذَا. فَإِنَّ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ أَخَذُوا الْأَعْمَالَ عَنِ اللَّهِ. وَإِلَيْهِ رَجَعُوا فِيهَا. وَلَوْ بَقِيتُ أَلْفَ عَامٍ لَمْ أُنْقِصْ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ذَرَّةً، إِلَّا أَنْ يُحَالَ بِي دُونَهَا. وَقَالَ: الطُّرُقُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ، إِلَّا عَلَى مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ، وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي طَرِيقِنَا هَذَا؛ لِأَنَّ طَرِيقَنَا وَعِلْمَنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ: عِلْمُنَا هَذَا مَشِيدٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْبَلِيَّةُ الَّتِي عَرَضَتْ لِهَؤُلَاءِ: أَنَّ أَحْكَامَ الْعِلْمِ تَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَتَدْعُو إِلَيْهِ. وَأَحْكَامَ الْحَالِ تَتَعَلَّقُ بِالْكَشْفِ. وَصَاحِبُ الْحَالِ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمُورٌ لَيْسَتْ فِي طَوْرِ الْعِلْمِ. فَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهَا مِيزَانَ الْعِلْمِ وَمِعْيَارَهُ، تَعَارَضَ عِنْدِهِ الْعِلْمُ وَالْحَالُ، فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ الْحُكْمِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْإِبْطَالِ. فَمَنْ حَصَلَتْ لَهُ أَحْوَالُ الْكَشْفِ، ثُمَّ جَنَحَ إِلَى أَحْكَامِ الْعِلْمِ. فَقَدْ رَجَعَ الْقَهْقَرِى، وَتَأَخَّرَ فِي سَيْرِهِ إِلَى وَرَاءَ. فَتَأَمَّلْ هَذَا الْوَارِدَ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةَ الَّتِي هِيَ سُمٌّ نَاقِعٌ تُخْرِجُ صَاحِبَهَا مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالدِّينِ كَإِخْرَاجِ الشَّعْرَةِ مِنَ الْعَجِينِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ هِيَ رُوحُ الْعِلْمِ. وَالْحَالُ الصَّحِيحُ هُوَ رُوحُ الْعَمَلِ الْمُسْتَقِيمِ. فَكُلُّ حَالٍ لَا يَكُونُ نَتِيجَةَ الْعَمَلِ الْمُسْتَقِيمِ مُطَابِقًا لِلْعِلْمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ الْخَبِيثَةِ الْفَاجِرَةِ. وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لِهَذِهِ الرُّوحِ أَحْوَالٌ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَرْتَبَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَمَنَازِلِهَا. فَمَتَى عَارَضَ الْحَالَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ، فَذَلِكَ الْحَالُ إِمَّا فَاسِدٌ وَإِمَّا نَاقِصٌ. وَلَا يَكُونُ مُسْتَقِيمًا أَبَدًا. فَالْعِلْمُ الصَّحِيحُ، وَالْعِلْمُ الْمُسْتَقِيمُ: هُمَا مِيزَانُ الْمَعْرِفَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْحَالِ الصَّحِيحِ، وَهُمَا كَالْبَدَنَيْنِ لِرُوحَيْهِمَا. فَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: " أَنْ يَجْنَحَ الْحَالُ إِلَى الْعِلْمِ " أَنَّ الْعِلْمَ يَدْعُو إِلَى التَّفْرِقَةِ دَائِمًا. وَالْحَالُ يَدْعُو إِلَى الْجَمْعِيَّةِ. وَالْقَلْبُ بَيْنَ هَذَيْنِ الدَّاعِيَيْنِ. فَهُوَ يُجِيبُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً. فَتَهْذِيبُ الْحَالِ وَتَصْفِيَتُهُ: أَنْ يُجِيبَ دَاعِيَ الْحَالِ لَا دَاعِيَ الْعِلْمِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا إِعْرَاضُهُ عَنِ الْعِلْمِ، وَعَدَمُ تَحْكِيمِهِ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ، بَلْ هُوَ مُتَعَبِّدٌ بِالْعِلْمِ، مُحَكِّمٌ لَهُ،

فصل الدرجة الثالثة تهذيب القصد

مُسْتَسْلِمٌ لَهُ، غَيْرُ مُجِيبٍ لِدَاعِيهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ. بَلْ هُوَ مُجِيبٌ لِدَاعِي الْحَالِ وَالْجَمْعِيَّةِ، آخِذٌ مِنَ الْعِلْمِ مَا يُصَحِّحُ لَهُ حَالَهُ وَجَمْعِيَّتَهُ، غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ فِيهِ اسْتِغْرَاقَ مَنْ هُوَ مُطْرِحٌ هِمَّتَهُ وَغَايَةَ مَقْصِدِهِ، لَا مَطْلُوبَ لَهُ سِوَاهُ، وَلَا مُرَادَ لَهُ إِلَّا إِيَّاهُ. فَالْعِلْمُ عِنْدَهُ آلَةٌ وَوَسِيلَةٌ. وَطَرِيقٌ تُوصِلُهُ إِلَى مَقْصِدِهِ وَمَطْلُوبِهِ. فَهُوَ كَالدَّلِيلِ بَيْنَ يَدَيْهِ. يَدْعُوهُ إِلَى الطَّرِيقِ وَيَدُلُّهُ عَلَيْهَا، فَهُوَ يُجِيبُ دَاعِيَهُ لِلدَّلَالَةِ وَمَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ. وَمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ مُلَاحَظَةِ مَقْصِدِهِ، وَمَطْلَبِهِ مِنْ سَيْرِهِ وَسَفَرِهِ وَبَاعِثِ هِمَّتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَوْطَانِهِ وَمُرَبَّاهُ، وَمِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ وَخُلَطَائِهِ. الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الِاغْتِرَابِ. وَالتَّفَرُّدُ فِي طَرِيقِ الطَّلَبِ: هُوَ الْمَسِيرُ لَهُ، وَالْمُحَرِّكُ وَالْبَاعِثُ. فَلَا يَجْنَحُ عَنْ دَاعِيهِ إِلَى اشْتِغَالِهِ بِجُزَيْئَاتِ أَحْوَالِ الدَّلِيلِ. وَمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ دَلَالَتِهِ عَلَى طَرِيقِهِ. فَهَذَا مَقْصِدُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - لَا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَخْضَعُ لِرَسْمٍ، أَيْ لَا يَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الْكَائِنَاتِ، بِحَيْثُ يَخْضَعُ لَهُ قَلْبُهُ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَالِ: إِنَّمَا يَطْلُبُ الْحَيَّ الْقَيُّومَ. فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقِفَ عِنْدَ الْمَعَاهِدِ وَالرُّسُومِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى حَظٍّ؛ أَيْ إِذَا حَصَلَ لَهُ الْحَالُ التَّامُّ: لَمْ يَشْتَغِلْ بِفَرَحِهِ بِهِ، وَحَظِّهِ مِنْهُ وَاسْتِلْذَاذِهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ حَظٌّ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ، وَبَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَاهَا. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَهْذِيبُ الْقَصْدِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: تَهْذِيبُ الْقَصْدِ. وَهُوَ تَصْفِيَتُهُ مِنْ ذُلِّ الْإِكْرَاهِ، وَتَحَفُّظُهُ مِنْ مَرِضَ الْفُتُورِ، وَنُصْرَتُهُ عَلَى مُنَازَعَاتِ الْعِلْمِ. هَذِهِ أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ تُهَذِّبُ قَصْدَهُ وَتُصَفِّيهِ. أَحَدُهَا: تَصْفِيَتُهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِكْرَاهِ. أَيْ لَا يَسُوقُ نَفْسَهُ إِلَى اللَّهِ كَرْهًا. كَالْأَجِيرِ

الْمُسَخَّرِ الْمُكَلَّفِ، بَلْ تَكُونُ دَوَاعِي قَلْبِهِ وَجَوَاذِبُهُ مُنْسَاقَةً إِلَى اللَّهِ طَوْعًا وَمَحَبَّةً وَإِيثَارًا. كَجَرَيَانِ الْمَاءِ فِي مُنْحَدَرِهِ. وَهَذِهِ حَالُ الْمُحِبِّينَ الصَّادِقِينَ. فَإِنَّ عِبَادَتَهُمْ طَوْعًا وَمَحَبَّةً وَرِضًا. فَفِيهَا قُرَّةُ عُيُونِهِمْ، وَسُرُورُ قُلُوبِهِمْ، وَلَذَّةُ أَرْوَاحِهِمْ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» ، وَكَانَ يَقُولُ: «يَا بِلَالُ، أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ» . فَقُرَّةُ عَيْنِ الْمُحِبِّ وَلَذَّتُهُ وَنَعِيمُ رُوحِهِ: فِي طَاعَةِ مَحْبُوبِهِ. بِخِلَافِ الْمُطِيعِ كَرْهًا، الْمُتَحَمِّلِ لِلْخِدْمَةِ ثِقَلًا. وَفِي قَوْلِهِ: ذُلُّ الْإِكْرَاهِ. لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْمُطِيعَ كَرْهًا يَرَى أَنَّهُ لَوْلَا ذُلُّ قَهْرِهِ، وَعُقُوبَةُ سَيِّدِهِ لَهُ لَمَا أَطَاعَهُ. فَهُوَ يَتَحَمَّلُ طَاعَتَهُ كَالْمُكْرَهِ الَّذِي قَدْ أَذَلَّهُ مُكْرِهُهُ وَقَاهِرُهُ. بِخِلَافِ الْمُحِبِّ الَّذِي يُعِدُّ طَاعَةَ مَحْبُوبِهِ قُوتًا وَنَعِيمًا، وَلَذَّةً وَسُرُورًا، فَهَذَا لَيْسَ الْحَامِلُ لَهُ ذُلَّ الْإِكْرَاهِ. وَالثَّانِي: تَحَفُظُّهُ مِنْ مَرَضِ الْفُتُورِ. أَيْ تَوَقِّيهِ مِنْ مَرَضِ فُتُورِ قَصْدِهِ، وَخُمُودِ نَارِ طَلَبِهِ. فَإِنَّ الْعَزْمَ هُوَ رُوحُ الْقَصْدِ، وَنَشَاطَهُ كَالصِّحَّةِ لَهُ. وَفُتُورَهُ مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِهِ. فَتَهْذِيبُ قَصْدِهِ وَتَصْفِيَتُهُ بِحَمِيَّتِهِ مِنْ أَسْبَابِ هَذَا الْمَرَضِ الَّذِي هُوَ فُتُورُهُ. وَإِنَّمَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُ بِالْحَمِيَّةِ مِنْ أَسْبَابِهِ. وَهُوَ أَنْ يَلْهُوَ عَنِ الْفُضُولِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَيَحْرِصَ عَلَى تَرْكِ مَا لَا يَعْنِيهِ. وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا فِيمَا يَرْجُو فِيهِ زِيَادَةَ إِيمَانِهِ وَحَالِهِ مَعَ اللَّهِ وَلَا يَصْحَبَ إِلَّا مَنْ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ بُلِيَ بِمَنْ لَا يُعِينُهُ فَلْيَدْرَأْهُ عَنْهُ مَا اسْتَطَاعَ، وَيَدْفَعْهُ دَفْعَ الصَّائِلِ.

فصل منزلة الاستقامة

الثَّالِثُ: نُصْرَةُ قَصْدِهِ عَلَى مُنَازَعَاتِ الْعِلْمِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: نُصْرَةُ خَاطِرِ الْعُبُودِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَالْجَمْعِيَّةِ فِيهَا، وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ فِيهَا بِكُلِّيَّةِ الْقَلْبِ، عَلَى جَوَاذِبِ الْعِلْمِ وَالْفِكْرَةِ فِي دَقَائِقِهِ، وَتَفَارِيعِ مَسَائِلِهِ وَفَضَلَاتِهِ. أَوْ أَنَّ الْعِلْمَ يَطْلَبُ مِنَ الْعَبْدِ الْعَمَلَ لِلرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالثَّوَابِ، وَخَوْفِ الْعِقَابُ. فَتَهْذِيبُ الْقَصْدِ: تَصْفِيَتُهُ مِنْ مُلَاحَظَةِ ذَلِكَ، وَتَجْرِيدُهُ: أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ وَعُبُودِيَّتُهُ مَحَبَّةً لِلَّهِ بِلَا عِلَّةٍ، وَأَنْ لَا يُحِبَّ اللَّهَ لِمَا يُعْطِيهِ وَيَحْمِيهِ مِنْهُ. فَتَكُونُ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ مَحَبَّةَ الْوَسَائِلِ، وَمَحَبَّتُهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ لِمَا يَنَالُهُ مِنَ الثَّوَابِ الْمَخْلُوقِ. فَهُوَ الْمَحْبُوبُ لَهُ بِالذَّاتِ. بِحَيْثُ إِذَا حَصَلَ لَهُ مَحْبُوبُهُ تَسَلَّى بِهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّكَ لِأَمْرٍ وَالَاكَ عِنْدَ حُصُولِهِ. وَمَلَّكَ عِنْدَ انْقِضَائِهِ. وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ يَخَافُ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُهُ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ. فَتَنْقَضِي مَحَبَّتُهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ ذَلِكَ الْغَرَضِ. وَإِنَّمَا مُرَادُهُ: أَنَّ مَحَبَّتَهُ تَدُومُ لَا تَنْقَضِي أَبَدًا، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ مَحْبُوبَهُ وَسِيلَةً لَهُ إِلَى غَيْرِهِ، بَلْ يَجْعَلَ مَا سِوَاهُ وَسِيلَةً لَهُ إِلَى مَحْبُوبِهِ. وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي حَامَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ، وَدَارُوا حَوْلَهُ. وَتَكَلَّمُوا فِيهِ. وَشَمَّرُوا إِلَيْهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَحْسَنَ التَّعْبِيرَ عَنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَسَاءَ الْعِبَارَةَ. وَقَصْدُهُ وَصِدْقُهُ يُصْلِحُ فَسَادَ عِبَارَتِهِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ هَذَا كَمَا يَنْبَغِي، فَلَمْ يَجِدْ لَهُ مَلْجَأً غَيْرَ الْإِنْكَارِ. وَاللَّهُ يَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ قَصْدُهُ الْحَقُّ وَاتِّبَاعُ مَرْضَاتِهِ. فَإِنَّهُ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الِاسْتِقَامَةِ] [حَقِيقَةُ الِاسْتِقَامَةِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الِاسْتِقَامَةِ وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الِاسْتِقَامَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] . وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13] .

وَقَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] . فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ ضِدُّ الطُّغْيَانِ. وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحُدُودِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 16] . سُئِلَ صِدِّيقُ الْأَمَةِ وَأَعْظَمُهَا اسْتِقَامَةً - أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ الِاسْتِقَامَةِ؟ فَقَالَ: أَنْ لَا تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا. يُرِيدُ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى مَحْضِ التَّوْحِيدِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الِاسْتِقَامَةُ: أَنْ تَسْتَقِيمَ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَلَا تَرُوغُ رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اسْتَقَامُوا: أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: اسْتَقَامُوا: أَدَّوُا الْفَرَائِضَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: اسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ فَعَمِلُوا بِطَاعَتِهِ، وَاجْتَنَبُوا مَعْصِيَتَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اسْتَقَامُوا عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى لَحِقُوا بِاللَّهِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ: اسْتَقَامُوا عَلَى مَحَبَّتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ

قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ. قَالَ: قُلْ آمَنَتْ بِاللَّهِ. ثُمَّ اسْتَقِمْ» . وَفِيهِ عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا. وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ. وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» . وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْعَبْدِ الِاسْتِقَامَةُ. وَهِيَ السَّدَادُ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَالْمُقَارَبَةُ. فَإِنْ نَزَلَ عَنْهَا: فَالتَّفْرِيطُ وَالْإِضَاعَةُ. كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ. قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» . فَجَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَقَامَاتِ الدِّينِ كُلَّهَا. فَأَمَرَ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَهِيَ السَّدَادُ وَالْإِصَابَةُ فِي النِّيَّاتِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ. وَأَخْبَرَ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ: أَنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَهَا. فَنَقَلَهُمْ إِلَى الْمُقَارَبَةِ. وَهِيَ أَنْ يَقْرَبُوا مِنْ

فصل تفسير شيخ الإسلام لقوله تعالى فاستقيموا إليه واستغفروه

الِاسْتِقَامَةِ بِحَسَبِ طَاقَتِهِمْ. كَالَّذِي يَرْمِي إِلَى الْغَرَضِ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ يُقَارِبْهُ. وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ وَالْمُقَارَبَةَ لَا تُنْجِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَلَا يَرْكَنُ أَحَدٌ إِلَى عَمَلِهِ. وَلَا يُعْجَبُ بِهِ. وَلَا يَرَى أَنَّ نَجَاتَهُ بِهِ، بَلْ إِنَّمَا نَجَاتُهُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ وَفَضْلِهِ. فَالِاسْتِقَامَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، آخِذَةٌ بِمَجَامِعِ الدِّينِ. وَهِيَ الْقِيَامُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَلَى حَقِيقَةِ الصِّدْقِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. وَالِاسْتِقَامَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَقْوَالِ، وَالْأَفْعَالِ، وَالْأَحْوَالِ، وَالنِّيَّاتِ. فَالِاسْتِقَامَةُ فِيهَا: وُقُوعُهَا لِلَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَعَلَى أَمْرِ اللَّهِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: كُنْ صَاحِبَ الِاسْتِقَامَةِ، لَا طَالِبَ الْكَرَامَةِ. فَإِنَّ نَفْسَكَ مُتَحَرِّكَةٌ فِي طَلَبِ الْكَرَامَةِ. وَرَبَّكَ يُطَالِبُكَ بِالِاسْتِقَامَةِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ تَعَالَى رَوْحَهُ - يَقُولُ: أَعْظَمُ الْكَرَامَةِ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ. [فَصْلٌ تَفْسِيرُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبَ " الْمَنَازِلِ " - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - فِي قَوْلِهِ: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6] إِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى عَيْنِ التَّفْرِيدِ. يُرِيدُ: أَنَّهُ أَرْشَدَهُمْ إِلَى شُهُودِ تَفْرِيدِهِ. وَهُوَ أَنْ لَا يَرَوْا غَيْرَ فَرْدَانِيَّتِهِ. وَتَفْرِيدُهُ نَوْعَانِ: تَفْرِيدٌ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالشُّهُودِ. وَتَفْرِيدٌ فِي الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ. وَهُمَا نَوْعَا التَّوْحِيدِ. وَفِي قَوْلِهِ: عَيْنُ التَّفْرِيدِ، إِشَارَةٌ إِلَى حَالِ الْجَمْعِ وَأَحَدِيَّتِهِ، الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ فَوْقَ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّفْرِقَةَ قَدْ تُجَامِعُ عِلْمَ الْجَمْعِ. وَأَمَّا حَالُهُ: فَلَا تُجَامِعُهُ التَّفْرِقَةُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

فصل تشبيه الاستقامة للحال بمنزلة الروح للبدن

[فَصْلٌ تَشْبِيهُ الِاسْتِقَامَةِ لِلْحَالِ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ] فَصْلٌ قَالَ: الِاسْتِقَامَةُ: رُوحٌ تَحْيَا بِهِ الْأَحْوَالُ، كَمَا تَرْبُو لِلْعَامَّةِ عَلَيْهَا الْأَعْمَالُ. وَهِيَ بَرْزَخٌ بَيْنَ وِهَادِ التَّفَرُّقِ، وَرَوَابِي الْجَمْعِ. شَبَّهَ الِاسْتِقَامَةَ لِلْحَالِ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ. فَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ إِذَا خَلَا عَنِ الرُّوحِ فَهُوَ مَيِّتٌ، فَكَذَلِكَ الْحَالُ إِذَا خَلَا عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَكَمَا أَنَّ حَيَاةَ الْأَحْوَالِ بِهَا، فَزِيَادَةُ أَعْمَالِ الزَّاهِدِينَ أَيْضًا وَرَبْوُهَا وَزَكَاؤُهَا بِهَا. فَلَا زَكَاءَ لِلْعَمَلِ وَلَا صِحَّةَ لِلْحَالِ بِدُونِهَا. وَأَمَّا كَوْنُهَا بَرْزَخًا بَيْنَ وِهَادِ التَّفَرُّقِ، وَرَوَابِي الْجَمْعِ، فَالْبَرْزَخُ هُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ. وَالْوِهَادُ: الْأَمْكِنَةُ الْمُنْخَفِضَةُ مِنَ الْأَرْضِ. وَاسْتَعَارَهَا لِلتَّفَرُّقِ؛ لِأَنَّهَا تَحْجُبُ مَنْ يَكُونُ فِيهَا عَنْ مُطَالَعَةِ مَا يَرَاهُ مَنْ هُوَ عَلَى الرَّوَابِي، كَمَا أَنَّ صَاحِبَ التَّفَرُّقِ مَحْجُوبٌ عَنْ مُطَالَعَةِ مَا يَرَاهُ صَاحِبُ الْجَمْعِ وَيُشَاهِدُهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ حَالَهُ أَنْزَلُ مِنْ حَالِهِ. فَهُوَ كَصَاحِبِ الْوِهَادِ. وَحَالُ صَاحِبِ الْجَمْعِ أَعْلَى. فَهُوَ كَصَاحِبِ الرَّوَابِي. وَشَبَّهَ حَالَ صَاحِبِ الْجَمْعِ بِحَالِ مَنْ عَلَى الرَّوَابِي لِعُلُوِّهِ. وَلِأَنَّ الرَّوَابِيَ تَكْشِفُ لِمَنْ عَلَيْهَا الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، وَصَاحِبُ الْجَمْعِ تُكْشَفُ لَهُ الْحَقَائِقُ الْمَحْجُوبَةُ عَنْ صَاحِبِ التَّفْرِقَةِ. إِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَعْنَى كَوْنِهَا بَرْزَخًا: أَنَّ السَّالِكَ يَكُونُ فِي أَوَّلِ سُلُوكِهِ فِي أَوْدِيَةِ التَّفْرِقَةِ، سَائِرًا إِلَى رَوَابِي الْجَمْعِ. فَيَسْتَقِيمُ فِي طَرِيقِ سَيْرِهِ غَايَةَ الِاسْتِقَامَةِ. لِيَصِلَ بِاسْتِقَامَتِهِ إِلَى رَوَابِي الْجَمْعِ. فَاسْتِقَامَتُهُ بَرْزَخٌ بَيْنَ تِلْكَ التَّفْرِقَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا. وَبَيْنَ الْجَمْعِ الَّذِي يَؤُمُّهُ وَيَقْصِدُهُ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ تَفْرِقَةِ الْمُقِيمِ فِي الْبَلَدِ فِي أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ. فَإِذَا عَزَمَ عَلَى السَّفَرِ، وَخَرَجَ وَفَارِقَ الْبَلَدَ. وَاسْتَمَرَّ عَلَى السَّيْرِ: كَانَ طَرِيقُ سَفَرِهِ بَرْزَخًا بَيْنَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَالْبَلَدِ الَّذِي يَقْصِدُهُ وَيَؤُمُّهُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الِاسْتِقَامَةِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الِاقْتِصَادِ] فَصْلٌ قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الِاقْتِصَادِ. لَا عَادِيًا رَسْمَ الْعِلْمِ، وَلَا مُتَجَاوِزًا حَدَّ الْإِخْلَاصِ، وَلَا مُخَالِفًا نَهْجَ السُّنَّةِ. هَذِهِ دَرَجَةٌ تَتَضَمَّنُ سِتَّةَ أُمُورٍ: عَمَلًا وَاجْتِهَادًا فِيهِ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ، وَاقْتِصَادًا،

وَهُوَ السُّلُوكُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ، وَهُوَ الْجَوْرُ عَلَى النُّفُوسِ، وَالتَّفْرِيطُ بِالْإِضَاعَةِ، وَوُقُوفًا مَعَ مَا يَرْسُمُهُ الْعِلْمُ، لَا وُقُوفًا مَعَ دَاعِي الْحَالِ. وَإِفْرَادُ الْمَعْبُودِ بِالْإِرَادَةِ، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ، وَوُقُوعُ الْأَعْمَالِ عَلَى الْأَمْرِ، وَهُوَ مُتَابَعَةُ السُّنَّةِ. فَبِهَذِهِ الْأُمُورِ السِّتَّةِ تَتِمُّ لِأَهْلِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ اسْتِقَامَتُهُمْ. وَبِالْخُرُوجِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهَا يَخْرُجُونَ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ: إِمَّا خُرُوجًا كُلِّيًّا، وَإِمَّا خُرُوجًا جُزْئِيًّا. وَالسَّلَفُ يَذْكُرُونَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ كَثِيرًا - وَهُمَا الِاقْتِصَادُ فِي الْأَعْمَالِ، وَالِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ - فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَشُمُّ قَلْبَ الْعَبْدِ وَيَخْتَبِرُهُ. فَإِنْ رَأَى فِيهِ دَاعِيَةً لِلْبِدْعَةِ، وَإِعْرَاضًا عَنْ كَمَالِ الِانْقِيَادِ لِلسُّنَّةِ: أَخْرَجَهُ عَنِ الِاعْتِصَامِ بِهَا. وَإِنْ رَأَى فِيهِ حِرْصًا عَلَى السُّنَّةِ، وَشِدَّةَ طَلَبِ لَهَا: لَمْ يَظْفَرْ بِهِ مِنْ بَابِ اقْتِطَاعِهِ عَنْهَا، فَأَمَرَهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَالْجَوْرِ عَلَى النَّفْسِ، وَمُجَاوَزَةِ حَدِّ الِاقْتِصَادِ فِيهَا، قَائِلًا لَهُ: إِنَّ هَذَا خَيْرٌ وَطَاعَةٌ. وَالزِّيَادَةُ وَالِاجْتِهَادُ فِيهَا أَكْمَلُ. فَلَا تَفْتُرْ مَعَ أَهْلِ الْفُتُورِ. وَلَا تَنَمْ مَعَ أَهْلِ النَّوْمِ، فَلَا يَزَالُ يَحُثُّهُ وَيُحَرِّضُهُ، حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنِ الِاقْتِصَادِ فِيهَا، فَيَخْرُجَ عَنْ حَدِّهَا. كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ خَارِجُ هَذَا الْحَدِّ. فَكَذَا هَذَا الْآخَرُ خَارِجٌ عَنِ الْحَدِّ الْآخَرِ. وَهَذَا حَالُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يَحْقِرُ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ صَلَاتَهُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ. وَقِرَاءَتَهُمْ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ. وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ خُرُوجٌ عَنِ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ. لَكِنَّ هَذَا إِلَى بِدْعَةِ التَّفْرِيطِ، وَالْإِضَاعَةِ، وَالْآخَرَ إِلَى بِدْعَةِ الْمُجَاوَزَةِ وَالْإِسْرَافِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا أَمَرَ اللَّهُ بِأَمْرٍ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَزَعَتَانِ، إِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ، وَإِمَّا إِلَى مُجَاوَزَةٍ، وَهِيَ الْإِفْرَاطُ، وَلَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا ظَفَرَ: زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً. فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى بِدْعَةٍ خَابَ وَخَسِرَ» . قَالَ لَهُ ذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُ بِالِاقْتِصَادِ فِي الْعَمَلِ. فَكُلُّ الْخَيْرِ فِي اجْتِهَادٍ بِاقْتِصَادٍ، وَإِخْلَاصٍ مَقْرُونٍ بِالِاتِّبَاعِ. كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: اقْتِصَادٌ فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، خَيْرٌ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، فَاحْرِصُوا أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُكُمْ عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَسُنَّتِهِمْ. وَكَذَلِكَ الرِّيَاءُ فِي الْأَعْمَالِ يُخْرِجُهُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ. وَالْفُتُورُ وَالتَّوَانِي يُخْرِجُهُ عَنْهَا أَيْضًا.

فصل الدرجة الثانية استقامة الأحوال

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ اسْتِقَامَةُ الْأَحْوَالِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتِقَامَةُ الْأَحْوَالِ. وَهِيَ شُهُودُ الْحَقِيقَةِ لَا كَسْبًا. وَرَفَضُ الدَّعْوَى لَا عِلْمًا. وَالْبَقَاءُ مَعَ نُورِ الْيَقَظَةِ لَا تَحَفُّظًا. يَعْنِي أَنَّ اسْتِقَامَةَ الْحَالِ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ. أَمَّا شُهُودُ الْحَقِيقَةِ فَالْحَقِيقَةُ حَقِيقَتَانِ: حَقِيقَةٌ كَوْنِيَّةٌ، وَحَقِيقَةٌ دِينِيَّةٌ، يَجْمَعُهُمَا حَقِيقَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ مَصْدَرُهُمَا وَمَنْشَؤُهُمَا، وَغَايَتُهُمَا. وَأَكْثَرُ أَرْبَابِ السُّلُوكِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِالْحَقِيقَةِ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ. وَشُهُودُهَا هُوَ شُهُودُ تَفَرُّدِ الرَّبِّ بِالْفِعْلِ. وَأَنَّ مَا سِوَاهُ مَحَلُّ جَرَيَانِ أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ. فَهُوَ كَالْحَفِيرِ الَّذِي هُوَ مَحَلٌّ لِجَرَيَانِ الْمَاءِ حَسْبُ. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ شُهُودَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَالْفَنَاءِ فِيهَا غَايَةُ السَّالِكِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْهَدُ حَقِيقَةَ الْأَزَلِيَّةِ وَالدَّوَامِ، وَفَنَاءَ الْحَادِثَاتِ وَطَيَّهَا فِي ضِمْنِ بِسَاطِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْأَبَدِيَّةِ، وَتَلَاشِيهَا فِي ذَلِكَ. فَيَشْهَدُهَا مَعْدُومَةً، وَيَشْهَدُ تَفَرُّدَ مُوجِدِهَا بِالْوُجُودِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ، وَأَنَّ وُجُودَ مَا سِوَاهُ رُسُومٌ وَظِلَالٌ. فَالْأَوَّلُ: شَهِدَ تَفَرُّدَهُ بِالْأَفْعَالِ. وَهَذَا شَهِدَ تَفَرُّدَهُ بِالْوُجُودِ. وَصَاحِبُ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ فِي طَوْرٍ آخَرَ. فَإِنَّهُ فِي مَشْهَدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ، وَالْفِرَقُ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَبَيْنَ مَا يُبْغِضُهُ وَيَسْخَطُهُ. فَهُوَ فِي مَقَامِ الْفَرْقِ الثَّانِي الَّذِي لَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ دَرَجَةُ الْإِسْلَامِ - فَضْلًا عَنْ مَقَامِ الْإِحْسَانِ - إِلَّا بِهِ. فَالْمُعْرِضُ عَنْهُ صَفْحًا لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ كَالَّذِي كَانَ الْجُنَيْدُ يُوصِي بِهِ أَصْحَابَهُ، فَيَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْفَرْقِ الثَّانِي. وَإِنَّمَا سُمِّيَ ثَانِيًا لِأَنَّ الْفَرْقَ الْأَوَّلَ: فَرْقٌ بِالطَّبْعِ وَالنَّفْسِ. وَهَذَا فَرْقٌ بِالْأَمْرِ. وَالْجَمْعُ أَيْضًا جَمْعَانِ: جَمْعٌ فِي فَرْقٍ، وَهُوَ جَمْعُ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ وَالتَّوْحِيدِ. وَجَمْعٌ بِلَا فَرْقٍ، وَهُوَ جَمْعُ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ. فَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: صَاحِبُ فَرْقٍ بِلَا جَمْعٍ، فَهُوَ مَذْمُومٌ نَاقِصٌ مَخْذُولٌ. وَصَاحِبُ جَمْعٍ بِلَا فَرْقٍ. وَهُوَ جَمْعُ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ، وَالْإِلْحَادِ. فَصَاحِبُهُ مُلْحِدٌ زِنْدِيقٌ.

وَصَاحِبُ فَرْقٍ وَجَمْعٍ. يَشْهَدُ الْفَرْقَ فِي الْجَمْعِ، وَالْكَثْرَةَ فِي الْوَحْدَةِ. فَهُوَ الْمُسْتَقِيمُ الْمُوَحِّدُ الْفَارِقُ. وَهَذَا صَاحِبُ الْحَقِيقَةِ الثَّالِثَةِ، الْجَامِعَةُ لِلْحَقِيقَتَيْنِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ. فَشُهُودُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْجَامِعَةِ: هُوَ عَيْنُ الِاسْتِقَامَةِ. وَأَمَّا شُهُودُ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، أَوِ الْأَزَلِيَّةِ، وَالْفَنَاءُ فِيهَا: فَأَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ. فَإِنَّ الْكَافِرَ مُقِرٌّ بِقَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ، وَأَزَلِيَّتِهِ وَأَبَدِيَّتِهِ. فَإِذَا اسْتَغْرَقَ فِي هَذَا الشُّهُودِ وَفَنِيَ بِهِ عَنْ سِوَاهُ: فَقَدْ شَهِدَ الْحَقِيقَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا كَسْبًا. أَيْ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ أَنَّ شُهُودَهَا لَمْ يَكُنْ بِالْكَسْبِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ مِنْ أَعْمَالِ النَّفْسِ. فَالْحَقِيقَةُ لَا تَبْدُو مَعَ بَقَاءِ النَّفْسِ؛ إِذِ الْحَقِيقَةُ فَرْدَانِيَّةٌ أَحَدِيَّةٌ نُورَانِيَّةٌ. فَلَا بُدَّ مِنْ زَوَالِ ظُلْمَةِ النَّفْسِ، وَرُؤْيَةِ كَسْبِهَا، وَإِلَّا لَمْ يَشْهَدِ الْحَقِيقَةَ. وَأَمَّا رَفْضُ الدَّعْوَى لَا عِلْمًا، فَالدَّعْوَى نِسْبَةُ الْحَالِ وَغَيْرِهِ إِلَى نَفْسِكَ وَإِنِّيَتِكَ. فَالِاسْتِقَامَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِتَرْكِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا. فَإِنَّ الدَّعْوَى الصَّادِقَةَ تُطْفِئُ نُورَ الْمَعْرِفَةِ. فَكَيْفَ بِالْكَاذِبَةِ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا عِلْمًا؛ أَيْ لَا يَكُونُ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى تَرْكِ الدَّعْوَى مُجَرَّدَ عِلْمِهِ بِفَسَادِ الدَّعْوَى، وَمُنَافَاتِهَا لِلِاسْتِقَامَةِ. فَإِذَا تَرَكَهَا يَكُونُ تَرْكُهَا لِكَوْنِ الْعِلْمِ قَدْ نَهَى عَنْهَا. فَيَكُونُ تَارِكًا لَهَا ظَاهِرًا لَا حَقِيقَةً، أَوْ تَارِكًا لَهَا لَفْظًا، قَائِمًا بِهَا حَالًا؛ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ قَدْ قَامَ بِحَقِّ الْعِلْمِ فِي تَرْكِهَا. فَيَتْرُكُهَا تَوَاضُعًا، بَلْ يَتْرُكُهَا حَالًا وَحَقِيقَةً. كَمَا يَتْرُكُ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا تَضُرُّهُ مَحَبَّتُهُ حُبَّهُ حَالًا وَحَقِيقَةً. وَإِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ - كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِخَيْرِ خَلْقِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]- تَرَكَ الدَّعْوَى شُهُودًا وَحَقِيقَةً وَحَالًا. وَأَمَّا الْبَقَاءُ مَعَ نُورِ الْيَقَظَةِ فَهُوَ الدَّوَامُ فِي الْيَقَظَةِ، وَأَنْ لَا يُطْفِئَ نُورَهَا بِظُلْمَةِ الْغَفْلَةِ. بَلْ يَسْتَدِيمُ يَقَظَتَهُ. وَيَرَى أَنَّهُ فِي ذَلِكَ كَالْمَجْذُوبِ الْمَأْخُوذِ عَنْ نَفْسِهِ، حِفْظًا مِنَ اللَّهِ لَهُ. لَا أَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ بِتَحَفُّظِهِ وَاحْتِرَازِهِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: يَقَظَةٌ، وَاسْتِدَامَةٌ لَهَا، وَشُهُودٌ أَنَّ ذَلِكَ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ لَا بِكَ. فَلَيْسَ سَبَبُ بَقَائِهِ فِي نُورِ الْيَقَظَةِ بِحِفْظِهِ. بَلْ بِحِفْظِ اللَّهِ لَهُ. وَكَأَنَّ الشَّيْخَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ لَا تَحْصُلُ بِكَسْبٍ. وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مَوْهِبَةٍ مِنَ اللَّهِ. فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْأُولَى " الِاسْتِقَامَةَ عَلَى الِاجْتِهَادِ " وَفِي الثَّانِيَةِ " اسْتِقَامَةُ

فصل الدرجة الثالثة استقامة بترك رؤية الاستقامة

الْأَحْوَالِ، لَا كَسْبًا وَلَا تَحَفُّظًا ". وَمُنَازَعَتُهُ فِي ذَلِكَ مُتَوَجِّهَةٌ. وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ كَسْبًا يَتَعَاطَى الْأَسْبَابَ الَّتِي تَهْجُمُ بِصَاحِبِهَا عَلَى هَذَا الْمَقَامِ. نَعَمْ، الَّذِي يُنْفَى فِي هَذَا الْمَقَامِ: شُهُودُ الْكَسْبِ، وَأَنَّ هَذَا حَصَلَ لَهُ بِكَسْبِهِ. فَنَفْيُ الْكَسْبِ شَيْءٌ وَنَفْيُ شُهُودِهِ شَيْءٌ آخَرَ. وَلَعَلَّ أَنْ نُشْبِعَ الْكَلَامَ فِي هَذَا فِيمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ اسْتِقَامَةٌ بِتَرْكِ رُؤْيَةِ الِاسْتِقَامَةِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتِقَامَةٌ بِتَرْكِ رُؤْيَةِ الِاسْتِقَامَةِ. وَبِالْغَيْبَةِ عَنْ تَطَلُّبِ الِاسْتِقَامَةِ بِشُهُودِ إِقَامَةٍ، وَتَقْوِيمُهُ الْحَقُّ. هَذِهِ الِاسْتِقَامَةُ مَعْنَاهَا: الذُّهُولُ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ. فَيَغِيبُ بِالْمَشْهُودِ الْمَقْصُودُ سُبْحَانَهُ عَنْ رُؤْيَةِ اسْتِقَامَتِهِ فِي طَلَبِهِ. فَإِنَّ رُؤْيَةَ الِاسْتِقَامَةِ تَحْجُبُهُ عَنْ حَقِيقَةِ الشُّهُودِ. وَأَمَّا الْغَيْبَةُ عَنْ تَطَلُّبِ الِاسْتِقَامَةِ فَهُوَ غَيْبَتُهُ عَنْ طَلَبِهَا بِشُهُودِ إِقَامَةِ الْحَقِّ لِلْعَبْدِ، وَتَقْوِيمِهِ إِيَّاهُ، فَإِنَّهُ إِذَا شَهِدَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُقِيمُ لَهُ وَالْمُقَوِّمُ، وَأَنَّ اسْتِقَامَتَهُ وَقِيَامَهُ بِاللَّهِ، لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِطَلَبِهِ: غَابَ بِهَذَا الشُّهُودِ عَنِ اسْتِشْعَارِ طَلَبِهِ لَهَا. وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ مُوجِبَاتِ شُهُودِ مَعْنًى اسْمُهُ الْقَيُّومُ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَحَدٍ. وَقَامَ كُلُّ شَيْءٍ بِهِ. فَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ. وَلَيْسَتْ حَاجَتُهُ إِلَيْهِ مُعَلَّلَةً بِحُدُوثٍ، كَمَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُونَ. وَلَا بِإِمْكَانٍ، كَمَا يَقُولُ الْفَلَاسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ. بَلْ حَاجَتُهُ إِلَيْهِ ذَاتِيَّةٌ، وَمَا بِالذَّاتِ لَا يُعَلَّلُ. نَعَمْ، الْحُدُوثُ وَالْإِمْكَانُ دَلِيلَانِ عَلَى الْحَاجَةِ. فَالتَّعْلِيلُ بِهِمَا مِنْ بَابِ التَّعْرِيفِ، لَا مِنْ بَابِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل منزلة التوكل

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّوَكُّلِ] [التَّوَكُّلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ] وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ التَّوَكُّلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] ، وَقَالَ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] ، وَقَالَ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] ، وَقَالَ عَنْ أَوْلِيَائِهِ: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4] ، وَقَالَ لِرَسُولِهِ: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29] ، وَقَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79] ، وَقَالَ لَهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81] ، وَقَالَ لَهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58] ، وَقَالَ لَهُ: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] ، وَقَالَ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: 12] ، وَقَالَ عَنْ أَصْحَابِ نَبِيِّهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] ، وَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] . وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ - فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ - «هُمُ

الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا لَهُ: (: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] ) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ. وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ. وَبِكَ خَاصَمْتُ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي. أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ. وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» . وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ - يَعْنِي إِذَا خَرَجَ مَنْ بَيْتِهِ - بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: هُدِيتَ وَوُقِيتَ وَكُفِيتَ. فَيَقُولُ الشَّيْطَانُ لِشَيْطَانٍ آخَرَ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟» . التَّوَكُّلُ نِصْفُ الدِّينِ. وَالنِّصْفُ الثَّانِي الْإِنَابَةُ، فَإِنَّ الدِّينَ اسْتِعَانَةٌ وَعِبَادَةٌ.

فصل معنى التوكل

فَالتَّوَكُّلُ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ، وَالْإِنَابَةُ هِيَ الْعِبَادَةُ. وَمَنْزِلَتُهُ أَوْسَعُ الْمَنَازِلِ وَأَجْمَعُهَا. وَلَا تَزَالُ مَعْمُورَةً بِالنَّازِلِينَ، لِسَعَةِ مُتَعَلِّقِ التَّوَكُّلِ، وَكَثْرَةِ حَوَائِجَ الْعَالَمِينَ، وَعُمُومِ التَّوَكُّلِ، وَوُقُوعِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، وَالطَّيْرِ وَالْوَحْشِ وَالْبَهَائِمِ. فَأَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - الْمُكَلَّفُونَ وَغَيْرُهُمْ - فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ، وَإِنْ تَبَايَنَ مُتَعَلِّقُ تَوَكُّلِهِمْ. فَأَوْلِيَاؤُهُ وَخَاصَّتُهُ يَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ فِي الْإِيمَانِ، وَنُصْرَةِ دِينِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ، وَفِي مَحَابِّهِ وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ. وَدُونَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي اسْتِقَامَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَحِفْظِ حَالِهِ مَعَ اللَّهِ، فَارِغًا عَنِ النَّاسِ. وَدُونَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي مَعْلُومٍ يَنَالُهُ مِنْهُ. مِنْ رِزْقٍ أَوْ عَافِيَةٍ. أَوْ نَصْرٍ عَلَى عَدُوٍّ، أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ وَلَدٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَدُونَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي حُصُولِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ. فَإِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْمَطَالِبِ لَا يَنَالُونَهَا غَالِبًا إِلَّا بِاسْتِعَانَتِهِمْ بِاللَّهِ. وَتَوَكُّلُهُمْ عَلَيْهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ تَوَكُّلُهُمْ أَقْوَى مِنْ تَوَكُّلِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الطَّاعَاتِ. وَلِهَذَا يُلْقُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَتَالِفِ وَالْمَهَالِكِ، مُعْتَمِدِينَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ، وَيُظْفِرَهُمْ بِمَطَالِبِهِمْ. فَأَفْضَلُ التَّوَكُّلِ، التَّوَكُّلُ فِي الْوَاجِبِ - أَعْنِي وَاجِبَ الْحَقِّ، وَوَاجِبَ الْخَلْقِ، وَوَاجِبَ النَّفْسِ - وَأَوْسَعُهُ وَأَنْفَعُهُ التَّوَكُّلُ فِي التَّأْثِيرِ فِي الْخَارِجِ فِي مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ. أَوْ فِي دَفْعِ مَفْسَدَةٍ دِينِيَّةٍ، وَهُوَ تَوَكُّلُ الْأَنْبِيَاءِ فِي إِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ، وَدَفْعِ فَسَادِ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا تَوَكُّلُ وَرَثَتِهِمْ. ثُمَّ النَّاسُ بَعْدُ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى حَسَبِ هِمَمِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ، فَمِنْ مُتَوَكِّلٍ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ الْمُلْكِ، وَمِنْ مُتَوَكِّلٍ فِي حُصُولِ رَغِيفٍ. وَمَنْ صَدَقَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ شَيْءٍ نَالَهُ. فَإِنْ كَانَ مَحْبُوبًا لَهُ مَرْضِيًّا كَانَتْ لَهُ فِيهِ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ، وَإِنْ كَانَ مَسْخُوطًا مَبْغُوضًا كَانَ مَا حَصَلَ لَهُ بِتَوَكُّلِهِ مَضَرَّةً عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا حَصَلَتْ لَهُ مَصْلَحَةُ التَّوَكُّلِ دُونَ مَصْلَحَةِ مَا تَوَكَّلَ فِيهِ. إِنْ لَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ عَلَى طَاعَاتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَعْنَى التَّوَكُّلِ] فَصْلٌ فَلْنَذْكُرْ مَعْنَى التَّوَكُّلِ وَدَرَجَاتِهِ. وَمَا قِيلَ فِيهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: التَّوَكُّلُ عَمَلُ الْقَلْبِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ. لَيْسَ بِقَوْلِ اللِّسَانِ، وَلَا عَمَلِ الْجَوَارِحِ، وَلَا هُوَ مِنْ بَابِ الْعُلُومِ وَالْإِدْرَاكَاتِ.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ فَيَقُولُ: هُوَ عِلْمُ الْقَلْبِ بِكِفَايَةِ الرَّبِّ لِلْعَبْدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالسُّكُونِ وَخُمُودِ حَرَكَةِ الْقَلْبِ. فَيَقُولُ: التَّوَكُّلُ هُوَ انْطِرَاحُ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، كَانْطِرَاحِ الْمَيِّتِ بَيْنَ يَدِي الْغَاسِلِ بِقَلْبِهِ كَيْفَ يَشَاءُ. وَهُوَ تَرْكُ الِاخْتِيَارِ، وَالِاسْتِرْسَالِ مَعَ مَجَارِي الْأَقْدَارِ. قَالَ سَهْلٌ: التَّوَكُّلُ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ اللَّهِ مَعَ مَا يُرِيدُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالرِّضَا. فَيَقُولُ: هُوَ الرِّضَا بِالْمَقْدُورِ. قَالَ بِشْرٌ الْحَافِي: يَقُولُ أَحَدُهُمْ: تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ. يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، لَوْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، رَضِيَ بِمَا يَفْعَلُ اللَّهُ. وَسُئِلَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: مَتَى يَكُونُ الرَّجُلُ مُتَوَكِّلًا؟ فَقَالَ: إِذَا رَضِيَ بِاللَّهِ وَكِيلًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالثِّقَةِ بِاللَّهِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ. وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: التَّوَكُّلُ أَنْ لَا يَظْهَرَ فِيكَ انْزِعَاجٌ إِلَى الْأَسْبَابِ، مَعَ شِدَّةٍ فَاقَتِكَ إِلَيْهَا، وَلَا تَزُولُ عَنْ حَقِيقَةِ السُّكُونِ إِلَى الْحَقِّ مَعَ وُقُوفِكَ عَلَيْهَا. قَالَ ذُو النُّونِ: هُوَ تَرْكُ تَدْبِيرِ النَّفْسِ، وَالِانْخِلَاعِ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ. وَإِنَّمَا يَقْوَى الْعَبْدُ عَلَى التَّوَكُّلِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ وَيَرَى مَا هُوَ فِيهِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّوَكُّلُ التَّعَلُّقُ بِاللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَقِيلَ: التَّوَكُّلُ أَنْ تَرِدَ عَلَيْكَ مَوَارِدُ الْفَاقَاتِ، فَلَا تَسْمُوَ إِلَّا إِلَى مَنْ إِلَيْهِ الْكِفَايَاتُ. وَقِيلَ: نَفْيُ الشُّكُوكِ، وَالتَّفْوِيضِ إِلَى مَالِكِ الْمُلُوكِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: خَلْعُ الْأَرْبَابِ وَقَطْعُ الْأَسْبَابِ. يُرِيدُ قَطْعَهَا مِنْ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهَا، لَا مِنْ مُلَابَسَةِ الْجَوَارِحِ لَهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مُرَكَّبًا مِنْ أَمْرَيْنِ أَوْ أُمُورٍ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: التَّوَكُّلُ اضْطِرَابٌ بِلَا سُكُونٍ، وَسُكُونٌ بِلَا اضْطِرَابٍ. يُرِيدُ: حَرَكَةَ ذَاتِهِ فِي الْأَسْبَابِ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَسُكُونًا إِلَى الْمُسَبِّبِ، وَرُكُونًا إِلَيْهِ. وَلَا يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ مَعَهُ. وَلَا تَسْكُنُ حَرَكَتُهُ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى رِضَاهُ. وَقَالَ أَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ: هُوَ طَرْحُ الْبَدَنِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالطُّمَأْنِينَةُ إِلَى الْكِفَايَةِ. فَإِنْ أُعْطِيَ شَكَرَ. وَإِنْ مُنِعَ صَبَرَ. فَجَعَلَهُ مُرَكَّبًا مِنْ خَمْسَةِ أُمُورٍ: الْقِيَامِ بِحَرَكَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِتَدْبِيرِ الرَّبِّ، وَسُكُونِهِ إِلَى قَضَائِهِ وَقَدْرِهِ، وَطُمَأْنِينَتِهِ وَكِفَايَتِهِ لَهُ، وَشُكْرِهِ إِذَا أَعْطَى، وَصَبْرِهِ إِذَا مَنَعَ. قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ بِكَمَالِ الْحَقِيقِيَّةِ، كَمَا وَقَعَ لِإِبْرَاهِيمَ

الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا؛ لِأَنَّهُ غَائِبٌ عَنْ نَفْسِهِ بِاللَّهِ. فَلَمْ يَرَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَ اللَّهِ. وَأَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يُنَافِي الْقِيَامَ بِالْأَسْبَابِ. فَلَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ إِلَّا مَعَ الْقِيَامِ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ بَطَالَةٌ وَتَوَكُّلٌ فَاسِدٌ. قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ طَعَنَ فِي الْحَرَكَةِ فَقَدْ طَعَنَ فِي السُّنَّةِ. وَمَنْ طَعَنَ فِي التَّوَكُّلِ فَقَدْ طَعَنَ فِي الْإِيمَانِ. فَالتَّوَكُّلُ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْكَسْبُ سُنَّتُهُ. فَمَنْ عَمِلَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَتْرُكَنَّ سُنَّتَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: هُوَ اضْطِرَابٌ بِلَا سُكُونٍ، وَسُكُونٌ بِلَا اضْطِرَابٍ وَقَوْلُ سَهْلٍ أَبْيَنُ وَأَرْفَعُ. وَقِيلَ: التَّوَكُّلُ قَطْعُ عَلَائِقِ الْقَلْبِ بِغَيْرِ اللَّهِ. وَسُئِلَ سَهْلٌ عَنِ التَّوَكُّلِ؟ فَقَالَ: قَلْبٌ عَاشَ مَعَ اللَّهِ بِلَا عَلَاقَةٍ. وَقِيلَ: التَّوَكُّلُ هَجْرُ الْعَلَائِقِ، وَمُوَاصَلَةُ الْحَقَائِقِ. وَقِيلَ: التَّوَكُّلُ أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَكَ الْإِكْثَارُ وَالْإِقْلَالُ. وَهَذَا مِنْ مُوجِبَاتِهِ وَآثَارِهِ، لَا أَنَّهُ حَقِيقَتُهُ. وَقِيلَ: هُوَ تَرْكُ كُلِّ سَبَبٍ يُوَصِّلُكَ إِلَى مُسَبِّبٍ، حَتَّى يَكُونَ الْحَقُّ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِذَلِكَ. وَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ وَجْهٍ، بَاطِلٌ مِنْ وَجْهٍ. فَتَرْكُ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورُ بِهَا قَادِحٌ فِي التَّوَكُّلِ. وَقَدْ تَوَلَّى الْحَقُّ إِيصَالَ الْعَبْدِ بِهَا. وَأَمَّا تَرْكُ الْأَسْبَابِ الْمُبَاحَةِ فَإِنَّ تَرْكَهَا لِمَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهَا مَصْلَحَةً فَمَمْدُوحٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَذْمُومٌ. وَقِيلَ: هُوَ إِلْقَاءُ النَّفْسِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَإِخْرَاجُهَا مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ. يُرِيدُ اسْتِرْسَالَهَا مَعَ الْأَمْرِ، وَبَرَاءَتَهَا مِنْ حَوْلِهَا وَقُوَّتِهَا، وَشُهُودَ ذَلِكَ بِهَا، بَلْ بِالرَّبِّ وَحْدَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَّوَكُّلُ هُوَ التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ الرَّبِّ وَقَضَائِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ التَّفْوِيضُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ التَّوَكُّلَ بِدَايَةً، وَالتَّسْلِيمَ وَاسِطَةً، وَالتَّفْوِيضَ نِهَايَةً. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: التَّوَكُّلُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: التَّوَكُّلُ، ثُمَّ التَّسْلِيمُ، ثُمَّ

حقيقة التوكل مركبة في أمور

التَّفْوِيضُ. فَالْمُتَوَكِّلُ يَسْكُنُ إِلَى وَعْدِهِ، وَصَاحِبُ التَّسْلِيمِ يَكْتَفِي بِعِلْمِهِ، وَصَاحِبُ التَّفْوِيضِ يَرْضَى بِحُكْمِهِ. فَالتَّوَكُّلُ بِدَايَةٌ، وَالتَّسْلِيمُ وَاسِطَةٌ، وَالتَّفْوِيضُ نِهَايَةٌ. فَالتَّوَكُّلُ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّسْلِيمُ صِفَةُ الْأَوْلِيَاءِ. وَالتَّفْوِيضُ صِفَةُ الْمُوَحِّدِينَ. التَّوَكُّلُ صِفَةُ الْعَوَامِّ. وَالتَّسْلِيمُ صِفَةُ الْخَوَاصِّ، وَالتَّفْوِيضُ صِفَةُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ. التَّوَكُّلُ صِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالتَّسْلِيمُ صِفَةُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَالتَّفْوِيضُ صِفَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الدَّقَّاقِ. وَمَعْنَى هَذَا التَّوَكُّلِ اعْتِمَادٌ عَلَى الْوَكِيلِ، وَقَدْ يَعْتَمِدُ الرَّجُلُ عَلَى وَكِيلِهِ مَعَ نَوْعِ اقْتِرَاحٍ عَلَيْهِ، وَإِرَادَةٍ وَشَائِبَةِ مُنَازَعَةٍ. فَإِذَا سَلَّمَ إِلَيْهِ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ. وَرَضِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ وَكِيلُهُ. وَحَالُ الْمُفَوَّضِ فَوْقَ هَذَا. فَإِنَّهُ طَالِبٌ مُرِيدٌ مِمَّنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ، مُلْتَمِسٌ مِنْهُ أَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَهُ. فَهُوَ رِضًا وَاخْتِيَارٌ، وَتَسْلِيمٌ وَاعْتِمَادٌ، فَالتَّوَكُّلُ يَنْدَرِجُ فِي التَّسْلِيمِ، وَهُوَ وَالتَّسْلِيمُ يَنْدَرِجَانِ فِي التَّفْوِيضِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ مُرَكَّبَةٌ فِي أُمُورٍ] [فَصْلٌ الْأُولَى مَعْرِفَةُ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ] فَصْلٌ وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ التَّوَكُّلَ حَالٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مَجْمُوعِ أُمُورٍ، لَا تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ إِلَّا بِهَا. وَكُلٌّ أَشَارَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. فَأَوَّلُ ذَلِكَ: مَعْرِفَةٌ بِالرَّبِّ وَصِفَاتِهِ مِنْ قُدْرَتِهِ، وَكِفَايَتِهِ، وَقَيُّومِيَّتِهِ، وَانْتِهَاءِ الْأُمُورِ إِلَى عِلْمِهِ، وَصُدُورِهَا عَنْ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ أَوَّلُ دَرَجَةٍ يَضَعُ بِهَا الْعَبْدُ قَدَمَهُ فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ. قَالَ شَيْخُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ فَيْلَسُوفٍ. وَلَا مِنَ الْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ. وَلَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا مِنَ الْجَهْمِيَّةِ النُّفَاةِ لِصِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَلَا يَسْتَقِيمُ التَّوَكُّلُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ. فَأَيُّ تَوَكُّلٍ لِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعُمُّ جُزَيْئَاتِ الْعَالِمِ سُفْلِيِّهِ وَعُلْوِيِّهِ؟ وَلَا هُوَ فَاعِلٌ بِاخْتِيَارِهِ؟ وَلَا لَهُ إِرَادَةٌ وَمَشِيئَةٌ. وَلَا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ؟ فَكُلُّ مَنْ كَانَ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَعْلَمُ وَأَعْرَفُ كَانَ تَوَكُّلُهُ أَصَحَّ وَأَقْوَى. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ إِثْبَاتٌ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ] فَصْلٌ

الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: إِثْبَاتٌ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ. فَإِنَّ مَنْ نَفَاهَا فَتَوَكُّلُهُ مَدْخُولٌ. وَهَذَا عَكْسُ مَا يَظْهَرُ فِي بَدَوَاتِ الرَّأْيِ: أَنَّ إِثْبَاتَ الْأَسْبَابِ يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، وَأَنَّ نَفْيَهَا تَمَامُ التَّوَكُّلِ. فَاعْلَمْ أَنَّ نُفَاةَ الْأَسْبَابِ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ تَوَكُّلٌ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي حُصُولِ الْمُتَوَكَّلِ فِيهِ. فَهُوَ كَالدُّعَاءِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْمَدْعُوِّ بِهِ. فَإِذَا اعْتَقَدَ الْعَبْدُ أَنَّ تَوَكُّلَهُ لَمْ يَنْصِبْهُ اللَّهُ سَبَبًا. وَلَا جَعْلَ دُعَاءَهُ سَبَبًا لِنَيْلِ شَيْءٍ. فَإِنَّ الْمُتَوَكِّلَ فِيهِ الْمَدْعُوَّ بِحُصُولِهِ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ حَصَلَ، تَوَكَّلَ أَوْ لَمْ يَتَوَكَّلْ، دَعَا أَوْ لَمْ يَدْعُ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَمْ يَحْصُلْ، تَوَكَّلَ أَيْضًا أَوْ تَرَكَ التَّوَكُّلَ. وَصَرَّحَ هَؤُلَاءِ أَنَّ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ عُبُودِيَّةٌ مَحْضَةٌ. لَا فَائِدَةَ لَهُمَا إِلَّا ذَلِكَ. وَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ مَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِمَّا قُدِّرَ لَهُ. وَمِنْ غُلَاتِهِمْ مَنْ يَجْعَلُ الدُّعَاءَ بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ؛ إِذْ هُوَ مَضْمُونُ الْحُصُولِ. وَرَأَيْتُ بَعْضَ مُتَعَمِّقِي هَؤُلَاءِ - فِي كِتَابٍ لَهُ - لَا يُجَوِّزُ الدُّعَاءَ بِهَذَا. وَإِنَّمَا يُجَوِّزُهُ تِلَاوَةً لَا دُعَاءً. قَالَ: لِأَنَّ الدُّعَاءَ بِهِ يَتَضَمَّنُ الشَّكَّ فِي وُقُوعِهِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. وَالشَّكُّ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ شَكٌّ فِي خَبَرِ اللَّهِ. فَانْظُرْ إِلَى مَا قَادَ إِنْكَارُ الْأَسْبَابِ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَتَحْرِيمِ الدُّعَاءِ بِمَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِالدُّعَاءِ بِهِ وَبِطَلَبِهِ. وَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ - مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى الْآنَ - يَدْعُونَ بِهِ فِي مَقَامَاتِ الدُّعَاءَ. وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الدَّعَوَاتِ. وَجَوَابُ هَذَا الْوَهْمِ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَالَ: بَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْقِسْمَيْنِ لَمْ تَذْكُرُوهُ. وَهُوَ الْوَاقِعُ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَضَى بِحُصُولِ الشَّيْءِ عِنْدَ حُصُولِ سَبَبِهِ مِنَ التَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ. فَنَصَبَ الدُّعَاءَ وَالتَّوَكُّلَ سَبَبَيْنِ لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ. وَقَضَى اللَّهُ بِحُصُولِهِ إِذَا فَعَلَ الْعَبْدُ سَبَبَهُ. فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِالسَّبَبِ امْتَنَعَ الْمُسَبَّبُ. وَهَذَا كَمَا قَضَى بِحُصُولِ الْوَلَدِ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ مَنْ يُحِبُّهَا. فَإِذَا لَمْ يُجَامِعْ لَمْ يُخْلَقِ الْوَلَدُ. وَقَضَى بِحُصُولِ الشِّبَعِ إِذَا أَكَلَ، وَالرِّيِّ إِذَا شَرِبَ. فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَشْبَعْ وَلَمْ يُرْوَ. وَقَضَى بِحُصُولِ الْحَجِّ وَالْوُصُولِ إِلَى مَكَّةَ إِذَا سَافَرَ وَرَكِبَ الطَّرِيقَ، فَإِذَا جَلَسَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَكَّةَ.

فصل الدرجة الثالثة رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل

وَقَضَى بِدُخُولِ الْجَنَّةِ إِذَا أَسْلَمَ، وَأَتَى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. فَإِذَا تَرَكَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَعْمَلِ الصَّالِحَاتِ لَمْ يَدْخُلْهَا أَبَدًا. وَقَضَى بِإِنْضَاجِ الطَّعَامِ بِإِيقَادِ النَّارِ تَحْتَهُ. وَقَضَى بِطُلُوعِ الْحُبُوبِ الَّتِي تُزْرَعُ بِشَقِّ الْأَرْضِ، وَإِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِيهَا. فَمَا لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا الْخَيْبَةُ. فَوِزَانُ مَا قَالَهُ مُنْكِرُو الْأَسْبَابِ: أَنْ يَتْرُكَ كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ السَّبَبَ الْمُوصِّلَ. وَيَقُولُ: إِنْ كَانَ قُضِيَ لِي وَسَبَقَ فِي الْأَزَلِ حُصُولُ الْوَلَدِ، وَالشِّبَعُ، وَالرِّيُّ، وَالْحَجُّ وَنَحْوُهَا. فَلَابُدَّ أَنْ يَصِلَ إِلَيَّ، تَحَرَّكْتُ أَوْ سَكَنْتُ، وَتَزَوَّجْتُ أَوْ تَرَكْتُ، سَافَرْتُ أَوْ قَعَدْتُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُضِيَ لِي لَمْ يَحْصُلْ لِي أَيْضًا، فَعَلْتُ أَوْ تَرَكْتُ. فَهَلْ يَعُدُّ أَحَدٌ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْعُقَلَاءِ؟ وَهَلِ الْبَهَائِمُ إِلَّا أَفْقَهُ مِنْهُ؟ فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ تَسْعَى فِي السَّبَبِ بِالْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ. فَالتَّوَكُّلُ مِنْ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْمَطْلُوبُ، وَيَنْدَفِعُ بِهَا الْمَكْرُوهُ. فَمَنْ أَنْكَرَ الْأَسْبَابَ لَمْ يَسْتَقِمْ مِنْهُ التَّوَكُّلُ. وَلَكِنَّ مِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ عَدَمَ الرُّكُونِ إِلَى الْأَسْبَابِ، وَقَطْعَ عَلَاقَةِ الْقَلْبِ بِهَا؛ فَيَكُونُ حَالُ قَلْبِهِ قِيَامَهُ بِاللَّهِ لَا بِهَا. وَحَالُ بَدَنِهِ قِيَامَهُ بِهَا. فَالْأَسْبَابُ مَحَلُّ حِكْمَةِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَدِينِهِ. وَالتَّوَكُّلُ مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. فَلَا تَقُومُ عُبُودِيَّةُ الْأَسْبَابِ إِلَّا عَلَى سَاقِ التَّوَكُّلِ. وَلَا يَقُومُ سَاقُ التَّوَكُّلِ إِلَّا عَلَى قَدَمِ الْعُبُودِيَّةِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ رُسُوخُ الْقَلْبِ فِي مَقَامِ تَوْحِيدِ التَّوَكُّلِ] فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: رُسُوخُ الْقَلْبِ فِي مَقَامِ تَوْحِيدِ التَّوَكُّلِ. فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ تَوَكُّلُ الْعَبْدِ حَتَّى يَصِحَّ لَهُ تَوْحِيدُهُ. بَلْ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ تَوْحِيدُ الْقَلْبِ. فَمَا دَامَتْ فِيهِ عَلَائِقُ الشِّرْكِ، فَتَوَكُّلُهُ مَعْلُولٌ مَدْخُولٌ. وَعَلَى قَدْرِ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ تَكُونُ صِحَّةُ التَّوَكُّلِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مَتَى الْتَفَتَ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ أَخَذَ ذَلِكَ الِالْتِفَاتُ شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ قَلْبِهِ. فَنَقَصَ مِنْ تَوَكُّلِهِ عَلَى اللَّهِ بِقَدْرِ ذَهَابِ تِلْكَ الشُّعْبَةِ وَمِنْ هَاهُنَا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِرَفْضِ الْأَسْبَابِ. وَهَذَا حَقٌّ. لَكِنَّ رَفْضَهَا عَنِ الْقَلْبِ لَا عَنِ الْجَوَارِحِ. فَالتَّوَكُّلُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِرَفْضِ الْأَسْبَابِ عَنِ الْقَلْبِ، وَتَعَلُّقِ الْجَوَارِحِ بِهَا. فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا مِنْهَا مُتَّصِلًا بِهَا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

فصل الدرجة الرابعة اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه إليه

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الرَّابِعَةُ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَاسْتِنَادُهُ إِلَيْهِ وَسُكُونُهُ إِلَيْهِ] فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الرَّابِعَةُ: اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ، وَاسْتِنَادُهُ إِلَيْهِ، وَسُكُونُهُ إِلَيْهِ. بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ اضْطِرَابٌ مِنْ تَشْوِيشِ الْأَسْبَابِ، وَلَا سُكُونٍ إِلَيْهَا، بَلْ يَخْلَعُ السُّكُونَ إِلَيْهَا مِنْ قَلْبِهِ. وَيَلْبَسُهُ السُّكُونُ إِلَى مُسَبِّبِهَا. وَعَلَامَةُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُبَالِي بِإِقْبَالِهَا وَإِدْبَارِهَا. وَلَا يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ وَيَخْفُقُ عِنْدَ إِدْبَارِ مَا يُحِبُّ مِنْهَا، وَإِقْبَالِ مَا يَكْرَهُ؛ لِأَنَّ اعْتِمَادَهُ عَلَى اللَّهِ، وَسُكُونَهُ إِلَيْهِ، وَاسْتِنَادَهُ إِلَيْهِ، قَدْ حَصَّنَهُ مِنْ خَوْفِهَا وَرَجَائِهَا. فَحَالُهُ حَالَ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ عَدُوٌّ عَظِيمٌ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ. فَرَأَى حِصْنًا مَفْتُوحًا، فَأَدْخَلَهُ رَبُّهُ إِلَيْهِ. وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ الْحِصْنِ. فَهُوَ يُشَاهِدُ عَدُوَّهُ خَارِجَ الْحِصْنِ. فَاضْطِرَابُ قَلْبِهِ وَخَوْفُهُ مِنْ عَدُوِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا مَعْنَى لَهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْطَاهُ مَلِكٌ دِرْهَمًا، فَسَرَقَ مِنْهُ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: عِنْدِي أَضْعَافُهُ. فَلَا تَهْتَمَّ. مَتَى جِئْتُ إِلَيَّ أَعْطَيْتُكَ مِنْ خَزَائِنِي أَضْعَافَهُ. فَإِذَا عَلِمَ صِحَّةَ قَوْلِ الْمَلِكِ، وَوَثِقَ بِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَعَلِمَ أَنَّ خَزَائِنَهُ مَلِيئَةٌ بِذَلِكَ - لَمْ يُحْزِنْهُ فَوْتُهُ. وَقَدْ مُثِّلَ ذَلِكَ بِحَالِ الطِّفْلِ الرَّضِيعِ فِي اعْتِمَادِهِ وَسُكُونِهِ. وَطُمَأْنِينَتُهُ بِثَدْيِ أُمِّهِ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ. وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الْمُتَوَكِّلُ كَالطِّفْلِ. لَا يَعْرِفُ شَيْئًا يَأْوِي إِلَيْهِ إِلَّا ثَدْيَ أُمِّهِ، كَذَلِكَ الْمُتَوَكِّلُ لَا يَأْوِي إِلَّا إِلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الْخَامِسَةُ حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الْخَامِسَةُ: حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَعَلَى قَدْرِ حُسْنِ ظَنِّكَ بِرَبِّكَ وَرَجَائِكَ لَهُ. يَكُونُ تَوَكُّلُكَ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ التَّوَكُّلَ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِهِ يَدْعُوهُ إِلَى التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ التَّوَكُّلُ عَلَى مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ، وَلَا التَّوَكُّلُ عَلَى مَنْ لَا تَرْجُوهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ السَّادِسَةُ اسْتِسْلَامُ الْقَلْبِ لِلَّهِ] فَصْلٌ الدَّرَجَةُ السَّادِسَةُ: اسْتِسْلَامُ الْقَلْبِ لَهُ، وَانْجِذَابُ دَوَاعِيهِ كُلِّهَا إِلَيْهِ، وَقَطْعُ مُنَازَعَاتِهِ. وَبِهَذَا فَسَّرَهُ مَنْ قَالَ: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدِي الْغَاسِلِ،

فصل الدرجة السابعة التفويض

يُقَلِّبُهُ كَيْفَ أَرَادَ، لَا يَكُونُ لَهُ حَرَكَةٌ وَلَا تَدْبِيرٌ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: التَّوَكُّلُ إِسْقَاطُ التَّدْبِيرِ. يَعْنِي الِاسْتِسْلَامَ لِتَدْبِيرِ الرَّبِّ لَكَ. وَهَذَا فِي غَيْرِ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. بَلْ فِيمَا يَفْعَلُهُ بِكَ. لَا فِيمَا أَمَرَكَ بِفِعْلِهِ. فَالِاسْتِسْلَامُ كَتَسْلِيمِ الْعَبْدِ الذَّلِيلِ نَفْسَهُ لِسَيِّدِهِ، وَانْقِيَادِهِ لَهُ، وَتَرْكِ مُنَازَعَاتِ نَفْسِهِ وَإِرَادَتِهَا مَعَ سَيِّدِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ السَّابِعَةُ التَّفْوِيضُ] فَصْلٌ الدَّرَجَةُ السَّابِعَةُ: التَّفْوِيضُ. وَهُوَ رُوحُ التَّوَكُّلِ وَلُبُّهُ وَحَقِيقَتُهُ. وَهُوَ إِلْقَاءُ أُمُورِهِ كُلِّهَا إِلَى اللَّهِ، وَإِنْزَالُهَا بِهِ طَلَبًا وَاخْتِيَارًا، لَا كَرْهًا وَاضْطِرَارًا. بَلْ كَتَفْوِيضِ الِابْنِ الْعَاجِزِ الضَّعِيفِ الْمَغْلُوبِ عَلَى أَمْرِهِ: كُلَّ أُمُورِهِ إِلَى أَبِيهِ، الْعَالِمِ بِشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ وَرَحْمَتِهِ، وَتَمَامِ كِفَايَتِهِ، وَحُسْنِ وِلَايَتِهِ لَهُ، وَتَدْبِيرِهِ لَهُ. فَهُوَ يَرَى أَنَّ تَدْبِيرَ أَبِيهِ لَهُ خَيْرٌ مِنْ تَدْبِيرِهِ لِنَفْسِهِ، وَقِيَامَهُ بِمَصَالِحِهِ وَتَوَلِّيَهُ لَهَا خَيْرٌ مِنْ قِيَامِهِ هُوَ بِمَصَالِحَ نَفْسِهِ وَتَوَلِّيهِ لَهَا. فَلَا يَجِدُ لَهُ أَصْلَحَ وَلَا أَرْفَقَ مِنْ تَفْوِيضِهِ أُمُورَهُ كُلَّهَا إِلَى أَبِيهِ، وَرَاحَتِهِ مِنْ حَمْلِ كُلَفِهَا وَثِقَلِ حِمْلِهَا، مَعَ عَجْزِهِ عَنْهَا، وَجَهْلِهِ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ فِيهَا، وَعِلْمِهِ بِكَمَالِ عَلَمِ مَنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ، وَقُدْرَتِهِ وَشَفَقَتِهِ. [فَصْلٌ ثَمَرَةُ التَّوَكُّلِ] فَصْلٌ فَإِذَا وَضَعَ قَدَمَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ. انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الرِّضَا. وَهِيَ ثَمَرَةُ التَّوَكُّلِ. وَمَنْ فَسَّرَ التَّوَكُّلَ بِهَا فَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِأَجَلِّ ثَمَرَاتِهِ، وَأَعْظَمِ فَوَائِدِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَوَكَّلَ حَقَّ التَّوَكُّلِ رَضِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ وَكِيلُهُ. وَكَانَ شَيْخُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: الْمَقْدُورُ يَكْتَنِفُهُ أَمْرَانِ: التَّوَكُّلُ قَبْلَهُ، وَالرِّضَا بَعْدَهُ، فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ الْفِعْلِ. وَرَضِيَ بِالْمَقْضِيِّ لَهُ بَعْدَ الْفِعْلِ فَقَدْ قَامَ بِالْعُبُودِيَّةِ. أَوْ مَعْنَى هَذَا. قُلْتُ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ» . فَهَذَا تَوَكُّلٌ وَتَفْوِيضٌ. ثُمَّ قَالَ: «فَإِنَّكَ تَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَتَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» . فَهَذَا تَبَرُّؤٌ إِلَى اللَّهِ مِنْ

فصل اشتباه المحمود الكامل بالمذموم الناقص

الْعِلْمِ وَالْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَتَوَسُّلٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِهِ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ مَا تَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِهَا الْمُتَوَسِّلُونَ. ثُمَّ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ ذَلِكَ الْأَمْرَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَتُهُ، عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، وَأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْهُ إِنْ كَانَ فِيهِ مَضَرَّتُهُ، عَاجِلًا أَوْ آجِلًا. فَهَذَا هُوَ حَاجَتُهُ الَّتِي سَأَلَهَا. فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِلَّا الرِّضَا بِمَا يَقْضِيهِ لَهُ. فَقَالَ: «وَاقَدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ» . فَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الدُّعَاءُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْحَقَائِقِ الْإِيمَانِيَّةِ، الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا التَّوَكُّلُ وَالتَّفْوِيضُ، قَبْلَ وُقُوعِ الْمَقْدُورِ، وَالرِّضَا بَعْدَهُ. وَهُوَ ثَمَرَةُ التَّوَكُّلِ. وَالتَّفْوِيضُ عَلَامَةُ صِحَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِمَا قُضِيَ لَهُ، فَتَفْوِيضُهُ مَعْلُولٌ فَاسِدٌ. فَبِاسْتِكْمَالِ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّمَانِي يَسْتَكْمِلُ الْعَبْدُ مَقَامَ التَّوَكُّلِ، وَتَثْبُتُ قَدَمُهُ فِيهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بِشْرٍ الْحَافِي: يَقُولُ أَحَدُهُمْ: تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ. يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ. لَوْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لَرَضِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِ. وَقَوْلِ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ وَقَدْ سُئِلَ: مَتَى يَكُونُ الرَّجُلُ مُتَوَكِّلًا؟ فَقَالَ: إِذَا رَضِيَ بِاللَّهِ وَكِيلًا. [فَصْلٌ اشْتِبَاهُ الْمَحْمُودِ الْكَامِلِ بِالْمَذْمُومِ النَّاقِصِ] فَصْلٌ وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَحْمُودُ الْكَامِلُ بِالْمَذْمُومِ النَّاقِصِ. فَيَشْتَبِهُ التَّفْوِيضُ بِالْإِضَاعَةِ. فَيُضَيِّعُ الْعَبْدُ حَظَّهُ. ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ تَفْوِيضٌ وَتَوَكُّلٌ. وَإِنَّمَا هُوَ تَضْيِيعٌ لَا تَفْوِيضٌ. فَالتَّضْيِيعُ فِي حَقِّ اللَّهِ. وَالتَّفْوِيضُ فِي حَقِّكَ. وَمِنْهُ اشْتِبَاهُ التَّوَكُّلِ بِالرَّاحَةِ، وَإِلْقَاءُ حِمْلِ الْكُلِّ. فَيَظُنُّ صَاحِبُهُ أَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ. وَإِنَّمَا هُوَ عَامِلٌ عَلَى عَدَمِ الرَّاحَةِ. وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ مُجْتَهِدٌ فِي الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا غَايَةَ الِاجْتِهَادِ، مُسْتَرِيحٌ مِنْ غَيْرِهَا لِتَعَبِهِ بِهَا. وَالْعَامِلُ عَلَى الرَّاحَةِ آخِذٌ مِنَ الْأَمْرِ مِقْدَارَ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، وَتَسْقُطُ بِهِ عَنْهُ مُطَالَبَةُ الشَّرْعِ. فَهَذَا لَوْنٌ، وَهَذَا لَوْنٌ. وَمِنْهُ اشْتِبَاهُ خَلْعِ الْأَسْبَابِ بِتَعْطِيلِهَا. فَخَلْعُهَا تَوْحِيدٌ، وَتَعْطِيلُهَا إِلْحَادٌ وَزَنْدَقَةٌ. فَخَلْعُهَا عَدَمُ اعْتِمَادِ الْقَلْبِ عَلَيْهَا، وَوُثُوقِهِ وَرُكُونِهِ إِلَيْهَا مَعَ قِيَامِهِ بِهَا. وَتَعْطِيلُهَا إِلْغَاؤُهَا عَنِ الْجَوَارِحِ. وَمِنْهُ: اشْتِبَاهُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ بِالْغُرُورِ وَالْعَجْزِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْوَاثِقَ بِاللَّهِ قَدْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَوَثِقَ بِاللَّهِ فِي طُلُوعِ ثَمَرَتِهِ، وَتَنْمِيَتِهَا وَتَزْكِيَتِهَا، كَغَارِسِ الشَّجَرَةِ، وَبَاذِرِ

فصل تعلق التوكل بالأسماء الحسنى

الْأَرْضِ. وَالْمُغْتَرُّ الْعَاجِزُ قَدْ فَرَّطَ فِيمَا أُمِرَ بِهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ وَاثِقٌ بِاللَّهِ. وَالثِّقَةُ إِنَّمَا تَصِحُّ بَعْدَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ. وَمِنْهُ: اشْتِبَاهُ الطُّمَأْنِينَةِ إِلَى اللَّهِ وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ، بِالطُّمَأْنِينَةِ إِلَى الْمَعْلُومِ، وَسُكُونِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ. وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا إِلَّا صَاحِبُ الْبَصِيرَةِ. كَمَا يُذْكَرُ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا بِمَكَّةَ لَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا إِلَّا شَرْبَةً مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ. فَمَضَى عَلَيْهِ أَيَّامٌ. فَقَالَ لَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ يَوْمًا: أَرَأَيْتَ لَوْ غَارَتْ زَمْزَمُ، أَيُّ شَيْءٍ كُنْتَ تَشْرَبُ؟ فَقَامَ وَقَبَّلَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، حَيْثُ أَرْشَدْتَنِي. فَإِنِّي كُنْتُ أَعْبُدَ زَمْزَمَ مُنْذُ أَيَّامٍ. ثُمَّ تَرَكَهُ وَمَضَى. وَأَكْثَرُ الْمُتَوَكِّلِينَ سُكُونُهُمْ وَطُمَأْنِينَتُهُمْ إِلَى الْمَعْلُومِ. وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ إِلَى اللَّهِ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى انْقَطَعَ مَعْلُومُ أَحَدِهِمْ حَضَرَهُ هَمُّهُ وَبَثُّهُ وَخَوْفُهُ. فَعَلِمَ أَنَّ طُمَأْنِينَتَهُ وَسُكُونَهُ لَمْ يَكُنْ إِلَى اللَّهِ. وَمِنْهُ: اشْتِبَاهُ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ بِكُلِّ مَا يَفْعَلُ بِعَبْدِهِ - مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَكْرَهُهُ - بِالْعَزْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَحَدِيثِ النَّفْسِ بِهِ. وَذَلِكَ شَيْءٌ وَالْحَقِيقَةُ شَيْءٌ آخَرُ. كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أُعْطِيتُ طَرَفًا مِنَ الرِّضَا، لَوْ أَدْخَلَنِي النَّارَ لَكُنْتُ بِذَلِكَ رَاضِيًا. فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ: هَذَا عَزْمٌ مِنْهُ عَلَى الرِّضَا وَحَدِيثُ نَفْسٍ بِهِ. وَلَوْ أَدْخَلَهُ النَّارَ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَفَرْقٌ بَيْنَ الْعَزْمِ عَلَى الشَّيْءِ وَبَيْنَ حَقِيقَتِهِ. وَمِنْهُ اشْتِبَاهُ عِلْمِ التَّوَكُّلِ بِحَالِ التَّوَكُّلِ. فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ التَّوَكُّلَ وَحَقِيقَتَهُ وَتَفَاصِيلَهُ. فَيَظُنُّ أَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ. وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّوَكُّلِ. فَحَالُ التَّوَكُّلِ أَمْرٌ آخَرُ مِنْ وَرَاءِ الْعِلْمِ بِهِ. وَهَذَا كَمَعْرِفَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْعِلْمِ بِهَا وَأَسْبَابِهَا وَدَوَاعِيهَا. وَحَالُ الْمُحِبِّ الْعَاشِقِ وَرَاءَ ذَلِكَ. وَكَمَعْرِفَةِ عِلْمِ الْخَوْفِ، وَحَالُ الْخَائِفِ وَرَاءَ ذَلِكَ. وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَعْرِفَةِ الْمَرِيضِ مَاهِيَّةَ الصِّحَّةِ وَحَقِيقَتَهَا وَحَالُهُ بِخِلَافِهَا. فَهَذَا الْبَابُ يَكْثُرُ اشْتِبَاهُ الدَّعَاوِي فِيهِ بِالْحَقَائِقِ، وَالْعَوَارِضِ بِالْمَطَالِبِ، وَالْآفَاتِ الْقَاطِعَةِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. [فَصْلٌ تَعَلُّقُ التَّوَكُّلِ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى] فَصْلٌ التَّوَكُّلُ مِنْ أَعَمِّ الْمَقَامَاتِ تَعَلُّقًا بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى. فَإِنَّ لَهُ تَعَلُّقًا خَاصًّا بِعَامَّةِ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَأَسْمَاءِ الصِّفَاتِ. فَلَهُ تَعَلُّقٌ بِاسْمِ الْغَفَّارِ، وَالتَّوَّابِ، وَالْعَفُوِّ، وَالرَّءُوفِ، وَالرَّحِيمِ وَتَعَلُّقٌ بَاسِمِ

فصل المتوكل المغبون في توكله

الْفَتَّاحِ، وَالْوَهَّابِ، وَالرَّزَّاقِ، وَالْمُعْطِي، وَالْمُحْسِنِ. وَتَعَلُّقٌ بِاسْمِ الْمُعِزِّ الْمُذِلِّ، الْخَافِضِ الرَّافِعِ، الْمَانِعِ. مِنْ جِهَةِ تَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ فِي إِذْلَالِ أَعْدَاءِ دِينِهِ، وَخَفْضِهِمْ وَمَنْعِهِمْ أَسْبَابَ النَّصْرِ. وَتَعَلُّقٌ بِأَسْمَاءِ الْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ وَلَهُ تَعَلُّقٌ عَامٌّ بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى. وَلِهَذَا فَسَّرَهُ مَنْ فَسَّرَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّهُ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ بِحَسَبِ مَعْرِفَةِ الْعَبْدِ يَصِحُّ لَهُ مَقَامُ التَّوَكُّلِ. وَكُلَّمَا كَانَ بِاللَّهِ أَعْرَفَ، كَانَ تَوَكُّلُهُ عَلَيْهِ أَقْوَى. [فَصْلٌ الْمُتَوَكِّلُ الْمَغْبُونُ فِي تَوَكُّلِهِ] فَصْلٌ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُتَوَكِّلِينَ يَكُونُ مَغْبُونًا فِي تَوَكُّلِهِ. وَقَدْ تَوَكَّلَ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ وَهُوَ مَغْبُونٌ. كَمَنْ صَرَفَ تَوَكُّلَهُ إِلَى حَاجَةٍ جُزْئِيَّةٍ اسْتَفْرَغَ فِيهَا قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ. وَيُمْكِنُهُ نَيْلُهَا بِأَيْسَرِ شَيْءٍ، وَتَفْرِيغُ قَلْبِهِ لِلتَّوَكُّلِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَنُصْرَةِ الدِّينِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي الْعَالَمِ خَيْرًا. فَهَذَا تَوَكُّلُ الْعَاجِزِ الْقَاصِرِ الْهِمَّةِ. كَمَا يَصْرِفُ بَعْضُهُمْ هِمَّتَهُ وَتَوَكُّلَهُ، وَدُعَاءَهُ إِلَى وَجَعٍ يُمْكِنُ مُدَاوَاتُهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، أَوْ جُوعٍ يُمْكِنُ زَوَالُهُ بِنِصْفِ رَغِيفٍ، أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، وَيَدَعُ صَرْفَهُ إِلَى نُصْرَةِ الدِّينِ، وَقَمْعِ الْمُبْتَدِعِينَ، وَزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ تَفْسِيرُ ابْنِ الْقَيِّمِ لِمَعْنَى التَّوَكُّلِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": التَّوَكُّلُ:: كِلَةُ الْأَمْرِ إِلَى مَالِكِهِ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى وِكَالَتِهِ، وَهُوَ مِنْ أَصْعَبِ مَنَازِلِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِمْ. وَأَوْهَى السُّبُلِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ تَعَالَى قَدْ وَكَلَ الْأُمُورَ كُلَّهَا إِلَى نَفْسِهِ. وَأَيْأَسَ الْعَالَمَ مَنْ مِلْكَ شَيْءٍ مِنْهَا. قَوْلُهُ: كِلَةُ الْأَمْرِ إِلَى مَالِكِهِ. أَيْ تَسْلِيمُهُ إِلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ. وَالتَّعْوِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ؛ أَيْ الِاعْتِمَادُ عَلَى قِيَامِهِ بِالْأَمْرِ، وَالِاسْتِغْنَاءُ بِفِعْلِهِ عَنْ فِعْلِكَ، وَبِإِرَادَتِهِ عَنْ إِرَادَتِكَ. وَالْوِكَالَةُ يُرَادُ بِهَا أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: التَّوْكِيلُ. وَهُوَ الِاسْتِنَابَةُ وَالتَّفْوِيضُ. وَالثَّانِي: التَّوَكُّلُ. وَهُوَ التَّعَرُّفُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنِ الْمُوَكِّلِ. وَهَذَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُوَكِّلُ الْعَبْدَ وَيُقِيمُهُ فِي حِفْظِ مَا وَكَّلَهُ فِيهِ. وَالْعَبْدُ يُوكِّلُ الرَّبَّ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.

فَأَمَّا وَكَالَةُ الرَّبِّ عَبْدَهُ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] قَالَ قَتَادَةُ: وَكَّلْنَا بِهَا الْأَنْبِيَاءَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ - يَعْنِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ - وَقَالَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: مَعْنَاهُ: إِنْ يَكْفُرْ بِهَا أَهْلُ الْأَرْضِ، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا أَهْلَ السَّمَاءِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هُمُ الْأَنْصَارُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ قَامَ بِهَا إِيمَانًا، وَدَعْوَةً وَجِهَادًا وَنُصْرَةً. فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ وَكَّلَهُمُ اللَّهُ بِهَا. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَحَدًا وَكِيلُ اللَّهِ؟ قُلْتُ: لَا. فَإِنَّ الْوَكِيلَ مَنْ يَتَصَرَّفُ عَنْ مُوَكِّلِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ. وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا نَائِبَ لَهُ، وَلَا يَخْلُفُهُ أَحَدٌ، بَلْ هُوَ الَّذِي يَخْلُفُ عَبْدَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ» . عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُطْلَقَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ مَا وَكَّلَهُ فِيهِ، وَرِعَايَتِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ. وَأَمَّا تَوْكِيلُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فَهُوَ تَفْوِيضُهُ إِلَيْهِ، وَعَزْلُ نَفْسِهِ عَنِ التَّصَرُّفِ، وَإِثْبَاتُهُ لِأَهْلِهِ وَوَلِيِّهِ. وَلِهَذَا قِيلَ فِي التَّوَكُّلِ: إِنَّهُ عَزْلُ النَّفْسِ عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَقِيَامُهَا بِالْعُبُودِيَّةِ. وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ الرَّبِّ وَكِيلَ عَبْدِهِ؛ أَيْ كَافِيَهُ، وَالْقَائِمُ بِأُمُورِهِ وَمَصَالِحِهِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ فِي التَّصَرُّفِ. فَوِكَالَةُ الرَّبِّ عَبْدَهُ أَمْرٌ وَتَعَبُّدٌ وَإِحْسَانٌ لَهُ، وَخِلْعَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ، لَا عَنْ حَاجَةٍ مِنْهُ، وَافْتِقَارٍ إِلَيْهِ كَمُوَالَاتِهِ. وَأَمَّا تَوْكِيلُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فَتَسْلِيمٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، وَقِيَامٌ بِعُبُودِيَّتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مِنْ أَصْعَبِ مَنَازِلِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَامَّةَ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ نُفُوسِهِمْ وَمَأْلُوفَاتِهِمْ. وَلَمْ يُشَاهِدُوا الْحَقِيقَةَ الَّتِي شَهِدَهَا الْخَاصَّةُ. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ التَّوْكِيلَ، فَهُمْ فِي رِقِّ الْأَسْبَابِ. فَيَصْعُبُ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ عَنْهَا، وَخُلُوِّ الْقَلْبِ مِنْهَا، وَالِاشْتِغَالِ بِمُلَاحَظَةِ الْمُسَبِّبِ وَحْدَهُ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ أَوْهَى السُّبُلِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ فَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ هُوَ مِنْ أَجَلِّ السُّبُلِ عِنْدَهُمْ وَأَفْضَلِهَا، وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْبَابِ أَمْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ بِذَلِكَ، وَحَضُّهُ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَوَكِّلُ وَتَوَكُّلُهُ أَعْظَمُ تَوَكُّلٍ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَهُ: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79] وَفِي ذِكْرِ أَمْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ، مَعَ إِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الدِّينَ بِمَجْمُوعِهِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَلَى الْحَقِّ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، وَاعْتِقَادِهِ وَنِيَّتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ وَاثِقًا بِهِ. فَالدِّينُ كُلُّهُ فِي هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ. وَقَالَ رُسُلُ اللَّهِ وَأَنْبِيَاؤُهُ: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: 12] . فَالْعَبْدُ آفَتُهُ إِمَّا مِنْ عَدَمِ الْهِدَايَةِ، وَإِمَّا مِنْ عَدَمِ التَّوَكُّلِ. فَإِذَا جَمَعَ التَّوَكُّلَ إِلَى الْهِدَايَةِ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ كُلَّهُ. نَعَمْ، التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ فِي مَعْلُومِ الرِّزْقِ الْمَضْمُونِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ عَنِ التَّوَكُّلِ فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ وَالدِّينِ مِنْ أَوْهَى مَنَازِلِ الْخَاصَّةِ. أَمَّا التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ فِيهِ وَفِي الْخَلْقِ، فَهَذَا تَوَكُّلُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَوْهَى مَنَازِلِ الْخَاصَّةِ؟ قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ وَكَلَ الْأُمُورَ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَيْأَسَ الْعَالَمَ مِنْ مِلْكِ شَيْءٍ مِنْهَا. جَوَابُهُ: أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ أَسْنَدَ إِلَى عِبَادِهِ كَسْبًا وَفِعْلًا وَإِقْدَارًا، وَاخْتِيَارًا، وَأَمْرًا وَنَهْيًا، اسْتَعْبَدَهُمْ بِهِ، وَامْتَحَنَ بِهِ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَمَنْ يُؤْثِرُهُ مِمَّنْ يُؤْثِرُ عَلَيْهِ. وَأَمَرَ بِتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ فِيمَا أَسْنَدَهُ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَتَعَبَّدَهُمْ بِهِ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ، كَمَا يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ. وَكَمَا يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَكَمَا يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَكَمَا يُحِبُّ التَّوَّابِينَ. وَأَخْبَرَ أَنَّ كِفَايَتَهُ لَهُمْ مَقْرُونَةٌ بِتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ كَافٍ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَحَسْبُهُ. وَجَعَلَ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَمَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِهِ جَزَاءً مَعْلُومًا. وَجَعَلَ نَفْسَهُ جَزَاءَ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ وَكِفَايَتَهُ. فَقَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [الطلاق: 5] ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]

، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء: 69]- الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ فِي التَّوَكُّلِ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] . فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْجَزَاءِ الَّذِي حَصَلَ لِلْمُتَوَكِّلِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ لِغَيْرِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ أَقْوَى السُّبُلَ عِنْدَهُ وَأَحَبُّهَا إِلَيْهِ. وَلَيْسَ كَوْنُهُ وَكَلَ الْأُمُورَ إِلَى نَفْسِهِ بِمُنَافٍ لِتَوَكُّلِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ، بَلْ هَذَا تَحْقِيقُ كَوْنِ الْأُمُورِ كُلِّهَا مَوْكُولَةً إِلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَهُ مَعْرِفَةً صَارَتْ حَالُهُ التَّوَكُّلَ - قَطْعًا - عَلَى مَنْ هَذَا شَأْنُهُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهَا. فَهُوَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنَ اعْتِمَادِهِ عَلَيْهِ. وَتَفْوِيضِهِ إِلَيْهِ. وَثِقَتِهِ بِهِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ فَقْرِهِ، وَعَدَمِ مِلْكِهِ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ. وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْأَمْرِ كُلِّهِ بِيَدِهِ وَإِلَيْهِ. وَالتَّوَكُّلُ يَنْشَأُ مِنْ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. فَكَيْفَ يُوَكِّلُ الْمَالِكُ عَلَى مُلْكِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْتَنِيبُهُ فِيمَا هُوَ مِلْكٌ لَهُ، دُونَ هَذَا الْمُوَكَّلِ؟ فَالْخَاصَّةُ لَمَّا تَحَقَّقُوا هَذَا نَزَلُوا عَنْ مَقَامِ التَّوَكُّلِ وَسَلَّمُوهُ إِلَى الْعَامَّةِ. وَبَقِيَ الْخِطَابُ بِالتَّوَكُّلِ لَهُمْ دُونَ الْخَاصَّةِ. قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ. كَانَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ تَسْلِيمَ الْأَمْرِ إِلَى مَنْ هُوَ لَهُ، وَعَزْلَ نَفْسِهِ عَنْ مُنَازَعَاتِ مَالِكِهِ وَاعْتِمَادَهُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَخُرُوجَهُ عَنْ تَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ وَحَوْلِهُ وَقُوَّتِهِ وَكَوْنِهِ بِهِ، إِلَى تَصَرُّفِهِ بِرَبِّهِ وَكَوْنِهِ بِهِ سُبْحَانَهُ دُونَ نَفْسِهِ. وَهَذَا مَقْصُودُ التَّوَكُّلِ. وَأَمَّا عَزْلُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عَنْ مَقَامِ التَّوَكُّلِ: فَهُوَ عَزْلٌ لَهَا عَنْ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ. وَأَمَّا تَوَجُّهُ الْخِطَابِ بِهِ إِلَى الْعَامَّةِ: فَسُبْحَانَ اللَّهِ! هَلْ خَاطَبَ اللَّهُ بِالتَّوَكُّلِ فِي كِتَابِهِ إِلَّا خَوَاصَّ خَلْقِهِ، وَأَقْرَبَهُمْ إِلَيْهِ، وَأَكْرَمَهُمْ عَلَيْهِ؟ وَشَرَطَ فِي إِيمَانِهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُتَوَكِّلِينَ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ يُعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ عِنْدَ انْتِفَاءِ التَّوَكُّلِ. فَمَنْ لَا تَوَكُّلَ لَهُ لَا إِيمَانَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] .

فصل درجات التوكل

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْحِصَارِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ رُسُلِهِ بِأَنَّ التَّوَكُّلَ مَلْجَأُهُمْ وَمَعَاذُهُمْ. وَأَمَرَ بِهِ رَسُولَهُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ. وَقَالَ: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [يونس: 84] . فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَوْهَى السُّبُلِ وَهَذَا شَأْنُهُ؟ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ التَّوَكُّلِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى التَّوَكُّلُ مَعَ الطَّلَبِ] فَصْلٌ قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. كُلُّهَا تَسِيرُ مَسِيرَ الْعَامَّةِ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: التَّوَكُّلُ مَعَ الطَّلَبِ، وَمُعَاطَاةِ السَّبَبِ عَلَى نِيَّةِ شُغْلِ النَّفْسِ بِالسَّبَبِ مَخَافَةً، وَنَفْعِ الْخَلْقِ، وَتَرْكِ الدَّعْوَى. يَقُولُ: إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ. وَلَا يَتْرُكُ الْأَسْبَابَ. بَلْ يَتَعَاطَاهَا عَلَى نِيَّةِ شُغْلِ النَّفْسِ بِالسَّبَبِ، مَخَافَةَ أَنْ تَفْرُغَ فَتَشْتَغِلَ بِالْهَوَى وَالْحُظُوظِ. فَإِنْ لَمْ يَشْغَلْ نَفْسَهُ بِمَا يَنْفَعُهَا شَغَلَتْهُ بِمَا يَضُرُّهُ. لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْفَرَاغُ مَعَ حِدَّةِ الشَّبَابِ، وَمِلْكِ الْجِدَّةِ، وَمَيْلِ النَّفْسِ إِلَى الْهَوَى، وَتَوَالِي الْغَفَلَاتِ. كَمَا قِيلَ: إِنَّ الشَّبَابَ وَالْفَرَاغَ وَالْجِدَّهْ ... مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَهْ وَيَكُونُ أَيْضًا قِيَامُهُ بِالسَّبَبِ عَلَى نِيَّةِ نَفْعِ النَّفْسِ، وَنَفْعِ النَّاسِ بِذَلِكَ. فَيَحْصُلُ لَهُ نَفْعُ نَفْسِهِ وَنَفْعُ غَيْرِهِ. وَأَمَّا تَضَمُّنُ ذَلِكَ لِتَرْكِ الدَّعْوَى فَإِنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِالسَّبَبِ تَخَلَّصَ مِنْ إِشَارَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، الْمُوجِبَةِ لِحُسْنِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ، الْمُوجِبِ لِدَعْوَاهُ. فَالسَّبَبُ سَتْرٌ لِحَالِهِ وَمَقَامِهِ. وَحِجَابٌ مُسْبَلٌ عَلَيْهِ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ فَقْرُهُ وَذُلُّهُ، وَامْتِهَانُهُ امْتِهَانَ الْعَبِيدِ وَالْفَعَلَةِ. فَيَتَخَلَّصُ مِنْ رُعُونَةِ دَعْوَى النَّفْسِ، فَإِنَّهُ إِذَا امْتَهَنَ نَفْسَهُ بِمُعَاطَاةِ الْأَسْبَابِ سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ.

فصل الدرجة الثانية التوكل مع إسقاط الطلب

فَيُقَالُ: إِذَا كَانَتِ الْأَسْبَابُ مَأْمُورًا بِهَا فَفِيهَا فَائِدَةٌ أَجَلُّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ. وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَهَذِهِ مَقْصُودَةٌ قَصْدَ الْوَسَائِلِ. وَهِيَ الْقِيَامُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْأَمْرُ الَّذِي خُلِقَ لَهُ الْعَبْدُ، وَأُرْسِلَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ الْكُتُبُ. وَبِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ. وَلَهُ وُجِدَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ. فَالْقِيَامُ بِالْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ. وَحَقُّ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ الَّذِي تَوَجَّهَتْ بِهِ نَحْوَهُ الْمَطَالِبُ. وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ التَّوَكُّلُ مَعَ إِسْقَاطِ الطَّلَبِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: التَّوَكُّلُ مَعَ إِسْقَاطِ الطَّلَبِ، وَغَضُّ الْعَيْنِ عَنِ السَّبَبِ؛ اجْتِهَادًا لِتَصْحِيحِ التَّوَكُّلِ، وَقَمْعًا لِشَرَفِ النَّفْسِ، وَتَفَرُّغًا إِلَى حِفْظِ الْوَاجِبَاتِ. قَوْلُهُ: مَعَ إِسْقَاطِ الطَّلَبِ. أَيْ مِنَ الْخَلْقِ لَا مِنَ الْحَقِّ. فَلَا يَطْلُبُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا. وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَنْفَعِهِ لِلْمُرِيدِ. فَإِنَّ الطَّلَبَ مِنَ الْخَلْقِ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورٌ، وَغَايَتُهُ: أَنْ يُبَاحَ لِلضَّرُورَةِ، كَإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ. وَكَذَلِكَ كَانَ شَيْخُنَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الطَّلَبُ وَالسُّؤَالُ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي السُّؤَالِ: هُوَ ظُلْمٌ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وَظُلْمٌ فِي حَقِّ الْخَلْقِ، وَظُلْمٌ فِي حَقِّ النَّفْسِ. أَمَّا فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ فَلِمَا فِيهِ مِنَ الذُّلِّ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَإِرَاقَةِ مَاءِ الْوَجْهِ لِغَيْرِ خَالِقِهِ، وَالتَّعَوُّضِ عَنْ سُؤَالِهِ بِسُؤَالِ الْمَخْلُوقِينَ، وَالتَّعَرُّضِ لِمَقْتِهِ إِذَا سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ يَوْمَهُ. وَأَمَّا فِي حَقِّ النَّاسِ فَبِمُنَازَعَتِهِمْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ بِالسُّؤَالِ، وَاسْتِخْرَاجِهِ مِنْهُمْ. وَأَبْغَضُ مَا إِلَيْهِمْ مَنْ يَسْأَلُهُمْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَحَبُّ مَا إِلَيْهِمْ مَنْ لَا يَسْأَلُهُمْ. فَإِنَّ أَمْوَالَهُمْ مَحْبُوبَاتُهُمْ، وَمَنْ سَأَلَكَ مَحْبُوبَكَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِمَقْتِكَ وَبُغْضِكَ. وَأَمَّا ظُلْمُ السَّائِلِ نَفْسَهُ فَحَيْثُ امْتَهَنَهَا، وَأَقَامَهَا فِي مَقَامِ ذُلِّ السُّؤَالِ. وَرَضِيَ لَهَا بِذُلِّ الطَّلَبِ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ لَعَلَّ السَّائِلَ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَعْلَى قَدْرًا. وَتَرَكَ سُؤَالَ مِنْ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . فَقَدْ أَقَامَ السَّائِلُ نَفْسَهُ مَقَامَ الذُّلِّ، وَأَهَانَهَا بِذَلِكَ. وَرَضِيَ أَنْ يَكُونَ شَحَّاذًا مِنْ شَحَّاذٍ مِثْلِهِ. فَإِنَّ مَنْ تَشْحَذُهُ فَهُوَ أَيْضًا شَحَّاذٌ مِثْلُكُ. وَاللَّهُ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.

فَسُؤَالُ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ سُؤَالُ الْفَقِيرِ لِلْفَقِيرِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى كُلَّمَا سَأَلْتَهُ كَرُمْتَ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ عَنْكَ، وَأَحَبَّكَ. وَالْمَخْلُوقُ كُلَّمَا سَأَلْتَهُ هُنْتَ عَلَيْهِ وَأَبْغَضَكَ وَمَقَتَكَ وَقَلَاكَ، كَمَا قِيلَ: اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ ... وَبَنِيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ وَقَبِيحٌ بِالْعَبْدِ الْمُرِيدِ: أَنْ يَتَعَرَّضَ لِسُؤَالِ الْعَبِيدِ. وَهُوَ يَجِدُ عِنْدَ مَوْلَاهُ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً - أَوْ ثَمَانِيَةً، أَوْ سَبْعَةً - فَقَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ وَكُنَّا حَدِيثِي عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ. فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ فَقَالَ: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ - وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً - وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا. قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِزْعَةُ لَحْمٍ» . وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ - وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ» .

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا. فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا، أَوْ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ. وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ» . وَفِي السُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَكَفَّلَ لِي أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، أَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ، فَقُلْتُ: أَنَا. فَكَانَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ قَبِيصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ. وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ. فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ - وَرَجُلُ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فَلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ - فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ فَسُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا» .

فَالتَّوَكُّلُ مَعَ إِسْقَاطِ هَذَا الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ هُوَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ. قَوْلُهُ: " وَغَضِّ الْعَيْنِ عَنِ التَّسَبُّبِ، اجْتِهَادًا فِي تَصْحِيحِ التَّوَكُّلِ ". مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُعْرِضُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالسَّبَبِ، لِتَصْحِيحِ التَّوَكُّلِ بِامْتِحَانِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَاطِيَ لِلسَّبَبِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ حَصَّلَ التَّوَكُّلَ. وَلَمْ يُحَصِّلْهُ لِثِقَتِهِ بِمَعْلُومِهِ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنِ السَّبَبِ صَحَّ لَهُ التَّوَكُّلُ. وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مَذْهَبُ قَوْمٍ مِنَ الْعُبَّادِ وَالسَّالِكِينَ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ الْبَادِيَةَ بِلَا زَادٍ. وَيَرَى حَمْلَ الزَّادِ قَدْحًا فِي التَّوَكُّلِ. وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ مَشْهُورَةٌ، وَهَؤُلَاءِ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِمْ، وَإِلَّا فَدَرَجَتُهُمْ نَاقِصَةٌ عَنِ الْعَارِفِينَ. وَمَعَ هَذَا فَلَا يُمْكِنُ بَشَرًا الْبَتَّةَ تَرَكُ الْأَسْبَابِ جُمْلَةً. فَهَذَا إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ كَانَ مُجَرَّدًا فِي التَّوَكُّلِ يُدَقِّقُ فِيهِ. وَيَدْخُلُ الْبَادِيَةَ بِغَيْرِ زَادٍ. وَكَانَ لَا تُفَارِقُهُ الْإِبْرَةُ وَالْخَيْطُ وَالرَّكْوَةُ وَالْمِقْرَاضُ. فَقِيلَ لَهُ: لِمْ تَحْمِلُ هَذَا وَأَنْتَ تَمْنَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: مِثْلُ هَذَا لَا يُنْقِصُ مِنَ التَّوَكُّلِ لِأَنَّ لِلَّهِ عَلَيْنَا فَرَائِضَ. وَالْفَقِيرُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَرُبَّمَا تَخَرَّقَ ثَوْبُهُ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِبْرَةٌ وَخُيُوطٌ تَبْدُو عَوْرَتُهُ، فَتَفْسُدُ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رَكْوَةٌ فَسَدَتْ عَلَيْهِ طَهَارَتُهُ. وَإِذَا رَأَيْتَ الْفَقِيرَ بِلَا رَكْوَةٍ وَلَا إِبْرَةٍ وَلَا خُيُوطٍ فَاتَّهِمْهُ فِي صَلَاتِهِ. أَفَلَا تَرَاهُ لَمْ يَسْتَقِمْ لَهُ دِينُهُ إِلَّا بِالْأَسْبَابِ؟ أَوَلَيِسَتْ حَرَكَةُ أَقْدَامِهِ وَنَقْلُهَا فِي الطَّرِيقِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَعْلَامِهَا - إِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ - مِنَ الْأَسْبَابِ؟ فَالتَّجَرُّدُ مِنَ الْأَسْبَابِ جُمْلَةً مُمْتَنِعٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَحِسًّا. نَعَمْ، قَدْ تَعْرِضُ لِلصَّادِقِ أَحْيَانًا قُوَّةُ ثِقَةٍ بِاللَّهِ. وَحَالٌ مَعَ اللَّهِ تَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ كُلِّ سَبَبٍ مَفْرُوضٍ عَلَيْهِ. كَمَا تَحْمِلُهُ عَلَى إِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي مَوَاضِعَ الْهِلْكَةِ. وَيَكُونُ ذَلِكَ الْوَقْتُ بِاللَّهِ لَا بِهِ. فَيَأْتِيهِ مَدَدٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى مُقْتَضَى حَالِهِ. وَلَكِنْ لَا تَدُومُ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ. وَلَيْسَتْ فِي مُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ. فَإِنَّهَا كَانَتْ هَجْمَةٌ هَجَمَتْ عَلَيْهِ بِلَا اسْتِدْعَاءٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا. فَإِذَا اسْتَدْعَى مِثْلَهَا وَتَكَلَّفَهَا لَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ. وَفِي تِلْكَ الْحَالِ إِذَا تَرَكَ السَّبَبَ يَكُونُ مَعْذُورًا لِقُوَّةِ الْوَارِدِ، وَعَجْزِهِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالسَّبَبِ. فَيَكُونُ فِي وَارِدِهِ عَوْنٌ لَهُ. وَيَكُونُ حَامِلًا لَهُ. فَإِذَا تَعَاطَى تِلْكَ الْحَالَ بِدُونِ ذَلِكَ الْوَارِدِ وَقَعَ فِي الْحَالِ.

وَكُلُّ تِلْكَ الْحِكَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تُحْكَى عَنِ الْقَوْمِ فَهِيَ جُزْئِيَّةٌ حَصَلَتْ لَهُمْ أَحْيَانًا، لَيْسَتْ طَرِيقًا مَأْمُورًا بِسُلُوكِهَا، وَلَا مَقْدُورَةً، وَصَارَتْ فِتْنَةً لِطَائِفَتَيْنِ. طَائِفَةٌ ظَنَّتْهَا طَرِيقًا وَمَقَامًا، فَعَمِلُوا عَلَيْهَا. فَمِنْهُمْ مَنِ انْقَطَعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهَا، بَلِ انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ. وَطَائِفَةٌ قَدَحُوا فِي أَرْبَابِهَا، وَجَعَلُوهُمْ مُخَالِفِينَ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. مُدَّعِينَ لِأَنْفُسِهِمْ حَالًا أَكْمَلَ مِنْ حَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ قَطُّ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَلَا أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَسْبَابِ. وَقَدْ «ظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ يَوْمَ أُحُدٍ» . وَلَمْ يَحْضُرِ الصَّفَّ قَطُّ عُرْيَانًا. كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ وَلَا مَعْرِفَةَ. وَاسْتَأْجَرَ دَلِيلًا مُشْرِكًا عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ هَدَى اللَّهُ بِهِ الْعَالَمِينَ، وَعَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، «وَكَانَ يَدَّخِرُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَةٍ» وَهُوَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ. وَكَانَ إِذَا سَافَرَ فِي جِهَادٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ

فصل الدرجة الثالثة التوكل مع معرفة التوكل

عُمْرَةٍ حَمَلَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ أُولُو التَّوَكُّلِ حَقًّا. وَأَكْمَلُ الْمُتَوَكِّلِينَ بَعْدَهُمْ هُوَ مَنِ اشْتَمَّ رَائِحَةَ تَوَكُّلِهِمْ مِنْ مَسِيرَةٍ بَعِيدَةٍ، أَوْ لَحِقَ أَثَرًا مِنْ غُبَارِهِمْ. فَحَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالُ أَصْحَابِهِ مَحَكُّ الْأَحْوَالِ وَمِيزَانُهَا. بِهَا يُعْلَمُ صَحِيحُهَا مِنْ سَقِيمِهَا. فَإِنَّ هِمَمَهُمْ كَانَتْ فِي التَّوَكُّلِ أَعْلَى مِنْ هِمَمِ مَنْ بَعْدَهُمْ. فَإِنَّ تَوَكُّلَهُمْ كَانَ فِي فَتْحِ بَصَائِرِ الْقُلُوبِ. وَأَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَأَنْ يُوَحِّدَهُ جَمِيعُ الْعِبَادِ، وَأَنْ تُشْرِقَ شُمُوسُ الدِّينِ الْحَقِّ عَلَى قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَمَلَئُوا بِذَلِكَ التَّوَكُّلِ الْقُلُوبَ هُدًى وَإِيمَانًا. وَفَتَحُوا بِلَادَ الْكُفْرِ وَجَعَلُوهَا دَارَ إِيمَانٍ. وَهَبَّتْ رِيَاحُ رَوْحِ نَسَمَاتِ التَّوَكُّلِ عَلَى قُلُوبِ أَتْبَاعِهِمْ فَمَلَأَتْهَا يَقِينًا وَإِيمَانًا. فَكَانَتْ هِمَمُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَصْرِفَ أَحَدُهُمْ قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ وَاعْتِمَادِهِ عَلَى اللَّهِ فِي شَيْءٍ يَحْصُلُ بِأَدْنَى حِيلَةٍ وَسَعْيٍ، فَيَجْعَلُهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَيَحْمِلُ عَلَيْهِ قُوَى تَوَكُّلِهِ. قَوْلُهُ: وَقَمْعًا لِشَرَفِ النَّفْسِ. يُرِيدُ أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ قَدْ يَكُونُ مُتَسَبِّبًا بِالْوِلَايَاتِ الشَّرِيفَةِ فِي الْعِبَادَةِ، أَوِ التِّجَارَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَالْأَسْبَابِ الَّتِي لَهُ بِهَا جَاهٌ وَشَرَفٌ فِي النَّاسِ. فَإِذَا تَرَكَهَا يَكُونُ تَرْكُهَا قَمْعًا لِشَرَفِ نَفْسِهِ، وَإِيثَارًا لِلتَّوَاضُعِ. وَقَوْلُهُ: وَتَفَرُّغًا لِحِفْظِ الْوَاجِبَاتِ؛ أَيْ يَتَفَرَّغُ بِتَرْكِهَا لِحِفْظِ وَاجِبَاتِهَا الَّتِي تُزَاحِمُهَا تِلْكَ الْأَسْبَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ التَّوَكُّلُ مَعَ مَعْرِفَةِ التَّوَكُّلِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: التَّوَكُّلُ مَعَ مَعْرِفَةِ التَّوَكُّلِ، النَّازِعَةِ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْ عِلَّةِ التَّوَكُّلِ. وَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مِلْكَةَ الْحَقِّ تَعَالَى لِلْأَشْيَاءِ هِيَ مِلْكَةُ عَزَّةٍ. لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا مُشَارِكٌ. فَيَكِلُ شَرِكَتَهُ إِلَيْهِ. فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْعُبُودِيَّةِ: أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ هُوَ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ وَحْدَهُ. يُرِيدُ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مَتَى قَطَعَ الْأَسْبَابَ وَالطَّلَبَ، وَتَعَدَّى تَيْنِكَ الدَّرَجَتَيْنِ، فَتَوَكُّلُهُ فَوْقَ تَوَكُّلِ مَنْ قَبْلَهُ. وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِحَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ، وَأَنَّهُ دُونَ مَقَامِهِ، فَتَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِهِ وَبِحَقِيقَتِهِ نَازِعَةً - أَيْ بَاعِثَةً وَدَاعِيَةً - إِلَى تَخَلُّصِهِ مِنْ عِلَّةِ التَّوَكُّلِ، أَيْ لَا يَعْرِفُ عِلَّةَ التَّوَكُّلِ حَتَّى يَعْرِفَ حَقِيقَتَهُ. فَحِينَئِذٍ يَعْرِفُ التَّوَكُّلَ الْمَعْرِفَةَ الَّتِي تَدْعُوهُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْ عِلَّتِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ الْمَعْرِفَةَ الَّتِي يَعْلَمُ بِهَا عِلَّةَ التَّوَكُّلِ. فَقَالَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مِلْكَةَ الْحَقِّ لِلْأَشْيَاءِ

مَلِكَةُ عَزَّةٍ؛ أَيْ مِلْكَةُ امْتِنَاعٍ وَقُوَّةٍ وَقَهْرٍ، تَمْنَعُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي مُلْكِهِ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ مُشَارِكٌ. فَهُوَ الْعَزِيزُ فِي مُلْكِهِ، الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِي ذَرَّةٍ مِنْهُ. كَمَا هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِعِزَّتِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا مُشَارِكٌ. فَالْمُتَوَكِّلُ يَرَى أَنَّ لَهُ شَيْئًا قَدْ وَكَّلَ الْحَقَّ فِيهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ صَارَ وَكَيْلَهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ؛ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَمْرِ مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ. فَلِهَذَا قَالَ: لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مُشَارِكٌ. فَيَكِلُ شَرِكَتَهُ إِلَيْهِ. فَلِسَانُ الْحَالِ يَقُولُ لِمَنْ جَعَلَ الرَّبَّ تَعَالَى وَكِيلَهُ: فِي مَاذَا وَكَّلْتُ رَبَّكَ؟ أَفِيمَا هُوَ لَهُ وَحْدَهُ؟ أَوْ لَكَ وَحْدَكَ؟ أَوْ بَيْنَكُمَا؟ فَالثَّانِي وَالثَّالِثُ مُمْتَنِعٌ بِتَفَرُّدِهِ بِالْمُلْكِ وَحْدَهُ. وَالتَّوْكِيلُ فِي الْأَوَّلِ مُمْتَنِعٌ، فَكَيْفَ تُوَكِّلُهُ فِيمَا لَيْسَ لَكَ مِنْهُ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ؟ . فَيُقَالُ: هَاهُنَا أَمْرَانِ: تَوَكُّلٌ، وَتَوْكِيلٌ. فَالتَّوَكُّلُ: مَحْضُ الِاعْتِمَادِ وَالثِّقَةِ وَالسُّكُونِ إِلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ كُلُّهُ. وَعِلْمُ الْعَبْدُ بِتَفَرُّدِ الْحَقِّ تَعَالَى وَحْدَهُ بِمِلْكِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُشَارِكٌ فِي ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْكَوْنِ: مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ تَوَكُّلِهِ، وَأَعْظَمِ دَوَاعِيهِ. فَإِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً. وَبَاشَرَ قَلْبَهُ حَالًا: لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ اعْتِمَادِ قَلْبِهِ عَلَى الْحَقِّ وَحْدَهُ، وَثِقَتِهِ بِهِ، وَسُكُونِهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، وَطُمَأْنِينَتِهِ بِهِ وَحْدَهُ، لِعِلْمِهِ أَنَّ حَاجَاتِهِ وَفَاقَاتِهِ وَضَرُورَاتِهِ، وَجَمِيعَ مَصَالِحِهِ كُلِّهَا: بِيَدِهِ وَحْدَهُ. لَا بِيَدِ غَيْرِهِ. فَأَيْنَ يَجِدُ قَلْبَهُ مَنَاصًا مِنَ التَّوَكُّلِ بَعْدَ هَذَا؟ فَعِلَّةُ التَّوَكُّلِ حِينَئِدٍ: الْتِفَاتُ قَلْبِهِ إِلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ شِرْكَةً فِي مُلْكِ الْحَقِّ. وَلَا يَمْلِكُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ. هَذِهِ عِلَّةُ تَوَكُّلِهِ. فَهُوَ يَعْمَلُ عَلَى تَخْلِيصِ تَوَكُّلِهِ مِنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ. نَعَمْ، وَمِنْ عِلَّةٍ أُخْرَى. وَهِيَ رُؤْيَةُ تَوَكُّلِهِ. فَإِنَّهُ الْتِفَاتٌ إِلَى عَوَالِمِ نَفْسِهِ. وَعِلَّةٌ ثَالِثَةٌ: وَهِيَ صَرْفُهُ قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِهِ أَحَبِّ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ. فَهَذِهِ الْعِلَلُ الثَّلَاثُ: هِيَ عِلَلُ التَّوْكِيلِ. وَأَمَّا التَّوَكُّلُ: فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِلَّا مُجَرَّدَ التَّفْوِيضِ. وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ. كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفَسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ» ، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44]

فصل منزلة التفويض

فَكَانَ جَزَاءُ هَذَا التَّفْوِيضِ قَوْلَهُ: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 45] ، فَإِنْ كَانَ التَّوَكُّلُ مَعْلُولًا بِمَا ذَكَرَهُ، فَالتَّفْوِيضُ أَيْضًا كَذَلِكَ. وَلَيْسَ فَلَيْسَ. وَلَوْلَا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا عَدَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَتْرُوكٌ، وَهُوَ عُرْضَةُ الْوَهْمِ وَالْخَطَإِ، لَمَا اعْتَرَضْنَا عَلَى مَنْ لَا نَلْحَقُ غُبَارَهُمْ، وَلَا نَجْرِي مَعَهُمْ فِي مِضْمَارِهِمْ، وَنَرَاهُمْ فَوْقَنَا فِي مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ، وَمَنَازِلِ السَّائِرِينَ، كَالنُّجُومِ الدَّرَارِيِّ. وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيُرْشِدْنَا إِلَيْهِ. وَمَنْ رَأَى فِي كَلَامِنَا زَيْغًا، أَوْ نَقْصًا وَخَطَأً، فَلْيَهْدِ إِلَيْنَا الصَّوَابَ. نَشْكُرُ لَهُ سَعْيَهُ. وَنُقَابِلُهُ بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ وَالِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهُوَ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّفْوِيضِ] [حَقِيقَةُ التَّفْوِيضِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّفْوِيضِ وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ التَّفْوِيضِ. قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": وَهُوَ أَلْطَفُ إِشَارَةً، وَأَوْسَعُ مَعْنًى مِنَ التَّوَكُّلِ، فَإِنَّ التَّوَكُّلَ بَعْدَ وُقُوعِ السَّبَبِ، وَالتَّفْوِيضُ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَبَعْدَهُ. وَهُوَ عَيْنُ الِاسْتِسْلَامِ. وَالتَّوَكُّلُ شُعْبَةٌ مِنْهُ. يَعْنِي أَنَّ الْمُفَوِّضَ يَتَبَرَّأُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَيُفَوِّضُ الْأَمْرَ إِلَى صَاحِبِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقِيمَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي مَصَالِحِهِ. بِخِلَافَ التَّوَكُّلِ. فَإِنَّ الْوِكَالَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَقُومَ الْوَكِيلُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ. فَالتَّفْوِيضُ: بَرَاءَةٌ وَخُرُوجٌ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَتَسْلِيمُ الْأَمْرِ كُلِّهِ إِلَى مَالِكِهِ. فَيُقَالُ: وَكَذَلِكَ التَّوَكُّلُ أَيْضًا. وَمَا قَدَحْتُمْ بِهِ فِي التَّوَكُّلِ يَرِدُ عَلَيْكُمْ نَظِيرُهُ فِي التَّفْوِيضِ سَوَاءٌ. فَإِنَّكَ كَيْفَ تُفَوِّضُ شَيْئًا لَا تَمْلِكُهُ الْبَتَّةَ إِلَى مَالِكِهِ؟ وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُفَوِّضَ وَاحِدٌ مِنْ آحَادِ الرَّعِيَّةِ الْمُلْكَ إِلَى مَلِكِ زَمَانِهِ؟

فَالْعِلَّةُ إِذَنْ فِي التَّفْوِيضِ أَعْظَمُ مِنْهَا فِي التَّوَكُّلِ. بَلْ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: التَّوَكُّلُ فَوْقَ التَّفْوِيضِ وَأَجَلُّ مِنْهُ وَأَرْفَعُ، لَكَانَ مُصِيبًا. وَلِهَذَا كَانَ الْقُرْآنُ مَمْلُوءًا بِهِ أَمْرًا، وَإِخْبَارًا عَنْ خَاصَّةِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَصَفْوَةِ الْمُؤْمِنِينَ، بِأَنَّ حَالَهُمُ التَّوَكُّلُ. وَأَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَسَمَّاهُ الْمُتَوَكِّلَ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، سَمَّيْتُهُ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ. وَأَخْبَرَ عَنْ رُسُلِهِ بِأَنَّ حَالَهُمْ كَانَ التَّوَكُّلَ. وَبِهِ انْتَصَرُوا عَلَى قَوْمِهِمْ. وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ أَنَّهُمْ أَهْلُ مَقَامِ التَّوَكُّلِ. وَلَمْ يَجِئِ التَّفْوِيضُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِيمَا حَكَاهُ عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44] . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَتَّخِذَهُ وَكِيلًا. فَقَالَ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9] . وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ جَهَلَةِ الْقَوْمِ: إِنَّ تَوْكِيلَ الرَّبِّ فِيهِ جَسَارَةٌ عَلَى الْبَارِّي؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ يَقْتَضِي إِقَامَةَ الْوَكِيلِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ. وَذَلِكَ عَيْنُ الْجَسَارَةِ. قَالَ: وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ ذَلِكَ وَنَدَبَ إِلَيْهِ: لَمَا جَازَ لِلْعَبْدِ تَعَاطِيهِ. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ. فَإِنَّ اتِّخَاذَهُ وَكِيلًا هُوَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ، وَخَالِصُ التَّوْحِيدِ،

التفويض أعم من التوكل

إِذَا قَامَ بِهِ صَاحِبُهُ حَقِيقَةً. وَلِلَّهِ دَرُّ سَيِّدِ الْقَوْمِ، وَشَيْخِ الطَّائِفَةِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ؛ إِذْ يَقُولُ: الْعِلْمُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ التَّعَبُّدِ. وَالتَّعَبُّدُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ الْوَرَعِ. وَالْوَرَعُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ الزُّهْدِ، وَالزُّهْدُ كُلُّهُ بَابٌ مِنَ التَّوَكُّلِ. فَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ: أَنَّ التَّوَكُّلَ أَوْسَعُ مِنَ التَّفْوِيضِ، وَأَعْلَى وَأَرْفَعُ. [التَّفْوِيضُ أَعَمُّ مِنَ التَّوَكُّلِ] قَوْلُهُ: فَإِنَّ التَّوَكُّلَ بَعْدَ وُقُوعِ السَّبَبِ، وَالتَّفْوِيضِ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَبَعْدَهُ. يَعْنِي بِالسَّبَبِ: الِاكْتِسَابَ. فَالْمُفَوَّضُ قَدْ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ اكْتِسَابِهِ وَبَعْدَهُ. وَالْمُتَوَكِّلُ قَدْ قَامَ بِالسَّبَبِ. وَتَوَكَّلَ فِيهِ عَلَى اللَّهِ. فَصَارَ التَّفْوِيضُ أَوْسَعُ. فَيُقَالُ: وَالتَّوَكُّلُ قَدْ يَكُونُ قَبْلَ السَّبَبِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ. فَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُقِيمَهُ فِي سَبَبٍ يُوَصِّلُهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ. فَإِذَا قَامَ بِهِ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ حَالَ مُبَاشَرَتِهِ. فَإِذَا أَتَمَّهُ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ ثَمَرَاتِهِ. فَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَهُ، وَمَعَهُ، وَبَعْدَهُ. فَعَلَى هَذَا: هُوَ أَوْسَعُ مِنَ التَّفْوِيضِ عَلَى مَا ذَكَرَ. قَوْلُهُ: وَهُوَ عَيْنُ الِاسْتِسْلَامِ؛ أَيِ التَّفْوِيضُ عَيْنُ الِانْقِيَادِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَلَا يُبَالِي أَكَانَ مَا يَقْضِي لَهُ الْخَيْرَ. أَمْ خِلَافَهُ؟ وَالْمُتَوَكِّلُ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي مَصَالِحِهِ. وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي لَحَظَهُ الْقَوْمُ فِي هَضْمِ مَقَامِ التَّوَكُّلِ، وَرَفَعِ مَقَامِ التَّفْوِيضِ عَلَيْهِ. وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُفَوِّضَ لَا يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا لِإِرَادَتِهِ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ لَهُ خِلَافَ مَا يَظُنُّهُ خَيْرًا. فَهُوَ رَاضٍ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ. وَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ. وَهَكَذَا حَالُ الْمُتَوَكِّلِ سَوَاءٌ، بَلْ هُوَ أَرْفَعُ مِنَ الْمُفَوِّضِ؛ لِأَنَّ مَعَهُ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ مَا لَيْسَ مَعَ الْمُفَوِّضِ. فَإِنَّ الْمُتَوَكِّلَ مُفَوِّضٌ وَزِيَادَةٌ. فَلَا يَسْتَقِيمُ مَقَامَ التَّوَكُّلِ إِلَّا بِالتَّفْوِيضِ. فَإِنَّهُ إِذَا فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ اعْتَمَدَ بِقَلْبِهِ كُلِّهِ عَلَيْهِ بَعْدَ تَفْوِيضِهِ. وَنَظِيرُ هَذَا: أَنَّ مَنْ فَوَّضَ أَمَرَهُ إِلَى رَجُلٍ، وَجَعَلَهُ إِلَيْهِ. فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ - بَعْدَ تَفْوِيضِهِ - اعْتِمَادًا خَاصًّا، وَسُكُونًا وَطُمَأْنِينَةً إِلَى الْمُفَوَّضِ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ قَبْلَ التَّفْوِيضِ. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ.

درجات التفويض

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَهَمَّ مَصَالِحِ الْمُتَوَكِّلِ: حُصُولُ مَرَاضِي مَحْبُوبِهِ وَمَحَابِّهِ. فَهُوَ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي تَحْصِيلِهَا لَهُ. فَأَيُّ مَصْلَحَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ؟ وَأَمَّا التَّفْوِيضُ: فَهُوَ تَفْوِيضُ حَاجَاتِ الْعَبْدِ الْمَعِيشِيَّةِ وَأَسْبَابِهَا إِلَى اللَّهِ. فَإِنَّهُ لَا يُفَوِّضُ إِلَيْهِ مَحَابَّهُ. وَالْمُتَوَكِّلُ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي مَحَابِّهِ. وَالْوَهْمُ إِنَّمَا دَخَلَ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ الظَّانُّ: أَنَّ التَّوَكُّلَ مَقْصُورٌ عَلَى مَعْلُومِ الرِّزْقِ، وَقُوَّةِ الْبَدَنِ، وَصِحَّةِ الْجِسْمِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا التَّوَكُّلَ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّوَكُّلِ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ. [دَرَجَاتُ التَّفْوِيضِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ قَبْلَ عَمَلِهِ اسْتِطَاعَةً] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الْأُولَى: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ قَبْلَ عَمَلِهِ اسْتِطَاعَةً. فَلَا يَأْمَنُ مِنْ مَكْرٍ، وَلَا يَيْأَسُ مِنْ مَعُونَةٍ، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَى نِيَّةٍ. أَيْ يَتَحَقَّقُ أَنَّ اسْتِطَاعَتَهُ بِيَدِ اللَّهِ، لَا بِيَدِهِ، فَهُوَ مَالِكُهَا دُونَهُ. فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُعْطِهِ الِاسْتِطَاعَةَ فَهُوَ عَاجِزٌ. فَهُوَ لَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا بِاللَّهِ، لَا بِنَفْسِهِ. فَكَيْفَ يَأْمَنُ الْمَكْرَ، وَهُوَ مُحَرَّكٌ لَا مُحَرِّكٌ؟ يُحَرِّكُهُ مَنْ حَرَكَتُهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ شَاءَ ثَبَّطَهُ وَأَقْعَدَهُ مَعَ الْقَاعِدِينَ. كَمَا قَالَ فِيمَنْ مَنَعَهُ هَذَا التَّوْفِيقَ: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] . فَهَذَا مَكْرُ اللَّهِ بِالْعَبْدِ: أَنْ يَقْطَعَ عَنْهُ مَوَادَّ تَوْفِيقِهِ. وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَلَا يَبْعَثَ دَوَاعِيهِ، وَلَا يُحَرِّكَهُ إِلَى مِرَاضَيْهِ وَمَحَابِّهِ. وَلَيْسَ هَذَا حَقًّا عَلَى اللَّهِ. فَيَكُونُ ظَالِمًا بِمَنْعِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ فَضْلِهِ الَّذِي يُحْمَدُ عَلَى بَذْلِهِ لِمَنْ بَذَلَهُ، وَعَلَى مَنْعِهِ لِمَنْ مَنْعَهُ إِيَّاهُ. فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى هَذَا وَهَذَا. وَمَنْ فَهِمَ هَذَا فَهِمَ بَابًا عَظِيمًا مِنْ سِرِّ الْقَدَرِ، وَانْجَلَتْ لَهُ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ. فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُرِيدُ مِنْ نَفْسِهِ فِعْلًا يَفْعَلُهُ بِعَبْدِهِ يَقَعُ مِنْهُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. فَيَمْنَعُهُ فِعْلَ نَفْسِهِ بِهِ، وَهُوَ تَوْفِيقُهُ؛ لِأَنَّهُ يَكْرَهُهُ، وَيَقْهَرُهُ عَلَى فِعْلِ مَسَاخِطِهِ، بَلْ يَكِلُهُ إِلَى نَفْسِهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَيَتَخَلَّى عَنْهُ. فَهَذَا هُوَ الْمَكْرُ. قَوْلُهُ: وَلَا يَيْأَسُ مِنْ مَعُونَةٍ، يَعْنِي إِذَا كَانَ الْمُحَرِّكُ لَهُ هُوَ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَهُوَ أَقْدَرُ الْقَادِرِينَ. وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِخَلْقِهِ وَرِزْقِهِ. وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فَكَيْفَ يَيْأَسُ مِنْ مَعُونَتِهِ لَهُ؟ قَوْلُهُ: وَلَا يُعَوِّلُ عَلَى نِيَّةٍ، أَيْ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى نِيَّتِهِ وَعَزْمِهِ، وَيَثِقُ بِهَا. فَإِنَّ نِيَّتَهُ وَعَزْمَهُ

فصل الدرجة الثانية معاينة الاضطرار

بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِيَدِهِ. وَهِيَ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَيْهِ. فَلْتَكُنْ ثِقَتُهُ بِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ حَقًّا، لَا بِمَنْ هِيَ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مُعَايَنَةُ الِاضْطِرَارِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مُعَايَنَةُ الِاضْطِرَارِ. فَلَا يَرَى عَمَلًا مُنْجِيًا، وَلَا ذَنْبًا مُهْلِكًا، وَلَا سَبَبًا حَامِلًا. أَيْ يُعَايِنُ فَقْرَهُ وَفَاقَتَهُ وَضَرُورَتَهُ التَّامَّةَ إِلَى اللَّهِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ يَرَى فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ ضَرُورَةً، وَفَاقَةً تَامَّةً إِلَى اللَّهِ. فَنَجَاتُهُ إِنَّمَا هِيَ بِاللَّهِ لَا بِعَمَلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا ذَنْبًا مُهْلِكًا، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ: أَنَّ هَلَاكَهُ بِاللَّهِ لَا بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ: فَبَاطِلٌ، مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ بِهِ: أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَسَعَتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ، وَمُشَاهَدَةَ شِدَّةِ ضَرُورَتِهِ وَفَاقَتِهِ إِلَيْهِ يُوجِبُ لَهُ أَنْ لَا يَرَى ذَنْبًا مُهْلِكًا، فَإِنَّ افْتِقَارَهُ وَفَاقَتَهُ وَضَرُورَتَهُ تَمْنَعُهُ مِنَ الْهَلَاكِ بِذُنُوبِهِ، بَلْ تَمْنَعُهُ مِنَ اقْتِحَامِ الذُّنُوبِ الْمُهْلِكَةِ؛ إِذْ صَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ لَا يُصِرُّ عَلَى ذُنُوبٍ تُهْلِكُهُ. وَهَذَا حَالُهُ - فَهَذَا حَقٌّ. وَهُوَ مِنْ مَشَاهِدِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا سَبَبًا حَامِلًا. أَيْ: يَشْهَدُ أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ هُوَ الْحَقُّ تَعَالَى، لَا الْأَسْبَابُ الَّتِي يَقُومُ بِهَا. فَإِنَّهُ وَإِيَّاهَا مَحْمُولَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ شُهُودُ انْفِرَادِ الْحَقِّ بِمِلْكِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: شُهُودُ انْفِرَادِ الْحَقِّ بِمِلْكِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِتَصْرِيفِ التَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ تَتَعَلَّقُ بِشُهُودِ وَصْفِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَشَأْنِهِ. وَالَّتِي قَبْلَهَا تَتَعَلَّقُ بِشُهُودِ حَالِ الْعَبْدِ وَوَصْفِهِ. أَيْ يَشْهَدُ حَرَكَاتِ الْعَالَمِ وَسُكُونَهُ صَادِرَةً عَنِ الْحَقِّ تَعَالَى فِي كُلِّ مُتَحَرِّكٍ وَسَاكِنٍ، فَيَشْهَدُ تَعَلُّقَ الْحَرَكَةِ بِاسْمِهِ الْبَاسِطِ وَتَعَلُّقَ السُّكُونِ بِاسْمِهِ الْقَابِضِ فَيَشْهَدُ تَفَرُّدَهُ سُبْحَانَهُ بِالْبَسْطِ وَالْقَبْضِ. وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُ بِتَصْرِيفِ التَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ فَأَنْ يَكُونَ الْمُشَاهِدُ عَارِفًا بِمَوَاضِعِ التَّفْرِقَةِ

فصل منزلة الثقة بالله تعالى

وَالْجَمْعِ. وَالْمُرَادُ بِالتَّفْرِقَةِ: نَظَرُ الِاعْتِبَارِ، وَنِسْبَةُ الْأَفْعَالِ إِلَى الْخَلْقِ. وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ: شُهُودُ الْأَفْعَالِ مَنْسُوبَةً إِلَى مُوجِدِهَا الْحَقِّ تَعَالَى. وَقَدْ يُرِيدُونَ بِالتَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ مَعْنًى وَرَاءَ هَذَا الشُّهُودِ. وَهُوَ حَالُ التَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ. فَحَالُ التَّفْرِقَةِ: تَفَرُّقُ الْقَلْبِ فِي أَوْدِيَةِ الْإِرَادَاتِ وَشِعَابِهَا. وَحَالُ الْجَمْعِ: جَمْعِيَّتُهُ عَلَى مُرَادِ الْحَقِّ وَحْدَهُ. فَالْأَوَّلُ: عِلْمُ التَّفْرِقَةِ وَالْجَمْعِ. وَالثَّانِي: حَالُهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى] [حَقِيقَةُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى. قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الثِّقَةُ: سَوَادُ عَيْنِ التَّوَكُّلِ. وَنُقْطَةُ دَائِرَةِ التَّفْوِيضِ. وَسُوَيْدَاءُ قَلْبِ التَّسْلِيمِ. وَصَدَّرَ الْبَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِأُمِّ مُوسَى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} [القصص: 7] . فَإِنَّ فِعْلَهَا هَذَا هُوَ عَيْنُ ثِقَتِهَا بِاللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَوْلَا كَمَالُ ثِقَتِهَا بِرَبِّهَا لَمَا أَلْقَتْ بِوَلَدِهَا وَفِلْذَةِ كَبِدِهَا فِي تَيَّارِ الْمَاءِ، تَتَلَاعَبُ بِهِ أَمْوَاجُهُ، وَجَرْيَاتُهُ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي أَوْ يَقِفُ. وَمُرَادُهُ: أَنَّ الثِّقَةَ خُلَاصَةُ التَّوَكُّلِ وَلُبُّهُ، كَمَا أَنَّ سَوَادَ الْعَيْنِ: أَشْرَفُ مَا فِي الْعَيْنِ. وَأَشَارَ بِأَنَّهُ نُقْطَةُ دَائِرَةِ التَّفْوِيضِ إِلَى أَنَّ مَدَارَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي وَسَطِهِ كَحَالِ النُّقْطَةِ مِنَ الدَّائِرَةِ. فَإِنَّ النُّقْطَةَ هِيَ الْمُرَكَّزُ الَّذِي عَلَيْهِ اسْتِدَارَةُ الْمُحِيطِ، وَنِسْبَةُ جِهَاتِ الْمُحِيطِ إِلَيْهَا نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُحِيطِ مُقَابِلٌ لَهَا. كَذَلِكَ الثِّقَةُ هِيَ النُّقْطَةُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا التَّفْوِيضُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: سُوَيْدَاءُ قَلْبِ التَّسْلِيمِ. فَإِنَّ الْقَلْبَ أَشْرَفُ مَا فِيهِ سُوَيْدَاؤُهُ، وَهِيَ

فصل درجات الثقة بالله تعالى

الْمُهْجَةُ الَّتِي تَكُونُ بِهَا الْحَيَاةُ، وَهِيَ فِي وَسَطِهِ. فَلَوْ كَانَ التَّفْوِيضُ قَلْبًا لَكَانَتِ الثِّقَةُ سُوَيْدَاءَهُ. وَلَوْ كَانَ عَيْنًا لَكَانَتْ سَوَادَهَا. وَلَوْ كَانَ دَائِرَةً لَكَانَتْ نُقْطَتَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُفَسِّرُ التَّوَكُّلَ بِالثِّقَةِ. وَيَجْعَلُهُ حَقِيقَتَهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالتَّفْوِيضِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالتَّسْلِيمِ. فَعَلِمْتُ أَنَّ مَقَامَ التَّوَكُّلِ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ. فَكَأَنَّ الثِّقَةَ عِنْدَ الشَّيْخِ هِيَ رُوحٌ، وَالتَّوَكُّلَ كَالْبَدَنِ الْحَامِلِ لَهَا، وَنِسْبَتَهَا إِلَى التَّوَكُّلِ كَنِسْبَةِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْإِيمَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى دَرَجَةُ الْإِيَاسِ] فَصْلٌ قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: دَرَجَةُ الْإِيَاسِ. وَهُوَ إِيَاسُ الْعَبْدِ عَنْ مُقَاوَمَاتِ الْأَحْكَامِ. لِيَقْعُدَ عَنْ مُنَازَعَةِ الْأَقْسَامِ، لِيَتَخَلَّصَ مِنْ قِحَةِ الْإِقْدَامِ. يَعْنِي أَنَّ الْوَاثِقَ بِاللَّهِ لِاعْتِقَادِهِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَكَمَ بِحُكْمٍ وَقَضَى أَمْرًا. فَلَا مَرَدَّ لِقَضَائِهِ. وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. فَمَنْ حَكَمَ اللَّهُ لَهُ بِحُكْمٍ، وَقَسَمَ لَهُ بِنَصِيبٍ مِنَ الرِّزْقِ، أَوِ الطَّاعَةِ أَوِ الْحَالِ، أَوِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ: فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهِ لَهُ. وَمَنْ لَمْ يَقْسِمْ لَهُ ذَلِكَ: فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ. كَمَا لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الطَّيَرَانِ إِلَى السَّمَاءِ، وَحَمْلِ الْجِبَالِ - فَبِهَذَا الْقَدْرِ يَقْعُدُ عَنْ مُنَازَعَةِ الْأَقْسَامِ. فَمَا كَانَ لَهُ مِنْهَا فَسَوْفَ يَأْتِيهِ عَلَى ضَعْفِهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا فَلَنْ يَنَالَهُ بِقُوَّتِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: مُقَاوَمَةُ الْأَحْكَامِ وَمُنَازَعَةُ الْأَقْسَامِ، أَنَّ مُقَاوَمَةَ الْأَحْكَامِ: أَنْ تَتَعَلَّقَ إِرَادَتُهُ بِعَيْنِ مَا فِي حُكْمِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ. فَإِذَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِذَلِكَ جَاذَبَ الْخَلْقَ الْأَقْسَامَ وَنَازَعَهُمْ فِيهَا. وَقَوْلُهُ: يَتَخَلَّصُ مِنْ قِحَةِ الْإِقْدَامِ؛ أَيْ يَتَخَلَّصُ بِالثِّقَةِ بِاللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْقِحَةِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى إِقْدَامِهِ عَلَى مَا لَمْ يَحْكُمْ لَهُ بِهِ وَلَا قَسَمَ لَهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ دَرَجَةُ الْأَمْنِ] فَصْلٌ

فصل الدرجة الثالثة معاينة أزلية الحق

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: دَرَجَةُ الْأَمْنِ. وَهُوَ أَمْنُ الْعَبْدِ مِنْ فَوْتِ الْمَقْدُورِ. وَانْتِقَاضِ الْمَسْطُورِ. فَيَظْفَرُ بِرَوْحِ الرِّضَا، وَإِلَّا فَبِعَيْنِ الْيَقِينِ. وَإِلَّا فَبِلُطْفِ الصَّبْرِ. يَقُولُ: مَنْ حَصَلَ لَهُ الْإِيَاسُ الْمَذْكُورُ حَصَلَ لَهُ الْأَمْنُ. وَذَلِكَ: أَنَّ مِنْ تَحَقَّقَ بِمُعَرَّفَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ مَا قَضَاهُ اللَّهُ فَلَا مَرَدَّ لَهُ الْبَتَّةَ: أَمِنَ مِنْ فَوْتِ نَصِيبِهِ الَّذِي قَسَمَهُ اللَّهُ لَهُ. وَأَمِنَ أَيْضًا مِنْ نُقْصَانِ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُ، وَسَطَّرَهُ فِي الْكِتَابِ الْمَسْطُورِ. فَيَظْفَرُ بِرَوْحِ الرِّضَا، أَيْ بِرَاحَتِهِ وَلَذَّتِهِ وَنَعِيمِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الرِّضَا فِي رَاحَةٍ وَلَذَّةٍ وَسُرُورٍ. كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ - بِعَدْلِهِ وَقِسْطِهِ - جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضَا. وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ» . فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْعَبْدُ عَلَى رَوْحِ الرِّضَا ظَفِرَ بِعَيْنِ الْيَقِينِ؛ وَهُوَ قُوَّةُ الْإِيمَانِ، وَمُبَاشَرَتُهُ لِلْقَلْبِ. بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِيَانِ إِلَّا كَشْفُ الْحِجَابِ الْمَانِعِ مِنْ مُكَافَحَةِ الْبَصَرِ. فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الْمَقَامُ حَصَلَ عَلَى لُطْفِ الصَّبْرِ وَمَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ. كَمَا فِي الْأَثَرِ الْمَعْرُوفِ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ. فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ النَّفْسُ خَيْرًا كَثِيرًا. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مُعَايَنَةُ أَزَلِيَّةِ الْحَقِّ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مُعَايَنَةُ أَزَلِيَّةِ الْحَقِّ. لِيَتَخَلَّصَ مِنْ مِحَنِ الْقُصُودِ، وَتَكَالِيفِ الْحِمَايَاتِ، وَالتَّعْرِيجِ عَلَى مَدَارِجِ الْوَسَائِلِ.

فصل منزلة التسليم

قَوْلُهُ: مُعَايَنَةُ أَزَلِيَّةِ الْحَقِّ؛ أَيْ مَتَى شَهِدَ قَلْبُهُ تَفَرُّدَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْأَزَلِيَّةِ، غَابَ بِهَا عَنِ الطَّلَبِ، لِتَيَقُّنِهِ فَرَاغَ الرَّبِّ تَعَالَى مِنَ الْمَقَادِيرِ، وَسَبْقَ الْأَزَلِ بِهَا، وَثُبُوتِ حُكْمِهَا هُنَاكَ. فَيَتَخَلَّصُ مِنَ الْمِحَنِ الَّتِي تُعْرَضُ لَهُ دُونَ الْمَقْصُودِ. وَيَتَخَلَّصُ أَيْضًا مِنْ تَعْرِيجِهِ وَالْتِفَاتِهِ، وَحَبْسِ مَطِيَّتِهِ عَلَى طُرُقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى الْمَطَالِبِ. وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ. فَإِنَّ مَدَارِجَ الْوَسَائِلِ قِسْمَانِ: وَسَائِلُ مُوصِلَةٌ إِلَى عَيْنِ الرِّضَا. فَالتَّعْرِيجُ عَلَى مَدَارِجِهَا - مَعْرِفَةً وَعَمَلًا وَحَالًا وَإِيثَارًا - هُوَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ. وَلَكِنْ لَا يَجْعَلُ تَعْرِيجَهُ كُلَّهُ عَلَى مَدَارِجِهَا. بِحَيْثُ يَنْسَى بِهَا الْغَايَةَ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ إِلَيْهَا. وَأَمَّا تَخَلُّصُهُ مِنْ تَكَالِيفِ الْحِمَايَاتِ فَهُوَ تَخَلُّصُهُ مِنْ طَلَبِ مَا حَمَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَدَرًا. فَلَا يَتَكَلَّفُ طَلَبَهُ وَقَدْ حُمِي عَنْهُ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يَتَخَلَّصَ بِمُشَاهَدَةِ سَبْقِ الْأَزَلِيَّةِ مِنْ تَكَالِيفِ احْتِرَازَاتِهِ، وَشَدَّةِ احْتِمَائِهِ مِنَ الْمَكَارِهِ، لِعِلْمِهِ بِسَبْقِ الْأَزَلِ بِمَا كُتِبَ لَهُ مِنْهَا. فَلَا فَائِدَةَ فِي تَكَلُّفِ الِاحْتِمَاءِ. نَعَمْ، يَحْتَمِي مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ، وَمَا لَا يَنْفَعُهُ فِي طَرِيقِهِ. وَلَا يُعِينُهُ عَلَى الْوُصُولِ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّسْلِيمِ] [أَنْوَاعُ مُنَزَّلَةِ التَّسْلِيمِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّسْلِيمِ وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ التَّسْلِيمِ وَهِيَ نَوْعَانِ: تَسْلِيمٌ لِحُكْمِهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ. وَتَسْلِيمٌ لِحُكْمِهِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ تَسْلِيمُ الْمُؤْمِنِينَ الْعَارِفِينَ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: التَّحْكِيمُ، وَسِعَةُ الصَّدْرِ بِانْتِفَاءِ الْحَرَجِ، وَالتَّسْلِيمُ. وَأَمَّا التَّسْلِيمُ لِلْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ: فَمَزَلَّةُ أَقْدَامٍ، وَمَضَلَّةُ أَفْهَامٍ. حَيَّرَ الْأَنَامَ، وَأَوْقَعَ الْخِصَامَ. وَهِيَ مَسْأَلَةُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَبَيَّنَّا أَنَّ

فصل التسليم الصادر عن الرضا والاختيار

التَّسْلِيمَ لِلْقَضَاءِ يُحْمَدُ إِذَا لَمْ يُؤْمَرِ الْعَبْدُ بِمُنَازَعَتِهِ وَدَفْعِهِ. وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، كَالْمَصَائِبِ الَّتِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى دَفْعِهَا. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي أُمِرَ بِدَفْعِهَا: فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّسْلِيمُ إِلَيْهَا، بَلِ الْعُبُودِيَّةُ: مُدَافَعَتُهَا بِأَحْكَامٍ أُخَرَ أَحَبِّ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا. [فَصْلٌ التَّسْلِيمُ الصَّادِرُ عَنِ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": وَفِي التَّسْلِيمِ وَالثِّقَةِ وَالتَّفْوِيضِ: مَا فِي التَّوَكُّلِ مِنَ الْعِلَلِ. وَهُوَ مِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ سُبُلِ الْعَامَّةِ. يَعْنِي أَنَّ الْعِلَلَ الَّتِي فِي التَّوَكُّلِ مِنْ مَعَانِي الدَّعْوَى، وَنِسْبَتِهِ الشَّيْءَ إِلَى نَفْسِهِ أَوَّلًا، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ وَكَّلَ رَبَّهِ فِيهِ، وَتُوَكَّلَ عَلَيْهِ فِيهِ. وَجَعَلَهُ وَكِيلَهُ، الْقَائِمَ عَنْهُ بِمَصَالِحِهِ الَّتِي كَانَ يُحَصِّلُهَا لِنَفْسِهِ بِالْأَسْبَابِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِي ذَلِكَ. وَلَيْسَ فِي التَّسْلِيمِ إِلَّا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ: وَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ تَسْلِيمُهُ صَادِرًا عَنْ مَحْضِ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ، بَلْ يَشُوبُهُ كُرْهٌ وَانْقِبَاضٌ، فَيُسَلِّمُ عَلَى نَوْعِ إِغْمَاضٍ. فَهَذِهِ عِلَّةُ التَّسْلِيمِ الْمُؤَثِّرَةِ. فَاجْتَهِدْ فِي الْخَلَاصِ مِنْهَا. وَإِنَّمَا كَانَ لِلْعَامَّةِ عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْخَاصَّةَ فِي شُغْلٍ عَنْهُ بِاسْتِغْرَاقِهِمْ بِالْفَنَاءِ فِي عَيْنِ الْجَمْعِ. وَجَعْلُ الْفَنَاءِ غَايَةَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي عَيْنِ الْجَمْعِ: هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ مَا أَوْجَبَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [دَرَجَاتُ التَّسْلِيمِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى تَسْلِيمُ مَا يُزَاحِمُ الْعُقُولَ مِمَّا سَبَقَ عَلَى الْأَوْهَامِ مِنَ الْغَيْبِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَسْلِيمُ مَا يُزَاحِمُ الْعُقُولَ مِمَّا سَبَقَ عَلَى الْأَوْهَامِ مِنَ الْغَيْبِ، وَالْإِذْعَانُ لِمَا يُغَالِبُ الْقِيَاسَ مِنْ سَيْرِ الدُّوَلِ وَالْقِسَمِ، وَالْإِجَابَةِ لِمَا يُفْزِعُ الْمُرِيدَ مِنْ رُكُوبِ الْأَحْوَالِ. اعْلَمْ أَنَّ التَّسْلِيمَ هُوَ الْخَلَاصُ مِنْ شُبْهَةِ تَعَارُضِ الْخَبَرِ، أَوْ شَهْوَةِ تَعَارُضِ الْأَمْرِ، أَوْ إِرَادَةِ تَعَارُضِ الْإِخْلَاصِ، أَوِ اعْتِرَاضٍ يُعَارِضُ الْقَدَرَ وَالشَّرْعَ.

وَصَاحِبُ هَذَا التَّخَلُّصِ: هُوَ صَاحِبُ الْقَلْبِ السَّلِيمِ الَّذِي لَا يَنْجُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِهِ، فَإِنَّ التَّسْلِيمَ ضِدُّ الْمُنَازَعَةِ. وَالْمُنَازَعَةُ: إِمَّا بِشُبْهَةٍ فَاسِدَةٍ، تُعَارِضُ الْإِيمَانَ بِالْخَبَرِ عَمَّا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَالتَّسْلِيمُ لَهُ: تَرْكُ مُنَازَعَتِهِ بِشُبُهَاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْبَاطِلَةِ. وَإِمَّا بِشَهْوَةٍ تُعَارِضُ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَالتَّسْلِيمُ لِلْأَمْرِ بِالتَّخَلُّصِ مِنْهَا. أَوْ إِرَادَةٍ تُعَارِضُ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ عَبْدِهِ، فَتُعَارِضُهُ إِرَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمُرَادِ الْعَبْدِ مِنَ الرَّبِّ. فَالتَّسْلِيمُ: بِالتَّخَلُّصِ مِنْهَا. أَوِ اعْتِرَاضٍ يُعَارِضُ حِكْمَتَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، بِأَنْ يَظُنَّ أَنَّ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ خِلَافُ مَا شَرَعَ، وَخِلَافُ مَا قَضَى وَقَدَّرَ. فَالتَّسْلِيمُ: التَّخَلُّصُ مِنْ هَذِهِ الْمُنَازَعَاتِ كُلِّهَا. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مِنْ أَجَلِّ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ، وَأَعْلَى طُرُقِ الْخَاصَّةِ، وَأَنَّ التَّسْلِيمَ هُوَ مَحْضُ الصِّدِّيقِيَّةِ، الَّتِي هِيَ بَعْدَ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ، وَأَنَّ أَكْمَلَ النَّاسِ تَسْلِيمًا: أَكْمَلُهُمْ صِدِّيقِيَّةً. فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِ الشَّيْخِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: تَسْلِيمُ مَا يُزَاحِمُ الْعُقُولَ مِمَّا سَبَقَ عَلَى الْأَوْهَامِ فَيَعْنِي: أَنَّ التَّسْلِيمَ يَقْتَضِي مَا يَنْهَى عَنْهُ الْعَقْلُ وَيُزَاحِمُهُ. فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّجْرِيدَ عَنِ الْأَسْبَابِ. وَالْعَقْلُ يَأْمُرُ بِهَا. فَصَاحِبُ التَّسْلِيمِ يُسَلِّمُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا هُوَ غَيْبٌ عَنِ الْعَبْدِ. فَإِنَّ فِعْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَنْهَى الْعَقْلُ عَنِ التَّجَرُّدِ عَنْهَا. فَإِذَا سَلَّمَ لِلَّهِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى السَّبَبِ فِي كُلِّ مَا غَابَ عَنْهُ. فَالْأَوْهَامُ يَسْبِقُ عَلَيْهَا: أَنَّ مَا غَابَ عَنْهَا مِنَ الْحِكَمِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْأَسْبَابِ. وَالتَّسْلِيمُ يَقْتَضِي التَّجَرُّدَ عَنْهَا. وَالْعَقْلُ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ. وَالْوَهْمُ قَدْ سَبَقَ عَلَيْهِ أَنَّ الْغَيْبَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا. فَهَاهُنَا أُمُورٌ سِتَّةٌ: عَقْلٌ، وَمُزَاحِمٌ لَهُ، وَوَهْمٌ، وَسَائِقٌ إِلَيْهِ، وَغَيْبٌ، وَتَسْلِيمٌ لِهَذَا الْمُزَاحِمِ. فَالْعَقْلُ هُوَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْأَسْبَابِ، الدَّاعِي لَهُ إِلَيْهَا، الَّتِي إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ

عَنْهَا عُدَّ خُرُوجُهُ قَدْحًا فِي عَقْلِهِ. وَالْمُزَاحِمُ لَهُ: التَّجَرُّدُ عَنْهَا بِكَمَالِ التَّسْلِيمِ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ: مَوَارِدُهَا وَمَصَادِرُهَا. وَالْوَهْمُ: اعْتِقَادُهُ تَوَقُّفَ حُصُولِ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ، وَحُصُولِ الْمَقْدُورِ - كَائِنًا مَا كَانَ - عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ لَوْلَاهَا لَمَا حَصَلَ الْمَقْدُورُ. وَهَذَا هُوَ السَّائِقُ إِلَى الْوَهْمِ. وَالْغَيْبُ: هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي غَابَ عَنْهُ. وَهُوَ فِعْلُ اللَّهِ. وَالتَّسْلِيمُ: تَسْلِيمُ هَذَا الْمُزَاحِمِ إِلَى نَفْسِ الْحُكْمِ. مَعَ أَنَّ فِي تَنْزِيلِ عِبَارَتِهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَإِفْرَاغِ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوَالِبَ أَلْفَاظِهِ نَظَرًا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: التَّسْلِيمُ لِمَا يَبْدُو لِلْعَبْدِ مِنْ مَعَانِي الْغَيْبِ مِمَّا يُزَاحِمُ مَعْقُولَهُ فِي بَادِيَ الرَّأْيِ، لِمَا يَسْبِقُ إِلَى وَهْمِهِ: أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِهِ. فَيَسْبِقُ عَلَى الْأَوْهَامِ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي أَخْبَرْتُ بِهِ شَيْءٌ يُزَاحِمُ مَعْقُولَهَا فَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَ حُكْمِ الْعَقْلِ وَحُكْمِ الْوَهْمِ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْغَيْبِ قَدْ يُزَاحِمُ الْعَقْلَ بَعْضَ الْمُزَاحَمَةِ، وَيَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ خِلَافُهُ. فَالتَّسْلِيمُ: تَسْلِيمُ هَذَا الْمُزَاحِمِ إِلَى وَلِيِّهِ، وَمَنْ هُوَ أَخْبَرُ بِهِ، وَالتَّجَرُّدُ عَمَّا يَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ مِمَّا يُخَالِفُهُ. وَهَذَا أَوْلَى الْمَعْنَيَيْنِ بِكَلَامِهِ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَالْأَوَّلُ: تَسْلِيمُ مُنَازَعَاتِ الْأَسْبَابِ لِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ الْقَصْدِيِّ الْإِرَادِيِّ. وَهَذَا تَجْرِيدُ مُنَازَعَاتِ الْأَوْهَامِ الْمُخَالِفَةِ لِلْخَبَرِ لِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ الْعِلْمِيِّ الْخَبَرِيِّ الِاعْتِقَادِيِّ. وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّسْلِيمِ. قَوْلُهُ: وَالْإِذْعَانُ لِمَا يُغَالِبُ الْقِيَاسَ، مِنْ سَيْرِ الدُّوَلِ وَالْقِسَمِ. أَيِ الِانْقِيَادُ لِمَا يُقَاوِي عَقْلَهُ وَقِيَاسَهُ، مِمَّا جَرَى بِهِ حُكْمُ اللَّهِ فِي الدُّوَلِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا: مِنْ طَيِّ دَوْلَةٍ، وَنَشْرِ دَوْلَةٍ، وَإِعْزَازِ هَذِهِ وَإِذْلَالِ هَذِهِ، وَالْقِسَمِ الَّتِي قَسَّمَهَا عَلَى خَلْقِهِ، مَعَ شِدَّةِ تَفَاوُتِهَا، وَتَبَايُنِ مَقَادِيرِهَا، وَكَيْفِيَّاتِهَا وَأَجْنَاسِهَا، فَيُذْعِنُ لِحِكْمَةِ اللَّهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهَا بِشُبْهَةٍ وَقِيَاسٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِ " الدُّوَلِ وَالْقِسَمِ " الْأَحْوَالَ الَّتِي تُتَدَاوَلُ عَلَى السَّالِكِ وَيَخْتَلِفُ سَيْرُهَا. وَالْقِسَمُ الَّتِي نَالَتْهُ مِنَ اللَّهِ: مَا كَانَ قِيَاسُ سَعْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ أَنْ يُحَصِّلَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْهَا. فَيُذْعِنُ لِمَا غَالَبَ قِيَاسُهُ مِنْهَا، وَيُسَلِّمُ لِلْقَاسِمِ الْمُعْطِي بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ. فَإِنَّ مِنْ

فصل الدرجة الثانية تسليم العلم إلى الحال

عِبَادِهِ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ. وَلَوْ أَغْنَاهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى. وَلَوْ أَفْقَرَهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْمَرَضُ. وَلَوْ أَصَحَّهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الصِّحَّةُ. وَلَوْ أَمْرَضَهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَالْإِجَابَةُ لِمَا يُفْزِعُ الْمُرِيدُ مِنْ رُكُوبِ الْأَحْوَالِ. يَقُولُ: إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنْ قُوَّةِ التَّسْلِيمِ يَهْجُمُ عَلَى الْأُمُورِ الْمُفْزِعَةِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا. وَلَا يَخَافُ مَعَهَا مِنْ رُكُوبِ الْأَحْوَالِ، وَاقْتِحَامِ الْأَهْوَالِ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ تَسْلِيمِهِ تَحْمِيهِ مِنْ خَطَرِهَا. فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخَافَ. فَإِنَّهُ فِي حِصْنِ التَّسْلِيمِ وَمِنْعَتِهِ وَحِمَايَتِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفَّقُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تَسْلِيمُ الْعِلْمِ إِلَى الْحَالِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَسْلِيمُ الْعِلْمِ إِلَى الْحَالِ: وَالْقَصْدُ إِلَى الْكَشْفِ، وَالرَّسْمِ إِلَى الْحَقِيقَةِ. أَمَّا تَسْلِيمُ الْعِلْمِ إِلَى الْحَالِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ: تَحْكِيمَ الْحَالِ عَلَى الْعِلْمِ، حَاشَا الشَّيْخِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: الِانْتِقَالَ مِنَ الْوُقُوفِ عِنْدَ صُوَرِ الْعِلْمِ الظَّاهِرَةِ إِلَى مَعَانِيهَا وَحَقَائِقِهَا الْبَاطِنَةِ، وَثَمَرَاتِهَا الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا، مِثْلَ الِانْتِقَالِ مِنْ مَحْضِ التَّقْلِيدِ وَالْخَبَرِ إِلَى الْعِيَانِ وَالْيَقِينِ. حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَى وَيُشَاهِدُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19] . وَيَنْتَقِلُ مِنَ الْحِجَابِ إِلَى الْكَشْفِ، فَيَنْتَقِلُ مِنَ الْعِلْمِ إِلَى الْيَقِينِ، وَمِنَ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ. وَمِنْ عِلْمِ الْإِيمَانِ إِلَى ذَوْقِ طَعْمِ الْإِيمَانِ وَوِجْدَانِ حَلَاوَتِهِ. فَإِنَّ هَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ عِلْمِهِ. وَمِنْ عِلْمِ التَّوَكُّلِ إِلَى حَالِهِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. فَيُسَلِّمُ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ إِلَى الْحَالِ الصَّحِيحِ. فَإِنَّ سُلْطَانَ الْحَالِ أَقْوَى مِنْ سُلْطَانِ الْعِلْمِ. فَإِذَا كَانَ الْحَالُ مُخَالِفًا لِلْعِلْمِ فَهُوَ مَلِكٌ ظَالِمٌ. فَلْيَخْرُجْ عَلَيْهِ بِسَيْفِ الْعِلْمُ، وَلْيُحَكِّمْهُ فِيهِ. وَأَمَّا تَسْلِيمُ الْقَصْدِ إِلَى الْكَشْفِ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ: أَنْ يَتْرُكَ الْقَصْدَ عَنْ مُعَايَنَةِ

الدرجة الثالثة تسليم ما دون الحق إلى الحق

الْكَشْفِ. فَإِنَّهُ مَتَّى تَرَكَ الْقَصْدَ خَلَعَ رِبْقَةَ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ عُنُقِهِ. وَلَكِنْ يَجْعَلُ قَصْدَهُ سَائِرًا طَالِبًا لِكَشْفِهِ يَؤُمُّهُ. فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ. وَصَارَ الْحُكْمُ لِلْكَشْفِ؛ إِذِ الْقَصْدُ آلَةٌ وَوَسِيلَةٌ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ كَشْفًا صَحِيحًا مُطَابِقًا لِلْحَقِّ فِي نَفْسِهِ: كَشَفَ لَهُ عَنْ آفَاتِ الْقَصْدِ، وَمُفْسِدَاتِهِ، وَمُصَحِّحَاتِهِ وَعُيُوبِهِ. فَأَقْبَلَ عَلَى تَصْحِيحِهِ بِنُورِ الْكَشْفِ. لَا أَنَّ صَاحِبَ الْقَصْدِ تَرَكَ الْقَصْدَ لِأَجْلِ الْكَشْفِ فَهَذَا سَيْرُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ، النَّاكِبِينَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَالرَّشَادِ. وَأَمَّا تَرْكُ الرَّسْمِ إِلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِهِ إِلَى الْفَنَاءِ. فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ تَسْلِيمِ صَاحِبِ الْفَنَاءِ: تَسْلِيمَ ذَاتِهِ لِيَفْنَى فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ. فَإِنَّ ذَاتَ الْعَبْدِ هِيَ رَسْمٌ. وَالرَّسْمُ تُفْنِيهِ الْحَقِيقَةُ، كَمَا يُفْنِي النُّورُ الظُّلْمَةَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَصْحَابِ الْفَنَاءِ: أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ لَا يَرَاهُ سِوَاهُ. وَلَا يُشَاهِدُهُ غَيْرُهُ. لَا بِمَعْنَى الِاتِّحَادِ، وَلَكِنْ بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُشَاهِدُهُ الْعَبْدُ حَتَّى يَفْنَى عَنْ إِنِّيَّتِهِ وَرَسْمِهِ، وَجَمِيعِ عَوَالِمِهِ، فَيَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ. وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ. هَذَا كَإِجْمَاعٍ مِنَ الطَّائِفَةِ، بَلْ هُوَ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ. [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَسْلِيمُ مَا دُونُ الْحَقِّ إِلَى الْحَقِّ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: تَسْلِيمُ مَا دُونُ الْحَقِّ إِلَى الْحَقِّ، مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ رُؤْيَةِ التَّسْلِيمِ، بِمُعَايَنَةِ تَسْلِيمِ الْحَقِّ إِيَّاكَ إِلَيْهِ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ تَكْمِلَةُ الدَّرَجَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. فَإِنَّ التَّسْلِيمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا بِدَايَةٌ لَهَا. وَهِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ. فَالْأُولَى: بِدَايَةٌ، وَالثَّانِيَةُ: وَسَطٌ وَالثَّالِثَةُ: نِهَايَةٌ. قَوْلُهُ: تَسْلِيمُ مَا دُونُ الْحَقِّ إِلَى الْحَقِّ. يُرِيدُ بِهِ: اضْمِحْلَالَ رُسُومِ الْخَلْقِ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ. وَكُلُّ مَا دُونُ الْحَقِّ رُسُومٌ. فَإِذَا سَلَّمَ رَسْمَهُ الْخَاصَّ إِلَى رَبِّهِ: حَصَلَ لَهُ حَقِيقَةُ الْفَنَاءِ. وَهَذَا التَّسْلِيمُ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: تَسْلِيمُ رَسْمِهِ الْخَاصِّ بِهِ. وَالثَّانِي: تَسْلِيمُ رُسُومِ الْكَائِنَاتِ، وَرُؤْيَةِ تَلَاشِيهَا وَاضْمِحْلَالِهَا فِي عَيْنِ الْحَقِيقَةِ. وَهَذَا عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ. وَالْأَوَّلُ حَالٌ. قَوْلُهُ: وَالسَّلَامَةُ مِنْ رُؤْيَةِ التَّسْلِيمِ؛ أَيْ يَنْسَلِبُ أَيْضًا مِنْ رَسْمِ رُؤْيَةِ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ أَيْضًا رَسْمٌ مِنْ جُمْلَةِ الرُّسُومِ. فَمَا دَامَ مُسْتَصْحِبًا لَهَا: لَمْ يُسَلِّمِ التَّسْلِيمَ التَّامَّ. وَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ مُنَازَعَاتِ رَسْمِهِ. ثُمَّ عَرَّفَ كَيْفِيَّةَ هَذَا التَّسْلِيمِ، فَقَالَ: بِمُعَايَنَةِ تَسْلِيمِ الْحَقِّ إِيَّاكَ إِلَيْهِ؛ أَيْ يَنْكَشِفُ

فصل منزلة الصبر

لَكَ - حِينَ تُسَلِّمُ مَا دُونُ الْحَقِّ إِلَى الْحَقِّ - أَنَّ الْحَقَّ تَعَالَى هُوَ الَّذِي سَلَّمَ إِلَى نَفْسِهِ مَا دُونَهُ. فَالْحَقُّ تَعَالَى هُوَ الَّذِي سَلَّمَكَ إِلَيْهِ. فَهُوَ الْمُسَلِّمُ وَهُوَ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ. وَأَنْتَ آلَةُ التَّسْلِيمِ. فَمَنْ شَهِدَ هَذَا الْمَشْهَدَ: وَجَدَ ذَاتَهُ مُسَلَّمَةً إِلَى الْحَقِّ. وَمَا سَلَّمَهَا إِلَى الْحَقِّ غَيْرُ الْحَقِّ، فَقَدْ سَلِمَ الْعَبْدُ مِنْ دَعْوَى التَّسْلِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الصَّبْرِ] [الصَّبْرُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الصَّبْرِ وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الصَّبْرِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الصَّبْرُ فِي الْقُرْآنِ فِي نَحْوِ تِسْعِينَ مَوْضِعًا. وَهُوَ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. وَهُوَ نِصْفُ الْإِيمَانِ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ: نِصْفُ صَبْرٍ، وَنِصْفُ شُكْرٍ. وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ نَوْعًا. الْأَوَّلُ: الْأَمْرُ بِهِ. نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 153] وَقَوْلِهِ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] . وَقَوْلُهُ: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران: 200] وَقَوْلُهُ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] . الثَّانِي: النَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ كَقَوْلِهِ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35] ، وَقَوْلِهِ: {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] ، فَإِنَّ تَوْلِيَةَ الْأَدْبَارِ: تَرْكٌ لِلصَّبْرِ وَالْمُصَابَرَةِ. وَقَوْلِهِ: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] فَإِنَّ إِبْطَالَهَا تَرْكُ الصَّبْرِ عَلَى إِتْمَامِهَا. وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [آل عمران: 139] فَإِنَّ الْوَهْنَ مِنْ عَدَمِ الصَّبْرِ. الثَّالِثُ: الثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ} [آل عمران: 17] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ:

: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] . وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. الرَّابِعُ: إِيجَابُهُ سُبْحَانَهُ مَحَبَّتَهُ لَهُمْ. كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] . الْخَامِسُ: إِيجَابُ مَعِيَّتِهِ لَهُمْ. وَهِيَ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ. تَتَضَمَّنُ حِفْظَهُمْ وَنَصْرَهُمْ، وَتَأْيِيدَهُمْ. لَيْسَتْ مَعِيَّةً عَامَّةً. وَهِيَ مَعِيَّةُ الْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ. كَقَوْلِهِ: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] . السَّادِسُ: إِخْبَارُهُ بِأَنَّ الصَّبْرَ خَيْرٌ لِأَصْحَابِهِ. كَقَوْلِهِ: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] وَقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء: 25] . السَّابِعُ: إِيجَابُ الْجَزَاءِ لَهُمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ. كَقَوْلِهِ: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96] . الثَّامِنُ: إِيجَابُهُ سُبْحَانَهُ الْجَزَاءَ لَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] . التَّاسِعُ: إِطْلَاقُ الْبُشْرَى لِأَهْلِ الصَّبْرِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] . الْعَاشِرُ: ضَمَانُ النَّصْرِ وَالْمَدَدِ لَهُمْ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ» . الْحَادِي عَشَرَ: الْإِخْبَارُ مِنْهُ تَعَالَى بِأَنَّ أَهْلَ الصَّبْرِ هُمْ أَهْلُ الْعَزَائِمِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] .

الثَّانِي عَشَرَ: الْإِخْبَارُ أَنَّهُ مَا يَلْقَى الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَجَزَاءَهَا وَالْحُظُوظَ الْعَظِيمَةَ إِلَّا أَهْلُ الصَّبْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80] ، وَقَوْلِهِ: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] . الثَّالِثَ عَشَرَ: الْإِخْبَارُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ أَهْلُ الصَّبْرِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى: {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] ، وَقَوْلِهِ فِي أَهْلِ سَبَإٍ: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ: 19] . وَقَوْلِهِ: فِي سُورَةِ الشُّورَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى: 32] . الرَّابِعَ عَشَرَ: الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْفَوْزَ الْمَطْلُوبَ الْمَحْبُوبَ، وَالنَّجَاةَ مِنَ الْمَكْرُوهِ الْمَرْهُوبِ، وَدُخُولَ الْجَنَّةِ، إِنَّمَا نَالُوهُ بِالصَّبْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23] . الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّهُ يُورِثُ صَاحِبَهُ دَرَجَةَ الْإِمَامَةِ. سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ: بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ. ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] . السَّادِسَ عَشَرَ: اقْتِرَانُهُ بِمَقَامَاتِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، كَمَا قَرَنَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْيَقِينِ وَبِالْإِيمَانِ، وَالتَّقْوَى وَالتَّوَكُّلِ. وَبِالشُّكْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالرَّحْمَةِ. وَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا جَسَدَ لِمَنْ لَا رَأْسَ لَهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَيْرُ عَيْشٍ أَدْرَكْنَاهُ بِالصَّبْرِ. وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ ضِيَاءٌ. وَقَالَ: «مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ

اللَّهُ» . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ. إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ.» . «وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي كَانَتْ تُصْرَعُ فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا: إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ. فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ. فَدَعَا لَهَا» . وَأَمَرَ الْأَنْصَارَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بِأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى الْأَثَرَةِ الَّتِي يَلْقَوْنَهَا بَعْدَهُ، حَتَّى يَلْقَوْهُ عَلَى الْحَوْضِ. وَأَمَرَ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ بِالصَّبْرِ. وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ

فصل تعريف الصبر

عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى. وَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَابَ بِأَنْفَعِ الْأُمُورِ لَهُ، وَهُوَ الصَّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ. فَإِنَّ ذَلِكَ يُخَفِّفُ مُصِيبَتَهُ، وَيُوَفِّرُ أَجْرَهُ. وَالْجَزَعُ وَالتَّسَخُّطُ وَالتَّشَكِّي يَزِيدُ فِي الْمُصِيبَةِ، وَيُذْهِبُ الْأَجْرَ. وَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الصَّبْرَ خَيْرٌ كُلُّهُ، فَقَالَ: «مَا أُعْطِي أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا لَهُ وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ.» . [فَصْلٌ تَعْرِيفُ الصَّبْرِ] فَصْلٌ وَالصَّبْرُ فِي اللُّغَةِ: الْحَبْسُ وَالْكَفُّ. وَمِنْهُ: قُتِلَ فُلَانٌ صَبْرًا. إِذَا أُمْسِكَ وَحُبِسَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] ؛ أَيِ احْبِسْ نَفْسَكَ مَعَهُمْ. فَالصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الْجَزَعِ وَالتَّسَخُّطِ. وَحَبْسُ اللِّسَانِ عَنِ الشَّكْوَى. وَحَبْسُ الْجَوَارِحِ عَنِ التَّشْوِيشِ. وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: صَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَصَبْرٌ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَصَبْرٌ عَلَى امْتِحَانِ اللَّهِ.

فصل أنواع الصبر

فَالْأَوَّلَانِ: صَبْرٌ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَسْبِ. وَالثَّالِثُ: صَبْرٌ عَلَى مَا لَا كَسْبَ لِلْعَبْدِ فِيهِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ: كَانَ صَبْرُ يُوسُفَ عَنْ مُطَاوَعَةِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ عَلَى شَأْنِهَا: أَكْمَلُ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى إِلْقَاءِ إِخْوَتِهِ لَهُ فِي الْجُبِّ، وَبَيْعِهِ وَتَفْرِيقِهِمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ. فَإِنَّ هَذِهِ أُمُورٌ جَرَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، لَا كَسْبَ لَهُ فِيهَا، لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهَا حِيلَةٌ غَيْرَ الصَّبْرِ، وَأَمَّا صَبْرُهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ: فَصَبْرُ اخْتِيَارٍ وَرِضًا وَمُحَارَبَةٍ لِلنَّفْسِ. وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْوَى مَعَهَا دَوَاعِي الْمُوَافَقَةِ. فَإِنَّهُ كَانَ شَابًّا، وَدَاعِيَةُ الشَّبَابِ إِلَيْهَا قَوِيَّةٌ. وَعَزَبًا لَيْسَ لَهُ مَا يُعَوِّضُهُ وَيَرُدُّ شَهْوَتَهُ. وَغَرِيبًا، وَالْغَرِيبُ لَا يَسْتَحِي فِي بَلَدِ غُرْبَتِهِ مِمَّا يَسْتَحِي مِنْهُ مَنْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَمَعَارِفِهِ وَأَهْلِهِ. وَمَمْلُوكًا، وَالْمَمْلُوكُ أَيْضًا لَيْسَ وَازِعُهُ كَوَازِعِ الْحُرِّ. وَالْمَرْأَةُ جَمِيلَةٌ، وَذَاتُ مَنْصِبٍ. وَهِيَ سَيِّدَتُهُ. وَقَدْ غَابَ الرَّقِيبُ. وَهِيَ الدَّاعِيَةُ لَهُ إِلَى نَفْسِهَا. وَالْحَرِيصَةُ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْحِرْصِ، وَمَعَ ذَلِكَ تَوَعَّدَتْهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ بِالسِّجْنِ وَالصَّغَارِ. وَمَعَ هَذِهِ الدَّوَاعِي كُلِّهَا صَبَرَ اخْتِيَارًا، وَإِيثَارًا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ. وَأَيْنَ هَذَا مِنْ صَبْرِهِ فِي الْجُبِّ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ؟ وَكَانَ يَقُولُ: الصَّبْرُ عَلَى أَدَاءِ الطَّاعَاتِ: أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَفْضَلُ; فَإِنَّ مَصْلَحَةَ فِعْلِ الطَّاعَةِ أَحَبُّ إِلَى الشَّارِعِ مِنْ مَصْلَحَةِ تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ. وَمُفْسِدَةُ عَدَمِ الطَّاعَةِ: أَبْغَضُ إِلَيْهِ وَأَكْرَهُ مِنْ مَفْسَدَةِ وُجُودِ الْمَعْصِيَةِ. وَلَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ قَرَّرَهُ فِيهِ بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ وَجْهًا. لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا. وَالْمَقْصُودُ: الْكَلَامُ عَلَى الصَّبْرِ وَحَقِيقَتِهِ وَدَرَجَاتِهِ وَمَرْتَبَتِهِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ أَنْوَاعُ الصَّبْرِ] [الصَّبْرُ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَمَعَ اللَّهِ] فَصْلٌ أَنْوَاعُ الصَّبْرِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: صَبْرٌ بِاللَّهِ. وَصَبْرٌ لِلَّهِ. وَصَبْرٌ مَعَ اللَّهِ. فَالْأَوَّلُ: صَبْرُ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَرُؤْيَتُهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُصَبِّرُ، وَأَنَّ صَبْرَ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ لَا بِنَفْسِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] يَعْنِي إِنْ لَمْ يُصَبِّرْكَ هُوَ لَمْ تَصْبِرْ.

وَالثَّانِي: الصَّبْرُ لِلَّهِ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الصَّبْرِ مَحَبَّةَ اللَّهِ، وَإِرَادَةَ وَجْهِهِ. وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ. لَا لِإِظْهَارِهِ قُوَّةَ النَّفْسِ، وَالِاسْتِحْمَادَ إِلَى الْخَلْقِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْرَاضِ. وَالثَّالِثُ: الصَّبْرُ مَعَ اللَّهِ. وَهُوَ دَوَرَانُ الْعَبْدِ مَعَ مُرَادِ اللَّهِ الدِّينِيِّ مِنْهُ. وَمَعَ أَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ. صَابِرًا نَفْسَهُ مَعَهَا، سَائِرًا بِسَيْرِهَا. مُقِيمًا بِإِقَامَتِهَا. يَتَوَجَّهُ مَعَهَا أَيْنَ تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهَا. وَيَنْزِلُ مَعَهَا أَيْنَ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهَا. فَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ صَابِرًا مَعَ اللَّهِ؛ أَيْ قَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ وَقْفًا عَلَى أَوَامِرِهِ وَمَحَابِّهِ. وَهُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ وَأَصْعَبِهَا. وَهُوَ صَبْرُ الصِّدِّيقِينَ. قَالَ الْجُنَيْدُ: الْمَسِيرُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ سَهْلٌ هَيِّنٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ. وَهِجْرَانُ الْخَلْقِ فِي جَنْبِ اللَّهِ شَدِيدٌ، وَالْمَسِيرُ مِنَ النَّفْسِ إِلَى اللَّهِ صَعْبٌ شَدِيدٌ. وَالصَّبْرُ مَعَ اللَّهِ أَشَدُّ. وَسُئِلَ عَنِ الصَّبْرِ؟ فَقَالَ: تَجَرُّعُ الْمَرَارَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّسٍ. قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: الصَّبْرُ: التَّبَاعُدُ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ. وَالسُّكُونُ عِنْدَ تَجَرُّعِ غُصَصِ الْبَلِيَّةِ. وَإِظْهَارُ الْغِنَى مَعَ حُلُولِ الْفَقْرِ بِسَاحَاتِ الْمَعِيشَةِ. وَقِيلَ: الصَّبْرُ: الْوُقُوفُ مَعَ الْبَلَاءِ بِحُسْنِ الْأَدَبِ. وَقِيلَ: هُوَ الْفَنَاءُ فِي الْبَلْوَى، بِلَا ظُهُورٍ وَلَا شَكْوَى. وَقِيلَ: تَعْوِيدُ النَّفْسِ الْهُجُومَ عَلَى الْمَكَارِهِ. وَقِيلَ: الْمُقَامُ مَعَ الْبَلَاءِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ، كَالْمُقَامِ مَعَ الْعَافِيَةِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: هُوَ الثَّبَاتُ مَعَ اللَّهِ، وَتَلَقِّي بَلَائِهِ بِالرَّحْبِ وَالدَّعَةِ. وَقَالَ الْخَوَّاصُ: هُوَ الثَّبَاتُ عَلَى أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: صَبْرُ الْمُحِبِّينَ أَشَدُّ مِنْ صَبْرِ الزَّاهِدِينَ. وَاعَجَبًا! كَيْفَ يَصْبِرُونَ؟ وَأَنْشَدَ: وَالصَّبْرُ يَجْمُلُ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا ... إِلَّا عَلَيْكَ فَإِنَّهُ لَا يَجْمُلُ وَقِيلَ: الصَّبْرُ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ.

وَقِيلَ: هُوَ تَرْكُ الشَّكْوَى. وَقِيلَ: الصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ، مُرٌّ مَذَاقَتُهُ، ... لَكِنَّ عَوَاقِبَهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقِيلَ: الصَّبْرُ أَنْ تَرْضَى بِتَلَفِ نَفْسِكَ فِي رِضَا مَنْ تُحِبُّهُ. كَمَا قِيلَ: سَأَصْبِرُ كَيْ تَرْضَى وَأَتْلَفَ حَسْرَةً ... وَحَسَبِي أَنْ تَرْضَى وَيُتْلِفَنِي صَبْرِي وَقِيلَ: مَرَاتِبُ الصَّابِرِينَ خَمْسَةٌ: صَابِرٌ، وَمُصْطَبِرٌ، وَمُتَصَبِّرٌ، وَصَبُورٌ، وَصَبَّارٌ، فَالصَّابِرُ: أَعَمُّهَا، وَالْمُصْطَبِرُ: الْمُكْتَسِبُ الصَّبْرَ الْمَلِيءُ بِهِ. وَالْمُتَصَبِّرُ: الْمُتَكَلِّفُ حَامِلٌ نَفْسَهُ عَلَيْهِ. وَالصَّبُورُ: الْعَظِيمُ الصَّبْرِ الَّذِي صَبْرُهُ أَشَدُّ مِنْ صَبْرِ غَيْرِهِ. وَالصَّبَّارُ: الْكَثِيرُ الصَّبْرِ. فَهَذَا فِي الْقَدْرِ وَالْكَمِّ. وَالَّذِي قَبْلَهُ فِي الْوَصْفِ وَالْكَيْفِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصَّبْرُ مَطِيَّةٌ لَا تَكْبُو. وَقَفَ رَجُلٌ عَلَى الشِّبْلِيِّ. فَقَالَ: أَيُّ صَبْرٍ أَشَدُّ عَلَى الصَّابِرِينَ؟ فَقَالَ: الصَّبْرُ فِي اللَّهِ. قَالَ السَّائِلُ: لَا. فَقَالَ: الصَّبْرُ لِلَّهِ. فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: الصَّبْرُ مَعَ اللَّهِ. فَقَالَ: لَا. قَالَ الشِّبْلِيُّ: فَإِيشْ هُوَ؟ قَالَ: الصَّبْرُ عَنِ اللَّهِ. فَصَرَخَ الشِّبْلِيُّ صَرْخَةً كَادَتْ رُوحُهُ تَتْلَفَ. وَقَالَ الْجَرِيرِيُّ: الصَّبْرُ أَنْ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ حَالِ النِّعْمَةِ وَحَالِ الْمَحَبَّةِ، مَعَ سُكُونِ الْخَاطِرِ فِيهِمَا. وَالتَّصَبُّرُ: هُوَ السُّكُونُ مَعَ الْبَلَاءِ، مَعَ وِجْدَانِ أَثْقَالِ الْمِحْنَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: فَازَ الصَّابِرُونَ بِعِزِّ الدَّارَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ نَالُوا مِنَ اللَّهِ مَعِيَّتَهُ. فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] . إِنَّهُ انْتِقَالٌ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى. فَالصَّبْرُ دُونَ الْمُصَابَرَةِ. وَالْمُصَابَرَةُ دُونَ الْمُرَابَطَةِ وَالْمُرَابَطَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الرَّبْطِ وَهُوَ الشَّدُّ. وَسُمِّي الْمُرَابِطُ مُرَابِطًا لِأَنَّ الْمُرَابِطِينَ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ يَنْتَظِرُونَ الْفَزَعَ. ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ مُنْتَظِرٍ قَدْ رَبَطَ نَفْسَهُ لِطَاعَةٍ يَنْتَظِرُهَا: مُرَابِطٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» .

وَقَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . وَقِيلَ: اصْبِرُوا بِنُفُوسِكُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَصَابِرُوا بِقُلُوبِكُمْ عَلَى الْبَلْوَى فِي اللَّهِ. وَرَابِطُوا بِأَسْرَارِكُمْ عَلَى الشَّوْقِ إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: اصْبِرُوا فِي اللَّهِ. وَصَابِرُوا بِاللَّهِ. وَرَابِطُوا مَعَ اللَّهِ. وَقِيلَ: اصْبِرُوا عَلَى النَّعْمَاءِ. وَصَابِرُوا عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَرَابِطُوا فِي دَارِ الْأَعْدَاءِ. وَاتَّقَوْا إِلَهَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ. فَالصَّبْرُ مَعَ نَفْسِكَ، وَالْمُصَابَرَةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوِّكَ، وَالْمُرَابَطَةُ الثَّبَاتُ وَإِعْدَادُ الْعُدَّةِ. وَكَمَا أَنَّ الرِّبَاطَ لُزُومُ الثَّغْرِ لِئَلَّا يَهْجُمَ مِنْهُ الْعَدُوُّ. فَكَذَلِكَ الرِّبَاطُ أَيْضًا لُزُومُ ثَغْرِ الْقَلْبِ لِئَلَّا يَهْجُمَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ، فَيَمْلِكَهُ وَيُخَرِّبَهُ أَوْ يُشَعِّثَهُ. وَقِيلَ: تَجَرَّعِ الصَّبْرَ، فَإِنْ قَتَلَكَ قَتَلَكَ شَهِيدًا. وَإِنْ أَحْيَاكَ أَحْيَاكَ عَزِيزًا. وَقِيلَ: الصَّبْرُ لِلَّهِ غِنَاءٌ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى بَقَاءٌ. وَفِي اللَّهِ بَلَاءٌ. وَمَعَ اللَّهِ وَفَاءٌ. وَعَنِ اللَّهِ جَفَاءٌ. وَالصَّبْرُ عَلَى الطَّلَبِ عُنْوَانُ الظَّفَرِ. وَفِي الْمِحَنِ عُنْوَانُ الْفَرَجِ. وَقِيلَ: حَالُ الْعَبْدِ مَعَ اللَّهِ رِبَاطُهُ. وَمَا دُونَ اللَّهِ أَعْدَاؤُهُ. وَفِي كِتَابِ الْأَدَبِ لِلْبُخَارِيِّ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ؟ فَقَالَ: الصَّبْرُ، وَالسَّمَاحَةُ» . ذَكَرَهُ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فَذَكَرَهُ. وَهَذَا مِنْ أَجْمَعِ الْكَلَامِ وَأَعْظَمِهِ بُرْهَانًا، وَأَوْعَبِهِ لِمَقَامَاتِ الْإِيمَانِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا. فَإِنَّ النَّفْسَ يُرَادُ مِنْهَا شَيْئَانِ: بَذْلُ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَإِعْطَاؤُهُ. فَالْحَامِلُ عَلَيْهِ:

فصل الصبر أصعب المنازل على العامة

السَّمَاحَةُ. وَتَرْكُ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ، وَالْبُعْدُ مِنْهُ. فَالْحَامِلُ عَلَيْهِ: الصَّبْرُ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ، وَالصَّفْحِ الْجَمِيلِ، وَالْهَجْرِ الْجَمِيلِ. فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ: الصَّبْرُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا شَكْوَى فِيهِ وَلَا مَعَهُ. وَالصَّفْحُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا عِتَابَ مَعَهُ. وَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا أَذَى مَعَهُ. وَفِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ: أَنْزَلْتُ بِعَبْدِي بَلَائِي، فَدَعَانِي. فَمَاطَلْتُهُ بِالْإِجَابَةِ، فَشَكَانِي. فَقُلْتُ: عَبْدِي، كَيْفَ أَرْحَمُكَ مِنْ شَيْءٍ بِهِ أَرْحَمُكَ؟ . وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24] قَالَ: أَخَذُوا بِرَأْسِ الْأَمْرِ فَجَعَلَهُمْ رُؤَسَاءَ. وَقِيلَ: صَبْرُ الْعَابِدِينَ أَحْسَنُهُ: أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا، وَصَبْرُ الْمُحِبِّينَ أَحْسَنُهُ: أَنْ يَكُونَ مَرْفُوضًا. كَمَا قِيلَ: تَبَيَّنَ يَوْمَ الْبَيْنِ أَنَّ اعْتِزَامَهُ ... عَلَى الصَّبْرِ مِنْ إِحْدَى الظُّنُونِ الْكَوَاذِبِ وَالشَّكْوَى إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا تُنَافِي الصَّبْرَ. فَإِنَّ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَدَ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ. وَالنَّبِيُّ إِذَا وَعَدَ لَا يُخْلِفُ. ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] وَكَذَلِكَ أَيُّوبُ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَجَدَهُ صَابِرًا مَعَ قَوْلِهِ: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] . وَإِنَّمَا يُنَافِي الصَّبْرَ شَكْوَى اللَّهِ، لَا الشَّكْوَى إِلَى اللَّهِ. كَمَا رَأَى بَعْضُهُمْ رَجُلًا يَشْكُو إِلَى آخَرَ فَاقَةً وَضَرُورَةً. فَقَالَ: يَا هَذَا، تَشْكُو مَنْ يَرْحَمُكَ إِلَى مَنْ لَا يَرْحَمُكَ؟ ثُمَّ أَنْشَدَ: وَإِذَا عَرَتْكَ بَلِيَّةٌ فَاصْبِرْ لَهَا ... صَبْرَ الْكَرِيمِ فَإِنَّهُ بِكَ أَعْلَمُ وَإِذَا شَكَوْتَ إِلَى ابْنِ آدَمَ إِنَّمَا ... تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لَا يَرْحَمُ. [فَصْلٌ الصَّبْرُ أَصْعَبُ الْمَنَازِلِ عَلَى الْعَامَّةِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكْرُوهِ. وَعَقْلُ اللِّسَانِ عَنِ الشَّكْوَى. وَهُوَ مِنْ

أَصْعَبُ الْمَنَازِلِ عَلَى الْعَامَّةِ. وَأَوْحَشُهَا فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ. وَأَنْكَرُهَا فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ وَإِنَّمَا كَانَ صَعْبًا عَلَى الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ مُبْتَدِئٌ فِي الطَّرِيقِ. وَمَا لَهُ دُرْبَةٌ فِي السُّلُوكِ. وَلَا تَهْذِيبِ الْمُرْتَاضِ بِقَطْعِ الْمَنَازِلِ. فَإِذَا أَصَابَتْهُ الْمِحَنُ أَدْرَكَهُ الْجَزَعُ. وَصَعُبَ عَلَيْهِ احْتِمَالُ الْبَلَاءِ. وَعَزَّ عَلَيْهِ وُجْدَانُ الصَّبْرِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ. فَيَكُونَ مُسْتَوْطِنًا لِلصَّبْرِ. وَلَا مِنْ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ، فَيَلْتَذَّ بِالْبَلَاءِ فِي رِضَا مَحْبُوبِهِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ وَحْشَةً فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ: فَلِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْتِذَاذَ الْمُحِبِّ بِامْتِحَانِ مَحْبُوبِهِ لَهُ، وَالصَّبْرُ يَقْتَضِي كَرَاهِيَتَهُ لِذَلِكَ، وَحَبْسَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ كَرْهًا. فَهُوَ وَحْشَةٌ فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ. وَفِي الْوَحْشَةِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ؛ لِأَنَّ الِالْتِذَاذَ بِالْمِحْنَةِ فِي الْمَحَبَّةِ هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِ أُنْسِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ. فَإِذَا أَحَسَّ بِالْأَلَمِ - بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ - انْتَقَلَ مِنَ الْأُنْسِ إِلَى الْوَحْشَةِ. وَلَوْلَا الْوَحْشَةُ لَمَا أَحَسَّ بِالْأَلَمِ الْمُسْتَدْعِي لِلصَّبْرِ. وَإِنَّمَا كَانَ أَنْكَرَهَا فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ لِأَنَّ فِيهِ قُوَّةَ الدَّعْوَى. لِأَنَّ الصَّابِرَ يَدَّعِي بِحَالِهِ قُوَّةَ الثَّبَاتِ. وَذَلِكَ ادِّعَاءٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ قُوَّةً عَظِيمَةً. وَهَذَا مُصَادَمَةٌ لِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ. إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ قُوَّةٌ أَلْبَتَّةَ. بَلْ لِلَّهِ الْقُوَّةُ جَمِيعًا. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. فَهَذَا سَبَبُ كَوْنِ الصَّبْرِ مُنْكَرًا فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ. بَلْ مِنْ أَنْكَرِ الْمُنْكَرِ - كَمَا قَالَ - لِأَنَّ التَّوْحِيدَ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى اللَّهِ، وَالصَّبْرَ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى النَّفْسِ. وَإِثْبَاتُ النَّفْسِ فِي التَّوْحِيدِ مُنْكَرٌ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ مُحَرَّرًا مُقَرَّرًا. وَهُوَ مِنْ مُنْكَرِ كَلَامِهِ. بَلِ الصَّبْرُ مِنْ آكَدِ الْمَنَازِلِ فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ، وَأَلْزَمِهَا لِلْمُحِبِّينَ. وَهُمْ أَحْوَجُ إِلَى مَنْزِلَتِهِ مِنْ كُلِّ مَنْزِلَةٍ. وَهُوَ مِنْ أَعْرَفِ الْمَنَازِلِ فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ وَأَبْيَنِهَا. وَحَاجَةُ الْمُحِبِّ إِلَيْهِ ضَرُورِيَّةٌ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ حَاجَةُ الْمُحِبِّ إِلَيْهِ ضَرُورِيَّةً، مَعَ مُنَافَاتِهِ لِكَمَالِ الْمَحَبَّةِ. فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ مُنَازَعَاتِ النَّفْسِ لِمُرَادِ الْمَحْبُوبِ؟ قِيلَ: هَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا كَانَ مِنْ آكَدِ الْمَنَازِلِ فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ وَأَعْلَقِهَا بِهَا. وَبِهِ يُعْلَمُ صَحِيحُ الْمَحَبَّةِ مِنْ مَعْلُولِهَا، وَصَادِقُهَا مِنْ كَاذِبِهَا. فَإِنَّ بِقُوَّةِ الصَّبْرِ عَلَى

الْمَكَارِهِ فِي مُرَادِ الْمَحْبُوبِ يُعْلَمُ صِحَّةُ مَحَبَّتِهِ. وَمِنْ هَاهُنَا كَانَتْ مَحَبَّةُ أَكْثَرِ النَّاسِ كَاذِبَةً. لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمُ ادَّعَوْا مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى. فَحِينَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَكَارِهِ انْخَلَعُوا عَنْ حَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ. وَلَمْ يَثْبُتْ مَعَهُ إِلَّا الصَّابِرُونَ. فَلَوْلَا تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ، وَتَجَشُّمُ الْمَكَّارِهِ بِالصَّبْرِ لَمَا ثَبَتَتْ صِحَّةُ مَحَبَّتِهِمْ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ أَعْظَمَهُمْ مَحَبَّةً أَشَدُّهُمْ صَبْرًا. وَلِهَذَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ خَاصَّةَ أَوْلِيَائِهِ وَأَحْبَابِهِ. فَقَالَ عَنْ حَبِيبِهِ أَيُّوبَ {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ. فَقَالَ: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] . وَأَمَرَ أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ بِالصَّبْرِ لِحُكْمِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ صَبْرَهُ بِهِ. وَأَثْنَى عَلَى الصَّابِرِينَ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ. وَضَمِنَ لَهُمْ أَعْظَمَ الْجَزَاءِ. وَجَعَلَ أَجْرَ غَيْرِهِمْ مَحْسُوبًا، وَأَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَقَرَنَ الصَّبْرَ بِمَقَامَاتِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْإِحْسَانِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَجَعَلَهُ قَرِينَ الْيَقِينِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالتَّقْوَى. وَأَخْبَرَ أَنَّ آيَاتِهِ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا أُولُو الصَّبْرِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّبْرَ خَيْرٌ لِأَهْلِهِ. وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ فِي الْجَنَّةِ بِصَبْرِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ فِي اسْتِكْرَاهِ النُّفُوسِ لِأَلَمِ مَا تَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَإِحْسَاسِهَا بِهِ، مَا يَقْدَحُ فِي مَحَبَّتِهَا وَلَا تَوْحِيدِهَا. فَإِنَّ إِحْسَاسَهَا بِالْأَلَمِ، وَنَفْرَتَهَا مِنْهُ: أَمْرٌ طَبْعِيٌّ لَهَا. كَاقْتِضَائِهَا لِلْغِذَاءِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَتَأَلُّمِهَا بِفَقْدِهِ. فَلَوَازِمُ النَّفْسِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِعْدَامِهَا أَوْ تَعْطِيلِهَا بِالْكُلِّيَّةِ. وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ نَفْسًا إِنْسَانِيَّةً. وَلَارْتَفَعَتِ الْمِحْنَةُ. وَكَانَتْ عَالَمًا آخَرَ. وَالصَّبْرُ وَالْمَحَبَّةُ لَا يَتَنَاقَضَانِ. بَلْ يَتَوَاخَيَانِ وَيَتَصَاحَبَانِ. وَالْمُحِبُّ صَبُورٌ بَلْ عِلَّةُ الصَّبْرِ فِي الْحَقِيقَةِ، الْمُنَاقِضَةُ لِلْمَحَبَّةِ، الْمُزَاحِمَةُ لِلتَّوْحِيدِ - أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ غَيْرَ إِرَادَةِ رِضَا الْمَحْبُوبِ. بَلْ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، أَوْ مُزَاحَمَتِهِ بِإِرَادَةِ غَيْرِهِ، أَوِ الْمُرَادِ مِنْهُ. لَا مُرَادِهِ. هَذِهِ هِيَ وَحْشَةُ الصَّبْرِ وَنَكَارَتُهُ. وَأَمَّا مَنْ رَأَى صَبْرَهُ بِاللَّهِ، وَصَبْرَهُ لِلَّهِ، وَصَبَرَ مَعَ اللَّهِ، مُشَاهِدًا أَنَّ صَبْرَهُ بِهِ تَعَالَى لَا بِنَفْسِهِ. فَهَذَا لَا تَلْحَقُ مَحَبَّتَهُ وَحْشَةٌ. وَلَا تَوْحِيدَهُ نَكَارَةٌ. ثُمَّ لَوِ اسْتَقَامَ لَهُ هَذَا لَكَانَ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ. وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى الْمَكَارِهِ. فَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَاتِ - وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهَا - وَعَنِ الْمُخَالَفَاتِ - وَهُوَ مَنْعُ

فصل درجات الصبر

النَّفْسِ مِنْهَا طَوْعًا وَاخْتِيارًا وَالْتِذَاذًا - فَأَيُّ وَحْشَةٍ فِي هَذَا؟ وَأَيُّ نَكَارَةٍ فِيهِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ طَوْعًا وَمَحَبَّةً، وَرِضًا وَإِيثَارًا: لَمْ يَكُنِ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الصَّبْرَ. فَيَكُونُ صَبْرُهُ فِي هَذَا الْحَالِ مَلْزُومَ الْوَحْشَةِ وَالنَّكَارَةِ. لِمُنَافَاتِهَا لِحَالِ الْمُحِبِّ. قِيلَ: لَا مُنَافَاةَ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ. فَإِنَّ صَبْرَهُ حِينَئِذٍ قَدِ انْدَرَجَ فِي رِضَاهُ. وَانْطَوَى فِيهِ. وَصَارَ الْحُكْمُ لِلرِّضَا. لَا أَنَّ الصَّبْرَ عَدَمٌ، بَلْ لِقُوَّةِ وَارِدِ الرِّضَا وَالْحُبِّ. وَإِيثَارِ مُرَادِ الْمَحْبُوبِ، صَارَ الْمَشْهَدُ وَالْمَنْزَلُ لِلرِّضَا بِحُكْمِ الْحَالِ. وَالصَّبْرُ جُزْءٌ مِنْهُ وَمُنْطَوٍ فِيهِ. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذَا الْقَدْرَ. فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ، فَحَبَّذَا الْوِفَاقُ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْقِيلَ وَالْقَالَ. وَمُنَازَعَاتِ الْجِدَالِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ: فَقَدْ عَرَفَ مَا فِيهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الصَّبْرِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى الصَّبْرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ] فَصْلٌ قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الصَّبْرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، بِمُطَالَعَةِ الْوَعِيدِ: إِبْقَاءً عَلَى الْإِيمَانِ، وَحَذَرًا مِنَ الْحَرَامِ، وَأَحْسَنُ مِنْهَا: الصَّبْرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ حَيَاءً. ذَكَرَ لِلصَّبْرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ سَبَبَيْنِ وَفَائِدَتَيْنِ. أَمَّا السَّبَبَانِ: فَالْخَوْفُ مِنْ لُحُوقِ الْوَعِيدِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي الْحَيَاءُ مِنَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى مَعَاصِيهِ بِنِعَمِهِ، وَأَنْ يُبَارَزَ بِالْعَظَائِمِ. وَأَمَّا الْفَائِدَتَانِ: فَالْإِبْقَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْحَذَرُ مِنَ الْحَرَامِ. فَأَمَّا مُطَالَعَةُ الْوَعِيدِ، وَالْخَوْفُ مِنْهُ: فَيَبْعَثُ عَلَيْهِ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بِالْخَبَرِ، وَالتَّصْدِيقُ بِمَضْمُونِهِ. وَأَمَّا الْحَيَاءُ: فَيَبْعَثُ عَلَيْهِ قُوَّةُ الْمَعْرِفَةِ، وَمُشَاهَدَةُ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ وَازِعُ الْحُبِّ. فَيَتْرُكُ مَعْصِيَتَهُ مَحَبَّةً لَهُ، كَحَالِ الصُّهَيْبِيِّينَ.

وَأَمَّا الْفَائِدَتَانِ: فَالْإِبْقَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ: يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ. لِأَنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تُنْقِصَهُ، أَوْ تَذْهَبَ بِهِ، أَوْ تُذْهِبَ رَوْنَقَهُ، وَبَهْجَتَهُ، أَوْ تُطْفِئَ نُورَهُ، أَوْ تُضْعِفَ قُوَّتَهُ، أَوْ تُنْقِصَ ثَمَرَتَهُ. هَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ يُعْلَمُ بِالْوُجُودِ وَالْخَبَرِ وَالْعَقْلِ، كَمَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ - يَرْفَعُ إِلَيْهِ النَّاسُ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا - وَهُوَ مُؤْمِنٌ. فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ. وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ» . وَأَمَّا الْحَذَرُ عَنِ الْحَرَامِ: فَهُوَ الصَّبْرُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحِ، حَذَرًا مِنْ أَنْ يَسُوقَهُ إِلَى الْحَرَامِ. وَلَمَّا كَانَ الْحَيَاءُ مِنْ شِيَمِ الْأَشْرَافِ، وَأَهْلِ الْكَرَمِ وَالنُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ كَانَ صَاحِبُهُ أَحْسَنَ حَالًا مِنْ أَهْلِ الْخَوْفِ. وَلِأَنَّ فِي الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَاقَبَتِهِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ مَعَهُ. وَلِأَنَّ فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ مَا لَيْسَ فِي وَازِعِ الْخَوْفِ. فَمَنْ وَازِعُهُ الْخَوْفُ: قَلْبُهُ حَاضِرٌ مَعَ الْعُقُوبَةِ. وَمَنْ وَازِعُهُ الْحَيَاءُ: قَلْبُهُ حَاضِرٌ مَعَ اللَّهِ. وَالْخَائِفُ مُرَاعٍ جَانِبَ نَفْسِهِ وَحِمَايَتَهَا. وَالْمُسْتَحِي مُرَاعٍ جَانِبَ رَبِّهِ وَمُلَاحِظٌ عَظَمَتَهُ.

الدرجة الثانية الصبر على الطاعة

وَكِلَا الْمَقَامَيْنِ مِنْ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. غَيْرَ أَنَّ الْحَيَاءَ أَقْرَبُ إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ، وَأَلْصَقُ بِهِ، إِذْ أَنْزَلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ مَنْ كَأَنَّهُ يَرَى اللَّهَ. فَنَبَعَتْ يَنَابِيعُ الْحَيَاءِ مِنْ عَيْنِ قَلْبِهِ وَتَفَجَّرَتْ عُيُونُهَا. [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَةِ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَةِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا دَوَامًا، وَبِرِعَايَتِهَا إِخْلَاصًا. وَبِتَحْسِينِهَا عِلْمًا. هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ: أَنَّ فِعْلَ الطَّاعَةِ آكَدُ مِنْ تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ. فَيَكُونُ الصَّبْرُ عَلَيْهَا فَوْقَ الصَّبْرِ عَنْ تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ فِي الدَّرَجَةِ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَإِنَّ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ إِنَّمَا كَانَ لِتَكْمِيلِ الطَّاعَةِ. وَالنَّهْيُ مَقْصُودٌ لِلْأَمْرِ. فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَمَّا كَانَ يُضْعِفُ الْمَأْمُورَ بِهِ وَيُنْقِصُهُ: نَهَى عَنْهُ حِمَايَةً، وَصِيَانَةً لِجَانِبِ الْأَمْرِ، فَجَانِبُ الْأَمْرِ أَقْوَى وَآكَدُ. وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصِّحَّةِ وَالْحَيَاةِ. وَالنَّهْيُ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْيَةِ الَّتِي تُرَادُ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ وَأَسْبَابِ الْحَيَاةِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ: أَنَّ الصَّبْرَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: دَوَامُ الطَّاعَةِ. وَالْإِخْلَاصُ فِيهَا. وَوُقُوعُهَا عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ. وَهُوَ تَحْسِينُهَا عِلْمًا. فَإِنَّ الطَّاعَةَ تَتَخَلَّفُ مِنْ فَوَاتِ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا دَوَامًا عَطَّلَهَا، وَإِنْ حَافَظَ فِيهَا دَوَامًا عَرَضَ لَهَا آفَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: تَرْكُ الْإِخْلَاصِ فِيهَا. بِأَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ، وَإِرَادَتِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ. فَحِفْظُهَا مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ: بِرِعَايَةِ الْإِخْلَاصِ. الثَّانِيَةُ: أَلَّا تَكُونَ مُطَابِقَةً لِلْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا تَكُونُ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ. فَحِفْظُهَا مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ بِتَجْرِيدِ الْمُتَابَعَةِ. كَمَا أَنَّ حِفْظَهَا مِنْ تِلْكَ الْآفَةِ بِتَجْرِيدِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ. فَلِذَلِكَ قَالَ: بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا دَوَامًا، وَرِعَايَتِهَا إِخْلَاصًا، وَتَحْسِينِهَا عِلْمًا. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الصَّبْرُ فِي الْبَلَاءِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الصَّبْرُ فِي الْبَلَاءِ، بِمُلَاحَظَةِ حُسْنِ الْجَزَاءِ، وَانْتِظَارِ رُوحِ الْفَرَجِ. وَتَهْوَيْنِ الْبَلِيَّةِ بَعْدَ أَيَادِي الْمِنَنِ. وَبِذِكْرِ سَوَالِفِ النِّعَمِ.

هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ تَبْعَثُ الْمُتَلَبِّسَ بِهَا عَلَى الصَّبْرِ فِي الْبَلَاءِ. إِحْدَاهَا: مُلَاحَظَةُ حُسْنِ الْجَزَاءِ. وَعَلَى حَسَبِ مُلَاحَظَتِهِ وَالْوُثُوقِ بِهِ وَمُطَالَعَتِهِ يُخَفَّفُ حِمْلُ الْبَلَاءِ، لِشُهُودِ الْعِوَضِ، وَهَذَا كَمَا يَخِفُّ عَلَى كُلِّ مُتَحَمِّلٍ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ حَمْلُهَا، لِمَا يُلَاحِظُهُ مِنْ لَذَّةِ عَاقِبَتِهَا وَظَفَرِهِ بِهَا. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَا أَقْدَمَ أَحَدٌ عَلَى تَحَمُّلِ مَشَقَّةٍ عَاجِلَةٍ إِلَّا لِثَمَرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، فَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ الْعَاجِلِ. وَإِنَّمَا خَاصَّةُ الْعَقْلِ: تَلَمُّحُ الْعَوَاقِبِ، وَمُطَالَعَةُ الْغَايَاتِ. وَأَجْمَعَ عُقَلَاءُ كُلِّ أُمَّةٍ عَلَى أَنَّ النَّعِيمَ لَا يُدْرَكُ بِالنَّعِيمِ. وَأَنَّ مَنْ رَافَقَ الرَّاحَةَ فَارَقَ الرَّاحَةَ. وَحَصَلَ عَلَى الْمَشَقَّةِ وَقْتَ الرَّاحَةِ فِي دَارِ الرَّاحَةِ، فَإِنَّ قَدْرَ التَّعَبِ تَكُونُ الرَّاحَةُ. عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ ... وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكَرِيمِ الْكَرَائِمُ وَيَكْبُرُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صَغِيرُهَا ... وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ وَالْقَصْدُ: أَنَّ مُلَاحَظَةَ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ تُعِينُ عَلَى الصَّبْرِ فِيمَا تَتَحَمَّلُهُ بِاخْتِيَارِكَ وَغَيْرِ اخْتِيَارِكَ. وَالثَّانِي انْتِظَارُ رُوحِ الْفَرَجِ يَعْنِي رَاحَتَهُ وَنَسِيمَهُ وَلَذَّتَهُ. فَإِنَّ انْتِظَارَهُ وَمُطَالَعَتَهُ وَتَرَقُّبَهُ يُخَفِّفُ حَمْلَ الْمَشَقَّةِ. وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ قُوَّةِ الرَّجَاءِ. أَوِ الْقَطْعِ بِالْفَرَجِ. فَإِنَّهُ يَجِدُ فِي حَشْوِ الْبَلَاءِ مِنْ رُوحِ الْفَرَجِ وَنَسِيمِهِ وَرَاحَتِهِ: مَا هُوَ مِنْ خَفِيِّ الْأَلْطَافِ، وَمَا هُوَ فَرَجٌ مُعَجَّلٌ. وَبِهِ - وَبِغَيْرِهِ - يُفْهَمُ مَعْنَى اسْمِهِ اللَّطِيفِ. وَالثَّالِثُ: تَهْوَيْنُ الْبَلِيَّةِ بِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعُدَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَيَادِيهِ عِنْدَهُ. فَإِذَا عَجَزَ عَنْ عَدِّهَا، وَأَيِسَ مِنْ حَصْرِهَا، هَانَ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَرَآهُ - بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَيَادِي اللَّهِ وَنِعَمِهِ - كَقَطْرَةٍ مِنْ بَحْرٍ. الثَّانِي: تَذَكُّرُ سَوَالِفِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ. فَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي. وَتِعْدَادُ أَيَادِي الْمِنَنِ: يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَأَحَدُهُمَا فِي الدُّنْيَا. وَالثَّانِي يَوْمَ الْجَزَاءِ.

فصل صبر العامة

وَيُحْكَى عَنِ امْرَأَةٍ مِنَ الْعَابِدَاتِ أَنَّهَا عَثَرَتْ. فَانْقَطَعَتْ إِصْبَعُهَا. فَضَحِكَتْ. فَقَالَ لَهَا بَعْضُ مَنْ مَعَهَا: أَتَضْحَكِينَ، وَقَدِ انْقَطَعَتْ إِصْبَعُكِ؟ فَقَالَتْ: أُخَاطِبُكَ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ. حَلَاوَةُ أَجْرِهَا أَنْسَتْنِي مَرَارَةَ ذِكْرِهَا. إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَقْلَهُ لَا يَحْتَمِلُ مَا فَوْقَ هَذَا الْمَقَامِ. مِنْ مُلَاحَظَةِ الْمُبْتَلِي. وَمُشَاهَدَةِ حُسْنِ اخْتِيَارِهِ لَهَا فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ، وَتَلَذُّذِهَا بِالشُّكْرِ لَهُ، وَالرِّضَا عَنْهُ، وَمُقَابَلَةِ مَا جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ. كَمَا قِيلَ: لَئِنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتَنِي بِمُسَاءَةٍ ... فَقَدْ سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكَا [فَصْلٌ صَبْرُ الْعَامَّةِ] فَصْلٌ قَالَ وَأَضْعَفُ الصَّبْرِ: الصَّبْرُ لِلَّهِ. وَهُوَ صَبْرُ الْعَامَّةِ. وَفَوْقَهُ: الصَّبْرُ بِاللَّهِ. وَهُوَ صَبْرُ الْمُرِيدِينَ. وَفَوْقَهُ: الصَّبْرُ عَلَى اللَّهِ. وَهُوَ صَبْرُ السَّالِكِينَ. مَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّ صَبْرَ الْعَامَّةِ لِلَّهِ. أَيْ رَجَاءَ ثَوَابِهِ، وَخَوْفَ عِقَابِهِ. وَصَبْرُ الْمُرِيدِينَ بِاللَّهِ. أَيْ بِقُوَّةِ اللَّهِ وَمَعُونَتِهِ. فَهُمْ لَا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ صَبْرًا، وَلَا قُوَّةَ لَهُمْ عَلَيْهِ. بَلْ حَالُهُمُ التَّحَقُّقُ بِ " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَحَالًا. وَفَوْقَهُمَا: الصَّبْرُ عَلَى اللَّهِ. أَيْ عَلَى أَحْكَامِهِ. إِذْ صَاحِبُهُ يَشْهَدُ الْمُتَصَرِّفَ فِيهِ. فَهُوَ يَصْبِرُ عَلَى أَحْكَامِهِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِ، جَالِبَةً عَلَيْهِ مَا جَلَبَتْ مِنْ مَحْبُوبٍ وَمَكْرُوهٍ. فَهَذِهِ دَرَجَةُ صَبْرِ السَّالِكِينَ. وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عِنْدَهُ مِنَ الْعَوَامِّ. إِذْ هُوَ فِي مَقَامِ الصَّبْرِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ لِلْعَامَّةِ وَأَنَّهُ مِنْ أَضْعَفِ مَنَازِلِهِمْ. هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِهِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ الصَّبْرَ لِلَّهِ فَوْقَ الصَّبْرِ بِاللَّهِ، وَأَعْلَى دَرَجَةٍ مِنْهُ وَأَجَلُّ. فَإِنَّ الصَّبْرَ لِلَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِإِلَهِيَّتِهِ. وَالصَّبْرُ بِهِ: مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ. وَمَا تَعَلَّقَ بِإِلَهِيَّتِهِ أَكْمَلُ وَأَعْلَى مِمَّا تَعَلَّقَ بِرُبُوبِيَّتِهِ. وَلِأَنَّ الصَّبْرَ لَهُ: عِبَادَةٌ. وَالصَّبْرَ بِهِ اسْتِعَانَةٌ. وَالْعِبَادَةُ غَايَةٌ. وَالِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ. وَالْغَايَةُ مُرَادَةٌ لِنَفْسِهَا، وَالْوَسِيلَةُ مُرَادَةٌ لِغَيْرِهَا.

وَلِأَنَّ الصَّبْرَ بِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ. فَكُلُّ مَنْ شَهِدَ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ صَبَرَ بِهِ. وَأَمَّا الصَّبْرُ لَهُ: فَمَنْزِلَةُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّدِّيقِينَ، وَأَصْحَابِ مَشْهَدِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وَلِأَنَّ الصَّبْرَ لَهُ: صَبْرٌ فِيمَا هُوَ حَقُّ لَهُ، مَحْبُوبٌ لَهُ مَرْضِيٌّ لَهُ. وَالصَّبْرُ بِهِ: قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا هُوَ مَسْخُوطٌ لَهُ. وَقَدْ يَكُونُ فِي مَكْرُوهٍ أَوْ مُبَاحٍ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الصَّبْرِ عَلَى أَحْكَامِهِ صَبْرًا عَلَيْهِ. فَلَا مُشَاحَّةَ فِي الْعِبَارَةِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَعْنَى. فَهَذَا هُوَ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِهِ. وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّيْخُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ بِمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَالصَّبْرَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ: أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَقْدَارِهِ - كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَبْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّ الصَّبْرَ فِيهَا صَبْرُ اخْتِيَارٍ وَإِيثَارٍ وَمَحَبَّةٍ. وَالصَّبْرُ عَلَى أَحْكَامِهِ الْكَوْنِيَّةِ: صَبْرُ ضَرُورَةٍ. وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْبَوْنِ مَا قَدْ عَرَفْتَ. وَكَذَلِكَ كَانَ صَبْرُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عَلَى مَا نَالَهُمْ فِي اللَّهِ بِاخْتِيَارِهِمْ وَفِعْلِهِمْ، وَمُقَاوَمَتِهِمْ قَوْمَهُمْ: أَكْمَلُ مِنْ صَبْرِ أَيُّوبَ عَلَى مَا نَالَهُ فِي اللَّهِ مِنِ ابْتِلَائِهِ وَامْتِحَانِهِ بِمَا لَيْسَ مُسَبَّبًا عَنْ فِعْلِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ صَبْرُ إِسْمَاعِيلَ الذَّبِيحِ. وَصَبْرُ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى تَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ أَكْمَلَ مِنْ صَبْرِ يَعْقُوبَ عَلَى فَقْدِ يُوسُفَ. فَعَلِمْتَ بِهَذَا أَنَّ الصَّبْرَ لِلَّهِ أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ بِاللَّهِ. وَالصَّبْرَ عَلَى طَاعَتِهِ وَالصَّبْرَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى قَضَائِهِ وَقَدْرِهِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. فَإِنْ قُلْتَ: الصَّبْرُ بِاللَّهِ أَقْوَى مِنَ الصَّبْرِ لِلَّهِ. فَإِنَّ مَا كَانَ بِاللَّهِ كَانَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. وَمَا كَانَ بِهِ لَمْ يُقَاوِمْهُ شَيْءٌ. وَلَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ. وَهُوَ صَبْرُ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ وَالتَّأْثِيرِ. وَالصَّبْرُ لِلَّهِ صَبْرُ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ. وَلِهَذَا هُمْ - مَعَ إِخْلَاصِهِمْ وَزُهْدِهِمْ وَصَبْرِهِمْ لِلَّهِ - أَضْعَفُ مِنَ الصَّابِرِينَ بِهِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَأَضْعَفُ الصَّبْرِ: الصَّبْرُ لِلَّهِ. قِيلَ: الْمَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ. إِحْدَاهَا: مَرْتَبَةُ الْكَمَالِ. وَهِيَ مَرْتَبَةُ أُولِي الْعَزَائِمِ. وَهِيَ الصَّبْرُ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ. فَيَكُونُ

فصل منزلة الرضا

فِي صَبْرِهِ مُبْتَغِيًا وَجْهَ اللَّهِ، صَابِرًا بِهِ، مُتَبَرِّئًا مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. فَهَذَا أَقْوَى الْمَرَاتِبِ وَأَرْفَعُهَا وَأَفْضَلُهَا. الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا. فَهُوَ أَخَسُّ الْمَرَاتِبِ، وَأَرْدَأُ الْخَلْقِ. وَهُوَ جَدِيرٌ بِكُلِّ خُذْلَانٍ، وَبِكُلِّ حِرْمَانٍ. الثَّالِثَةُ: مَرْتَبَةُ مَنْ فِيهِ صَبْرٌ بِاللَّهِ. وَهُوَ مُسْتَعِينٌ مُتَوَكِّلٌ عَلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. مُتَبَرِّئٌ مِنْ حَوْلِهِ هُوَ وَقُوَّتِهِ. وَلَكِنَّ صَبْرَهُ لَيْسَ لِلَّهِ، إِذْ لَيْسَ صَبْرُهُ فِيمَا هُوَ مُرَادُ اللَّهِ الدِّينِيُّ مِنْهُ. فَهَذَا يَنَالُ مَطْلُوبَهُ، وَيَظْفَرُ بِهِ. وَلَكِنْ لَا عَاقِبَةَ لَهُ. وَرُبَّمَا كَانَتْ عَاقِبَتُهُ شَرَّ الْعَوَاقِبِ. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ خُفَرَاءُ الْكُفَّارِ وَأَرْبَابُ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ. فَإِنَّ صَبْرَهُمْ بِاللَّهِ لَا لِلَّهِ، وَلَا فِي اللَّهِ. وَلَهُمْ مِنَ الْكَشْفِ وَالتَّأْثِيرِ بِحَسَبِ قُوَّةِ أَحْوَالِهِمْ. وَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْمُلُوكِ الظَّلَمَةِ. فَإِنَّ الْحَالَ كَالْمُلْكِ يُعْطَاهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْمُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ. الرَّابِعُ: مَنْ فِيهِ صَبْرٌ لِلَّهِ، لَكِنَّهُ ضَعِيفُ النَّصِيبِ مِنَ الصَّبْرِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالثِّقَةِ بِهِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ. فَهَذَا لَهُ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ، وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ عَاجِزٌ، مَخْذُولٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَطَالِبِهِ. لِضَعْفِ نَصِيبِهِ مِنْ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَنَصِيبُهُ مِنَ اللَّهِ: أَقْوَى مِنْ نَصِيبِهِ بِاللَّهِ. فَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفِ. وَصَابِرٌ بِاللَّهِ، لَا لِلَّهِ: حَالُ الْفَاجِرِ الْقَوِيِّ. وَصَابِرٌ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ: حَالُ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيِّ. وَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفِ. فَصَابِرٌ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ عَزِيزٌ حَمِيدٌ. وَمَنْ لَيْسَ لِلَّهِ وَلَا بِاللَّهِ مَذْمُومٌ مَخْذُولٌ. وَمَنْ هُوَ بِاللَّهِ لَا لِلَّهِ قَادِرٌ مَذْمُومٌ. وَمَنْ هُوَ لِلَّهِ لَا بِاللَّهِ عَاجِزٌ مَحْمُودٌ. فَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَيُتَبَيَّنُ فِيهِ الْخَطَأُ مِنَ الصَّوَابِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلُ مَنْزِلَةِ الرِّضَا] [حَقِيقَةُ الرِّضَا] فَصْلُ مَنْزِلَةِ الرِّضَا وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الرِّضَا وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبُّ، مُؤَكَّدٌ اسْتِحْبَابُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ.

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَحْكِيهِمَا عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى الْقَوْلِ بِاسْتِحْبَابِهِ. قَالَ: وَلَمْ يَجِئِ الْأَمْرُ بِهِ، كَمَا جَاءَ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ. وَإِنَّمَا جَاءَ الثَّنَاءُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَمَدْحِهِمْ. قَالَ: وَأَمَّا مَا يُرْوَى مِنَ الْأَثَرِ: مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي، وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي، فَلْيَتَّخِذْ رَبًّا سِوَائِي. فَهَذَا أَثَرٌ إِسْرَائِيلِيٌّ، لَيْسَ يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُكْتَسَبَةٍ، بَلْ هُوَ مَوْهِبَةٌ مَحْضَةٌ. فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ. وَلَيْسَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ؟ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَرْبَابُ السُّلُوكِ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ فَالْخُرَاسَانِيُّونَ قَالُوا: الرِّضَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ. وَهُوَ نِهَايَةُ التَّوَكُّلِ. فَعَلَى هَذَا: يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَيْهِ الْعَبْدُ بِاكْتِسَابِهِ. وَالْعِرَاقِيُّونَ قَالُوا: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ. وَلَيْسَ كَسْبِيًّا لِلْعَبْدِ، بَلْ هُوَ نَازِلَةٌ تَحِلُّ بِالْقَلْبِ كَسَائِرِ الْأَحْوَالِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ: أَنَّ الْمَقَامَاتِ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَكَاسِبِ. وَالْأَحْوَالُ مُجَرَّدُ الْمَوَاهِبِ. وَحَكَمَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ. مِنْهُمُ الْقُشَيْرِيُّ - صَاحِبُ الرِّسَالَةِ - وَغَيْرُهُ، فَقَالُوا: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، بِأَنْ يُقَالَ: بِدَايَةُ الرِّضَا مُكْتَسَبَةٌ لِلْعَبْدِ. وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ. وَنِهَايَتُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ. وَلَيْسَتْ مُكْتَسَبَةً. فَأَوَّلُهُ مَقَامٌ، وَنِهَايَتُهُ حَالٌ. وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ: بِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَ أَهْلَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَنَدَبَهُمْ إِلَيْهِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَقْدُورٌ لَهُمْ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» .

وَقَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ» . وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَإِلَيْهِمَا يَنْتَهِي. وَقَدْ تَضَمَّنَا الرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَأُلُوهِيَّتِهِ. وَالرِّضَا بِرَسُولِهِ، وَالِانْقِيَادَ لَهُ. وَالرِّضَا بِدِينِهِ، وَالتَّسْلِيمَ لَهُ، وَمَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ: فَهُوَ الصِّدِّيقُ حَقًّا. وَهِيَ سَهْلَةٌ بِالدَّعْوَى وَاللِّسَانِ. وَهِيَ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ وَالِامْتِحَانِ. وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَاءَ مَا يُخَالِفُ هَوَى النَّفْسِ وَمُرَادَهَا. مِنْ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ الرِّضَا كَانَ لِسَانُهُ بِهِ نَاطِقًا. فَهُوَ عَلَى لِسَانِهِ لَا عَلَى حَالِهِ. فَالرِّضَا بِإِلَهِيَّتِهِ يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِمَحَبَّتِهِ وَحْدَهُ، وَخَوْفَهُ، وَرَجَائَهُ، وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ، وَالتَّبَتُّلَ إِلَيْهِ، وَانْجِذَابَ قُوَى الْإِرَادَةِ وَالْحُبِّ كُلِّهَا إِلَيْهِ. فَعَلَ الرَّاضِي بِمَحْبُوبِهِ كُلَّ الرِّضَا. وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَالْإِخْلَاصَ لَهُ. وَالرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ: يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِتَدْبِيرِهِ لِعَبْدِهِ. وَيَتَضَمَّنُ إِفْرَادَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالثِّقَةِ بِهِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ. وَأَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِكُلِّ مَا يَفْعَلُ بِهِ. فَالْأَوَّلُ: يَتَضَمَّنُ رِضَاهُ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ. وَالثَّانِي: يَتَضَمَّنُ رِضَاهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الرِّضَا بِنَبِيِّهِ رَسُولًا: فَيَتَضَمَّنُ كَمَالَ الِانْقِيَادِ لَهُ. وَالتَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ. فَلَا يَتَلَقَّى الْهُدَى إِلَّا مِنْ مَوَاقِعِ كَلِمَاتِهِ. وَلَا يُحَاكِمُ إِلَّا إِلَيْهِ. وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا يَرْضَى بِحُكْمِ غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ. لَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَذْوَاقِ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَمَقَامَاتِهِ. وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ. لَا يَرْضَى فِي ذَلِكَ بِحُكْمِ غَيْرِهِ. وَلَا يَرْضَى إِلَّا بِحُكْمِهِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ كَانَ تَحْكِيمُهُ غَيْرَهُ مِنْ بَابِ غِذَاءِ الْمُضْطَرِّ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُقِيتُهُ إِلَّا مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ. وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ: أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التُّرَابِ الَّذِي إِنَّمَا يُتَيَمَّمُ بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الطَّهُورِ. وَأَمَّا الرِّضَا بِدِينِهِ: فَإِذَا قَالَ، أَوْ حَكَمَ، أَوْ أَمَرَ، أَوْ نَهَى: رَضِيَ كُلَّ الرِّضَا. وَلَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ حَرَجٌ مِنْ حُكْمِهِ. وَسَلَّمَ لَهُ تَسْلِيمًا. وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِمُرَادِ نَفْسِهِ أَوْ هَوَاهَا، أَوْ قَوْلِ مُقَلِّدِهِ وَشَيْخِهِ وَطَائِفَتِهِ.

وَهَاهُنَا يُوحِشُكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلَّا الْغُرَبَاءَ فِي الْعَالَمِ. فَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَوْحِشَ مِنْ الِاغْتِرَابِ وَالتَّفَرُّدِ. فَإِنَّهُ وَاللَّهِ عَيْنُ الْعِزَّةِ، وَالصُّحْبَةِ مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَرُوحُ الْأُنْسِ بِهِ. وَالرِّضَا بِهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا. بَلِ الصَّادِقُ كُلَّمَا وَجَدَ مَسَّ الِاغْتِرَابَ، وَذَاقَ حَلَاوَتَهُ، وَتَنَسَّمَ رُوحَهُ. قَالَ: اللَّهُمَّ زِدْنِي اغْتِرَابًا، وَوَحْشَةً مِنَ الْعَالَمِ، وَأُنْسًا بِكَ. وَكُلَّمَا ذَاقَ حَلَاوَةَ هَذَا الِاغْتِرَابِ، وَهَذَا التَّفَرُّدِ: رَأَى الْوَحْشَةَ عَيْنَ الْأُنْسِ بِالنَّاسِ، وَالذُّلَّ عَيْنَ الْعِزِّ بِهِمْ. وَالْجَهْلَ عَيْنَ الْوُقُوفِ مَعَ آرَائِهِمْ وَزُبَالَةِ أَذْهَانِهِمْ، وَالِانْقِطَاعَ عَيْنَ التَّقَيُّدِ بِرُسُومِهِمْ وَأَوْضَاعِهِمْ. فَلَمْ يُؤْثِرْ بِنَصِيبِهِ مِنَ اللَّهِ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ. وَلَمْ يَبِعْ حَظَّهُ مِنَ اللَّهِ بِمُوَافَقَتِهِمْ فِيمَا لَا يُجْدِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحِرْمَانَ. وَغَايَتُهُ: مَوَدَّةُ بَيْنِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. فَإِذَا انْقَطَعَتِ الْأَسْبَابُ. وَحَقَّتِ الْحَقَائِقُ، وَبُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، وَبُلِيَتِ السَّرَائِرُ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْ دُونِ مَوْلَاهُ الْحَقِّ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ: تَبَيَّنَ لَهُ حِينَئِذٍ مَوَاقِعُ الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ. وَمَا الَّذِي يَخِفُّ أَوْ يَرْجَحُ بِهِ الْمِيزَانُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرِّضَا كَسْبِيٌّ بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ، مُوهَبِيٌّ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ. فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِالْكَسْبِ لِأَسْبَابِهِ. فَإِذَا تَمَكَّنَ فِي أَسْبَابِهِ وَغَرَسَ شَجَرَتَهُ: اجْتَنَى مِنْهَا ثَمَرَةَ الرِّضَا. فَإِنَّ الرِّضَا آخِرُ التَّوَكُّلِ. فَمَنْ رَسَّخَ قَدَمَهُ فِي التَّوَكُّلِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ: حَصَلَ لَهُ الرِّضَا وَلَا بُدَّ. وَلَكِنْ لِعِزَّتِهِ وَعَدَمِ إِجَابَةِ أَكْثَرِ النُّفُوسِ لَهُ، وَصُعُوبَتِهِ عَلَيْهَا - لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ. رَحْمَةً بِهِمْ، وَتَخْفِيفًا عَنْهُمْ. لَكِنْ نَدْبَهُمْ إِلَيْهِ. وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ثَوَابَهُ رِضَاهُ عَنْهُمْ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ وَأَجَلُّ مِنَ الْجِنَانِ وَمَا فِيهَا. فَمَنْ رَضِيَ عَنْ رَبِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. بَلْ رِضَا الْعَبْدِ عَنِ اللَّهِ مِنْ نَتَائِجِ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ. فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِنَوْعَيْنِ مِنْ رِضَاهُ عَنْ عَبْدِهِ: رِضًا قَبْلَهُ، أَوْجَبَ لَهُ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ، وَرِضًا بَعْدَهُ. هُوَ ثَمَرَةُ رِضَاهُ عَنْهُ. وَلِذَلِكَ كَانَ الرِّضَا بَابَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ، وَجَنَّةَ الدُّنْيَا، وَمُسْتَرَاحَ الْعَارِفِينَ، وَحَيَاةَ الْمُحِبِّينَ، وَنَعِيمَ الْعَابِدِينَ، وَقُرَّةَ عُيُونِ الْمُشْتَاقِينَ. وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ حُصُولِ الرِّضَا: أَنْ يَلْزَمَ مَا جَعَلَ اللَّهُ رِضَاهُ فِيهِ. فَإِنَّهُ يُوصِلُهُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا وَلَا بُدَّ. قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ: مَتَى يَبْلُغُ الْعَبْدُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا؟ فَقَالَ: إِذَا أَقَامَ نَفْسَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ فِيمَا يُعَامِلُ بِهِ رَبَّهُ، فَيَقُولُ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي قَبِلْتُ. وَإِنْ مَنَعْتَنِي رَضِيتُ. وَإِنْ تَرَكْتَنِي عَبَدْتُ. وَإِنْ دَعَوْتَنِي أَجَبْتُ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الرِّضَا هُوَ صِحَّةُ الْعِلْمِ الْوَاصِلِ إِلَى الْقَلْبِ. فَإِذَا بَاشَرَ الْقَلْبَ

فصل شرط الرضا

حَقِيقَةُ الْعِلْمِ أَدَّاهُ إِلَى الرِّضَا. وَلَيْسَ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ كَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ. فَإِنَّ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةَ حَالَانِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. لَا يُفَارِقَانِ الْمُتَلَبِّسَ بِهِمَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْبَرْزَخِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ. بِخِلَافِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. فَإِنَّهُمَا يُفَارِقَانِ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِحُصُولِ مَا كَانُوا يَرْجُونَهُ، وَأَمْنِهِمْ مِمَّا كَانُوا يَخَافُونَهُ. وَإِنْ كَانَ رَجَاؤُهُمْ لِمَا يَنَالُونَ مِنْ كَرَامَتِهِ دَائِمًا، لَكِنَّهُ لَيْسَ رَجَاءً مَشُوبًا بِشَكٍّ. بَلْ هُوَ رَجَاءٌ وَاثِقٌ بِوَعْدٍ صَادِقٍ، مِنْ حَبِيبٍ قَادِرٍ. فَهَذَا لَوْنٌ وَرَجَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا لَوْنٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: الرِّضَا سُكُونُ الْقَلْبِ إِلَى قَدِيمِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ أَنَّهُ اخْتَارَ لَهُ الْأَفْضَلَ. فَيَرْضَى بِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا رِضًا بِمَا مِنْهُ. وَأَمَّا الرِّضَا بِهِ: فَأَعْلَى مِنْ هَذَا وَأَفْضَلُ. فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ هُوَ رَاضٍ بِمَحْبُوبِهِ، وَبَيْنَ مَنْ هُوَ رَاضٍ بِمَا يَنَالُهُ مِنْ مَحْبُوبِهِ مِنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرْطُ الرِّضَا] فَصْلٌ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرِّضَا أَلَّا يُحِسَّ بِالْأَلَمِ وَالْمَكَارِهِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرِّضَا أَلَّا يُحِسَّ بِالْأَلَمِ وَالْمَكَارِهِ. بَلْ أَلَّا يَعْتَرِضَ عَلَى الْحُكْمِ وَلَا يَتَسَخَّطَهُ. وَلِهَذَا أُشْكِلَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ الرِّضَا بِالْمَكْرُوهِ، وَطَعَنُوا فِيهِ. وَقَالُوا: هَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى الطَّبِيعَةِ. وَإِنَّمَا هُوَ الصَّبْرُ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الرِّضَا وَالْكَرَاهَةُ؟ وَهُمَا ضِدَّانِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ وُجُودَ التَّأَلُّمِ وَكَرَاهَةَ النَّفْسِ لَهُ لَا يُنَافِي الرِّضَا، كَرِضَا الْمَرِيضِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ، وَرِضَا الصَّائِمِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْحَرِّ بِمَا يَنَالُهُ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ وَالظَّمَأِ، وَرِضَا الْمُجَاهِدِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ، وَغَيْرِهَا. وَطَرِيقُ الرِّضَا طَرِيقٌ مُخْتَصَرَةٌ، قَرِيبَةٌ جِدًّا، مُوصِلَةٌ إِلَى أَجَلِّ غَايَةٍ. وَلَكِنَّ فِيهَا مَشَقَّةً. وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَتْ مَشَقَّتُهَا بِأَصْعَبَ مِنْ مَشَقَّةِ طَرِيقِ الْمُجَاهِدَةِ. وَلَا فِيهَا مِنَ الْعَقَبَاتِ وَالْمَفَاوِزِ مَا فِيهَا. وَإِنَّمَا عَقَبَتُهَا هِمَّةٌ عَالِيَةٌ. وَنَفْسٌ زَكِيَّةٌ، وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى كُلِّ مَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ. وَيُسَهِّلُ ذَلِكَ عَلَى الْعَبْدِ: عِلْمُهُ بِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ وَرَحْمَتُهُ بِهِ، وَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، وَبِرُّهُ بِهِ، فَإِذَا شَهِدَ هَذَا وَهَذَا، وَلَمْ يَطْرَحْ نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَرْضَى بِهِ وَعَنْهُ، وَتَنْجَذِبْ دَوَاعِي حُبِّهِ وَرِضَاهُ كُلُّهَا إِلَيْهِ: فَنَفْسُهُ نَفْسٌ مَطْرُودَةٌ عَنِ اللَّهِ، بَعِيدَةٌ عَنْهُ. لَيْسَتْ مُؤَهَّلَةً لِقُرْبِهِ وَمُوَالَاتِهِ، أَوْ نَفْسٌ مُمْتَحَنَةٌ مُبْتَلَاةٌ بِأَصْنَافِ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ.

فَطَرِيقُ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ: تُسَيِّرُ الْعَبْدَ وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِهِ. فَيُصْبِحُ أَمَامَ الرَّكْبِ بِمَرَاحِلَ. وَثَمَرَةُ الرِّضَا: الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ بِالرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَرَأَيْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - فِي الْمَنَامِ. وَكَأَنِّي ذَكَرْتُ لَهُ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ. وَأَخَذْتُ فِي تَعْظِيمِهِ وَمَنْفَعَتِهِ - لَا أَذْكُرُهُ الْآنَ - فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَطَرِيقَتِيَ: الْفَرَحُ بِاللَّهِ، وَالسُّرُورُ بِهِ، أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْعِبَارَةِ. وَهَكَذَا كَانَتْ حَالُهُ فِي الْحَيَاةِ. يَبْدُو ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَيُنَادِي بِهِ عَلَيْهِ حَالُهُ. لَكِنْ قَدْ قَالَ الْوَاسِطِيٌّ: اسْتَعْمِلِ الرِّضَا جُهْدَكَ. وَلَا تَدَعِ الرِّضَا يَسْتَعْمِلُكِ، فَتَكُونَ مَحْجُوبًا بِلَذَّتِهِ وَرُؤْيَتِهِ عَنْ حَقِيقَةِ مَا تُطَالِعُ. وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْوَاسِطِيُّ هُوَ عَقَبَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَمَقْطَعٌ لَهُمْ. فَإِنَّ مُسَاكَنَةَ الْأَحْوَالِ، وَالسُّكُونَ إِلَيْهَا، وَالْوُقُوفَ عِنْدَهَا اسْتِلْذَاذًا وَمَحَبَّةً: حِجَابٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ بِحُظُوظِهِمْ عَنْ مُطَالَعَةِ حُقُوقِ مَحْبُوبِهِمْ وَمَعْبُودِهِمْ. وَهِيَ عَقْبَةٌ لَا يَحُوزُهَا إِلَّا أُولُو الْعَزَائِمِ. وَكَانَ الْوَاسِطِيُّ كَثِيرَ التَّحْذِيرِ مِنْ هَذِهِ الْعَقَبَةِ. شَدِيدَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا. وَمِنْ كَلَامِهِ: إِيَّاكُمْ وَاسْتِحْلَاءَ الطَّاعَاتِ. فَإِنَّهَا سُمُومٌ قَاتِلَةٌ. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: اسْتَعْمِلِ الرِّضَا جُهْدَكَ. وَلَا تَدَعِ الرِّضَا يَسْتَعْمِلُكَ أَيْ لَا يَكُونُ عَمَلُكَ لِأَجْلِ حُصُولِ حَلَاوَةِ الرِّضَا، بِحَيْثُ تَكُونُ هِيَ الْبَاعِثَةَ لَكَ عَلَيْهِ. بَلِ اجْعَلْهُ آلَةً لَكَ وَسَبَبًا مُوصِلًا إِلَى قَصْدِكَ وَمَطْلُوبِكَ. فَتَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لَهُ، لَا أَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لَكَ. وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالرِّضَا، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي يَسْكُنُ إِلَيْهَا الْقَلْبُ، حَتَّى إِنَّهُ أَيْضًا لَا يَكُونُ عَامِلًا عَلَى الْمَحَبَّةِ لِأَجْلِ الْمَحَبَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَالنَّعِيمِ بِهِ. بَلْ يَسْتَعْمِلُ الْمَحَبَّةَ فِي مَرْضَاةِ الْمَحْبُوبِ، لَا يَقِفُ عِنْدَهَا. فَهَذَا مِنْ عِلَلِ الْمَحَبَّةِ.

فصل الدخول في الرضا شرط في رجوع النفس إلى ربها

وَقَالَ ذُو النُّونِ: ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الرِّضَا: تَرْكُ الِاخْتِيَارِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَفُقْدَانُ الْمَرَارَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ. وَهَيَجَانُ الْحُبِّ فِي حَشْوِ الْبَلَاءِ. وَقِيلَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: الْفَقْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْغِنَى، وَالسَّقَمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الصِّحَّةِ. فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ. أَمَّا أَنَا، فَأَقُولُ: مَنِ اتَّكَلَ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ لَمْ يَتَمَنَّ غَيْرَ مَا اخْتَارَ اللَّهُ لَهُ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ لِ بِشْرٍ الْحَافِيِّ: الرِّضَا أَفْضَلُ مِنَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا. لِأَنَّ الرَّاضِيَ لَا يَتَمَنَّى فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ. وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَقَالَ: لِأَنَّ الرِّضَا قَبْلَ الْقَضَا عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا. وَالرِّضَا بَعْدَ الْقَضَا هُوَ الرِّضَا. وَقِيلَ: الرِّضَا ارْتِفَاعُ الْجَزَعِ فِي أَيِّ حُكْمٍ كَانَ. وَقِيلَ: رَفْعُ الِاخْتِيَارِ. وَقِيلَ: اسْتِقْبَالُ الْأَحْكَامِ بِالْفَرَحِ. وَقِيلَ: سُكُونُ الْقَلْبِ تَحْتَ مَجَارِي الْأَحْكَامِ. وَقِيلَ: نَظَرُ الْقَلْبِ إِلَى قَدِيمِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ. وَهُوَ تَرْكُ السَّخَطِ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الرِّضَا، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَرْضَى وَإِلَّا فَاصْبِرْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: الْإِنْسَانُ خَزَفٌ. وَلَيْسَ لِلْخَزَفِ مِنَ الْخَطَرِ مَا يُعَارِضُ فِيهِ حُكْمَ الْحَقِّ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ: مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا أَقَامَنِي اللَّهُ فِي حَالٍ فَكَرِهْتُهُ، وَمَا نَقَلَنِي إِلَى غَيْرِهِ فَسَخِطْتُهُ. وَالرِّضَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: رِضَا الْعَوَّامِّ بِمَا قَسَمَهُ اللَّهُ وَأَعْطَاهُ. وَرِضَا الْخَوَاصِّ بِمَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ. وَرِضَا خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ بِهِ بَدَلًا مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. [فَصْلٌ الدُّخُولُ فِي الرِّضَا شَرْطٌ فِي رُجُوعِ النَّفْسِ إِلَى رَبِّهَا] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27]

لَمْ يَدَعْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُتَسَخِّطِ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وَشَرْطُ الْقَاصِدِ الدُّخُولُ فِي الرِّضَا. وَالرِّضَا اسْمٌ لِلْوُقُوفِ الصَّادِقِ، حَيْثُمَا وَقَفَ الْعَبْدُ. لَا يَلْتَمِسُ مُتَقَدَّمًا وَلَا مُتَأَخَّرًا، وَلَا يَسْتَزِيدُ مَزِيدًا. وَلَا يَسْتَبْدِلُ حَالًا. وَهُوَ مِنْ أَوَائِلِ مَسَالِكِ أَهْلِ الْخُصُوصِ. وَأَشَقِّهَا عَلَى الْعَامَّةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: لَمْ يَدَعْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُتَسَخِّطِ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَلِأَنَّهُ قَيَّدَ رُجُوعَهَا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِحَالٍ. وَهُوَ وَصْفُ الرِّضَا. فَلَا سَبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ مَعَ سَلْبِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عَنْهَا. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] . فَإِنَّمَا أَوْجَبَ لَهُمْ هَذَا السَّلَامَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبِشَارَةَ بِقَيْدٍ، وَهُوَ وَفَاتُهُمْ طَيِّبِينَ. فَلَمْ تُبْقِ الْآيَةُ لِغَيْرِ الطَّيِّبِ سَبِيلًا إِلَى هَذِهِ الْبِشَارَةِ. وَالْحَاصِلُ: أَنْ الدُّخُولَ فِي الرِّضَا شَرْطٌ فِي رُجُوعِ النَّفْسِ إِلَى رَبِّهَا. فَلَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ رَاضِيَةً. قُلْتُ: هَذَا تَعَلُّقٌ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ، لَا بِالْمُرَادِ مِنْهَا. فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا: رِضَاهَا بِمَا حَصَلَ لَهَا مِنْ كَرَامَتِهِ. وَبِمَا نَالَتْهُ مِنْهَا عِنْدَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ. فَحَصَلَ لَهَا رِضَاهَا، وَالرِّضَا عَنْهَا. وَهَذَا يُقَالُ لَهَا عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ دَارِ الدُّنْيَا، وَقُدُومِهَا عَلَى اللَّهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِذَا تُوُفِّيَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ. وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِتُحْفَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ. فَيُقَالُ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، اخْرُجِي إِلَى رُوحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ عَنْكِ رَاضٍ. وَفِي وَقْتِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلسَّلَفِ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَهُوَ الْأَشْهَرُ. قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَرَادَ قَبْضَهَا اطْمَأَنَّتْ إِلَى رَبِّهَا. وَرَضِيَتْ عَنِ اللَّهِ، فَيَرْضَى اللَّهُ عَنْهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْثِ. هَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَالضَّحَّاكِ وَجَمَاعَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْكَلِمَةُ الْأُولَى وَهِيَ {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 28] تُقَالُ لَهَا

عِنْدَ الْمَوْتِ. وَالْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ - وَهِيَ {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 29] تُقَالُ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 28] هَذَا عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنَ الدُّنْيَا. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ لَهَا {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 29] وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُقَالُ لَهَا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَإِنَّ أَوَّلَ بَعْثِهَا عِنْدَ مُفَارَقَتِهَا الدُّنْيَا، وَحِينَئِذٍ فَهِيَ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، إِنْ كَانَتْ مُطْمَئِنَّةً إِلَى اللَّهِ، وَفِي جَنَّتِهِ. كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ لَهَا ذَلِكَ. وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ تَمَامُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ. فَأَوَّلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَتَمَامُهُ وَنِهَايَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَا اخْتِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ. وَلَكِنَّ الشَّيْخَ أَخَذَ مِنْ إِشَارَةِ الْآيَةِ: أَنَّ رُجُوعَهَا إِلَى اللَّهِ مِنَ الْخَلْقِ فِي هَذَا الْعَالَمِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِرِضَاهَا. وَلَكِنْ لَوِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ فِي مَقَامِ الطُّمَأْنِينَةِ لَكَانَ أَوْلَى، فَإِنَّ هَذَا الرُّجُوعَ الَّذِي حَصَلَ لَهَا فِيهِ رِضَاهَا وَالرِّضَا عَنْهَا: إِنَّمَا نَالَتْهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ. وَهُوَ حَظُّ الْكَسْبِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَوْضِعُ التَّنْبِيهِ عَلَى مَوْقِعِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَمَا يَحْصُلُ لِصَاحِبِهَا. فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. قَوْلُهُ: الرِّضَا هُوَ الْوُقُوفُ الصَّادِقُ. يُرِيدُ بِهِ الْوُقُوفَ مَعَ مُرَادِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الدِّينِيَّ حَقِيقَةً، مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ وَلَا مُعَارَضَةٍ. وَهَذَا مَطْلُوبُ الْقَوْمِ السَّابِقِينَ. وَهُوَ الْوُقُوفُ الصَّادِقُ مَعَ مَحَابِّ الرَّبِّ تَعَالَى، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشُوبَ ذَلِكَ تُرَدُّدٌ، وَلَا يُزَاحِمَهُ مُرَادٌ. قَوْلُهُ: حَيْثُمَا وَقَفَ الْعَبْدُ. يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فَاعِلًا. أَيْ حَيْثُ مَا وَقَفَ بِإِذْنِ رَبِّهِ لَا يَلْتَمِسُ تَقَدُّمًا وَلَا تَأَخُّرًا. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا، وَهُوَ أَظْهَرُ. أَيْ حَيْثُمَا وَقَفَ اللَّهُ الْعَبْدَ - فَإِنَّ وَقَفَ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا - أَيْ حَيْثُمَا وَقَفَهُ رَبُّهُ. لَا يَطْلُبُ تَقَدُّمًا وَلَا تَأَخُّرًا. وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَقِفُهُ فِيهِ مِنْ مُرَادِهِ الْكَوْنِيِّ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَأَمَّا إِذَا وَقَفَهُ فِي مُرَادٍ دِينِيٍّ، فَكَمَالُهُ بِطَلَبِ التَّقَدُّمِ فِيهِ دَائِمًا. فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنْ هِمَّتُهُ التَّقَدُّمَ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ: رَجَعَ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي. فَلَا وُقُوفَ فِي الطَّرِيقِ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَفَ فِي مَقَامٍ - مِنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالرَّاحَةِ وَالتَّعَبِ، وَالْعَافِيَةِ وَالسَّقَمِ، وَالِاسْتِيطَانِ وَمُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ - يَقِفُ حَيْثُ وَقَفَهُ. لَا يَطْلُبُ غَيْرَ تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي أَقَامَهُ اللَّهُ فِيهَا. وَهَذَا لِتَصْحِيحِ رِضَاهُ بِاخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ، وَالْفِنَاءِ بِهِ عَنِ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا يَسْتَزِيدُ مَزِيدًا، وَلَا يَسْتَبْدِلُ حَالًا. هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الرِّضَا، وَهُوَ الرِّضَا بِالْأَقْسَامِ وَالْأَحْكَامِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي لَمْ يُؤْمَرُ بِمُدَافَعَتِهَا.

فصل درجات الرضا

وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مِنْ أَوَائِلِ مَسَالِكِ أَهْلِ الْخُصُوصِ يَعْنِي أَنَّ سُلُوكَ أَهْلِ الْخُصُوصِ: هُوَ بِالْخُرُوجِ عَنِ النَّفْسِ، وَالْخُرُوجُ عَنِ الْإِرَادَةِ: هُوَ مَبْدَأُ الْخُرُوجِ عَنِ النَّفْسِ. فَإِذَا الرِّضَا - بِهَذَا الِاعْتِبَارِ - مِنْ أَوَائِلِ مَسَالِكِ الْخَاصَّةِ. وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ فِي كَوْنِ الْفَنَاءِ غَايَةً مَطْلُوبَةً فَوْقَ الرِّضَا. وَالصَّوَابُ: أَنَّ الرِّضَا أَجَلُّ مِنْهُ وَأَعْلَى. وَهُوَ غَايَةٌ لَا بِدَايَةٌ. نَعَمْ فَوْقَهُ مَقَامُ الشُّكْرِ فَهُوَ مَنْزِلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْزِلَةِ الصَّبْرِ. وَقَوْلُهُ: وَأَشَقِّهَا عَلَى الْعَامَّةِ وَذَلِكَ لِمَشَقَّةِ الْخُرُوجِ عَنِ الْحُظُوظِ عَلَى الْعَامَّةِ، وَالرِّضَا أَوَّلُ مَا فِيهِ: الْخُرُوجُ عَنِ الْحُظُوظِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الرِّضَا] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى رِضَا الْعَامَّةِ] فَصْلٌ دَرَجَاتُ الرِّضَا قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: رِضَا الْعَامَّةِ. وَهُوَ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَتَسَخُّطُ عِبَادَةِ مَا دُونِهِ، وَهَذَا قُطْبُ رَحَى الْإِسْلَامِ. وَهُوَ يُطَهِّرُ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ. الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا: أَنْ لَا يَتَّخِذَ رَبًّا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى يَسْكُنُ إِلَى تَدْبِيرِهِ. وَيُنْزِلُ بِهِ حَوَائِجَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سَيِّدًا وَإِلَهًا. يَعْنِي فَكَيْفَ أَطْلُبُ رَبًّا غَيْرَهُ، وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ؟ وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14] يَعْنِي مَعْبُودًا وَنَاصِرًا وَمُعِينًا وَمَلْجَأً. وَهُوَ مِنَ الْمُوَالَاةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْحُبَّ وَالطَّاعَةَ. وَقَالَ فِي وَسَطِهَا {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114] أَيْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي مَنْ يَحْكُمُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَنَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ؟ وَهَذَا كِتَابُهُ سَيِّدُ الْحُكَّامِ، فَكَيْفَ نَتَحَاكَمُ إِلَى غَيْرِ كِتَابِهِ؟ وَقَدْ أَنْزَلَهُ مُفَصَّلًا، مُبَيَّنًا كَافِيًا شَافِيًا. وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ حَقَّ التَّأَمُّلِ، رَأَيْتَهَا هِيَ نَفْسَ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا، وَرَأَيْتَ الْحَدِيثَ يُتَرْجِمُ عَنْهَا، وَمُشْتَقًّا مِنْهَا. فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَرْضَى بِاللَّهِ رَبًّا، وَلَا يَبْغِي رَبًّا سِوَاهُ، لَكِنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ وَحْدَهُ وَلِيًّا

وَنَاصِرًا. بَلْ يُوَالِي مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ. ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُ إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّ مُوَالَاتَهُمْ كَمُوَالَاةِ خَوَاصِّ الْمَلِكِ. وَهَذَا عَيْنُ الشِّرْكِ. بَلِ التَّوْحِيدُ: أَنْ لَا يَتَّخِذَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ. وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ وَصْفِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ. وَهَذَا غَيْرُ مُوَالَاةِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ. فَإِنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ وَمِنْ تَمَامِ مُوَالَاتِهِ. فَمُوَالَاةُ أَوْلِيَائِهِ لَوْنٌ وَاتِّخَاذُ الْوَلِيِّ مِنْ دُونِهِ لَوْنٌ. وَمَنْ لَمْ يَفْهَمِ الْفُرْقَانَ بَيْنَهُمَا فَلْيَطْلُبِ التَّوْحِيدَ مِنْ أَسَاسِهِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَصْلُ التَّوْحِيدِ وَأَسَاسُهُ. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَبْتَغِي غَيْرَهُ حَكَمًا، يَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ، وَيُخَاصِمُ إِلَيْهِ، وَيَرْضَى بِحُكْمِهِ. وَهَذِهِ الْمَقَامَاتُ الثَّلَاثُ هِيَ أَرْكَانُ التَّوْحِيدِ: أَنْ لَا يَتَّخِذَ سِوَاهُ رَبًّا، وَلَا إِلَهًا، وَلَا غَيْرَهُ حَكَمًا. وَتَفْسِيرُ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا: أَنْ يَسْخَطَ عِبَادَةَ مَا دُونَهُ. هَذَا هُوَ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا. وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا. فَمَنْ أُعْطِيَ الرِّضَا بِهِ رَبًّا حَقُّهُ سُخْطُ عِبَادَةِ مَا دُونَهُ قَطْعًا. لِأَنَّ الرِّضَا بِتَجْرِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ يَسْتَلْزِمُ تَجْرِيدَ عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ قُطْبُ رَحَى الْإِسْلَامِ يَعْنِي أَنَّ مَدَارَ رَحَى الْإِسْلَامِ عَلَى أَنْ يَرْضَى الْعَبْدُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ يَسْخَطَ عِبَادَةَ غَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الْحُبُّ مَعَ الذُّلِّ. فَكُلُّ مَنْ ذَلَلْتَ لَهُ وَأَطَعْتَهُ وَأَحْبَبْتَهُ دُونَ اللَّهِ، فَأَنْتَ عَابِدٌ لَهُ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يُطَهِّرُ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ. يَعْنِي أَنَّ الشِّرْكَ نَوْعَانِ: أَكْبَرُ، وَأَصْغَرُ، فَهَذَا الرِّضَا يُطَهِّرُ صَاحِبَهُ مِنَ الْأَكْبَرِ. وَأَمَّا الْأَصْغَرُ: فَيُطَهِّرُ مِنْهُ نُزُولُهُ مَنْزِلَةَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . فَصْلٌ قَالَ وَهُوَ يَصِحُّ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْعَبْدِ. وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَحَقَّ الْأَشْيَاءِ بِالطَّاعَةِ. يَعْنِي أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الرِّضَا إِنَّمَا يَصِحُّ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَيْضًا.

فصل الدرجة الثانية الرضا عن الله

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَى الْعَبْدِ. وَهَذِهِ تُعْرَفُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَيْضًا. أَحَدُهَا: أَنْ تَسْبِقَ مَحَبَّتُهُ إِلَى الْقَلْبِ كُلَّ مَحَبَّةٍ. فَتَتَقَدَّمَ مَحَبَّتُهُ الْمَحَابَّ كُلَّهَا. الثَّانِي: أَنْ تَقْهَرَ مَحَبَّتُهُ كُلَّ مَحَبَّةٍ. فَتَكُونَ مَحَبَّتُهُ إِلَى الْقَلْبِ سَابِقَةً قَاهِرَةً، وَمَحَبَّةُ غَيْرِهِ مُتَخَلِّفَةً مَقْهُورَةً مَغْلُوبَةً مُنْطَوِيَةً فِي مَحَبَّتِهِ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ غَيْرِهِ تَابِعَةً لِمَحَبَّتِهِ. فَيَكُونَ هُوَ الْمَحْبُوبَ بِالذَّاتِ وَالْقَصْدَ الْأَوَّلَ. وَغَيْرُهُ مَحُبُوبًا تَبَعًا لِحُبِّهِ. كَمَا يُطَاعُ تَبَعًا لِطَاعَتِهِ. فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْمُطَاعُ الْمَحْبُوبُ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي كَوْنِهِ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالتَّعْظِيمِ وَالطَّاعَةِ أَيْضًا. فَالْحَاصِلُ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَحْدَهُ الْمَحْبُوبَ الْمُعَظَّمَ الْمُطَاعَ. فَمَنْ لَمْ يُحِبَّهُ وَلَمْ يُطِعْهُ. وَلَمْ يُعَظِّمْهُ: فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ عَلَيْهِ. وَمَتَى أَحَبَّ مَعَهُ سِوَاهُ، وَعَظَّمَ مَعَهُ سِوَاهُ، وَأَطَاعَ مَعَهُ سِوَاهُ: فَهُوَ مُشْرِكٌ. وَمَتَى أَفْرَدَهُ وَحْدَهُ بِالْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ وَالطَّاعَةِ فَهُوَ عَبْدٌ مُوَحِّدٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الرِّضَا عَنِ اللَّهِ. وَبِهَذَا نَطَقَتْ آيَاتُ التَّنْزِيلِ. وَهُوَ الرِّضَا عَنْهُ فِي كُلِّ مَا قَضَى وَقَدَّرَ. وَهَذَا مِنْ أَوَائِلِ مَسَالِكِ أَهْلِ الْخُصُوصِ. الشَّيْخُ جَعَلَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ أَعْلَى مِنَ الدَّرَجَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَوَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا بِالدَّرَجَةِ الْأُولَى. فَإِذَا اسْتَقَرَّ قَدَمُهُ عَلَيْهَا دَخَلَ فِي مَقَامِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا هَذِهِ الدَّرَجَةُ: فَمِنْ مُعَامَلَاتِ الْقُلُوبِ. وَهِيَ لِأَهْلِ الْخُصُوصِ. وَهِيَ الرِّضَا عَنْهُ فِي أَحْكَامِهِ وَأَقْضِيَتِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ أَوَّلِ مَسَالِكِ أَهْلِ الْخُصُوصِ لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْخُرُوجِ عَنِ النَّفْسِ، وَالَّذِي هُوَ طَرِيقُ أَهْلِ الْخُصُوصِ، فَمُقَدِّمَتُهُ بِدَايَةُ سُلُوكِهِمْ. لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ خُرُوجَ الْعَبْدِ عَنْ حُظُوظِهِ، وَوُقُوفَهُ مَعَ مُرَادِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. لَا مَعَ مُرَادِ نَفْسِهِ. هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِهِ. وَفِي جَعْلِهِ هَذِهِ الدَّرَجَةَ أَعْلَى مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا نَظَرٌ لَا يَخْفَى، وَهُوَ نَظِيرُ جَعْلِهِ الصَّبْرَ بِاللَّهِ أَعْلَى مِنَ الصَّبْرِ لِلَّهِ. وَالَّذِي يَنْبَغِي: أَنْ تَكُونَ الدَّرَجَةُ الْأَوْلَى أَعْلَى شَأْنًا وَأَرْفَعَ قَدْرًا. فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ وَهَذِهِ

الدَّرَجَةُ مُشْتَرَكَةٌ. فَإِنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ يَصِحُّ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَغَايَتُهُ التَّسْلِيمُ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ. فَأَيْنَ هَذَا مِنَ الرِّضَا بِهِ رَبًّا وَإِلَهًا وَمَعْبُودًا؟ وَأَيْضًا فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا فَرْضٌ. بَلْ هُوَ مِنْ آكَدِ الْفُرُوضِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ. فَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبًّا، لَمْ يَصِحَّ لَهُ إِسْلَامٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا حَالٌ. وَأَمَّا الرِّضَا بِقَضَائِهِ: فَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ وَاجِبٌ، وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ. فَالْفَرْقُ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ فَرْقُ مَا بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّدْبِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ الصَّحِيحِ «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ أَفْضَلُ وَأَعْلَى مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الرِّضَا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ الرِّضَا عَنْهُ، وَيَسْتَلْزِمُهُ. فَإِنَّ الرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ: هُوَ رِضَا الْعَبْدِ بِمَا يَأْمُرُهُ بِهِ، وَيَنْهَاهُ عَنْهُ، وَيَقْسِمُهُ لَهُ وَيُقَدِّرُهُ عَلَيْهِ، وَيُعْطِيهِ إِيَّاهُ، وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ. فَمَتَى لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ رَضِيَ بِهِ رَبًّا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. وَإِنْ كَانَ رَاضِيًا بِهِ رَبًّا مِنْ بَعْضِهَا. فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ: يَسْتَلْزِمُ الرِّضَا عَنْهُ، وَيَتَضَمَّنُهُ بِلَا رَيْبٍ. وَأَيْضًا: فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا مُتَعَلِّقٌ بِذَاتِهِ، وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، فَهُوَ الرِّضَا بِهِ خَالِقًا وَمُدَبِّرًا، وَآمِرًا وَنَاهِيًا، وَمَلِكًا، وَمُعْطِيًا وَمَانِعًا، وَحَكَمًا، وَوَكِيلًا وَوَلِيًّا، وَنَاصِرًا وَمُعِينًا، وَكَافِيًا وَحَسِيبًا وَرَقِيبًا، وَمُبْتَلِيًا وَمُعَافِيًا، وَقَابِضًا وَبَاسِطًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ. وَأَمَّا الرِّضَا عَنْهُ: فَهُوَ رِضَا الْعَبْدِ بِمَا يَفْعَلُهُ بِهِ، وَيُعْطِيهِ إِيَّاهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ إِلَّا فِي الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27] فَهَذَا بِرِضَاهَا عَنْهُ لِمَا حَصَلَ لَهَا مِنْ كَرَامَتِهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] . وَالرِّضَا بِهِ: أَصْلُ الرِّضَا عَنْهُ، وَالرِّضَا عَنْهُ: ثَمَرَةُ الرِّضَا بِهِ. وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرِّضَا بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَالرِّضَا عَنْهُ: مُتَعَلِّقٌ بِثَوَابِهِ وَجَزَائِهِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ بِمَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا. وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا.» . فَجَعَلَ الرِّضَا بِهِ قَرِينَ الرِّضَا بِدِينِهِ وَنَبِيِّهِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُصُولُ الْإِسْلَامِ، الَّتِي لَا يَقُومُ إِلَّا بِهَا وَعَلَيْهَا. وَأَيْضًا: فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَهُ وَعِبَادَتَهُ، وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَخَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ وَمَحَبَّتَهُ، وَالصَّبْرَ لَهُ وَبِهِ. وَالشُّكْرُ عَلَى نِعَمِهِ: يَتَضَمَّنُ رُؤْيَةَ كُلِّ مَا مِنْهُ نِعْمَةً وَإِحْسَانًا، وَإِنْ سَاءَ عَبْدُهُ. فَالرِّضَا بِهِ يَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالرِّضَا بِمُحَمَّدٍ رَسُولًا يَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ أَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَالرِّضَا بِالْإِسْلَامِ دِينًا: يَتَضَمَّنُ الْتِزَامَ عُبُودِيَّتِهِ، وَطَاعَتَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ. فَجَمَعَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الدِّينَ كُلَّهُ. وَأَيْضًا: فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ اتِّخَاذَهُ مَعْبُودًا دُونَ مَا سِوَاهُ. وَاتِّخَاذَهُ وَلِيًّا وَمَعْبُودًا، وَإِبْطَالَ عِبَادَةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114] وَقَالَ {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام: 14] وَقَالَ {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164] . فَهَذَا هُوَ عَيْنُ الرِّضَا بِهِ رَبًّا. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ جَعَلَ حَقِيقَةَ الرِّضَا بِهِ رَبًّا: أَنْ يَسْخَطَ عِبَادَةَ مَا دُونَهُ. فَمَتَى سَخِطَ الْعَبْدُ عِبَادَةَ مَا سِوَى اللَّهِ مِنَ الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ، حُبًّا وَخَوْفًا، وَرَجَاءً وَتَعْظِيمًا، وَإِجْلَالًا - فَقَدْ تَحَقَّقَ بِالرِّضَا بِهِ رَبًّا، الَّذِي هُوَ قُطْبُ رَحَى الْإِسْلَامِ. وَإِنَّمَا كَانَ قُطْبَ رَحَى الدِّينِ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْأَحْوَالِ: إِنَّمَا تَنْبَنِي عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْعِبَادَةِ، وَسُخْطِ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا الْقُطْبُ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَحًى تَدُورُ عَلَيْهِ. وَمَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْقُطْبُ ثَبَتَتْ لَهُ الرَّحَى. وَدَارَتْ عَلَى ذَلِكَ الْقُطْبِ. فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ مِنْ دَائِرَةِ الشِّرْكِ إِلَى دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ. فَتَدُورُ رَحَى إِسْلَامِهِ وَإِيمَانِهِ عَلَى قُطْبِهَا الثَّابِتِ اللَّازِمِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ جَعَلَ حُصُولَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الرِّضَا مَوْقُوفًا عَلَى كَوْنِ الْمَرْضِيِّ بِهِ رَبًّا - سُبْحَانَهُ - أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَحَقَّ الْأَشْيَاءِ بِالطَّاعَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَجْمَعُ قَوَاعِدَ الْعُبُودِيَّةِ، وَيُنَّظِمُ فُرُوعَهَا وَشُعَبَهَا.

وَلَمَّا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ مَيْلَ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى الْمَحْبُوبِ: كَانَ ذَلِكَ الْمَيْلُ حَامِلًا عَلَى طَاعَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ. وَكُلَّمَا كَانَ الْمَيْلُ أَقْوَى: كَانَتِ الطَّاعَةُ أَتَمَّ، وَالتَّعْظِيمُ أَوْفَرَ. وَهَذَا الْمَيْلُ يُلَازِمُ الْإِيمَانَ، بَلْ هُوَ رُوحُ الْإِيمَانِ وَلُبُّهُ. فَأَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ أَعْلَى مِنْ أَمْرٍ يَتَضَمَّنُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْعَبْدِ، وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَحَقَّ الْأَشْيَاءِ بِالطَّاعَةِ؟ وَبِهَذَا يَجِدُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ. كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ - بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ - كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» . فَعَلَّقَ ذَوْقَ الْإِيمَانِ بِالرِّضَا بِاللَّهِ رَبًا. وَعَلَّقَ وُجُودَ حَلَاوَتِهِ بِمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ. وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْعَبْدِ هُوَ وَرَسُولُهُ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحُبُّ التَّامُّ، وَالْإِخْلَاصُ - الَّذِي هُوَ ثَمَرَتُهُ - أَعْلَى مِنْ مُجَرَّدِ الرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ: كَانَتْ ثَمَرَتُهُ أَعْلَى. وَهُوَ وَجْدُ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ. وَثَمَرَةُ الرِّضَا: ذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ. فَهَذَا وَجْدُ حَلَاوَةٍ، وَذَلِكَ ذَوْقُ طَعْمٍ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَإِنَّمَا تَرَتَّبَ هَذَا وَهَذَا عَلَى الرِّضَا بِهِ وَحْدَهُ رَبًّا، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ عُبُودِيَّةِ مَا سِوَاهُ، وَمِيلِ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَيْهِ، وَانْجِذَابِ قُوَى الْمُحِبِّ كُلِّهَا إِلَيْهِ. وَرِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ تَابِعٌ لِهَذَا الرِّضَا بِهِ. فَمَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا رَضِيَهُ اللَّهُ لَهُ عَبْدًا. وَمَنْ رَضِيَ عَنْهُ فِي عَطَائِهِ وَمَنْعِهِ وَبَلَائِهِ وَعَافِيَتِهِ: لَمْ يَنَلْ بِذَلِكَ دَرَجَةَ رِضَا الرَّبِّ عَنْهُ، إِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبًّا، وَبِنَبِيِّهِ رَسُولًا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَرْضَى عَنِ اللَّهِ رَبِّهِ فِيمَا أَعْطَاهُ وَفِيمَا مَنَعَهُ، وَلَكِنْ لَا يَرْضَى بِهِ وَحْدَهُ مَعْبُودًا وَإِلَهًا. وَلِهَذَا إِنَّمَا ضَمِنَ رِضَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ رَضِيَ بِهِ رَبًّا. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قَالَ كُلَّ يَوْمٍ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا: إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . فَصْلٌ

إِذَا عُرِفَ هَذَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. قَالَ: وَبِهَذَا الرِّضَا نَطَقَ التَّنْزِيلُ. يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: عَزَّ وَجَلَّ {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119] . وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] وَفِي آخِرِ سُورَةِ لَمْ يَكُنِ {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] . فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ: جَزَاءَهُمْ عَلَى صِدْقِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَمُجَاهَدَةِ أَعْدَائِهِ، وَعَدَمِ وِلَايَتِهِمْ، بِأَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَأَرْضَاهُمْ. فَرَضُوا عَنْهُ. وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ هَذَا بَعْدَ الرِّضَا بِهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا. قَوْلُهُ: وَهُوَ الرِّضَا عَنْهُ فِي كُلِّ مَا قَضَى. هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: الرِّضَاءُ بِاللَّهِ، وَالرِّضَا عَنِ اللَّهِ، وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ. فَالرِّضَا بِهِ فَرْضٌ. وَالرِّضَا عَنْهُ - وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجَلِّ الْأُمُورِ وَأَشْرَفِ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ - فَلَمْ يُطَالِبْ بِهِ الْعُمُومَ. لِعَجْزِهِمْ وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ. وَأَوْجَبَتْهُ طَائِفَةٌ كَمَا أَوْجَبُوا الرِّضَا بِهِ، وَاحْتَجُّوا بِحُجَجٍ. مِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا عَنْ رَبِّهِ فَهُوَ سَاخِطٌ عَلَيْهِ. إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الرِّضَا وَالسَّخَطِ. وَسَخَطُ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ مُنَافٍ لِرِضَاهُ بِهِ رَبًّا. قَالُوا: وَأَيْضًا فَعَدَمُ رِضَاهُ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ سُوءَ ظَنِّهِ بِهِ، وَمُنَازَعَتَهُ لَهُ فِي اخْتِيَارِهِ لِعَبْدِهِ، وَأَنَّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَخْتَارُ شَيْئًا وَيَرْضَاهُ فَلَا يَخْتَارُهُ الْعَبْدُ وَلَا يَرْضَاهُ، وَهَذَا مُنَافٍ لِلْعُبُودِيَّةِ. قَالُوا: وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ الْإِلَهِيَّةِ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي، وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي.

فَلْيَتَّخِذْ رَبًّا سِوَايَ. وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يَتَخَلَّصُ مِنَ السَّخَطِ عَلَى رَبِّهِ إِلَّا بِالرِّضَا عَنْهُ. إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الرِّضَا وَالسَّخَطِ - فَكَلَامٌ مَدْخُولٌ. لِأَنَّ السُّخْطَ بِالْمَقْضِيِّ لَا يَسْتَلْزِمُ السُّخْطَ عَلَى مَنْ قَضَاهُ، كَمَا أَنَّ كَرَاهَةَ الْمَقْضِيِّ وَبُغْضَهُ وَالنُّفْرَةَ عَنْهُ لَا تَسْتَلْزِمُ تَعَلُّقَ ذَلِكَ بِالَّذِي قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ. فَالْمَقْضِيُّ قَدْ يَسْخَطُهُ الْعَبْدُ وَهُوَ رَاضٍ عَمَّنْ قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ. بَلْ قَدْ يَجْتَمِعُ تَسَخُّطُهُ وَالرِّضَا بِنَفْسِ الْقَضَاءِ. كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ سُوءَ ظَنِّ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ وَمُنَازَعَتَهُ لَهُ فِي اخْتِيَارِهِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ هُوَ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَبِّهِ فِي الْحَالَتَيْنِ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَسْخَطُ الْمَقْدُورَ وَيُنَازِعُهُ بِمَقْدُورٍ آخَرَ. كَمَا يُنَازِعُ الْقَدَرَ الَّذِي يَكْرَهُهُ رَبُّهُ بِالْقَدَرِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. فَيُنَازِعُ قَدَرَ اللَّهِ بِقَدَرِ اللَّهِ بِاللَّهِ لِلَّهِ، كَمَا يَسْتَعِيذُ بِرِضَاهُ مِنْ سَخَطِهِ، وَبِمُعَافَاتِهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَيَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْهُ. فَأَمَّا كَوْنُهُ يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ خِلَافَ مَا يَخْتَارُهُ الرَّبُّ فَهَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ. لَا يُسْحَبُ عَلَيْهِ ذَيْلُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. فَاخْتِيَارُ الرَّبِّ تَعَالَى لِعَبْدِهِ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: اخْتِيَارٌ دِينِيٌّ شَرْعِيٌّ. فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ لَا يَخْتَارَ فِي هَذَا النَّوْعِ غَيْرَ مَا اخْتَارَهُ لَهُ سَيِّدُهُ. قَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فَاخْتِيَارُ الْعَبْدِ خِلَافَ ذَلِكَ مُنَافٍ لِإِيمَانِهِ وَتَسْلِيمِهِ، وَرِضَاهُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا. النَّوْعُ الثَّانِي: اخْتِيَارٌ كَوْنِيٌّ قَدَرِيٌّ. لَا يَسْخَطُهُ الرَّبُّ، كَالْمَصَائِبِ الَّتِي يَبْتَلِي اللَّهُ بِهَا عَبْدَهُ. فَهَذَا لَا يَضُرُّهُ فِرَارُهُ مِنْهَا إِلَى الْقَدَرِ الَّذِي يَرْفَعُهَا عَنْهُ، وَيَدْفَعُهَا وَيَكْشِفُهَا. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُنَازَعَةٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُنَازَعَةٌ لِلْقَدَرِ بِالْقَدَرِ. فَهَذَا يَكُونُ تَارَةً وَاجِبًا، وَتَارَةً يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَتَارَةً يَكُونُ مُبَاحًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ، وَتَارَةً يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَتَارَةً يَكُونُ حَرَامًا. وَأَمَّا الْقَدَرُ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ - مِثْلَ قَدَرِ الْمَعَائِبِ وَالذُّنُوبِ - فَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِسَخَطِهَا. وَمَنْهِيٌّ عَنِ الرِّضَا بِهَا. وَهَذَا هُوَ التَّفْصِيلُ الْوَاجِبُ فِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ. وَقَدِ اضْطَرَبَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ اضْطِرَابًا عَظِيمًا. وَنَجَا مِنْهُ أَصْحَابُ الْفِرَقِ وَالتَّفْصِيلِ. فَإِنَّ لَفْظَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ لَفْظٌ مَحْمُودٌ مَأْمُورٌ بِهِ. وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ

الصِّدِّيقِينَ. فَصَارَتْ لَهُ حُرْمَةٌ أَوْجَبَتْ لِطَائِفَةٍ قَبُولَهُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَظَنُّوا أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَخْلُوقًا لِلرَّبِّ تَعَالَى فَهُوَ مَقْضِيٌّ مَرَضِيٌّ لَهُ. يَنْبَغِي لَهُ الرِّضَا بِهِ. ثُمَّ انْقَسَمُوا عَلَى فِرْقَتَيْنِ. فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ وَالرِّضَا مُتَلَازِمَيْنِ. فَمَعْلُومٌ أَنَّا مَأْمُورُونَ بِبُغْضِ الْمَعَاصِي، وَالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ. فَلَا تَكُونُ مَقْضِيَّةً مُقْدَّرَةً. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: قَدْ دَلَّ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ عَلَى أَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ. فَنَحْنُ نَرْضَى بِهَا. وَالطَّائِفَتَانِ مُنْحَرِفَتَانِ، جَائِرَتَانِ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ. فَأُولَئِكَ أَخْرَجُوهَا عَنْ قَضَاءِ الرَّبِّ وَقَدَرِهِ. وَهَؤُلَاءِ رَضُوا بِهَا وَلَمْ يَسْخَطُوهَا. هَؤُلَاءِ خَالَفُوا الرَّبَّ تَعَالَى فِي رِضَاهُ وَسَخَطِهِ. وَخَرَجُوا عَنْ شَرْعِهِ وَدِينِهِ. وَأُولَئِكَ أَنْكَرُوا تَعَلُّقَ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ بِهَا. وَاخْتَلَفَتْ طُرُقُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لِلْقَدَرِ وَالشَّرْعِ فِي جَوَابِ الطَّائِفَتَيْنِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ مِنَ الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ وَلَا الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الرِّضَا بِكُلِّ قَضَاءٍ، فَضْلًا عَنْ وُجُوبِهِ وَاسْتِحْبَابِهِ، فَأَيْنَ أَمْرُ اللَّهِ عِبَادَهُ أَوْ رَسُولَهُ: أَنْ يَرْضَوْا بِكُلِّ مَا قَضَاهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ؟ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَبِهِ أَجَابَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: أَفَتَرْضَوْنَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ؟ قِيلَ لَهُ: نَرْضَى بِقَضَاءِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ خَلْقُهُ، الَّذِي أَمَرَنَا أَنْ نَرْضَى بِهِ. وَلَا نَرْضَى

مِنْ ذَلِكَ مَا نَهَانَا عَنْهُ أَنْ نَرْضَى بِهِ. وَلَا نَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا نَعْتَرِضُ عَلَى حُكْمِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: يُطْلَقُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، دُونَ تَفَاصِيلِ الْمَقْضِيِّ الْمُقَدَّرِ. فَنَقُولُ: نَرْضَى بِقَضَاءِ اللَّهِ جُمْلَةً وَلَا نَسْخَطُهُ. وَلَا نُطْلِقُ الرِّضَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تَفَاصِيلِ الْمَقْضِيِّ. كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: كُلُّ شَيْءٍ يَبِيدُ وَيَهْلِكُ. وَلَا يَقُولُونَ: حُجَجُ اللَّهِ تَبِيدُ وَتَهْلِكُ. وَيَقُولُونَ: اللَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ. وَلَا يُضِيفُونَ رُبُوبِيَّتَهُ إِلَى الْأَعْيَانِ الْمُسْتَخْبِثَةِ الْمُسْتَقْذَرَةِ بِخُصُوصِهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: نَرْضَى بِهَا مِنْ جِهَةِ إِضَافَتِهَا إِلَى الرَّبِّ خَلْقًا وَمَشِيئَةً، وَنسْخَطُهَا مِنْ جِهَةِ إِضَافَتِهَا إِلَى الْعَبْدِ كَسْبًا لَهُ وَقِيَامًا بِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلْ نَرْضَى بِالْقَضَاءِ وَنَسْخَطُ الْمَقْضِيَّ. فَالرِّضَا وَالسَّخَطُ لَمْ يَتَعَلَّقَا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ. وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ لَا يَتَمَشَّى شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى أُصُولِ مَنْ يَجْعَلُ مَحَبَّةَ الرَّبِّ تَعَالَى وَرِضَاهُ وَمَشِيئَتَهُ وَاحِدَةً، كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَكْثَرِ أَتْبَاعِهِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ كُلَّ مَا شَاءَهُ وَقَضَاهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ، وَإِذَا كَانَ الْكَوْنُ مَحْبُوبًا لَهُ مَرْضِيًّا، فَنَحْنُ نُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ، وَنَرْضَى مَا رَضِيَهُ. وَقَوْلُكُمْ: إِنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ يُطْلَقُ جُمْلَةً وَلَا يُطْلَقُ تَفْصِيلًا. فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ دُخُولَهُ فِي جُمْلَةِ الْمَرْضِيِّ بِهِ. فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ. وَقَوْلُكُمْ: نَرْضَى بِهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا خَلْقًا لِلَّهِ، وَنَسْخَطُهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا كَسْبًا لِلْعَبْدِ: فَكَسْبُ الْعَبْدِ إِنْ كَانَ أَمْرًا وُجُودِيًّا فَهُوَ خَلْقٌ لِلَّهِ فَنَرْضَى بِهِ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا عَدَمِيًّا فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ تُرْضِي وَلَا تُسْخِطُ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: نَرْضَى بِالْقَضَاءِ دُونَ الْمَقْضِيِّ: فَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْقَضَاءَ غَيْرَ الْمَقْضِيِّ، وَالْفِعْلَ غَيْرَ الْمَفْعُولِ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا: فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا عَلَى أَصْلِهِ؟ . وَقَدْ أَوْرَدَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا السُّؤَالَ، فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ: الْقَضَاءُ عِنْدَكُمْ هُوَ الْمَقْضِيُّ، أَوْ غَيْرُهُ؟ قِيلَ: هُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ. فَالْقَضَاءُ - بِمَعْنَى الْخَلْقِ - هُوَ الْمَقْضِيُّ. لِأَنَّ الْخَلْقَ هُوَ

الْمَخْلُوقُ. وَالْقَضَاءُ - الَّذِي هُوَ الْإِلْزَامُ وَالْإِعْلَامُ وَالْكِتَابَةُ - غَيْرُ الْمَقْضِيِّ. لِأَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ الْمَأْمُورِ. وَالْخَبَرَ غَيْرُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ. وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يُخَلِّصُهُ أَيْضًا. لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي الْإِلْزَامِ وَالْإِعْلَامِ وَالْكِتَابَةِ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ الْمَقْدُورِ، الْمُعْلَمِ بِهِ الْمَكْتُوبِ: هَلْ مُقَدِّرُهُ وَكَاتِبُهُ سُبْحَانَهُ رَاضٍ بِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلِ الْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِالرِّضَا بِهِ نَفْسِهِ أَمْ لَا؟ هَذَا هُوَ حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ. وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مَنْ جَعَلَ مَشِيئَتَهُ وَقَضَاءَهُ مُسْتَلْزِمَانِ لِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ. فَكَيْفَ بِمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ شَيْئًا وَاحِدًا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل: 35] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف: 20] . فَهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى مَحَبَّتِهِ لِشِرْكِهِمْ وَرِضَاهُ عَنْهُ بِمَشِيئَتِهِ لِذَلِكَ. وَعَارَضُوا بِهَذَا الدَّلِيلِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. وَفِيهِ أَبْيَنُ الرَّدِّ لِقَوْلِ مَنْ جَعَلَ مَشِيئَتَهُ غَيْرَ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ. فَالْإِشْكَالُ إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ جَعَلْهِمُ الْمَشِيئَةَ نَفْسَ الْمَحَبَّةِ. ثُمَّ زَادُوهُ بِجَعْلِهِمُ الْفِعْلَ نَفْسَ الْمَفْعُولِ، وَالْقَضَاءَ عَيْنَ الْمَقْضِيِّ. فَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ إِلْزَامُهُمْ بِكَوْنِهِ تَعَالَى رَاضِيًا مُحِبًّا لِذَلِكَ. وَالْتِزَامُ رِضَاهُمْ بِهِ. وَالَّذِي يَكْشِفُ هَذِهِ الْغُمَّةَ، وَيُبْصِرُ مِنْ هَذِهِ الْعِمَايَةِ، وَيُنْجِي مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ: إِنَّمَا هُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَهُوَ الْمَشِيئَةُ وَالْمَحَبَّةُ. فَإِنَّهُمَا لَيْسَا وَاحِدًا. وَلَا هُمَا مُتَلَازِمَيْنِ. بَلْ قَدْ يَشَاءُ مَا لَا يُحِبُّهُ، وَيُحِبُّ مَا لَا يَشَاءُ كَوْنَهُ. فَالْأَوَّلُ: كَمَشِيئَتِهِ لِوُجُودِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ. وَمَشِيئَتِهِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ مَا فِي الْكَوْنِ مَعَ بُغْضِهِ لِبَعْضِهِ. وَالثَّانِي: كَمَحَبَّتِهِ إِيمَانَ الْكُفَّارِ، وَطَاعَاتِ الْفُجَّارِ، وَعَدْلَ الظَّالِمِينَ، وَتَوْبَةَ الْفَاسِقِينَ. وَلَوْ شَاءَ ذَلِكَ لَوُجِدَ كُلُّهُ وَكَانَ جَمِيعُهُ. فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ. وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ، وَأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ الْمَفْعُولِ، وَالْقَضَاءَ غَيْرُ الْمَقْضِيِّ، وَأَنَّ اللَّهَ

سُبْحَانَهُ لَمْ يَأْمُرْ عِبَادَهُ بِالرِّضَا بِكُلِّ مَا خَلَقَهُ وَشَاءَهُ: زَالَتِ الشُّبَهَاتُ. وَانْحَلَّتِ الْإِشْكَالَاتُ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَ شَرْعِ الرَّبِّ وَقَدَرِهِ تُنَاقُضٌ، بِحَيْثُ يُظَنُّ إِبْطَالُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، بَلِ الْقَدَرُ يَنْصُرُ الشَّرْعَ. وَالشَّرْعُ يُصَدِّقُ الْقَدَرَ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُحَقِّقُ الْآخَرَ. إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ وَاجِبٌ، وَهُوَ أَسَاسُ الْإِسْلَامِ وَقَاعِدَةُ الْإِيمَانِ. فَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِهِ بِلَا حَرَجٍ، وَلَا مُنَازَعَةٍ وَلَا مُعَارَضَةٍ، وَلَا اعْتِرَاضٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . فَأَقْسَمَ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوا رَسُولَهُ، وَحَتَّى يَرْتَفِعَ الْحَرَجُ مِنْ نُفُوسِهِمْ مِنْ حُكْمِهِ، وَحَتَّى يُسَلِّمُوا لِحُكْمِهِ تَسْلِيمًا. وَهَذَا حَقِيقَةُ الرِّضَا بِحُكْمِهِ. فَالتَّحْكِيمُ: فِي مَقَامِ الْإِسْلَامِ. وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ: فِي مَقَامِ الْإِيمَانِ. وَالتَّسْلِيمُ: فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ. وَمَتَّى خَالَطَ الْقَلْبَ بَشَاشَةُ الْإِيمَانِ، وَاكْتَحَلَتْ بَصِيرَتُهُ بِحَقِيقَةِ الْيَقِينِ، وَحَيَّى بِرُوحِ الْوَحْيِ، وَتَمَهَّدَتْ طَبِيعَتُهُ، وَانْقَلَبَتِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ مُطَمَئِنَّةً رَاضِيَةً وَادِعَةً، وَتَلَقَّى أَحْكَامَ الرَّبِّ تَعَالَى بِصَدْرٍ وَاسِعٍ مُنْشَرِحٍ مُسْلِمٍ: فَقَدْ رَضِيَ كُلَّ الرِّضَا بِهَذَا الْقَضَاءِ الدِّينِيِّ الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ، الْمُوَافِقِ لِمَحَبَّةِ الْعَبْدِ وَإِرَادَتِهِ وَرِضَاهُ - مِنَ الصِّحَّةِ، وَالْغِنَى، وَالْعَافِيَةِ، وَاللَّذَّةِ - أَمْرٌ لَازِمٌ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ. لِأَنَّهُ مُلَائِمٌ لِلْعَبْدِ، مَحْبُوبٌ لَهُ. فَلَيْسَ فِي الرِّضَا بِهِ عُبُودِيَّةٌ. بَلِ الْعُبُودِيَّةُ فِي مُقَابَلَتِهِ بِالشُّكْرِ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْمِنَّةِ، وَوَضْعِ النِّعْمَةِ مَوَاضِعَهَا الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ تُوضَعَ فِيهَا، وَأَنْ لَا يُعْصَى الْمُنْعِمُ بِهَا، وَأَنْ يُرَى التَّقْصِيرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ، الْجَارِي عَلَى خِلَافِ مُرَادِ الْعَبْدِ وَمَحَبَّتِهِ - مِمَّا لَا يُلَائِمُهُ. وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ - مُسْتَحَبٌّ. وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ. وَهَذَا كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ، وَأَذَى الْخَلْقِ لَهُ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالْآلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ الْجَارِي عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ - مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَسْخَطُهُ، وَيَنْهَى عَنْهُ - كَأَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ: حَرَامٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ. وَهُوَ مُخَالَفَةٌ لِرَبِّهِ تَعَالَى. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ وَلَا يُحِبُّهُ. فَكَيْفَ تَتَّفِقُ الْمَحَبَّةُ وَرِضَا مَا يَسْخَطُهُ الْحَبِيبُ وَيُبْغِضُهُ؟ فَعَلَيْكَ

بِهَذَا التَّفْصِيلِ فِي مَسْأَلَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُرِيدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمْرًا لَا يَرْضَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ؟ وَكَيْفَ يَشَاؤُهُ وَيُكَوِّنُهُ؟ وَكَيْفَ تَجْتَمِعُ إِرَادَةُ اللَّهِ لَهُ وَبُغْضُهُ وَكَرَاهِيَتُهُ؟ قِيلَ: هَذَا السُّؤَالُ هُوَ الَّذِي افْتَرَقَ النَّاسُ لِأَجْلِهِ فِرَقًا، وَتَبَايَنَتْ عِنْدَهُ طُرُقُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ. فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ نَوْعَانِ: مُرَادٌ لِنَفْسِهِ. وَمُرَادٌ لِغَيْرِهِ. فَالْمُرَادُ لِنَفْسِهِ: مَطْلُوبٌ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ. فَهُوَ مُرَادُ إِرَادَةِ الْغَايَاتِ وَالْمَقَاصِدِ. وَالْمُرَادُ لِغَيْرِهِ: قَدْ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ مَقْصُودًا لِلْمُرِيدِ، وَلَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ. وَإِنْ كَانَ وَسِيلَةً مَقْصُودَةً وَمُرَادَةً. فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ نَفْسُهُ وَذَاتُهُ، مُرَادٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ إِفْضَاؤُهُ وَإِيصَالُهُ إِلَى مُرَادِهِ. فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ: بُغْضُهُ، وَإِرَادَتُهُ، وَلَا يَتَنَافَيَانِ. لِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِهِمَا. وَهَذَا كَالدَّوَاءِ الْمُتَنَاهِي فِي الْكَرَاهَةِ، إِذَا عَلِمَ مُتَنَاوِلُهُ أَنَّ فِيهِ شِفَاءَهُ، وَكَقَطْعِ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ إِذَا عُلِمَ أَنَّ فِي قَطْعِهِ بَقَاءَ جَسَدِهِ، وَكَقَطْعِ الْمَسَافَةِ الشَّاقَّةِ جِدًّا إِذَا عُلِمَ أَنَّهَا تُوصِلُهُ إِلَى مُرَادِهِ وَمَحْبُوبِهِ. بَلِ الْعَاقِلُ يَكْتَفِي فِي إِيثَارِ هَذَا الْمَكْرُوهِ وَإِرَادَتِهِ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ، وَإِنْ خَفِيَتْ عَنْهُ عَاقِبَتُهُ، وَطُوِيَتْ عَنْهُ مَغَبَّتُهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْعَوَاقِبُ؟ فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَكْرَهُ الشَّيْءَ وَيُبْغِضُهُ فِي ذَاتِهِ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ إِرَادَتَهُ لِغَيْرِهِ، وَكَوْنَهُ سَبَبًا إِلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ فَوْتِهِ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ إِبْلِيسَ، الَّذِي هُوَ مَادَّةٌ لِفَسَادِ الْأَدْيَانِ وَالْأَعْمَالِ، وَالِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ، وَهُوَ سَبَبُ شَقَاوَةِ الْعَبِيدِ، وَعَمَلِهِمْ بِمَا يُغْضِبُ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَهُوَ السَّاعِي فِي وُقُوعِ خِلَافِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَكُلِّ حِيلَةٍ. فَهُوَ مَبْغُوضٌ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مَسْخُوطٌ لَهُ. لَعَنَهُ اللَّهُ وَمَقَتَهُ. وَغَضِبَ عَلَيْهِ. وَمَعَ هَذَا فَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى مَحَابَّ كَثِيرَةٍ لِلرَّبِّ تَعَالَى تَرَتَّبَتْ عَلَى خَلْقِهِ. وَجُودُهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِهَا. مِنْهَا: أَنْ تَظْهَرَ لِلْعِبَادِ قُدْرَةُ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى خَلْقِ الْمُتَضَادَّاتِ الْمُتَقَابِلَاتِ فَخَلَقَ هَذِهِ الذَّاتَ - الَّتِي هِيَ أَخْبَثُ الذَّوَاتِ وَشَرُّهَا. وَهِيَ سَبَبُ كُلِّ شَرٍّ - فِي مُقَابَلَةِ ذَاتِ جِبْرِيلَ، الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الذَّوَاتِ، وَأَطْهَرُهَا وَأَزْكَاهَا. وَهِيَ مَادَّةُ كُلِّ خَيْرٍ. فَتَبَارَكَ اللَّهُ خَالِقُ هَذَا وَهَذَا. كَمَا ظَهَرَتْ لَهُمْ قُدْرَتُهُ التَّامَّةُ فِي خَلْقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالضِّيَاءِ وَالظَّلَامِ، وَالدَّاءِ وَالدَّوَاءِ، وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْمَاءِ وَالنَّارِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ.

وَذَلِكَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى كَمَالِ قُدَرَتِهِ وَعِزَّتِهِ، وَسُلْطَانِهِ وَمُلْكِهِ. فَإِنَّهُ خَلَقَ هَذِهِ الْمُتَضَادَّاتِ. وَقَابَلَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ. وَسَلَّطَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ. وَجَعَلَهَا مَحَالَّ تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَخُلُوُّ الْوُجُودِ عَنْ بَعْضِهَا بِالْكُلِّيَّةِ تَعْطِيلٌ لِحِكْمَتِهِ، وَكَمَالِ تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ. وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَائِهِ الْقَهْرِيَّةِ، مِثْلَ الْقَهَّارِ، وَالْمُنْتَقِمِ، وَالْعَدْلِ، وَالضَّارِّ، وَشَدِيدِ الْعِقَابِ، وَسَرِيعِ الْحِسَابِ، وَذِي الْبَطْشِ الشَّدِيدِ، وَالْخَافِضِ، وَالْمُذِلِّ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَالْأَفْعَالَ كَمَالٌ. فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مُتَعَلِّقِهَا. وَلَوْ كَانَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى طَبِيعَةِ الْمَلَكِ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ. وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَائِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِحِلْمِهِ وَعَفْوِهِ، وَمَغْفِرَتِهِ وَسِتْرِهِ، وَتَجَاوُزِهِ عَنْ حَقِّهِ، وَعِتْقِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِهِ. فَلَوْلَا خَلْقُ مَا يَكْرَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى ظُهُورِ آثَارِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْحِكَمُ وَالْفَوَائِدُ. وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ. فَيَغْفِرُ لَهُمْ» . وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَاءِ الْحِكْمَةِ وَالْخِبْرَةِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا. وَيُنْزِلُهَا مَنَازِلَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا. فَلَا يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَلَا يُنْزِلُهُ غَيْرَ مَنْزِلِهِ، الَّتِي يَقْتَضِيهَا كَمَالُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتُهُ وَخِبْرَتُهُ. فَلَا يَضَعُ الْحِرْمَانَ وَالْمَنْعَ مَوْضِعَ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ. وَلَا الْفَضْلَ وَالْعَطَاءَ مَوْضِعَ الْحِرْمَانِ وَالْمَنْعِ. وَلَا الثَّوَابَ مَوْضِعَ الْعِقَابِ، وَلَا الْعِقَابَ مَوْضِعَ الثَّوَابِ، وَلَا الْخَفْضَ مَوْضِعَ الرَّفْعِ، وَلَا الرَّفْعَ مَوْضِعَ الْخَفْضِ، وَلَا الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ، وَلَا الذُّلَّ مَكَانَ الْعِزِّ، وَلَا يَأْمُرُ بِمَا يَنْبَغِي النَّهْيُ عَنْهُ، وَلَا يَنْهَى عَمَّا يَنْبَغِي الْأَمْرُ بِهِ. فَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. وَأَعْلَمُ بِمَنْ يَصْلُحُ لِقَبُولِهَا. وَيَشْكُرُهُ عَلَى انْتِهَائِهَا إِلَيْهِ وَوُصُولِهَا. وَأَعْلَمُ بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَلَا يَسْتَأْهِلُهُ. وَأَحْكَمُ مِنْ أَنْ يَمْنَعَهَا أَهْلَهَا. وَأَنْ يَضَعَهَا عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهَا. فَلَوْ قُدِّرَ عَدَمُ الْأَسْبَابِ الْمَكْرُوهَةِ الْبَغِيضَةِ لَهُ لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْآثَارُ. وَلَمْ تَظْهَرْ لِخَلْقِهِ. وَلَفَاتَتِ الْحِكَمُ وَالْمَصَالِحُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهَا. وَفَوَاتُهَا شَرٌّ مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ. فَلَوْ عُطِّلَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ - لِمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ - لَتَعَطَّلَ الْخَيْرُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الشَّرِّ الَّذِي فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ. وَهَذَا كَالشَّمْسِ وَالْمَطَرِ وَالرِّيَاحِ الَّتِي فِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ مَا هُوَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يَحْصُلُ بِهَا مِنَ الشَّرِّ وَالضَّرَرِ. فَلَوْ قُدِّرَ تَعْطِيلُهَا - لِئَلَّا يَحْصُلَ مِنْهَا ذَلِكَ الشَّرُّ الْجُزْئِيُّ - لَتَعَطَّلَ مِنَ الْخَيْرِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الشَّرِّ بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ.

فَصْلٌ وَمِنْهَا: حُصُولُ الْعُبُودِيَّةِ الْمُتَنَوِّعَةِ الَّتِي لَوْلَا خَلْقُ إِبْلِيسَ لَمَا حَصَلَتْ. وَلَكَانَ الْحَاصِلُ بَعْضَهَا، لَا كُلَّهَا. فَإِنَّ عُبُودِيَّةَ الْجِهَادِ مِنْ أَحَبِّ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَلَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُؤْمِنِينَ لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةُ وَتَوَابِعُهَا: مِنَ الْمُوَالَاةِ فِيهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ، وَالْحُبِّ فِيهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ. وَبَذْلِ النَّفْسِ لَهُ فِي مُحَارَبَةِ عَدُوِّهِ، وَعُبُودِيَّةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعُبُودِيَّةُ الصَّبْرِ وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى، وَإِيثَارُ مَحَابِّ الرَّبِّ عَلَى مَحَابِّ النَّفْسِ. وَمِنْهَا: عُبُودِيَّةُ التَّوْبَةِ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَاسْتِغْفَارُهُ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ. وَيُحِبُّ تَوْبَتَهُمْ. فَلَوْ عُطِّلَتِ الْأَسْبَابُ الَّتِي يُتَابُ مِنْهَا لَتَعَطَّلَتْ عُبُودِيَّةُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهَا. وَمِنْهَا: عُبُودِيَّةُ مُخَالَفَةِ عَدُوِّهِ، وَمُرَاغَمَتِهِ فِي اللَّهِ، وَإِغَاظَتِهِ فِيهِ. وَهِيَ مِنْ أَحَبِّ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَيْهِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مِنْ وَلِيِّهِ أَنْ يَغِيظَ عَدُوَّهُ وَيُرَاغِمَهُ وَيَسُوءَهُ. وَهَذِهِ عُبُودِيَّةٌ لَا يَتَفَطَّنُ لَهَا إِلَّا الْأَكْيَاسُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَتَعَبَّدَ لَهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَسُؤَالِهِ أَنْ يُجِيرَهُ مِنْهُ، وَيَعْصِمَهُ مِنْ كَيْدِهِ وَأَذَاهُ. وَمِنْهَا: أَنَّ عَبِيدَهُ يَشْتَدُّ خَوْفُهُمْ وَحَذَرُهُمْ إِذَا رَأَوْا مَا حَلَّ بِعَدُوِّهِ بِمُخَالَفَتِهِ، وَسُقُوطِهِ مِنَ الْمَرْتَبَةِ الْمَلَكِيَّةِ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ. فَلَا يَخْلُدُونَ إِلَى غُرُورِ الْأَمَلِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ يَنَالُونَ ثَوَابَ مُخَالَفَتِهِ وَمُعَادَاتِهِ، الَّذِي حُصُولُهُ مَشْرُوطٌ بِالْمُعَادَاةِ وَالْمُخَالَفَةِ. فَأَكْثَرُ عِبَادَاتِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى مُخَالَفَتِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ نَفْسَ اتِّخَاذِهِ عَدُوًّا مِنْ أَكْبَرِ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ وَأَجَلِّهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] . فَاتِّخَاذُهُ عَدُوًّا أَنْفَعُ شَيْءٍ لِلْعَبْدِ. وَهُوَ مَحْبُوبٌ لِلرَّبِّ. وَمِنْهَا: أَنَّ الطَّبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ. وَذَلِكَ كَامِنٌ فِيهَا كُمُونَ النَّارِ فِي الزِّنَادِ. فَخُلِقَ الشَّيْطَانُ مُسْتَخْرِجًا لِمَا فِي طَبَائِعِ أَهْلِ الشَّرِّ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ. وَأُرْسِلَتِ الرُّسُلُ تَسْتَخْرِجُ مَا فِي طَبِيعَةِ أَهْلِ الْخَيْرِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ. فَاسْتَخْرَجَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ مَا فِي قُوَى هَؤُلَاءِ مِنَ الْخَيْرِ الْكَامِنِ فِيهَا، لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ آثَارُهُ،

وَمَا فِي قُوَى أُولَئِكَ مِنَ الشَّرِّ، لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ آثَارُهُ، وَتَظْهَرَ حِكْمَتُهُ فِي الْفَرِيقَيْنِ. وَيَنْفُذَ حُكْمُهُ فِيهِمَا. وَيَظْهَرَ مَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُ مُطَابِقًا لِعِلْمِهِ السَّابِقِ. وَهَذَا هُوَ السُّؤَالُ الَّذِي سَأَلَتْهُ مَلَائِكَتُهُ حِينَ قَالُوا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] . فَظَنَّتِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّ وُجُودَ مَنْ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَيُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ أَوْلَى مِنْ وُجُودِ مَنْ يَعْصِيهِ وَيُخَالِفُهُ. فَأَجَابَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ فِي خَلْقِ هَذَا النَّوْعِ مَا لَا تَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ. وَمِنْهَا: أَنَّ ظُهُورَ كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِهِ وَعَجَائِبِ صُنْعِهِ: حَصَلَ بِسَبَبِ وُقُوعِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ مِنَ النُّفُوسِ الْكَافِرَةِ الظَّالِمَةِ، كَآيَةِ الطُّوفَانِ، وَآيَةِ الرِّيحِ، وَآيَةِ إِهْلَاكِ ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ، وَآيَةِ انْقِلَابِ النَّارِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَالْآيَاتِ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدِ مُوسَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ الَّتِي يَقُولُ سُبْحَانَهُ عُقَيْبَ ذِكْرِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 8] . فَلَوْلَا كُفْرُ الْكَافِرِينَ. وَعِنَادُ الْجَاحِدِينَ، لَمَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْبَاهِرَةُ، الَّتِي يَتَحَدَّثُ بِهَا النَّاسُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ إِلَى الْأَبَدِ. وَمِنْهَا: أَنَّ خَلْقَ الْأَسْبَابِ الْمُتَقَابِلَةِ الَّتِي يَقْهَرُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَكْسِرُ بَعْضُهَا بَعْضًا: هُوَ مِنْ شَأْنِ كَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْقُدْرَةِ النَّافِذَةِ، وَالْحِكْمَةِ التَّامَّةِ، وَالْمُلْكِ الْكَامِلِ - وَإِنْ كَانَ شَأْنُ الرُّبُوبِيَّةِ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ، وَلَوْ لَمْ تُخْلَقْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ - لَكِنَّ خَلْقَهَا مِنْ لَوَازِمِ كَمَالِهِ وَمُلْكِهِ، وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَظُهُورُ تَأْثِيرِهَا وَأَحْكَامِهَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ: تَحْقِيقٌ لِذَلِكَ الْكَمَالِ، وَمُوجِبٌ مِنْ مُوجِبَاتِهِ. فَتَعْمِيرُ مَرَاتِبِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ بِأَحْكَامِ الصِّفَاتِ مِنْ آثَارِ الْكَمَالِ الْإِلَهِيِّ الْمُطْلَقِ بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ وَأَقْسَامِهِ وَغَايَاتِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْعُبُودِيَّةُ وَالْآيَاتُ وَالْعَجَائِبُ الَّتِي تَرَتَّبَتْ عَلَى خَلْقِ مَا لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ وَتَقْدِيرُهُ وَمَشِيئَتُهُ: أَحَبُّ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ فَوَاتِهَا وَتَعْطِيلِهَا بِتَعْطِيلِ أَسْبَابِهَا. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلْ كَانَ يُمْكِنُ وُجُودُ تِلْكَ الْحِكَمِ بِدُونِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ؟ قُلْتُ: هَذَا سُؤَالٌ بَاطِلٌ. إِذْ هُوَ فَرْضُ وُجُودِ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ. كَفَرْضِ وُجُودِ الِابْنِ بِدُونِ الْأَبِ، وَالْحَرَكَةِ بِدُونِ الْمُتَحَرِّكِ، وَالتَّوْبَةِ بِدُونِ التَّائِبِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ مُرَادَةً، لِمَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الْحِكَمِ، فَهَلْ تَكُونُ

مَرَضِيَّةً مَحْبُوبَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، أَمْ هِيَ مَسْخُوطَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ؟ قُلْتُ: هَذَا السُّؤَالُ يُورَدُ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَهَلْ يَكُونُ مُحِبًّا لَهَا مِنْ جِهَةِ إِفْضَائِهَا إِلَى مَحْبُوبِهِ، وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهَا لِذَاتِهَا؟ الثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ. وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُسَوَّغُ لَهُ الرِّضَا بِهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ أَيْضًا؟ فَهَذَا سُؤَالٌ لَهُ شَأْنٌ. فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرَّ كُلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْعَدَمِ - أَعْنِي عَدَمَ الْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ - وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ شَرٌّ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ وُجُودِهِ الْمَحْضِ فَلَا شَرَّ فِيهِ. مِثَالُهُ: أَنَّ النُّفُوسَ الشِّرِّيرَةَ وُجُودُهَا خَيْرٌ، مِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ. وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهَا الشَّرُّ بِقَطْعِ مَادَّةِ الْخَيْرِ عَنْهَا. فَإِنَّهَا خُلِقَتْ فِي الْأَصْلِ مُتَحَرِّكَةً لَا تَسْكُنُ. فَإِنْ أُعِينَتْ بِالْعِلْمِ وَإِلْهَامِ الْخَيْرِ تَحَرَّكَتْ. وَإِنْ تُرِكَتْ تَحَرَّكَتْ بِطَبْعِهَا إِلَى خِلَافِهِ، وَحَرَكَتُهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرَكَةُ خَيْرٍ. وَإِنَّمَا تَكُونُ شَرًّا بِالْإِضَافَةِ، لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرَكَةٌ. وَالشَّرُّ كُلُّهُ ظُلْمٌ. وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَلَوْ وُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ لَمْ يَكُنْ شَرًّا. فَعُلِمَ أَنَّ جِهَةَ الشَّرِّ فِيهِ: نِسْبَةٌ إِضَافِيَّةٌ. وَلِهَذَا كَانَتِ الْعُقُوبَاتُ الْمَوْضُوعَاتُ فِي مَحَالِّهَا خَيْرًا فِي نَفْسِهَا. وَإِنْ كَانَتْ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي حَلَّتْ بِهِ، لِمَا أَحْدَثَتْ فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ الَّذِي كَانَتِ الطَّبِيعَةُ قَابِلَةً لِضِدِّهِ مِنَ اللَّذَّةِ، مُسْتَعِدَّةً لَهُ. فَصَارَ ذَلِكَ الْأَلَمُ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا. وَهُوَ خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاعِلِ، حَيْثُ وَضَعَهُ مَوْضِعَهُ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَخْلُقُ شَرًّا مَحْضًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالِاعْتِبَارَاتِ، فَإِنَّ حِكْمَتَهُ تَأْبَى ذَلِكَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ شَرًّا وَمَفْسَدَةً بِبَعْضِ الِاعْتِبَارَاتِ، وَفِي خَلْقِهِ مَصَالِحُ وَحِكَمٌ بِاعْتِبَارَاتٍ أُخَرَ، أَرْجَحَ مِنِ اعْتِبَارَاتِ مَفَاسِدِهِ. بَلِ الْوَاقِعُ مُنْحَصِرٌ فِي ذَلِكَ. فَلَا يُمْكِنُ فِي جَنَابِ الْحَقِّ - جَلَّ جَلَالُهُ - أَنْ يُرِيدَ شَيْئًا يَكُونُ فَسَادًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ. لَا مَصْلَحَةَ فِي خَلْقِهِ بِوَجْهٍ مَا. هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْمُحَالِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ. بَلْ كُلُّ مَا إِلَيْهِ فَخَيْرٌ. وَالشَّرُّ إِنَّمَا حَصَلَ لِعَدَمِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وَالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. فَلَوْ كَانَ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ شَرًّا. فَتَأَمَّلْهُ. فَانْقِطَاعُ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي صَيَّرَهُ شَرًّا. فَإِنْ قُلْتَ: لَمْ تَنْقَطِعْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ خَلْقًا وَمَشِيئَةً؟ قُلْتُ: هُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَيْسَ بِشَرٍّ. فَإِنَّ وُجُودَهُ هُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ. وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَيْسَ بِشَرٍّ. وَالشَّرُّ الَّذِي فِيهِ: مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ بِالْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ، وَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، حَتَّى يُنْسَبَ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ.

فَإِنْ أَرَدْتَ مَزِيدَ إِيضَاحٍ لِذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الْخَيْرِ ثَلَاثَةٌ: الْإِيجَادُ، وَالْإِعْدَادُ، وَالْإِمْدَادُ. فَهَذِهِ هِيَ الْخَيْرَاتُ وَأَسْبَابُهَا. فَإِيجَادُ السَّبَبِ خَيْرٌ. وَهُوَ إِلَى اللَّهِ. وَإِعْدَادُهُ خَيْرٌ. وَهُوَ إِلَيْهِ أَيْضًا. وَإِمْدَادُهُ خَيْرٌ. وَهُوَ إِلَيْهِ أَيْضًا. فَإِذَا لَمْ يَحْدُثْ فِيهِ إِعْدَادٌ وَلَا إِمْدَادٌ حَصَلَ فِيهِ الشَّرُّ بِسَبَبِ هَذَا الْعَدَمِ الَّذِي لَيْسَ إِلَى الْفَاعِلِ. وَإِنَّمَا إِلَيْهِ ضِدُّهُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَمَدَّهُ إِذْ أَوْجَدَهُ؟ قُلْتُ: مَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُ وَإِمْدَادَهُ. فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يُوجِدُ وَيُمِدُّهُ، وَمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُ وَتَرْكَ إِمْدَادِهِ: أَوْجَدَهُ بِحِكْمَتِهِ وَلَمْ يُمِدَّهُ بِحِكْمَتِهِ. فَإِيجَادُهُ خَيْرٌ. وَالشَّرُّ وَقَعَ مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَمَدَّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا؟ قُلْتُ: فَهَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ، يَظُنُّ مُورِدُهُ أَنْ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ أَبْلَغُ فِي الْحِكْمَةِ. وَهَذَا عَيْنُ الْجَهْلِ، بَلِ الْحِكْمَةُ كُلُّ الْحِكْمَةِ فِي هَذَا التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ الْوَاقِعِ بَيْنَهَا. وَلَيْسَ فِي خَلْقِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا تَفَاوُتٌ. فَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا لَيْسَ فِي خَلْقِهِ مِنْ تَفَاوُتٍ. وَالتَّفَاوُتُ إِنَّمَا وَقَعَ بِأُمُورٍ عَدْمِيَّةٍ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْخَلْقُ. وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْخَلْقِ مِنْ تَفَاوُتٍ. فَإِنِ اعْتَاصَ ذَلِكَ عَلَيْكَ، وَلَمْ تَفْهَمْهُ حَقَّ الْفَهْمِ. فَرَاجِعْ قَوْلَ الْقَائِلِ: إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ ... وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ كَمَا ذُكِرَ: أَنَّ الْأَصْمَعِيَّ اجْتَمَعَ بِالْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ. وَحَرَصَ عَلَى فَهْمِ الْعَرُوضِ مِنْهُ: فَأَعْيَاهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْخَلِيلُ يَوْمًا: قَطِّعْ لِي هَذَا الْبَيْتَ. وَأَنْشَدَهُ إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا - الْبَيْتَ فَفَهِمَ مَا أَرَادَ. فَأَمْسَكَ عَنْهُ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ. وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ الرِّضَا بِاللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الرِّضَا بِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ وَأَحْكَامِهِ. وَلَا يَسْتَلْزِمُ الرِّضَا بِمَفْعُولَاتِهِ كُلِّهَا. بَلْ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ: أَنْ يُوَافِقَهُ عَبْدُهُ فِي رِضَاهُ وَسَخَطِهِ. فَيَرْضَى مِنْهَا بِمَا يَرْضَى بِهِ. وَيَسْخَطُ مِنْهَا مَا سَخِطَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ سُبْحَانُهُ يَرْضَى عُقُوبَةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ. فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْعَبْدَ أَنْ يَرْضَى بِعُقُوبَتِهِ لَهُ؟ قِيلَ: لَوْ وَافَقَهُ فِي رِضَاهُ بِعُقُوبَتِهِ لَانْقَلَبَتْ لَذَّةً وَسُرُورًا. وَلَكِنْ لَا يَقَعُ مِنْهُ ذَلِكَ.

فَإِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْهُ فِي مَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ، الَّتِي هِيَ سُرُورُ النَّفْسِ، وَقُرَّةُ الْعَيْنِ، وَحَيَاةُ الْقَلْبِ. فَكَيْفَ يُوَافِقُهُ فِي مَحَبَّتِهِ لِلْعُقُوبَةِ، الَّتِي هِيَ أَكْرَهُ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَأَشَقُّ شَيْءٍ عَلَيْهِ؟ بَلْ كَانَ كَارِهًا لِمَا يُحِبُّهُ مِنْ طَاعَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ. فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ. وَلَوْ قَبِلَ ذَلِكَ لَارْتَفَعَتْ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ الَّذِي يَكْرَهُهُ الْعَبْدُ - مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالْأَلَمِ - مَعَ كَرَاهَتِهِ؟ قُلْتُ: لَا تَنَافِيَ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّهُ يَرْضَى بِهِ مِنْ جِهَةِ إِفْضَائِهِ إِلَى مَا يُحِبُّ. وَيَكْرَهُهُ مِنْ جِهَةِ تَأَلُّمِهِ بِهِ، كَالدَّوَاءِ الْكَرِيهِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ شِفَاءَهُ. فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ رِضَاهُ بِهِ، وَكَرَاهَتُهُ لَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَرْضَى لِعَبْدِهِ شَيْئًا، وَلَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ إِعَانَتَهُ عَلَيْهِ قَدْ تَسْتَلْزِمُ فَوَاتَ مَحْبُوبٍ لَهُ أَعْظَمَ مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الطَّاعَةِ الَّتِي رَضِيَهَا لَهُ. وَقَدْ يَكُونُ وُقُوعُ تِلْكَ الطَّاعَةِ مِنْهُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً هِيَ أَكْرَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِتِلْكَ الطَّاعَةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ وُقُوعُهَا مِنْهُ مُسْتَلْزِمًا لِمَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، وَمُفَوِّتًا لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ - لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 46 - 47] . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُ كَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْغَزْوِ. وَهُوَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ، وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِهِ، فَلَمَّا كَرِهَهُ مِنْهُمْ ثَبَّطَهُمْ عَنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي كَانَتْ سَتَتَرَتَّبُ عَلَى خُرُوجِهِمْ لَوْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47] أَيْ فَسَادًا وَشَرًّا {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} [التوبة: 47] أَيْ سَعَوْا فِيمَا بَيْنَكُمْ بِالْفَسَادِ وَالشَّرِّ. {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] . أَيْ قَابِلُونِ مِنْهُمْ مُسْتَجِيبُونَ لَهُمْ. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ سَعْيِ هَؤُلَاءِ بِالْفَسَادِ وَقَبُولِ أُولَئِكَ مِنْهُمْ مَنِ الشَّرِّ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ خُرُوجِهِمْ. فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ: أَنْ مَنَعَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ، وَأَقْعَدَهُمْ عَنْهُ. فَاجْعَلْ هَذَا الْمِثَالَ أَصْلًا لِهَذَا الْبَابِ. وَقِسْ عَلَيْهِ. فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ يُتَصَوَّرُ لِي هَذَا فِي رِضَا الرَّبِّ تَعَالَى لِبَعْضِ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ وَجْهٍ وَكَرَاهَتِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَكَيْفَ لِي بِأَنْ يَجْتَمِعَ الْأَمْرَانِ فِي حَقِّي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعَاصِي وَالْفُسُوقِ؟

قُلْتُ: هُوَ مُتَصَوَّرٌ مُمْكِنٌ، بَلْ وَاقِعٌ. فَإِنَّ الْعَبْدَ يَسْخَطُ ذَلِكَ وَيُبْغِضُهُ، وَيَكْرَهُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فُعِلَ لَهُ بِسَبَبِهِ وَوَاقِعٌ بِكَسْبِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ. وَيَرْضَى بِعِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَإِذْنِهِ الْكَوْنِيِّ فِيهِ. فَيَرْضَى بِمَا مَنَّ اللَّهُ، وَيَسْخَطُ مَا هُوَ مِنْهُ، فَهَذَا مَسْلَكُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ. وَطَائِفَةٌ أُخْرَى رَأَوْا كَرَاهَةَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَعَدَمَ الرِّضَا بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُخَالِفُونَ أُولَئِكَ. فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَرِهَهَا مُطْلَقًا، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ إِنَّمَا تَقَعُ عَلَى الِاعْتِبَارِ الْمَكْرُوهِ مِنْهَا. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكْرَهُوا عِلْمَ الرَّبِّ وَكِتَابَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ، وَإِلْزَامَهُ حُكْمَهُ الْكَوْنِيَّ، وَأُولَئِكَ لَمْ يَرْضَوْا بِهَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي سَخِطَهَا الرَّبُّ وَأَبْغَضَهَا لِأَجْلِهِ. وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الَّذِي إِلَى الرَّبِّ مِنْهَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ. وَالَّذِي إِلَى الْعَبْدِ مِنْهَا هُوَ الْمَكْرُوهُ وَالْمَسْخُوطُ. فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ إِلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْهَا؟ قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْجَبْرُ الْبَاطِلُ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ صَاحِبَهُ التَّخَلُّصُ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ الضَّيِّقِ. وَالْقَدَرِيُّ أَقْرَبُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ مِنَ الْجَبْرِيِّ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْمُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ: هُمْ أَسْعَدُ بِالتَّخَلُّصِ مِنْهُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَتَأَتَّى النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ، مَعَ شُهُودِ الْحِكْمَةِ فِي التَّقْدِيرِ، وَمَعَ شُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ وَالْمَشِيئَةِ النَّافِذَةِ؟ قُلْتُ: هَذَا الَّذِي أَوْقَعَ مَنْ عَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ فِي شُهُودِ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ. فَرَأَى تِلْكَ الْأَفْعَالَ طَاعَاتٍ، لِمُوَافَقَتِهِ فِيهَا الْمَشِيئَةَ وَالْقَدَرَ. وَقَالَ: إِنْ عَصَيْتُ أَمْرَهُ. فَقَدْ أَطَعْتُ إِرَادَتَهُ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ: أَصْبَحْتُ مُنْفَعِلًا لِمَا تَخْتَارُهُ ... مِنِّي، فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتٌ وَهَؤُلَاءِ أَعْمَى الْخَلْقِ بَصَائِرَ، وَأَجْهَلُهُمْ بِاللَّهِ وَأَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ. فَإِنَّ الطَّاعَةَ هِيَ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ. لَا مُوَافَقَةُ الْقَدَرِ وَالْمَشِيئَةِ. وَلَوْ كَانَتْ مُوَافَقَةُ الْقَدَرِ طَاعَةً لِلَّهِ لَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُطِيعِينَ لِلَّهِ. وَكَانَ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَقَوْمُ لُوطٍ، وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ كُلُّهُمْ مُطِيعِينَ لَهُ. فَيَكُونُ قَدْ عَذَّبَهُمْ أَشَدَّ الْعَذَابِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ لِأَجْلِهَا. وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: وَمَعَ ذَلِكَ، فَاجْمَعْ لِي بَيْنَ النَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ. وَبَيْنَ مَشْهَدِ الْقَيُّومِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ؟

قُلْتُ: الْعَبْدُ إِذَا شَهِدَ عَجْزَ نَفْسِهِ، وَنُفُوذَ الْأَقْدَارِ فِيهِ، وَكَمَالَ فَقْرِهِ إِلَى رَبِّهِ، وَعَدَمَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ عِصْمَتِهِ وَحِفْظِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ - كَانَ بِاللَّهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لَا بِنَفْسِهِ فَوُقُوعُ الذَّنْبِ مِنْهُ لَا يَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْحَالِ أَلْبَتَّةَ. فَإِنَّ عَلَيْهِ حِصْنًا حَصِينًا مِنْ: فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ. وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي. فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الذَّنْبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ. فَإِذَا حُجِبَ عَنْ هَذَا الْمَشْهَدِ، وَسَقَطَ إِلَى وُجُودِهِ الطَّبِيعِيِّ، وَبَقِيَ بِنَفْسِهِ: اسْتَوْلَى عَلَيْهِ حُكْمُ النَّفْسِ وَالطَّبْعُ وَالْهَوَى. وَهَذَا الْوُجُودُ الطَّبِيعِيُّ قَدْ نُصِبَتْ فِيهِ الشِّبَاكُ وَالْأَشْرَاكُ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِ الصَّيَّادُونَ. فَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِي شَبَكَةٍ مِنْ تِلْكَ الشِّبَاكِ، وَشَرَكٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْرَاكِ. وَهَذَا الْوُجُودُ هُوَ حِجَابٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ الْحِجَابُ. وَيَقْوَى الْمُقْتَضَى، وَيَضْعُفُ الْمَانِعُ. وَتَشْتَدُّ الظُّلْمَةُ، وَتَضْعُفُ الْقُوَى، فَأَنَّى لَهُ بِالْخَلَاصِ مِنْ تِلْكَ الْأَشْرَاكِ وَالشِّبَّاكِ؟ فَإِذَا انْقَشَعَ ضَبَابُ ذَلِكَ الْوُجُودِ الطَّبِيعِيِّ، وَانْجَابَ ظَلَامُهُ، وَزَالَ قَتَامُهُ، وَصِرْتَ بِرَبِّكَ ذَاهِبًا عَنْ نَفْسِكَ وَطَبْعِكَ. بَدَا لَكَ سِرٌّ طَالَ عَنْكَ اكْتِتَامُهُ ... وَلَاحَ صَبَاحٌ كُنْتَ أَنْتَ ظَلَامَهُ فَإِنْ غِبْتَ عَنْهُ حَلَّ فِيهِ، وَطَنَبَّتْ ... عَلَى مِنْكَبِ الْكَشْفِ الْمَصُونِ خِيَامُهُ فَأَنْتَ حِجَابُ الْقَلْبِ عَنْ سِرِّ غَيْبِهِ ... وَلَوْلَاكَ لَمْ يُطْبَعْ عَلَيْهِ خِتَامُهُ وَجَاءَ حَدِيثٌ لَا يُمَلُّ سَمَاعُهُ ... شَهِيٌّ إِلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ إِذَا ذَكَرَتْهُ النَّفْسُ زَالَ عَنَاؤُهَا ... وَزَالَ عَنِ الْقَلْبِ الْمُعَنَّى قَتَامُهُ فَهُنَالِكَ يَحْضُرُهُ النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ. فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْمَعْصِيَةِ بِنَفْسِهِ، مَحْجُوبًا فِيهَا عَنْ رَبِّهِ، وَعَنْ طَاعَتِهِ. فَلَمَّا فَارَقَ ذَلِكَ الْوُجُودَ، وَصَارَ فِي وُجُودٍ آخَرَ: بَقِيَ بِرَبِّهِ لَا بِنَفْسِهِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَالتَّوْبَةُ وَالنَّدَمُ يَكُونَانِ فِي هَذَا الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ فِيهِ بِرَبِّهِ. وَذَلِكَ لَا يُنَافِي مَشْهَدَ الْحِكْمَةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ، بَلْ يُجَامِعُهُ وَيَسْتَمِدُّ مِنْهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ: وَيَصِحُّ بِثَلَاثَةِ شَرَائِطَ: بِاسْتِوَاءِ الْحَالَاتِ عِنْدَ الْعَبْدِ. وَسُقُوطِ الْخُصُومَةِ مَعَ الْخَلْقِ، وَالْخَلَاصِ مِنَ الْمَسْأَلَةِ وَالْإِلْحَاحِ. يَعْنِي: أَنَّ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ. فَإِنَّ الرِّضَا الْمُوَافِقَ

تَسْتَوِي عِنْدَهُ الْحَالَاتُ - مِنَ النِّعْمَةِ وَالْبَلِيَّةِ - فِي رِضَاهُ بِحُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادَ اسْتِوَاؤُهَا عِنْدَهُ فِي مُلَاءَمَتِهِ وَمُنَافَرَتِهِ. فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ، بَلْ خِلَافُ الطَّبْعِ الْحَيَوَانِيِّ. وَلَيْسَ الْمُرَادَ أَيْضًا اسْتِوَاءُ الْحَالَاتِ عِنْدَهُ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. فَإِنَّ هَذَا مُنَافٍ لِلْعُبُودِيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَإِنَّمَا تَسْتَوِي النِّعْمَةُ وَالْبَلِيَّةُ عِنْدَهُ فِي الرِّضَا بِهِمَا لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُفَوَّضٌ. وَالْمُفَوَّضُ رَاضٍ بِكُلِّ مَا اخْتَارَهُ لَهُ مَنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ. وَلَا سِيَّمَا إِذَا عَلِمَ كَمَالَ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلُطْفِهِ وَحُسْنِ اخْتِيَارِهِ لَهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ جَازِمٌ بِأَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وَلَا رَادَّ لِحُكْمِهِ. وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْبَلِيَّةِ وَالنِّعْمَةِ بِقَضَاءٍ سَابِقٍ، وَقَدَرٍ حَتْمٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَبْدٌ مَحْضٌ. وَالْعَبْدُ الْمَحْضُ لَا يَسْخَطُ جَرَيَانَ أَحْكَامِ سَيِّدِهِ الْمُشْفِقِ الْبَارِّ النَّاصِحِ الْمُحْسِنِ. بَلْ يَتَلَقَّاهَا كُلَّهَا بِالرِّضَا بِهِ وَعَنْهُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُحِبٌّ. وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ: مَنْ رَضِيَ بِمَا يُعَامِلُهُ بِهِ حَبِيبُهُ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ جَاهِلٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ. وَسَيِّدُهُ أَعْلَمُ بِمَصْلَحَتِهِ وَبِمَا يَنْفَعُهُ. السَّادِسُ: أَنَّهُ لَا يُرِيدُ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَوْ عَرَفَ أَسْبَابَهَا. فَهُوَ جَاهِلٌ ظَالِمٌ. وَرَبُّهُ تَعَالَى يُرِيدُ مَصْلَحَتَهُ، وَيَسُوقُ إِلَيْهِ أَسْبَابَهَا. وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهَا: مَا يَكْرَهُهُ الْعَبْدُ، فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُ فِيمَا يَكْرَهُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَصْلَحَتِهِ فِيمَا يُحِبُّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] . السَّابِعُ: أَنَّهُ مُسْلِمٌ. وَالْمُسْلِمُ مَنْ قَدْ سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ. وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ فِي جَرَيَانِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَسْخَطْ ذَلِكَ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ عَارِفٌ بِرَبِّهِ. حَسَنُ الظَّنِّ بِهِ. لَا يَتَّهِمُهُ فِيمَا يُجْرِيهِ عَلَيْهِ مِنْ أَقَضَيْتِهِ وَأَقْدَارِهِ. فَحُسْنُ ظَنِّهِ بِهِ يُوجِبُ لَهُ اسْتِوَاءَ الْحَالَاتِ عِنْدَهُ، وَرِضَاهُ بِمَا يَخْتَارُهُ لَهُ سَيِّدُهُ سُبْحَانَهُ.

التَّاسِعُ: أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ حَظَّهُ مِنَ الْمَقْدُورِ مَا يَتَلَقَّاهُ بِهِ مِنْ رِضًا وَسَخَطٍ. فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. فَإِنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَإِنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ. الْعَاشِرُ: عِلْمُهُ بِأَنَّهُ إِذَا رَضِيَ انْقَلَبَ فِي حَقِّهِ نِعْمَةً وَمِنْحَةً، وَخَفَّ عَلَيْهِ حَمْلُهُ، وَأُعِينَ عَلَيْهِ. وَإِذَا سَخِطَهُ تَضَاعَفَ عَلَيْهِ ثِقَلُهُ وَكَلَّهُ، وَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا شِدَّةً. فَلَوْ أَنَّ السُّخْطَ يُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا لَكَانَ لَهُ فِيهِ رَاحَةٌ أَنْفَعُ لَهُ مِنَ الرِّضَا بِهِ. وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ: إِيمَانُهُ بِأَنَّ قَضَاءَ الرَّبِّ تَعَالَى خَيْرٌ لَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ. إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ. فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ» . الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ تَمَامَ عُبُودِيَّتِهِ فِي جَرَيَانِ مَا يَكْرَهُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ. وَلَوْ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِنْهَا إِلَّا مَا يُحِبُّ لَكَانَ أَبْعَدَ شَيْءٍ عَنْ عُبُودِيَّةِ رَبِّهِ. فَلَا تَتِمُّ لَهُ عُبُودِيَّتُهُ - مِنَ الصَّبْرِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالرِّضَا، وَالتَّضَرُّعِ، وَالِافْتِقَارِ، وَالذُّلِّ، وَالْخُضُوعِ، وَغَيْرِهَا - إِلَّا بِجَرَيَانِ الْقَدَرِ لَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ. وَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْمُلَازِمِ لِلطَّبِيعَةِ. إِنَّمَا الشَّأْنُ فِي الْقَضَاءِ الْمُؤْلِمِ الْمُنَافِرِ لِلطَّبْعِ. الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ رِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ يُثْمِرُ رِضَا رَبِّهِ عَنْهُ، فَإِذَا رَضِيَ عَنْهُ بِالْقَلِيلِ مِنَ الرِّزْقِ: رَضِيَ رَبُّهُ عَنْهُ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْعَمَلِ. وَإِذَا رَضِيَ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ وَاسْتَوَتْ عِنْدَهُ، وَجَدَهُ أَسْرَعَ شَيْءٍ إِلَى رِضَاهُ إِذَا تَرَضَّاهُ وَتَمَلَّقَهُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَعْظَمَ رَاحَتِهِ، وَسُرُورَهُ وَنَعِيمَهُ: فِي الرِّضَا عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ. فَإِنَّ الرِّضَا بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَمُسْتَرَاحُ الْعَارِفِينَ، وَجَنَّةُ الدُّنْيَا. فَجَدِيرٌ بِمَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ أَنْ تَشْتَدَّ رَغْبَتُهُ فِيهِ. وَأَنْ لَا يَسْتَبْدِلَ بِغَيْرِهِ مِنْهُ. الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ السُّخْطَ بَابُ الْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالْحُزْنِ، وَشَتَاتِ الْقَلْبِ، وَكَسْفِ الْبَالِ، وَسُوءِ الْحَالِ، وَالظَّنِّ بِاللَّهِ خِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ. وَالرِّضَا يُخَلِّصُهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَيَفْتَحُ لَهُ بَابَ جَنَّةِ الدُّنْيَا قَبْلَ جَنَّةِ الْآخِرَةِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ الرِّضَا يُوجِبُ لَهُ الطُّمَأْنِينَةَ، وَبَرْدَ الْقَلْبِ، وَسُكُونَهُ وَقَرَارَهُ. وَالسُّخْطَ يُوجِبُ اضْطِرَابَ قَلْبِهِ، وَرَيْبَتَهُ وَانْزِعَاجَهُ، وَعَدَمَ قَرَارِهِ.

السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ الرِّضَا يُنْزِلُ عَلَيْهِ السَّكِينَةَ الَّتِي لَا أَنْفَعَ لَهُ مِنْهَا. وَمَتَى نَزَلَتْ عَلَيْهِ السِّكِّينَةُ: اسْتَقَامَ. وَصَلَحَتْ أَحْوَالُهُ، وَصَلَحَ بَالُهُ. وَالسُّخْطُ يُبْعِدُهُ مِنْهَا بِحَسَبِ قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ. وَإِذَا تَرَحَّلَتْ عَنْهُ السَّكِينَةُ تَرَحَّلَ عَنْهُ السُّرُورُ وَالْأَمْنُ وَالدَّعَةُ وَالرَّاحَةُ، وَطِيبُ الْعَيْشِ. فَمِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ: تَنَزُّلُ السَّكِينَةِ عَلَيْهِ. وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهَا: الرِّضَا عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ. السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الرِّضَا يَفْتَحُ لَهُ بَابَ السَّلَامَةِ. فَيَجْعَلُ قَلْبَهُ سَلِيمًا نَقِيًّا مِنَ الْغِشِّ وَالدَّغَلِ وَالْغِلِّ. وَلَا يَنْجُو مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. كَذَلِكَ وَتَسْتَحِيلُ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مَعَ السُّخْطِ وَعَدَمِ الرِّضَا. وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَشَدَّ رِضًا كَانَ قَلْبُهُ أَسْلَمَ. فَالْخُبْثُ وَالدَّغَلُ وَالْغِشُّ: قَرِينُ السُّخْطِ. وَسَلَامَةُ الْقَلْبِ وَبِرُّهُ وَنُصْحُهُ: قَرِينُ الرِّضَا. وَكَذَلِكَ الْحَسَدُ: هُوَ مِنْ ثَمَرَاتِ السُّخْطِ. وَسَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنْهُ مِنْ ثَمَرَاتِ الرِّضَا. الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنْ السُّخْطَ يُوجِبُ تَلَوُّنَ الْعَبْدِ، وَعَدَمَ ثَبَاتِهِ مَعَ اللَّهِ. فَإِنَّهُ لَا يَرْضَى إِلَّا بِمَا يُلَائِمُ طَبْعَهُ وَنَفْسَهُ. وَالْمَقَادِيرُ تَجْرِي دَائِمًا بِمَا يُلَائِمُهُ وَبِمَا لَا يُلَائِمُهُ. وَكُلَّمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنْهَا مَا لَا يُلَائِمُهُ أَسَخَطَهُ. فَلَا تَثْبُتُ لَهُ قَدَمٌ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ. فَإِذَا رَضِيَ عَنْ رَبِّهِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، اسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ، فَلَا يُزِيلُ التَّلَوُّنَ عَنِ الْعَبْدِ شَيْءٌ مِثْلُ الرِّضَا. التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ السُّخْطَ يَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الشَّكِّ فِي اللَّهِ، وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ. فَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ السَّاخِطُ مِنْ شَكٍّ يُدَاخِلُ قَلْبَهُ وَيَتَغَلْغَلُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَشْعُرُ بِهِ. فَلَوْ فَتَّشَ نَفْسَهُ غَايَةَ التَّفْتِيشِ لَوَجَدَ يَقِينَهُ مَعْلُولًا مَدْخُولًا. فَإِنَّ الرِّضَا وَالْيَقِينَ أَخَوَانِ مُصْطَحَبَانِ. وَالشَّكَّ وَالسُّخْطَ قَرِينَانِ. وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي فِي التِّرْمِذِيَّ - أَوْ غَيْرِهِ «إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ. فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ النَّفْسُ خَيْرًا كَثِيرًا.» . الْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا بِالْمَقْدُورِ مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ، وَسُخْطَهُ مِنْ شَقَاوَتِهِ، كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ: اسْتِخَارَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ: رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ. وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ: سُخْطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ. وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُ اسْتِخَارَةِ اللَّهِ»

فَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ. وَالتَّسَخُّطُ عَلَى الْقَضَاءِ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاوَةِ. الْحَادِيَ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا يُوجِبُ لَهُ أَنْ لَا يَأْسَى عَلَى مَا فَاتَهُ، وَلَا يَفْرَحَ بِمَا آتَاهُ. وَذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الْإِيمَانِ. أَمَّا عَدَمُ أَسَاهُ عَلَى الْفَائِتِ: فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَدَمُ فَرَحِهِ بِمَا آتَاهُ: فَلِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُصِيبَةَ فِيهِ مَكْتُوبَةٌ مِنْ قَبْلِ حُصُولِهِ. فَكَيْفَ يَفْرَحُ بِشَيْءٍ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ فِيهِ مُصِيبَةً مُنْتَظَرَةً وَلَا بُدَّ؟ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ مَنْ مَلَأَ قَلْبَهُ مِنَ الرِّضَا بِالْقَدَرِ: مَلَأَ اللَّهُ صَدْرَهُ غِنًى وَأَمْنًا وَقَنَاعَةً. وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِمَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. وَمَنْ فَاتَهُ حَظُّهُ مِنَ الرِّضَا: امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِضِدِّ ذَلِكَ. وَاشْتَغَلَ عَمَّا فِيهِ سَعَادَتُهُ وَفَلَاحُهُ. فَالرِّضَا يُفَرِّغُ الْقَلْبَ لِلَّهِ، وَالسُّخْطُ يُفَرِّغُ الْقَلْبَ مِنَ اللَّهِ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا يُثْمِرُ الشُّكْرَ، الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ. وَالسُّخْطُ يُثْمِرُ ضِدَّهُ. وَهُوَ كُفْرُ النِّعَمِ. وَرُبَّمَا أَثْمَرَ لَهُ كُفْرَ الْمُنْعِمِ. فَإِذَا رَضِيَ الْعَبْدُ عَنْ رَبِّهِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ: أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ شُكْرَهُ. فَيَكُونُ مِنَ الرَّاضِينَ الشَّاكِرِينَ. وَإِذَا فَاتَهُ الرِّضَا: كَانَ مِنَ السَّاخِطِينَ. وَسَلَكَ سَبِيلَ الْكَافِرِينَ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا يَنْفِي عَنْهُ آفَاتِ الْحِرْصِ وَالْكَلَبِ عَلَى الدُّنْيَا، وَذَلِكَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَأَصْلُ كُلِّ بَلِيَّةٍ. وَأَسَاسُ كُلِّ رَزِيَّةٍ. فَرِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ: يَنْفِي عَنْهُ مَادَّةَ هَذِهِ الْآفَاتِ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يَظْفَرُ بِالْإِنْسَانِ غَالِبًا عِنْدَ السُّخْطِ وَالشَّهْوَةِ. فَهُنَاكَ يَصْطَادُهُ. وَلَا سِيَّمَا إِذَا اسْتَحْكَمَ سُخْطُهُ. فَإِنَّهُ يَقُولُ مَا لَا يُرْضِي الرَّبَّ. وَيَفْعَلُ مَا لَا يُرْضِيهِ. وَيَنْوِي مَا لَا يُرْضِيهِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ «يَحْزَنُ الْقَلْبُ. وَتَدْمَعُ الْعَيْنُ. وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي الرَّبَّ» . فَإِنَّ مَوْتَ الْبَنِينَ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي تُوجِبُ لِلْعَبْدِ السُّخْطَ عَلَى الْقَدَرِ. فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ لَا يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ - الَّذِي يَسْخَطُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ. فَيَتَكَلَّمُونَ بِمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ. وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُرْضِيهِ - إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَلِهَذَا لَمَّا مَاتَ ابْنُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رُؤِيَ فِي الْجِنَازَةِ ضَاحِكًا.

فَقِيلَ لَهُ: أَتَضْحَكُ وَقَدْ مَاتَ ابْنُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَضَى بِقَضَاءٍ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَرْضَى بِقَضَائِهِ. فَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَلَى الْفُضَيْلِ. وَقَالُوا: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ. وَأَخْبَرَ أَنَّ «الْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَالْعَيْنَ تَدْمَعُ» . وَهُوَ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِ الرِّضَا. فَكَيْفَ يُعَدُّ هَذَا مِنْ مَنَاقِبِ الْفُضَيْلِ؟ وَالتَّحْقِيقُ: أَنْ قَلْبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّسَعَ لِتَكْمِيلِ جَمِيعِ الْمَرَاتِبِ، مِنَ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ، وَالْبُكَاءِ رَحْمَةً لِلصَّبِيِّ. فَكَانَ لَهُ مَقَامُ الرِّضَا، وَمَقَامُ الرَّحْمَةِ وَرِقَّةُ الْقَلْبِ. وَالْفُضَيْلُ لَمْ يَتَّسِعْ قَلْبُهُ لِمَقَامِ الرِّضَا وَمَقَامِ الرَّحْمَةِ. فَلَمْ يَجْتَمِعْ لَهُ الْأَمْرَانِ وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ. أَحَدُهَا: مَنِ اجْتَمَعَ لَهُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَرَحْمَةُ الطِّفْلِ. فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ رَحْمَةً وَالْقَلْبُ رَاضٍ. الثَّانِي: مَنْ غَيَّبَهُ الرِّضَا عَنِ الرَّحْمَةِ. فَلَمْ يَتَّسِعْ لِلْأَمْرَيْنِ. بَلْ غَيَّبَهُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ. الثَّالِثُ: مَنْ غَيَّبَتْهُ الرَّحْمَةُ وَالرِّقَّةُ عَنِ الرِّضَا فَلَمْ يَشْهَدْهُ، بَلْ فَنِيَ عَنِ الرِّضَا. الرَّابِعُ: مَنْ لَا رِضَا عِنْدَهُ وَلَا رَحْمَةَ. وَإِنَّمَا يَكُونُ حُزْنُهُ لِفَوَاتِ حَظِّهِ مِنَ الْمَيِّتِ. وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ. فَلَا إِحْسَانَ. وَلَا رِضَا عَنِ الرَّحْمَنِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَالْأَوَّلُ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الرِّضَا. وَالثَّانِي دُونَهُ. وَالثَّالِثُ دُونَ الثَّانِي. وَالرَّابِعُ هُوَ السَّاخِطُ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا هُوَ اخْتِيَارُ مَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لِعَبْدِهِ. وَالسُّخْطَ كَرَاهَةُ مَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُ، وَهَذَا نَوْعُ مُحَادَّةٍ. فَلَا يُتَخَلَّصُ مِنْهُ إِلَّا بِالرِّضَا عَنِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا يُخْرِجُ الْهَوَى مِنَ الْقَلْبِ. فَالرَّاضِي هَوَاهُ تَبَعٌ لِمُرَادِ رَبِّهِ مِنْهُ. أَعْنِي الْمُرَادَ الَّذِي يُحِبُّهُ رَبُّهُ وَيَرْضَاهُ. فَلَا يَجْتَمِعُ الرِّضَا وَاتِّبَاعُ الْهَوَى فِي الْقَلْبِ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِنْ هَذَا وَشُعْبَةٌ مِنْ هَذَا، فَهُوَ لِلْغَالِبِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ يُثْمِرُ لِلْعَبْدِ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ - كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الرِّضَا بِهِ - فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. وَفِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ «أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا يُدْنِي مِنْ رِضَاهُ؟ فَقَالَ: إِنَّ رِضَايَ فِي رِضَاكَ بِقَضَائِي» .

التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ أَشَقُّ شَيْءٍ عَلَى النَّفْسِ. بَلْ هُوَ ذَبْحُهَا فِي الْحَقِيقَةِ. فَإِنَّهُ مُخَالَفَةُ هَوَاهَا وَطَبْعِهَا وَإِرَادَتِهَا. وَلَا تَصِيرُ مُطَمَئِنَّةً قَطُّ حَتَّى تَرْضَى بِالْقَضَاءِ. فَحِينَئِذٍ تَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهَا: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27] . الثَّلَاثُونَ: أَنَّ الرَّاضِيَ مُتَلَقٍّ أَوَامِرَ رَبِّهِ - الدِّينِيَّةَ وَالْقَدَرِيَّةَ - بِالِانْشِرَاحِ وَالتَّسْلِيمِ، وَطِيبِ النَّفْسِ، وَالِاسْتِسْلَامِ. وَالسَّاخِطُ يَتَلَقَّاهَا بِضِدِّ ذَلِكَ إِلَّا مَا وَافَقَ طَبْعَهُ. وَإِرَادَتَهُ مِنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرِّضَا بِذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ لِكَوْنِ اللَّهِ قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ وَأَمَرَ بِهِ. وَإِنَّمَا رَضِيَ بِهِ لِمُوَافَقَتِهِ هَوَاهُ وَطَبْعَهُ. فَهُوَ إِنَّمَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ وَعَنْ نَفْسِهِ. لَا بِرَبِّهِ، وَلَا عَنْ رَبِّهِ. الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ الْمُخَالَفَاتِ كُلَّهَا أَصْلُهَا مِنْ عَدَمِ الرِّضَا. وَالطَّاعَاتِ كُلَّهَا أَصْلُهَا مِنَ الرِّضَا. وَهَذَا إِنَّمَا يَعْرِفُهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ مَنْ عَرَفَ صِفَاتِ نَفْسِهِ، وَمَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي. الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ عَدَمَ الرِّضَا يَفْتَحُ بَابَ الْبِدْعَةِ، وَالرِّضَا يُغْلِقُ عَنْهُ ذَلِكَ الْبَابَ. وَلَوْ تَأَمَّلْتَ بِدَعَ الرَّوَافِضِ، وَالنَّوَاصِبِ، وَالْخَوَارِجِ. لَرَأَيْتَهَا نَاشِئَةً مِنْ عَدَمِ الرِّضَا بِالْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ، أَوِ الدِّينِيِّ، أَوْ كِلَيْهِمَا. الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ الرِّضَا مَعْقِدُ نِظَامِ الدِّينِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ. فَإِنَّ الْقَضَايَا لَا تَخْلُو مِنْ خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ: فَتَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: دِينِيَّةٍ، وَكَوْنِيَّةٍ. وَهِيَ مَأْمُورَاتٌ، وَمَنْهِيَّاتٌ، وَمُبَاحَاتٌ، وَنِعَمٌ مُلَذَّةٌ، وَبَلَايَا مُؤْلِمَةٌ. فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْعَبْدُ الرِّضَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَدْ أَخَذَ بِالْحَظِّ الْوَافِرِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَفَازَ بِالْقِدْحِ الْمُعَلَّى. الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ الرِّضَا يُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ مُخَاصَمَةِ الرَّبِّ تَعَالَى فِي أَحْكَامِهِ وَأَقْضِيَتِهِ. فَإِنَّ السُّخْطَ عَلَيْهِ مُخَاصَمَةٌ لَهُ فِيمَا لَمْ يَرْضَ بِهِ الْعَبْدُ. وَأَصْلُ مُخَاصَمَةِ إِبْلِيسَ لِرَبِّهِ: مِنْ عَدَمِ رِضَاهُ بِأَقْضِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ. فَلَوْ رَضِيَ لَمْ يُمْسَخْ مِنَ الْحَقِيقَةِ الْمَلَكِيَّةِ إِلَى الْحَقِيقَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْإِبْلِيسِيَّةِ. الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْكَوْنِ أَوْجَبَتْهُ مَشِيئَةُ اللَّهِ، وَحِكْمَتُهُ، وَمُلْكُهُ.

فَهُوَ مُوجِبُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. فَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِمَا رَضِيَ بِهِ رَبُّهُ، لَمْ يَرْضَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. فَلَمْ يَرْضَ بِهِ رَبًّا. السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ كُلَّ قَدَرٍ يَكْرَهُهُ الْعَبْدُ وَلَا يُلَائِمُهُ. لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً عَلَى الذَّنْبِ. فَهُوَ دَوَاءٌ لِمَرَضٍ. لَوْلَا تَدَارُكُ الْحَكِيمِ إِيَّاهُ بِالدَّوَاءِ لَتَرَامَى بِهِ الْمَرَضُ إِلَى الْهَلَاكِ. أَوْ يَكُونَ سَبَبًا لِنِعْمَةٍ لَا تُنَالُ إِلَّا بِذَلِكَ الْمَكْرُوهِ. فَالْمَكْرُوهُ يَنْقَطِعُ وَيَتَلَاشَى. وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ. فَإِذَا شَهِدَ الْعَبْدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ انْفَتَحَ لَهُ بَابُ الرِّضَا عَنْ رَبِّهِ فِي كُلِّ مَا يَقْتَضِيهِ لَهُ وَيُقَدِّرُهُ. السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ حُكْمَ الرَّبِّ تَعَالَى مَاضٍ فِي عَبْدِهِ، وَقَضَاؤُهُ عَدْلٌ فِيهِ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ «مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ» وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِالْعَدْلِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ. وَقَوْلُهُ: عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، يَعُمُّ قَضَاءَ الذَّنْبِ، وَقَضَاءَ أَثَرِهِ وَعُقُوبَتَهُ. فَإِنَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قَضَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهُوَ أَعْدَلُ الْعَادِلِينَ فِي قَضَائِهِ بِالذَّنْبِ، وَفِي قَضَائِهِ بِعُقُوبَتِهِ. أَمَّا عَدْلُهُ فِي الْعُقُوبَةِ: فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَدْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالذَّنْبِ: فَلِأَنَّ الذَّنْبَ عُقُوبَةٌ عَلَى غَفْلَتِهِ عَنْ رَبِّهِ. وَإِعْرَاضِ قَلْبِهِ عَنْهُ. فَإِنَّهُ إِذَا غَفَلَ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ وَوَلِيِّهِ، وَنَقَصَ إِخْلَاصُهُ: اسْتَحَقَّ أَنْ يُضْرَبَ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ. لِأَنَّ قُلُوبَ الْغَافِلِينَ مَعْدِنُ الذُّنُوبِ. وَالْعُقُوبَاتُ وَارِدَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَإِلَّا فَمَعَ كَمَالِ الْإِخْلَاصِ وَالذِّكْرِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَذِكْرِهِ، يَسْتَحِيلُ صُدُورُ الذَّنْبِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] . فَإِنْ قُلْتَ: قَضَاؤُهُ عَلَى عَبْدِهِ بِإِعْرَاضِهِ عَنْهُ، وَنِسْيَانِهِ إِيَّاهُ، وَعَدَمِ إِخْلَاصِهِ: عُقُوبَةٌ عَلَى مَاذَا؟

قُلْتُ: هَذَا طَبْعُ النَّفْسِ وَشَأْنُهَا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ إِذَا لَمْ يُرِدِ الْخَيْرَ بِعَبْدِهِ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَطَبْعِهِ وَهَوَاهُ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَثَرَهَا مِنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ، وَعَدَمِ الْإِخْلَاصِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى. وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ تَقْتَضِي آثَارَهَا مِنَ الْآلَامِ، وَفَوَاتِ الْخَيْرَاتِ وَاللَّذَّاتِ. كَاقْتِضَاءِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ لِمُسَبَّبَاتِهَا وَآثَارِهَا. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا خَلَقَهُ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ؟ قُلْتُ: هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ، وَمَضْمُونُهُ: هَلَّا خَلَقَهُ مَلَكًا لَا إِنْسَانًا. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَعْطَاهُ التَّوْفِيقَ الَّذِي يَتَخَلَّصُ بِهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ، وَظُلْمَةِ طَبْعِهِ؟ قُلْتُ: مَضْمُونُ هَذَا السُّؤَالِ: هَلَّا سَوَّى بَيْنِ جَمِيعِ خَلْقِهِ؟ وَلِمَ خَلَقَ الْمُتَضَادَّاتِ وَالْمُخْتَلِفَاتِ؟ وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْأَسْئِلَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ اقْتِضَاءِ حِكْمَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ لِخَلْقِ ذَلِكَ. الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ عَدَمَ الرِّضَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِفَوَاتِ مَا أَخْطَأَهُ مِمَّا يُحِبُّهُ وَيُرِيدُهُ. وَإِمَّا لِإِصَابَةِ مَا يَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ. فَإِذَا تَيَقَّنَ أَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. وَمَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ: فَلَا فَائِدَةَ فِي سَخَطِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا فَوَاتَ مَا يَنْفَعُهُ وَحُصُولَ مَا يَضُرُّهُ. التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ الرِّضَا مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، نَظِيرُ الْجِهَادِ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ. فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذُرْوَةُ سَنَامِ الْإِيمَانِ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ ذُرْوَةُ سَنَامِ الْإِيمَانِ: الصَّبْرُ لِلْحُكْمِ، وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ. الْأَرْبَعُونَ: أَنَّ أَوَّلَ مَعْصِيَةٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهَا فِي هَذَا الْعَالَمِ: إِنَّمَا نَشَأَتْ مِنْ عَدَمِ الرِّضَا. فَإِبْلِيسُ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ كَوْنًا، مِنْ تَفْضِيلِ آدَمَ وَتَكْرِيمِهِ، وَلَا بِحُكْمِهِ الدِّينِيِّ، مِنْ أَمْرِهِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَآدَمُ لَمْ يَرْضَ بِمَا أُبِيحَ لَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. حَتَّى ضَمَّ إِلَيْهِ الْأَكْلَ مِنْ شَجَرَةِ الْحُمَّى. ثُمَّ تَرَتَّبَتْ مَعَاصِي الذُّرِّيَّةِ عَلَى عَدَمِ الصَّبْرِ وَعَدَمِ الرِّضَا. الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الرَّاضِيَ وَاقِفٌ مَعَ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ. مُعْرِضٌ عَنِ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ. وَهَذَا مِنْ قُوَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ تَعَالَى، وَمَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ. فَقَالَ

الثَّوْرِيُّ: قَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ مَوْتَ الْفُجَاءَةِ قَبْلَ الْيَوْمِ. وَأَمَّا الْيَوْمَ: فَوَدِدْتُ أَنِّي مَيِّتٌ. فَقَالَ لَهُ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: وَلِمَ؟ فَقَالَ: لِمَا أَتَخَوَّفُ مِنَ الْفِتْنَةِ. فَقَالَ يُوسُفُ: لَكِنِّي لَا أَكْرَهُ طُولَ الْبَقَاءِ. فَقَالَ الثَّوْرِيُّ: وَلِمَ تَكْرَهُ الْمَوْتَ؟ قَالَ: لَعَلِّي أُصَادِفُ يَوْمًا أَتُوبُ فِيهِ وَأَعْمَلُ صَالِحًا. فَقِيلَ لِوُهَيْبٍ: أَيُّ شَيْءٍ تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا لَا أَخْتَارُ شَيْئًا، أَحَبُّ ذَلِكَ إِلَيَّ أَحَبُّهُ إِلَى اللَّهِ. فَقَبَّلَ الثَّوْرِيُّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وَقَالَ: رُوحَانِيَّةٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. فَهَذَا حَالُ عَبْدٍ قَدِ اسْتَوَتْ عِنْدَهُ حَالَةُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ. وَقَفَ مَعَ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ مِنْهَا. وَقَدْ كَانَ وُهَيْبٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ الْمَقَامُ الْعَالِي مِنَ الرِّضَا وَغَيْرِهِ. الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَنْعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنَ الْمُحِبِّ عَطَاءٌ، وَابْتِلَاءَهُ إِيَّاهُ عَافِيَةٌ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَنْعُهُ عَطَاءٌ. وَذَلِكَ: أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ عَنْ بُخْلٍ وَلَا عَدَمٍ. وَإِنَّمَا نَظَرَ فِي خَيْرِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فَمَنَعَهُ اخْتِيَارًا وَحُسَنَ نَظَرٍ. وَهَذَا كَمَا قَالَ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقْضِي لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، سَاءَهُ ذَلِكَ الْقَضَاءُ أَوْ سَرَّهُ. فَقَضَاؤُهُ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنَ الْمَنْعَ عَطَاءٌ. وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْمَنْعِ. وَنِعْمَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ فِي صُورَةِ مِحْنَةٍ. وَبَلَاؤُهُ عَافِيَةٌ. وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ بَلِيَّةٍ. وَلَكِنْ لِجَهْلِ الْعَبْدِ وَظُلْمِهِ لَا يَعُدُّ الْعَطَاءَ وَالنِّعْمَةَ وَالْعَافِيَةَ إِلَّا مَا الْتَذَّ بِهِ فِي الْعَاجِلِ. وَكَانَ مُلَائِمًا لِطَبْعِهِ. وَلَوْ رُزِقَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ حَظًّا وَافِرًا لَعَدَّ الْمَنْعَ نِعْمَةً، وَالْبَلَاءَ رَحْمَةً. وَتَلَذَّذَ بِالْبَلَاءِ أَكْثَرَ مِنْ لَذَّتِهِ بِالْعَافِيَةِ. وَتَلَذَّذَ بِالْفَقْرِ أَكْثَرَ مِنْ لَذَّتِهِ بِالْغِنَى. وَكَانَ فِي حَالِ الْقِلَّةِ أَعْظَمَ شُكْرًا مِنْ حَالِ الْكَثْرَةِ. وَهَذِهِ كَانَتْ حَالَ السَّلَفِ. فَالْعَاقِلُ الرَّاضِي: مَنْ يَعُدُّ الْبَلَاءَ عَافِيَةً، وَالْمَنْعَ نِعْمَةً، وَالْفَقْرَ غِنًى. وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ إِذَا رَأَيْتَ الْفَقْرَ مُقْبِلًا، فَقُلْ: مَرْحَبًا بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ. وَإِذَا رَأَيْتَ الْغِنَى مُقْبِلًا. فَقُلْ: ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ.

فَالرَّاضِي: هُوَ الَّذِي يَعُدُّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَا يَكْرَهُهُ، أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِيمَا يُحِبُّهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: يَا ابْنَ آدَمَ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ فِيمَا تَكْرَهُ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ فِيمَا تُحِبُّ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: ارْضَ عَنِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ بِكَ. فَإِنَّهُ مَا مَنَعَكَ إِلَّا لِيُعْطِيَكَ. وَلَا ابْتَلَاكَ إِلَّا لِيُعَافِيَكَ. وَلَا أَمْرَضَكَ إِلَّا لِيَشْفِيَكَ. وَلَا أَمَاتَكَ إِلَّا لِيُحْيِيَكَ. فَإِيَّاكَ أَنْ تُفَارِقَ الرِّضَا عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فَتَسْقُطَ مِنْ عَيْنِهِ. الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمُظْهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَالْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ. وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْتَارَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ اخْتِيَارٌ. وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا. وَالْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا. فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي اخْتَارَ وُجُودَهُ. وَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَدَّرَهُ لَهُ وَقَضَاهُ: مِنْ عَافِيَةٍ وَبَلَاءٍ، وَغِنًى وَفَقْرٍ، وَعِزٍّ وَذُلٍّ، وَنَبَاهَةٍ وَخُمُولٍ، فَكَمَا تَفَرَّدَ سُبْحَانَهُ بِالْخَلْقِ، تَفَرَّدَ بِالِاخْتِيَارِ وَالتَّدْبِيرِ - وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ - فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] فَإِذَا تَيَقَّنَ الْعَبْدُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ. لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَوَّلٌ - بَعْدَ ذَلِكَ - غَيْرَ الرِّضَا بِمَوَاقِعِ الْأَقْدَارِ. وَمَا يَجْرِي بِهِ مِنْ رَبِّهِ الِاخْتِيَارُ. الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ رِضَا اللَّهِ عَنِ الْعَبْدِ أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا. لِأَنَّ الرِّضَا صِفَةُ اللَّهِ وَالْجَنَّةَ خَلْقُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72] . وَهَذَا الرِّضَا جَزَاءٌ عَلَى رِضَاهُمْ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْجَزَاءُ أَفْضَلَ الْجَزَاءِ، كَانَ سَبَبُهُ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ. الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا رَضِيَ بِهِ وَعَنْهُ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ: لَمْ يَتَخَيَّرْ عَلَيْهِ الْمَسَائِلَ. وَأَغْنَاهُ رِضَاهُ بِمَا يَقْسِمُهُ لَهُ وَيُقَدِّرُهُ وَيَفْعَلُهُ بِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَجَعَلَ ذِكْرَهُ فِي مَحَلِّ سُؤَالِهِ. بَلْ يَكُونُ مِنْ سُؤَالِهِ لَهُ الْإِعَانَةُ عَلَى ذِكْرِهِ، وَبُلُوغُ رِضَاهُ. فَهَذَا يُعْطَى أَفْضَلَ مَا يُعْطَاهُ سَائِلٌ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي

السَّائِلِينَ» . فَإِنَّ السَّائِلِينَ سَأَلُوهُ. فَأَعْطَاهُمُ الْفَضْلَ الَّذِي سَأَلُوهُ. وَالرَّاضُونَ رَضُوا عَنْهُ فَأَعْطَاهُمْ رِضَاهُ عَنْهُمْ، وَلَا يَمْنَعُ الرِّضَا سُؤَالُهُ أَسْبَابَ الرِّضَا، بَلْ أَصْحَابُهُ مُلِحُّونَ فِي سُؤَالِهِ ذَلِكَ. السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْدُبُ إِلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ. فَإِنْ عَجَزَ الْعَبْدُ عَنْهُ: حَطَّ إِلَى الْمَقَامِ الْوَسَطِ، كَمَا قَالَ: «اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» فَهَذَا مَقَامُ الْمُرَاقَبَةِ الْجَامِعُ لِمَقَامَاتِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ. ثُمَّ قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» فَحَطَّهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي، وَهُوَ الْعِلْمُ بِاطِّلَاعِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرُؤْيَتِهِ لَهُ، وَمُشَاهَدَتِهِ لِعَبْدِهِ فِي الْمَلَأِ وَالْخَلَاءِ، وَكَذَا الْحَدِيثُ الْآخَرُ: «إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ. فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا» فَرَفَعَهُ إِلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ. ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى أَوْسَطِهَا إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْأَعْلَى. فَالْأَوَّلُ: مَقَامُ الْإِحْسَانِ. وَالَّذِي حَطَّهُ إِلَيْهِ: مَقَامُ الْإِيمَانِ. وَلَيْسَ دُونَ ذَلِكَ إِلَّا مَقَامُ الْخُسْرَانِ. السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْنَى عَلَى الرَّاضِينَ بِمُرِّ الْقَضَاءِ بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، وَالْقُرْبِ مِنْ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ. كَمَا فِي حَدِيثِ «الْوَفْدِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: مُؤْمِنُونَ. فَقَالَ: مَا عَلَامَةُ إِيمَانِكُمْ؟ فَقَالُوا: الصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَالشُّكْرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ. وَالصِّدْقُ فِي مُوَاطِنِ اللِّقَاءِ، وَتَرْكُ الشَّمَاتَةِ بِالْأَعْدَاءِ. فَقَالَ: حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ. كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ» . الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الرِّضَا آخِذٌ بِزِمَامِ مَقَامَاتِ الدِّينِ كُلِّهَا. وَهُوَ رُوحُهَا

وَحَيَاتُهَا. فَإِنَّهُ رُوحُ التَّوَكُّلِ وَحَقِيقَتُهُ، وَرُوحُ الْيَقِينِ، وَرُوحُ الْمَحَبَّةِ، وَصِحَّةُ الْمُحِبِّ، وَدَلِيلُ صِدْقِ الْمَحَبَّةِ، وَرُوحُ الشُّكْرِ وَدَلِيلُهُ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: عَلَامَةُ حُبِّ اللَّهِ: كَثْرَةُ ذِكْرِهِ. فَإِنَّكَ لَا تُحِبُّ شَيْئًا إِلَّا أَكْثَرْتَ مِنْ ذِكْرِهِ. وَعَلَامَةُ الدِّينِ: الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَعَلَامَةُ الشُّكْرِ، الرِّضَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَالتَّسْلِيمُ لِقَضَائِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحِوَارِيِّ: ذَاكَرْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ فِي الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ: أَوَّلُ [مَنْ] يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ الْحَمَّادُونَ فَقَالَ: وَيْحَكَ، لَيْسَ هُوَ أَنْ تَحْمَدَهُ عَلَى الْمُصِيبَةِ وَقَلْبُكَ يَتَعَصَّى عَلَيْكَ. إِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى الصَّابِرِينَ. إِنَّمَا الْحَمْدُ: أَنْ تَحْمَدَهُ وَقَلْبُكَ مُسَلِّمٌ رَاضٍ. فَصَارَ الرِّضَا كَالرُّوحِ لِهَذِهِ الْمَقَامَاتِ، وَالْأَسَاسِ الَّذِي تَنْبَنِي عَلَيْهِ. وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا بِدُونِهِ أَلْبَتَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الرِّضَا يَقُومُ مَقَامَ كَثِيرٍ مِنَ التَّعَبُّدَاتِ الَّتِي تَشُقُّ عَلَى الْبَدَنِ. فَيَكُونُ رِضَاهُ أَسْهَلَ عَلَيْهِ، وَأَلَذَّ لَهُ، وَأَرْفَعَ فِي دَرَجَتِهِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ: أَنَّ عَابِدًا عَبَدَ اللَّهَ دَهْرًا طَوِيلًا، فَأُرِيَ فِي الْمَنَامِ: أَنَّ فُلَانَةَ الرَّاعِيَةَ رَفِيقَتُكَ فِي الْجَنَّةِ، فَسَأَلَ عَنْهَا، إِلَى أَنْ وَجَدَهَا. فَاسْتَضَافَهَا ثَلَاثًا لِيَنْظُرَ إِلَى عَمَلِهَا فَكَانَ يَبِيتُ قَائِمًا وَتَبِيتُ نَائِمَةً. وَيَظَلُّ صَائِمًا وَتَظَلُّ مُفْطِرَةً. فَقَالَ لَهَا: أَمَا لَكِ عَمَلٌ غَيْرُ مَا رَأَيْتُ؟ قَالَتْ: مَا هُوَ وَاللَّهِ غَيْرَ مَا رَأَيْتَ - أَوْ قَالَتْ: إِلَّا مَا رَأَيْتَ - لَا أَعْرِفُ غَيْرَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ لَهَا: تَذَكَّرِي. حَتَّى قَالَتْ: خُصَيْلَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ فِيَّ. وَذَلِكَ: أَنِّي إِنْ كُنْتُ فِي شِدَّةٍ لَمْ أَتَمَنَّ أَنِّي فِي رَخَاءٍ. وَإِنْ كُنْتُ فِي مَرَضٍ لَمْ أَتَمَنَّ أَنِّي فِي صِحَّةٍ. وَإِنْ كُنْتُ فِي شَمْسٍ لَمْ أَتَمَنَّ أَنِّي فِي الظِّلِّ. قَالَ: فَوَضَعَ الْعَابِدُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ. وَقَالَ: أَهَذِهِ خُصَيْلَةٌ؟ هَذِهِ وَاللَّهِ خَصْلَةٌ عَظِيمَةٌ يَعْجِزُ عَنْهَا الْعُبَّادُ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ رَضِيَ بِمَا أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ غُفِرَ لَهُ. وَفِي أَثَرٍ مَرْفُوعٍ: «خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ: الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ» . وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا ابْتَلَاهُ. فَإِنْ صَبَرَ اجْتَبَاهُ، فَإِنْ رَضِيَ اصْطَفَاهُ» . وَفِي أَثَرٍ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَمْرًا إِذَا هُمْ فَعَلُوهُ رَضِيَ عَنْهُمْ. فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ. فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ يَرْضَوْنَ عَنِّي حَتَّى أَرْضَى عَنْهُمْ. وَفِي أَثَرٍ آخَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ مَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ. فَلْيَنْظُرْ مَا لِلَّهِ عِنْدَهُ. فَإِنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِنْهُ حَيْثُ يُنْزِلُهُ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ» . وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: «مَنْ رَضِيَ مِنَ اللَّهِ بِالْقَلِيلِ مِنَ الرِّزْقِ، رَضِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْعَمَلِ» . وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: أَعْرِفُ فِي الْمَوْتَى عَالَمًا يَنْظُرُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِي الْجِنَانِ فِي قُبُورِهِمْ، يُغْدَى عَلَيْهِمْ وَيُرَاحُ بِرِزْقِهِمْ مِنَ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا. وَهُمْ فِي غُمُومٍ وَكُرُوبٍ فِي الْبَرْزَخِ. لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ لَمَاتُوا أَجْمَعِينَ. قِيلَ: وَمَا كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ؟ قَالَ: كَانُوا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ التَّوَكُّلِ وَلَا مِنَ الرِّضَا نَصِيبٌ.

وَفِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: أُوصِيكَ بِخِصَالٍ تُقَرِّبُكَ مِنَ اللَّهِ، وَتُبَاعِدُكَ مِنْ سَخَطِهِ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ لَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا. وَأَنْ تَرْضَى بِقَدَرِ اللَّهِ فِيمَا أَحْبَبْتَ وَكَرِهْتَ وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَيَرْضَ بِقَدَرِ اللَّهِ، فَقَدْ أَقَامَ الْإِيمَانَ، وَفَرَّغَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ لِكَسْبِ الْخَيْرِ، وَأَقَامَ الْأَخْلَاقَ الصَّالِحَةَ الَّتِي تُصْلِحُ لِلْعَبْدِ أَمْرَهُ. الْخَمْسُونَ: أَنْ الرِّضَا يَفْتَحُ بَابَ حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَ النَّاسِ; فَإِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مِنَ الرِّضَا وَسُوءَ الْخُلُقِ مِنَ السَّخَطِ. وَحُسْنُ الْخُلُقِ يَبْلُغُ بِصَاحِبِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَسُوءُ الْخُلُقِ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ. الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: أَنَّ الرِّضَا يُثْمِرُ سُرُورَ الْقَلْبِ بِالْمَقْدُورِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَطِيبَ النَّفْسِ وَسُكُونَهَا فِي كُلِّ حَالٍ، وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ عِنْدَ كُلِّ مُفْزِعٍ مُهْلِعٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَبِرَدِّ الْقَنَاعَةِ، وَاغْتِبَاطِ الْعَبْدِ بِقَسْمِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَفَرَحِهِ بِقِيَامِ مَوْلَاهُ عَلَيْهِ، وَاسْتِسْلَامِهِ لِمَوْلَاهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَرِضَاهُ مِنْهُ بِمَا يُجْرِيهِ عَلَيْهِ، وَتَسْلِيمِهِ لَهُ الْأَحْكَامَ وَالْقَضَايَا، وَاعْتِقَادِ حُسْنَ تَدْبِيرِهِ، وَكَمَالَ حِكْمَتِهِ، وَيُذْهِبُ عَنْهُ شَكْوَى رَبِّهِ إِلَى غَيْرِهِ وَتَبَرُّمَهُ بِأَقْضِيَتِهِ. وَلِهَذَا سَمَّى بَعْضُ الْعَارِفِينَ الرِّضَا: حُسْنَ الْخُلُقِ مَعَ اللَّهِ. فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَرْكَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ فِي مُلْكِهِ، وَحَذْفَ فُضُولِ الْكَلَامِ الَّتِي تَقْدَحُ فِي حُسْنِ خُلُقِهِ. فَلَا يَقُولُ: مَا أَحْوَجَ النَّاسَ إِلَى مَطَرٍ؟ وَلَا يَقُولُ: هَذَا يَوْمٌ شَدِيدُ الْحَرِّ، أَوْ شَدِيدُ الْبَرْدِ. وَلَا يَقُولُ: الْفَقْرُ بَلَاءٌ، وَالْعِيَالُ هَمٌّ وَغَمٌّ، وَلَا يُسَمِّي شَيْئًا قَضَاهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ بَاسِمٍ مَذْمُومٍ إِذَا لَمْ يَذُمَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ يُنَافِي رِضَاهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَصْبَحْتُ وَمَا لِي سُرُورٌ إِلَّا فِي مَوَاقِعِ الْقَدَرِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْفَقْرُ وَالْغِنَى مَطِيَّتَانِ مَا أُبَالِي أَيُّهُمَا رَكِبْتُ، إِنْ كَانَ الْفَقْرَ فَإِنَّ فِيهِ الصَّبْرَ، وَإِنْ كَانَ الْغِنَى فَإِنَّ فِيهِ الْبَذْلَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ - أَوْ قِيلَ لَهُ - إِنَّ فُلَانًا قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ اللَّيْلَ أَطْوَلُ مِمَّا هُوَ. فَقَالَ: قَدْ أَحْسَنَ. وَقَدْ أَسَاءَ. أَحْسَنَ حَيْثُ تَمَنَّى طُولَهُ لِلْعِبَادَةِ وَالْمُنَاجَاةِ، وَأَسَاءَ حَيْثُ تَمَنَّى مَا لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ، وَأَحَبَّ مَا لَمْ يُحِبَّهُ اللَّهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا أُبَالِي عَلَى أَيِّ حَالٍ أَصْبَحْتُ وَأَمْسَيْتُ: مِنْ شِدَّةٍ أَوْ رَخَاءِ. وَقَالَ يَوْمًا لِامْرَأَتِهِ عَاتِكَةَ، أُخْتِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ - وَقَدْ غَضِبَ عَلَيْهَا - وَاللَّهِ لَأَسُوأَنَّكِ. فَقَالَتْ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصْرِفَنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، بَعْدَ إِذْ هَدَانِي اللَّهُ؟ قَالَ: لَا. فَقَالَتْ: فَأَيُّ شَيْءٍ تَسُوءُنِي بِهِ إِذًا؟ .

تُرِيدُ أَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِمَوَاقِعِ الْقَدَرِ. لَا يَسُوؤُهَا مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا صَرْفُهَا عَنِ الْإِسْلَامِ. وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ يَوْمًا عِنْدَ رَابِعَةَ: اللَّهُمَّ ارْضَ عَنَّا. فَقَالَتْ: أَمَا تَسْتَحِي أَنْ تَسْأَلَهُ الرِّضَا عَنْكَ، وَأَنْتَ غَيْرُ رَاضٍ عَنْهُ؟ فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ لَهَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: مَتَى يَكُونُ الْعَبْدُ رَاضِيًا عَنِ اللَّهِ؟ فَقَالَتْ: إِذَا كَانَ سُرُورُهُ بِالْمُصِيبَةِ مِثْلَ سُرُورِهِ بِالنِّعْمَةِ. وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ: مَا لِأَوْلِيَائِي وَالْهَمُّ بِالدُّنْيَا؟ إِنَّ الْهَمَّ بِالدُّنْيَا يُذْهِبُ حَلَاوَةَ مُنَاجَاتِي مِنْ قُلُوبِهِمْ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ النَّاسِ هَمًّا بِالدُّنْيَا أَكْثَرُهُمْ هَمًّا فِي الْآخِرَةِ. وَأَقَلُّهُمْ هَمًّا بِالدُّنْيَا أَقَلُّهُمْ هَمًّا فِي الْآخِرَةِ. فَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ، وَالرِّضَا بِهِ: يُذْهِبُ عَنِ الْعَبْدِ الْهَمَّ وَالْغَمَّ وَالْحَزَنَ. وَذُكِرَ عِنْدَ رَابِعَةَ وَلِيٌّ لِلَّهِ قُوتُهُ مِنَ الْمَزَابِلِ. فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهَا: مَا ضَرَّ هَذَا أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ رِزْقَهُ فِي غَيْرِ هَذَا؟ فَقَالَتِ: اسْكُتْ يَا بَطَّالُ. أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ أَرْضَى عَنْهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلُوهُ أَنْ يَنْقُلَهُمْ إِلَى مَعِيشَةٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَخْتَارُ لَهُمْ؟ وَفِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَأَلَ رَبَّهُ عَمَّا فِيهِ رِضَاهُ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ رِضَاهُ فِي كُرْهِكَ، وَأَنْتَ لَا تَصْبِرُ عَلَى مَا تَكْرَهُ. فَقَالَ: يَا رَبِّ، دُلَّنِي عَلَيْهِ. فَقَالَ: إِنَّ رِضَاهُ فِي رِضَاكَ بِقَضَائِي. وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ، أَيُّ خَلْقِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: مَنْ إِذَا أَخَذْتُ مِنْهُ مَحْبُوبَهُ سَالَمَنِي. قَالَ: فَأَيُّ خَلْقِكَ أَنْتَ عَلَيْهِ سَاخِطٌ؟ قَالَ: مَنِ اسْتَخَارَنِي فِي أَمْرٍ فَإِذَا قَضَيْتُهُ لَهُ سَخِطَ قَضَائِي. وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: أَنَا اللَّهُ. لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، قَدَّرْتُ التَّقَادِيرَ، وَدَبَّرْتُ التَّدَابِيرَ، وَأَحْكَمْتُ الصُّنْعَ. فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا مِنِّي حَتَّى يَلْقَانِي. وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ حَتَّى يَلْقَانِي. الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: أَنَّ أَفْضَلَ الْأَحْوَالِ: الرَّغْبَةُ فِي اللَّهِ وَلَوَازِمُهَا. وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْيَقِينِ، وَالرِّضَا عَنِ اللَّهِ. وَلِهَذَا قَالَ سَهْلٌ: حَظُّ الْخَلْقِ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى قَدْرِ حَظِّهِمْ مِنَ الرِّضَا. وَحَظُّهُمْ مِنَ الرِّضَا عَلَى قَدْرِ رَغْبَتِهِمْ فِي اللَّهِ. الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّ الرِّضَا يُخَلِّصُهُ مِنْ عَيْبِ مَا لَمْ يُعِبْهُ اللَّهُ. وَمِنْ ذَمِّ مَا لَمْ يَذُمَّهُ اللَّهُ. فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِالشَّيْءِ عَابَهُ بِأَنْوَاعِ الْمَعَايِبِ. وَذَمَّهُ بِأَنْوَاعِ الْمَذَامِّ. وَذَلِكَ مِنْهُ قِلَّةُ حَيَاءٍ مِنَ اللَّهِ. وَذَمٌّ لِمَا لَيْسَ لَهُ ذَنْبٌ، وَعَيْبٌ لِخَلْقِهِ. وَذَلِكَ يُسْقِطُ الْعَبْدَ مِنْ عَيْنِ رَبِّهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَنَعَ لَكَ طَعَامًا وَقَدَّمَهُ إِلَيْكَ فَعِبْتَهُ وَذَمَمْتَهُ، لَكُنْتَ مُتَعَرِّضًا لِمَقْتِهِ وَإِهَانَتِهِ، وَمُسْتَدْعِيًا مِنْهُ: أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ عَنْكَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ ذَمَّ الْمَصْنُوعِ وَعَيْبَهُ -

إِذَا لَمْ يَذُمَّهُ صَانِعُهُ - غِيبَةٌ لَهُ وَقَدْحٌ فِيهِ. الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ اللَّهَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ. كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي. وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي. وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا. وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى. وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ. وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ. وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ. وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ. وَأَسْأَلُكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ. اللَّهُمَّ زِيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ. وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ» . فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَقُولُ: سَأَلَهُ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ. لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَبَيَّنَ حَقِيقَةَ الرِّضَا. وَأَمَّا الرِّضَا قَبْلَهُ: فَإِنَّمَا هُوَ عَزْمٌ عَلَى أَنَّهُ يَرْضَى إِذَا أَصَابَهُ. وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الرِّضَا بَعْدَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِّينَا فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصِّحَّةَ، وَالْعِفَّةَ، وَالْأَمَانَةَ، وَحُسْنَ الْخُلُقِ، وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ» . الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّ الرِّضَا بِالْقَدَرِ يُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ أَنْ يُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ. وَأَنْ يَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ. وَأَنْ يَحْمَدَهُمْ عَلَى مَا هُوَ عَيْنُ فَضْلِ اللَّهِ. فَيَكُونُ ظَالِمًا لَهُمْ فِي الْأَوَّلِ - وَهُوَ رِضَاهُمْ وَذَمُّهُمْ - مُشْرِكًا بِهِمْ فِي الثَّانِي - وَهُوَ حَمْدُهُمْ - فَإِذَا رَضِيَ بِالْقَضَاءِ تَخَلَّصَ مِنْ ذَمِّهِمْ وَحَمْدِهِمْ. فَخَلَّصَهُ الرِّضَا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ: أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ، وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللَّهِ، وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ. إِنَّ رِزْقَ اللَّهِ لَا يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كُرْهُ كَارِهٍ. وَإِنَّ اللَّهَ - بِحِكْمَتِهِ - جَعَلَ الرُّوحَ وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَا

وَالْيَقِينِ. وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ» وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّ الرِّضَا يُفَرِّغُ قَلْبَ الْعَبْدِ. وَيُقَلِّلُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ. فَيَتَفَرَّغُ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ بِقَلْبٍ خَفِيفٍ مِنْ أَثْقَالِ الدُّنْيَا وَهُمُومِهَا وَغُمُومِهَا. كَمَا ذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ بِشْرِ بْنِ بَشَّارٍ الْمُجَاشِعِيِّ - وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ - قَالَ: قُلْتُ لِعَابِدٍ: أَوْصِنِي. قَالَ: أَلْقِ نَفْسَكَ مَعَ الْقَدَرِ حَيْثُ أَلْقَاكَ. فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يُفَرِّغَ قَلْبَكَ. وَيُقَلِّلَ هَمَّكَ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَسْخَطَ ذَلِكَ، فَيَحِلَّ بِكَ السَّخَطُ وَأَنْتَ عَنْهُ فِي غَفْلَةٍ لَا تَشْعُرُ بِهِ. فَيُلْقِيَكَ مَعَ الَّذِي سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ذَرُوا التَّدْبِيرَ وَالِاخْتِيَارَ تَكُونُوا فِي طِيبٍ مِنَ الْعَيْشِ. فَإِنَّ التَّدْبِيرَ وَالِاخْتِيَارَ يُكَدِّرُ عَلَى النَّاسِ عَيْشَهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَطَاءٍ: الْفَرَحُ فِي تَدْبِيرِ اللَّهِ لَنَا. وَالشَّقَاءُ كُلُّهُ فِي تَدْبِيرِنَا. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ لَمْ يَصْلُحْ عَلَى تَقْدِيرِ اللَّهِ لَمْ يَصْلُحْ عَلَى تَقْدِيرِ نَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الطُّوسِيُّ: مَنْ تَرَكَ التَّدْبِيرَ عَاشَ فِي رَاحَةٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجِدِ السَّلَامَةَ حَتَّى تَكُونَ فِي التَّدْبِيرِ كَأَهْلِ الْقُبُورِ. وَقَالَ: الرِّضَاءُ تَرْكُ الْخِلَافِ عَلَى الرَّبِّ فِيمَا يُجْرِيهِ عَلَى الْعَبْدِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَقَدْ تَرَكَتْنِي هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتُ، وَمَا لِي فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ كُلِّهَا أَرَبٌ، إِلَّا فِي مَوَاقِعِ قَدَرِ اللَّهِ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَدْعُو: اللَّهُمَّ رَضِّنِي بِقَضَائِكَ، وَبَارِكْ لِي فِي قَدَرِكَ، حَتَّى لَا أُحِبَّ تَعْجِيلَ شَيْءٍ أَخَّرْتَهُ. وَلَا تَأْخِيرَ شَيْءٍ عَجَّلْتَهُ. وَقَالَ: مَا أَصْبَحَ لِي هَوًى فِي شَيْءٍ سِوَى مَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ شُعْبَةُ: قَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: مَا تَمَنَّيْتُ شَيْئًا قَطُّ.

وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: الرَّاضِي لَا يَتَمَنَّى فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ التَّسْلِيمِ: مُقَابَلَةُ الْقَضَاءِ بِالرِّضَا، وَالصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَالشُّكْرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ التَّفْوِيضِ: تَعْطِيلُ إِرَادَتِكَ لِمُرَادِهِ، وَالنَّظَرُ إِلَى مَا يَقَعُ مِنْ تَدْبِيرِهِ لَكَ، وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْحُكْمِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ التَّوْحِيدِ: رُؤْيَةُ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ اللَّهِ، وَقَبُولُ كُلِّ شَيْءٍ عَنْهُ، وَإِضَافَةُ كُلِّ شَيْءٍ إِلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: أَصْلُ الْعِبَادَةِ ثَلَاثَةٌ: لَا تَرُدَّ مِنْ أَحْكَامِهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْأَلْ غَيْرَهُ حَاجَةً، وَلَا تَدَّخِرْ عَنْهُ شَيْئًا. وَسُئِلَ ابْنُ شَمْعُونٍ عَنِ الرِّضَا؟ فَقَالَ: أَنْ تَرْضَى بِهِ مُدَبِّرًا وَمُخْتَارًا. وَتَرْضَى عَنْهُ قَاسِمًا وَمُعْطِيًا وَمَانِعًا. وَتَرْضَاهُ إِلَهًا وَمَعْبُودًا وَرَبًّا. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الرِّضَا تَرْكُ الِاخْتِيَارِ، وَسُرُورُ الْقَلْبِ بِمُرِّ الْقَضَاءِ، وَإِسْقَاطُ التَّدْبِيرِ مِنَ النَّفْسِ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لَهَا أَوْ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: الرَّاضِي مَنْ لَمْ يَنْدَمْ عَلَى فَائِتٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَتَأَسَّفْ عَلَيْهَا. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: الْعَبْدُ ذُو ضَجَرٍ. وَالرَّبُّ ذُو قَدَرٍ ... وَالدَّهْرُ ذُو دُوَلٍ. وَالرِّزْقُ مَقْسُومُ وَالْخَيْرُ أَجْمَعُ فِيمَا اخْتَارَ خَالِقُنَا ... وَفِي اخْتِيَارِ سِوَاهُ اللَّوْمُ وَالشُّومُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِالْقَدَرِ وَقَعَ فِي لَوْمِ الْمَقَادِيرِ. إِمَّا بِقَالَبِهِ، وَإِمَّا بِقَلْبِهِ وَحَالِهِ. وَلَوْمُ الْمَقَادِيرِ لَوْمٌ لِمُقَدِّرِهَا، وَكَذَلِكَ يَقَعُ فِي لَوْمِ الْخَلْقِ. وَاللَّهُ وَالنَّاسُ يَلُومُونَهُ، فَلَا يَزَالُ لَائِمًا مَلُومًا. وَهَذَا مُنَافٍ لِلْعُبُودِيَّةِ. «قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ. فَمَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَهُ؟ وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ كَانَ: لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ. وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ: لَيْتَهُ كَانَ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ إِذَا لَامَنِي يَقُولُ: دَعُوهُ. فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ» . وَقَوْلُهُ: لَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ. يَتَنَاوَلُ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ مُرَادِ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي: مَا وُجِدَ مِمَّا يَكْرَهُهُ. وَهُوَ يَتَنَاوَلُ فَوَاتَ الْمَحْبُوبِ، وَحُصُولَ الْمَكْرُوهِ، فَلَوْ قُضِيَ الْأَوَّلُ لَكَانَ. وَلَوْ قُضِيَ خِلَافُ الْآخَرِ لَكَانَ. فَإِذَا اسْتَوَتِ الْحَالَتَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَضَاءِ. فَعُبُودِيَّةُ الْعَبْدِ: أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ الْحَالَتَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رِضَاهُ. وَهَذَا مُوجَبُ الْعُبُودِيَّةِ وَمُقْتَضَاهَا. يُوَضِّحُهُ:

الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ إِذَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رِضَا الرَّبِّ تَعَالَى. فَهَذَا رَضِيَهُ لِعَبْدِهِ فَقَدَّرَهُ. وَهَذَا لَمْ يَرْضَهُ لَهُ فَلَمْ يُقَدِّرْهُ. فَكَمَالُ الْمُوَافَقَةِ: أَنْ يَسْتَوِيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَبْدِ. فَيَرْضَى مَا رَضِيَهُ لَهُ رَبُّهُ فِي الْحَالَيْنِ. التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَدَيْ رَسُولِهِ فِي حُكْمِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ. وَذَلِكَ عُبُودِيَّةُ هَذَا الْأَمْرِ. فَعُبُودِيَّةُ أَمْرِهِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ: أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَّا حَيْثُ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ فِي ذَلِكَ. فَيَكُونَ التَّقَدُّمُ أَيْضًا بِأَمْرِهِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ. فَإِذَا كَانَ فَرْضُهُ الصَّبْرَ أَوْ نَدْبُهُ. أَوْ فَرْضُهُ الرِّضَا حَتَّى تَرَكَ ذَلِكَ: فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ. السِّتُّونَ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْإِخْلَاصَ وَالْإِنَابَةَ: لَا تَقُومُ إِلَّا عَلَى سَاقِ الرِّضَا. فَالْمُحِبُّ رَاضٍ عَنْ حَبِيبِهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ. وَقَدْ كَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتُسْقِيَ بَطْنُهُ، فَبَقِيَ مُلْقًى عَلَى ظَهْرِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، لَا يَقُومُ وَلَا يَقْعُدُ. وَقَدْ نُقِبَ لَهُ فِي سَرِيرِهِ مَوْضِعٌ لِحَاجَتِهِ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّخِّيرُ. فَجَعَلَ يَبْكِي لِمَا رَأَى مِنْ حَالِهِ. فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: لِمَ تَبْكِي؟ فَقَالَ: لِأَنِّي أَرَاكَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ الْفَظِيعَةِ. فَقَالَ: لَا تَبْكِ. فَإِنَّ أَحَبَّهُ إِلَيَّ أَحَبُّهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ: أُخْبِرُكَ بِشَيْءٍ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهِ، وَاكْتُمْ عَلَيَّ حَتَّى أَمُوتَ. إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَزُورُنِي فَآنَسُ بِهَا. وَتُسَلِّمُ عَلَيَّ فَأَسْمَعُ تَسْلِيمَهَا. وَلَمَّا قَدِمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مَكَّةَ - وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهُ - جَعَلَ النَّاسُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ لِيَدْعُوَ لَهُمْ. فَجَعَلَ يَدْعُو لَهُمْ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ: فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا غُلَامٌ. فَتَعَرَّفْتُ إِلَيْهِ. فَعَرَفَنِي. فَقُلْتُ: يَا عَمُّ، أَنْتَ تَدْعُو لِلنَّاسِ فَيُشْفَوْنَ. فَلَوْ دَعَوْتَ لِنَفْسِكَ لَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ بَصَرَكَ. فَتَبَسَّمَ. ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، قَضَاهُ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَصَرِي. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: ذَنْبٌ أَذْنَبْتُهُ. أَنَا أَبْكِي عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ سَنَةً. قِيلَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: قُلْتُ لِشَيْءٍ قَضَاءُ اللَّهِ: لَيْتَهُ لَمْ يَقْضِهِ، أَوْ لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَوْ قُرِضَ لَحْمِي بِالْمَقَارِيضِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ لِشَيْءٍ قَضَاهُ اللَّهُ: لَيْتَهُ لَمْ يَقْضِهِ. وَقِيلَ لِعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ: هَاهُنَا رَجُلٌ قَدْ تَعَبَّدَ خَمْسِينَ سَنَةً. فَقَصَدَهُ. فَقَالَ لَهُ: حَبِيبِي، أَخْبِرْنِي عَنْكَ، هَلْ قَنَعْتَ بِهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ أَنْتَ بِهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ رَضِيتَ عَنْهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنَّمَا مَزِيدُكَ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَسْتَحِي مِنْكَ لَأَخْبَرْتُكَ: أَنَّ مُعَامَلَتَكَ خَمْسِينَ سَنَةً مَدْخُولَةٌ. يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُقَرِّبْهُ فَجَعَلَهُ فِي مَقَامِ الْمُقَرَّبِينَ. فَيُوجِدَهُ مَوَاجِيدَ الْعَارِفِينَ، بِحَيْثُ يَكُونُ مَزِيدُهُ لَدَيْهِ: أَعْمَالَ الْقُلُوبِ. الَّتِي يَسْتَعْمِلُ بِهَا كُلُّ مَحْبُوبٍ مَطْلُوبٍ، لِأَنَّ الْقَنَاعَةَ: حَالُ

الْمُوَفَّقِ، وَالْأُنْسَ بِهِ: مَقَامُ الْمُحِبِّ، وَالرِّضَا: وَصْفُ الْمُتَوَكِّلِ. يَعْنِي أَنْتَ عِنْدَهُ فِي طَبَقَاتِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. فَمَزِيدُكَ عِنْدَهُ مَزِيدُ الْعُمُومِ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ مُعَامَلَتَهُ مَدْخُولَةٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَاقِصَةٌ عَنْ مُعَامَلَةِ الْمُقَرَّبِينَ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْأَحْوَالَ. الثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً سَالِمَةً، لَا عِلَّةَ فِيهَا وَلَا غِشَّ: لَأَثْمَرَتْ لَهُ الْأُنْسَ وَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةَ، وَالْأَحْوَالَ الْعَلِيَّةَ. فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى شَكُورٌ. إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ عَمَلُ عَبْدِهِ جَمَّلَ بِهِ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ. وَأَثَابَهُ عَلَيْهِ مِنْ حَقَائِقِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ بِحَسَبِ عَمَلِهِ. فَحَيْثُ لَمْ يَجِدْ أَثَرًا فِي قَلْبِهِ، مِنَ الْأُنْسِ وَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ: اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَدْخُولٌ، غَيْرُ سَالِمٍ مِنَ الْآفَاتِ. الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: أَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ تُضَاعَفُ إِلَى حَدٍّ مَعْلُومٍ مَحْسُوبٍ. وَأَمَّا أَعْمَالُ الْقَلْبِ: فَلَا يَنْتَهِي تَضْعِيفُهَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ: لَهَا حَدٌّ تَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَتَقِفُ عِنْدَهُ. فَيَكُونُ جَزَاؤُهَا بِحَسَبِ حَدِّهَا. وَأَمَّا أَعْمَالُ الْقُلُوبِ: فَهِيَ دَائِمَةٌ مُتَّصِلَةٌ. وَإِنْ تَوَارَى شُهُودُ الْعَبْدِ لَهَا. مِثَالُهُ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا حَالُ الْمُحِبِّ الرَّاضِي، لَا تُفَارِقُهُ أَصْلًا. وَإِنْ تَوَارَى حُكْمُهَا. فَصَاحِبُهَا فِي مَزِيدٍ مُتَّصِلٍ. فَمَزِيدُ الْمُحِبِّ الرَّاضِي: مُتَّصِلٌ بِدَوَامِ هَذِهِ الْحَالِ لَهُ. فَهُوَ فِي مَزِيدٍ، وَلَوْ فَتَرَتْ جَوَارِحُهُ. بَلْ قَدْ يَكُونُ مَزِيدُهُ فِي حَالِ سُكُونِهِ وَفُتُورِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَزِيدِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ النَّوَافِلِ بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا. وَيَبْلُغُ ذَلِكَ بِصَاحِبِهِ إِلَى أَنْ يَكُونَ مَزِيدُهُ فِي حَالِ نَوْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَزِيدِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِيَامِ. وَأَكْلُهُ أَكْثَرَ مِنْ مَزِيدِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ وَالْجُوعِ. فَإِنْ أَنْكَرْتَ هَذَا فَتَأَمَّلْ مَزِيدَ نَائِمٍ بِاللَّهِ، وَقِيَامَ غَافِلٍ عَنِ اللَّهِ. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ، وَالْهِمَمِ وَالْعَزَائِمِ، لَا إِلَى صُوَرِ الْأَعْمَالِ. وَقِيمَةُ الْعَبْدِ: هِمَّتُهُ وَإِرَادَتُهُ. فَمَنْ لَا يُرْضِيهِ غَيْرُ اللَّهِ - وَلَوْ أُعْطِيَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا - لَهُ شَأْنٌ. وَمَنْ يُرْضِيهِ أَدْنَى حَظٍّ مِنْ حُظُوظِهَا لَهُ شَأْنٌ. وَإِنْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمَا فِي الصُّورَةِ الْوَاحِدَةِ. وَقَدْ تَكُونُ أَعْمَالُ الْمُلْتَفِتِ إِلَى الْحُظُوظِ أَكْثَرَ وَأَشَقَّ. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الشَّأْنِ فِي مَسْأَلَةٍ. وَهِيَ: هَلْ لِلرِّضَا حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ؟ فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ لَا حَدَّ لَهَا: الزُّهْدُ، وَالْوَرَعُ، وَالرِّضَا. وَخَالَفَهُ سُلَيْمَانُ ابْنُهُ - وَكَانَ عَارِفًا، حَتَّى إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يُقَدِّمُهُ عَلَى أَبِيهِ -

فَقَالَ: بَلْ مَنْ تَوَرَّعَ فِي كُلِّ شَيْءٍ: فَقَدْ بَلَغَ حَدَّ الْوَرَعِ. وَمَنْ زَهِدَ فِي غَيْرِ اللَّهِ: فَقَدْ بَلَغَ حَدَّ الزُّهْدِ. وَمَنْ رَضِيَ عَنِ اللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ: فَقَدْ بَلَغَ حَدَّ الرِّضَا. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ. وَهِيَ: أَهْلُ مَقَامَاتٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهُمْ: يُحِبُّ الْمَوْتَ شَوْقًا إِلَى اللَّهِ وَلِقَائِهِ. وَالثَّانِي: يُحِبُّ الْبَقَاءَ لِلْخِدْمَةِ وَالتَّقَرُّبِ. وَقَالَ الثَّالِثُ: لَا أَخْتَارُ. بَلْ أَرْضَى بِمَا يَخْتَارُ لِي مَوْلَايَ، إِنْ شَاءَ أَحْيَانِي، وَإِنْ شَاءَ أَمَاتَنِي. فَتَحَاكَمُوا إِلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ. فَقَالَ: صَاحِبُ الرِّضَا أَفْضَلُهُمْ. لِأَنَّهُ أَقَلُّهُمْ فُضُولًا، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَى السَّلَامَةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَقَامَ الرِّضَا فَوْقَ مَقَامِ الشَّوْقِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا. بَقِيَ النَّظَرُ فِي مَقَامَيِ الْآخَرِينَ: أَيُّهُمَا أَعْلَى؟ فَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ مَقَامَ مَنْ أَحَبَّ الْمَوْتَ. لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ الشَّوْقِ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ وَمَحَبَّةِ لِقَائِهِ. وَمَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ. وَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ مَقَامَ مُرِيدِ الْبَقَاءِ لِتَنْفِيذِ أَوَامِرِ الرَّبِّ تَعَالَى. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْأَوَّلَ مُحِبٌّ لِحَظِّهِ مِنَ اللَّهِ. وَهَذَا مُحِبٌّ لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ. لَمْ يَشْبَعْ مِنْهُ، وَلَمْ يَقْضِ مِنْهُ وَطَرًا. قَالُوا: وَهَذَا حَالُ مُوسَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - حِينَ لَطَمَ وَجْهَ مَلَكِ الْمَوْتِ. فَفَقَأَ عَيْنَهُ، لَا مَحَبَّةً لِلدُّنْيَا، وَلَكِنْ لِيُنَفِّذَ أَوَامِرَ رَبِّهِ. وَمَرَاضِيهِ فِي النَّاسِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ عَبْدُهُ، وَأَنَا عَبْدُهُ. وَأَنْتَ فِي طَاعَتِهِ. وَأَنَا فِي طَاعَتِهِ وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ. وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: إِنَّ حَالَ الرَّاضِي الْمُسَلِّمِ يَنْتَظِمُ حَالَيْهِمَا جَمِيعًا، مَعَ زِيَادَةِ التَّسْلِيمِ، وَتَرْكِ الِاخْتِيَارِ، فَإِنَّهُ قَدْ غَابَ بِمُرَادِ رَبِّهِ مِنْهُ - مِنْ إِحْيَائِهِ وَإِمَاتَتِهِ - عَنْ مُرَادِهِ هُوَ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. وَكُلُّ مُحِبٍّ فَهُوَ مُشْتَاقٌ إِلَى لِقَاءِ حَبِيبِهِ، مُؤْثِرٌ لِمَرَاضِيهِ. فَقَدْ أَخَذَ بِزِمَامِ كُلٍّ مِنَ الْمَقَامَيْنِ، وَاتَّصَفَ بِالْحَالَيْنِ. وَقَالَ: أَحَبُّ ذَلِكَ إِلَيَّ أَحَبُّهُ

إِلَيْهِ لَا أَتَمَنَّى غَيْرَ رِضَاهُ. وَلَا أَتَخَيَّرُ عَلَيْهِ إِلَّا مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. قَالَ: الثَّانِي: سُقُوطُ الْخُصُومَةِ عَنِ الْخَلْقِ. يَعْنِي أَنَّ الرِّضَا إِنَّمَا يَصِحُّ بِسُقُوطِ الْخُصُومَةِ مَعَ الْخَلْقِ. فَإِنَّ الْخُصُومَةَ تُنَافِي حَالَ الرِّضَا. وَتُنَافِي نِسْبَةَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا إِلَى مَنْ بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. فَفِي الْخُصُومَةِ آفَاتٌ. أَحَدُهَا: الْمُنَازَعَةُ الَّتِي تُضَادُّ الرِّضَا. الثَّانِي: نَقْصُ التَّوْحِيدِ بِنِسْبَةِ مَا يُخَاصَمُ فِيهِ إِلَى عَبْدٍ دُونَ الْخَالِقِ لِكُلِّ شَيْءٍ. الثَّالِثُ: نِسْيَانُ الْمُوجِبِ وَالسَّبَبِ الَّذِي جَرَّ إِلَى الْخُصُومَةِ. فَلَوْ رَجَعَ الْعَبْدُ إِلَى السَّبَبِ وَالْمُوجِبِ لَكَانَ اشْتِغَالُهُ بِدَفْعِهِ أَجْدَى عَلَيْهِ، وَأَنْفَعَ لَهُ مِنْ خُصُومَةِ مَنْ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ. فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا - فَهُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِظُلْمِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] فَأَخْبَرَ عَنْ أَذَى عَدُوِّهِمْ لَهُمْ، وَغَلَبَتِهِمْ لَهُمْ: إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] . فَإِذَا اجْتَمَعَتْ بَصِيرَةُ الْعَبْدِ عَلَى مَشَاهِدِ الْقَدَرِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ: انْسَدَّ عَنْهُ بَابُ خُصُومَةِ الْخَلْقِ، إِلَّا فِيمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. فَالرَّاضِي لَا يُخَاصِمُ وَلَا يُعَاتِبُ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ. وَهَذِهِ كَانَتْ حَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُخَاصِمُ أَحَدًا وَلَا يُعَاتِبُهُ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ. كَمَا أَنَّهُ كَانَ لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ. فَإِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ. فَالْمُخَاصَمَةُ لِحَظِّ النَّفْسِ تُطْفِئُ نُورَ الرِّضَا، وَتُذْهِبُ بَهْجَتَهُ. وَتُبَدِّلُ بِالْمَرَارَةِ حَلَاوَتَهُ. وَتُكَدِّرُ صَفْوَهُ. قَالَ: الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْخَلَاصُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ لِلْخَلْقِ وَالْإِلْحَاحِ.

وَذَلِكَ: لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ: فِيهَا ضَرْبٌ مِنَ الْخُصُومَةِ، وَالْمُنَازَعَةِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَالرُّجُوعِ عَنْ مَالِكِ الضَّرِّ وَالنَّفْعِ إِلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا بِرَبِّهِ. وَفِيهَا الْغَيْبَةُ عَنِ الْمُعْطِي الْمَانِعِ. وَالْإِلْحَاحُ يُنَافِي حَالَ الرِّضَا وَوَصْفَهُ. وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الَّذِينَ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا. فَقَالَ تَعَالَى {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَسْأَلُونَ النَّاسَ مَا تَدْعُو حَاجَتُهُمْ إِلَى سُؤَالِهِ. وَلَكِنْ لَا يُلْحِفُونَ. فَنَفَى اللَّهُ عَنْهُمْ سُؤَالَ الْإِلْحَافِ، لَا مُطْلَقَ السُّؤَالِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ غَدَاءٌ لَمْ يَسْأَلْ عَشَاءً. وَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ عَشَاءٌ لَمْ يَسْأَلْ غَدَاءً. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ - مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ، وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا - بَلِ الْآيَةُ اقْتَضَتْ تَرْكَ السُّؤَالِ مُطْلَقًا. لِأَنَّهُمْ وُصِفُوا بِالتَّعَفُّفِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِسِيمَاهُمْ، دُونَ الْإِفْصَاحِ بِالْمَسْأَلَةِ. لِأَنَّهُمْ لَوْ أَفْصَحُوا بِالسُّؤَالِ لَمْ يَحْسَبْهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] . فَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَا يَكُونُ مِنْهُمْ سُؤَالٌ، فَيَقَعُ إِلْحَافٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] أَيْ لَا تَكُونُ شَفَاعَةٌ فَتَنْفَعَ. وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {لَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 123] أَيْ لَا يَكُونُ عَدْلٌ فَيُقْبَلَ، وَنَظَائِرُهُ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى لِمَنَارِهِ أَيْ لَيْسَ لَهُ مَنَارٌ يُهْتَدَى بِهِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: لَا يَسْأَلُونَ أَلْبَتَّةَ. فَيُخْرِجَهُمُ السُّؤَالُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إِلَى الْإِلْحَافِ. فَيَجْرِي هَذَا مَجْرَى قَوْلِكَ: فُلَانٌ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ. أَيْ لَيْسَ لَهُ خَيْرٌ فَيُرْجَى.

وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَمْ يَثْبُتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ مِنْهُمْ. لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَيْسَ مِنْهُمْ مَسْأَلَةٌ، فَيَكُونَ مِنْهُمْ إِلْحَافٌ. قَالَ: وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا يُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا ... وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ أَيْ لَيْسَ بِهَا أَرْنَبٌ فَتُفْزَعَ لِهَوْلِهَا، وَلَا ضَبٌّ فَيَنْجَحِرَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نَفَى الْإِلْحَافَ عَنْهُمْ. وَهُوَ يُرِيدُ نَفْيَ جَمِيعِ السُّؤَالِ. فَصْلٌ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْأَصْلِ حَرَامٌ. وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ. لِأَنَّهَا ظُلْمٌ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَظُلْمٌ فِي حَقِّ الْمَسْئُولِ. وَظُلْمٌ فِي حَقِّ السَّائِلِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ بَذَلَ سُؤَالَهُ وَفَقْرَهُ وَذُلَّهُ وَاسْتِعْطَاءَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَذَلِكَ نَوْعُ عُبُودِيَّةٍ. فَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. وَأَنْزَلَهَا بِغَيْرِ أَهْلِهَا. وَظَلَمَ تَوْحِيدَهُ وَإِخْلَاصَهُ. وَفَقْرَهُ إِلَى اللَّهِ، وَتَوَكُّلَهُ عَلَيْهِ وَرِضَاهُ بِقَسْمِهِ. وَاسْتَغْنَى بِسُؤَالِ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَةِ رَبِّ النَّاسِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ يَهْضِمُ مِنْ حَقِّ التَّوْحِيدِ، وَيُطْفِئُ نُورَهُ وَيُضْعِفُ قُوَّتَهُ. وَأَمَّا ظُلْمُهُ لِلْمَسْئُولِ: فَلِأَنَّهُ سَأَلَهُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ. فَأَوْجَبَ لَهُ بِسُؤَالِهِ عَلَيْهِ حَقًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ. وَعَرَّضَهُ لِمَشَقَّةِ الْبَذْلِ، أَوْ لَوْمِ الْمَنْعِ. فَإِنْ أَعْطَاهُ، أَعْطَاهُ عَلَى كَرَاهَةٍ. وَإِنْ مَنْعَهُ. مَنَعَهُ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ وَإِغْمَاضٍ. هَذَا إِذَا سَأَلَهُ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِذَا سَأَلَهُ حَقًّا هُوَ لَهُ عِنْدَهُ: فَلَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ. وَلَمْ يَظْلِمْهُ بِسُؤَالِهِ. وَأَمَّا ظُلْمُهُ لِنَفْسِهِ: فَإِنَّهُ أَرَاقَ مَاءَ وَجْهِهِ. وَذَلَّ لِغَيْرِ خَالِقِهِ. وَأَنْزَلَ نَفْسَهُ أَدْنَى الْمَنْزِلَتَيْنِ. وَرَضِيَ لَهَا بِأَبْخَسِ الْحَالَتَيْنِ. وَرَضِيَ بِإِسْقَاطِ شَرَفِ نَفْسِهِ، وَعِزَّةِ تَعَفُّفِهِ، وَرَاحَةِ

قَنَاعَتِهِ. وَبَاعَ صَبْرَهُ وَرِضَاهُ وَتَوَكُّلَهُ، وَقَنَاعَتَهُ بِمَا قُسِمَ لَهُ، وَاسْتِغْنَاءَهُ عَنِ النَّاسِ بِسُؤَالِهِمْ. وَهَذَا عَيْنُ ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ. إِذْ وَضَعَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. وَأَخْمَلَ شَرَفَهَا. وَوَضَعَ قَدْرَهَا. وَأَذْهَبَ عِزَّهَا. وَصَغَّرَهَا وَحَقَّرَهَا. وَرَضِيَ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ تَحْتَ نَفْسِ الْمَسْئُولِ. وَيَدُهُ تَحْتَ يَدِهِ. وَلَوْلَا الضَّرُورَةُ لَمْ يُبَحْ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا. فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى النَّاسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ. فَيَتَصَدَّقَ بِهِ، وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنِ النَّاسِ: خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ. ذَلِكَ بِأَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» . زَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «وَلَأَنْ يَأْخُذَ تُرَابًا فَيَجْعَلَهُ فِي فِيهِ: خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ فِي فِيهِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ. فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةٍ مِنَ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا. فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ: خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ. حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ. فَقَالَ لَهُمْ - حِينَ أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِيَدِهِ -: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ. وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ. وَمَنْ يَتَصَبَّرُ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ. وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ وَالْمَسْأَلَةَ - الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. فَالْيَدُ الْعُلْيَا: هِيَ الْمُنْفِقَةُ. وَالْيَدُ السُّفْلَى: هِيَ السَّائِلَةُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي. ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي. ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ. فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ. وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ. وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ. وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بِعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ. فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا. فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ: أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ» . مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: قَالَ: «كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ شَيْئًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا. قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ. فَوَاللَّهِ

لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا، فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ. فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ.» . وَفِي لَفْظٍ «إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ. فَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ وَشَرَهٍ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَبِيبُ الْأَمِينُ - أَمَّا هُوَ: فَحَبِيبٌ إِلَيَّ. وَأَمَّا هُوَ عِنْدِي: فَأَمِينٌ. عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً - أَوْ ثَمَانِيَةً، أَوْ سَبْعَةً - فَقَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ - وَكُنَّا حَدِيثِي عَهْدٍ بِبَيْعَتِهِ - فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا. وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَتُطِيعُوا اللَّهَ - وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً - وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا. فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا، أَوْ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عُقْبَةَ الْفَزَارِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، أَلَا أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْمَسَائِلُ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ. فَمَنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَى وَجْهِهِ. وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ رَجُلٌ ذَا سُلْطَانٍ، أَوْ يَسْأَلَ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ» . وَعَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَتَقَبَّلْ لِي بِوَاحِدَةٍ وَأَتَقَبَّلْ

لَهُ بِالْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: أَنَا. قَالَ: لَا تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا. فَكَانَ ثَوْبَانُ يَقَعُ سَوْطُهُ، وَهُوَ رَاكِبٌ. فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ: نَاوِلْنِيهِ، حَتَّى يَنْزِلَ هُوَ فَيَتَنَاوَلَهُ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ. فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ: لَمْ تَسُدَّ فَاقَتَهُ. وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ: أَوْشَكَ اللَّهُ لَهُ بِالْغِنَى: إِمَّا بِمَوْتٍ عَاجِلٍ، أَوْ غِنًى عَاجِلٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ: «قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ. فَسَأَلَاهُ. فَأَمَرَ لَهُمَا بِمَا سَأَلَاهُ. وَأَمَرَ مُعَاوِيَةَ فَكَتَبَ لَهُمَا بِمَا سَأَلَا. فَأَمَّا الْأَقْرَعُ: فَأَخَذَ كِتَابَهُ فَلَفَّهُ فِي عِمَامَتِهِ وَانْطَلَقَ. وَأَمَّا عُيَيْنَةُ: فَأَخَذَ كِتَابَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِهِ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرَانِي حَامِلًا إِلَى قَوْمِي كِتَابًا لَا أَدْرِي مَا فِيهِ، كَصَحِيفَةِ الْمُتَلَمِّسِ، فَأَخْبَرَ مُعَاوِيَةُ بِقَوْلِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنَ النَّارِ - وَفِي لَفْظٍ: مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُغْنِيهِ؟ - وَفِي لَفْظٍ: وَمَا الْغِنَى الَّذِي لَا تَنْبَغِي مَعَهُ الْمَسْأَلَةُ؟ - قَالَ: قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ وَمَا يُعَشِّيهِ» . وَفِي لَفْظٍ: «أَنْ يَكُونَ لَهُ شِبَعُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعَنِ ابْنِ الْفِرَاسِيِّ أَنَّ الْفِرَاسِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْأَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، وَإِنْ كُنْتَ سَائِلًا لَا بُدَّ فَسَلِ الصَّالِحِينَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ، قَالَ: «تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ: فَقَالَ: أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ. فَآمُرَ لَكَ بِهَا. ثُمَّ قَالَ: يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحْمَّلَ حَمَالَةً. فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ. وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ

جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ - وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ. فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ - فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَسَأَلَهُ. فَأَعْطَاهُ. فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ مَا مَشَى أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ يَسْأَلُهُ شَيْئًا» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ نَضْلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ. فَيَدُ اللَّهِ: الْعُلْيَا، وَيَدُ الْمُعْطِي: الَّتِي تَلِيهَا، وَيَدُ السَّائِلِ: السُّفْلَى. فَأَعْطِ الْفَضْلَ. وَلَا تَعْجِزْ عَنْ نَفْسِكَ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: «مَنْ سَأَلَ مَسْأَلَةً - وَهُوَ عَنْهَا غَنِيٌّ - كَانَتْ شَيْنًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: «ثَلَاثٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنْ كُنْتُ لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ: لَا يَنْقُصُ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، فَتَصَدَّقُوا. وَلَا يَعْفُو عَبْدٌ عَنْ مَظْلَمَةٍ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا. وَلَا يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «سَرَّحَتْنِي أُمِّي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ. فَأَتَيْتُهُ فَقَعَدْتُ. قَالَ: فَاسْتَقْبَلَنِي، فَقَالَ: مَنِ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ، وَمَنِ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ، وَمَنِ اسْتَكْفَى كَفَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ، فَقَدْ أَلْحَفَ. فَقُلْتُ: نَاقَتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ. وَلَمْ أَسْأَلْهُ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ خَالِدِ بْنِ عَدِيٍّ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ جَاءَهُ مِنْ أَخِيهِ مَعْرُوفٌ، مِنْ غَيْرِ إِشْرَافٍ وَلَا مَسْأَلَةٍ. فَلْيَقْبَلْهُ وَلَا يَرُدَّهُ. فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. فَهَذَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مِنْ شَرْطِ الرِّضَا: تَرْكَ الْإِلْحَاحِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَلْيَقُ الْمَعْنَيَيْنِ وَأَوْلَاهُمَا. لِأَنَّهُ قَرَنَهُ بِتَرْكِ الْخُصُومَةِ مَعَ الْخَلْقِ. فَلَا يُخَاصِمُهُمْ فِي حَقِّهِ. وَلَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ حُقُوقَهُ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُلِحُّ فِي الدُّعَاءِ. وَلَا يُبَالِغُ فِيهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي رِضَاهُ. وَهَذَا يَصِحُّ فِي وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ فَيَصِحُّ إِذَا كَانَ الدَّاعِي يُلِحُّ فِي الدُّعَاءِ بِأَغْرَاضِهِ وَحُظُوظِهِ الْعَاجِلَةِ. وَأَمَّا إِذَا أَلَحَّ عَلَى اللَّهِ فِي سُؤَالِهِ بِمَا فِيهِ رِضَاهُ وَالْقُرْبُ مِنْهُ: فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي مَقَامِ الرِّضَا أَصْلًا. وَفِي الْأَثَرِ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ» . «وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ بَدْرٍ - لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ. كَفَاكَ بَعْضُ مُنَادَتِكَ لِرَبِّكَ» فَهَذَا الْإِلْحَاحُ عَيْنُ الْعُبُودِيَّةِ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» . فَإِذَا كَانَ سُؤَالُهُ يُرْضِيهِ لَمْ يَكُنِ الْإِلْحَاحُ فِيهِ مُنَافِيًا لِرِضَاهُ.

وَحَقِيقَةُ الرِّضَا: مُوَافَقَتُهُ سُبْحَانَهُ فِي رِضَاهُ. بَلِ الَّذِي يُنَافِي الرِّضَا: أَنْ يُلِحَّ عَلَيْهِ. مُتَحَكِّمًا عَلَيْهِ، مُتَخَيِّرًا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ: هَلْ يُرْضِيهِ أَمْ لَا؟ كَمَنْ يُلِحُّ عَلَى رَبِّهِ فِي وِلَايَةِ شَخْصٍ، أَوْ إِغْنَائِهِ، أَوْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ. فَهَذَا يُنَافِي الرِّضَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ مَرْضَاةَ الرَّبِّ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ حَاجَةٌ يُبَاحُ لَهُ سُؤَالُهُ إِيَّاهَا. فَيُلِحُّ عَلَى رَبِّهِ فِي طَلَبِهَا حَتَّى يَفْتَحَ لَهُ مِنْ لَذِيذِ مُنَاجَاتِهِ وَسُؤَالِهِ، وَالذُّلِّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَمَلُّقِهِ، وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَتَفْرِيغِ الْقَلْبِ لَهُ، وَعَدَمِ تَعَلُّقِهِ فِي حَاجَتِهِ بِغَيْرِهِ -: مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِدُونِ الْإِلْحَاحِ. فَهَلْ يُكْرَهُ لَهُ هَذَا الْإِلْحَاحُ. وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ حَظًّا مِنْ حُظُوظِهِ؟ قِيلَ: هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَفْنَى بِمَطْلُوبِهِ وَحَاجَتِهِ عَنْ مُرَادِهِ وَرِضَاهُ، وَيَجْعَلَ الرَّبَّ تَعَالَى وَسِيلَةً إِلَى مَطْلُوبِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَهَمَّ إِلَيْهِ مِنْهُ. فَهَذَا يُنَافِي كَمَالَ الرِّضَا بِهِ وَعَنْهُ. الثَّانِي: أَنْ يُفْتَحَ عَلَى قَلْبِهِ - حَالَ السُّؤَالِ - مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالذُّلِّ لَهُ، وَالْخُضُوعِ وَالتَّمَلُّقِ: مَا يُنْسِيهِ حَاجَتَهُ. وَيَكُونَ مَا فُتِحَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ حَاجَتِهِ. بِحَيْثُ يُحِبُّ أَنْ تَدُومَ لَهُ تِلْكَ الْحَالُ، وَتَكُونَ آثَرَ عِنْدَهُ مِنْ حَاجَتِهِ. وَفَرَحُهُ بِهَا أَعْظَمُ مِنْ فَرَحِهِ بِحَاجَتِهِ لَوْ عُجِّلَتْ لَهُ وَفَاتَهُ ذَلِكَ. فَهَذَا لَا يُنَافِي رِضَاهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّهُ لَأَنْ تَكُونَ لِي حَاجَةٌ إِلَى اللَّهِ. فَأَسْأَلَهُ إِيَّاهَا. فَيَفْتَحَ عَلَيَّ مِنْ مُنَاجَاتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالتَّذَلُّلِ لَهُ، وَالتَّمَلُّقِ بَيْنَ يَدَيْهِ: مَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ عَنِّي قَضَاءَهَا. وَتَدُومَ لِي تِلْكَ الْحَالُ. وَفِي أَثَرٍ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَدْعُو رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ: اقْضُوا حَاجَةَ عَبْدِي وَأَخِّرُوهَا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ دُعَاءَهُ، وَيَدْعُوهُ آخَرُ. فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: اقْضُوا حَاجَتَهُ وَعَجِّلُوهَا. فَإِنِّي أَكْرَهُ صَوْتَهُ» . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ» .

فصل الدرجة الثالثة الرضا برضا الله

وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ. فَلْيُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ فِي الرَّخَاءِ» . وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ، حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمِلْحَ، وَحَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ» . وَفِيهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَافِيَةَ. وَإِنَّ الدُّعَاءَ لَيَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ. فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ» . وَإِذَا كَانَ هَذَا مَحَبَّةَ الرَّبِّ تَعَالَى لِلدُّعَاءِ، فَلَا يُنَافِي الْإِلْحَاحُ فِيهِ الرِّضَا. الثَّالِثُ: أَنْ يَنْقَطِعَ طَمَعُهُ مِنَ الْخَلْقِ. وَيَتَعَلَّقَ بِرَبِّهِ فِي طَلَبِ حَاجَتِهِ، وَقَدْ أَفْرَدَهُ بِالطَّلَبِ. وَلَا يَلْوِي عَلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ. فَهَذَا قَدْ تَنْشَأُ لَهُ الْمَصْلَحَةُ مِنْ نَفْسِ الطَّلَبِ، وَإِفْرَادِ الرَّبِّ بِالْقَصْدِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ: أَنَّ ذَلِكَ قَدْ فُتِحَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ حَاجَتِهِ. فَهُوَ لَا يُبَالِي بِفَوَاتِهَا بَعْدَ ظَفَرِهِ بِمَا فُتِحَ عَلَيْهِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الرِّضَا بِرِضَا اللَّهِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الرِّضَا بِرِضَا اللَّهِ. فَلَا يَرَى الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ سُخْطًا، وَلَا رِضًا. فَيَبْعَثُهُ عَلَى تَرْكِ التَّحَكُّمِ، وَحَسْمِ الِاخْتِيَارِ، وَإِسْقَاطِ التَّمْيِيزِ، وَلَوْ أُدْخِلَ النَّارَ.

إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا مِنَ الدَّرَجَاتِ عِنْدَهُ: لِأَنَّهَا دَرَجَةُ صَاحِبِ الْجَمْعِ، الْفَانِي بِرَبِّهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَمَّا مِنْهَا، قَدْ غَيَّبَهُ شَاهِدُ رِضَا اللَّهِ بِالْأَشْيَاءِ فِي وُقُوعِهَا عَلَى مُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ عَنْ شَاهِدِ رِضَاهُ هُوَ. فَيَشْهَدُ الرِّضَا لِلَّهِ وَمِنْهُ حَقِيقَةً. وَيَرَى نَفْسَهُ فَانِيًا، ذَاهِبًا مَفْقُودًا. فَهُوَ يَسْتَوْحِشُ مِنْ نَفْسِهِ، وَمِنْ صِفَاتِهَا، وَمِنْ رِضَاهَا، وَمِنْ سُخْطِهَا، فَهُوَ عَامِلٌ عَلَى التَّغَيُّبِ عَنْ وُجُودِهِ وَعَمَّا مِنْهُ. مُتَرَامٍ إِلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ. قَدْ تَلَاشَى وُجُودُهُ وَنَفْسُهُ وَصِفَاتُهَا فِي وُجُودِ مَوْلَاهُ الْمَلِكِ الْحَقِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. كَمَا يَتَلَاشَى ضَوْءُ السِّرَاجِ الضَّعِيفِ فِي جِرْمِ الشَّمْسِ. فَغَابَ بِرِضَا رَبِّهِ عَنْ رِضَاهُ هُوَ وَعَنْ رَبِّهِ فِي أَقْضِيَتِهِ وَأَقْدَارِهِ. وَغَابَ بِصِفَاتِ رَبِّهِ عَنْ صِفَاتِهِ. وَبِأَفْعَالِهِ عَنْ أَفْعَالِهِ. فَتَلَاشَى وُجُودُهُ وَصِفَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ فِي جَنْبِ وُجُودِ رَبِّهِ وَصِفَاتِهِ، بِحَيْثُ صَارَ كَالْعَدَمِ الْمَحْضِ. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ رِضًا وَلَا سُخْطًا. فَيُوجِبُ لَهُ هَذَا الْفَنَاءُ: تَرْكَ التَّحَكُّمِ عَلَى اللَّهِ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ. وَتَرْكَ التَّخَيُّرِ عَلَيْهِ. فَتَذْهَبُ مَادَّةُ التَّحَكُّمِ وَتَفْنَى. وَتَنْحَسِمُ مَادَّةُ الِاخْتِيَارِ وَتَتَلَاشَى. وَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْقُطُ تَمْيِيزُ الْعَبْدِ وَيَتَلَاشَى. هَذَا تَقْدِيرُ كَلَامِهِ. وَبَعْدُ، فَهَاهُنَا أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا حَالٌ يَعْرِضُ. لَا مَقَامٌ يُطْلَبُ، وَيُشَمَّرُ إِلَيْهِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْحَالَ مَتَى عَرَضَتْ لَهُ وَارَتْ عَنْهُ تَمْيِيزَهُ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَدُومَ لَهُ ذَلِكَ. بَلْ يَقْصُرُ زَمَنُهُ وَيَطُولُ. ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى تَمْيِيزِهِ وَعَقْلِهِ. وَصَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ مَغْلُوبٌ: إِمَّا سَكْرَانُ. بِحَالِهِ، وَإِمَّا فَانٍ عَنْ وُجُودِهِ. وَالْكَمَالُ وَرَاءَ ذَلِكَ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فَانِيًا عَنْ إِرَادَتِهِ بِإِرَادَةِ رَبِّهِ مِنْهُ. فَيَكُونَ بَاقِيًا بِوُجُودٍ آخَرَ غَيْرِ وُجُودِهِ الطَّبِيعِيِّ. وَهُوَ وُجُودٌ مُطَهِّرٌ كَائِنٌ بِاللَّهِ. وَلِلَّهِ. وَمَعَ اللَّهِ. وَصَاحِبُ هَذَا فِي مَقَامِ: " فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ ". قَدْ فَنِيَ عَنْ وُجُودِهِ الطَّبِيعِيِّ وَالنَّفْسِيِّ. وَبَقِيَ بِهَذَا الْوُجُودِ الْعُلْوِيِّ الْقُدْسِيِّ. فَيَعُودُ عَلَيْهِ تَمْيِيزُهُ، وَفُرْقَانُهُ، وَرِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى، وَمَقَامَاتُ إِيمَانِهِ. وَهَذَا أَكْمَلُ وَأَعْلَى مِنْ فَنَائِهِ عَنْهَا كَالسَّكْرَانِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلْ يُمْكِنُ وُصُولُهُ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ مِنْ غَيْرِ دَرْبِ الْفَنَاءِ، وَعُبُورِهِ إِلَيْهِ عَلَى غَيْرِ جِسْرِهِ؟ قُلْتُ: اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ. فَطَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى الْبَقَاءِ، وَإِلَى هَذَا الْوُجُودِ الْمُطَهَّرِ إِلَّا بَعْدَ عُبُورِهِ عَلَى جِسْرِ الْفَنَاءِ. فَعَدُّوهُ لَازِمًا مِنْ لَوَازِمِ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَى الْبَقَاءِ عَلَى غَيْرِ دَرْبِ الْفَنَاءِ، وَالْفَنَاءُ عِنْدَهُمْ عَارَضٌ مِنْ عَوَارِضِ الطَّرِيقِ، لَا لَازِمٌ. وَسَبَبُهُ: قُوَّةُ الْوَارِدِ وَضَعْفُ الْمَحَلِّ وَاسْتِجْلَابُهُ بِتَعَاطِي أَسْبَابِهِ.

فصل منزلة الشكر

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا بَعْدَ عُبُورِهِ عَلَى جِسْرِ الْفَنَاءِ عَنْ مُرَادِهِ بِمُرَادِ سَيِّدِهِ. فَمَا دَامَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الْفَنَاءُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى ذَلِكَ الْبَقَاءِ. وَأَمَّا فَنَاؤُهُ عَنْ وُجُودِهِ: فَلَيْسَ شَرْطًا لِذَلِكَ الْبَقَاءِ. وَلَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ. وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ: هُوَ فِي رِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ بِرَبِّهِ لَا بِنَفْسِهِ. كَمَا هُوَ فِي تَوَكُّلِهِ، وَتَفْوِيضِهِ، وَتَسْلِيمِهِ، وَإِخْلَاصِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِ بِرَبِّهِ، لَا بِنَفْسِهِ. فَيَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ عَيْنِ الْمِنَّةِ وَالْفَضْلِ، مُسْتَعْمَلًا فِيهِ. قَدْ أُقِيمَ فِيهِ. لَا أَنَّهُ قَدْ قَامَ هُوَ بِهِ. فَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ مَشْهَدِ {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28] وَمَشْهَدِ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] . وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الشُّكْرِ] [حَقِيقَةُ الشُّكْرِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الشُّكْرِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الشُّكْرِ وَهِيَ مِنْ أَعْلَى الْمَنَازِلِ. وَهِيَ فَوْقَ مَنْزِلَةِ الرِّضَا وَزِيَادَةٌ. فَالرِّضَا مُنْدَرِجٌ فِي الشُّكْرِ. إِذْ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ الشُّكْرِ بِدُونِهِ. وَهُوَ نِصْفُ الْإِيمَانِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَالْإِيمَانُ نِصْفَانِ: نِصْفٌ شُكْرٌ. وَنِصْفٌ صَبْرٌ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَنَهَى عَنْ ضِدِّهِ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ. وَوَصَفَ بِهِ خَوَاصَّ خَلْقِهِ. وَجَعَلَهُ غَايَةَ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ. وَوَعَدَ أَهْلَهُ بِأَحْسَنِ جَزَائِهِ. وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ. وَحَارِسًا وَحَافِظًا لِنِعْمَتِهِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَهُ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِآيَاتِهِ. وَاشْتَقَّ لَهُمُ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الشَّكُورُ وَهُوَ يُوَصِلُ الشَّاكِرَ إِلَى مَشْكُورِهِ بَلْ يُعِيدُ الشَّاكِرَ مَشْكُورًا. وَهُوَ غَايَةُ الرَّبِّ مِنْ عَبْدِهِ. وَأَهْلُهُ هُمُ الْقَلِيلُ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114] وَقَالَ {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] وَقَالَ عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل: 120 - 121] وَقَالَ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] وَقَالَ تَعَالَى:

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17] وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] وَسَمَّى نَفْسَهُ شَاكِرًا وَشَكُورًا وَسَمَّى الشَّاكِرِينَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ. فَأَعْطَاهُمْ مِنْ وَصْفِهِ. وَسَمَّاهُمْ بِاسْمِهِ. وَحَسْبُكَ بِهَذَا مَحَبَّةً لِلشَّاكِرِينَ وَفَضْلًا. وَإِعَادَتُهُ لِلشَّاكِرِ مَشْكُورًا. كَقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 22] وَرِضَا الرَّبِّ عَنْ عَبْدِهِ بِهِ. كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] وَقِلَّةُ أَهْلِهِ فِي الْعَالَمِينَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ خَوَاصُّهُ. كَقَوْلِهِ: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ. فَقِيلَ لَهُ: تَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟» . «وَقَالَ لِمُعَاذٍ وَاللَّهِ يَا مُعَاذُ، إِنِّي لَأُحِبُّكَ. فَلَا تَنْسَ أَنْ تَقُولَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» . وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَدْعُو بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ. وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ. وَامَكْرُ لِي وَلَا

فصل أصل الشكر في اللغة

تَمْكُرْ بِي. وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي. وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ. رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مُطَاوِعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا. رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي. وَاغْسِلْ حَوْبَتِي. وَأَجِبْ دَعْوَتِي. وَثَبِّتْ حُجَّتِي. وَاهْدِ قَلْبِي. وَسَدِّدْ لِسَانِي. وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي» . [فَصْلٍ أَصْلُ الشُّكْرِ فِي اللُّغَةِ] فَصْلٍ وَأَصْلُ الشُّكْرِ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ: ظُهُورُ أَثَرِ الْغِذَاءِ فِي أَبْدَانِ الْحَيَوَانِ ظُهُورًا بَيِّنًا. يُقَالُ: شَكِرَتِ الدَّابَّةُ تَشْكَرُ شَكَرًا عَلَى وَزْنِ سَمِنَتْ تَسْمَنُ سِمَنًا: إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا أَثَرُ الْعَلَفِ، وَدَابَّةٌ شَكُورٌ: إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ السِّمَنِ فَوْقَ مَا تَأْكُلُ وَتُعْطَى مِنَ الْعَلَفِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ حَتَّى إِنَّ الدَّوَابَّ لَتَشْكَرُ مِنْ لُحُومِهِمْ أَيْ لَتَسَمَنُ مِنْ كَثْرَةِ مَا تَأْكُلُ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ حَقِيقَتُهُ فِي الْعُبُودِيَّةِ. وَهُوَ ظُهُورُ أَثَرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ: ثَنَاءً وَاعْتِرَافًا. وَعَلَى قَلْبِهِ: شُهُودًا وَمَحَبَّةً. وَعَلَى جَوَارِحِهِ: انْقِيَادًا وَطَاعَةً. وَالشُّكْرُ مَبْنِيٌ عَلَى خَمْسِ قَوَاعِدَ: خُضُوعُ الشَّاكِرِ لِلْمَشْكُورِ. وَحُبُّهُ لَهُ. وَاعْتِرَافُهُ بِنِعْمَتِهِ. وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِهَا. وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهَا فِيمَا يَكْرَهُ. فَهَذِهِ الْخَمْسُ: هِيَ أَسَاسُ الشُّكْرِ. وَبِنَاؤُهُ عَلَيْهَا. فَمَتَى عُدِمَ مِنْهَا وَاحِدَةً: اخْتَلَّ مِنْ قَوَاعِدِ الشُّكْرِ قَاعِدَةٌ. وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الشُّكْرِ وَحْدَهُ، فَكَلَامُهُ إِلَيْهَا يَرْجِعُ. وَعَلَيْهَا يَدُورُ. فَقِيلَ: حَدُّهُ الِاعْتِرَافُ بِنِعْمَةِ الْمُنْعِمِ عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ. وَقِيلَ: الثَّنَاءُ عَلَى الْمُحْسِنِ بِذِكْرِ إِحْسَانِهِ.

وَقِيلَ: هُوَ عُكُوفُ الْقَلْبِ عَلَى مَحَبَّةِ النِّعَمِ، وَالْجَوَارِحِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَجَرَيَانُ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ مُشَاهَدَةُ الْمِنَّةِ. وَحِفْظُ الْحُرْمَةِ. وَمَا أَلْطَفَ مَا قَالَ حَمْدُونُ الْقَصَّارُ: شُكْرُ النِّعْمَةِ أَنْ تَرَى نَفْسَكَ فِيهَا طُفَيْلِيًّا. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: الشُّكْرُ مَعْرِفَةُ الْعَجْزِ عَنِ الشُّكْرِ. وَقِيلَ: الشُّكْرُ إِضَافَةُ النِّعَمِ إِلَى مُولِيهَا بِنَعْتِ الِاسْتِكَانَةِ لَهُ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الشُّكْرُ أَنْ لَا تَرَى نَفْسَكَ أَهْلًا لِلنِّعْمَةِ. هَذَا مَعْنَى قَوْلِ حَمْدُونَ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ فِيهَا طُفَيْلِيًّا. وَقَالَ رُوَيْمٌ: الشُّكْرُ اسْتِفْرَاغُ الطَّاقَةِ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: الشُّكْرُ رُؤْيَةُ الْمُنْعِمِ لَا رُؤْيَةُ النِّعْمَةِ. قُلْتُ: يَحْتَمِلُ كَلَامُهُ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْنَى بِرُؤْيَةِ الْمُنْعِمِ عَنْ رُؤْيَةِ نِعَمِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا تَحْجُبَهُ رُؤْيَةُ نِعَمِهِ وَمُشَاهَدَتُهَا عَنْ رُؤْيَةِ الْمُنْعِمِ بِهَا. وَهَذَا أَكْمَلُ. وَالْأَوَّلُ أَقْوَى عِنْدَهُمْ. وَالْكَمَالُ: أَنْ تَشْهَدَ النِّعْمَةَ وَالْمُنْعِمَ. لِأَنَّ شُكْرَهُ بِحَسَبِ شُهُودِ النِّعْمَةِ. فَكُلَّمَا كَانَ أَتَمَّ كَانَ الشُّكْرُ أَكْمَلَ. وَاللَّهُ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ: أَنْ يَشْهَدَ نِعَمَهُ، وَيَعْتَرِفَ لَهُ بِهَا. وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ بِهَا. وَيُحِبُّهُ عَلَيْهَا. لَا أَنْ يَفْنَى عَنْهَا. وَيَغِيبَ عَنْ شُهُودِهَا. وَقِيلَ: الشُّكْرُ قَيْدُ النِّعَمِ الْمَوْجُودَةِ، وَصَيْدُ النِّعَمِ الْمَفْقُودَةِ. وَشُكْرُ الْعَامَّةِ: عَلَى الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ، وَقُوتِ الْأَبْدَانِ. وَشُكْرُ الْخَاصَّةِ: عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَقُوتِ الْقُلُوبِ. وَقَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَشْكُرُكَ؟ وَشُكْرِي لَكَ نِعْمَةٌ عَلَيَّ مِنْ عِنْدِكَ تَسْتَوْجِبُ بِهَا شُكْرًا. فَقَالَ: الْآنَ شَكَرْتَنِي يَا دَاوُدُ.

فصل الفرق بين الحمد والشكر

وَفِي أَثَرٍ آخَرَ إِسْرَائِيلِيٍّ: أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا رَبِّ، خَلَقْتَ آدَمَ بِيَدِكَ. وَنَفَخْتَ فِيهِ مِنْ رُوحِكَ. وَأَسْجَدْتَ لَهُ مَلَائِكَتَكَ. وَعَلَّمْتَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ. وَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ. فَكَيْفَ شَكَرَكَ؟ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنِّي. فَكَانَتْ مَعْرِفَتُهُ بِذَلِكَ شُكْرًا لِي. وَقِيلَ: الشُّكْرُ التَّلَذُّذُ بِثَنَائِهِ، عَلَى مَا لَمْ تَسْتَوْجِبْ مِنْ عَطَائِهِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ - وَقَدْ سَأَلَهُ سَرِيٌّ عَنِ الشُّكْرِ، وَهُوَ صَبِيٌّ - الشُّكْرُ: أَنْ لَا يُسْتَعَانَ بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى مَعَاصِيهِ. فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ مُجَالَسَتِكَ. وَقِيلَ: مَنْ قَصُرَتْ يَدَاهُ عَنِ الْمُكَافَآتِ فَلْيَطُلْ لِسَانُهُ بِالشُّكْرِ. وَالشُّكْرُ مَعَهُ الْمَزِيدُ أَبَدًا. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] فَمَتَى لَمْ تَرَ حَالَكَ فِي مَزِيدٍ. فَاسْتَقْبِلِ الشُّكْرَ. وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ «أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي، وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي، وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُقَنِّطُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي. إِنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ. أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ، لِأُطَهِّرَهُمْ مِنَ الْمَعَايِبِ» . وَقِيلَ: مَنْ كَتَمَ النِّعْمَةَ فَقَدْ كَفَرَهَا. وَمَنْ أَظْهَرَهَا وَنَشَرَهَا فَقَدْ شَكَرَهَا. وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» . وَفِي هَذَا قِيلَ: وَمِنَ الرَّزِيَّةِ أَنَّ شُكْرِيَ صَامِتٌ ... عَمَّا فَعَلْتَ وَأَنَّ بِرَّكَ نَاطِقُ وَأَرَى الصَّنِيعَةَ مِنْكَ ثُمَّ أُسِرُّهَا ... إِنِّي إِذًا لِنَدَى الْكَرِيمِ لَسَارِقُ [فَصْلٌ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ] فَصْلٌ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ أَيُّهُمَا أَعْلَى وَأَفْضَلُ؟ وَفِي الْحَدِيثِ «الْحَمْدُ رَأَسُ الشُّكْرِ، فَمَنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ لَمْ يَشْكُرْهُ» .

فصل تعريف ابن القيم للشكر

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الشُّكْرَ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَنْوَاعِهِ وَأَسْبَابِهِ، وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ مُتَعَلَّقَاتِهِ. وَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَلَّقَاتِ، وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ الْأَسْبَابِ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالْقَلْبِ خُضُوعًا وَاسْتِكَانَةً، وَبِاللِّسَانِ ثَنَاءً وَاعْتِرَافًا، وَبِالْجَوَارِحِ طَاعَةً وَانْقِيَادًا. وَمُتَعَلَّقُهُ: النِّعَمُ، دُونَ الْأَوْصَافِ الذَّاتِيَّةِ، فَلَا يُقَالُ: شَكَرْنَا اللَّهَ عَلَى حَيَاتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعَلِمْهِ. وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهَا. كَمَا هُوَ مَحْمُودٌ عَلَى إِحْسَانِهِ وَعَدْلِهِ، وَالشُّكْرُ يَكُونُ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالنِّعَمِ. فَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الشُّكْرُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَمْدُ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ وَكُلُّ مَا يَقَعُ بِهِ الْحَمْدُ يَقَعُ بِهِ الشُّكْرُ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ. فَإِنَّ الشُّكْرَ يَقَعُ بِالْجَوَارِحِ. وَالْحَمْدَ يَقَعُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ. [فَصْلٌ تَعْرِيفُ ابْنِ الْقَيِّمِ لِلشُّكْرِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الشُّكْرُ: اسْمٌ لِمَعْرِفَةِ النِّعْمَةِ. لِأَنَّهَا السَّبِيلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ. وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ فِي الْقُرْآنِ: شُكْرًا. فَمَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ: رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الشُّكْرِ. لَا أَنَّهَا جُمْلَةُ الشُّكْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ: أَنَّهُ الِاعْتِرَافُ بِهَا، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِهَا، وَالْخُضُوعُ لَهُ وَمَحَبَّتُهُ، وَالْعَمَلُ بِمَا يُرْضِيهِ فِيهَا. لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْرِفَتُهَا رُكْنَ الشُّكْرِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي يَسْتَحِيلُ وُجُودُ الشُّكْرِ بِدُونِهِ: جُعِلَ أَحَدُهُمَا اسْمًا لِلْآخَرِ. قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ السَّبِيلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ. يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا عَرَفَ النِّعْمَةَ تَوَصَّلَ بِمَعْرِفَتِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ بِهَا. وَهَذَا مِنْ جِهَةِ مَعْرِفَةِ كَوْنِهَا نِعْمَةً، لَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ عَرَفَهَا بِهَا. وَمَتَى عَرَفَ الْمُنْعِمَ أَحَبَّهُ. وَجَدَّ فِي طَلَبِهِ. فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ أَحَبَّهُ لَا مَحَالَةَ. وَمَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا أَبْغَضَهَا لَا مَحَالَةَ.

وَعَلَى هَذَا: يَكُونُ قَوْلُهُ: الشُّكْرُ اسْمٌ لِمَعْرِفَةِ النِّعْمَةِ. مُسْتَلْزِمًا لِمَعْرِفَةِ الْمُنِعِمِ. وَمَعْرِفَتُهُ تَسْتَلْزِمُ مَحَبَّتَهُ. وَمَحَبَّتُهُ تَسْتَلْزِمُ شُكْرَهُ. فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ بَعْضَ أَقْسَامِ الشُّكْرِ بِاللَّفْظِ. وَنَبَّهَ عَلَى سَائِرِهَا بِاللُّزُومِ. وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ اخْتِصَارِهِ. وَكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ وَتَصَوُّرِهِ، قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ. قَالَ: وَمَعَانِي الشُّكْرِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: مَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ. ثُمَّ قَبُولُ النِّعْمَةِ. ثُمَّ الثَّنَاءُ بِهَا. وَهُوَ أَيْضًا مِنْ سُبُلِ الْعَامَّةِ. أَمَّا مَعْرِفَتُهَا: فَهُوَ إِحْضَارُهَا فِي الذِّهْنِ، وَمُشَاهَدَتُهَا وَتَمْيِيزُهَا. فَمَعْرِفَتُهَا: تَحْصِيلُهَا ذِهْنًا، كَمَا حَصَلَتْ لَهُ خَارِجًا. إِذْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ تُحْسِنُ إِلَيْهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي. فَلَا يَصِحُّ مِنْ هَذَا الشُّكْرُ. قَوْلُهُ: ثُمَّ قَبُولُ النِّعْمَةِ. قَبُولُهَا: هُوَ تَلَقِّيهَا مِنَ الْمُنْعِمِ بِإِظْهَارِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ إِلَيْهَا. وَأَنَّ وُصُولَهَا إِلَيْهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُ، وَلَا بَذْلِ ثَمَنٍ. بَلْ يَرَى نَفْسَهُ فِيهَا كَالطُّفَيْلِيِّ. فَإِنَّ هَذَا شَاهِدٌ بِقَبُولِهَا حَقِيقَةً. قَوْلُهُ: ثُمَّ الثَّنَاءُ بِهَا. الثَّنَاءُ عَلَى الْمُنْعِمِ، الْمُتَعَلِّقٌ بِالنِّعْمَةِ نَوْعَانِ: عَامٌّ، وَخَاصٌّ. فَالْعَامُّ: وَصْفُهُ بِالْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَسَعَةِ الْعَطَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْخَاصُّ: التَّحَدُّثُ بِنِعْمَتِهِ، وَالْإِخْبَارُ بِوُصُولِهَا إِلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] . وَفِي هَذَا التَّحْدِيثِ الْمَأْمُورِ بِهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذَكَرَ النِّعْمَةَ، وَالْإِخْبَارَ بِهَا. وَقَوْلُهُ: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ بِكَذَا وَكَذَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي اشْكُرْ مَا ذَكَرَ مِنَ النِّعَمِ عَلَيْكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: مِنْ جَبْرِ الْيُتْمِ، وَالْهُدَى بَعْدَ الضَّلَالِ، وَالْإِغْنَاءِ بَعْدَ الْعَيْلَةِ. وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ. كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَلْيَجْزِ

بِهِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَجْزِي بِهِ فَلْيُثْنِ. فَإِنَّهُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْهِ فَقَدْ شَكَرَهُ. وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ، وَمَنْ تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطَ كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» . فَذَكَرَ أَقْسَامَ الْخَلْقِ الثَّلَاثَةَ: شَاكِرُ النِّعْمَةِ الْمُثْنِي بِهَا، وَالْجَاحِدُ لَهَا وَالْكَاتِمُ لَهَا. وَالْمُظْهِرُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا. فَهُوَ مُتَحَلٍّ بِمَا لَمْ يُعْطَهُ. وَفِي أَثَرٍ آخَرَ مَرْفُوعٍ: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ. وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ. وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ. وَتَرْكُهُ كُفْرٌ. وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةٌ عَذَابٌ» . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّحَدُّثَ بِالنِّعْمَةِ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ، وَتَبْلِيغُ رِسَالَتِهِ، وَتَعْلِيمُ الْأُمَّةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ النُّبُوَّةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ بَلِّغْ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ، وَحَدِّثْ بِالنُّبُوَّةِ الَّتِي آتَاكَ اللَّهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ الْقُرْآنُ. أَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَهُ. وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ. إِذْ كَلٌّ مِنْهُمَا نِعْمَةٌ مَأْمُورٌ بِشُكْرِهَا وَالتَّحَدُّثِ بِهَا. وَإِظْهَارِهَا مِنْ شُكْرِهَا. قَوْلُهُ: وَهُوَ أَيْضًا مِنْ سُبُلِ الْعَامَّةِ. يَا لَيْتَ الشَّيْخَ صَانَ كِتَابَهُ عَنْ هَذَا التَّعْلِيلِ. إِذْ جَعَلَ نِصْفَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مِنْ أَضْعَفِ السُّبُلِ. بَلِ الشُّكْرُ سَبِيلُ رُسُلِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ - أَخَصِّ خَلْقِهِ، وَأَقْرَبِهِمْ إِلَيْهِ. وَيَا عَجَبًا! أَيُّ مَقَامٍ أَرْفَعُ مِنَ الشُّكْرِ الَّذِي يَنْدَرِجُ فِيهِ جَمِيعُ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ، حَتَّى الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا، وَالتَّوَكُّلُ وَغَيْرُهَا؟ فَإِنَّ الشُّكْرَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِهَا. وَتَاللَّهِ لَيْسَ لِخَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَأَهْلِ الْقُرْبِ مِنْهُ سَبِيلٌ أَرْفَعَ مِنَ الشُّكْرِ وَلَا أَعْلَى. لِأَنَّ الشُّكْرَ عِنْدَهُمْ يَتَضَمَّنُ نَوْعَ دَعْوَى. وَأَنَّهُ شُكْرُ الْحَقِّ عَلَى إِنْعَامِهِ. فَفِي الشَّاكِرِ بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا رَسْمِهِ. لَمْ يَتَخَلَّصْ عَنْهَا، وَيَفْرُغْ مِنْهَا. فَلَوْ فَنِيَ عَنْهَا - بِتَحَقُّقِهِ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي شَكَرَ نَفْسِهُ

بِنَفْسِهِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَيْفَ يَشْكُرُ مَنْ لَمْ يَزَلْ - عُلِمَ أَنَّ الشُّكْرَ مِنْ مَنَازِلِ الْعَامَّةِ. وَلَوْ أَنَّ السُّلْطَانَ كَسَا عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ ثَوْبًا مِنْ ثِيَابِهِ. فَأَخَذَ يَشْكُرُ السُّلْطَانَ عَلَى ذَلِكَ: لَعُدَّ مُخْطِئًا، مُسِيئًا لِلْأَدَبِ. فَإِنَّهُ مُدَّعٍ بِذَلِكَ مُكَافَأَةَ السُّلْطَانِ بِشُكْرِهِ. فَإِنَّ الشُّكْرَ مُكَافَأَةٌ. وَالْعَبْدُ أَصْغَرُ قَدْرًا مِنَ الْمُكَافَأَةِ. وَالشُّهُودُ لِلْحَقِيقَةِ يَقْتَضِي اتِّحَادَ نِسْبَةِ الْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، وَرُجُوعَهَا إِلَى وَصْفِ الْمُعْطِي وَقُوَّتِهِ. فَالْخَاصَّةُ يَسْقُطُ عِنْدَهُمُ الشُّكْرُ بِالشُّهُودِ، وَفِي حَقِّهِمْ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ. هَذَا غَايَةُ تَقْرِيرِ كَلَامِهِمْ. وَكَسَوْتُهُ أَحْسَنَ عِبَارَةٍ. لِئَلَّا يُتَعَدَّى عَلَيْهِمْ بِسُوءِ التَّعْبِيرِ الْمُوجِبِ لِلتَّنْفِيرِ. وَنَحْنُ مَعَنَا الْعِصْمَةُ النَّافِعَةُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ - غَيْرَ الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَتْرُوكٌ. وَكُلَّ سَبِيلٍ لَا يُوَافِقُ سَبِيلَهُ فَمَهْجُورٌ غَيْرُ مَسْلُوكٍ. فَأَمَّا تَضَمُّنُ الشُّكْرِ لِنَوْعِ دَعْوَى. فَإِنْ أُرِيدَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى إِضَافَةُ الْعَبْدِ الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ بِهِ وَغَابَ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَمِنَّتِهِ عَلَى عَبْدِهِ: فَلَعَمْرُ اللَّهِ هَذِهِ عِلَّةٌ مُؤْثَرَةٌ. وَدَعْوَى بَاطِلَةٌ كَاذِبَةٌ. وَإِنْ أُرِيدَ: أَنَّ شُهُودَهُ لِشُكْرِهِ شُهُودُهُ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِهِ، وَتَوْفِيقِهِ لَهُ فِيهِ، وَإِذْنِهِ لَهُ بِهِ، وَمَشِيئَتِهِ عَلَيْهِ وَمِنَّتِهِ. فَشَهِدَ عُبُودِيَّتَهُ وَقِيَامَهُ بِهَا، وَكَوْنَهَا بِاللَّهِ. فَأَيُّ دَعْوَى فِي هَذَا؟ وَأَيُّ عِلَّةٍ؟ . نَعَمْ غَايَتُهُ: أَنَّهُ لَا يُجَامِعُ الْفَنَاءَ. وَلَا يَخُوضُ تَيَّارَهُ. فَكَانَ مَاذَا؟ . فَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُ الْفَنَاءَ غَايَةً. فَأَوْجَبَ لَكُمْ مَا أَوْجَبَ. وَقَدَّمْتُمُوهُ عَلَى مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَقْدِيمَ مَا أُخِّرَ، وَتَأْخِيرَ مَا قُدِّمَ. وَإِلْغَاءَ مَا اعْتُبِرَ، وَاعْتِبَارَ مَا أُلْغِيَ. وَلَوْلَا مِنَّةُ اللَّهِ عَلَى الصَّادِقِينَ مِنْكُمْ بِتَحْكِيمِ الرِّسَالَةِ، وَالتَّقَيُّدِ بِالشَّرْعِ لَكَانَ أَمْرًا غَيْرَ هَذَا. كَمَا جَرَى لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّالِكِينَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ الْخَطِرَةِ. فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. كَمْ فِيهَا مِنْ قَتِيلٍ وَسَلِيبٍ، وَجَرِيحٍ وَأَسِيرٍ وَطَرِيدٍ؟ . وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ الشَّاكِرَ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا رَسْمِهِ. فَيُقَالُ: إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْبَقِيَّةُ مَحْضَ الْعُبُودِيَّةِ وَمَرْكَبَهَا، وَالْحَامِلَةَ لَهَا: فَأَيُّ نَقْصٍ فِي هَذَا؟ فَإِنَّ الْعُبُودِيَّةَ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا. وَإِنَّمَا تَقُومُ بِهَذَا الرَّسْمِ. فَلَا نَقْصَ فِي حَمْلِ الْعُبُودِيَّةِ عَلَيْهِ، وَالسَّيْرِ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

نَعَمِ، النَّقْصُ كُلُّ النَّقْصِ: فِي حَمْلِ النَّفْسِ وَالشَّهْوَةِ وَالْحَظِّ الْمُخَالِفِ لِمُرَادِ الرَّبِّ تَعَالَى الدِّينِيِّ عَلَى هَذَا الرَّسْمِ، وَالسَّيْرِ بِهِ إِلَى النَّفْسِ. وَلَعَلَّ الْعَامِلَ عَلَى الْفَنَاءِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. وَهُوَ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِ. فَالْعَارِفُ يَسْتَقْصِي التَّفْتِيشَ عَنْ كَمَائِنِ النَّفْسِ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: مَنْ لَمْ يَكُنْ كَيْفَ يَشْكُرُ مَنْ لَمْ يَزَلْ؟ فَهَذَا بِالشَّطْحِ أَلْيَقُ مِنْهُ بِالْمَعْرِفَةِ. فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَزَلْ إِذَا أَمَرَ مَنْ لَمْ يَكُنْ بِالشُّكْرِ، وَرَضِيَهُ مِنْهُ وَأَحَبَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِهِ، وَاسْتَدْعَاهُ وَاقْتَضَاهُ مِنْهُ، وَأَوْجَبَ لَهُ بِهِ الْمَزِيدَ، وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ، وَاشْتَقَّ مِنْهُ لَهُ الِاسْمُ، وَأَوْقَعَ عَلَيْهِ بِهِ الْحُكْمَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ غَايَةُ رِضَاهُ مِنْهُ. وَأَمَرَهُ - مَعَ ذَلِكَ - أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ شُكْرَهُ بِهِ، وَبِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ: فَهَذَا شُكْرُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ يَزَلْ. وَهُوَ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ. وَأَمَّا ضَرْبُكُمْ مَثَلَ كِسْوَةِ السُّلْطَانِ لِعَبْدِهِ، وَأَخْذِهِ فِي الشُّكْرِ لَهُ مُكَافَأَةً: فَهَذَا مِنْ أَبْطَلِ الْأَمْثِلَةِ عَقْلًا وَنَقْلًا وَفِطْرَةً. وَهُوَ الْحِجَابُ الَّذِي أَوْجَبَ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ لَا يَجِبُ عَقْلًا، مَا قَالَ ذَلِكَ. حَتَّى زَعَمَ أَنَّ شُكْرَهُ قَبِيحٌ عَقْلًا. وَلَوْلَا الشَّرْعُ لَمَا حَسُنَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ. وَضَرْبُ هَذَا الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبْتُمُوهُ بِعَيْنِهِ. وَهَذَا مِنَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، الْمُتَضَمِّنِ قِيَاسَ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَبِمِثْلِهِ عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْأَوْثَانُ، إِذْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: جَنَابُ الْعَظِيمِ لَا يُهْجَمُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ وَسَائِلَ وَوَسَائِطَ. وَسَرَتْ هَاتَانِ الرَّقِيقَتَانِ فِيمَنْ فَسَدَ مِنْ أَهْلِ التَّعَبُّدِ وَأَهْلِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ. وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ. فَيُقَالُ: الْفَرْقُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا. تَفُوتُ الْحَصْرَ. مِنْهَا: أَنَّ الْمَلِكَ مُحْتَاجٌ فَقِيرٌ إِلَى مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ، لَا يَقُومُ مُلْكُهُ إِلَّا بِهِ. فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مُعَاوَضَةٍ بِتِلْكَ الْكِسْوَةِ - مَثَلًا - خِدْمَةً لَهُ، وَحِفْظًا لَهُ، وَذَبًّا عَنْهُ، وَسَعْيًا فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ. فَكِسْوَتُهُ لَهُ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ. فَإِذَا أَخَذَ فِي شُكْرِهِ. فَكَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ ثَمَنًا لِنِعْمَتِهِ. وَلَيْسَ بِثَمَنٍ لَهَا. وَأَمَّا إِنْعَامُ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ: فَإِحْسَانٌ إِلَيْهِ، وَتَفَضُّلٌ عَلَيْهِ، وَمُجَرَّدُ امْتِنَانٍ. لَا لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَلَا لِمُعَاوَضَةٍ، وَلَا لِاسْتِعَانَةٍ بِهِ، وَلَا لِيَتَكَثَّرَ بِهِ مِنْ قِلَّةٍ، وَلَا لِيَتَعَزَّزَ بِهِ مِنْ ذِلَّةٍ، وَلَا لِيَقْوَى بِهِ مِنْ ضَعْفٍ. سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ. وَأَمْرُهُ لَهُ بِالشُّكْرِ أَيْضًا: إِنْعَامٌ آخَرُ عَلَيْهِ. وَإِحْسَانٌ مِنْهُ إِلَيْهِ. إِذْ مَنْفَعَةُ الشُّكْرِ تَرْجِعُ إِلَى الْعَبْدِ دُنْيَا وَآخِرَةً. لَا إِلَى اللَّهِ. وَالْعَبْدُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِشُكْرِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:

فصل درجات الشكر

{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل: 40] فَشُكْرُ الْعَبْدِ إِحْسَانٌ مِنْهُ إِلَى نَفْسِهِ دُنْيَا وَأُخْرَى. فَلَا يُذَمُّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ مُقَابَلَةَ الْمُنْعِمِ بِهِ. وَلَا يَسْتَطِيعُ شُكْرَهُ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا هُوَ مُحْسِنٌ إِلَى نَفْسِهِ بِالشُّكْرِ. لَا أَنَّهُ مُكَافِئٌ بِهِ لِنِعَمِ الرَّبِّ. فَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُكَافِئَ نِعَمَهُ أَبَدًا، وَلَا أَقَلَّهَا، وَلَا أَدْنَى نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِهِ. فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ، الْخَالِقُ لِلشُّكْرِ وَالشَّاكِرِ، وَمَا يُشْكَرُ عَلَيْهِ. فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُحْصِيَ ثَنَاءً عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ هُوَ الْمُحْسِنُ إِلَى عَبْدِهِ بِنِعَمِهِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ بِأَنْ أَوْزَعَهُ شُكْرَهَا. فَشُكْرُهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ. تَحْتَاجُ إِلَى شُكْرٍ آخَرَ. وَهَلُمَّ جَرًّا. وَمِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَعَظِيمِ بِرِّهِ وَكَرَمِهِ وَجُودِهِ: مَحَبَّتُهُ لَهُ عَلَى هَذَا الشُّكْرِ. وَرِضَاهُ مِنْهُ بِهِ. وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِهِ، وَمَنْفَعَتُهُ وَفَائِدَتُهُ مُخْتَصَّةٌ بِالْعَبْدِ. لَا تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ عَلَى اللَّهِ. وَهَذَا غَايَةُ الْكَرَمِ الَّذِي لَا كَرَمَ فَوْقَهُ. يُنْعِمُ عَلَيْكَ ثُمَّ يُوزِعُكَ شُكْرَ النِّعْمَةِ، وَيَرْضَى عَنْكَ. ثُمَّ يُعِيدُ إِلَيْكَ مَنْفَعَةَ شُكْرِكَ. وَيَجْعَلُهُ سَبَبًا لِتَوَالِي نِعَمِهِ وَاتِّصَالِهِ إِلَيْكَ، وَالزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا. وَهَذَا الْوَجْهُ وَحْدَهُ يَكْفِي اللَّبِيبَ لِيَتَنَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا بَعْدَهُ. وَأَمَّا كَوْنُ الشُّهُودِ يُسْقِطُ الشُّكْرَ: فَلَعَمْرُ اللَّهِ، إِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِحَقِّ الْمَشْكُورِ بِحَظِّ الشَّاهِدِ. نَعَمْ بِحَظٍّ عَظِيمٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْحَقِّ عَزَّ وَجَلَّ، لَا حَظٍّ سُفْلِيٍّ، مُتَعَلِّقٍ بِالْكَائِنَاتِ وَلَكِنَّ صَاحِبَهُ قَدْ سَارَ مِنْ حَرَمٍ إِلَى حَرَمٍ. وَكَانَ يَقَعُ لِي هَذَا الْقَدَرُ مُنْذُ أَزْمَانٍ. وَلَا أَتَجَرَّأُ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ. لِأَنَّ أَصْحَابَهُ يَرَوْنَ مَنْ ذَكَّرَهُمْ بِهِ بِعَيْنِ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ. فَلَا يُصْغُونَ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَاقُوا حَلَاوَتَهُ وَلَذَّتَهُ. وَرَأَوْا تَخْبِيطَ أَهْلِ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ، وَتُلَوُّثَهُمْ بِنُفُوسِهِمْ وَعَوَالِمِهَا. وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ: أَنْ جَعَلُوهُ غَايَةً، فَتَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا تَرَكَّبَ. وَإِذَا لَاحَتِ الْحَقَائِقُ فَلْيَقُلِ الْقَائِلُ مَا شَاءَ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الشُّكْرِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى الشُّكْرُ عَلَى الْمَحَابِّ] فَصْلٌ دَرَجَاتُ الشُّكْرِ قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الشُّكْرُ عَلَى الْمُحَابِّ. وَهَذَا شُكْرٌ تَشَارَكَتْ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ. وَمِنْ سِعَةِ رَحْمَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ: أَنْ عَدَّهُ شُكْرًا. وَوَعَدَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ، وَأَوْجَبَ فِيهِ الْمَثُوبَةَ.

فصل الدرجة الثانية الشكر في المكاره

إِذَا عَلِمْتَ حَقِيقَةَ الشُّكْرِ وَأَنَّ جُزْءَ حَقِيقَتِهِ: الِاسْتِعَانَةُ بِنِعَمِ الْمُنْعِمِ عَلَى طَاعَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ: عَلِمْتَ اخْتِصَاصَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ. وَأَنَّ حَقِيقَةَ الشُّكْرِ عَلَى الْمَحَابِّ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ. نَعَمْ لِغَيْرِهِمْ مِنْهَا بَعْضُ أَرْكَانِهَا وَأَجْزَائِهَا، كَالِاعْتِرَافِ بِالنِّعْمَةِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمُنْعِمِ بِهَا. فَإِنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ فِي نِعَمِ اللَّهِ، وَكُلُّ مَنْ أَقَرَّ بِاللَّهِ رَبًّا، وَتَفَرَّدَهُ بِالْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ. فَإِنَّهُ يُضِيفُ نِعْمَتَهُ إِلَيْهِ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي تَمَامِ حَقِيقَةِ الشُّكْرِ. وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِهَا عَلَى مَرْضَاتِهِ. وَقَدْ كَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ أَقَلَّ مَا يَجِبُ لِلْمُنْعِمِ عَلَى مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ: أَنْ لَا يَجْعَلَ مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ سَبِيلًا إِلَى مَعْصِيَتِهِ. وَقَدْ عُرِفَ مُرَادُ الشَّيْخِ. وَهُوَ أَنَّ هَذَا الشُّكْرَ مُشْتَرَكٌ. وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِنِعَمِهِ سُبْحَانَهُ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِهَا، وَالْإِحْسَانُ إِلَى خَلْقِهِ مِنْهَا. وَهَذَا بِلَا شَكٍّ يُوجِبُ حِفْظَهَا عَلَيْهِمْ وَالْمَزِيدَ مِنْهَا. فَهَذَا الْجُزْءُ مِنَ الشُّكْرِ مُشْتَرَكٌ. وَقَدْ تَكُونُ ثَمَرَتُهُ فِي الدُّنْيَا بِعَاجِلِ الثَّوَابِ. وَفِي الْآخِرَةِ: بِتَخْفِيفِ الْعِقَابِ. فَإِنَّ النَّارَ دَرَكَاتٌ فِي الْعُقُوبَةِ مُخْتَلِفَةٌ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الشُّكْرُ فِي الْمَكَارِهِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الشُّكْرُ فِي الْمَكَارِهِ. وَهَذَا مِمَّنْ تَسْتَوِي عِنْدَهُ الْحَالَاتُ: إِظْهَارًا لِلرِّضَا. وَمِمَّنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ: لِكَظْمِ الْغَيْظِ، وَسَتْرِ الشَّكْوَى. وَرِعَايَةِ الْأَدَبِ. وَسَلُوكِ مَسْلَكِ الْعِلْمِ. وَهَذَا الشَّاكِرُ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ. يَعْنِي أَنْ الشُّكْرَ عَلَى الْمَكَارِهِ: أَشَدُّ وَأَصْعَبُ مِنَ الشُّكْرِ عَلَى الْمَحَابِّ. وَلِهَذَا كَانَ فَوْقَهُ فِي الدَّرَجَةِ. وَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ أَحَدِ رَجُلَيْنِ: إِمَّا رَجُلٌ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَالَاتِ: بَلْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الْمَكْرُوهُ وَالْمَحْبُوبُ. فَشُكْرُ هَذَا: إِظْهَارٌ مِنْهُ لِلرِّضَا بِمَا نَزَلَ بِهِ. وَهَذَا مَقَامُ الرِّضَا. الرَّجُلُ الثَّانِي: مَنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ. فَهُوَ لَا يُحِبُّ الْمَكْرُوهَ. وَلَا يَرْضَى بِنُزُولِهِ بِهِ. فَإِذَا نَزَلَ بِهِ مَكْرُوهٌ شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَكَانَ شُكْرُهُ كَظْمًا لِلْغَيْظِ الَّذِي أَصَابَهُ، وَسَتْرًا لِلشَّكْوَى، وَرِعَايَةً مِنْهُ لِلْأَدَبِ، وَسُلُوكًا لِمَسْلَكِ الْعِلْمِ. فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْأَدَبَ يَأْمُرَانِ بِشُكْرِ اللَّهِ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. فَهُوَ يَسْلُكُ بِهَذَا الشُّكْرِ مَسْلَكَ الْعِلْمِ. لِأَنَّهُ شَاكِرٌ لِلَّهِ شُكْرَ مَنْ رَضِيَ بِقَضَائِهِ، كَحَالِ الَّذِي قَبْلَهُ. فَالَّذِي قَبْلَهُ: أَرْفَعُ مِنْهُ.

فصل الدرجة الثالثة أن لا يشهد العبد إلا المنعم

وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الشَّاكِرُ أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ: لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْمَكَارِهِ - الَّتِي يُقَابِلُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ بِالْجَزَعِ وَالسُّخْطِ، وَأَوْسَاطُهُمْ بِالصَّبْرِ، وَخَاصَّتُهُمْ بِالرِّضَا - فَقَابَلَهَا هُوَ بِأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَهُوَ الشُّكْرُ. فَكَانَ أَسْبَقَهُمْ دُخُولًا إِلَى الْجَنَّةِ. وَأَوَّلَ مَنْ يُدْعَى مِنْهُمْ إِلَيْهَا. وَقَسَّمَ أَهْلَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ: سَابِقِينَ، وَمُقَرَّبِينَ بِحَسَبِ انْقِسَامِهِمْ إِلَى مَنْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الْحَالَاتُ، مِنَ الْمَكْرُوهِ وَالْمَحْبُوبِ، فَلَا يُؤْثَرُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. بَلْ قَدْ فَنِيَ بِإِيثَارِهِ مَا يَرْضَى لَهُ بِهِ رَبُّهُ عَمَّا يَرْضَاهُ هُوَ لِنَفْسِهِ. وَإِلَى مَنْ يُؤْثِرُ الْمَحْبُوبَ، وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ بِهِ الْمَكْرُوهُ قَابَلَهُ بِالشُّكْرِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَشْهَدَ الْعَبْدُ إِلَّا الْمُنْعِمَ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَشْهَدَ الْعَبْدُ إِلَّا الْمُنْعِمَ. فَإِذَا شَهِدَ الْمُنْعِمَ عُبُودِيَّةً: اسْتَعْظَمَ مِنْهُ النِّعْمَةَ. وَإِذَا شَهِدَهُ حُبًّا: اسْتَحْلَى مِنْهُ الشِّدَّةَ. وَإِذَا شَهِدَهُ تَفْرِيدًا: لَمْ يَشْهَدْ مِنْهُ نِعْمَةً، وَلَا شَدَّةً. هَذِهِ الدَّرَجَةُ يَسْتَغْرِقُ صَاحِبُهَا بِشُهُودِ الْمُنْعِمِ عَنِ النِّعْمَةِ. فَلَا يَتَّسِعُ شُهُودُهُ لِلْمُنْعِمِ وَلِغَيْرِهِ. وَقَسَّمَ أَصْحَابَهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَصْحَابُ شُهُودِ الْعُبُودِيَّةِ. وَأَصْحَابُ شُهُودِ الْحُبِّ. وَأَصْحَابُ شُهُودِ التَّفْرِيدِ. وَجَعَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ حُكْمًا، هُوَ أَوْلَى بِهِ. فَأَمَّا شُهُودُهُ عُبُودِيَّةً: فَهُوَ مُشَاهَدَةُ الْعَبْدِ لِلسَّيِّدِ بِحَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمِلْكِ لَهُ، فَإِنَّ الْعَبِيدَ إِذَا حَضَرُوا بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَنْسَوْنَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَاهِ، وَالْقُرْبِ الَّذِي اخْتُصُّوا بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ بِاسْتِغْرَاقِهِمْ فِي أَدَبِ الْعُبُودِيَّةِ وَحَقِّهَا، وَمُلَاحَظَتِهِمْ لِسَيِّدِهِمْ، خَوْفًا أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِمْ بِأَمْرٍ، فَيَجِدَهُمْ غَافِلِينَ عَنْ مُلَاحَظَتِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ يَعْرِفُهُ مَنْ شَاهَدَ أَحْوَالَ الْمُلُوكِ وَخَوَاصَّهُمْ. فَهَذَا هُوَ شُهُودُ الْعَبْدِ لِلْمُنْعِمِ بِوَصْفِ عُبُودِيَّتِهِ لَهُ، وَاسْتِغْرَاقِهِ عَنِ الْإِحْسَانِ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْهُ الْقُرْبُ الَّذِي تَمَيَّزَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. فَصَاحِبُ هَذَا الْمَشْهَدِ: إِذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ - مَعَ قِيَامِهِ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ - يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَصْغِرَ نَفْسَهُ فِي حَضْرَةِ سَيِّدِهِ غَايَةَ الِاسْتِصْغَارِ، مَعَ امْتِلَاءِ قَلْبِهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ، فَأَيُّ إِحْسَانٍ نَالَهُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. رَآهُ عَظِيمًا. وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِهَذَا فِي حَالِ

الْمُحِبِّ الْكَامِلِ الْمَحَبَّةِ، الْمُسْتَغْرِقِ فِي مُشَاهَدَةِ مَحْبُوبِهِ إِذَا نَاوَلَهُ شَيْئًا يَسِيرًا. فَإِنَّهُ يَرَاهُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ عَظِيمًا جِدًّا. وَلَا يَرَاهُ غَيْرُهُ كَذَلِكَ. الْقِسْمُ الثَّانِي: يَشْهَدُ الْحَقَّ شُهُودَ مَحَبَّةٍ غَالِبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُ، مُسْتَغْرِقٌ فِي شُهُودِهِ كَذَلِكَ. فَإِنَّهُ يَسْتَحْلِي فِي هَذِهِ الْحَالِ الشِّدَّةَ مِنْهُ. لِأَنَّ الْمُحِبَّ يَسْتَحْلِي فِعْلَ الْمَحْبُوبِ بِهِ. وَأَقَلُّ مَا فِي هَذَا الْمَشْهَدِ: أَنْ يُخِفَّ عَلَيْهِ حِمْلُ الشَّدَائِدِ، إِنْ لَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِاسْتِحْلَائِهَا. وَفِي هَذَا مِنَ الْحِكَايَاتِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ النَّاسِ مَا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهَا، كَحَالِ الَّذِي كَانَ يُضْرَبُ بِالسِّيَاطِ وَلَا يَتَحَرَّكُ، حَتَّى ضُرِبَ آخَرَ سَوْطٍ. فَصَاحَ صِيَاحًا شَدِيدًا. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: الْعَيْنُ الَّتِي كَانَتْ تَنْظُرُ إِلَيَّ وَقْتَ الضَّرْبِ كَانَتْ تَمْنَعُنِي مِنَ الْإِحْسَاسِ بِالْأَلَمِ. فَلَمَّا فَقَدْتُهَا وَجَدْتُ أَلَمَ الضَّرْبِ. وَهَذِهِ الْحَالُ عَارِضَةٌ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ. فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ تَأْبَى اسْتِحْلَاءَ الْمُنَافِي كَاسْتِحْلَاءِ الْمُوَافِقِ. نَعَمْ قَدْ يَقْوَى سُلْطَانُ الْمَحَبَّةِ حَتَّى يَسْتَحْلِيَ الْمُحِبُّ مَا يَسْتَمِرُّهُ غَيْرُهُ. وَيَسْتَخِفَّ مَا يَسْتَثْقِلُهُ غَيْرُهُ. وَيَأْنَسَ بِمَا يَسْتَوْحِشُ مِنْهُ الْخَلِيُّ. وَيَسْتَوْحِشَ مِمَّا يَأْنَسُ بِهِ، وَيَسْتَلِينَ مَا يَسْتَوْعِرُهُ. وَقُوَّةُ هَذَا وَضَعْفُهُ بِحَسَبِ قَهْرِ سُلْطَانِ الْمَحَبَّةِ، وَغَلَبَتِهِ عَلَى قَلْبِ الْمُحِبِّ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَهُ تَفْرِيدًا. فَإِنَّهُ لَا يَشْهَدُ مَعَهُ نِعْمَةً وَلَا شِدَّةً. يَقُولُ: إِنَّ شُهُودَ التَّفْرِيدِ: يُفْنِي الرَّسْمَ. وَهَذِهِ حَالُ الْفَنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ فِيهِ، الَّذِي لَا يَشْهَدُ نِعْمَةً وَلَا بَلِيَّةً. فَإِنَّهُ يَغِيبُ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ لَهُ. وَيَفْنَى بِهِ عَنْهُ. فَكَيْفَ يَشْهَدُ مَعَهُ نِعْمَةً أَوْ بَلِيَّةً؟ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا: مَنْ كَانَتْ مَوَاهِبُهُ لَا تَتَعَدَّى يَدَيْهِ فَلَا وَاهِبَ وَلَا مَوْهُوبَ. وَذَلِكَ مَقَامُ الْجَمْعِ عِنْدَهُمْ، وَبَعْضُهُمْ يُحَرِّمُ الْعِبَارَةَ عَنْهُ. وَحَقِيقَتُهُ: اصْطِلَامٌ يَرْفَعُ إِحْسَاسَ صَاحِبِهِ بِرَسْمِهِ، فَضْلًا عَنْ رَسْمِ غَيْرِهِ، لِاسْتِغْرَاقِهِ فِي مَشْهُودِهِ وَغَيْبَتِهِ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ، وَهَذَا هُوَ مَطْلُوبُ الْقَوْمِ. وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ فَوْقَهُ مَقَامًا أَعْلَى مِنْهُ، وَأَرْفَعُ وَأَجَلُّ. وَهُوَ أَنْ يَصْطَلِمَ بِمُرَادِهِ عَنْ غَيْرِهِ. فَيَكُونَ فِي حَالِ مُشَاهَدَتِهِ وَاسْتِغْرَاقِهِ: مُنَفِّذًا لِمَرَاسِيمِهِ وَمُرَادِهِ. مُلَاحِظًا لِمَا يُلَاحِظُ مَحْبُوبُهُ مِنَ الْمُرَادَاتِ وَالْأَوَامِرِ. فَتَأَمَّلِ الْآنَ عَبْدَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا. وَهُمَا عَلَى مَوْقِفٍ وَاحِدٍ بَيْنَ يَدَيْهِ. أَحَدُهُمَا مَشْغُولٌ بِمُشَاهَدَتِهِ. فَإِنَّ اسْتِغْرَاقَهُ فِي مُلَاحَظَةِ الْمَلِكِ، لَيْسَ فِيهِ مُتَّسَعٌ إِلَى

مُلَاحَظَةِ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمَلِكِ أَلْبَتَّةَ. وَآخَرُ مَشْغُولٌ بِمُلَاحَظَةِ حَرَكَاتِ الْمَلِكِ وَكَلِمَاتِهِ، وَإِيشِ أَمْرِهِ وَلَحَظَاتِهِ وَخَوَاطِرِهِ، لِيُرَتِّبَ عَلَى كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مُرَادٌ لِلْمَلِكِ. وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ بَعْضِ الْمُلُوكِ: الَّذِي كَانَ لَهُ غُلَامٌ يَخُصُّهُ بِإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ وَإِكْرَامِهِ، وَالْحُظْوَةِ عِنْدَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ غِلْمَانِهِ - وَلَمْ يَكُنِ الْغُلَامُ أَكْثَرَهُمْ قِيمَةً، وَلَا أَحْسَنَهُمْ صُورَةً - فَقَالُوا لَهُ فِي ذَلِكَ. فَأَرَادَ السُّلْطَانُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ فَضْلَ الْغُلَامِ فِي الْخِدْمَةِ عَلَى غَيْرِهِ. فَيَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ كَانَ رَاكِبًا فِي بَعْضِ شُئُونِهِ. وَمَعَهُ الْحَشَمُ، وَبِالْبُعْدِ مِنْهُ جَبَلٌ عَلَيْهِ ثَلْجٌ. فَنَظَرَ السُّلْطَانُ إِلَى ذَلِكَ الثَّلْجِ وَأَطْرَقَ. فَرَكَضَ الْغُلَامُ فَرَسَهُ. وَلَمْ يَعْلَمِ الْقَوْمُ لِمَاذَا رَكَضَ. فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّلْجِ. فَقَالَ السُّلْطَانُ: مَا أَدْرَاكَ أَنِّي أُرِيدُ الثَّلْجَ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ: لِأَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَيْهِ. وَنَظَرُ الْمُلُوكِ إِلَى شَيْءٍ لَا يَكُونُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ. فَقَالَ السُّلْطَانُ: إِنَّمَا أَخُصُّهُ بِإِكْرَامِي وَإِقْبَالِي لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ شُغْلًا، وَشُغْلُهُ مُرَاعَاةُ لَحَظَاتِي، وَمُرَاقِبَةُ أَحْوَالِي. يَعْنِي فِي تَحْصِيلِ مُرَادِي. وَسَمِعْتُ بَعْضَ الشُّيُوخِ يَقُولُ: لَوْ قَالَ مَلِكٌ لِغُلَامَيْنِ لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، مُسْتَغْرِقَيْنِ فِي مُشَاهَدَتِهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ: اذْهَبَا إِلَى بِلَادِ عَدُوِّي. فَأَوْصِلَا إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْكُتُبَ. وَطَالِعَانِي بِأَحْوَالِهِمْ. وَافْعَلَا كَيْتَ وَكَيْتَ. فَأَحَدُهُمَا: مَضَى مِنْ سَاعَتِهِ لِوَجْهِهِ. وَبَادَرَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَالْآخَرُ قَالَ: أَنَا لَا أَدَعُ مُشَاهَدَتِكَ، وَالِاسْتِغْرَاقَ فِيكَ. وَدَوَامَ النَّظَرِ إِلَيْكَ. وَلَا أَشْتَغِلُ بِغَيْرِكَ: لَكَانَ هَذَا جَدِيرًا بِمَقْتِ الْمَلِكِ لَهُ، وَبُغْضِهِ إِيَّاهُ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِهِ. إِذْ هُوَ وَاقِفٌ مَعَ مُجَرَّدِ حَظِّهِ مِنَ الْمَلِكِ. لَا مَعَ مُرَادِ الْمَلِكِ مِنْهُ، بِخِلَافِ صَاحِبِهِ الْأَوَّلِ. وَسَمِعَتْهُ أَيْضًا يَقُولُ: لَوْ أَنَّ شَخْصَيْنِ ادَّعَيَا مَحَبَّةَ مَحْبُوبٍ. فَحَضَرَا بَيْنَ يَدَيْهِ. فَأَقْبَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى مُشَاهَدَتِهِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ فَقَطْ. وَأَقْبَلَ الْآخَرُ عَلَى اسْتِقْرَاءِ مُرَادَاتِهِ وَمَرَاضِيهِ وَأَوَامِرِهِ لِيَمْتَثِلَهَا. فَقَالَ لَهُمَا: مَا تُرِيدَانِ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أُرِيدُ دَوَامَ مُشَاهَدَتِكَ، وَالِاسْتِغْرَاقَ فِي جَمَالِكَ، وَقَالَ الْآخَرُ: أُرِيدُ تَنْفِيذَ أَوَامِرِكَ، وَتَحْصِيلَ مَرَاضِيكَ. فَمُرَادِي مِنْكَ مَا تُرِيدُهُ أَنْتَ مِنِّي. لَا مَا أُرِيدُهُ أَنَا مِنْكَ. وَالْآخَرُ قَالَ: مُرَادِي مِنْكَ تَمَتُّعِي بِمُشَاهَدَتِكَ. أَكَانَا عِنْدَهُ سَوَاءً؟ فَمَنْ هُوَ الْآنَ صَاحِبُ الْمَحَبَّةِ الْمَعْلُولَةِ الْمَدْخُولَةِ، النَّاقِصَةِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَصَاحِبُ الْمَحَبَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّادِقَةِ الْكَامِلَةِ؟ أَهَذَا أَمْ هَذَا؟ وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَحْكِي عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ قَالَ: النَّاسُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ. وَالصُّوفِيَّةُ يَعْبُدُونَ أَنْفُسَهُمْ. أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمَ، وَأَنَّهُمْ وَاقِفُونَ مَعَ مُرَادِهِمْ مِنَ اللَّهِ. لَا مَعَ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُمْ.

فصل منزلة الحياء

وَهَذَا عَيْنُ عِبَادَةِ النَّفْسِ. فَلْيَتَأَمَّلِ اللَّبِيبُ هَذَا الْمَوْضِعَ حَقَّ التَّأَمُّلِ. فَإِنَّهُ مِحَكٌّ وَمِيزَانٌ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْحَيَاءِ] [الْحَيَاءُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْحَيَاءِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْحَيَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] . وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ - وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ - فَقَالَ: دَعْهُ. فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ» . وَفِيهِمَا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ» . وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَنَّهُ قَالَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً - فَأَفْضَلُهَا: قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ. وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» .

فصل تعريف الحياء

وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا. فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ» . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» . وَفِي هَذَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمْرُ تَهْدِيدٍ. وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَحِ صَنَعَ مَا شَاءَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمْرُ إِبَاحَةٍ. أَيِ انْظُرْ إِلَى الْفِعْلِ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَهُ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُسْتَحْيَا مَنْهُ فَافْعَلْهُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ. قَالُوا: إِنَّا نَسْتَحِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: لَيْسَ ذَلِكُمْ، وَلَكِنَّ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى. وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى. وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى. وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا. فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» . [فَصْلٌ تَعْرِيفُ الْحَيَاءِ] فَصْلٌ وَالْحَيَاءُ مِنَ الْحَيَاةِ. وَمِنْهُ الْحَيَا لِلْمَطَرِ، لَكِنَّهُ مَقْصُورٌ، وَعَلَى حَسَبِ حَيَاةِ الْقَلْبِ يَكُونُ فِيهِ قُوَّةُ خُلُقِ الْحَيَاءِ. وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ مِنْ مَوْتِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ. فَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ

أَحْيَى كَانَ الْحَيَاءُ أَتَمَّ. قَالَ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَيَاءُ رُؤْيَةُ الْآلَاءِ. وَرُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ، فَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا حَالَةٌ تُسَمَّى الْحَيَاءُ. وَحَقِيقَتُهُ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْقَبَائِحِ. وَيَمْنَعُ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ. وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ: أَحْيُوا الْحَيَاءَ بِمُجَالَسَةِ مَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ. وَعِمَارَةُ الْقَلْبِ: بِالْهَيْبَةِ وَالْحَيَاءِ. فَإِذَا ذَهَبَا مِنَ الْقَلْبِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ خَيْرٌ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: الْحَيَاءُ وُجُودُ الْهَيْبَةِ فِي الْقَلْبِ مَعَ وَحْشَةِ مَا سَبَقَ مِنْكَ إِلَى رَبِّكَ، وَالْحُبُّ يُنْطِقُ وَالْحَيَاءُ يُسْكِتُ. وَالْخَوْفُ يُقْلِقُ. وَقَالَ السَّرِيُّ: إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْأُنْسَ يَطْرُقَانِ الْقَلْبَ. فَإِنْ وَجَدُوا فِيهِ الزُّهْدَ وَالْوَرَعَ وَإِلَّا رَحَلَا. وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ، «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ابْنَ آدَمَ. إِنَّكَ مَا اسْتَحْيَيْتَ مِنِّي أَنْسَيْتُ النَّاسَ عُيُوبَكَ. وَأَنْسَيْتُ بِقَاعَ الْأَرْضِ ذُنُوبَكَ. وَمَحَوْتُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ زَلَّاتِكَ. وَإِلَّا نَاقَشْتُكَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: «أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: عِظْ نَفْسَكَ. فَإِنِ اتَّعَظَتْ، وَإِلَّا فَاسْتَحِي مِنِّي أَنْ تَعِظَ النَّاسَ» . وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: خَمْسٌ مِنْ عَلَامَاتِ الشِّقْوَةِ: الْقَسْوَةُ فِي الْقَلْبِ. وَجُمُودُ الْعَيْنِ. وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ. وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا. وَطُولُ الْأَمَلِ. وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ: «مَا أَنْصَفَنِي عَبْدِي. يَدْعُونِي فَأَسْتَحْيِي أَنْ أَرُدَّهُ. وَيَعْصِينِي وَلَا يَسْتَحْيِي مِنِّي» . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ مُطِيعًا اسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ وَهُوَ مُذْنِبٌ. وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ خُلُقُ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ حَتَّى فِي حَالِ طَاعَتِهِ. فَقَلْبُهُ مُطْرَقٌ بَيْنَ يَدَيْهِ إِطْرَاقَ مُسْتَحٍ خَجِلٍ: فَإِنَّهُ إِذَا وَاقَعَ ذَنْبًا اسْتَحْيَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ. فَيَسْتَحْيِي أَنْ يَرَى مِنْ وَلِيِّهِ وَمَنْ يُكْرَمُ عَلَيْهِ: مَا يَشِينُهُ عِنْدَهُ. وَفِي الشَّاهِدِ شَاهِدٌ بِذَلِكَ. فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا اطَّلَعَ عَلَى أَخَصِّ النَّاسِ بِهِ، وَأَحَبِّهِمْ إِلَيْهِ، وَأَقْرَبِهِمْ مِنْهُ - مِنْ صَاحِبٍ، أَوْ وَلَدٍ، أَوْ مَنْ يُحِبُّهُ - وَهُوَ يَخُونُهُ. فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ حَيَاءٌ عَجِيبٌ. حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الْجَانِي. وَهَذَا غَايَةُ الْكَرَمِ.

أقسام الحياء

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَيَاءِ أَنَّهُ يُمَثِّلُ نَفْسَهُ فِي حَالِ طَاعَتِهِ كَأَنَّهُ يَعْصِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. فَيَسْتَحْيِي مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَلِهَذَا شُرِعَ الِاسْتِغْفَارُ عُقَيْبَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْقُرَبُ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يُمَثِّلُ نَفْسَهُ خَائِنًا، فَيَلْحَقُهُ الْحَيَاءُ. كَمَا إِذَا شَاهَدَ رَجُلًا مَضْرُوبًا وَهُوَ صَدِيقٌ لَهُ، أَوْ مَنْ قَدْ أُحْصِرَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ يَخْجَلُ أَيْضًا. تَمْثِيلًا لِنَفْسِهِ بِتِلْكَ الْحَالِ. وَهَذَا قَدْ يَقَعُ. وَلَكِنَّ حَيَاءَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى مَحْبُوبِهِ وَهُوَ يَخُونُهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا. فَإِنَّهُ لَوِ اطَّلَعَ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فَارِغُ الْبَالِ مِنْهُ، لَمْ يَلْحَقْهُ هَذَا الْحَيَاءُ وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ. وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُ مَقْتُهُ وَسُقُوطُهُ مِنْ عَيْنِهِ. وَإِنَّمَا سَبَبُهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - شِدَّةُ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ وَنَفْسِهِ بِهِ. فَيُنْزِلُ الْوَهْمُ فِعْلَهُ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِهِ هُوَ. وَلَا سِيَّمَا إِنْ قُدِّرَ حُصُولُ الْمُكَاشَفَةِ بَيْنَهُمَا. فَإِنَّ عِنْدَ حُصُولِهَا يَهِيجُ خُلُقُ الْحَيَاءِ مِنْهُ تَكَرُّمًا. فَعِنْدَ تَقْدِيرِهَا يَنْبَعِثُ ذَلِكَ الْحَيَاءُ. هَذَا فِي حَقِّ الشَّاهِدِ. وَأَمَّا حَيَاءُ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ: فَذَاكَ نَوْعٌ آخَرُ. لَا تُدْرِكُهُ الْأَفْهَامُ. وَلَا تَكَيَّفُهُ الْعُقُولُ. فَإِنَّهُ حَيَاءُ كَرَمٍ وَبِرٍّ وُجُودٍ وَجَلَالٍ. فَإِنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا. وَيَسْتَحْيِي أَنْ يُعَذِّبَ ذَا شَيْبَةٍ شَابَتْ فِي الْإِسْلَامِ. وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ يَقُولُ: سُبْحَانَ مَنْ يُذْنِبُ عَبْدُهُ وَيَسْتَحْيِي هُوَ. وَفِي أَثَرٍ: «مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ اسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ» . [أَقْسَامُ الْحَيَاءِ] وَقَدْ قَسَّمَ الْحَيَاءَ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ: حَيَاءُ جِنَايَةٍ. وَحَيَاءُ تَقْصِيرٍ. وَحَيَاءُ إِجْلَالٍ. وَحَيَاءُ كَرَمٍ. وَحَيَاءُ حِشْمَةٍ. وَحَيَاءُ اسْتِصْغَارٍ لِلنَّفْسِ وَاحْتِقَارٍ لَهَا. وَحَيَاءُ مَحَبَّةٍ. وَحَيَاءُ عُبُودِيَّةٍ. وَحَيَاءُ شَرَفٍ وَعِزَّةٍ. وَحَيَاءُ الْمُسْتَحْيِي مِنْ نَفْسِهِ.

فَأَمَّا حَيَاءُ الْجِنَايَةِ: فَمِنْهُ حَيَاءُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَّ هَارِبًا فِي الْجَنَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَفِرَارًا مِنِّي يَا آدَمُ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ. بَلْ حَيَاءً مِنْكَ» . وَحَيَاءُ التَّقْصِيرِ: كَحَيَاءِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالُوا: سُبْحَانَكَ! مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ. وَحَيَاءُ الْإِجْلَالِ: هُوَ حَيَاءُ الْمَعْرِفَةِ. وَعَلَى حَسَبِ مَعْرِفَةِ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ يَكُونُ حَيَاؤُهُ مِنْهُ. وَحَيَاءُ الْكَرَمِ: كَحَيَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ إِلَى وَلِيمَةِ زَيْنَبَ، وَطَوَّلُوا الْجُلُوسَ عِنْدَهُ. فَقَامَ وَاسْتَحْيَا أَنْ يَقُولَ لَهُمُ: انْصَرِفُوا. وَحَيَاءُ الْحِشْمَةِ: كَحَيَاءِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَذْيِ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ مِنْهُ. وَحَيَاءُ الِاسْتِحْقَارِ وَاسْتِصْغَارِ النَّفْسِ: كَحَيَاءِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ يَسْأَلُهُ حَوَائِجَهُ، احْتِقَارًا لِشَأْنِ نَفْسِهِ، وَاسْتِصْغَارًا لَهَا. وَفِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ: «إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّهُ لَتُعْرَضُ لِيَ الْحَاجَةُ مِنَ الدُّنْيَا. فَأَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَكَ هِيَ يَا رَبِّ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَلْنِي حَتَّى مِلْحَ عَجِينَتِكَ. وَعَلَفَ شَاتِكَ» . وَقَدْ يَكُونُ لِهَذَا النَّوْعِ سَبَبَانِ. أَحَدُهُمَا: اسْتِحْقَارُ السَّائِلِ نَفْسَهُ. وَاسْتِعْظَامُ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ. الثَّانِي: اسْتِعْظَامُ مَسْئُولِهِ.

وَأَمَّا حَيَاءُ الْمَحَبَّةِ: فَهُوَ حَيَاءُ الْمُحِبِّ مِنْ مَحْبُوبِهِ، حَتَّى إِنَّهُ إِذَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِهِ فِي غَيْبَتِهِ هَاجَ الْحَيَاءُ مِنْ قَلْبِهِ، وَأَحَسَّ بِهِ فِي وَجْهِهِ. وَلَا يَدْرِي مَا سَبَبُهُ. وَكَذَلِكَ يَعْرِضُ لِلْمُحِبِّ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِ مَحْبُوبِهِ وَمُفَاجَأَتِهِ لَهُ رَوْعَةٌ شَدِيدَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جَمَالٌ رَائِعٌ. وَسَبَبُ هَذَا الْحَيَاءِ وَالرَّوْعَةِ مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْمَحَبَّةِ سُلْطَانًا قَاهِرًا لِلْقَلْبِ أَعْظَمَ مِنْ سُلْطَانِ مَنْ يَقْهَرُ الْبَدَنَ. فَأَيْنَ مَنْ يَقْهَرُ قَلْبَكَ وَرُوحَكَ إِلَى مَنْ يَقْهَرُ بَدَنَكَ؟ وَلِذَلِكَ تَعَجَّبَتِ الْمُلُوكُ وَالْجَبَابِرَةُ مِنْ قَهْرِهِمْ لِلْخَلْقِ وَقَهْرِ الْمَحْبُوبِ لَهُمْ، وَذُلِّهِمْ لَهُ. فَإِذَا فَاجَأَ الْمَحْبُوبُ مُحِبَّهُ. وَرَآهُ بَغْتَةً: أَحَسَّ الْقَلْبُ بِهُجُومِ سُلْطَانِهِ عَلَيْهِ. فَاعْتَرَاهُ رَوْعَةٌ وَخَوْفٌ. وَسَأَلْنَا يَوْمًا شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ فَذَكَرْتُ أَنَا هَذَا الْجَوَابَ. فَتَبَسَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. وَأَمَّا الْحَيَاءُ الَّذِي يَعْتَرِيهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ - كَأَمَتِهِ وَزَوْجَتِهِ - فَسَبَبُهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ هَذَا السُّلْطَانَ لَمَّا زَالَ خَوْفُهُ عَنِ الْقَلْبِ بَقِيَتْ هَيْبَتُهُ وَاحْتِشَامُهُ. فَتَوَلَّدَ مِنْهَا الْحَيَاءُ. وَأَمَّا حُصُولُ ذَلِكَ لَهُ فِي غَيْبَةِ الْمَحْبُوبِ: فَظَاهِرٌ. لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ. فَوَهْمُهُ يُغَالِطُهُ عَلَيْهِ وَيُكَابِرُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مَعَهُ. وَأَمَّا حَيَاءُ الْعُبُودِيَّةِ: فَهُوَ حَيَاءٌ مُمْتَزِجٌ مِنْ مَحَبَّةٍ وَخَوْفٍ، وَمُشَاهَدَةِ عَدَمِ صَلَاحِ عُبُودِيَّتِهِ لِمَعْبُودِهِ، وَأَنَّ قَدْرَهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْهَا. فَعُبُودِيَّتُهُ لَهُ تُوجِبُ اسْتِحْيَاءَهُ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا حَيَاءُ الشَّرَفِ وَالْعِزَّةِ: فَحَيَاءُ النَّفْسِ الْعَظِيمَةِ الْكَبِيرَةِ إِذَا صَدَرَ مِنْهَا مَا هُوَ دُونَ قَدْرِهَا مِنْ بَذْلٍ أَوْ عَطَاءٍ وَإِحْسَانٍ. فَإِنَّهُ يَسْتَحْيِي مَعَ بَذْلِهِ حَيَاءَ شَرَفِ نَفْسٍ وَعِزَّةٍ. وَهَذَا لَهُ سَبَبَانِ. أَحَدُهُمَا هَذَا. وَالثَّانِي: اسْتِحْيَاؤُهُ مِنَ الْآخِذِ، حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الْآخِذُ السَّائِلُ. حَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكَرَمِ لَا تُطَاوِعُهُ نَفْسُهُ بِمُوَاجَهَتِهِ لِمَنْ يُعْطِيهِ حَيَاءً مِنْهُ. وَهَذَا يَدْخُلُ فِي حَيَاءِ التَّلَوُّمِ. لِأَنَّهُ يَسْتَحْيِي مِنْ خَجْلَةِ الْآخِذِ. وَأَمَّا حَيَاءُ الْمَرْءِ مِنْ نَفْسِهِ: فَهُوَ حَيَاءُ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ الْعَزِيزَةِ الرَّفِيعَةِ مِنْ رِضَاهَا لِنَفْسِهَا بِالنَّقْصِ، وَقَنَاعَتِهَا بِالدُّونِ. فَيَجِدُ نَفْسَهُ مُسْتَحِيًا مِنْ نَفْسِهِ، حَتَّى كَأَنَّ لَهُ نَفْسَيْنِ، يَسْتَحْيِي بِإِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى. وَهَذَا أَكْمَلُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَاءِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اسْتَحْيَى مِنْ نَفْسِهِ. فَهُوَ بِأَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ غَيْرِهِ أَجْدَرُ.

فصل الحياء أول مدارج أهل الخصوص

[فَصْلٌ الْحَيَاءُ أَوَّلُ مَدَارِجِ أَهْلِ الْخُصُوصِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الْحَيَاءُ: مِنْ أَوَّلِ مَدَارِجِ أَهْلِ الْخُصُوصِ. يَتَوَلَّدُ مِنْ تَعْظِيمٍ مَنُوطٍ بِوُدٍّ. إِنَّمَا جَعَلَ الْحَيَاءَ مِنْ أَوَّلِ مَدَارِجِ أَهْلِ الْخُصُوصِ: لِمَا فِيهِ مِنْ مُلَاحَظَةِ حُضُورِ مَنْ يَسْتَحْيِي مِنْهُ. وَأَوَّلُ سُلُوكِ أَهْلِ الْخُصُوصِ: أَنْ يَرَوُا الْحَقَّ سُبْحَانَهُ حَاضِرًا مَعَهُمْ، وَعَلَيْهِ بِنَاءُ سُلُوكِهِمْ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ تَعْظِيمٍ مَنُوطٍ بِوُدٍّ. يَعْنِي: أَنَّ الْحَيَاءَ حَالَةٌ حَاصِلَةٌ مِنِ امْتِزَاجِ التَّعْظِيمِ بِالْمَوَدَّةِ. فَإِذَا اقْتَرَنَا تَوَلَّدَ بَيْنَهُمَا الْحَيَاءُ. وَالْجُنَيْدُ يَقُولُ: إِنَّ تَوَلُّدَهُ مِنْ مُشَاهَدَةِ النِّعَمِ. وَرُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: تُوَلُّدُهُ مِنْ شُعُورِ الْقَلْبِ بِمَا يَسْتَحْيِي مِنْهُ. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ هَذَا الشُّعُورِ وَالنُّفْرَةِ حَالَةٌ تُسَمَّى الْحَيَاءَ. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ. فَإِنَّ لِلْحَيَاءِ عِدَّةَ أَسْبَابٍ. قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فَكَلٌّ أَشَارَ إِلَى بَعْضِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْحَيَاءِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ عِلْمِ الْعَبْدِ بِنَظَرِ الْحَقِّ إِلَيْهِ] فَصْلٌ قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ عِلْمِ الْعَبْدِ بِنَظَرِ الْحَقِّ إِلَيْهِ. فَيَجْذِبُهُ إِلَى تَحَمُّلِ هَذِهِ الْمُجَاهَدَةِ. وَيَحْمِلُهُ عَلَى اسْتِقْبَاحِ الْجِنَايَةِ. وَيُسْكِتُهُ عَنِ الشَّكْوَى. يَعْنِي: أَنَّ الْعَبْدَ مَتَى عَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى نَاظِرٌ إِلَيْهِ أَوْرَثَهُ هَذَا الْعِلْمُ حَيَاءً مِنْهُ. يَجْذِبُهُ إِلَى احْتِمَالِ أَعْبَاءِ الطَّاعَةِ، مِثْلَ الْعَبْدِ إِذَا عَمِلَ الشُّغْلَ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ نَشِيطًا فِيهِ، مُحْتَمِلًا لِأَعْبَائِهِ. وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْإِحْسَانِ مِنْ سَيِّدِهِ إِلَيْهِ، وَمَحَبَّتِهِ لِسَيِّدِهِ. بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ غَائِبًا عَنْ سَيِّدِهِ. وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَغِيبُ نَظَرُهُ عَنْ عَبْدِهِ. وَلَكِنْ يَغِيبُ نَظَرُ الْقَلْبِ وَالْتِفَاتُهُ إِلَى نَظَرِهِ سُبْحَانَهُ إِلَى الْعَبِيدِ. فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا غَابَ نَظَرُهُ، وَقَلَّ الْتِفَاتُهُ إِلَى نَظَرِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْهِ: تَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ قِلَّةُ الْحَيَاءِ وَالْقِحَةُ.

فصل الدرجة الثانية حياء يتولد من النظر في علم القرب

وَكَذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى اسْتِقْبَاحِ جِنَايَتِهِ. وَهَذَا الِاسْتِقْبَاحُ الْحَاصِلُ بِالْحَيَاءِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى اسْتِقْبَاحِ مُلَاحَظَةِ الْوَعِيدِ. وَهُوَ فَوْقَهُ. وَأَرْفَعُ مِنْهُ دَرَجَةً: الِاسْتِقْبَاحُ الْحَاصِلُ عَنِ الْمَحَبَّةِ. فَاسْتِقْبَاحُ الْمُحِبِّ أَتَمُّ مِنِ اسْتِقْبَاحِ الْخَائِفِ. وَلِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا الْحَيَاءَ يَكُفُّ الْعَبْدَ أَنْ يَشْتَكِيَ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَيَكُونَ قَدْ شَكَا اللَّهَ إِلَى خَلْقِهِ. وَلَا يَمْنَعُ الشَّكْوَى إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. فَإِنَّ الشَّكْوَى إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَقْرٌ، وَذِلَّةٌ، وَفَاقَةٌ، وَعُبُودِيَّةٌ. فَالْحَيَاءُ مِنْهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لَا يُنَافِيهَا. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّظَرِ فِي عِلْمِ الْقُرْبِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّظَرِ فِي عِلْمِ الْقُرْبِ. فَيَدْعُوهُ إِلَى رُكُوبِ الْمَحَبَّةِ. وَيَرْبُطُهُ بِرُوحِ الْأُنْسِ. وَيُكَرِّهُ إِلَيْهِ مُلَابَسَةَ الْخَلْقِ. النَّظَرُ فِي عِلْمِ الْقُرْبِ: تَحَقُّقُ الْقَلْبِ بِالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ مَعَ اللَّهِ. فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ. وَهِيَ: مَعِيَّةُ الْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وَقَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] . وَخَاصَّةٌ: وَهِيَ مَعِيَّةُ الْقُرْبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] . فَهَذِهِ مَعِيَّةُ قُرْبٍ. تَتَضَمَّنُ الْمُوَالَاةَ، وَالنَّصْرَ، وَالْحِفْظَ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُصَاحَبَةٌ مِنْهُ لِلْعَبْدِ. لَكِنَّ هَذِهِ مُصَاحَبَةُ اطِّلَاعٍ وَإِحَاطَةٍ. وَهَذِهِ مُصَاحَبَةُ مُوَالَاةٍ وَنَصْرٍ وَإِعَانَةٍ. فَ " مَعَ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ تُفِيدُ الصُّحْبَةَ اللَّائِقَةَ، لَا تُشْعِرُ بِامْتِزَاجٍ وَلَا اخْتِلَاطٍ، وَلَا مُجَاوَرَةٍ، وَلَا مُجَانَبَةٍ. فَمَنْ ظَنَّ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ هَذَا فَمِنْ سُوءِ فَهْمِهِ أُتِيَ. وَأَمَّا الْقُرْبُ: فَلَا يَقَعُ الْقُرْآنُ إِلَّا خَاصًّا. وَهُوَ نَوْعَانِ: قُرْبُهُ مِنْ دَاعِيهِ بِالْإِجَابَةِ. وَقُرْبُهُ مِنْ عَابِدِهِ بِالْإِثَابَةِ.

فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] . وَلِهَذَا نَزَلَتْ جَوَابًا لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَبُّنَا قَرِيبٌ فَنُنَاجِيَهُ؟ أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيَهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» . فَهَذَا قُرْبُهُ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ. وَفِي الصَّحِيحِ: عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ. فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا بِالتَّكْبِيرِ. فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ. إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا. إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ. أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ» . فَهَذَا قُرْبٌ خَاصٌّ بِالدَّاعِي دُعَاءَ الْعِبَادَةِ وَالثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ. وَهَذَا الْقُرْبُ لَا يُنَافِي كَمَالَ مُبَايَنَةِ الرَّبِّ لِخَلْقِهِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ. بَلْ يُجَامِعُهُ وَيُلَازِمُهُ. فَإِنَّهُ لَيْسَ كَقُرْبِ الْأَجْسَامِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَلَكِنَّهُ نَوْعٌ آخَرُ. وَالْعَبْدُ فِي الشَّاهِدِ يَجِدُ رُوحَهُ قَرِيبَةً جِدًّا مِنْ مَحْبُوبٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَفَاوِزُ تَتَقَطَّعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ. وَيَجِدُهُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ جَلِيسِهِ. كَمَا قِيلَ. أَلَا رُبَّ مَنْ يَدْنُو. وَيَزْعُمُ أَنَّهُ ... يُحِبُّكَ. وَالنَّائِي أَحَبُّ وَأَقْرَبُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ أَوْلِيَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَرَثَتُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ، الَّذِينَ هُوَ عِنْدَهُمْ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَأَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْهَا: يَجِدُونَ نُفُوسَهُمْ أَقْرَبَ إِلَيْهِ. وَهُمْ فِي الْأَقْطَارِ النَّائِيَةِ عَنْهُ مِنْ جِيرَانِ حُجْرَتِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَالْمُحِبُّونَ الْمُشْتَاقُونَ لِلْكَعْبَةِ وَالْبَيْتِ الْحَرَامِ يَجِدُونَ قُلُوبَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ أَقْرَبَ إِلَيْهَا مِنْ جِيرَانِهَا وَمَنْ حَوْلَهَا. هَذَا مَعَ عَدَمِ تَأَتِّي الْقُرْبِ مِنْهَا. فَكَيْفَ بِمَنْ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ. وَأَهْلُ الذَّوْقِ لَا يَلْتَفِتُونَ فِي ذَلِكَ إِلَى شُبْهَةِ مُعَطِّلٍ بَعِيدٍ مِنَ اللَّهِ، خَلِيٍّ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ. وَالْقَصْدُ: أَنَّ هَذَا الْقُرْبَ يَدْعُو صَاحِبَهُ إِلَى رُكُوبِ الْمَحَبَّةِ. وَكُلَّمَا ازْدَادَ حُبًّا ازْدَادَ قُرْبًا. فَالْمَحَبَّةُ بَيْنَ قُرْبَيْنِ: قُرْبٍ قَبْلَهَا، وَقُرْبٍ بَعْدَهَا، وَبَيْنَ مَعْرِفَتَيْنِ: مَعْرِفَةٍ قَبْلَهَا حَمَلَتْ عَلَيْهَا، وَدَعَتْ إِلَيْهَا، وَدَلَّتْ عَلَيْهَا. وَمَعْرِفَةٍ بَعْدَهَا. هِيَ مِنْ نَتَائِجِهَا وَآثَارِهَا.

فصل الدرجة الثالثة حياء يتولد من شهود الحضرة

وَأَمَّا رَبْطُهُ بِرُوحِ الْأُنْسِ: فَهُوَ تَعَلُّقُ قَلْبِهِ بِرُوحِ الْأُنْسِ بِاللَّهِ، تَعَلُّقًا لَازِمًا لَا يُفَارِقُهُ. بَلْ يَجْعَلُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْأُنْسِ رَابِطَةً لَازِمَةٍ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يُكَرِّهُ إِلَيْهِ مُلَابَسَةَ الْخَلْقِ. بَلْ يَجِدُ الْوَحْشَةَ فِي مُلَابَسَتِهِمْ بِقَدْرِ أُنْسِهِ بِرَبِّهِ، وَقُرَّةِ عَيْنِهِ بِحُبِّهِ وَقُرْبِهِ مِنْهُ. فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ. فَإِنْ لَابَسَهُمْ لَابَسَهُمْ بِرَسْمِهِ دُونَ سِرِّهِ وَرُوحِهِ وَقَلْبِهِ. فَقَلْبُهُ وَرُوحُهُ فِي مَلَأٍ، وَبَدَنُهُ وَرَسْمُهُ فِي مَلَأٍ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ شُهُودِ الْحَضْرَةِ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ شُهُودِ الْحَضْرَةِ. وَهِيَ الَّتِي لَا تَشُوبُهَا هَيْبَةٌ. وَلَا تُقَارِنُهَا تَفْرِقَةٌ. وَلَا يُوقَفُ لَهَا عَلَى غَايَةٍ. شُهُودُ الْحَضْرَةِ: انْجِذَابُ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ مِنَ الْكَائِنَاتِ، وَعُكُوفُهُ عَلَى رَبِّ الْبَرِيَّاتِ، فَهُوَ فِي حَضْرَةِ قُرْبِهِ مُشَاهِدًا لَهَا. وَإِذَا وَصَلَ الْقَلْبُ إِلَيْهَا غَشِيَتْهُ الْهَيْبَةُ وَزَالَتْ عَنْهُ التَّفْرِقَةُ. إِذْ مَا مَعَ اللَّهِ سِوَاهُ. فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ سِوَى اللَّهِ وَحْدَهُ. وَهَذَا مَقَامُ الْجَمْعِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يُوقَفُ لَهَا عَلَى غَايَةٍ. فَيَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى مَطْلُوبِهِ، وَظَفِرَ بِهِ: وَصَلَ إِلَى الْغَايَةِ، إِلَّا صَاحِبَ هَذَا الْمَشْهَدِ. فَإِنَّهُ لَا يَقِفُ بِحَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى غَايَةٍ. فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ. بَلْ إِذَا شَهِدَ تِلْكَ الرَّوَابِيَ. وَوَقَفَ عَلَى تِلْكَ الرُّبُوعِ، وَعَايَنَ الْحَضْرَةَ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْغَايَاتِ، شَارَفَ أَمْرًا لَا غَايَةَ لَهُ وَلَا نِهَايَةَ. وَالْغَايَاتُ وَالنِّهَايَاتُ كُلُّهَا إِلَيْهِ تَنْتَهِي {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42] فَانْتَهَتْ إِلَيْهِ الْغَايَاتُ وَالنِّهَايَاتُ. وَلَيْسَ لَهُ سُبْحَانَهُ غَايَةٌ وَلَا نِهَايَةٌ. لَا فِي وُجُودِهِ، وَلَا فِي مَزِيدِ جُودِهِ. إِذْ هُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ. وَالْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ. وَلَا نِهَايَةَ لِحَمْدِهِ وَعَطَائِهِ. بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ الْعَبْدُ شُكْرًا زَادَهُ فَضْلًا. وَكُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ طَاعَةً زَادَهُ لِمَجْدِهِ مَثُوبَةً. وَكُلَّمَا ازْدَادَ مِنْهُ قُرْبًا لَاحَ لَهُ مِنْ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ مَا لَمْ يُشَاهِدْهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَهَكَذَا أَبَدًا لَا يَقِفُ عَلَى غَايَةٍ وَلَا نِهَايَةٍ. وَلِهَذَا جَاءَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي مَزِيدٍ دَائِمٍ بِلَا انْتِهَاءٍ فَإِنَّ نَعِيمَهُمْ مُتَّصِلٌ مِمَّنْ لَا نِهَايَةَ لِفَضْلِهِ وَلَا لِعَطَائِهِ، وَلَا لِمَزِيدِهِ وَلَا لِأَوْصَافِهِ. فَتَبَارَكَ اللَّهُ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] . «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ

فصل منزلة الصدق

وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يُنْقِصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» . [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الصِّدْقِ] [حَقِيقَةُ الصِّدْقِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الصِّدْقِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الصِّدْقِ وَهِيَ مَنْزِلَةُ الْقَوْمِ الْأَعْظَمِ. الَّذِي مِنْهُ تَنْشَأُ جَمِيعُ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ، وَالطَّرِيقُ الْأَقْوَمُ الَّذِي مَنْ لَمْ يَسِرْ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنَ الْمُنْقَطِعِينَ الْهَالِكِينَ. وَبِهِ تَمَيَّزَ أَهْلُ النِّفَاقِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَسُكَّانُ الْجِنَانِ مِنْ أَهْلِ النِّيرَانِ. وَهُوَ سَيْفُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ الَّذِي مَا وُضِعَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا قَطَعَهُ. وَلَا وَاجَهَ بَاطِلًا إِلَّا أَرْدَاهُ وَصَرَعَهُ. مَنْ صَالَ بِهِ لَمْ تُرَدَّ صَوْلَتُهُ. وَمَنْ نَطَقَ بِهِ عَلَتْ عَلَى الْخُصُومِ كَلِمَتُهُ. فَهُوَ رُوحُ الْأَعْمَالِ، وَمَحَكُّ الْأَحْوَالِ، وَالْحَامِلُ عَلَى اقْتِحَامِ الْأَهْوَالِ، وَالْبَابُ الَّذِي دَخَلَ مِنْهُ الْوَاصِلُونَ إِلَى حَضْرَةِ ذِي الْجَلَالِ. وَهُوَ أَسَاسُ بِنَاءِ الدِّينِ، وَعَمُودُ فُسْطَاطِ الْيَقِينِ. وَدَرَجَتُهُ تَالِيَةٌ لِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ أَرْفَعُ دَرَجَاتِ الْعَالِمِينَ. وَمِنْ مَسَاكِنِهِمْ فِي الْجَنَّاتِ تُجْرَى الْعُيُونُ وَالْأَنْهَارُ إِلَى مَسَاكِنِ الصِّدِّيقِينَ. كَمَا كَانَ مِنْ قُلُوبِهِمْ إِلَى قُلُوبِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَدَدٌ مُتَّصِلٌ وَمَعِينٌ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ. وَخَصَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. فَقَالَ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] فَهُمُ الرَّفِيقُ الْأَعْلَى {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] وَلَا يَزَالُ اللَّهُ يَمُدُّهُمْ بِأَنْعُمِهِ وَأَلْطَافِهِ وَمَزِيدِهِ إِحْسَانًا مِنْهُ وَتَوْفِيقًا. وَلَهُمْ مَرْتَبَةُ الْمَعِيَّةِ مَعَ اللَّهِ. فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّادِقِينَ، وَلَهُمْ مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ مِنْهُ. إِذْ دَرَجَتُهُمْ مِنْهُ ثَانِي دَرَجَةِ النَّبِيِّينَ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ صَدَقَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. فَقَالَ {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21] .

وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْبِرِّ. وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ: مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالصَّبْرِ. بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الصِّدْقِ فَقَالَ {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الصِّدْقَ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. وَأَنَّ الصِّدْقَ هُوَ مَقَامُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَقَسَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النَّاسَ إِلَى صَادِقٍ وَمُنَافِقٍ. فَقَالَ {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24] . وَالْإِيمَانُ أَسَاسُهُ الصِّدْقُ. وَالنِّفَاقُ أَسَاسُهُ الْكَذِبُ. فَلَا يَجْتَمِعُ كَذِبٌ وَإِيمَانٌ إِلَّا وَأَحَدُهُمَا مُحَارِبٌ لِلْآخَرِ. وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ وَيُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِهِ إِلَّا صِدْقُهُ. قَالَ تَعَالَى {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] فَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ: هُوَ مِنْ شَأْنِهِ الصِّدْقُ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ وَحَالِهِ. فَالصِّدْقُ: فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. فَالصِّدْقُ فِي الْأَقْوَالِ: اسْتِوَاءُ اللِّسَانِ عَلَى الْأَقْوَالِ، كَاسْتِوَاءِ السُّنْبُلَةِ عَلَى سَاقِهَا. وَالصِّدْقُ فِي الْأَعْمَالِ: اسْتِوَاءُ الْأَفْعَالِ عَلَى الْأَمْرِ وَالْمُتَابَعَةِ. كَاسْتِوَاءِ الرَّأْسِ عَلَى الْجَسَدِ. وَالصِّدْقُ فِي الْأَحْوَالِ: اسْتِوَاءُ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ عَلَى الْإِخْلَاصِ. وَاسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ، وَبَذْلُ الطَّاقَةِ، فَبِذَلِكَ يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الَّذِينَ جَاءُوا بِالصِّدْقِ. وَبِحَسَبِ كَمَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ فِيهِ وَقِيَامِهَا بِهِ: تَكُونُ صِدِّيقِيَّتُهُ. وَلِذَلِكَ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: ذُرْوَةُ سَنَامِ الصِّدِّيقِيَّةِ، سُمِّيَ الصِّدِّيقَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالصِّدِّيقُ أَبْلَغُ مِنَ الصَّدُوقِ وَالصَّدُوقُ أَبْلَغُ مِنَ الصَّادِقِ. فَأَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّدْقِ: مَرْتَبَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ. وَهِيَ كَمَالُ الِانْقِيَادِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ كَمَالِ الْإِخْلَاصِ لِلْمُرْسِلِ.

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ: أَنْ يَسْأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ مُدْخَلَهُ وَمُخْرَجَهُ عَلَى الصِّدْقِ. فَقَالَ {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] وَأَخْبَرَ عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. فَقَالَ {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] وَبَشَّرَ عِبَادَهُ بِأَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ قَدَمَ صِدْقٍ، وَمَقْعَدَ صِدْقٍ. فَقَالَ تَعَالَى {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] وَقَالَ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ - فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55] . فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: مُدْخَلُ الصِّدْقِ، وَمُخْرَجُ الصِّدْقِ. وَلِسَانُ الصِّدْقِ، وَقَدَمُ الصِّدْقِ، وَمَقْعَدُ الصِّدْقِ. وَحَقِيقَةُ الصِّدْقِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ: هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ، الْمُتَّصِلُ بِاللَّهِ، الْمُوَصِّلُ إِلَى اللَّهِ. وَهُوَ مَا كَانَ بِهِ وَلَهُ، مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ. وَجَزَاءُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَمُدْخَلُ الصِّدْقِ، وَمُخْرَجُ الصِّدْقِ: أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ حَقًّا ثَابِتًا بِاللَّهِ، وَفِي مَرْضَاتِهِ. بِالظَّفَرِ بِالْبُغْيَةِ، وَحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، ضِدَّ مُخْرَجِ الْكَذِبِ وَمُدْخَلِهِ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ يُوَصَلُ إِلَيْهَا. وَلَا لَهُ سَاقٌ ثَابِتَةٌ يَقُومُ عَلَيْهَا. كَمُخْرَجِ أَعْدَائِهِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَمُخْرَجُ الصِّدْقِ كَمُخْرَجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ. وَكَذَلِكَ مُدْخَلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ: كَانَ مُدْخَلُ صِدْقٍ بِاللَّهِ، وَلِلَّهِ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ. فَاتَّصَلَ بِهِ التَّأْيِيدُ، وَالظَّفَرُ وَالنَّصْرُ، وَإِدْرَاكُ مَا طَلَبَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِخِلَافِ مُدْخَلِ الْكَذِبِ الَّذِي رَامَ أَعْدَاؤُهُ أَنْ يَدْخُلُوا بِهِ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِاللَّهِ، وَلَا لِلَّهِ. بَلْ كَانَ مُحَادَّةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ إِلَّا الْخِذْلَانُ وَالْبَوَارُ. وَكَذَلِكَ مُدْخَلُ مَنْ دَخَلَ مِنَ الْيَهُودِ الْمُحَارِبِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِصْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُدْخَلَ كَذِبٍ: أَصَابَهُ مَعَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ. فَكُلُّ مُدْخَلٍ مَعَهُمْ وَمُخْرَجٍ كَانَ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ. فَصَاحِبُهُ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ. فَهُوَ مُدْخَلُ صِدْقٍ، وَمُخْرَجُ صِدْقٍ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا خَرَجَ مِنْ دَارِهِ: رَفَعَ رَأَسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي

أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُخْرَجَ مُخْرَجًا لَا أَكُونُ فِيهِ ضَامِنًا عَلَيْكَ. يُرِيدُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُخْرَجُ مُخْرَجَ صِدْقٍ. وَلِذَلِكَ فُسِّرَ مُدْخَلُ الصِّدْقِ وَمُخْرَجُهُ: بِخُرُوجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَدُخُولِهِ الْمَدِينَةَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. فَإِنَّ هَذَا الْمُدْخَلَ وَالْمُخْرَجَ مِنْ أَجَلِّ مَدَاخِلِهِ وَمَخَارِجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِلَّا فَمَدَاخِلُهُ كُلُّهَا مَدَاخِلُ صِدْقٍ، وَمَخَارِجُهُ مَخَارِجُ صِدْقٍ. إِذْ هِيَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ، وَلِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ. وَمَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ بَيْتِهِ وَدَخَلَ سُوقَهُ - أَوْ مُدْخَلًا آخَرَ - إِلَّا بِصِدْقٍ أَوْ بِكَذِبٍ، فَمُخْرَجُ كُلِّ وَاحِدٍ وَمُدْخَلُهُ: لَا يَعْدُو الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَأَمَّا لِسَانُ الصِّدْقِ: فَهُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ بِالصِّدْقِ. لَيْسَ ثَنَاءً بِالْكَذِبِ. كَمَا قَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 50] وَالْمُرَادُ بِاللِّسَانِ هَاهُنَا: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ. فَلَمَّا كَانَ الصِّدْقُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ مَحَلُّهُ. أَطْلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْسِنَةَ الْعِبَادِ بِالثَّنَاءِ عَلَى الصَّادِقِ، جَزَاءً وِفَاقًا. وَعَبَّرَ بِهِ عَنْهُ. فَإِنَّ اللِّسَانَ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: هَذَا، وَاللُّغَةُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] وَقَوْلِهِ: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] وَقَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] وَيُرَادُ بِهِ الْجَارِحَةُ نَفْسُهَا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] . وَأَمَّا قَدَمُ الصِّدْقِ: فَفُسِّرَ بِالْجَنَّةِ. وَفُسِّرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفُسِّرَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَحَقِيقَةُ الْقَدَمِ مَا قَدَّمُوهُ. وَمَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهُمْ قَدَّمُوا الْأَعْمَالَ وَالْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْدَمُونَ عَلَى الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ جَزَاءُ ذَلِكَ. فَمَنْ فَسَّرَهُ بِهَا أَرَادَ: مَا يَقْدَمُونَ عَلَيْهِ. وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالْأَعْمَالِ وَبِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِأَنَّهُمْ قَدَّمُوهَا. وَقَدَّمُوا الْإِيمَانَ بِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. فَالثَّلَاثَةُ قَدَمُ صِدْقٍ. وَأَمَّا مَقْعَدُ الصِّدْقِ: فَهُوَ الْجَنَّةُ عِنْدَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

وَوَصْفُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالصِّدْقِ مُسْتَلْزِمٌ ثُبُوتَهُ وَاسْتِقْرَارَهُ، وَأَنَّهُ حَقُّ، وَدَوَامَهُ وَنَفْعَهُ، وَكَمَالَ عَائِدَتِهِ. فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ، كَائِنٌ بِهِ وَلَهُ. فَهُوَ صِدْقٌ غَيْرُ كَذِبٍ. وَحَقٌّ غَيْرُ بَاطِلٍ. وَدَائِمٌ غَيْرُ زَائِلٍ. وَنَافِعٌ غَيْرُ ضَارٍّ. وَمَا لِلْبَاطِلِ وَمُتَعَلَّقَاتِهِ إِلَيْهِ سَبِيلٌ وَلَا مَدْخَلٌ. وَمِنْ عَلَامَاتِ الصِّدْقِ: طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ. وَمِنْ عَلَامَاتِ الْكَذِبِ: حُصُولُ الرِّيبَةِ، كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ - مَرْفُوعًا - مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ. وَالْكَذِبُ رِيبَةٌ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ. وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ. وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتُبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» فَجَعَلَ الصِّدْقَ مِفْتَاحَ الصِّدِّيقِيَّةِ وَمَبْدَأَهَا. وَهِيَ غَايَتُهُ. فَلَا يَنَالُ دَرَجَتَهَا كَاذِبٌ أَلْبَتَّةَ. لَا فِي قَوْلِهِ:، وَلَا فِي عَمَلِهِ، وَلَا فِي حَالِهِ. وَلَا سِيَّمَا كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَنَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ. أَوْ إِثْبَاتِ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ. فَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ صِدِّيقٌ أَبَدًا. وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ. بِتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ. وَتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ. وَإِسْقَاطِ مَا أَوْجَبَهُ، وَإِيجَابِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ، وَكَرَاهَةِ مَا أَحَبَّهُ، وَاسْتِحْبَابِ مَا لَمْ يُحِبَّهُ. كُلُّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلصِّدِّيقِيَّةِ. وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ مَعَهُ فِي الْأَعْمَالِ: بِالتَّحَلِّي بِحِلْيَةِ الصَّادِقِينَ الْمُخْلِصِينَ، وَالزَّاهِدِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ. وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْهُمْ. فَلِذَلِكَ كَانَتِ الصِّدِّيقِيَّةُ: كَمَالَ الْإِخْلَاصِ وَالِانْقِيَادِ، وَالْمُتَابَعَةَ لِلْخَبَرِ وَالْأَمْرِ، ظَاهِرًا

فصل في كلمات في حقيقة الصدق

وَبَاطِنًا، حَتَّى إِنَّ صِدْقَ الْمُتَبَايِعَيْنِ يُحِلُّ الْبَرَكَةَ فِي بَيْعِهِمَا. وَكَذِبَهُمَا يَمْحَقُ بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا. كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا. فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا. وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا: مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» . [فَصْلٌ فِي كَلِمَاتٍ فِي حَقِيقَةِ الصِّدْقِ] قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ: الصِّدْقُ: الْوَفَاءُ لِلَّهِ بِالْعَمَلِ. وَقِيلَ: مُوَافَقَةُ السِّرِّ النُّطْقَ. وَقِيلَ: اسْتِوَاءُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. يَعْنِي أَنَّ الْكَاذِبَ عَلَانِيَتُهُ خَيْرٌ مِنْ سَرِيرَتِهِ. كَالْمُنَافِقِ الَّذِي ظَاهِرُهُ خَيْرٌ مِنْ بَاطِنِهِ. وَقِيلَ: الصِّدْقُ: الْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي مَوَاطِنِ الْهَلَكَةِ. وَقِيلَ: كَلِمَةُ الْحَقِّ عِنْدَ مَنْ تَخَافُهُ وَتَرْجُوهُ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الصَّادِقُ يَتَقَلَّبُ فِي الْيَوْمِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً. وَالْمُرَائِي يَثْبُتُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ. وَقَدْ يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ خِلَافُهُ، وَأَنَّ الْكَاذِبَ مُتَلَوِّنٌ. لِأَنَّ الْكَذِبَ أَلْوَانٌ، فَهُوَ يَتَلَوَّنُ بِتَلَوُّنِهِ. وَالصَّادِقُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. فَإِنَّ الصِّدْقَ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ، وَصَاحِبُهُ لَا يَتَلَوَّنُ وَلَا يَتَغَيَّرُ. لَكِنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ صَحِيحٌ غَيْرُ هَذَا. فَإِنَّ الْمُعَارَضَاتِ وَالْوَارِدَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الصَّادِقِ لَا تَرِدُ عَلَى الْكَاذِبِ الْمُرَائِي. بَلْ هُوَ فَارِغٌ مِنْهَا. فَإِنَّهُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ مَوَارِدُ الصَّادِقِينَ عَلَى الْكَاذِبِينَ الْمُرَائِينَ. وَلَا يُعَارِضُهُمُ الشَّيْطَانُ. كَمَا يُعَارِضُ الصَّادِقِينَ. فَإِنَّهُ لَا أَرَبَ لَهُ فِي خَرِبَةٍ لَا شَيْءَ فِيهَا. وَهَذِهِ الْوَارِدَاتُ تُوجِبُ تَقَلُّبَ الصَّادِقِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهَا وَتَنَوُّعِهَا. فَلَا تَرَاهُ إِلَّا هَارِبًا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَمِنْ عَمَلٍ إِلَى عَمَلٍ. وَمِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَمِنْ سَبَبٍ إِلَى سَبَبٍ. لِأَنَّهُ يَخَافُ فِي كُلِّ حَالٍ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا. وَمَكَانٍ

وَسَبَبٍ: أَنْ يَقْطَعَهُ عَنْ مَطْلُوبِهِ. فَهُوَ لَا يُسَاكِنُ حَالَةً وَلَا شَيْئًا دُونَ مَطْلُوبِهِ. فَهُوَ كَالْجَوَّالِ فِي الْآفَاقِ فِي طَلَبِ الْغِنَى الَّذِي يَفُوقُ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ. وَالْأَحْوَالُ وَالْأَسْبَابُ تَتَقَلَّبُ بِهِ، وَتُقِيمُهُ وَتُقْعِدُهُ، وَتُحَرِّكُهُ وَتُسَكِّنُهُ، حَتَّى يَجِدَ فِيهَا مَا يُعِينُهُ عَلَى مَطْلُوبِهِ. وَهَذَا عَزِيزٌ فِيهَا. فَقَلْبُهُ فِي تَقَلُّبٍ، وَحَرَكَةٍ شَدِيدَةٍ بِحَسَبِ سَعَةِ مَطْلُوبِهِ. وَعَظْمَتِهِ وَهِمَّتِهِ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَقِفَ دُونَ مَطْلَبِهِ عَلَى رَسْمٍ أَوْ حَالٍ، أَوْ يُسَاكِنَ شَيْئًا غَيْرَهُ. فَهُوَ كَالْمُحِبِّ الصَّادِقِ، الَّذِي هِمَّتُهُ التَّفْتِيشُ عَلَى مَحْبُوبِهِ. وَكَذَا حَالُ الصَّادِقِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَحَالُ الصَّادِقِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا. فَكُلُّ صَادِقٍ فِي طَلَبِ شَيْءٍ لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ. وَلَا يَدُومُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّادِقَ مَطْلُوبُهُ رِضَا رَبِّهِ، وَتَنْفِيذُ أَوَامِرِهِ، وَتَتَبُّعُ مَحَابِّهِ. فَهُوَ مُتَقَلِّبٌ فِيهَا يَسِيرُ مَعَهَا أَيْنَ تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهَا. وَيَسْتَقِلُّ مَعَهَا أَيْنَ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهَا فَبَيْنَا هُوَ فِي صَلَاةٍ إِذْ رَأَيْتُهُ فِي ذِكْرٍ ثُمَّ فِي غَزْوٍ، ثُمَّ فِي حَجٍّ. ثُمَّ فِي إِحْسَانٍ لِلْخَلْقِ بِالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِهِ، مِنْ أَنْوَاعِ النَّفْعِ. ثُمَّ فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ. أَوْ فِي قِيَامٍ بِسَبَبٍ فِي عِمَارَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، ثُمَّ فِي عِيَادَةِ مَرِيضٍ، أَوْ تَشْيِيعِ جِنَازَةٍ. أَوْ نَصْرِ مَظْلُومٍ - إِنْ أَمْكَنَ - إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرْبِ وَالْمَنَافِعِ. فَهُوَ فِي تَفَرُّقٍ دَائِمٍ لِلَّهِ، وَجَمْعِيَّةٍ عَلَى اللَّهِ. لَا يَمْلِكُهُ رَسْمٌ وَلَا عَادَةٌ وَلَا وَضْعٌ. وَلَا يَتَقَيَّدُ بِقَيْدٍ وَلَا إِشَارَةٍ. وَلَا بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ يُصَلِّي فِيهِ لَا يُصَلِّي فِي غَيْرِهِ. وَزِيٍّ مُعَيَّنٍ لَا يَلْبَسُ سِوَاهُ. وَعِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا، مَعَ فَضْلِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا، أَوْ هِيَ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهَا فِي الدَّرَجَةِ. وَبُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا كَبُعْدِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَإِنَّ الْبَلَاءَ وَالْآفَاتِ وَالرِّيَاءَ وَالتَّصَنُّعَ، وَعِبَادَةَ النَّفْسِ، وَإِيثَارَ مُرَادِهَا، وَالْإِشَارَةَ إِلَيْهَا: كُلُّهَا فِي هَذِهِ الْأَوْضَاعِ، وَالرُّسُومَ وَالْقُيُودَ، الَّتِي حَبَسَتْ أَرْبَابَهَا عَنِ السَّيْرِ إِلَى قُلُوبِهِمْ. فَضْلًا عَنِ السَّيْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَإِذَا خَرَجَ أَحَدُهُمْ عَنْ رَسْمِهِ وَوَضْعِهِ وَزِيِّهِ وَقَيْدِهِ وَإِشَارَتِهِ - وَلَوْ إِلَى أَفْضَلَ مِنْهُ - اسْتَهْجَنَ ذَلِكَ. وَرَآهُ نَقْصًا، وَسُقُوطًا مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَانْحِطَاطًا لِرُتْبَتِهِ عِنْدَهُمْ. وَهُوَ قَدِ انْحَطَّ وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ. وَقَدْ يُحِسُّ أَحَدُهُمْ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَحَالِهِ. وَلَا تَدَعُهُ رُسُومُهُ وَأَوْضَاعُهُ وَزِيُّهُ وَقُيُودُهُ: أَنْ يَسْعَى فِي تَرْمِيمِ ذَلِكَ وَإِصْلَاحِهِ. وَهَذَا شَأْنُ الْكَذَّابِ الْمُرَائِي الَّذِي يُبْدِي لِلنَّاسِ خِلَافَ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ بَاطِنِهِ، الْعَامِلِ عَلَى عِمَارَةِ نَفْسِهِ وَمَرْتَبَتِهِ. وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ بِعَيْنِهِ. وَلَوْ كَانَ عَامِلًا عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ، وَعَلَى الصِّدْقِ مَعَ اللَّهِ: لَأَثْقَلَتْهُ تِلْكَ الْقُيُودُ. وَحَبَسَتْهُ تِلْكَ الرُّسُومُ. وَلَرَأَى الْوُقُوفَ عِنْدَهَا وَمَعَهَا عَيْنَ الِانْقِطَاعِ عَنِ اللَّهِ لَا إِلَيْهِ. وَلَمَا بَالَى أَيَّ ثَوْبٍ لَبِسَ، وَلَا أَيَّ عَمَلٍ عَمِلَ، إِذَا كَانَ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْعَبْدِ.

فَكَلَامُ أَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ حَقٌّ، كَلَامُ رَاسِخٍ فِي الصِّدْقِ، عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِهِ وَآفَاتِهِ، وَمَوَاضِعِ اشْتِبَاهِهِ بِالْكَذِبِ. وَأَيْضًا فَحِمْلُ الصِّدْقِ كَحِمْلِ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي. لَا يُطِيقُهُ إِلَّا أَصْحَابُ الْعَزَائِمِ. فَهُمْ يَتَقَلَّبُونَ تَحْتَهُ تَقَلُّبَ الْحَامِلِ بِحِمْلِهِ الثَّقِيلِ. وَالرِّيَاءُ وَالْكَذِبُ خَفِيفٌ كَالرِّيشَةِ لَا يَجِدُ لَهُ صَاحِبُهُ ثِقَلًا أَلْبَتَّةَ. فَهُوَ حَامِلٌ لَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ اتَّفَقَ، بِلَا تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ وَلَا كُلْفَةٍ. فَهُوَ لَا يَتَقَلَّبُ تَحْتَ حِمْلِهِ وَلَا يَجِدُ ثِقَلَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَشَمُّ رَائِحَةَ الصِّدْقِ عَبْدٌ دَاهَنَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّادِقُ الَّذِي يَتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ يَمُوتَ وَلَا يَسْتَحْيِيَ مِنْ سِرِّهِ لَوْ كُشِفَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] . قُلْتُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا لِلنَّاسِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ. قَالُوا: إِنَّهَا مُعْجِزَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَعْجَزَ بِهَا الْيَهُودَ. وَدَعَاهُمْ إِلَى تَمَنِّي الْمَوْتِ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا. وَهَذَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ إِلَّا بِأَخْبَارِ الْغَيْبِ. وَلَمْ يُنْطِقِ اللَّهُ أَلْسِنَتَهُمْ بِتَمَنِّيهِ أَبَدًا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَمَّا ادَّعَتِ الْيَهُودُ أَنَّ لَهُمُ الدَّارَ الْآخِرَةَ عِنْدَ اللَّهِ، خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ أَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَهْلُ كَرَامَتِهِ، كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِي دَعْوَاهُمْ. وَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. لِتَصِلُوا إِلَى الْجَنَّةِ دَارِ النَّعِيمِ، فَإِنَّ الْحَبِيبَ يَتَمَنَّى لِقَاءَ حَبِيبِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَوْزَارِ وَالذُّنُوبِ الْحَائِلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا قَالُوهُ. فَقَالَ {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ - مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ - هَذِهِ مِنْ جِنْسِ آيَةِ الْمُبَاهَلَةِ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا عَانَدُوا، وَدَفَعُوا الْهُدَى عَيَانًا. وَكَتَمُوا الْحَقَّ: دَعَاهُمْ إِلَى أَمْرٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ. وَهُوَ أَنْ

يَدْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى الْكَاذِبِ الْمُفْتَرِي. وَالتَّمَنِّي سُؤَالٌ وَدُعَاءٌ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، وَادْعُوا بِهِ عَلَى الْمُبْطِلِ الْكَاذِبِ الْمُفْتَرِي. وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الْمُرَادُ: تَمَنُّوهُ لِأَنْفُسِكُمْ خَاصَّةً كَمَا قَالَهُ أَصْحَابُ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. بَلْ مَعْنَاهُ: ادْعُوا بِالْمَوْتِ وَتَمَنُّوهُ لِلْمُبْطِلِ. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَبُرْهَانِ الصِّدْقِ، وَأَسْلَمُ مِنْ أَنْ يُعَارِضُوا رَسُولَ اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ: فَتَمَنُّوهُ أَنْتُمْ أَيْضًا. إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ أَنَّكُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ. لِتَقْدَمُوا عَلَى ثَوَابِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ. وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى مُعَارَضَتِهِ، فَلَوْ فَهِمُوا مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ أُولَئِكَ لَعَارَضُوهُ بِمِثْلِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّا نُشَاهِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ لِضُرِّهِ وَبَلَائِهِ، وَشِدَّةِ حَالِهِ. وَيَدْعُو بِهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ تَمَنِّيهِ وَالدُّعَاءِ بِهِ عَلَى الْفِرْقَةِ الْكَاذِبَةِ. فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ أَبَدًا. وَلَا وَقَعَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْبَتَّةَ. وَذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ، وَكُفْرِهِمْ بِهِ حَسَدًا وَبَغْيًا. فَلَا يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا. لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ مِنْ كِتَابِهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَوَاصُّ: الصَّادِقُ لَا تَرَاهُ إِلَّا فِي فَرْضٍ يُؤَدِّيهِ، أَوْ فَضْلٍ يَعْمَلُ فِيهِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: حَقِيقَةُ الصِّدْقِ: أَنَّ تَصْدُقَ فِي مَوْطِنٍ لَا يُنْجِيكَ مِنْهُ إِلَّا الْكَذِبُ. وَقِيلَ: ثَلَاثٌ لَا تُخْطِئُ الصَّادِقَ: الْحَلَاوَةُ، وَالْمَلَاحَةُ، وَالْهَيْبَةُ. وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ مَنْ صَدَقَنِي فِي سَرِيرَتِهِ صَدَقْتُهُ فِي عَلَانِيَتِهِ عِنْدَ خَلْقِي. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَوَّلُ خِيَانَةِ الصِّدِّيقِينَ: حَدِيثُهُمْ مَعَ أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: لَأَنْ أَبِيتَ لَيْلَةً أُعَامِلُ اللَّهَ بِالصِّدْقِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَضْرِبَ بِسَيْفِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ: الصَّادِقُ هُوَ الَّذِي لَا يُبَالِي لَوْ خَرَجَ كُلُّ قَدْرٍ لَهُ فِي قُلُوبِ

الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِ صَلَاحِ قَلْبِهِ. وَلَا يُحِبُّ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى مَثَاقِيلِ الذَّرِّ مِنْ حُسْنِ عَمَلِهِ. وَلَا يَكْرَهُ أَنْ يَطَّلِعَ النَّاسُ عَلَى السَّيِّئِ مِنْ عَمَلِهِ. فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ لِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُحِبُّ الزِّيَادَةَ عِنْدَهُمْ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ عَلَامَاتِ الصِّدِّيقِينَ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ. لِأَنَّ كَرَاهَتَهُ لِاطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَى مَسَاوِئِ عَمَلِهِ مِنْ جِنْسِ كَرَاهَتِهِ لِلضَّرْبِ وَالْمَرَضِ وَسَائِرِ الْآلَامِ. وَهَذَا أَمْرٌ جَبَلِيٌّ طَبِيعِيٌّ. وَلَا يَخْرُجُ صَاحِبُهُ عَنِ الصِّدْقِ، لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ قُدْوَةً مُتَّبَعًا. فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ صِدْقِهِ. لِأَنَّ فِيهَا مَفْسَدَتَيْنِ: مَفْسَدَةَ تَرْكِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَاتِّبَاعِهِ عَلَى الْخَيْرِ وَتَنْفِيذِهِ. وَمَفْسَدَةَ اقْتِدَاءِ الْجُهَّالِ بِهِ فِيهَا. فَكَرَاهِيَتُهُ لِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَسَاوِئِ عَمَلِهِ: لَا تُنَافِي صِدْقَهُ، بَلْ قَدْ تَكُونُ مِنْ عَلَامَاتِ صِدْقِهِ. نَعَمِ الْمُنَافِي لِلصِّدْقِ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مُرَادٌ سِوَى عِمَارَةِ حَالِهِ عِنْدَهُمْ، وَسُكْنَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ تَعْظِيمًا لَهُ. فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ تَنْفِيذًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَنَشْرًا لِدِينِهِ، وَأَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيًا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَدَعْوَةً إِلَى اللَّهِ: فَهَذَا الصَّادِقُ حَقًّا. وَاللَّهُ يَعْلَمُ سَرَائِرَ الْقُلُوبِ وَمَقَاصِدَهَا. وَأَظُنُّ أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُحَاسِبِيِّ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَكْرَهُ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى السَّيِّئِ مِنْ عَمَلِهِ فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ ذَلِكَ فُضُولًا، وَدُخُولًا فِيمَا لَا يَعْنِي. فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حَيْثُ قَالَ: لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا - أَوْ عِقَالًا - كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يَعُدُّونَهُ وَيَرَوْنَهُ مِنْ سَيِّئِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ الْعَوَامِّ وَالْجُهَّالِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ لَمْ يُؤَدِّ الْفَرْضَ الدَّائِمَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ الْفَرْضُ الْمُؤَقَّتُ. قِيلَ: وَمَا الْفَرْضُ الدَّائِمُ؟ قَالَ: الصِّدْقُ. وَقِيلَ: مَنْ طَلَبَ اللَّهَ بِالصِّدْقِ أَعْطَاهُ مِرْآةً يُبْصِرُ فِيهَا الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ. وَقِيلَ: عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ حَيْثُ تَخَافُ أَنَّهُ يَضُرُّكَ. فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ. وَدَعِ الْكَذِبَ حَيْثُ

فصل تعريف الصدق

تَرَى أَنَّهُ يَنْفَعُكَ. فَإِنَّهُ يَضُرُّكَ. وَقِيلَ: مَا أَمْلَقَ تَاجِرٌ صَدُوقٌ. [فَصْلٌ تَعْرِيفُ الصِّدْقِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الصِّدْقُ: اسْمٌ لِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ حُصُولًا وَوُجُودًا. الصِّدْقُ: هُوَ حُصُولُ الشَّيْءِ وَتَمَامُهُ، وَكَمَالُ قُوَّتِهِ، وَاجْتِمَاعُ أَجْزَائِهِ، كَمَا يُقَالُ: عَزِيمَةٌ صَادِقَةٌ. إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً تَامَّةً، وَكَذَلِكَ: مَحَبَّةٌ صَادِقَةٌ، وَإِرَادَةٌ صَادِقَةٌ. وَكَذَا قَوْلُهُمْ: حَلَاوَةٌ صَادِقَةٌ: إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً تَامَّةً ثَابِتَةَ الْحَقِيقَةِ. لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيْءٌ. وَمِنْ هَذَا أَيْضًا: صِدْقُ الْخَبَرِ. لِأَنَّهُ وُجُودُ الْمُخْبَرِ بِتَمَامِ حَقِيقَتِهِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ. فَالتَّمَامُ وَالْوُجُودُ نَوْعَانِ: خَارِجِيٌّ، وَذِهْنِيٌّ. فَإِذَا أَخْبَرْتَ الْمُخَاطَبَ بِخَبَرٍ صَادِقٍ حَصَلَتْ لَهُ حَقِيقَةُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِكَمَالِهِ وَتَمَامِهِ فِي ذِهْنِهِ. وَمِنْ هَذَا: وَصْفُهُمُ الرُّمْحَ بِأَنَّهُ صَادِقُ الْكُعُوبِ إِذَا كَانَتْ كُعُوبُهُ صُلْبَةً قَوِيَّةً مُمْتَلِئَةً. [دَرَجَاتُ الصِّدْقِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى صِدْقُ الْقَصْدِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: صِدْقُ الْقَصْدِ. وَبِهِ يَصِحُّ الدُّخُولُ فِي هَذَا الشَّأْنِ. وَيُتَلَافَى بِهِ كُلُّ تَفْرِيطٍ. وَيُتَدَارَكُ بِهِ كُلُّ فَائِتٍ. وَيَعْمُرُ كُلُّ خَرَابٍ. وَعَلَامَةُ هَذَا الصَّادِقِ: أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ دَاعِيَةً تَدْعُو إِلَى نَقْضِ عَهْدٍ. وَلَا يَصْبِرَ عَلَى صُحْبَةِ ضِدٍّ. وَلَا يَقْعُدَ عَنِ الْجِدِّ بِحَالٍ. يَعْنِي بِصِدْقِ الْقَصْدِ: كَمَالَ الْعَزْمِ، وَقُوَّةَ الْإِرَادَةِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي الْقَلْبِ دَاعِيَةٌ صَادِقَةٌ إِلَى السُّلُوكِ، وَمَيْلٌ شَدِيدٌ يَقْهَرُ السِّرَّ عَلَى صِحَّةِ التَّوَجُّهِ. فَهُوَ طَلَبٌ لَا يُمَازِجُهُ رِيَاءٌ وَلَا فُتُورٌ. وَلَا يَكُونُ فِيهِ قِسْمَةٌ بِحَالٍ. وَلَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِي شَأْنِ السَّفَرِ إِلَى اللَّهِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِهِ إِلَّا بِهِ. وَيُتَلَافَى بِهِ كُلُّ تَفْرِيطٍ. فَإِنَّهُ حَامِلٌ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ يَنَالُ بِهِ الْوُصُولَ، وَقَطْعِ كُلِّ سَبَبٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. فَلَا يَتْرُكُ فُرْصَةً تَفُوتُهُ. وَمَا فَاتَهُ مِنَ الْفُرَصِ السَّابِقَةِ تَدَارَكَهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. فَيُصْلِحُ مِنْ قَلْبِهِ مَا مَزَّقَتْهُ يَدُ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ. وَيُعَمِّرُ مِنْهُ مَا خَرَّبَتْهُ

يَدُ الْبَطَالَةِ. وَيُوقِدُ فِيهِ مَا أَطْفَأَتْهُ أَهْوِيَةُ النَّفْسِ. وَيَلُمُّ مِنْهُ مَا شَعَّثَتْهُ يَدُ التَّفْرِيطِ وَالْإِضَاعَةِ. وَيَسْتَرِدُّ مِنْهُ مَا نَهَبَتْهُ أَكُفُّ اللُّصُوصِ وَالسُّرَّاقِ. وَيَزْرَعُ مِنْهُ مَا وَجَدَهُ بُورًا مِنْ أَرَاضِيهِ. وَيَقْلَعُ مَا وَجَدَهُ شَوْكًا وَشِبْرِقًا فِي نَوَاحِيهِ. وَيَسْتَفْرِغُ مِنْهُ مَا مَلَأَتْهُ مَوَادُّ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ الْفَاسِدَةِ الْمُتَرَامِيَةِ بِهِ إِلَى الْهَلَاكِ وَالْعَطَبِ. وَيُدَاوِي مِنْهُ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي أَصَابَتْهُ مِنْ عَبَرَاتِ الرِّيَاءِ. وَيَغْسِلُ مِنْهُ الْأَوْسَاخَ وَالْحَوْبَاتِ الَّتِي تَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ عَلَى تَقَادُمِ الْأَوْقَاتِ، حَتَّى لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ لَأَحْزَنَهُ سَوَادُهُ وَوَسَخُهُ الَّذِي صَارَ دِبَاغًا لَهُ، فَيُطَهِّرُهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ مِنْ يَنَابِيعِ الصِّدْقِ الْخَالِصَةِ مِنْ جَمِيعِ الْكَدُورَاتِ، قَبْلَ أَنْ يَكُونَ طَهُورُهُ بِالْجَحِيمِ وَالْحَمِيمِ. فَإِنَّهُ لَا يُجَاوِرُ الرَّحْمَنَ قَلْبٌ دَنِسٌ بِأَوْسَاخِ الشَّهَوَاتِ وَالرِّيَاءِ أَبَدًا. وَلَا بُدَّ مِنْ طَهُورٍ. فَاللَّبِيبُ يُؤْثِرُ أَسْهَلَ الطَّهُورَيْنِ وَأَنْفَعَهُمَا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَقَوْلُهُ: وَعَلَامَةُ هَذَا الصَّادِقِ: أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ دَاعِيَةً تَدْعُو إِلَى نَقْضِ عَهْدٍ. يَعْنِي أَنَّ الصَّادِقَ حَقِيقَةً: هُوَ الَّذِي قَدِ انْجَذَبَتْ قُوَى رُوحِهِ كُلُّهَا إِلَى إِرَادَةِ اللَّهِ وَطَلَبِهِ، وَالسَّيْرِ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِهِ. وَمَنْ تَكُونُ هَذِهِ حَالَهُ: لَا يَحْتَمِلُ سَبَبًا يَدْعُوهُ إِلَى نَقْضِ عَهْدِهِ مَعَ اللَّهِ بِوَجْهٍ. وَقَوْلُهُ: وَلَا يَصْبِرُ عَلَى صُحْبَةِ ضِدٍّ. الضِّدُّ عِنْدَ الْقَوْمِ: هُمْ أَهْلُ الْغَفْلَةِ، وَقُطَّاعُ طَرِيقِ الْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ. وَأَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الصَّادِقِ: صُحْبَتُهُمْ، بَلْ لَا تَصْبِرُ نَفْسُهُ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا، إِلَّا مَعَ ضَرُورَةٍ. وَتَكُونُ صُحْبَتُهُمْ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِقَالَبِهِ وَشَبَحِهِ، دُونَ قَلْبِهِ وَرُوحِهِ. فَإِنَّ هَذَا لَمَّا اسْتَحْكَمَتِ الْغَفْلَةُ عَلَيْهِ كَمَا اسْتَحْكَمَ الصِّدْقُ فِي الصَّادِقِ: أَحَسَّتْ رُوحُهُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِالْمُضَادَّةِ. فَاشْتَدَّتِ النُّفْرَةُ. وَقَوِيَ الْهَرَبُ. وَبِحَسَبِ هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِحْسَاسِ الصَّادِقِ بِهَا: تَكُونُ نُفْرَتُهُ وَهَرَبُهُ عَنِ الْأَضْدَادِ. فَإِنَّ هَذَا الضِّدَّ إِنْ نَطَقَ أَحَسَّ قَلْبُ الصَّادِقِ: أَنَّهُ نَطَقَ بِلِسَانِ الْغَفْلَةِ، وَالرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ، وَطَلَبِ الْجَاهِ. وَلَوْ كَانَ ذَاكِرًا أَوْ قَارِئًا، أَوْ مُصَلِّيًا أَوْ حَاجًّا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. فَنَفَرَ قَلْبُهُ مِنْهُ. وَإِنْ صَمَتَ أَحَسَّ قَلْبُهُ: أَنَّهُ صَمَتَ عَلَى غَيْرِ حُضُورٍ وَجَمْعِيَّةٍ عَلَى اللَّهِ، وَإِقْبَالٍ بِالْقَلْبِ عَلَيْهِ، وَعُكُوفِ السِّرِّ عَلَيْهِ. فَيَنْفِرُ مِنْهُ أَيْضًا. فَإِنَّ قَلْبَ الصَّادِقِ قَوِيُّ الْإِحْسَاسِ. فَيَجِدُ الْغَيْرِيَّةَ وَالْأَجْنَبِيَّةَ مِنَ الضِّدِّ. وَيَشَمُّ الْقَلْبُ الْقَلْبَ كَمَا يَشَمُّ الرَّائِحَةَ الْخَبِيثَةَ. فَيَزْوِي وَجْهَهُ لِذَلِكَ. وَيَعْتَرِيهِ عُبُوسٌ. فَلَا يَأْنَسُ بِهِ إِلَّا تَكَلُّفًا. وَلَا يُصَاحِبُهُ إِلَّا ضَرُورَةً. فَيَأْخُذُ مِنْ صُحْبَتِهِ قَدْرَ الْحَاجَةِ، كَصُحْبَةِ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَصَالِحِهِ، كَالزَّوْجَةِ وَالْخَادِمِ وَنَحْوِهِ. قَوْلُهُ: وَلَا يَقْعُدُ عَنِ الْجِدِّ بِحَالٍ. يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَادِقًا فِي طَلَبِهِ مُسْتَجْمِعَ الْقُوَّةِ: لَمْ يَقْعُدْ بِهِ عَزْمُهُ عَنِ الْجِدِّ فِي جَمِيعِ

فصل الدرجة الثانية أن لا يتمنى الحياة إلا للحق

أَحْوَالِهِ. فَلَا تَرَاهُ إِلَّا جَادًّا. وَأَمْرُهُ كُلُّهُ جِدٌّ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَتَمَنَّى الْحَيَاةَ إِلَّا لِلْحَقِّ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَتَمَنَّى الْحَيَاةَ إِلَّا لِلْحَقِّ. وَلَا يَشْهَدَ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا أَثَرَ النُّقْصَانِ. وَلَا يَلْتَفِتَ إِلَى تَرْفِيهِ الرُّخَصِ. أَيْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَعِيشَ إِلَّا لِيَشْبَعَ مِنْ رِضَا مَحْبُوبِهِ. وَيَقُومَ بِعُبُودِيَّتِهِ. وَيَسْتَكْثِرَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُقِرُّبُهُ إِلَيْهِ، وَتُدْنِيهِ مِنْهُ. لَا لِعِلَّةٍ مِنْ عِلَلِ الدُّنْيَا. وَلَا لِشَهْوَةٍ مِنْ شَهَوَاتِهَا، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْلَا ثَلَاثٌ لَمَا أَحْبَبْتُ الْبَقَاءَ: لَوْلَا أَنْ أَحْمِلَ عَلَى جِيَادِ الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمُكَابَدَةُ اللَّيْلِ، وَمُجَالَسَةُ أَقْوَامٍ يَنْتَقُونَ أَطَايِبَ الْكَلَامِ كَمَا يُنْتَقَى أَطَايِبُ التَّمْرِ. يُرِيدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْجِهَادَ، وَالصَّلَاةَ، وَالْعِلْمَ النَّافِعَ. وَهَذِهِ دَرَجَاتُ الْفَضَائِلِ. وَأَهْلُهَا هُمْ أَهْلُ الزُّلْفَى، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلْيَا. وَقَالَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ مَوْتِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ الْبَقَاءَ لِجَرْيِ الْأَنْهَارِ، وَلَا لِغَرْسِ الْأَشْجَارِ، وَلَا لَنُكْحِ الْأَزْوَاجِ، وَلَكِنْ لِظَمَأِ الْهَوَاجِرِ، وَمُكَابَدَةِ اللَّيْلِ، وَمُزَاحَمَةِ الْعُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ عِنْدَ حِلَقِ الذِّكْرِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا يَشْهَدُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا أَثَرَ النُّقْصَانِ. يَعْنِي لَا يَرَى نَفْسَهُ إِلَّا مُقَصِّرًا. وَالْمُوجِبُ لَهُ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ: اسْتِعْظَامُ مَطْلُوبِهِ، وَاسْتِصْغَارُ نَفْسِهِ، وَمَعْرِفَتُهُ بِعُيُوبِهَا، وَقِلَّةُ زَادِهِ فِي عَيْنِهِ. فَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَعَرَفَ نَفْسَهُ: لَمْ يَرَ نَفْسَهُ إِلَّا بِعَيْنِ النُّقْصَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى تَرْفِيهِ الرُّخَصِ. فَلِأَنَّهُ - لِكَمَالِ صِدْقِهِ، وَقُوَّةِ إِرَادَتِهِ، وَطَلَبِهِ لِلتَّقَدُّمِ - يَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْعَزَائِمِ. وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الرَّفَاهِيَةِ الَّتِي فِي الرُّخَصِ. وَهَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ. فَإِنَّ الصَّادِقَ يَعْمَلُ عَلَى رِضَا الْحَقِّ تَعَالَى وَمَحَابِّهِ. فَإِذَا كَانَتِ الرُّخَصُ أَحَبَّ إِلَيْهِ تَعَالَى مِنَ الْعَزَائِمِ: كَانَ الْتِفَاتُهُ إِلَى تَرْفِيهِهَا. وَهُوَ عَيْنُ صِدْقِهِ. فَإِذَا أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ، وَقَصَرَ وَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَخَفَّفَ الصَّلَاةَ

فصل الدرجة الثالثة الصدق في معرفة الصدق

عِنْدَ الشُّغْلِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الرُّخَصِ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهَا: فَهَذَا الِالْتِفَاتُ إِلَى تَرْفِيهِهَا لَا يُنَافِي الصِّدْقَ. بَلْ هَاهُنَا نُكْتَةٌ. وَهِيَ أَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتُهُ إِلَيْهَا تَرَفُّهًا وَرَاحَةً. وَأَنْ يَكُونَ مُتَابَعَةً وَمُوَافَقَةً. وَمَعَ هَذَا فَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا تَرَفُّهًا وَرَاحَةً لَا يُنَافِي الصِّدْقَ. فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا. وَفِيهِ شُهُودُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَتَعْبُّدُهُ بِاسْمِهِ الْبَرِّ، اللَّطِيفِ، الْمُحْسِنِ، الرَّفِيقِ فَإِنَّهُ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ. وَفِي الصَّحِيحِ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا. مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا» لِمَا فِيهِ مِنْ رُوحِ التَّعَبُّدِ بِاسْمِ: الرَّفِيقِ، اللَّطِيفِ وَإِجْمَامِ الْقَلْبِ بِهِ لِعُبُودِيَّةٍ أُخْرَى. فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَزَالُ يَتَنَقَّلُ فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ. فَإِذَا أَخَذَ بِتَرْفِيهِ رُخْصَةِ مَحْبُوبِهِ: اسْتَعَدَّ بِهَا لِعُبُودِيَّةٍ أُخْرَى. وَقَدْ تَقْطَعُهُ عَزِيمَتُهَا عَنْ عُبُودِيَّةٍ هِيَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا، كَالصَّائِمِ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَنْقَطِعُ عَنْ خِدْمَةِ أَصْحَابِهِ، وَالْمُفْطِرِ الَّذِي يَضْرِبُ الْأَخْبِيَةَ، وَيَسْقِي الرُّكَّابِ، وَيَضُمُّ الْمَتَاعَ. وَلِهَذَا قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ» . أَمَّا الرُّخَصُ التَّأْوِيلِيَّةُ، الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ، وَالْآرَاءِ الَّتِي تُصِيبُ وَتُخْطِئُ: فَالْأَخْذُ بِهَا عِنْدَهُمْ عَيْنُ الْبَطَالَةِ مُنَافٍ لِلصِّدْقِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الصِّدْقُ فِي مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الصِّدْقُ فِي مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ. فَإِنَّ الصِّدْقَ لَا يَسْتَقِيمُ - فِي عِلْمِ أَهْلِ الْخُصُوصِ - إِلَّا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ رِضَا الْحَقِّ بِعَمَلِ الْعَبْدِ، أَوْ حَالِهِ، أَوْ وَقْتِهِ، وَإِيقَانِ الْعَبْدِ وَقَصْدِهِ: بِكَوْنِ الْعَبْدِ رَاضِيًا مَرْضِيًّا. فَأَعْمَالُهُ إِذَنْ مَرَضِيَّةٌ. وَأَحْوَالُهُ صَادِقَةٌ. وَقُصُودُهُ مُسْتَقِيمَةٌ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كُسِيَ ثَوْبًا مُعَارًا. فَأَحْسَنُ أَعْمَالِهِ: ذَنْبٌ. وَأَصْدَقُ أَحْوَالِهِ: زُورٌ. وَأَصْفَى قُصُودِهِ: قُعُودٌ. يَعْنِي أَنَّ الصِّدْقَ الْمُتَحَقِّقَ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ صَدَقَ فِي مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَحْصُلُ حَالُ الصِّدْقِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ عِلْمِ الصِّدْقِ. ثُمَّ عَرَّفَ حَقِيقَةَ الصِّدْقِ. فَقَالَ لَا يَسْتَقِيمُ الصِّدْقُ - فِي عِلْمِ أَهْلِ الْخُصُوصِ - إِلَّا

عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ رِضَا الْحَقِّ بِعَمَلِ الْعَبْدِ، أَوْ حَالِهِ، أَوْ وَقْتِهِ، وَإِيقَانِهِ، وَقَصْدِهِ. وَهَذَا مُوجِبُ الصِّدْقِ وَفَائِدَتُهُ وَثَمَرَتُهُ. فَالشَّيْخُ ذَكَرَ الْغَايَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الَّتِي يُعَرَفُ انْتِفَاءُ الْحَقِيقَةِ بِانْتِفَائِهَا. وَثُبُوتُهَا بِثُبُوتِهَا. فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَدَقَ اللَّهَ: رَضِيَ اللَّهُ بِعَمَلِهِ، وَحَالِهِ وَيَقِينِهِ، وَقَصْدِهِ. لَا أَنَّ رِضَا اللَّهِ نَفْسُ الصِّدْقِ. وَإِنَّمَا يُعْلَمُ الصِّدْقُ بِمُوَافَقَةِ رِضَاهُ سُبْحَانَهُ. وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ الْعَبْدُ رِضَاهُ؟ . فَمِنْ هَاهُنَا كَانَ الصَّادِقُ مُضْطَرًّا - أَشَدَّ الضَّرُورَةِ - إِلَى مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ، وَالتَّسْلِيمِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَالتَّعَبُّدِ بِطَاعَتِهِ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، مَعَ إِخْلَاصِ الْقَصْدِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرْضِيهِ مِنْ عَبْدِهِ إِلَّا ذَلِكَ. وَمَا عَدَا هَذَا فَقُوتُ النَّفْسِ، وَمُجَرَّدُ حَظِّهَا، وَاتِّبَاعُ أَهْوَائِهَا. وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُجَاهَدَاتِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ وَالْخَلَوَاتِ مَا كَانَ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْ عَبْدِهِ عَمَلًا، أَوْ يَرْضَى بِهِ، حَتَّى يَكُونَ عَلَى مُتَابَعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَالِصًا لِوَجْهِهِ سُبْحَانَهُ. وَمِنْ هَاهُنَا يُفَارِقُ الصَّادِقُ أَكْثَرَ السَّالِكِينَ. بَلْ يَسْتَوْحِشُ فِي طَرِيقِهِ. وَذَلِكَ لِقِلَّةِ سَالِكِهَا. فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ سَائِرُونَ عَلَى طُرُقِ أَذْوَاقِهِمْ، وَتَجْرِيدِ أَنْفَاسِهِمْ لِنُفُوسِهِمْ، وَمُتَابَعَةِ رُسُومِ شُيُوخِهِمْ. وَالصَّادِقُ فِي وَادٍ. وَهَؤُلَاءِ فِي وَادٍ. وَقَوْلُهُ: فَيَكُونُ الْعَبْدُ رَاضِيًا مَرْضِيًّا. لِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا. فَرَضِيَ اللَّهُ بِهِ عَبْدًا. وَأَعْمَالُهُ إِذًا مَرَضِيَّةٌ لِلَّهِ. وَأَحْوَالُهُ صَادِقَةٌ مَعَ اللَّهِ. وَقُصُودُهُ مُسْتَقِيمَةٌ عَلَى مُتَابَعَةِ أَوَامِرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كُسِيَ ثَوْبًا مُعَارًا، فَأَحْسَنُ أَعْمَالِهِ: ذَنْبٌ. وَأَصْدَقُ أَحْوَالِهِ: زُورٌ. وَأَصْفَى قُصُودِهِ: قُعُودٌ. هَذَا يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُكْسَى حِلْيَةَ الصَّادِقِينَ. وَيُلْبَسَ ثِيَابَهُمْ عَلَى غَيْرِ قُلُوبِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ. فَثَوْبُ الصِّدْقِ عَارِيَةٌ لَهُ، لَا مِلْكٌ لَهُ. فَهُوَ كَالْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يُعْطَ. فَإِنَّهُ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ. فَهَذَا أَحْسَنُ أَعْمَالِهِ: ذَنْبٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ. كَمَا يُعَاقَبُ الْمَقْتُولُ فِي الْجِهَادِ، وَالْقَارِئُ الْقُرْآنَ الْمُتَنَسِّكُ، وَالْمُتَصَدِّقُ، وَيَكُونُونَ أَوَّلَ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. لَمَّا لَبِسُوا ثِيَابَ الصَّادِقِينَ عَلَى قُلُوبِ الْمُرَائِينَ.

هَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ. مَا أَظُنُّ الشَّيْخَ قَصَدَهُ. وَإِنَّمَا أَظُنُّهُ قَصَدَ مَعْنًى آخَرَ. وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى تَيَقَّنَ الْعَبْدُ: أَنَّ وُجُودَهُ ثَوْبٌ مُعَارٌ، لَيْسَ مِنْهُ، وَلَا لَهُ. وَإِنَّمَا إِيجَادُهُ وَصِفَاتُهُ، وَإِرَادَتُهُ، وَقُدْرَتُهُ، وَأَعْمَالُهُ: عَارِيَةٌ مِنَ الْفِعَالِ وَحْدَهُ. وَالْعَبْدُ لَيْسَ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ إِلَّا الْعَدَمُ. فَوُجُودُهُ وَحَيَاتُهُ: ثَوْبٌ أُعِيرَهُ. فَمَتَى نَظَرَ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى كِسْوَتِهِ: رَأَى أَحْسَنَ أَعْمَالِهِ ذُنُوبًا فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَصْدَقَ أَحْوَالِهِ زُورًا، وَأَصْفَى قُصُودِهِ قُعُودًا. فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ مِنْهُ عَمَلًا، وَلَا حَالًا وَلَا قَصْدًا. فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا الْجَهْلُ وَالظُّلْمُ. فَكُلُّ مَا مِنَ النَّفْسِ: فَهُوَ ذَنْبٌ وَزُورٌ وَقُعُودٌ. وَمَا كَانَ مَرْضِيًّا فَهُوَ بِاللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ وَلِلَّهِ. لَا بِالنَّفْسِ، وَلَا مِنْهَا، وَلَا لَهَا. فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ الطَّاعَةَ: كَانَتْ رُؤْيَتُهُ لِذَلِكَ ذَنْبًا. فَإِنَّهُ قَدْ نَسَبَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْفِعْلِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَتَخَلَّصُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّنْبِ قَطُّ. فَإِنَّهُ إِذَا خَلَّصَ فِعْلَهُ مِنَ الرِّيَاءِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُفْسِدُهُ: اقْتَرَنَ بِهِ آخَرُ. لَا يُمَكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهُ. وَهُوَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِذَنْبٍ، وَلَا هُوَ مَقْدُورٌ لِلْعَبْدِ وَلَا مَأْمُورٌ بِهِ. وَالْكَمَالُ فِي حَقِّهِ: أَنْ يَشْهَدَ الْأَمْرَ كَمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً، كَمَا أَضَافَ اللَّهُ إِلَيْهِ الْفِعْلَ فِي كِتَابِهِ كُلِّهِ. وَاللَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ فَاعِلًا. فَإِذَا شَهِدَ نَفْسَهُ فَاعِلًا حَقِيقَةً. وَشَهِدَ فَاعِلِيَّتَهُ بِاللَّهِ، وَمِنَ اللَّهِ. لَا مِنْ نَفْسِهِ: فَلَا ذَنْبَ فِي هَذَا الشُّهُودِ، وَلَا زُورَ بِحَمْدِ اللَّهِ. وَهُوَ نَظَرَ بِمَجْمُوعِ عَيْنَيْهِ إِلَى السَّبَبِ، وَالْمُسَبَّبِ، وَالشَّرْعِ، وَالْقَدَرِ، وَالْخَلْقِ، وَالْأَمْرِ، وَأَنَّهُ مَتَى شَهِدَ نَفْسَهُ عَاصِيًا، مُخَالِفًا، مُذْنِبًا: كَانَ عَاصِيًا بِهَذَا الشُّهُودِ. لِأَنَّ الْفَاعِلَ فِيهِ غَيْرُهُ. وَهَذَا مُنَافٍ لِلْعُبُودِيَّةِ أَشَدَّ مُنَافَاةٍ. وَهُوَ مِنْ سَيْرِ الْقَوْمِ إِلَى شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَاعْتِقَادِهِمْ: أَنَّهُ غَايَةُ السَّالِكِينَ. فَإِنْ قِيلَ: الشَّيْخُ هَاهُنَا مَا نَطَقَ بِلِسَانِ الْأَبْرَارِ. وَإِنَّمَا نَطَقَ بِلِسَانِ الْمُقَرَّبِينَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ وَلَسْنَا نُرِيدُ أَنَّ شُهُودَ فِعْلِهِ ذَنْبٌ فِي الشَّرْعِ، بَلْ يَكُونُ حَسَنَةً كَمَا ذَكَرْتُمْ. لَكِنْ هُوَ حَسَنَةٌ لِلْبَرِّ، ذَنْبٌ لِلْمُقَرَّبِ. فَإِنَّ نَصِيبَ الْبَرِّ مِنَ السَّيِّئَةِ: مَا جَاءَ بِهِ الْعِلْمُ. وَنَصِيبُ الْمُقَرَّبِ: مَا جَاءَتْ بِهِ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ. قِيلَ: هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ قَطْعًا. فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ: مُطَابِقَةٌ لِلْحَقِّ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا وَقَدَرًا. وَمُخَالِفُ ذَلِكَ فَمَعْرِفَةٌ فَاسِدَةٌ. وَالْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: نِسْبَةُ الْأَفْعَالِ إِلَى الْفَاعِلِينَ قِيَامًا وَمُبَاشَرَةً، وَصُدُورًا مِنْهُمْ.

وَذَلِكَ مَحَلُّ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَالْقَدْحُ فِي ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِإِبْطَالِ الشَّرْعِ وَالْجَزَاءِ. فَإِنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا أَمَرَ بِأَفْعَالِنَا وَنَهَى عَنْهَا. وَالْجَزَاءَ إِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا. فَشُهُودُ أَفْعَالِنَا كَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَالْجَزَاءِ. وَنِسْبَتُهَا إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى، قَضَاءً وَقَدَرًا، وَخَلْقًا لِلْأَسْبَابِ الَّتِي مِنْهَا إِرَادَتُنَا وَقُدْرَتُنَا. فَلَمْ يُجْبِرْنَا عَلَيْهَا وَلَمْ يُكْرِهْنَا. بَلْ خَلَقَهَا بِمَا أَعْطَانَا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، اللَّتَيْنِ هُمَا مِنْ أَسْبَابِ الْفِعْلِ. فَهَذَا الْمَشْهَدُ يُحَقِّقُ عُبُودِيَّةَ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَالْمَشْهَدُ الْأَوَّلُ: يُحَقِّقُ عُبُودِيَّةَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وَهُمَا يُحَقِّقَانِ مَشْهَدَيْ {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29 - 30] وَقَوْلِهِ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] . وَمَا جَاءَ بِهِ الْعِلْمُ لَا يُنَاقِضُ مَا جَاءَتْ بِهِ الْمَعْرِفَةُ. بَلِ الْمَعْرِفَةُ رُوحُ الْعِلْمِ وَلُبُّهُ وَكَمَالُهُ. وَحَقِيقَتُهَا: الْعِلْمُ الَّذِي أَثْمَرَ لِصَاحِبِهِ مَقْصُودَهُ. وَلِسَانُ الْأَبْرَارِ لَا يُخَالِفُ لِسَانَ الْمُقَرَّبِينَ. إِنَّمَا يُخَالِفُ لِسَانَ الْفُجَّارِ. نَعَمْ لِسَانُ الْمُقَرَّبِينَ أَعْلَى مِنْهُ وَأَرْفَعُ، عَلَى مُقْتَضَى أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. فَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ: كَنِسْبَةِ مَقَامِ التَّوَكُّلِ إِلَى الرِّضَا، وَالرِّضَا إِلَى الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ. فَإِنْ قِيلَ: كَلَامُكُمْ هَذَا بِلِسَانِ الْعِلْمِ. وَلَوْ تَكَلَّمْتُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ لَعَلِمْتُمْ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَالِ صَاحِبُ شُهُودٍ. وَصَاحِبَ الْعِلْمِ صَاحِبُ غَيْبَةٍ. وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ. وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْكُمْ إِشَارَةً حَالِيَّةً عِلْمِيَّةً. تَنَزُّلًا مِنَ الْحَالِ إِلَى الْعِلْمِ. فَنَقُولُ: الْحَالُ تَأَثُّرٌ عَنْ نُورٍ مِنْ أَنْوَارِ الْأَحَدِيَّةِ وَالْفَرْدَانِيَّةِ. يَسْتُرُ الْعَبْدَ عَنْ نَفْسِهِ، وَيُبْدِي ظُهُورَ مَشْهُودِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي هَذَا الْحَالِ قَدْ يُعْتَقَدُ أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْمَشْهُودُ. حَتَّى قَالَ أَبُو يَزِيدَ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ: سُبْحَانِي سُبْحَانِي، وَمَا فِي الْجُبَّةِ إِلَّا اللَّهُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ زُورٌ. وَأَنَّ سَبَبَهُ نُورٌ مِنْ أَنْوَارِ الْأَحَدِيَّةِ، وَصَاحِبُهُ مَعْذُورٌ. مَا دَامَ مَسْتُورًا عَنْ نَفْسِهِ بِوَارِدِهِ. فَإِذَا رُدَّ إِلَى رَسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَحِسِّهِ: حَالَ ذَلِكَ الْحَالُ وَزَالَ، وَعَلِمَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ كَانَ زُورًا. حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْمَشْهُودُ. فَإِنْ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ فَلَا كَلَامَ مَعَكُمْ. وَإِنِ اعْتَرَفْتُمْ بِهِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ.

فَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ أَصْدَقِ أَحْوَالِ الصَّادِقِ: زُورًا. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فِي الْحَالِ: عُرِفَ مِثْلُهُ فِي كَوْنِ أَحْسَنِ أَعْمَالِهِ: ذَنْبًا. فَإِنَّهُ - لِصِدْقِهِ فِي الطَّلَبِ، وَبَذْلِهِ الْجَهْدَ فِي الْعَمَلِ، وَاسْتِفْرَاغِهِ الْوُسْعَ فِيهِ - يَغِيبُ بِذَلِكَ عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَأَنَّ الْمُحَرِّكَ لَهُ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ آلَةٌ وَمَجْرَى لِلْمَشِيئَةِ، وَأَنَّ نَفْسَهُ أَعْجَزُ وَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا، أَوْ بِهَا، أَوْ مِنْهَا فِعْلٌ، أَوْ إِرَادَةٌ، أَوْ حَرَكَةٌ. فَإِذَا رَجَعَ إِلَى الْحَقِيقَةِ فَشَهِدَ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُحَرِّكُ لَهُ، وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ هِيَ الَّتِي أَوْجَبَتْ سَعْيَهُ، رَأَى أَحْسَنَ أَعْمَالِهِ: ذَنْبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ أَصْفَى قُصُودِهِ قُعُودًا فَلِأَنَّ الْقَاصِدَ إِلَى الْحَقِيقَةِ مَتَى شَهِدَ مَقْصُودَهُ: قَعَدَ عَنْ قَصْدِهِ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْمُرَادَ: أَقْرَبُ إِلَى اللِّسَانِ مِنْ نُطْقِهِ، وَإِلَى الْقَلْبِ مِنْ قَصْدِهِ. فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ: هُوَ عَيْنُ الْقُعُودِ عَنِ الْقَصْدِ. لِأَنَّ الْقَصْدَ إِنَّمَا يَكُونُ لِبَعِيدٍ عَنِ الْقَاصِدِ. أَمَّا مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْقَاصِدِ مِنْ ذَاتِهِ: فَمَتَى شَاهَدَ الْقَاصِدُ الْحَقِيقَةَ: عَلِمَ أَنَّ قَصْدَهُ عَيْنُ الْقُعُودِ عَنْ قَصْدِهِ. وَالْعِبَارَةُ تَزِيدُ هَذَا الْمَعْنَى جَفْوَةً. وَالْحَوَالَةُ فِيهِ عَلَى الْحَالِ وَالذَّوْقِ. فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: مَنْ أَحَالَكَ عَلَى الْحَالِ فَمَا أَنْصَفَكَ. فَإِنَّهُ أَحَالَكَ عَلَى أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. فَإِنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَقَدَ شَيْئًا وَطَلَبَهُ طَلَبًا صَادِقًا، وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ: كَانَ لَهُ لَا مَحَالَةَ فِيهِ حَالٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ. بِحَسَبِ صِدْقِهِ فِي طَلَبِهِ، وَجَمْعِ هِمَّتِهِ وَقَصْدِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَكُونُ لِلْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، بَلْ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ. فَيَكُونُ الرَّجُلُ لَهُ شُهُودٌ بِمَشْهُودِهِ، وَحَالٌ فِي طَلَبِهِ، لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ حَقًّا وَلَا بَاطِلًا. فَإِنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَقَدَ عَقِيدَةً، وَارْتَاضَ وَصُقِلَ قَلْبُهُ بِأَنْوَاعِ الرِّيَاضَةِ. وَجَزَمَ بِمَا اعْتَقَدَهُ: تَجَلَّتْ لَهُ صُورَةُ مُعْتَقَدِهِ فِي عَالَمِ نَفْسِهِ. فَيَظُنُّ ذَلِكَ كَشْفًا صَحِيحًا. وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي طَلَبِهِ وَحُبِّهِ لِمَا اعْتَقَدَهُ: كَانَ لَهُ فِيهِ حَالٌ وَتَأْثِيرٌ بِحَسَبِهِ. فَالْحَوَالَةُ عَلَى الْحَالِ حَوَالَةُ مُفْلِسٍ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِ مَلِيءٍ بِهِ. وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ الدَّاخِلُ عَلَى أَكْثَرِ السَّالِكِينَ. وَانْعَكَسَ سَيْرُهُمْ، حَيْثُ أَحَالُوا الْعِلْمَ عَلَى الْحَالِ. وَحَكَّمُوهُ عَلَيْهِ. وَسَيْرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَعِبَادِهِ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرَّبِينَ بِخِلَافِ هَذَا. وَهُوَ إِحَالَةُ الْحَالِ عَلَى الْعِلْمِ، وَتَحْكِيمُهُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيمُهُ، وَوَزْنُهُ بِهِ وَقَبُولُ حُكْمِهِ. فَإِنْ وَافَقَهُ الْعِلْمُ، وَإِلَّا كَانَ حَالًا فَاسِدًا، مُنْحَرِفًا عَنْ أَحْوَالِ الصَّادِقِينَ بِحَسَبِ بُعْدِهِ عَنِ الْعِلْمِ. فَالْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْحَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. وَالْعِلْمُ رَاعٍ وَالْحَالُ مِنْ رَعِيَّتِهِ. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا أَصْلَ بِنَاءِ سُلُوكِهِ فَسُلُوكُهُ فَاسِدٌ. وَغَايَتُهُ: الِانْسِلَاخُ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ. كَمَا جَرَى ذَلِكَ لِمَنْ جَرَى لَهُ. وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ مَا ذَكَرْتُمْ - مِنْ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ

ذِكْرِهِ، وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَبِمَحْبُوبِهِ عَنْ حُبِّهِ - لَكِنْ نُنْكِرُ كَوْنَ هَذَا أَكْمَلَ حَالًا مِنْ صَاحِبِ الْبَقَاءِ وَالتَّمْيِيزِ، وَشُهُودِ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ. فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَشْهَدَ حَالُهُ زُورًا. لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا حَصَلَ لِصَاحِبِ السُّكْرِ وَالِاصْطِلَامِ مِنَ الزُّورِ. فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ حَقِيقَةً وَشَرْعًا. وَأَمَّا الْغَائِبُ عَنِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ بِشُهُودِ فِعْلِهِ: فَإِنَّهُ مَتَى صَحِبَهُ اسْتِصْحَابُ عَقْدِ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّ مَصْدَرَ كُلِّ شَيْءٍ مَشِيئَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ لَا يَتَحَرَّكُ مُتَحَرِّكٌ فِي ظَاهِرِهِ أَوْ بَاطِنِهِ إِلَّا بِهِ سُبْحَانَهُ: فَلَا تَضُرُّهُ الْغَيْبَةُ عَنْ هَذَا الْمَشْهَدِ، بِاسْتِغْرَاقِهِ فِي الْقَصْدِ وَالطَّلَبِ وَالْفِعْلِ. إِذْ حُكْمُهُ جَارٍ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَلَيْسَ ضِيقُ قَلْبِهِ عَنِ اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ وَقْتَ اسْتِجْمَاعِ إِرَادَتِهِ وَفِعْلِهِ وَطَلَبِهِ - ذَنْبًا. لَا لِلْخَاصَّةِ وَلَا لِلْعَامَّةِ. وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِهِ أَيْضًا. فَإِنَّ الذَّنْبَ تَعَمُّدُ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ. وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَلَا هُوَ مُطَالَبٌ بِالْغَيْبَةِ عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ، وَالْفَنَاءِ فِيهَا عَنْ شُهُودِ الْفِعْلِ وَقِيَامِهِ بِهِ، مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْقُرْبِ تَجْعَلُ الْقَصْدَ قُعُودًا: فَكَلَامٌ لَهُ خَبِئٌ. وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ الْمَخْدُوعِينَ بِقَوْلِهِ: مَا بَالُ عَيْنِكَ لَا يَقَرُّ قَرَارُهَا؟ ... وَإِلَامَ ظِلُّكَ لَا يَنِي مُتَنَقِّلًا؟ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَكَ لَمْ يَكُنْ ... إِلَّا إِلَيْكَ إِذَا بَلَغْتَ الْمَنْزِلَا وَكَأَنَّ صَاحِبَهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ وُجُودُ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ. وَوُجُودُهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ إِرَادَتِهِ وَلُطْفِهِ. هَذَا خَبِئُ هَذَا الْكَلَامِ. وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ إِلْحَادِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ وَإِفْكِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا. بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْقُرْبِ: فَإِنْ أَرَدْتُمْ عُمُومَ قُرْبِهِ إِلَى كُلِّ لِسَانِ مَنْ نَطَقَهُ وَإِلَى كُلِّ قَلْبِ مَنْ قَصَدَهُ: فَهَذَا - لَوْ صَحَّ - لَكَانَ قُرْبَ قُدْرَةٍ وَعِلْمٍ وَإِحَاطَةٍ، لَا قُرْبًا بِالذَّاتِ وَالْوُجُودِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُمَازِجُ خَلْقَهُ، وَلَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَتَّحِدُ بِهِمْ. مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَرِدْ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الْأَخْيَارِ تَسْمِيَتُهُ قُرْبًا، وَلَمْ يَجِئِ الْقُرْبُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَطُّ إِلَّا خَاصًّا كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ أَرَدْتُمُ الْقُرْبَ الْخَاصَّ إِلَى اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ: فَهَذَا قُرْبُ الْمَحَبَّةِ، وَقُرْبُ الرِّضَا وَالْأُنْسِ، كَقُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْقُرْبِ. لَا مِثَالَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ. فَإِنَّ الرُّوحَ وَالْقَلْبَ يَقْرُبَانِ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَالرُّوحُ وَالْقَلْبُ فِي الْبَدَنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ.

وَهَذَا الْقُرْبُ لَا يُنَافِي الْقَصْدَ وَالطَّلَبَ، بَلْ هُوَ مَشْرُوطٌ بِالْقَصْدِ. فَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ بِدُونِهِ. وَكُلَّمَا كَانَ الطَّلَبُ وَالْقَصْدُ أَتَمَّ: كَانَ هَذَا الْقُرْبُ أَقْوَى. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] ؟ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلنَّاسِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قُرْبُهُ بِعِلْمِهِ. وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِعِلْمِهِ بِوَسْوَسَةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ. وَحَبْلُ الْوَرِيدِ حَبْلُ الْعُنُقِ، وَهُوَ عِرْقٌ بَيْنَ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ الَّذِي مَتَى قُطِعَ مَاتَ صَاحِبُهُ. وَأَجْزَاءُ الْقَلْبِ وَهَذَا الْحَبْلُ يَحْجُبُ بَعْضَهَا بَعْضًا. وَعِلْمُ اللَّهِ بِأَسْرَارِ الْعَبْدِ وَمَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ قُرْبُهُ مِنَ الْعَبْدِ بِمَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَلْبِهِ. فَيَكُونُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْعِرْقِ. اخْتَارَهُ شَيْخُنَا. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي قَصَّهُ عَلَيْهِ بِأَمْرِ اللَّهِ. فَنَسَبَ تَعْلِيمَهُ إِلَيْهِ. إِذْ هُوَ بِأَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي قَرَأَهُ عَلَيْهِ. كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَإِذَا قَرَأَهُ رَسُولُنَا فَأَنْصِتْ لِقِرَاءَتِهِ حَتَّى يَقْضِيَهَا. قُلْتُ: أَوَّلُ الْآيَةِ يَأْبَى ذَلِكَ. فَإِنَّهُ قَالَ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] قَالَ: وَكَذَلِكَ خَلْقُهُ لِلْإِنْسَانِ إِنَّمَا هُوَ بِالْأَسْبَابِ وَتَخْلِيقِ الْمَلَائِكَةِ. قُلْتُ: وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَخْلِيقِ النُّطْفَةِ «فَيَقُولُ الْمَلَكُ الَّذِي يَخْلُقُهُ: يَارَبِّ، ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَسَوِيٌّ أَمْ غَيْرُ سَوِيٍّ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ» . فَهُوَ سُبْحَانُهُ الْخَالِقُ وَحْدَهُ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ الْمَلَائِكَةِ

فصل منزلة الإيثار

بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي التَّخْلِيقِ. فَإِنَّ أَفْعَالَهُمْ وَتَخْلِيقَهُمْ خَلْقٌ لَهُ سُبْحَانَهُ. فَمَا ثَمَّ خَالِقٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ غَيْرُهُ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا مَوْضِعٌ ضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ. وَزَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ، وَاشْتُبِهَتْ فِيهِ مَعِيَّةُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِحَاطَةِ بِالْقُرْبِ. وَاشْتُبِهَتْ فِيهِ آثَارُ قُرْبِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْمُوَافَقَةِ، وَغَلَبَةِ ذِكْرِهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ بِقُرْبِ ذَاتِهِ. وَاشْتُبِهَ فِيهِ مَا فِي الذِّهْنِ بِمَا فِي الْخَارِجِ. وَاشْتُبِهَ اضْمِحْلَالُ شُهُودِ الرَّسْمِ وَانْمِحَاؤُهُ مِنَ الْقَلْبِ بِعَدَمِهِ وَفَنَائِهِ. وَاشْتُبِهَتْ فِيهِ آثَارُ الصِّفَاتِ بِحَقِيقَتِهَا، وَأَنْوَارُ الْمَعْرِفَةِ بِأَنْوَارِ الذَّاتِ. وَأَصْحَابُهُ - لِتَحْكِيمِهِمُ الْحَالَ وَالذَّوْقَ - لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى لِسَانِ الْعِلْمِ، وَلَا يُصْغُونَ إِلَيْهِ. وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْإِيثَارِ] [حَقِيقَةُ الْإِيثَارِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْإِيثَارِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْإِيثَارِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] . فَالْإِيثَارُ ضِدَّ الشُّحِّ. فَإِنَّ الْمُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ تَارِكٌ لِمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. وَالشَّحِيحُ: حَرِيصٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِيَدِهِ. فَإِذَا حَصَلَ بِيَدِهِ شَيْءٌ شَحَّ عَلَيْهِ. وَبَخِلَ بِإِخْرَاجِهِ. فَالْبُخْلُ ثَمَرَةُ الشُّحِّ. وَالشُّحُّ يَأْمُرُ بِالْبُخْلِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ. فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا. وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا» . فَالْبَخِيلُ: مَنْ أَجَابَ دَاعِيَ الشُّحِّ. وَالْمُؤْثِرُ: مَنْ أَجَابَ دَاعِيَ الْجُودِ. كَذَلِكَ السَّخَاءُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ هُوَ السَّخَاءُ. وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ سَخَاءِ الْبَذْلِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: سَخَاءُ النَّفْسِ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ أَفْضَلُ مِنْ سَخَاءِ النَّفْسِ بِالْبَذْلِ.

وَهَذَا الْمَنْزِلُ: هُوَ مَنْزِلُ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَالْإِحْسَانِ. وَسُمِّيَ بِمَنْزِلِ الْإِيثَارِ لِأَنَّهُ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، فَإِنَّ الْمَرَاتِبَ ثَلَاثَةٌ. إِحْدَاهَا: أَنْ لَا يَنْقُصَهُ الْبَذْلُ، وَلَا يَصْعُبَ عَلَيْهِ. فَهُوَ مَنْزِلَةُ السَّخَاءِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعْطِيَ الْأَكْثَرَ، وَيُبْقِيَ لَهُ شَيْئًا، أَوْ يُبْقِيَ مِثْلَ مَا أَعْطَى. فَهُوَ الْجُودُ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يُؤْثِرَ غَيْرَهُ بِالشَّيْءِ مَعَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَرْتَبَةُ الْإِيثَارِ وَعَكْسُهَا الْأَثَرَةُ وَهُوَ اسْتِئْثَارُهُ عَنْ أَخِيهِ بِمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً. فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» وَالْأَنْصَارُ: هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالْإِيثَارِ فِي قَوْلِهِ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فَوَصَفَهُمْ بِأَعْلَى مَرَاتِبِ السَّخَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِيهِمْ مَعْرُوفًا. وَكَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنَ الْأَجْوَادِ الْمَعْرُوفِينَ. حَتَّى إِنَّهُ مَرِضَ مَرَّةً، فَاسْتَبْطَأَ إِخْوَانَهُ فِي الْعِيَادَةِ. فَسَأَلَ عَنْهُمْ؟ فَقَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ مِمَّا لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّيْنِ. فَقَالَ: أَخْزَى اللَّهُ مَالًا يَمْنَعُ الْإِخْوَانَ مِنَ الزِّيَارَةِ. ثُمَّ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: مَنْ كَانَ لِقَيْسٍ عَلَيْهِ مَالٌ فَهُوَ مِنْهُ فِي حِلٍّ. فَمَا أَمْسَى حَتَّى كُسِرَتْ عَتَبَةُ بَابِهِ، لِكَثْرَةِ مَنْ عَادَهُ. وَقَالُوا لَهُ يَوْمًا: هَلْ رَأَيْتَ أَسْخَى مِنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. نَزَلْنَا بِالْبَادِيَةِ عَلَى امْرَأَةٍ. فَحَضَرَ زَوْجُهَا. فَقَالَتْ: إِنَّهُ نَزَلَ بِكَ ضَيْفَانِ. فَجَاءَ بِنَاقَةٍ فَنَحَرَهَا، وَقَالَ: شَأْنُكُمْ؟ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَاءَ بِأُخْرَى فَنَحَرَهَا. فَقُلْنَا: مَا أَكَلْنَا مِنَ الَّتِي نَحَرْتَ الْبَارِحَةَ إِلَّا الْيَسِيرَ. فَقَالَ: إِنِّي لَا أُطْعِمُ ضَيْفَانِي الْبَائِتَ. فَبَقِينَا عِنْدَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، وَالسَّمَاءُ تُمْطِرُ. وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. فَلَمَّا أَرَدْنَا الرَّحِيلَ وَضَعْنَا مِائَةَ دِينَارٍ فِي بَيْتِهِ، وَقُلْنَا لِلْمَرْأَةِ: اعْتَذِرِي لَنَا إِلَيْهِ. وَمَضَيْنَا. فَلَمَّا طَلَعَ النَّهَارُ إِذَا نَحْنُ بَرَجُلٍ يَصِيحُ خَلْفَنَا: قِفُوا. أَيُّهَا الرَّكْبُ اللِّئَامُ. أَعْطَيْتُمُونِي ثَمَنَ قِرَايَ؟ ثُمَّ إِنَّهُ لَحِقَنَا، وَقَالَ: لَتَأْخُذُنَّهُ أَوْ لَأُطَاعِنَنَّكُمْ بِرُمْحِي. فَأَخَذْنَاهُ وَانْصَرَفَ. فَتَأَمَّلْ سِرَّ التَّقْدِيرِ، حَيْثُ قَدَّرَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ - سُبْحَانَهُ - اسْتِئْثَارَ النَّاسِ عَلَى الْأَنْصَارِ بِالدُّنْيَا - وَهُمْ أَهْلُ الْإِيثَارِ - لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى إِيثَارِهِمْ إِخْوَانَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى نُفُوسِهِمْ بِالْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ عَلَى النَّاسِ. فَتَظْهَرُ حِينَئِذٍ فَضِيلَةُ إِيثَارِهِمْ وَدَرَجَتُهُ وَيَغْبِطُهُمْ مَنِ

فصل مراتب الجود

اسْتَأْثَرَ عَلَيْهِمْ بِالدُّنْيَا أَعْظَمَ غِبْطَةٍ. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. فَإِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ يَسْتَأْثِرُونَ عَلَيْكَ - مَعَ كَوْنِكَ مِنْ أَهْلِ الْإِيثَارِ - فَاعْلَمْ أَنَّهُ لِخَيْرٍ يُرَادُ بِكَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَرَاتِبُ الْجُودِ] وَالْجُودُ عَشْرُ مَرَاتِبَ. إِحْدَاهَا: الْجُودُ بِالنَّفْسِ. وَهُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: يَجُودُ بِالنَّفْسِ، إِذْ ضَنَّ الْبَخِيلُ بِهَا ... وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ الثَّانِيَةُ: الْجُودُ بِالرِّيَاسَةِ. وَهُوَ ثَانِي مَرَاتِبِ الْجُودِ. فَيَحْمِلُ الْجَوَادَ جُودُهُ عَلَى امْتِهَانِ رِيَاسَتِهِ، وَالْجُودِ بِهَا. وَالْإِيثَارِ فِي قَضَاءِ حَاجَاتِ الْمُلْتَمِسِ. الثَّالِثَةُ: الْجُودُ بِرَاحَتِهِ وَرَفَاهِيَتِهِ، وَإِجْمَامِ نَفْسِهِ. فَيَجُودُ بِهَا تَعَبًا وَكَدًّا فِي مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ. وَمِنْ هَذَا جُودُ الْإِنْسَانِ بِنَوْمِهِ وَلَذَّتِهِ لِمُسَامِرِهِ، كَمَا قِيلَ: مُتَيَّمٌ بِالنَّدَى، لَوْ قَالَ سَائِلُهُ: ... هَبْ لِي جَمِيعَ كَرَى عَيْنَيْكَ، لَمْ يَنَمِ الرَّابِعَةُ: الْجُودُ بِالْعِلْمِ وَبَذْلِهِ. وَهُوَ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْجُودِ. وَالْجُودُ بِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْجُودِ بِالْمَالِ. لِأَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مِنَ الْمَالِ. وَالنَّاسُ فِي الْجُودِ بِهِ عَلَى مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ. وَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ وَتَقْدِيرُهُ النَّافِذُ: أَنْ لَا يَنْفَعَ بِهِ بَخِيلًا أَبَدًا. وَمِنَ الْجُودِ بِهِ: أَنْ تَبْذُلَهُ لِمَنْ يَسْأَلُكَ عَنْهُ، بَلْ تَطْرَحُهُ عَلَيْهِ طَرْحًا. وَمِنَ الْجُودِ بِالْعِلْمِ: أَنَّ السَّائِلَ إِذَا سَأَلَكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ: اسْتَقْصَيْتَ لَهُ جَوَابَهَا جَوَابًا شَافِيًا، لَا يَكُونُ جَوَابُكَ لَهُ بِقَدْرِ مَا تُدْفَعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، كَمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَكْتُبُ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا: نَعَمْ، أَوْ: لَا. مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا. وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - فِي ذَلِكَ أَمْرًا عَجِيبًا: كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ حُكْمِيَّةٍ، ذَكَرَ فِي جَوَابِهَا مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، إِذَا قَدَرَ، وَمَأْخَذَ الْخِلَافِ، وَتَرْجِيحَ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ. وَذَكَرَ مُتَعَلَّقَاتِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي رُبَّمَا تَكُونُ أَنْفَعَ لِلسَّائِلِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ. فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِتِلْكَ الْمُتَعَلَّقَاتِ، وَاللَّوَازِمِ: أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِهِ بِمَسْأَلَتِهِ.

وَهَذِهِ فَتَاوِيهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ النَّاسِ. فَمَنْ أَحَبَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا رَأَى ذَلِكَ. فَمِنْ جُودِ الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ: أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَسْأَلَةِ السَّائِلِ. بَلْ يَذْكُرُ لَهُ نَظَائِرَهَا وَمُتَعَلِّقَهَا وَمَأْخَذَهَا، بِحَيْثُ يَشْفِيهِ وَيَكْفِيهِ. وَقَدْ سَأَلَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُتَوَضِّئِ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مِيتَتُهُ» فَأَجَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ. وَجَادَ عَلَيْهِمْ بِمَا لَعَلَّهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ إِلَيْهِ أَحْوَجُ مِمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ. وَكَانُوا إِذَا سَأَلُوهُ عَنِ الْحُكْمِ نَبَّهَهُمْ عَلَى عِلَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ. كَمَا سَأَلُوهُ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ؟ فَقَالَ: «أَيُنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَلَا إِذَنْ» وَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُقْصَانُ الرُّطَبِ بِجَفَافِهِ، وَلَكِنْ نَبَّهَهُمْ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ. وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي أَجْوِبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مِثْلَ قَوْلِهِ: «إِنْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرَةً. فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَخِيكَ شَيْئًا. بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟» وَفِي لَفْظٍ: «أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ: بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟» فَصَرَّحَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي يَحْرُمُ لِأَجْلِهَا إِلْزَامُهُ بِالثَّمَنِ. وَهِيَ مَنْعُ اللَّهِ الثَّمَرَةَ الَّتِي لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا صُنْعٌ. وَكَانَ خُصُومُهُ - يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - يَعِيبُونَهُ بِذَلِكَ. وَيَقُولُونَ: سَأَلَهُ السَّائِلُ عَنْ طَرِيقِ مِصْرَ - مَثَلًا - فَيَذْكُرُ لَهُ مَعَهَا طَرِيقَ مَكَّةَ، وَالْمَدِينَةِ، وَخُرَاسَانَ، وَالْعِرَاقِ، وَالْهِنْدِ. وَأَيُّ حَاجَةٍ بِالسَّائِلِ إِلَى ذَلِكَ؟ . وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَيْسَ ذَلِكَ بِعَيْبٍ، وَإِنَّمَا الْعَيْبُ: الْجَهْلُ وَالْكِبْرُ. وَهَذَا مَوْضِعُ الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ:

لَقَّبُوهُ بِحَامِضٍ وَهْوَ خَلٌّ ... مِثْلَ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْعُنْقُودِ الْخَامِسَةُ: الْجُودُ بِالنَّفْعِ بِالْجَاهِ. كَالشَّفَاعَةِ وَالْمَشْيِ مَعَ الرَّجُلِ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ وَنَحْوِهِ. وَذَلِكَ زَكَاةُ الْجَاهِ الْمُطَالَبُ بِهَا الْعَبْدُ. كَمَا أَنَّ التَّعْلِيمَ وَبَذْلَ الْعِلْمِ زَكَاتُهُ. السَّادِسَةُ: الْجُودُ بِنَفْعِ الْبَدَنِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ. كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ: صَدَقَةٌ. وَيُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ، فَيَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ: صَدَقَةٌ. وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ: صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ يُمْشِيهَا الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ: صَدَقَةٌ. وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ: صَدَقَةٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. السَّابِعَةُ: الْجُودُ بِالْعِرْضِ، كَجُودِ «أَبِي ضَمْضَمٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا مَالَ لِي أَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى النَّاسِ. وَقَدْ تَصَدَّقْتُ عَلَيْهِمْ بِعِرْضِي، فَمَنْ شَتَمَنِي، أَوْ قَذَفَنِي: فَهُوَ فِي حِلٍّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَسْتَطِيعُ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ؟ .» وَفِي هَذَا الْجُودِ مِنْ سَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَرَاحَةِ الْقَلْبِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ مُعَادَاةِ الْخَلْقِ مَا فِيهِ. الثَّامِنَةُ: الْجُودُ بِالصَّبْرِ، وَالِاحْتِمَالِ، وَالْإِغْضَاءِ. وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ شَرِيفَةٌ مِنْ مَرَاتِبِهِ. وَهِيَ أَنْفَعُ لِصَاحِبِهَا مِنَ الْجُودِ بِالْمَالِ، وَأَعَزُّ لَهُ وَأَنْصَرُ، وَأَمَلَكُ لِنَفْسِهِ، وَأَشْرَفُ لَهَا. وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا النُّفُوسُ الْكِبَارُ. فَمَنْ صَعُبَ عَلَيْهِ الْجُودُ بِمَالِهِ فَعَلَيْهِ بِهَذَا الْجُودِ. فَإِنَّهُ يَجْتَنِي ثَمَرَةَ عَوَاقِبِهِ الْحَمِيدَةِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ. وَهَذَا جُودُ الْفُتُوَّةِ. قَالَ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] وَفِي هَذَا الْجُودِ قَالَ تَعَالَى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]

فصل معنى الإيثار والأثرة

فَذَكَرَ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَقَامَ الْعَدْلِ، وَأَذِنَ فِيهِ. وَمَقَامَ الْفَضْلِ، وَنَدَبَ إِلَيْهِ. وَمَقَامَ الظُّلْمِ، وَحَرَّمَهُ. التَّاسِعَةُ: الْجُودُ بِالْخُلُقِ وَالْبِشْرِ وَالْبَسْطَةِ. وَهُوَ فَوْقَ الْجُودِ بِالصَّبْرِ، وَالِاحْتِمَالِ وَالْعَفْوِ. وَهُوَ الَّذِي بَلَغَ بِصَاحِبِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ. وَهُوَ أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ» وَفِي هَذَا الْجُودِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَسَارِّ، وَأَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ مَا فِيهِ. وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسَعَهُمْ بِخُلُقِهِ وَاحْتِمَالِهِ. الْعَاشِرَةُ: الْجُودُ بِتَرْكِهِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ عَلَيْهِمْ. فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ. وَلَا يَسْتَشْرِفُ لَهُ بِقَلْبِهِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِحَالِهِ، وَلَا لِسَانِهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَخَاءِ النَّفْسِ بِالْبَذْلِ. فَلِسَانُ حَالِ الْقَدَرِ يَقُولُ لِلْفَقِيرِ الْجَوَادِ: وَإِنْ لَمْ أُعْطِكَ مَا تَجُودُ بِهِ عَلَى النَّاسِ، فَجُدْ عَلَيْهِمْ بِزُهْدِكَ فِي أَمْوَالِهِمْ. وَمَا فِي أَيْدِيهِمْ، تُفَضَّلْ عَلَيْهِمْ، وَتُزَاحِمْهُمْ فِي الْجُودِ، وَتَنْفَرِدْ عَنْهُمْ بِالرَّاحَةِ. وَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْجُودِ مَزِيدٌ وَتَأْثِيرٌ خَاصٌّ فِي الْقَلْبِ وَالْحَالِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ضَمِنَ الْمَزِيدَ لِلْجَوَادِ، وَالْإِتْلَافَ لِلْمُمْسِكِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ مَعْنَى الْإِيثَارِ وَالْأَثَرَةِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ: الْإِيثَارُ: تَخْصِيصٌ وَاخْتِيَارٌ. وَالْأَثَرَةُ: تَحْسُنُ طَوْعًا. وَتَصِحُّ كَرْهًا. فَرَّقَ الشَّيْخُ بَيْنَ الْإِيثَارِ وَالْأَثَرَةِ وَجَعَلَ الْإِيثَارَ اخْتِيَارًا وَالْأَثَرَةَ مُنْقَسِمَةً إِلَى اخْتِيَارِيَّةٍ، وَاضْطِرَارِيَّةٍ. وَبِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا يُعْلَمُ مَعْنَى كَلَامِهِ. فَإِنَّ الْإِيثَارَ هُوَ الْبَذْلُ، وَتَخْصِيصُكَ لِمَنْ تُؤْثِرُهُ عَلَى نَفْسِكَ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا اخْتِيَارًا.

فصل درجات الإيثار

وَأَمَّا الْأَثَرَةُ فَهِيَ اسْتِئْثَارُ صَاحِبِ الشَّيْءِ بِهِ عَلَيْكَ، وَحَوْزُهُ لِنَفْسِهِ دُونَكَ. فَهَذِهِ لَا يُحْمَدُ عَلَيْهَا الْمُسْتَأْثِرُ عَلَيْهِ. إِلَّا إِذَا كَانَتْ طَوْعًا. مِثْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى مُنَازَعَتِهِ وَمُجَاذَبَتِهِ، فَلَا يَفْعَلُ. وَيَدَعُهُ وَأَثَرَتَهُ طَوْعًا. فَهَذَا حَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ كَانَتْ أَثَرَةَ كَرْهٍ. وَيَعْنِي بِالصِّحَّةِ: الْوُجُودَ، أَيْ تُوجَدُ كَرْهًا. وَلَكِنْ إِنَّمَا تَحْسُنُ إِذَا كَانَتْ طَوْعًا مِنَ الْمُسْتَأْثِرِ عَلَيْهِ. فَحَقِيقَةُ الْإِيثَارِ بَذْلُ صَاحِبِهِ وَإِعْطَاؤُهُ. وَالْأَثَرَةُ اسْتِبْدَالُهُ هُوَ بِالْمُؤْثَرِ بِهِ. فَيَتْرُكُهُ وَمَا اسْتُبْدِلَ بِهِ: إِمَّا طَوْعًا، وَإِمَّا كَرْهًا. فَكَأَنَّكَ آثَرْتَهُ بِاسْتِئْثَارِهِ حَيْثُ خَلَّيْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَلَمْ تُنَازِعْهُ. «قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي عُسْرِنَا، وَيُسْرِنَا، وَمَنْشَطِنَا، وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ» . فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ: لَهُمْ مَعَهُ وَمَعَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ، وَالْأَثَرَةُ: عَدَمُ مُنَازَعَةِ الْأَمْرِ مَعَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَأْثِرْ عَلَيْهِمْ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْإِيثَارِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى أَنْ تُؤْثِرَ الْخَلْقَ عَلَى نَفْسِكَ] فَصْلٌ قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تُؤْثِرَ الْخَلْقَ عَلَى نَفْسِكَ فِيمَا لَا يَخْرِمُ عَلَيْكَ دِينًا. وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقًا، وَلَا يُفْسِدُ عَلَيْكَ وَقْتًا. يَعْنِي: أَنْ تُقَدِّمَهُمْ عَلَى نَفْسِكَ فِي مَصَالِحِهِمْ. مِثْلَ أَنْ تُطْعِمَهُمْ وَتَجُوعَ. وَتَكْسُوَهُمْ وَتَعْرَى، وَتَسْقِيَهُمْ وَتَظْمَأَ، بِحَيْثُ لَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى ارْتِكَابِ إِتْلَافٍ لَا يَجُوزُ فِي الدِّينِ. وَمِثْلَ أَنْ تُؤْثِرَهُمْ بِمَالِكَ وَتَقْعُدَ كَلًّا مُضْطَرًّا، مُسْتَشْرِفًا لِلنَّاسِ أَوْ سَائِلًا. وَكَذَلِكَ إِيثَارُهُمْ بِكُلِّ مَا يُحَرِّمُهُ عَلَى الْمُؤْثِرِ دِينُهُ. فَإِنَّهُ سَفَهٌ وَعَجْزٌ. يُذَمُّ الْمُؤْثِرُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقًا أَيْ لَا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقَ الطَّلَبِ وَالْمَسِيرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مِثْلَ أَنْ تُؤْثِرَ جَلِيسَكَ عَلَى ذِكْرِكَ، وَتَوَجُّهِكَ وَجَمْعِيَّتِكَ عَلَى اللَّهِ. فَتَكُونَ قَدْ آثَرْتَهُ عَلَى اللَّهِ. وَآثَرْتَ بِنَصِيبِكَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْإِيثَارَ. فَيَكُونَ مَثَلُكَ كَمَثَلِ مُسَافِرٍ

سَائِرٍ عَلَى الطَّرِيقِ لَقِيَهُ رَجُلٌ فَاسْتَوْقَفَهُ، وَأَخَذَ يُحَدِّثُهُ وَيُلْهِيهِ حَتَّى فَاتَهُ الرِّفَاقُ. وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ مَعَ الصَّادِقِ السَّائِرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَإِيثَارُهُمْ عَلَيْهِ عَيْنُ الْغُبْنِ. وَمَا أَكْثَرَ الْمُؤْثِرِينَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ. وَمَا أَقَلَّ الْمُؤْثِرِينَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ الْإِيثَارُ بِمَا يُفْسِدُ عَلَى الْمُؤْثِرِ وَقْتَهُ قَبِيحٌ أَيْضًا. مِثْلَ أَنْ يُؤْثِرَ بِوَقْتِهِ وَيُفَرِّقَ قَلْبَهُ فِي طَلَبِ خَلَفِهِ، أَوْ يُؤْثِرَ بِأَمْرٍ قَدْ جَمَعَ قَلْبَهُ وَهَمَّهُ عَلَى اللَّهِ. فَيُفَرِّقَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ جَمْعِيَّتِهِ. وَيُشَتِّتَ خَاطِرَهُ. فَهَذَا أَيْضًا إِيثَارٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ. وَكَذَلِكَ الْإِيثَارُ بِاشْتِغَالِ الْقَلْبِ وَالْفِكْرِ فِي مُهِمَّاتِهِمْ وَمَصَالِحِهِمُ الَّتِي لَا تَتَعَيَّنُ عَلَيْكَ. عَلَى الْفِكْرِ النَّافِعِ، وَاشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِاللَّهِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ لَا تَخْفَى. بَلْ ذَلِكَ حَالُ الْخَلْقِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ. وَكُلُّ سَبَبٍ يَعُودُ عَلَيْكَ بِصَلَاحِ قَلْبِكَ وَوَقْتِكَ وَحَالِكَ مَعَ اللَّهِ: فَلَا تُؤْثِرْ بِهِ أَحَدًا. فَإِنْ آثَرْتَ بِهِ فَإِنَّمَا تُؤْثِرُ الشَّيْطَانَ عَلَى اللَّهِ، وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ. وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ فِي إِيثَارِهِمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَضُرُّهُمْ إِيثَارُهُمْ لَهُ وَلَا يَنْفَعُهُمْ. وَأَيُّ جَهَالَةٍ وَسَفَهٍ فَوْقَ هَذَا؟ وَمِنْ هَذَا تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِيثَارِ بِالْقُرْبِ. وَقَالُوا: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ. كَمَنْ يُؤْثِرُ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ غَيْرَهُ وَيَتَأَخَّرُ هُوَ، أَوْ يُؤْثِرُهُ بِقُرْبِهِ مِنَ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يُؤْثِرُ غَيْرَهُ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، أَوْ يُؤْثِرُهُ بِعِلْمٍ يَحْرِمُهُ نَفْسَهُ، وَيَرْفَعُهُ عَلَيْهِ، فَيَفُوزُ بِهِ دُونَهُ. وَتَكَلَّمُوا فِي إِيثَارِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَفْنِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَتِهَا. وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْمَيِّتَ يَنْقَطِعُ عَمَلُهُ بِمَوْتِهِ وَبِقُرْبِهِ. فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ الْإِيثَارُ بِالْقُرْبِ بَعْدَ الْمَوْتِ. إِذْ لَا تَقَرُّبَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ. وَإِنَّمَا هَذَا إِيثَارٌ بِمَسْكَنٍ شَرِيفٍ فَاضِلٍ لِمَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهَا. فَالْإِيثَارُ بِهِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْثِرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ قَالَ وَلَا يُسْتَطَاعُ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِتَعْظِيمِ الْحُقُوقِ، وَمَقْتِ الشُّحِّ، وَالرَّغْبَةِ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. ذِكْرُ مَا يُعِينُ عَلَى الْإِيثَارِ فَيَبْعَثُ عَلَيْهِ. وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ.

فصل الدرجة الثانية إيثار رضا الله على رضا غيره

تَعْظِيمُ الْحُقُوقِ. فَإِنَّ مَنْ عَظُمَتِ الْحُقُوقُ عِنْدَهُ قَامَ بِوَاجِبِهَا. وَرَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا. وَاسْتَعْظَمَ إِضَاعَتَهَا. وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْإِيثَارِ لَمْ يُؤَدِّهَا كَمَا يَنْبَغِي. فَيَجْعَلَ إِيثَارَهُ احْتِيَاطًا لِأَدَائِهَا. الثَّانِي: مَقْتُ الشُّحِّ. فَإِنَّهُ إِذَا مَقَتَهُ وَأَبْغَضَهُ الْتَزَمَ الْإِيثَارَ. فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُ مِنْ هَذَا الْمَقْتِ الْبَغِيضِ إِلَّا بِالْإِيثَارِ. الثَّالِثُ: الرَّغْبَةُ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَبِحَسَبِ رَغْبَتِهِ فِيهَا: يَكُونُ إِيثَارُهُ. لِأَنَّ الْإِيثَارَ أَفْضَلُ دَرَجَاتِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ إِيثَارُ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: إِيثَارُ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ. وَإِنْ عَظُمَتْ فِيهِ الْمِحَنُ. وَثَقُلَتْ فِيهِ الْمُؤَنُ، وَضَعُفَ عَنْهُ الطَّوْلُ وَالْبَدَنُ. إِيثَارُ رِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى غَيْرِهِ: هُوَ أَنْ يُرِيدَ وَيَفْعَلَ مَا فِيهِ مَرْضَاتُهُ، وَلَوْ أَغْضَبَ الْخَلْقَ. وَهِيَ دَرَجَةُ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَعْلَاهَا لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ. وَأَعْلَاهَا لِأُولِي الْعَزْمِ مِنْهُمْ. وَأَعْلَاهَا لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ. فَإِنَّهُ قَاوَمَ الْعَالَمَ كُلَّهُ. وَتَجَرَّدَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ. وَاحْتَمَلَ عَدَاوَةَ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ فِي اللَّهِ تَعَالَى. وَآثَرَ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا الْخَلْقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَلَمْ يَأْخُذْهُ فِي إِيثَارِ رِضَاهُ لَوْمَةُ لَائِمٍ. بَلْ كَانَ هَمُّهُ وَعَزْمُهُ وَسَعْيُهُ كُلُّهُ مَقْصُورًا عَلَى إِيثَارِ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَتَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَاتِهِ، وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ. حَتَّى ظَهَرَ دِينُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ دِينٍ. وَقَامَتْ حُجَّتُهُ عَلَى الْعَالَمِينَ. وَتَمَّتْ نِعْمَتُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ. وَأَدَّى الْأَمَانَةَ. وَنَصَحَ الْأُمَّةَ. وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ. وَعَبَدَ اللَّهَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ. فَلَمْ يَنَلْ أَحَدٌ مِنْ دَرَجَةِ هَذَا الْإِيثَارِ مَا نَالَ. صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ عَظُمَتْ فِيهِ الْمِحَنُ. وَثَقُلَتْ فِيهِ الْمُؤَنُ. فَإِنَّ الْمِحْنَةَ تَعْظُمُ فِيهِ أَوْلًا، لِيَتَأَخَّرَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. فَإِذَا احْتَمَلَهَا وَتَقَدَّمَ انْقَلَبَتْ تِلْكَ الْمِحَنُ مِنَحًا. وَصَارَتْ تِلْكَ الْمُؤَنُ عَوْنًا. وَهَذَا مَعْرُوفٌ بِالتَّجْرِبَةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ. فَإِنَّهُ مَا آثَرَ عَبْدٌ مَرْضَاةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَرْضَاةِ الْخَلْقِ، وَتَحَمَّلَ ثِقَلَ ذَلِكَ وَمُؤْنَتَهُ، وَصَبَرَ عَلَى مِحْنَتِهِ: إِلَّا أَنْشَأَ اللَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمِحْنَةِ وَالْمُؤْنَةِ نِعْمَةً وَمَسَرَّةً، وَمَعُونَةٍ بِقَدْرِ مَا تَحَمَّلَ مِنْ مَرْضَاتِهِ. فَانْقَلَبَتْ مَخَاوِفُهُ أَمَانًا، وَمَظَانُّ عَطَبِهِ نَجَاةً، وَتَعَبُهُ رَاحَةً، وَمُؤْنَتُهُ مَعُونَةً، وَبَلِيَّتُهُ نِعْمَةً، وَمِحْنَتُهُ مِنْحَةً، وَسُخْطُهُ رِضًا. فَيَا خَيْبَةَ الْمُتَخَلِّفِينَ، وَيَا ذِلَّةَ الْمُتَهَيِّبِينَ.

هَذَا، وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ - الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا - أَنَّ مَنْ آثَرَ مَرْضَاةَ الْخَلْقِ عَلَى مَرْضَاتِهِ: أَنْ يُسْخِطَ عَلَيْهِ مَنْ آثَرَ رِضَاهُ، وَيَخْذُلَهُ مِنْ جِهَتِهِ. وَيَجْعَلَ مِحْنَتَهُ عَلَى يَدَيْهِ. فَيَعُودَ حَامِدُهُ ذَامًّا. وَمَنْ آثَرَ مَرْضَاتَهُ سَاخِطًا. فَلَا عَلَى مَقْصُودِهِ مِنْهُمْ حَصَلَ، وَلَا إِلَى ثَوَابِ مَرْضَاةِ رَبِّهِ وَصَلَ. وَهَذَا أَعْجَزُ الْخَلْقِ وَأَحْمَقُهُمْ. هَذَا مَعَ أَنَّ رِضَا الْخَلْقِ: لَا مَقْدُورٌ، وَلَا مَأْمُورٌ، وَلَا مَأْثُورٌ. فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ. بَلْ لَا بُدَّ مِنْ سُخْطِهِمْ عَلَيْكَ. فَلَأَنْ يَسْخَطُوا عَلَيْكَ وَتَفُوزَ بِرِضَا اللَّهِ عَنْكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ وَأَنْفَعُ لَكَ مِنْ أَنْ يَسْخَوْا عَلَيْكَ وَاللَّهُ عَنْكَ غَيْرُ رَاضٍ. فَإِذَا كَانَ سُخْطُهُمْ لَا بُدَّ مِنْهُ - عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ - فَآثِرْ سُخْطَهُمُ الَّذِي يُنَالُ بِهِ رِضَا اللَّهِ. فَإِنْ هُمْ رَضُوا عَنْكَ بَعْدَ هَذَا، وَإِلَّا فَأَهْوَنُ شَيْءٍ رِضَا مَنْ لَا يَنْفَعُكَ رِضَاهُ، وَلَا يَضُرُّكَ سُخْطُهُ فِي دِينِكَ، وَلَا فِي إِيمَانِكَ، وَلَا فِي آخِرَتِكَ. فَإِنْ ضَرَّكَ فِي أَمْرٍ يَسِيرٍ فِي الدُّنْيَا فَمَضَرَّةُ سُخْطِ اللَّهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ. وَخَاصَّةً الْعَقْلُ: احْتِمَالُ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا. وَتَفْوِيتُ أَدْنَى الْمَصْلَحَتَيْنِ لِتَحْصِيلِ أَعْلَاهُمَا. فَوَازِنْ بِعَقْلِكَ. ثُمَّ انْظُرْ أَيَّ الْأَمْرَيْنِ خَيْرٌ فَآثِرْهُ، وَأَيَّهُمَا شَرٌّ فَابْعُدْ عَنْهُ. فَهَذَا بُرْهَانٌ قَطْعِيٌّ ضَرُورِيٌّ فِي إِيثَارِ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا الْخَلْقِ. هَذَا مَعَ أَنَّهُ إِذَا آثَرَ رِضَا اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ غَضَبِ الْخَلْقِ. وَإِذَا آثَرَ رِضَاهُمْ لَمْ يَكْفُوهُ مُؤْنَةَ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَمُصَانَعَةُ وَجْهٍ وَاحِدٍ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مِنْ مُصَانَعَةِ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. إِنَّكَ إِذَا صَانَعْتَ ذَلِكَ الْوَجْهَ الْوَاحِدَ كَفَاكَ الْوُجُوهَ كُلَّهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رِضَا النَّاسِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ. فَعَلَيْكَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ نَفْسِكَ فَالْزَمْهُ. وَمَعْلُومٌ: أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلنَّفْسِ إِلَّا بِإِيثَارِ رِضَا رَبِّهَا وَمَوْلَاهَا عَلَى غَيْرِهِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو فِرَاسٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى - إِلَّا أَنَّهُ أَسَاءَ كُلَّ الْإِسَاءَةِ فِي قَوْلِهِ، إِذْ يَقُولُهُ لِمَخْلُوقٍ لَا يَمْلِكُ لَهُ وَلَا لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا: فَلَيْتَكَ تَحْلُو، وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةٌ ... وَلَيْتَكَ تَرْضَى. وَالْأَنَامُ غِضَابُ

وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ ... إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ فَالْكُلُّ هَيِّنٌ وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يُسْتَطَاعُ بِهِ هَذَا الْإِيثَارُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ. فَقَالَ: وَيُسْتَطَاعُ هَذَا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِطِيبِ الْعَوْدِ. وَحُسْنِ الْإِسْلَامِ. وَقُوَّةِ الصَّبْرِ. مِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْمُؤْثِرَ لِرِضَا اللَّهِ مُتَصَدٍّ لِمُعَادَاةِ الْخَلْقِ وَأَذَاهُمْ، وَسَعْيِهِمْ فِي إِتْلَافِهِ وَلَا بُدَّ. هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ. وَإِلَّا فَمَا ذَنْبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، وَالْقَائِمِينَ بِدِينِ اللَّهِ، الذَّابِّينَ عَنْ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عِنْدَهُمْ؟ فَمَنْ آثَرَ رِضَا اللَّهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعَادِيَهُ رَذَالَةُ الْعَالَمِ وَسَقْطُهُمْ، وَغَرْثَاهُمْ وَجُهَّالُهُمْ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ مِنْهُمْ، وَأَهْلُ الرِّيَاسَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَكُلُّ مَنْ يُخَالِفُ هَدْيُهُ هَدْيَهُ. فَمَا يَقْدَمُ عَلَى مُعَادَاةِ هَؤُلَاءِ إِلَّا طَالِبُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، عَامِلٌ عَلَى سَمَاعِ خِطَابِ {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27 - 28] وَمِنْ إِسْلَامِهِ صُلْبٌ كَامِلٌ لَا تُزَعْزِعُهُ الرِّجَالُ. وَلَا تُقَلْقِلُهُ الْجِبَالُ، وَمِنْ عَقْدَ عَزِيمَةِ صَبْرِهِ مُحْكَمٌ لَا تَحُلُّهُ الْمِحَنُ وَالشَّدَائِدُ وَالْمَخَاوِفُ. قُلْتُ: وَمِلَاكُ ذَلِكَ أَمْرَانِ: الزُّهْدُ فِي الْحَيَاةِ وَالثَّنَاءُ. فَمَا ضَعُفَ مَنْ ضَعُفَ، وَتَأَخَّرَ مَنْ تَأَخَّرَ إِلَّا بِحُبِّهِ لِلْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ، وَثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَنُفْرَتِهِ مِنْ ذَمِّهِمْ لَهُ. فَإِذَا زَهِدَ فِي هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، تَأَخَّرَتْ عَنْهُ الْعَوَارِضُ كُلُّهَا. وَانْغَمَسَ حِينَئِذٍ فِي الْعَسَاكِرِ. وَمِلَاكُ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ بِشَيْئَيْنِ: صِحَّةِ الْيَقِينِ. وَقُوَّةِ الْمَحَبَّةِ. وَمِلَاكُ هَذَيْنِ بِشَيْئَيْنِ أَيْضًا: بِصِدْقِ اللَّجَأِ وَالطَّلَبِ، وَالتَّصَدِّي لِلْأَسْبَابِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهِمَا. فَإِلَى هَاهُنَا تَنْتَهِي مَعْرِفَةُ الْخَلْقِ وَقُدْرَتُهُمْ. وَالتَّوْفِيقُ بَعْدُ بَيْدِ مَنْ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا بِيَدِهِ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا - يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 30 - 31] .

فصل الدرجة الثالثة إيثار إيثار الله

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ إِيثَارُ إِيثَارِ اللَّهِ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: إِيثَارُ إِيثَارِ اللَّهِ. فَإِنَّ الْخَوْضَ فِي الْإِيثَارِ دَعْوَى فِي الْمِلْكِ. ثُمَّ تَرْكُ شُهُودِ رُؤْيَتِكَ إِيثَارَ اللَّهِ. ثُمَّ غَيْبَتُكَ عَنِ التَّرْكِ. يَعْنِي بِإِيثَارِ إِيثَارِ اللَّهِ: أَنْ تَنْسِبَ إِيثَارَكَ إِلَى اللَّهِ دُونَ نَفْسِكَ. وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِالْإِيثَارِ، لَا أَنْتَ. فَكَأَنَّكَ سَلَّمْتَ الْإِيثَارَ إِلَيْهِ. فَإِذَا آثَرْتَ غَيْرَكَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ الَّذِي آثَرَهُ هُوَ الْحَقُّ، لَا أَنْتَ. فَهُوَ الْمُؤْثِرُ حَقِيقَةً. إِذْ هُوَ الْمُعْطِي حَقِيقَةً. ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ السَّبَبَ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ نِسْبَةُ الْإِيثَارِ إِلَى اللَّهِ، وَتَرْكِ نِسْبَتِهِ إِلَى نَفْسِكَ، فَقَالَ فَإِنَّ الْخَوْضَ فِي الْإِيثَارِ: دَعْوَى فِي الْمِلْكِ. فَإِذَا ادَّعَى الْعَبْدُ: أَنَّهُ مُؤْثِرٌ فَقَدِ ادَّعَى مِلْكَ مَا آثَرَ بِهِ غَيْرَهُ. وَالْمِلْكُ فِي الْحَقِيقَةِ: إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ كُلُّ شَيْءٍ. فَإِذَا خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ دَعْوَى الْمِلْكِ فَقَدْ آثَرَ إِيثَارَ اللَّهِ - وَهُوَ إِعْطَاؤُهُ - عَلَى إِيثَارِ نَفْسِهِ. وَشَهِدَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ الْمُؤْثِرُ بِمِلْكِهِ. وَأَمَّا مَنْ لَا مِلْكَ لَهُ: فَأَيُّ إِيثَارٍ لَهُ؟ . وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تَرْكُ شُهُودِ رُؤْيَتِكَ إِيثَارَ اللَّهِ. يَعْنِي أَنَّكَ إِذَا آثَرْتَ إِيثَارَ اللَّهِ بِتَسْلِيمِكَ مَعْنَى الْإِيثَارِ إِلَيْهِ: بَقِيَتْ عَلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةٌ أُخْرَى لَا بُدَّ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْهَا. وَهِيَ أَنْ تَعْرِضَ عَنْ شُهُودِكَ رُؤْيَتَكَ أَنَّكَ آثَرْتَ الْحَقَّ بِإِيثَارِكَ، وَأَنَّكَ نَسَبْتَ الْإِيثَارَ إِلَيْهِ لَا إِلَيْكَ. فَإِنَّ فِي شُهُودِكَ ذَلِكَ، وَرُؤْيَتِكَ لَهُ: دَعْوَى أُخْرَى. هِيَ أَعْظَمُ مِنْ دَعْوَى الْمِلْكِ. وَهِيَ أَنَّكَ ادَّعَيْتَ أَنَّ لَكَ شَيْئًا آثَرْتَ بِهِ اللَّهَ. وَقَدَّمْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ فِيهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ لَكَ. وَهَذِهِ الدَّعْوَى أَصْعَبُ مِنَ الْأُولَى. فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأُولَى مِنَ الْمِلْكِ. وَتَزِيدُ عَلَيْهَا بِرُؤْيَةِ الْإِيثَارِ بِهِ فَالْأَوَّلُ: مُدَّعٍ لِلْمِلْكِ مُؤْثِرٌ بِهِ. وَهَذَا مُدَّعٍ لِلْمِلْكِ وَمُدَّعٍ لِلْإِيثَارِ بِهِ. فَإِذَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ شُهُودِ رُؤْيَتِهِ لِهَذَا الْإِيثَارِ. فَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ آثَرَ اللَّهَ بِهَذَا الْإِيثَارِ. بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ دُونَكَ. فَإِنَّ الْأَثَرَةَ وَاجِبَةٌ لَهُ بِإِيجَابِهِ إِيَّاهَا بِنَفْسِهِ. لَا بِإِيجَابِ الْعَبْدِ إِيَّاهَا لَهُ. قَوْلُهُ: ثُمَّ غَيْبَتُكَ عَنِ التَّرْكِ. يُرِيدُ: أَنَّكَ إِذَا نَزَلْتَ هَذَا الشُّهُودَ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةَ: بَقِيَتْ عَلَيْكَ بَقِيَّةٌ أُخْرَى. وَهِيَ

فصل منزلة الخلق

رُؤْيَتُكَ لِهَذَا التَّرْكِ الْمُتَضَمِّنَةُ لِدَعْوَى مِلْكِكَ لِلتَّرْكِ. وَهِيَ دَعْوَى كَاذِبَةٌ. إِذْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْرِ. وَلَا بِيَدِهِ فِعْلٌ وَلَا تَرْكٌ. وَإِنَّمَا الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي الْكَشْفِ وَالشُّهُودِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ: أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ حَقِيقَةً. إِنَّمَا الْمَالِكُ بِالْحَقِيقَةِ سَيِّدُهُ. فَالْأَثَرَةُ وَالْإِيثَارُ وَالِاسْتِئْثَارُ كُلُّهَا لِلَّهِ وَمِنْهُ وَإِلَيْهِ. سَوَاءً اخْتَارَ الْعَبْدُ ذَلِكَ وَعَلِمَهُ، أَوْ جَهِلَهُ، أَمْ لَمْ يَخْتَرْهُ. فَالْأَثَرَةُ وَاقِعَةٌ. كَرِهَ الْعَبْدُ أَمْ رَضِيَ. فَإِنَّهَا اسْتِئْثَارُ الْمَالِكِ الْحَقِّ بِمِلْكِهِ تَعَالَى. وَقَدْ فَهِمْتُ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ: فَإِنَّ الْأَثَرَةَ تَحْسُنُ طَوْعًا. وَتَصِحُّ كَرْهًا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْخُلُقِ] [الْخُلُقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْخُلُقِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْخُلُقِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [الفاتحة: 4 - 28753] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: لَعَلَى دِينٍ عَظِيمٍ، لَا دِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ وَلَا أَرْضَى عِنْدِي مِنْهُ. وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ آدَابُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا كَانَ يَأْمُرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَيَنْهَى عَنْهُ مِنْ نَهْيِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ لَعَلَى الْخُلُقِ الَّذِي آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ. فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ وَلَا أَسْأَلَ شَيْئًا. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]

قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ ذُكِرَ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: «مَا هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ، فَسَأَلَ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» . وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْمُطَاعِ مَعَ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَمْرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ. الثَّانِي: أَخْذُهُ مِنْهُمْ مَا يَبْذُلُونَهُ مِمَّا عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّاعَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ النَّاسَ مَعَهُ قِسْمَانِ: مُوَافِقٌ لَهُ مُوَالٍ، وَمُعَادٍ لَهُ مُعَارِضٌ. وَعَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ وَاجِبٌ. فَوَاجِبُهُ فِي أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ: أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ. وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي بِهِ صَلَاحُهُمْ وَصَلَاحُ شَأْنِهِمْ. وَيَنْهَاهُمْ عَنْ ضِدِّهِ. وَوَاجِبُهُ فِيمَا يَبْذُلُونَهُ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ، وَطُوِّعَتْ لَهُ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، سَمَاحَةً وَاخْتِيَارًا. وَلَا يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْعَنَتِ وَالْمَشَقَّةِ فَيُفْسِدَهُمْ. وَوَاجِبُهُ عِنْدَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَ عَلَيْهِ: الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ. وَعَدَمُ مُقَابَلَتِهِمْ بِالْمِثْلِ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ. فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي خُذِ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَأَعْمَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَخْسِيسٍ، مِثْلَ قَبُولِ الْأَعْذَارِ، وَالْعَفْوِ وَالْمُسَاهَلَةِ، وَتَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْبَحْثِ، وَالتَّفْتِيشِ عَنْ حَقَائِقِ بَوَاطِنِهِمْ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: خُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَهُوَ الْفَاضِلُ عَنِ الْعِيَالِ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] وَهُوَ كُلُّ مَعْرُوفٍ. وَأَعْرَفُهُ: التَّوْحِيدُ. ثُمَّ حُقُوقُ الْعُبُودِيَّةِ وَحُقُوقُ الْعَبِيدِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] يَعْنِي إِذَا سَفِهَ عَلَيْكَ الْجَاهِلُ فَلَا تُقَابِلْهُ بِالسَّفَهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. بَلْ يُعْرِضُ عَنْهُ مَعَ إِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَلَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ. وَهَكَذَا كَانَ خُلُقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا» . وَقَالَ: «مَا مَسَسْتُ دِيبَاجًا وَلَا حَرِيرًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا شَمَمْتُ رَائِحَةً قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَقَدْ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ. فَمَا قَالَ لِي قَطُّ: أُفٍّ. وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَ كَذَا؟» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ الْبِرَّ: هُوَ حُسْنُ الْخُلُقِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟ فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ. وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ. وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» .

فَقَابَلَ الْبِرَّ بِالْإِثْمِ. وَأَخْبَرَ: أَنَّ الْبِرَّ حُسْنُ الْخُلُقِ. وَالْإِثْمَ: حَوَازُ الصُّدُورِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ: هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ. وَهُوَ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ، وَشَرَائِعُ الْإِسْلَامِ. وَلِهَذَا قَابَلَهُ بِالْإِثْمِ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْبِرُّ: مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ» ، وَقَدْ فُسِّرَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِأَنَّهُ الْبِرُّ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ: طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ. وَالْإِثْمُ حَوَازُ الصُّدُورِ، وَمَا حَاكَ فِيهَا، وَاسْتَرَابَتْ بِهِ. وَهَذَا غَيْرُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَسُوئِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ. كَمَا سَيَأْتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خِيَارُكُمْ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلَ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ. وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِيهِ أَيْضًا - وَصَحَّحَهُ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: تَقْوَى اللَّهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ. وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ فَقَالَ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ» .

وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَحَّحَهُ - «إِنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا: أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا. وَخِيَارُكُمْ: خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ: لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا. وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ: لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. فَجَعَلَ الْبَيْتَ الْعُلْوِيَّ جَزَاءً لِأَعْلَى الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةِ. وَهِيَ حُسْنُ الْخُلُقِ. وَالْأَوْسَطَ لِأَوْسَطِهَا. وَهُوَ تَرْكُ الْكَذِبِ. وَالْأَدْنَى لِأَدْنَاهَا وَهُوَ تَرْكُ الْمُمَارَاةِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقٌّ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا كُلِّهِ. وَفِي التِّرْمِذِيَّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا. وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضِكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدِكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ. فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: الْمُتَكَبِّرُونَ.» الثَّرْثَارُ: هُوَ كَثِيرُ الْكَلَامِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ دِينِيَّةٍ. وَالْمُتَشَدِّقُ:

فصل الدين كله خلق

الْمُتَكَلِّمُ بِمِلْءِ فِيهِ تَفَاصُحًا وَتَعَاظُمًا وَتَطَاوُلًا، وَإِظْهَارًا لِفَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَهْقِ. وَهُوَ الِامْتِلَاءُ. [فَصْلٌ الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ] فَصْلٌ الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ. فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ: زَادَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ. وَكَذَلِكَ التَّصَوُّفُ. قَالَ الْكِنَانِيُّ: التَّصَوُّفُ هُوَ الْخُلُقُ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ: فَقَدْ زَادَ عَلَيْكَ فِي التَّصَوُّفِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى. وَقِيلَ: حُسْنُ الْخُلُقِ: بَذْلُ الْجَمِيلِ، وَكَفُّ الْقَبِيحِ. وَقِيلَ: التَّخَلِّي مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ. وَحُسْنُ الْخُلُقِ يَقُومُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُ سَاقِهِ إِلَّا عَلَيْهَا: الصَّبْرُ، وَالْعِفَّةُ، وَالشَّجَاعَةُ، وَالْعَدْلُ. فَالصَّبْرُ: يَحْمِلُهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَكَفِّ الْأَذَى، وَالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ وَالرِّفْقِ، وَعَدَمِ الطَّيْشِ وَالْعَجَلَةِ. وَالْعِفَّةُ: تَحْمِلُهُ عَلَى اجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ وَالْقَبَائِحِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى الْحَيَاءِ. وَهُوَ رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ. وَتَمْنَعُهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ، وَالْبُخْلِ وَالْكَذِبِ، وَالْغَيْبَةِ وَالنَّمِيمَةِ. وَالشَّجَاعَةُ: تَحْمِلُهُ عَلَى عِزَّةِ النَّفْسِ، وَإِيثَارِ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ، وَعَلَى الْبَذْلِ وَالنَّدَى، الَّذِي هُوَ شَجَاعَةُ النَّفْسِ وَقُوَّتُهَا عَلَى إِخْرَاجِ الْمَحْبُوبِ وَمُفَارَقَتِهِ. وَتَحْمِلُهُ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وَالْحِلْمِ. فَإِنَّهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَشَجَاعَتِهَا يُمْسِكُ عِنَانَهَا، وَيَكْبَحُهَا بِلِجَامِهَا عَنِ النَّزْغِ وَالْبَطْشِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ: الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» وَهُوَ حَقِيقَةُ الشَّجَاعَةِ، وَهِيَ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا الْعَبْدُ عَلَى قَهْرِ خَصْمِهِ. وَالْعَدْلُ: يَحْمِلُهُ عَلَى اعْتِدَالِ أَخْلَاقِهِ، وَتَوَسُّطِهِ فِيهَا بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. فَيَحْمِلُهُ عَلَى خُلُقِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الذُّلِّ وَالْقِحَةِ. وَعَلَى خُلُقِ الشَّجَاعَةِ، الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْجُبْنِ وَالتَّهَوُّرِ. وَعَلَى خُلُقِ الْحِلْمِ، الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْغَضَبِ وَالْمَهَانَةِ وَسُقُوطِ النَّفْسِ. وَمَنْشَأُ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ.

وَمَنْشَأُ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ، وَبِنَاؤُهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ: الْجَهْلُ. وَالظُّلْمُ. وَالشَّهْوَةُ. وَالْغَضَبُ. فَالْجَهْلُ: يُرِيهِ الْحَسَنَ فِي صُورَةِ الْقَبِيحِ، وَالْقَبِيحَ فِي صُورَةِ الْحَسَنِ. وَالْكَمَالَ نَقْصًا وَالنَّقْصَ كَمَالًا. وَالظُّلْمُ: يَحْمِلُهُ عَلَى وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَيَغْضَبُ فِي مَوْضِعِ الرِّضَا. وَيَرْضَى فِي مَوْضِعِ الْغَضَبِ. وَيَجْهَلُ فِي مَوْضِعِ الْأَنَاةِ. وَيَبْخَلُ فِي مَوْضِعِ الْبَذْلِ. وَيَبْذُلُ فِي مَوْضِعِ الْبُخْلِ. وَيُحْجِمُ فِي مَوْضِعِ الْإِقْدَامِ. وَيُقْدِمُ فِي مَوْضِعِ الْإِحْجَامِ. وَيَلِينُ فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ. وَيَشْتَدُّ فِي مَوْضِعِ اللِّينِ. وَيَتَوَاضَعُ فِي مَوْضِعِ الْعِزَّةِ. وَيَتَكَبَّرُ فِي مَوْضِعِ التَّوَاضُعِ. وَالشَّهْوَةُ: تَحْمِلُهُ عَلَى الْحِرْصِ وَالشُّحِّ وَالْبُخْلِ، وَعَدَمِ الْعِفَّةِ وَالنَّهْمَةِ وَالْجَشَعِ، وَالذُّلِّ وَالدَّنَاءَاتِ كُلِّهَا. وَالْغَضَبُ: يَحْمِلُهُ عَلَى الْكِبْرِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَالْعُدْوَانِ وَالسَّفَهِ. وَيَتَرَكَّبُ مِنْ بَيْنِ كُلِّ خُلُقَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ: أَخْلَاقٌ مَذْمُومَةٌ. وَمِلَاكُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ أَصْلَانِ: إِفْرَاطُ النَّفْسِ فِي الضَّعْفِ، وَإِفْرَاطُهَا فِي الْقُوَّةِ. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ إِفْرَاطِهَا فِي الضَّعْفِ: الْمَهَانَةُ وَالْبُخْلُ، وَالْخِسَّةُ وَاللُّؤْمُ، وَالذُّلُّ وَالْحِرْصُ، وَالشُّحُّ وَسَفْسَافُ الْأُمُورِ وَالْأَخْلَاقِ. وَيَتَوَلَّدُ مِنْ إِفْرَاطِهَا فِي الْقُوَّةِ: الظُّلْمُ وَالْغَضَبُ وَالْحِدَّةُ، وَالْفُحْشُ وَالطَّيْشُ. وَيَتَوَلَّدُ مِنْ تَزَوُّجِ أَحَدِ الْخُلُقَيْنِ بِالْآخَرِ أَوْلَادُ غِيَّةٍ كَثِيرُونَ. فَإِنَّ النَّفْسَ قَدْ تَجْمَعُ قُوَّةً وَضَعْفًا. فَيَكُونُ صَاحِبُهَا أَجْبَرَ النَّاسِ إِذَا قَدَرَ، وَأَذَلَّهُمْ إِذَا قُهِرَ، ظَالِمًا عَنُوفًا جَبَّارًا. فَإِذَا قُهِرَ صَارَ أَذَلَّ مِنِ امْرَأَةٍ: جَبَانًا عَنِ الْقَوِيِّ، جَرِيئًا عَلَى الضَّعِيفِ. فَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ: يُوَلِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، كَمَا أَنَّ الْأَخْلَاقَ الْحَمِيدَةَ: يُوَلِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَكُلُّ خُلُقٍ مَحْمُودٍ مُكْتَنَفٌ بِخُلُقَيْنِ ذَمِيمَيْنِ. وَهُوَ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا. وَطَرَفَاهُ خُلُقَانِ ذَمِيمَانِ، كَالْجُودِ: الَّذِي يَكْتَنِفُهُ خُلُقَا الْبُخْلِ وَالتَّبْذِيرِ. وَالتَّوَاضُعِ: الَّذِي يَكْتَنِفُهُ خُلُقَا الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ. وَالْكِبْرِ وَالْعُلُوِّ. فَإِنَّ النَّفْسَ مَتَى انْحَرَفَتْ عَنِ التَّوَسُّطِ انْحَرَفَتْ إِلَى أَحَدِ الْخُلُقَيْنِ الذَّمِيمَيْنِ وَلَا بُدَّ، فَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ التَّوَاضُعِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى كِبْرٍ وَعُلُوٍّ، وَإِمَّا إِلَى ذُلٍّ وَمَهَانَةٍ وَحَقَارَةٍ. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْحَيَاءِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى قِحَةٍ وَجُرْأَةٍ، وَإِمَّا إِلَى عَجْزٍ وَخَوَرٍ وَمَهَانَةٍ، بِحَيْثُ يُطْمِعُ فِي نَفْسِهِ عَدُوَّهُ. وَيَفُوتُهُ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِ. وَيَزْعُمُ أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَيَاءُ. وَإِنَّمَا هُوَ الْمَهَانَةُ وَالْعَجْزُ، وَمَوْتُ النَّفْسِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الصَّبْرِ الْمَحْمُودِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى جَزَعٍ وَهَلَعٍ وَجَشَعٍ وَتَسَخُّطٍ، وَإِمَّا إِلَى غِلْظَةِ كَبِدٍ، وَقَسْوَةِ قَلْبٍ، وَتَحَجُّرِ طَبْعٍ. كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: تَبْكِي عَلَيْنَا. وَلَا نَبْكِي عَلَى أَحَدٍ فَنَحْنُ أَغْلَظُ أَكْبَادًا مِنَ الْإِبِلِ. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْحِلْمِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى الطَّيْشِ وَالتَّرَفِ وَالْحِدَّةِ وَالْخِفَّةِ، وَإِمَّا إِلَى الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ وَالْحَقَارَةِ. فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ حِلْمُهُ حِلْمُ ذُلٍّ وَمَهَانَةٍ وَحَقَارَةٍ وَعَجْزٍ، وَبَيْنَ مَنْ حِلْمُهُ حِلْمُ اقْتِدَارٍ وَعَزَّةٍ وَشَرَفٍ. كَمَا قِيلَ: كُلُّ حِلْمٍ أَتَى بِغَيْرِ اقْتِدَارٍ ... حُجَّةٌ لَاجِئٌ إِلَيْهَا اللِّئَامُ وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْأَنَاةِ وَالرِّفْقِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى عَجَلَةٍ وَطَيْشٍ وَعُنْفٍ، وَإِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ وَإِضَاعَةٍ. وَالرِّفْقُ وَالْأَنَاةُ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْعِزَّةِ الَّتِي وَهَبَهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى كِبْرٍ، وَإِمَّا إِلَى ذُلٍّ. وَالْعِزَّةُ الْمَحْمُودَةُ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الشَّجَاعَةِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى تَهَوُّرٍ وَإِقْدَامٍ غَيْرِ مَحْمُودٍ، وَإِمَّا إِلَى جُبْنٍ وَتَأَخُّرٍ مَذْمُومٍ. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْمُنَافَسَةِ فِي الْمَرَاتِبِ الْعَالِيَةِ وَالْغِبْطَةِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى حَسَدٍ، وَإِمَّا إِلَى مَهَانَةٍ، وَعَجْزٍ وَذُلٍّ وَرِضَا بِالدُّونِ. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنِ الْقَنَاعَةِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى حِرْصٍ وَكَلَبٍ، وَإِمَّا إِلَى خِسَّةٍ وَمَهَانَةٍ وَإِضَاعَةٍ. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الرَّحْمَةِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى قَسْوَةٍ، وَإِمَّا إِلَى ضَعْفِ قَلْبٍ وَجُبْنِ نَفْسٍ، كَمَنْ لَا يَقْدَمُ عَلَى ذَبْحِ شَاةٍ، وَلَا إِقَامَةِ حَدٍّ، وَتَأْدِيبِ وَلَدٍ. وَيَزْعُمُ أَنَّ الرَّحْمَةَ تَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ ذَبَحَ أَرْحَمُ الْخَلْقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً. وَقَطَعَ الْأَيْدِيَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَضَرَبَ الْأَعْنَاقَ. وَأَقَامَ الْحُدُودَ وَرَجَمَ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى مَاتَ الْمَرْجُومُ. وَكَانَ أَرْحَمَ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَرْأَفَهُمْ. وَكَذَلِكَ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ، وَالْبِشْرُ الْمَحْمُودُ. فَإِنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ التَّعْبِيسِ وَالتَّقْطِيبِ وَتَصْعِيرِ الْخَدِّ، وَطَيِّ الْبِشْرِ عَنِ الْبَشَرِ، وَبَيْنَ الِاسْتِرْسَالِ بِذَلِكَ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ، بِحَيْثُ يُذْهِبُ الْهَيْبَةَ، وَيُزِيلُ الْوَقَارَ، وَيُطْمِعُ فِي الْجَانِبِ، كَمَا أَنَّ الِانْحِرَافَ الْأَوَّلَ يُوقِعُ الْوَحْشَةَ وَالْبَغْضَةَ، وَالنُّفْرَةَ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ.

فصل تغيير الأخلاق التي طبعت النفوس عليها

وَصَاحِبُ الْخُلُقِ الْوَسَطِ: مَهِيبٌ مَحْبُوبٌ، عَزِيزٌ جَانِبُهُ، حَبِيبٌ لِقَاؤُهُ. وَفِي صِفَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ. وَمَنْ خَالَطَهُ عِشْرَةً أَحَبَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ تَغْيِيرُ الْأَخْلَاقِ الَّتِي طُبِعَتِ النُّفُوسُ عَلَيْهَا] فَصْلٌ نَافِعٌ جِدًّا عَظِيمُ النَّفْعِ لِلسَّالِكِ. يُوصِلُهُ عَنْ قَرِيبٍ، وَيُسَيِّرُهُ بِأَخْلَاقِهِ الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ إِزَالَتُهَا. فَإِنَّ أَصْعَبَ مَا عَلَى الطَّبِيعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ: تَغْيِيرُ الْأَخْلَاقِ الَّتِي طُبِعَتِ النُّفُوسُ عَلَيْهَا. وَأَصْحَابُ الرِّيَاضَاتِ الصَّعْبَةِ وَالْمُجَاهَدَاتِ الشَّاقَّةِ إِنَّمَا عَمِلُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَظْفَرْ أَكْثَرُهُمْ بِتَبْدِيلِهَا. لَكِنَّ النَّفْسَ اشْتَغَلَتْ بِتِلْكَ الرِّيَاضَاتِ عَنْ ظُهُورِ سُلْطَانِهَا. فَإِذَا جَاءَ سُلْطَانُ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ وَبَرَزَ: كَسَرَ جُيُوشَ الرِّيَاضَةِ وَشَتَّتَهَا. وَاسْتَوْلَى عَلَى مَمْلَكَةِ الطَّبْعِ. وَهَذَا فَصْلٌ يَصِلُ بِهِ السَّالِكُ مَعَ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ. وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجِهَا وَإِزَالَتِهَا. وَيَكُونُ سَيْرُهُ أَقْوَى وَأَجَلَّ وَأَسْرَعَ مِنْ سَيْرِ الْعَامِلِ عَلَى إِزَالَتِهَا. وَنُقَدِّمُ قَبْلَ هَذَا مَثَلًا نَضْرِبُهُ. مُطَابِقًا لِمَا نُرِيدُهُ. وَهُوَ: نَهْرٌ جَارٍ فِي صَبَبِهِ وَمُنْحَدَرِهِ، وَمُنْتَهٍ إِلَى تَغْرِيقِ أَرْضٍ وَعُمْرَانٍ وَدُورٍ. وَأَصْحَابُهَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي حَتَّى يُخَرِّبَ دُورَهُمْ. وَيُتْلِفَ أَرَاضِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. فَانْقَسَمُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ. فِرْقَةٌ صَرَفَتْ قُوَاهَا وَقُوَى أَعْمَالِهَا إِلَى سَكْرِهِ وَحَبْسِهِ وَإِيقَافِهِ. فَلَا تَصْنَعُ هَذِهِ الْفِرْقَةُ كَبِيرَ أَمْرٍ. فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَجْتَمِعَ ثُمَّ يَحْمِلَ عَلَى السَّكْرِ، فَيَكُونُ إِفْسَادُهُ وَتَخْرِيبُهُ أَعْظَمَ. وَفِرْقَةٌ رَأَتْ هَذِهِ الْحَالَةَ. وَعَلِمَتْ أَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا. فَقَالَتْ: لَا خَلَاصَ مِنْ مَحْذُورِهِ إِلَّا بِقَطْعِهِ مِنْ أَصْلِ الْيَنْبُوعِ. فَرَامَتْ قَطْعَهُ مِنْ أَصْلِهِ. فَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا ذَلِكَ غَايَةَ التَّعَذُّرِ، وَأَبَتِ الطَّبِيعَةُ النَّهْرِيَّةُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِبَاءِ، فَهُمْ دَائِمًا فِي قَطْعِ الْيَنْبُوعِ، وَكُلَّمَا سَدُّوهُ مِنْ مَوْضِعٍ نَبَعَ مِنْ مَوْضِعٍ، فَاشْتَغَلَ هَؤُلَاءِ بِشَأْنِ هَذَا النَّهْرِ عَنِ الزِّرَاعَاتِ وَالْعِمَارَاتِ وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ. فَجَاءَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ، خَالَفَتْ رَأْيَ الْفِرْقَتَيْنِ. وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ ضَاعَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِمْ. فَأَخَذُوا فِي صَرْفِ ذَلِكَ النَّهْرِ عَنْ مَجْرَاهُ الْمُنْتَهِي إِلَى الْعُمْرَانِ، فَصَرَفُوهُ إِلَى مَوْضِعٍ يَنْتَفِعُونَ بِوُصُولِهِ إِلَيْهِ. وَلَا يَتَضَرَّرُونَ بِهِ. فَصَرَفُوهُ إِلَى أَرْضٍ قَابِلَةٍ لِلنَّبَاتِ. وَسَقَوْهَا بِهِ. فَأَنْبَتَتْ أَنْوَاعَ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ وَالثِّمَارِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَصْنَافِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ هُمْ أَصْوَبَ الْفِرَقِ فِي شَأْنِ هَذَا النَّهْرِ.

فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا الْمَثَلُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ: أَنْ رَكَّبَ الْإِنْسَانَ - بَلْ وَسَائِرَ الْحَيَوَانِ - عَلَى طَبِيعَةٍ مَحْمُولَةٍ عَلَى قُوَّتَيْنِ: غَضَبِيَّةٍ. وَشَهْوَانِيَّةٍ. وَهِيَ الْإِرَادِيَّةُ. وَهَاتَانِ الْقُوَّتَانِ هُمَا الْحَامِلَتَانِ لِأَخْلَاقِ النَّفْسِ وَصِفَاتِهَا. وَهُمَا مَرْكُوزَتَانِ فِي جِبِلَّةِ كُلِّ حَيَوَانٍ. فَبِقُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَالْإِرَادَةِ: يَجْذِبُ الْمَنَافِعَ إِلَى نَفْسِهِ. وَبِقُوَّةِ الْغَضَبِ: يَدْفَعُ الْمَضَارَّ عَنْهَا. فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الشَّهْوَةَ فِي طَلَبِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ: تَوَلَّدَ مِنْهَا الْحِرْصُ. وَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْغَضَبَ فِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ نَفْسِهِ: تَوَلَّدَ مِنْهُ الْقُوَّةُ وَالْغَيْرَةُ. فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ الضَّارِّ: أَوْرَثَهُ قُوَّةَ الْحِقْدِ. وَإِنْ أَعْجَزَهُ وُصُولُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَرَأَى غَيْرَهُ مُسْتَبِدًّا بِهِ: أَوْرَثَهُ الْحَسَدَ. فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ: أَوْرَثَتْهُ شِدَّةُ شَهْوَتِهِ وَإِرَادَتُهُ: خُلُقَ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ. وَإِنِ اشْتَدَّ حِرْصُهُ وَشَهْوَتُهُ عَلَى الشَّيْءِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا بِالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، فَاسْتَعْمَلَهَا فِيهِ: أَوْرَثَهُ ذَلِكَ الْعُدْوَانَ، وَالْبَغْيَ وَالظُّلْمَ. وَمِنْهُ يَتَوَلَّدُ: الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ. فَإِنَّهَا أَخْلَاقٌ مُتَوَلَّدَةٌ مِنْ بَيْنِ قُوَّتَيِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ، وَتَزَوُّجِ أَحَدِهِمَا بِصَاحِبِهِ. فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَالنَّهْرُ مِثَالُ هَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ. وَهُوَ مُنْصَبٌّ فِي جَدْوَلِ الطَّبِيعَةِ وَمَجْرَاهَا إِلَى دُورِ الْقَلْبِ وَعُمْرَانِهِ وَحَوَاصِلِهِ، يُخَرِّبُهَا وَيُتْلِفُهَا وَلَا بُدَّ. فَالنُّفُوسُ الْجَاهِلَةُ الظَّالِمَةُ تَرَكَتْهُ وَمَجْرَاهُ. فَخَرَّبَ دِيَارَ الْإِيمَانِ. وَقَلَعَ آثَارَهُ. وَهَدَمَ عُمْرَانَهُ. وَأَنْبَتَ مَوْضِعَهَا كُلَّ شَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ، مِنْ حَنْظَلٍ وَضَرِيعٍ وَشَوْكٍ وَزَقُّومٍ. وَهُوَ الَّذِي يَأْكُلُهُ أَهْلُ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْمَعَادِ. وَأَمَّا النُّفُوسُ الزَّكِيَّةُ الْفَاضِلَةُ: فَإِنَّهَا رَأَتْ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ هَذَا النَّهَرِ. فَافْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ. فَأَصْحَابُ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ، وَالْخَلَوَاتِ وَالتَّمْرِينَاتِ: رَامُوا قَطْعَهُ مِنْ يَنْبُوعِهِ. فَأَبَتْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا طَبَعَ عَلَيْهِ الْجِبِلَّةَ الْبَشَرِيَّةَ. وَلَمْ تَنْقَدْ لَهُ الطَّبِيعَةُ. فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ. وَدَامَ الْحَرْبُ. وَحَمِيَ الْوَطِيسُ. وَصَارَتِ الْحَرْبُ دُوَلًا وَسِجَالًا. وَهَؤُلَاءِ صَرَفُوا قُوَاهُمْ إِلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى إِزَالَةِ تِلْكَ الصِّفَاتِ. وَفِرْقَةٌ أَعْرَضُوا عَنْهَا. وَشَغَلُوا نُفُوسَهُمْ بِالْأَعْمَالِ. وَلَمْ يُجِيبُوا دَوَاعِيَ تِلْكَ الصِّفَاتِ مَعَ تَخْلِيَتِهِمْ إِيَّاهَا عَلَى مَجْرَاهَا، لَكِنْ لَمْ يُمَكِّنُوا نَهْرَهَا مِنْ إِفْسَادِ عُمْرَانِهِمْ. بَلِ اشْتَغَلُوا بِتَحْصِينِ الْعُمْرَانِ، وَإِحْكَامِ بِنَائِهِ وَأَسَاسِهِ وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ النَّهْرَ لَا بُدَّ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ. فَإِذَا وَصَلَ وَصَلَ إِلَى بِنَاءٍ مُحْكَمٍ فَلَمْ يَهْدِمْهُ. بَلْ أَخَذَ عَنْهُ يَمِينًا وَشِمَالًا. فَهَؤُلَاءِ صَرَفُوا قُوَّةَ عَزِيمَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ فِي الْعِمَارَةِ، وَإِحْكَامِ الْبِنَاءِ. وَأُولَئِكَ صَرَفُوهَا فِي قَطْعِ الْمَادَّةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ أَصْلِهَا، خَوْفًا مِنْ هَدْمِ الْبِنَاءِ.

وَسَأَلْتُ يَوْمًا شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَطْعِ الْآفَاتِ، وَالِاشْتِغَالِ بِتَنْقِيَةِ الطَّرِيقِ وَتَنْظِيفِهَا؟ فَقَالَ لِي جُمْلَةَ كَلَامِهِ: النَّفْسُ مِثْلُ الْبَاطُوسِ - وَهُوَ جُبُّ الْقَذَرِ - كُلَّمَا نَبَشْتَهُ ظَهَرَ وَخَرَجَ. وَلَكِنْ إِنْ أَمْكَنَكَ أَنْ تَسْقَفَ عَلَيْهِ، وَتَعْبُرَهُ وَتَجُوزَهُ، فَافْعَلْ، وَلَا تَشْتَغِلْ بِنَبْشِهِ. فَإِنَّكَ لَنْ تَصِلَ إِلَى قَرَارِهِ. وَكُلَّمَا نَبَشْتَ شَيْئًا ظَهَرَ غَيْرُهُ. فَقُلْتُ: سَأَلْتُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْضَ الشُّيُوخِ؟ فَقَالَ لِي: مِثَالُ آفَاتِ النَّفْسِ مِثَالُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ الَّتِي فِي طَرِيقِ الْمُسَافِرِ. فَإِنْ أَقْبَلَ عَلَى تَفْتِيشِ الطَّرِيقِ عَنْهَا، وَالِاشْتِغَالِ بِقَتْلِهَا: انْقَطَعَ. وَلَمْ يُمْكِنْهُ السَّفَرُ قَطُّ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ هِمَّتُكَ الْمَسِيرَ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا، وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا. فَإِذَا عَرَضَ لَكَ فِيهَا مَا يَعُوقُكَ عَنِ الْمَسِيرِ فَاقْتُلْهُ. ثُمَّ امْضِ عَلَى سَيْرِكَ. فَاسْتَحْسَنَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ذَلِكَ جِدًّا. وَأَثْنَى عَلَى قَائِلِهِ. إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا. فَهَذِهِ الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: رَأَتْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَا خُلِقَتْ سُدًى وَلَا عَبَثًا. وَأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَاءٍ يُسْقَى بِهِ الْوَرْدُ، وَالشَّوْكُ، وَالثِّمَارُ، وَالْحَطَبُ، وَأَنَّهَا صَوَّانٌ وَأَصْدَافٌ لِجَوَاهِرَ مُنْطَوِيَةٍ عَلَيْهَا. وَأَنَّ مَا خَافَ مِنْهَا أُولَئِكَ هُوَ نَفْسُ سَبَبِ الْفَلَاحِ وَالظَّفَرِ. فَرَأَوْا أَنَّ الْكِبْرَ نَهْرٌ يُسْقَى بِهِ الْعُلُوُّ وَالْفَخْرُ، وَالْبَطَرُ وَالظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ. وَيُسْقَى بِهِ عُلُوُّ الْهِمَّةِ، وَالْأَنَفَةُ، وَالْحَمِيَّةُ، وَالْمُرَاغَمَةُ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ، وَقَهْرُهُمْ وَالْعُلُوُّ عَلَيْهِمْ. وَهَذِهِ دُرَّةٌ فِي صَدَفَتِهِ. فَصَرَفُوا مَجْرَاهُ إِلَى هَذَا الْغِرَاسِ. وَاسْتَخْرَجُوا هَذِهِ الدُّرَّةَ مِنْ صَدَفَتِهِ. وَأَبْقَوْهُ عَلَى حَالِهِ فِي نُفُوسِهِمْ. لَكِنِ اسْتَعْمَلُوهُ حَيْثُ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ أَنْفَعَ. «وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا دُجَانَةَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. فَقَالَ: إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ، إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ» . فَانْظُرْ كَيْفَ خَلَّى مَجْرَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَهَذَا الْخُلُقِ يَجْرِي فِي أَحْسَنِ مَوَاضِعِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ - وَأَظُنُّهُ فِي الْمُسْنَدِ - «إِنَّ مِنَ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّهَا اللَّهُ. وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُهَا اللَّهُ. فَالْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ: اخْتِيَالُ الرَّجُلِ فِي الْحَرْبِ، وَعِنْدَ الصَّدَقَةِ» . فَانْظُرْ كَيْفَ صَارَتِ الصِّفَةُ الْمَذْمُومَةُ عُبُودِيَّةً؟ وَكَيْفَ اسْتَحَالَ الْقَاطِعُ مُوصِلًا؟ فَصَاحِبُ الرِّيَاضَاتِ، وَالْعَامِلُ بِطَرِيقِ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهِدَاتِ، وَالْخَلَوَاتِ: هَيْهَاتَ

هَيْهَاتَ، إِنَّمَا يُوقِعُهُ ذَلِكَ فِي الْآفَاتِ، وَالشُّبُهَاتِ، وَالضَّلَالَاتِ. فَإِنَّ تَزْكِيَةَ النُّفُوسِ مُسَلَّمٌ إِلَى الرُّسُلِ. وَإِنَّمَا بَعَثَهُمُ اللَّهُ لِهَذِهِ التَّزْكِيَةِ وَوَلَّاهُمْ إِيَّاهَا. وَجَعَلَهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ دَعْوَةً، وَتَعْلِيمًا وَبَيَانًا، وَإِرْشَادًا، لَا خَلْقًا وَلَا إِلْهَامًا. فَهُمُ الْمَبْعُوثُونَ لِعِلَاجِ نُفُوسِ الْأُمَمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2] وَقَالَ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ - فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151 - 152] . وَتَزْكِيَةُ النُّفُوسِ: أَصْعَبُ مِنْ عِلَاجِ الْأَبْدَانِ وَأَشَدُّ. فَمَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِالرِّيَاضَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَالْخَلْوَةِ، الَّتِي لَمْ يَجِئْ بِهَا الرُّسُلُ: فَهُوَ كَالْمَرِيضِ الَّذِي عَالَجَ نَفْسَهُ بِرَأْيِهِ، وَأَيْنَ يَقَعُ رَأْيُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الطَّبِيبِ؟ فَالرُّسُلُ أَطِبَّاءُ الْقُلُوبِ. فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَزْكِيَتِهَا وَصَلَاحِهَا إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِمْ. وَعَلَى أَيْدِيهِمْ، وَبِمَحْضِ الِانْقِيَادِ، وَالتَّسْلِيمِ لَهُمْ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ الْخُلُقُ كَسْبِيًّا، أَوْ هُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ الْكَسْبِ؟ . قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ كَسْبِيًّا بِالتَّخَلُّقِ وَالتَّكَلُّفِ. حَتَّى يَصِيرَ لَهُ سَجِيَّةً وَمَلَكَةً وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «إِنْ فِيكَ لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ. فَقَالَ: أَخُلُقَيْنَ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا. أَمْ جَبَلَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ: بَلْ جَبَلَكَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنَ الْخُلُقِ: مَا هُوَ طَبِيعَةٌ وَجِبِلَّةٌ، وَمَا هُوَ مُكْتَسَبٌ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ «اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ. لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ» فَذَكَرَ الْكَسْبَ وَالْقَدَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل معنى الخلق

[فَصْلٌ مَعْنَى الْخُلُقِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الْخُلُقُ: مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْمُتَكَلِّفُ مِنْ نِعْمَتِهِ. أَيْ خُلُقُ كُلِّ مُتَكَلِّفٍ: فَهُوَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ نُعُوتُهُ. فَتَكَلُّفُهُ يَرُدُّهُ إِلَى خُلُقِهِ. كَمَا قِيلَ: إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ. وَقَالَ الْآخَرُ: يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ ... وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ فَمُتَكَلِّفُ مَا لَيْسَ مِنْ نَعْتِهِ وَلَا شِيمَتِهِ: يَرْجِعُ إِلَى شِيمَتِهِ، وَنَعْتِهِ، وَسَجِيَّتِهِ. فَذَاكَ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ: هُوَ الْخُلُقُ. قَالَ وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ النَّاطِقِينَ فِي هَذَا الْعِلْمِ: أَنَّ التَّصَوُّفَ هُوَ الْخُلُقُ. وَجَمِيعُ الْكَلَامِ فِيهِ يَدُورُ عَلَى قُطْبٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى. قُلْتُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهَا ثَلَاثَةً: كَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى، وَإِيجَادُ الرَّاحَةِ. وَمِنْهُمْ: مَنْ يَجْعَلُهَا اثْنَيْنِ - كَمَا قَالَ الشَّيْخُ - بَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرُدُّهَا إِلَى وَاحِدٍ. وَهُوَ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ. وَالْكُلُّ صَحِيحٌ. قَالَ وَإِنَّمَا يُدْرَكُ إِمْكَانُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. فِي الْعِلْمِ، وَالْجُودِ، وَالصَّبْرِ. فَالْعِلْمُ يُرْشِدُهُ إِلَى مَوَاقِعِ بَذْلِ الْمَعْرُوفِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنْكَرِ، وَتَرْتِيبِهِ فِي وَضْعِهِ مَوَاضِعَهُ. فَلَا يَضَعُ الْغَضَبَ مَوْضِعَ الْحِلْمِ. وَلَا بِالْعَكْسِ، وَلَا الْإِمْسَاكَ مَوْضِعَ الْبَذْلِ، وَلَا بِالْعَكْسِ. بَلْ يَعْرِفُ مَوَاقِعَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمَرَاتِبَهَا، وَمَوْضِعَ كُلِّ خُلُقٍ: أَيْنَ يَضَعُهُ، وَأَيْنَ يُحْسِنُ اسْتِعْمَالَهُ. وَالْجُودُ يَبْعَثُهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ بِحُقُوقِ نَفْسِهِ، وَالِاسْتِقْصَاءِ مِنْهَا بِحُقُوقِ غَيْرِهِ. فَالْجُودُ هُوَ قَائِدُ جُيُوشِ الْخَيْرِ. وَالصَّبْرُ يَحْفَظُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةَ ذَلِكَ. وَيَحْمِلُهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَكَفِّ الْأَذَى، وَعَدَمِ الْمُقَابَلَةِ. وَعَلَى كُلِّ خَيْرٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَهُوَ أَكْبَرُ الْعَوْنِ عَلَى نَيْلِ كُلِّ مَطْلُوبٍ

فصل درجات الخلق

مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] . فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَشْيَاءَ: بِهَا يُدْرَكُ التَّصَوُّفُ، وَالتَّصَوُّفُ: زَاوِيَةٌ مِنْ زَوَايَا السُّلُوكِ الْحَقِيقِيِّ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِهَا. لِتَسْتَعِدَّ لِسَيْرِهَا إِلَى صُحْبَةِ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَمَعِيَّةِ مَنْ تُحِبُّهُ. فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ. كَمَا قَالَ سُمْنُونُ: ذَهَبَ الْمُحِبُّونَ بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْخَلْقِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى أَنْ تَعْرِفَ مَقَامَ الْخَلْقِ] فَصْلٌ قَالَ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تَعْرِفَ مَقَامَ الْخَلْقِ. وَأَنَّهُمْ بِأَقْدَارِهِمْ مَرْبُوطُونَ. وَفِي طَاقَتِهِمْ مَحْبُوسُونَ. وَعَلَى الْحُكْمِ مَوْقُوفُونَ. فَتَسْتَفِيدَ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَمْنَ الْخَلْقِ مِنْكَ، حَتَّى الْكَلَبِ. وَمَحَبَّةُ الْخَلْقِ إِيَّاكَ، وَنَجَاةُ الْخَلْقِ بِكَ. فَبِهَذِهِ الدَّرَجَةِ: يَكُونُ تَحْسِينُ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ، وَكَيْفِيَّةِ مُصَاحَبَتِهِمْ. وَبِالثَّانِيَةِ: تَحْسِينُ الْخُلُقِ مَعَ اللَّهِ فِي مُعَامَلَتِهِ. وَبِالثَّالِثَةِ: دَرَجَةُ الْفَنَاءِ عَلَى قَاعِدَتِهِ وَأَصْلِهِ. يَقُولُ: إِذَا عَرَفْتَ مَقَامَ الْخَلْقِ، وَمَقَادِيرَهُمْ، وَجَرَيَانَ الْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ مُقَيَّدُونَ بِالْقَدَرِ، لَا خُرُوجَ لَهُمْ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ، وَمَحْبُوسُونَ فِي قُدْرَتِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ. لَا يُمْكِنُهُمْ تَجَاوُزُهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَأَنَّهُمْ مَوْقُوفُونَ عَلَى الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ لَا يَتَعَدَّوْنَهُ، اسْتَفَدْتَ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَمْنَ الْخَلْقِ مِنْكَ. وَذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ. لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. وَامْتَثَلَ فِيهِمْ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخْذِ الْعَفْوِ مِنْهُمْ. فَأَمِنُوا مِنْ تَكْلِيفِهِ إِيَّاهُمْ. وَإِلْزَامِهِ لَهُمْ مَا لَيْسَ فِي قُوَاهُمْ وَقُدَرِهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ يَأْمَنُونَ لَائِمَتَهُ. فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ عَاذِرٌ لَهُمْ فِيمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ فِيمَا لَمْ يَأْمُرِ الشَّرْعُ بِإِقَامَتِهِ فِيهِمْ. لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مَحْبُوسِينَ فِي طَاقَتِهِمْ فَيَنْبَغِي مُطَالَبَتُهُمْ بِمَا يُطَالَبُ بِهِ الْمَحْبُوسُ، وَعُذْرُهُمْ بِمَا يُعْذَرُ بِهِ الْمَحْبُوسُ. وَإِذَا بَدَا مِنْهُمْ فِي حَقِّكَ تَقْصِيرٌ أَوْ إِسَاءَةٌ، أَوْ تَفْرِيطٌ. فَلَا تُقَابِلْهُمْ بِهِ وَلَا تُخَاصِمْهُمْ. بَلِ اغْفِرْ لَهُمْ ذَلِكَ

مشاهد العبد فيما يصيبه من أذى الخلق

وَاعْذُرْهُمْ. نَظَرًا إِلَى جَرَيَانِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ آلَةٌ. وَهَاهُنَا يَنْفَعُكَ الْفَنَاءُ بِشُهُودِ الْحَقِيقَةِ عَنْ شُهُودِ جِنَايَتِهِمْ عَلَيْكَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ لِرَجُلٍ تَعَدَّى عَلَيْهِ وَظَلَمَهُ: إِنْ كُنْتَ ظَالِمًا فَالَّذِي سَلَّطَكَ عَلَيَّ لَيْسَ بِظَالِمٍ. [مَشَاهِدُ الْعَبْدِ فِيمَا يُصِيبُهُ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ] [الْمَشْهَدُ الْأَوَّلُ مَشْهَدُ الْقَدَرِ] وَهَاهُنَا لِلْعَبْدِ أَحَدَ عَشَرَ مَشْهَدًا فِيمَا يُصِيبُهُ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ وَجِنَايَتِهِمْ عَلَيْهِ. أَحَدُهَا: الْمَشْهَدُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهُوَ مَشْهَدُ الْقَدَرِ وَأَنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. فَيَرَاهُ كَالتَّأَذِّي بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالْمَرَضِ وَالْأَلَمِ، وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَانْقِطَاعِ الْأَمْطَارِ. فَإِنَّ الْكُلَّ أَوْجَبَتْهُ مَشِيئَةُ اللَّهِ. فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ. وَوَجَبَ وُجُودُهُ. وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَامْتَنَعَ وُجُودُهُ. وَإِذَا شَهِدَ هَذَا: اسْتَرَاحَ. وَعَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. فَمَا لِلْجَزَعِ مِنْهُ وَجْهٌ. وَهُوَ كَالْجَزَعِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَرَضِ وَالْمَوْتِ. [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الثَّانِي مَشْهَدُ الصَّبْرِ] فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الثَّانِي: مَشْهَدُ الصَّبْرِ فَيَشْهَدُهُ وَيَشْهَدُ وُجُوبَهُ، وَحُسْنَ عَاقِبَتِهِ، وَجَزَاءَ أَهْلِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْغِبْطَةِ وَالسُّرُورِ. وَيُخَلِّصُهُ مِنْ نَدَامَةِ الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ. فَمَا انْتَقَمَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ قَطُّ إِلَّا أَعْقَبَهُ ذَلِكَ نَدَامَةٌ. وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصْبِرِ اخْتِيَارًا عَلَى هَذَا - وَهُوَ مَحْمُودٌ - صَبَرَ اضْطَرَارًا عَلَى أَكْبَرَ مِنْهُ. وَهُوَ مَذْمُومٌ. [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الثَّالِثُ مَشْهَدُ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ] فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الثَّالِثُ: مَشْهَدُ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ فَإِنَّهُ مَتَى شَهِدَ ذَلِكَ وَفَضْلَهُ وَحَلَاوَتَهُ وَعِزَّتَهُ: لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ إِلَّا لِعَشًى فِي بَصِيرَتِهِ. فَإِنَّهُ «مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا» كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعُلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْوُجُودِ. وَمَا انْتَقَمَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ إِلَّا ذَلَّ. هَذَا، وَفِي الصَّفْحِ وَالْعَفْوِ وَالْحِلْمِ: مِنَ الْحَلَاوَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ، وَشَرَفِ النَّفْسِ، وَعِزِّهَا وَرِفْعَتِهَا عَنْ تَشَفِّيهَا بِالِانْتِقَامِ: مَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ. [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الرَّابِعُ مَشْهَدُ الرِّضَا] فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الرَّابِعُ: مَشْهَدُ الرِّضَا وَهُوَ فَوْقَ مَشْهَدِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلنُّفُوسِ الْمُطْمَئِنَّةِ، سِيَّمَا إِنْ كَانَ مَا أُصِيبَتْ بِهِ سَبَبُهُ الْقِيَامُ لِلَّهِ. فَإِذَا كَانَ مَا أُصِيبَ بِهِ

فصل المشهد الخامس مشهد الإحسان

فِي اللَّهِ، وَفِي مَرْضَاتِهِ وَمَحَبَّتِهِ: رَضِيَتْ بِمَا نَالَهَا فِي اللَّهِ. وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُحِبٍّ صَادِقٍ، يَرْضَى بِمَا يَنَالُهُ فِي رِضَا مَحْبُوبِهِ مِنَ الْمَكَارِهِ. وَمَتَى تَسَخَّطَ بِهِ وَتَشَكَّى مِنْهُ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِ فِي مَحَبَّتِهِ. وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ كَمَا قِيلَ: مِنْ أَجْلِكَ جَعَلْتُ خَدِّيَ أَرْضًا ... لِلشَّامِتِ وَالْحَسُودِ حَتَّى تَرْضَى وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِمَا يُصِيبُهُ فِي سَبِيلِ مَحْبُوبِهِ، فَلْيَنْزِلْ عَنْ دَرَجَةِ الْمَحَبَّةِ. وَلْيَتَأَخَّرْ فَلَيْسَ مِنْ ذَا الشَّأْنِ. [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الْخَامِسُ مَشْهَدُ الْإِحْسَانِ] فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الْخَامِسُ: مَشْهَدُ الْإِحْسَانِ وَهُوَ أَرْفَعُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَهُوَ أَنْ يُقَابِلَ إِسَاءَةَ الْمُسِيءِ إِلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ. فَيُحْسِنَ إِلَيْهِ كُلَّمَا أَسَاءَ هُوَ إِلَيْهِ. وَيُهَوِّنُ هَذَا عَلَيْهِ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ قَدْ رَبِحَ عَلَيْهِ. وَأَنَّهُ قَدْ أَهْدَى إِلَيْهِ حَسَنَاتِهِ، وَمَحَاهَا مِنْ صَحِيفَتِهِ. وَأَثْبَتَهَا فِي صَحِيفَةِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ. فَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَشْكُرَهُ، وَتُحْسِنَ إِلَيْهِ بِمَا لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى مَا أَحْسَنَ بِهِ إِلَيْكَ. وَهَاهُنَا يَنْفَعُ اسْتِحْضَارُ مَسْأَلَةِ اقْتِضَاءِ الْهِبَةِ الثَّوَابِ. وَهَذَا الْمِسْكِينُ قَدْ وَهَبَكَ حَسَنَاتِهِ. فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْكَرَمِ فَأَثِبْهُ عَلَيْهَا، لِتُثْبِتَ الْهِبَةَ. وَتَأْمَنَ رُجُوعَ الْوَاهِبِ فِيهَا. وَفِي هَذَا حِكَايَاتٌ مَعْرُوفَةٌ عَنْ أَرْبَابِ الْمَكَارِمِ. وَأَهْلِ الْعَزَائِمِ. وَيُهَوِّنُهُ عَلَيْكَ أَيْضًا: عِلْمُكَ بِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا عَمَلَكَ فِي إِسَاءَةِ الْمَخْلُوقِ إِلَيْكَ عَفَوْتَ عَنْهُ. وَأَحْسَنْتَ إِلَيْهِ، مَعَ حَاجَتِكَ وَضَعْفِكَ وَفَقْرِكَ وَذَلِكَ. فَهَكَذَا يَفْعَلُ الْمُحْسِنُ الْقَادِرُ الْعَزِيزُ الْغَنِيُّ بِكَ فِي إِسَاءَتِكَ. يُقَابِلُهَا بِمَا قَابَلْتَ بِهِ إِسَاءَةَ عَبْدِهِ إِلَيْكَ. فَهَذَا لَا بُدَّ‍ مِنْهُ. وَشَاهِدُهُ فِي السُّنَّةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا. [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ السَّادِسُ مَشْهَدُ السَّلَامَةِ وَبَرْدِ الْقَلْبِ] فَصْلٌ الْمَشْهَدُ السَّادِسُ: مَشْهَدُ السَّلَامَةِ وَبَرْدِ الْقَلْبِ وَهَذَا مَشْهَدٌ شَرِيفٌ جِدًّا لِمَنْ عَرَفَهُ، وَذَاقَ حَلَاوَتَهُ. وَهُوَ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ وَسِرُّهُ بِمَا نَالَهُ مِنَ الْأَذَى، وَطَلَبِ الْوُصُولِ إِلَى دَرْكِ ثَأْرِهِ، وَشِفَاءِ نَفْسِهِ. بَلْ يُفَرِّغُ قَلْبَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَيَرَى أَنَّ سَلَامَتَهُ وَبَرْدَهُ وَخُلُوَّهُ مِنْهُ أَنْفَعُ لَهُ. وَأَلَذُّ وَأَطْيَبُ. وَأَعْوَنُ عَلَى مَصَالِحِهِ. فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ فَاتَهُ مَا هُوَ أَهَمُّ عِنْدَهُ، وَخَيْرٌ لَهُ مِنْهُ. فَيَكُونُ بِذَلِكَ مَغْبُونًا. وَالرَّشِيدُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ. وَيَرَى أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ السَّفِيهِ. فَأَيْنَ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنِ امْتِلَائِهِ بِالْغِلِّ وَالْوَسَاوِسِ، وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي إِدْرَاكِ الِانْتِقَامِ؟ .

فصل المشهد السابع مشهد الأمن

[فَصْلٌ الْمَشْهَدُ السَّابِعُ مَشْهَدُ الْأَمْنِ] فَصْلٌ الْمَشْهَدُ السَّابِعُ: مَشْهَدُ الْأَمْنِ فَإِنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْمُقَابَلَةَ وَالِانْتِقَامَ: أَمِنَ مَاهُّو شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا انْتَقَمَ: وَاقَعَهُ الْخَوْفُ وَلَا بُدَّ. فَإِنَّ ذَلِكَ يَزْرَعُ الْعَدَاوَةَ. وَالْعَاقِلُ لَا يَأْمَنُ عَدُوَّهُ، وَلَوْ كَانَ حَقِيرًا. فَكَمْ مِنْ حَقِيرٍ أَرْدَى عَدُوَّهُ الْكَبِيرَ؟ فَإِذَا غَفَرَ، وَلَمْ يَنْتَقِمْ، وَلَمْ يُقَابِلْ: أَمِنَ مِنْ تَوَلُّدِ الْعَدَاوَةِ، أَوْ زِيَادَتِهَا. وَلَا بُدَّ أَنَّ عَفْوَهُ وَحِلْمَهُ وَصَفْحَهُ يَكْسِرُ عَنْهُ شَوْكَةَ عَدُوِّهِ. وَيَكُفُّ مِنْ جَزَعِهِ، بِعَكْسِ الِانْتِقَامِ. وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ أَيْضًا. [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الثَّامِنُ مَشْهَدُ الْجِهَادِ] فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الثَّامِنُ: مَشْهَدُ الْجِهَادِ وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ تَوَلُّدَ أَذَى النَّاسِ لَهُ مِنْ جِهَادِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ. وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَإِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَاتِهِ. وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ: قَدِ اشْتَرَى اللَّهُ مِنْهُ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَعِرْضَهُ بِأَعْظَمِ الثَّمَنِ. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ فَلْيُسَلِّمْ هُوَ السِّلْعَةَ لِيَسْتَحِقَّ ثَمَنَهَا. فَلَا حَقَّ لَهُ عَلَى مَنْ آذَاهُ. وَلَا شَيْءَ لَهُ قَبْلَهُ، إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَ بِعَقْدِ هَذَا التَّبَايُعِ. فَإِنَّهُ قَدْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَهَذَا ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَلِهَذَا «مَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ سُكْنَى مَكَّةَ - أَعَزَّهَا اللَّهُ - وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ دَارَهُ وَلَا مَالَهُ الَّذِي أَخَذَهُ الْكُفَّارُ. وَلَمْ يُضَمِّنْهُمْ دِيَةَ مَنْ قَتَلُوهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَلَمَّا عَزَمَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى تَضْمِينِ أَهْلِ الرِّدَّةِ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ. قَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - بِمَشْهَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تِلْكَ دِمَاءٌ وَأَمْوَالٌ ذَهَبَتْ فِي اللَّهِ. وَأُجُورُهَا عَلَى اللَّهِ، وَلَا دِيَةَ لِشَهِيدٍ فَأَصْفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ. وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الصِّدِّيقُ. فَمَنْ قَامَ لِلَّهِ حَتَّى أُوذِيَ فِي اللَّهِ: حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الِانْتِقَامَ. كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] . [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ التَّاسِعُ مَشْهَدُ النِّعْمَةِ] فَصْلٌ الْمَشْهَدُ التَّاسِعُ: مَشْهَدُ النِّعْمَةِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَشْهَدَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي أَنْ جَعَلَهُ مَظْلُومًا يَتَرَقَّبُ النَّصْرَ. وَلَمْ يَجْعَلْهُ ظَالِمًا

فصل المشهد العاشر مشهد الأسوة

يَتَرَقَّبُ الْمَقْتَ وَالْأَخْذَ. فَلَوْ خُيِّرَ الْعَاقِلُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ - وَلَا بُدَّ مِنْ إِحْدَاهُمَا - لَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْهَدَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ مِنْ خَطَايَاهُ. فَإِنَّهُ مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنَ هَمٌّ وَلَا غَمٌّ وَلَا أَذًى إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ خَطَايَاهُ. فَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ دَوَاءٌ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْهُ دَاءُ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ. وَمَنْ رَضِيَ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ بِأَدْوَائِهِ كُلِّهَا وَأَسْقَامِهِ، وَلَمْ يُدَاوِهِ فِي الدُّنْيَا بِدَوَاءٍ يُوجِبُ لَهُ الشِّفَاءَ: فَهُوَ مَغْبُونٌ سَفِيهٌ. فَأَذَى الْخَلْقِ لَكَ كَالدَّوَاءِ الْكَرِيهِ مِنَ الطَّبِيبِ الْمُشْفِقِ عَلَيْكَ. فَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَرَارَةِ الدَّوَاءِ وَكَرَاهَتِهِ وَمَنْ كَانَ عَلَى يَدَيْهِ. وَانْظُرْ إِلَى شَفَقَةِ الطَّبِيبِ الَّذِي رَكَّبَهُ لَكَ، وَبَعَثَهُ إِلَيْكَ عَلَى يَدَيْ مَنْ نَفْعَكَ بِمَضَرَّتِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْهَدَ كَوْنَ تِلْكَ الْبَلِيَّةِ أَهْوَنَ وَأَسْهَلَ مِنْ غَيْرِهَا. فَإِنَّهُ مَا مِنْ مِحْنَةٍ إِلَّا وَفَوْقَهَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا وَأَمَرُّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَوْقَهَا مِحْنَةٌ فِي الْبَدَنِ وَالْمَالِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى سَلَامَةِ دِينِهِ وَإِسْلَامِهِ وَتَوْحِيدِهِ. وَأَنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ دُونَ مُصِيبَةِ الدِّينِ فَهَيِّنَةٌ. وَأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ نِعْمَةٌ. وَالْمُصِيبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ مُصِيبَةُ الدِّينِ. وَمِنْهَا: تَوَفِيَةُ أَجْرِهَا وَثَوَابِهَا يَوْمَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: أَنَّهُ يَتَمَنَّى أُنَاسٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ، لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاءِ. هَذَا. وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَشْتَدُّ فَرَحُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا لَهُ قِبَلَ النَّاسِ مِنَ الْحُقُوقِ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالْعِرْضِ. فَالْعَاقِلُ يَعُدُّ هَذَا ذُخْرًا لِيَوْمِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ. وَلَا يُبْطِلُهُ بِالِانْتِقَامِ الَّذِي لَا يُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا. [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الْعَاشِرُ مَشْهَدُ الْأُسْوَةِ] فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الْعَاشِرُ: مَشْهَدُ الْأُسْوَةِ وَهُوَ مَشْهَدٌ شَرِيفٌ لَطِيفٌ جِدًّا. فَإِنَّ الْعَاقِلَ اللَّبِيبَ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَهُ أُسْوَةٌ بِرُسُلِ اللَّهِ، وَأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَخَاصَّتِهِ مِنْ خَلْقِهِ. فَإِنَّهُمْ

فصل المشهد الحادي عشر مشهد التوحيد

أَشَدُّ الْخَلْقِ امْتِحَانًا بِالنَّاسِ، وَأَذَى النَّاسِ إِلَيْهِمْ أَسْرَعُ مِنَ السَّيْلِ فِي الْحُدُورِ. وَيَكْفِي تَدَبُّرُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - مَعَ أُمَمِهِمْ وَشَأْنِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذَى أَعْدَائِهِ لَهُ بِمَا لَمْ يُؤْذَهُ مَنْ قَبْلَهُ. «وَقَدْ قَالَ لَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لَتُكَذَّبَنَّ وَلَتُخْرَجَنَّ وَلَتُؤْذَيَنَّ. وَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ. وَهَذَا مُسْتَمِرٌّ فِي وَرَثَتِهِ كَمَا كَانَ فِي مُوَرِّثِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» أَفَلَا يَرْضَى الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أُسْوَةٌ بِخِيَارِ خَلْقِ اللَّهِ، وَخَوَاصِّ عِبَادِهِ: الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ؟ . وَمَنْ أَحَبَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَلْيَقِفْ عَلَى مِحَنِ الْعُلَمَاءِ، وَأَذَى الْجُهَّالِ لَهُمْ. وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كِتَابًا سَمَّاهُ مِحَنَ الْعُلَمَاءِ. [فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الْحَادِيَ عَشَرَ مَشْهَدُ التَّوْحِيدِ] فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الْحَادِيَ عَشَرَ: مَشْهَدُ التَّوْحِيدِ وَهُوَ أَجَلُّ الْمَشَاهِدِ وَأَرْفَعُهَا. فَإِذَا امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَمُعَامَلَتِهِ، وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَقُرَّةِ الْعَيْنِ بِهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ. وَسَكَنَ إِلَيْهِ. وَاشْتَاقَ إِلَى لِقَائِهِ، وَاتَّخَذَهُ وَلِيًّا دُونَ مَنْ سِوَاهُ، بِحَيْثُ فَوَّضَ إِلَيْهِ أُمُورَهُ كُلَّهَا. وَرَضِيَ بِهِ وَبِأَقْضِيَتِهِ. وَفَنِيَ بِحُبِّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَذِكْرِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ: فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مُتَّسَعٌ لِشُهُودِ أَذَى النَّاسِ لَهُ أَلْبَتَّةَ. فَضْلًا عَنْ أَنْ يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ وَفِكْرُهُ وَسِرُّهُ بِتَطَلُّبِ الِانْتِقَامِ وَالْمُقَابَلَةِ. فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قَلْبٍ لَيْسَ فِيهِ مَا يُغْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ وَيُعَوِّضُهُ مِنْهُ. فَهُوَ قَلْبٌ جَائِعٌ غَيْرُ شَبْعَانَ. فَإِذَا رَأَى أَيَّ طَعَامٍ رَآهُ هَفَّتْ إِلَيْهِ نَوَازِعُهُ. وَانْبَعَثَتْ إِلَيْهِ دَوَاعِيهِ. وَأَمَّا مَنِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِأَعْلَى الْأَغْذِيَةِ وَأَشْرَفِهَا: فَإِنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا دُونَهَا. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ يَسْتَفِيدَ بِمَعْرِفَةِ أَقْدَارِ النَّاسِ، وَجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ: مَحَبَّتَهُمْ لَهُ، وَنَجَاتَهُمْ بِهِ. فَلِأَنَّهُ إِذَا عَامَلَهُمْ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ: مِنْ إِقَامَةِ أَعْذَارِهِمْ، وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَتَرْكِ مُقَابَلَتِهِمُ: اسْتَوَتْ كَرَاهَتُهُمْ وَمَحَبَّتُهُمْ لَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنَجَاتِهِمُ الْأُخْرَوِيَّةِ أَيْضًا. إِذْ

فصل الدرجة الثانية تحسين خلقك مع الحق

يُرْشِدُهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْقَبُولِ مِنْهُ. وَتَلَقِّي مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ أَحْسَنَ التَّلَقِّي. هَذِهِ طِبَاعُ النَّاسِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تَحْسِينُ خُلُقِكَ مَعَ الْحَقِّ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَحْسِينُ خُلُقِكَ مَعَ الْحَقِّ. وَتَحْسِينُهُ مِنْكَ: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا يَأْتِي مِنْكَ يُوجِبُ عُذْرًا، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَأْتِي مِنَ الْحَقِّ يُوجِبُ شُكْرًا، وَأَنْ لَا تَرَى لَهُ مِنَ الْوَفَاءِ بُدًّا. هَذِهِ الدَّرَجَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّكَ نَاقِصٌ. وَكُلُّ مَا يَأْتِي مِنَ النَّاقِصِ نَاقِصٌ. فَهُوَ يُوجِبُ اعْتِذَارَهُ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ. فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَتَعَذَّرَ إِلَى رَبِّهِ مِنْ كُلِّ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. أَمَّا الشَّرُّ: فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْخَيْرُ: فَيَعْتَذِرُ مِنْ نُقْصَانِهِ. وَلَا يَرَاهُ صَالِحًا لِرَبِّهِ. فَهُوَ - مَعَ إِحْسَانِهِ - مُعْتَذِرٌ فِي إِحْسَانِهِ. وَلِذَلِكَ مَدَحَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ بِالْوَجَلِ مِنْهُ مَعَ إِحْسَانِهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُ. وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ» فَإِذَا خَافَ فَهُوَ بِالِاعْتِذَارِ أَوْلَى. وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الِاعْتِذَارِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: شُهُودُ تَقْصِيرِهِ وَنُقْصَانِهِ. وَالثَّانِي: صِدْقُ مَحَبَّتِهِ. فَإِنَّ الْمُحِبَّ الصَّادِقَ يَتَقَرَّبُ إِلَى مَحْبُوبِهِ بِغَايَةِ إِمْكَانِهِ. وَهُوَ مُعْتَذِرٌ إِلَيْهِ، مُسْتَحْيٍ مِنْهُ: أَنْ يُوَاجِهَهُ بِمَا وَاجَهَهُ بِهِ. وَهُوَ يَرَى أَنَّ قَدْرَهُ فَوْقَهُ وَأَجَلُّ مِنْهُ. وَهَذَا مُشَاهَدٌ فِي مَحَبَّةِ الْمَخْلُوقِينَ. الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتِعْظَامُ كُلِّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ إِلَيْكَ، وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ يُوجِبُ الشُّكْرَ عَلَيْكَ، وَأَنَّكَ عَاجِزٌ عَنْ شُكْرِهِ. وَلَا يَتَبَيَّنُ هَذَا إِلَّا فِي الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ. فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَسْتَكْثِرُ مِنْ مَحْبُوبِهِ كُلَّ مَا يَنَالُهُ. فَإِذَا ذَكَرَهُ بِشَيْءٍ وَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ: كَانَ سُرُورُهُ بِذِكْرِهِ لَهُ، وَتَأْهِيلِهِ لِعَطَائِهِ: أَعْظَمَ عِنْدَهُ مِنْ سُرُورِهِ بِذَلِكَ الْعَطَاءِ بَلْ يَغِيبُ بِسُرُورِهِ بِذِكْرِهِ لَهُ عَنْ سُرُورِهِ بِالْعَطِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُحِبُّ يَسُرُّهُ ذِكْرُ مَحْبُوبِهِ لَهُ، وَإِنْ نَالَهُ بِمَسَاءَةٍ. كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

فصل الدرجة الثالثة التخلق بتصفية الخلق

لَئِنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتَنِي بِمُسَاءَةٍ ... لَقَدْ سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكَا فَكَيْفَ إِذَا نَالَهُ مَحْبُوبُهُ بِمَسَرَّةٍ - وَإِنْ دَقَّتْ - فَإِنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا جَلِيلَةً خَطِيرَةً. فَكَيْفَ هَذَا مَعَ الرَّبِّ تَعَالَى الَّذِي لَا يَأْتِي أَبَدًا إِلَّا بِالْخَيْرِ؟ وَيَسْتَحِيلُ خِلَافُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ. كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ خِلَافُ كَمَالِهِ. وَقَدْ أَفْصَحَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِرَبِّهِ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ: «وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» أَيْ لَا يُضَافُ إِلَيْكَ. وَلَا يُنْسَبُ إِلَيْكَ. وَلَا يَصْدُرُ مِنْكَ. فَإِنَّ أَسْمَاءَهُ كُلَّهَا حُسْنَى، وَصِفَاتِهِ كُلَّهَا كَمَالٌ، وَأَفْعَالَهُ كُلَّهَا فَضْلٌ وَعَدْلٌ، وَحِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ. فَبِأَيِّ وَجْهٍ يُنْسَبُ الشَّرُّ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ فَكُلُّ مَا يَأْتِي مِنْهُ فَلَهُ عَلَيْهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ. وَلَهُ فِيهِ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ. قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا يَرَى مِنَ الْوَفَاءِ بُدًّا. يَعْنِي: أَنَّ مُعَامَلَتَكَ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِمُقْتَضَى الِاعْتِذَارِ مِنْ كُلِّ مَا مِنْكَ، وَالشُّكْرِ عَلَى مَا مِنْهُ - عَقْدٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَازِمٌ لَكَ أَبَدًا، لَا تَرَى مِنَ الْوَفَاءِ بِهِ بُدًّا. فَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَمْرٍ عَارِضٍ، وَحَالٍ يُحَوَّلُ. بَلْ عَقْدٌ لَازِمٌ عَلَيْكَ الْوَفَاءُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ التَّخَلُّقُ بِتَصْفِيَةِ الْخُلُقِ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: التَّخَلُّقُ بِتَصْفِيَةِ الْخُلُقِ. ثُمَّ الصُّعُودُ عَنْ تَفْرِقَةِ التَّخَلُّقِ. ثُمَّ التَّخَلُّقُ بِمُجَاوَزَةِ الْأَخْلَاقِ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: تَصْفِيَةُ الْخُلُقِ بِتَكْمِيلِ مَا ذُكِرَ فِي الدَّرَجَتَيْنِ قَبْلَهُ. فَيُصَفِّيهِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ وَقَذًى وَمُشَوِّشٍ. فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ صَعِدْتَ مِنْ تَفْرِقَتِهِ إِلَى جَمْعِيَّتِكَ عَلَى اللَّهِ. فَإِنَّ التَّخَلُّقَ وَالتَّصَوُّفَ تَهْذِيبٌ وَاسْتِعْدَادٌ لِلْجَمْعِيَّةِ. وَإِنَّمَا سَمَّاهُ تَفْرِقَةً: لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِالْغَيْرِ. وَالسُّلُوكُ يَقْتَضِي الْإِقْبَالَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالِاشْتِغَالَ بِالرَّبِّ وَحْدَهُ عَمَّا سِوَاهُ. ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ. وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْأَخْلَاقِ كُلِّهَا بِأَنْ يَغِيبَ عَنِ الْخَلْقِ وَالتَّخَلُّقِ. وَهَذِهِ الْغَيْبَةُ لَهَا مَرْتَبَتَانِ عِنْدَهُمْ. إِحْدَاهُمَا: الِاشْتِغَالُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَالثَّانِيَةُ: الْفَنَاءُ فِي الْفَرْدَانِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا حَضْرَةَ الْجَمْعِ وَهِيَ أَعْلَى الْغَايَاتِ

فصل مدار حسن الخلق مع الحق

عِنْدَهُمْ. وَهِيَ مَوْهِبِيَّةٌ لَا كَسَبِيَّةٌ. لَكِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَعَرَّضَ وَصَدَقَ فِي الطَّلَبِ: رُجِيَ لَهُ الظَّفَرُ بِمَطْلُوبِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَدَارُ حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ الْحَقِّ] فَصْلٌ وَمَدَارُ حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ الْحَقِّ، وَمَعَ الْخَلْقِ: عَلَى حَرْفَيْنِ. ذَكَرَهُمَا عَبْدُ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيُّ فَقَالَ: كُنْ مَعَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ. وَمَعَ الْخَلْقِ بِلَا نَفْسٍ. فَتَأَمَّلْ. مَا أَجَلَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، مَعَ اخْتِصَارِهِمَا، وَمَا أَجْمَعَهُمَا لِقَوَاعِدِ السُّلُوكِ وَلِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ؟ وَفَسَادُ الْخُلُقِ إِنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ تَوَسُّطِ الْخَلْقِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَوَسُّطِ النَّفْسِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ خَلْقِهِ. فَمَتَى عَزَلْتَ الْخَلْقَ - حَالَ كَوْنِكَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى - وَعَزَلْتَ النَّفْسَ - حَالَ كَوْنِكَ مَعَ الْخَلْقِ - فَقَدْ فُزْتَ بِكُلِّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقَوْمُ. وَشَمَّرُوا إِلَيْهِ. وَحَامُوا حَوْلَهُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّوَاضِعِ] [التَّوَاضُعُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّوَاضِعِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ التَّوَاضُعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] أَيْ سَكِينَةً وَوَقَارًا مُتَوَاضِعِينَ، غَيْرَ أَشِرِينَ، وَلَا مَرِحِينَ وَلَا مُتَكَبِّرِينَ. قَالَ الْحَسَنُ: عُلَمَاءُ حُلَمَاءُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: أَصْحَابُ وَقَارٍ وَعِفَّةٍ لَا يَسْفَهُونَ. وَإِنْ سُفِهَ عَلَيْهِمْ حَلُمُوا. وَالْهَوْنُ بِالْفَتْحِ فِي اللُّغَةِ: الرِّفْقُ وَاللِّينُ. وَالْهُونُ بِالضَّمِّ: الْهَوَانُ. فَالْمَفْتُوحُ مِنْهُ: صِفَةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَالْمَضْمُومُ: صِفَةُ أَهْلِ الْكُفْرَانِ. وَجَزَاؤُهُمْ مِنَ اللَّهِ النِّيرَانُ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] . لَمَّا كَانَ الذُّلُّ مِنْهُمْ ذُلَّ رَحْمَةٍ وَعَطْفٍ وَشَفَقَةٍ وَإِخْبَاتٍ عَدَّاهُ بِأَدَاةِ عَلَى تَضْمِينًا لِمَعَانِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ. فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذُلَّ الْهَوَانِ الَّذِي صَاحِبُهُ ذَلِيلٌ. وَإِنَّمَا هُوَ ذُلُّ اللِّينِ وَالِانْقِيَادِ الَّذِي صَاحِبُهُ ذَلُولٌ، فَالْمُؤْمِنُ ذَلُولٌ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْمُؤْمِنِ كَالْجَمَلِ الذَّلُولِ. وَالْمُنَافِقُ

وَالْفَاسِقُ ذَلِيلٌ» وَأَرْبَعَةٌ يَعْشَقُهُمُ الذُّلُّ أَشَدَّ الْعِشْقِ: الْكَذَّابُ. وَالنَّمَّامُ. وَالْبَخِيلُ. وَالْجَبَّارُ. وَقَوْلُهُ: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] هُوَ مِنْ عِزَّةِ الْقُوَّةِ وَالْمَنَعَةِ وَالْغَلَبَةِ. قَالَ عَطَاءٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْوَالِدِ لِوَلَدِهِ. وَعَلَى الْكَافِرِينَ كَالسَّبُعِ عَلَى فَرِيسَتِهِ. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وَهَذَا عَكْسُ حَالِ مَنْ قِيلَ فِيهِمْ: كِبْرًا عَلَيْنَا، وَجُبْنًا عَنْ عَدُوِّكُمُ ... لَبِئْسَتِ الْخِلَّتَانِ: الْكِبْرُ، وَالْجُبْنُ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ» . وَفِي حَدِيثِ احْتِجَاجِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ «أَنَّ النَّارَ قَالَتْ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا الْجَبَّارُونَ،

وَالْمُتَكَبِّرُونَ؟ وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقْطُهُمْ» . وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْعِزَّةُ إِزَارِي. وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي. فَمَنْ نَازَعَنِي عَذَّبْتُهُ» . وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ فِي دِيوَانِ الْجَبَّارِينَ. فَيُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ» . «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ عَلَى الصِّبْيَانِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ» . «وَكَانَتِ الْأَمَةُ تَأْخُذُ بِيَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ.» «وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَلَ لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ» . «وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ فِي خِدْمَةِ أَهْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ قَطُّ» .

وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ، وَيَحْلِبُ الشَّاةَ لِأَهْلِهِ، وَيَعْلِفُ الْبَعِيرَ وَيَأْكُلُ مَعَ الْخَادِمِ. وَيُجَالِسُ الْمَسَاكِينَ، وَيَمْشِي مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْيَتِيمِ فِي حَاجَتِهِمَا، وَيَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ مَنْ دَعَاهُ. وَلَوْ إِلَى أَيْسَرِ شَيْءٍ» . «وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَيِّنَ الْمُؤْنَةِ، لَيِّنَ الْخُلُقِ. كَرِيمَ الطَّبْعِ. جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ. طَلْقَ الْوَجْهِ بَسَّامًا، مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ ذِلَّةٍ، جَوَادًا مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، رَقِيقَ الْقَلْبِ رَحِيمًا بِكُلِّ مُسْلِمٍ خَافِضَ الْجَنَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيِّنَ الْجَانِبِ لَهُمْ» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ - أَوْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ - تَحْرُمُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ - أَوْ كُرَاعٍ - لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ - أَوْ كُرَاعٌ - لَقَبِلْتُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

فصل أقوال العلماء في التواضع

وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَعُودُ الْمَرِيضَ. وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ. وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ» . «وَكَانَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ» . [فَصْلٌ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي التَّوَاضُعِ] فَصْلٌ سُئِلَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنِ التَّوَاضُعِ؟ فَقَالَ: يَخْضَعُ لِلْحَقِّ، وَيَنْقَادُ لَهُ. وَيَقْبَلُهُ مِمَّنْ قَالَهُ. وَقِيلَ: التَّوَاضُعُ أَنْ لَا تَرَى لِنَفْسِكَ قِيمَةً. فَمَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ قِيمَةً فَلَيْسَ لَهُ فِي التَّوَاضُعِ نَصِيبٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْفُضَيْلِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: هُوَ خَفْضُ الْجَنَاحِ، وَلِينُ الْجَانِبِ. وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ: هُوَ أَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ مَقَامًا وَلَا حَالًا. وَلَا يَرَى فِي الْخَلْقِ شَرًّا مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: هُوَ قَبُولُ الْحَقِّ مِمَّنْ كَانَ. وَالْعِزُّ فِي التَّوَاضُعِ. فَمَنْ طَلَبَهُ فِي الْكِبْرِ فَهُوَ كَتَطَلُّبِ الْمَاءِ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَيْبَانَ: الشَّرَفُ فِي التَّوَاضُعِ. وَالْعِزُّ فِي التَّقْوَى. وَالْحُرِّيَّةُ فِي الْقَنَاعَةِ. وَيُذْكَرُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ قَالَ: أَعَزُّ الْخَلْقِ خَمْسَةُ أَنْفُسٍ: عَالِمٌ زَاهِدٌ وَفَقِيهٌ صُوفِيٌّ. وَغَنِيٌّ مُتَوَاضِعٌ. وَفَقِيرٌ شَاكِرٌ. وَشَرِيفٌ سُنِّيٌّ.

وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَاتِقِهِ قِرْبَةُ مَاءٍ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يَنْبَغِي لَكَ هَذَا. فَقَالَ: لَمَّا أَتَانِيَ الْوُفُودُ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ. دَخَلَتْ نَفْسِي نَخْوَةٌ. فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَهَا. وَوَلِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِمَارَةً مَرَّةً. فَكَانَ يَحْمِلُ حِزْمَةَ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ. وَيَقُولُ: طَرِّقُوا لِلْأَمِيرِ. وَرَكِبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مَرَّةً. فَدَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ لِيَأْخُذَ بِرِكَابِهِ. فَقَالَ: مَهْ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ! فَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِكُبَرَائِنَا. فَقَالَ: أَرِنِي يَدَكَ. فَأَخْرَجَهَا إِلَيْهِ فَقَبَّلَهَا. فَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا نَفْعَلُ بِأَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَسَّمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حُلَلًا، فَبَعَثَ إِلَى مُعَاذٍ حُلَّةً مُثَمَّنَةً. فَبَاعَهَا. وَاشْتَرَى بِثَمَنِهَا سِتَّةَ أَعْبُدٍ وَأَعْتَقَهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ حُلَّةً دُونَهَا. فَعَاتَبَهُ مُعَاذٌ، فَقَالَ عُمَرُ: لِأَنَّكَ بِعْتَ الْأُولَى. فَقَالَ مُعَاذٌ: وَمَا عَلَيْكَ؟ ادْفَعْ لِي نَصِيبِي. وَقَدْ حَلَفْتُ لَأَضْرِبَنَّ بِهَا رَأْسَكَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأْسِي بَيْنَ يَدَيْكَ. وَقَدْ يَرْفُقُ الشَّابُّ بِالشَّيْخِ. وَمَرَّ الْحَسَنُ عَلَى صِبْيَانٍ مَعَهُمْ كِسَرُ خُبْزٍ. فَاسْتَضَافُوهُ. فَنَزَلَ فَأَكَلَ مَعَهُمْ، ثُمَّ حَمَلَهُمْ إِلَى مَنْزِلِهِ. فَأَطْعَمَهُمْ وَكَسَاهُمْ، وَقَالَ: الْيَدُ لَهُمْ. لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ شَيْئًا غَيْرَ مَا أَطْعَمُونِي، وَنَحْنُ نَجِدُ أَكْثَرَ مِنْهُ. وَيُذْكَرُ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَيَّرَ بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَوَادِهِ، ثُمَّ نَدِمَ. فَأَلْقَى بِنَفْسِهِ. فَحَلَفَ: لَا رَفَعْتُ رَأْسِي حَتَّى يَطَأَ بِلَالٌ خَدِّي بِقَدَمِهِ. فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى فَعَلَ بِلَالٌ. وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ. قَوَّمْتُ ثِيَابَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ يَخْطُبُ - بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَكَانَتْ قِبَاءً وَعِمَامَةً وَقُمُصًا وَسَرَاوِيلَ وَرِدَاءً وَخُفَّيْنِ وَقَلَنْسُوَةً. وَرَأَى مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ ابْنًا لَهُ يَمْشِي مِشْيَةً مُنْكَرَةً. فَقَالَ: تَدْرِي بِكَمْ شَرَيْتُ أُمَّكَ؟ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَبُوكَ - لَا كَثَّرَ اللَّهُ فِي الْمُسْلِمِينَ مِثْلَهُ - أَنَا. وَأَنْتَ تَمْشِي هَذِهِ الْمِشْيَةَ؟ . وَقَالَ حَمْدُونُ الْقَصَّارُ: التَّوَاضُعُ أَنْ لَا تَرَى لِأَحَدٍ إِلَى نَفْسِكَ حَاجَةً، لَا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: مَا سُرِرْتُ فِي إِسْلَامِي إِلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: كُنْتُ فِي سَفِينَةٍ، وَفِيهَا رَجُلٌ مِضْحَاكٌ. كَانَ يَقُولُ: كُنَّا فِي بِلَادِ التُّرْكِ فَأَخَذَ الْعِلْجُ هَكَذَا - وَكَانَ يَأْخُذُ بِشَعَرِ

فصل ذم الكبر والحرص

رَأْسِي وَيَهُزُّنِي - لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ السَّفِينَةِ أَحَدٌ أَحْقَرُ مِنِّي. وَالْأُخْرَى: كُنْتُ عَلِيلًا فِي مَسْجِدٍ. فَدَخَلَ الْمُؤَذِّنُ، وَقَالَ: اخْرُجْ. فَلَمْ أُطِقْ، فَأَخَذَ بِرِجْلِي وَجَرَّنِي إِلَى خَارِجٍ. وَالْأُخْرَى: كُنْتُ بِالشَّامِ وَعَلَيَّ فَرْوٌ. فَنَظَرْتُ فِيهِ فَلَمْ أُمَيِّزْ بَيْنَ شَعَرِهِ وَبَيْنَ الْقَمْلِ لِكَثْرَتِهِ. فَسَرَّنِي ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا. فَجَاءَ إِنْسَانٌ فَبَالَ عَلَيَّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ فِي الطَّوَافِ رَجُلًا بَيْنَ يَدَيْهِ شَاكِرِيَّةٌ يَمْنَعُونَ النَّاسَ لِأَجْلِهِ عَنِ الطَّوَافِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ عَلَى جِسْرِ بَغْدَادَ يَسْأَلُ شَيْئًا. فَتَعَجَّبْتُ مِنْهُ. فَقَالَ لِي: إِنِّي تَكَبَّرْتُ فِي مَوْضِعٍ يَتَوَاضَعُ النَّاسُ فِيهِ، فَابْتَلَانِي اللَّهُ بِالذُّلِّ فِي مَوْضِعٍ يَتَرَفَّعُ النَّاسُ فِيهِ. وَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ ابْنًا لَهُ اشْتَرَى خَاتَمًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ اشْتَرَيْتَ فَصًّا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَبِعِ الْخَاتَمَ. وَأَشْبِعْ بِهِ أَلْفَ بَطْنٍ. وَاتَّخِذْ خَاتَمًا بِدِرْهَمَيْنِ. وَاجْعَلْ فَصَّهُ حَدِيدًا صِينِيًّا. وَاكْتُبْ عَلَيْهِ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ ذَمُّ الْكِبْرِ وَالْحِرْصِ] فَصْلٌ أَوَّلُ ذَنْبٍ عَصَى اللَّهَ بِهِ أَبَوَا الثَّقَلَيْنِ: الْكِبْرُ وَالْحِرْصُ. فَكَانَ الْكِبْرُ ذَنْبَ إِبْلِيسَ اللَّعِينِ. فَآلَ أَمْرُهُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ. وَذَنْبُ آدَمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَ مِنَ الْحِرْصِ وَالشَّهْوَةِ. فَكَانَ عَاقِبَتُهُ التَّوْبَةَ وَالْهِدَايَةَ، وَذَنَبُ إِبْلِيسَ حَمَلَهُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ وَالْإِصْرَارِ. وَذَنْبُ آدَمَ أَوْجَبَ لَهُ إِضَافَتَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالِاعْتِرَافَ بِهِ وَالِاسْتِغْفَارَ. فَأَهْلُ الْكِبْرِ وَالْإِصْرَارِ، وَالِاحْتِجَاجِ بِالْأَقْدَارِ: مَعَ شَيْخِهِمْ وَقَائِدِهِمْ إِلَى النَّارِ إِبْلِيسَ. وَأَهْلُ الشَّهْوَةِ: الْمُسْتَغْفِرُونَ التَّائِبُونَ الْمُعْتَرِفُونَ بِالذُّنُوبِ، الَّذِينَ لَا يَحْتَجُّونَ عَلَيْهَا بِالْقَدَرِ: مَعَ أَبِيهِمْ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: التَّكَبُّرُ شَرٌّ مِنَ الشِّرْكِ فَإِنَّ الْمُتَكَبِّرَ يَتَكَبَّرُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُشْرِكَ يَعْبُدُ اللَّهَ وَغَيْرَهُ. قُلْتُ: وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ النَّارَ دَارَ الْمُتَكَبِّرِينَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ وَفِي سُورَةِ غَافِرٍ {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر: 76] وَفِي سُورَةِ

فصل تعريف التواضع

النَّحْلِ {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل: 29] وَفِي سُورَةِ تَنْزِيلُ {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60] . وَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِبْرِ وَالتَّجَبُّرِ هُمُ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. فَقَالَ تَعَالَى {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ. وَغَمْطُ النَّاسِ» . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الْكِبْرَ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الشِّرْكِ، وَكَمَا أَنَّ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ، فَكَذَلِكَ مَنْ تَكَبَّرَ عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ أَذَلَّهُ اللَّهُ وَوَضَعَهُ، وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ. وَمَنْ تَكَبَّرَ عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ - وَلَوْ جَاءَهُ عَلَى يَدِ صَغِيرٍ، أَوْ مَنْ يُبْغِضُهُ أَوْ يُعَادِيهِ - فَإِنَّمَا تَكَبُّرُهُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ. وَكَلَامُهُ حَقٌّ. وَدِينُهُ حَقٌّ. وَالْحَقُّ صِفَتُهُ. وَمِنْهُ وَلَهُ. فَإِذَا رَدَّهُ الْعَبْدُ وَتَكَبَّرَ عَنْ قَبُولِهِ: فَإِنَّمَا رَدَّ عَلَى اللَّهِ، وَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ تَعْرِيفُ التَّوَاضُعِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": التَّوَاضُعُ: أَنْ يَتَوَاضَعَ الْعَبْدُ لِصَوْلَةِ الْحَقِّ. يَعْنِي: أَنْ يَتَلَقَّى سُلْطَانَ الْحَقِّ بِالْخُضُوعِ لَهُ، وَالذُّلِّ، وَالِانْقِيَادِ، وَالدُّخُولِ تَحْتَ رِقِّهِ. بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَقُّ مُتَصَرِّفًا فِيهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ فِي مَمْلُوكِهِ. فَبِهَذَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ خُلُقُ التَّوَاضُعِ. وَلِهَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِبْرَ بِضِدِّهِ. فَقَالَ «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْصُ النَّاسِ» ، فَبَطَرُ

درجات التواضع

الْحَقِّ: رَدُّهُ وَجَحْدُهُ، وَالدَّفْعُ فِي صَدْرِهِ. كَدَفْعِ الصَّائِلِ. وَغَمْصُ النَّاسِ: احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ. وَمَتَى احْتَقَرَهُمْ وَازْدَرَاهُمْ: دَفَعَ حُقُوقَهُمْ. وَجَحَدَهَا، وَاسْتَهَانَ بِهَا. وَلَمَّا كَانَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالٌ وَصَوْلَةٌ: كَانَتِ النُّفُوسُ الْمُتَكَبِّرَةُ لَا تَقَرُّ لَهُ بِالصَّوْلَةِ عَلَى تِلْكَ الصَّوْلَةِ الَّتِي فِيهَا، وَلَا سِيَّمَا النُّفُوسَ الْمُبْطِلَةَ. فَتَصُولُ عَلَى صَوْلَةِ الْحَقِّ بِكِبْرِهَا وَبَاطِلِهَا. فَكَانَ حَقِيقَةُ التَّوَاضُعِ: خُضُوعَ الْعَبْدِ لِصَوْلَةِ الْحَقِّ، وَانْقِيَادَهُ لَهَا. فَلَا يُقَابِلُهَا بِصَوْلَتِهِ عَلَيْهَا. [دَرَجَاتُ التَّوَاضُعِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى التَّوَاضُعُ لِلدِّينِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: التَّوَاضُعُ لِلدِّينِ. وَهُوَ أَنْ لَا يُعَارِضَ بِمَعْقُولٍ مَنْقُولًا. وَلَا يَتَّهِمَ لِلدِّينِ دَلِيلًا. وَلَا يَرَى إِلَى الْخِلَافِ سَبِيلًا. التَّوَاضُعُ لِلدِّينِ، هُوَ الِانْقِيَادُ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ، وَالْإِذْعَانُ. وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُعَارِضَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُعَارَضَاتِ الْأَرْبَعَةِ السَّارِيَةِ فِي الْعَالَمِ، الْمُسَمَّاةِ: بِالْمَعْقُولِ، وَالْقِيَاسِ، وَالذَّوْقِ، وَالسِّيَاسَةِ. فَالْأُولَى: لِلْمُنْحَرِفِينَ أَهْلِ الْكِبْرِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، الَّذِينَ عَارَضُوا نُصُوصَ الْوَحْيِ بِمَعْقُولَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ. وَقَالُوا: إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ: قَدَّمْنَا الْعَقْلَ. وَعَزَلْنَا النَّقْلَ. إِمَّا عَزْلَ تَفْوِيضٍ، وَإِمَّا عَزْلَ تَأْوِيلٍ. وَالثَّانِي: لِلْمُتَكَبِّرِينَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْفِقْهِ، قَالُوا: إِذَا تَعَارَضَ الْقِيَاسُ وَالرَّأْيُ وَالنُّصُوصُ: قَدَّمْنَا الْقِيَاسَ عَلَى النَّصِّ. وَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: لِلْمُتَكَبِّرِينَ الْمُنْحَرِفِينَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى التَّصَوُّفِ وَالزُّهْدِ. فَإِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُمُ الذَّوْقُ وَالْأَمْرُ. قَدَّمُوا الذَّوْقَ وَالْحَالَ. وَلَمْ يَعْبَأُوا بِالْأَمْرِ. وَالرَّابِعُ: لِلْمُتَكَبِّرِينَ الْمُنْحَرِفِينَ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاءِ الْجَائِرِينَ. إِذَا تَعَارَضَتْ عِنْدَهُمُ الشَّرِيعَةُ وَالسِّيَاسَةُ. قَدَّمُوا السِّيَاسَةَ. وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى حُكْمِ الشَّرِيعَةِ. فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ: هُمْ أَهْلُ الْكِبْرِ. وَالتَّوَاضُعُ: التَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَّهِمَ دَلِيلًا مِنْ أَدِلَّةِ الدِّينِ، بِحَيْثُ يَظُنُّهُ فَاسِدَ الدَّلَالَةِ، أَوْ نَاقِصَ الدَّلَالَةِ، أَوْ قَاصِرَهَا، أَوْ أَنَّ غَيْرَهُ كَانَ أَوْلَى مِنْهُ. وَمَتَى عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَتَّهِمْ فَهْمَهُ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْآفَةَ مِنْهُ، وَالْبَلِيَّةَ فِيهِ، كَمَا قِيلَ:

وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا ... وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ وَلَكِنْ تَأْخُذُ الْأَذْهَانُ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ الْقَرَائِحِ وَالْفُهُومِ وَهَكَذَا الْوَاقِعُ فِي الْوَاقِعِ حَقِيقَةً: أَنَّهُ مَا اتَّهَمَ أَحَدٌ دَلِيلًا لِلدِّينِ إِلَّا وَكَانَ الْمُتَّهَمُ هُوَ الْفَاسِدَ الذِّهْنِ. الْمَأْفُونَ فِي عَقْلِهِ، وَذِهْنِهِ. فَالْآفَةُ مِنَ الذِّهْنِ الْعَلِيلِ. لَا فِي نَفْسِ الدَّلِيلِ. وَإِذَا رَأَيْتَ مِنْ أَدِلَّةِ الدِّينِ مَا يُشْكَلُ عَلَيْكَ، وَيَنْبُو فَهْمُكَ عَنْهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لِعَظَمَتِهِ وَشَرَفِهِ اسْتَعْصَى عَلَيْكَ، وَأَنَّ تَحْتَهُ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ الْعِلْمِ. وَلَمْ تُؤْتَ مِفْتَاحَهُ بَعْدُ. هَذَا فِي حَقِّ نَفْسِكَ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِكَ: فَاتَّهِمْ آرَاءَ الرِّجَالِ عَلَى نُصُوصِ الْوَحْيِ، وَلْيَكُنْ رَدُّهَا أَيْسَرَ شَيْءٍ عَلَيْكَ لِلنُّصُوصِ، فَمَا لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَسْتَ عَلَى شَيْءٍ. وَلَوْ. . وَلَوْ. . وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ، قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَجِدَ إِلَى خِلَافِ النَّصِّ سَبِيلًا أَلْبَتَّةَ. لَا بِبَاطِنِهِ، وَلَا بِلِسَانِهِ وَلَا بِفِعْلِهِ. وَلَا بِحَالِهِ. بَلْ إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْخِلَافِ: فَهُوَ كَخِلَافِ الْمُقْدِمِ عَلَى الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ. بَلْ هَذَا الْخِلَافُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ دَاعٍ إِلَى النِّفَاقِ. وَهُوَ الَّذِي خَافَهُ الْكِبَارُ. وَالْأَئِمَّةُ عَلَى نُفُوسِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُخَالِفَ لِلنَّصِّ - لِقَوْلِ مَتْبُوعِهِ وَشَيْخِهِ وَمُقَلِّدِهِ، أَوْ لِرَأْيِهِ وَمَعْقُولِهِ، وَذَوْقِهِ، وَسِيَاسَتِهِ. إِنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مَعْذُورًا، وَلَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِمَعْذُورٍ - فَالْمُخَالِفُ لِقَوْلِهِ، لِنُصُوصِ الْوَحْيِ أَوْلَى بِالْعُذْرِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَلَائِكَتِهِ. وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ. فَوَاعَجَبًا إِذَا اتَّسَعَ بُطْلَانُ الْمُخَالِفِينَ لِلنُّصُوصِ لِعُذْرِ مَنْ خَالَفَهَا تَقْلِيدًا، أَوْ تَأْوِيلًا، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ. فَكَيْفَ ضَاقَ عَنْ عُذْرِ مَنْ خَالَفَ أَقْوَالَهُمْ، وَأَقْوَالَ شُيُوخِهِمْ. لِأَجْلِ مُوَافَقَةِ النُّصُوصِ؟ وَكَيْفَ نَصَبُوا لَهُ الْحَبَائِلَ. وَبَغَوْهُ الْغَوَائِلَ. وَرَمَوْهُ بِالْعَظَائِمِ. وَجَعَلُوهُ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ أَرْبَابِ الْجَرَائِمِ؟ فَرَمَوْهُ بِدَائِهِمْ وَانْسَلُّوا مِنْهُ لِوَاذًا. وَقَذَفُوهُ بِمُصَابِهِمْ. وَجَعَلُوا تَعْظِيمَ الْمَتْبُوعِينَ مَلَاذًا لَهُمْ وَمَعَاذًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ

قَالَ: وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْبَصِيرَةِ، وَالِاسْتِقَامَةَ بَعْدَ الثِّقَةِ. وَأَنَّ الْبَيِّنَةَ وَرَاءَ الْحُجَّةِ. يَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلدِّينِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ: الْأُولَى: عِلْمُهُ أَنَّ النَّجَاةَ مِنَ الشَّقَاءِ وَالضَّلَالِ: إِنَّمَا هِيَ فِي الْبَصِيرَةِ. فَمَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ: فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ فِي الدُّنْيَا. وَالشَّقَاءِ فِي الْآخِرَةِ. وَالْبَصِيرَةُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي عَيْنِ الْقَلْبِ، يُفَرِّقُ بِهِ الْعَبْدُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ: كَنِسْبَةِ ضَوْءِ الْعَيْنِ إِلَى الْعَيْنِ. وَهَذِهِ الْبَصِيرَةُ وَهْبِيَّةٌ وَكَسَبِيَّةُ. فَمَنْ أَدَارَ النَّظَرَ فِي أَعْلَامِ الْحَقِّ وَأَدِلَّتِهِ، وَتَجَرَّدَ لِلَّهِ مِنْ هَوَاهُ: اسْتَنَارَتْ بَصِيرَتُهُ. وَرُزِقَ فُرْقَانًا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الثِّقَةِ، أَيْ لَا يَتَصَوَّرُ حُصُولَ الِاسْتِقَامَةِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْحَالِ، إِلَّا بَعْدَ الثِّقَةِ بِصِحَّةِ مَا مَعَهُ مِنَ الْعِلْمِ. وَأَنَّهُ مُقْتَبِسٌ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا ثِقَةَ لَهُ وَلَا اسْتِقَامَةَ. الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ وَرَاءَ الْحُجَّةِ. وَالْبَيِّنَةُ مُرَادُهُ بِهَا: اسْتِبَانَةُ الْحَقِّ وَظُهُورُهُ. وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْحُجَّةِ إِذَا قَامَتِ اسْتَبَانَ الْحَقُّ وَظَهَرَ وَاتَّضَحَ. وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ. وَهُوَ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَبِلَ حُجَّةَ اللَّهِ بِمَحْضِ الْإِيمَانِ وَالتَّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ: كَانَ هَذَا الْقَبُولُ هُوَ سَبَبَ تَبْيُّنِهَا وَظُهُورِهَا، وَانْكِشَافِهَا لِقَلْبِهِ. فَلَا يَصْبِرُ عَلَى بَيِّنَةِ رَبِّهِ إِلَّا بَعْدَ قَبُولِ حُجَّتِهِ. وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ أَيْضًا: أَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ عَيْبُ عَمَلِهِ مِنْ صِحَّتِهِ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ. فَإِذَا عَرَفَ الْحُجَّةَ اتَّضَحَ لَهُ بِهَا مَا كَانَ مُشْكَلًا عَلَيْهِ مِنْ عُلُومِهِ، وَمَا كَانَ مَعِيبًا مِنْ أَعْمَالِهِ. وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ أَيْضًا: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ " وَرَاءَ " بِمَعْنَى أَمَامَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ بَعْدَ تَبَيُّنِهَا. فَإِذَا لَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ. يَعْنِي فَلَا يَقْنَعُ مِنَ الْحُجَّةِ بِمُجَرَّدِ حُصُولِهَا بِلَا تَبَيُّنٍ. فَإِنَّ التَّبَيُّنَ أَمَامَ الْحُجَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل الدرجة الثانية أن ترضى بما رضي الحق به لنفسه

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَرْضَى بِمَا رَضِيَ الْحَقُّ بِهِ لِنَفْسِهِ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَرْضَى بِمَا رَضِيَ الْحَقُّ بِهِ لِنَفْسِهِ عَبْدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَخًا. وَأَنْ لَا تَرُدَّ عَلَى عَدُوِّكَ حَقًّا. وَأَنْ تَقْبَلَ مِنَ الْمُعْتَذِرِ مَعَاذِيرَهُ. يَقُولُ: إِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ رَضِيَ أَخَاكَ الْمُسْلِمَ لِنَفْسِهِ عَبْدًا. أَفَلَا تَرْضَى أَنْتَ بِهِ أَخًا؟ فَعَدَمُ رِضَاكَ بِهِ أَخًا - وَقَدْ رَضِيَهُ سَيِّدُكَ الَّذِي أَنْتَ عَبْدُهُ عَبْدًا لِنَفْسِهِ - عَيْنُ الْكِبْرِ. وَأَيُّ قَبِيحٍ أَقْبَحُ مِنْ تَكَبُّرِ الْعَبْدِ عَلَى عَبْدٍ مِثْلِهِ، لَا يَرْضَى بِأُخُوَّتِهِ. وَسَيِّدُهُ رَاضٍ بِعُبُودِيَّتِهِ؟ . فَيَجِيءُ مِنْ هَذَا: أَنَّ الْمُتَكَبِّرَ غَيْرُ رَاضٍ بِعُبُودِيَّةِ سَيِّدِهِ. إِذْ عُبُودِيَّتُهُ تُوجِبُ رِضَاهُ بِأُخُوَّةِ عَبْدِهِ. وَهَذَا شَأْنُ عَبِيدِ الْمُلُوكِ. فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ بَعْضَهُمْ خُشْدَاشِيَّةَ بَعْضٍ. وَمَنْ تَرَفَّعَ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ: لَمْ يَكُنْ مِنْ عَبِيدِ أُسْتَاذِهِمْ. قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا تَرُدَّ عَلَى عَدُوِّكَ حَقًّا. أَيْ لَا تَصِحُّ لَكَ دَرَجَةُ التَّوَاضُعِ حَتَّى تَقْبَلَ الْحَقَّ مِمَّنْ تُحِبُّ وَمِمَّنْ تُبْغِضُ فَتَقْبَلُهُ مِنْ عَدُوِّكَ كَمَا تَقْبَلُهُ مِنْ وَلِيِّكَ. وَإِذَا لَمْ تَرُدَّ عَلَيْهِ حَقَّهُ، فَكَيْفَ تَمْنَعُهُ حَقًّا لَهُ قِبَلَكَ؟ بَلْ حَقِيقَةُ التَّوَاضُعِ أَنَّهُ إِذَا جَاءَكَ قَبِلْتَهُ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ لَهُ عَلَيْكَ حَقٌّ أَدَّيْتَهُ إِلَيْهِ. فَلَا تَمْنَعُكَ عَدَاوَتُهُ مِنْ قَبُولِ حَقِّهِ، وَلَا مِنْ إِيتَائِهِ إِيَّاهُ. وَأَمَّا قَبُولُكَ مِنَ الْمُعْتَذِرِ مَعَاذِيرَهُ. فَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ. ثُمَّ جَاءَ يَعْتَذِرُ مِنْ إِسَاءَتِهِ، فَإِنَّ التَّوَاضُعَ يُوجِبُ عَلَيْكَ قَبُولَ مَعْذِرَتِهِ، حَقًّا كَانَتْ أَوْ بَاطِلًا. وَتَكِلُ سَرِيرَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ فِي الْغَزْوِ. فَلَمَّا قَدِمَ جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ. فَقَبِلَ أَعْذَارَهُمْ. وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَعَلَامَةُ الْكَرَمِ وَالتَّوَاضُعِ: أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ الْخَلَلَ فِي عُذْرِهِ لَا تُوقِفُهُ عَلَيْهِ وَلَا تُحَاجُّهُ. وَقُلْ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ. وَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ، وَالْمَقْدُورُ لَا مَدْفَعَ لَهُ. وَنَحْوُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ تَتَّضِعَ لِلْحَقِّ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَتَّضِعَ لِلْحَقِّ. فَتَنْزِلَ عَنْ رَأْيِكَ وَعَوَائِدِكَ فِي الْخِدْمَةِ

وَرُؤْيَةِ حَقِّكَ فِي الصُّحْبَةِ. وَعَنْ رَسْمِكَ فِي الْمُشَاهَدَةِ. بِقَوْلِ التَّوَاضُعِ بِأَنْ تَخْدِمَ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ. وَتَعْبُدَهُ بِمَا أَمَرَكَ بِهِ، عَلَى مُقْتَضَى أَمْرِهِ. لَا عَلَى مَا تَرَاهُ مِنْ رَأْيِكَ. وَلَا يَكُونَ الْبَاعِثُ لَكَ دَاعِيَ الْعَادَةِ. كَمَا هُوَ بَاعِثُ مَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ اعْتَادَ أَمْرًا فَجَرَى عَلَيْهِ. وَلَوِ اعْتَادَ ضِدَّهُ لَكَانَ كَذَلِكَ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ بَاعِثُهُ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ مُجَرَّدَ رَأْيٍ، وَمُوَافَقَةَ هَوًى وَمَحَبَّةٍ وَعَادَةٍ. بَلِ الْبَاعِثُ مُجَرَّدُ الْأَمْرِ. وَالرَّأْيُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْهَوَى وَالْعَوَائِدُ: مُنَفِّذَةٌ تَابِعَةٌ. لَا أَنَّهَا مُطَاعَةٌ بَاعِثَةٌ. وَهَذِهِ نُكْتَةٌ لَا يَتَنَبَّهُ لَهَا إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ. وَأَمَّا نُزُولُهُ عَنْ رُؤْيَةِ حَقِّهِ فِي الصُّحْبَةِ. فَمَعْنَاهُ: أَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلَى اللَّهِ لِأَجْلِ عَمَلِهِ. فَإِنَّ صُحْبَتَهُ مَعَ اللَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْفَقْرِ الْمَحْضِ، وَالذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ. فَمَتَى رَأَى لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ حَقًّا فَسَدَتِ الصُّحْبَةُ. وَصَارَتْ مَعْلُولَةً وَخِيفَ مِنْهَا الْمَقْتُ. وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا أَحَقَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ إِثَابَةِ عَابِدِيهِ وَإِكْرَامِهِمْ. فَإِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ أَحَقَّهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَحْضِ كَرَمِهِ وَبِرِّهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ. لَا بِاسْتِحْقَاقِ الْعَبِيدِ، وَأَنَّهُمْ أَوْجَبُوهُ عَلَيْهِ بِأَعْمَالِهِمْ. فَعَلَيْكَ بِالْفُرْقَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ مُفْتَرَقُ الطُّرُقِ. وَالنَّاسُ فِيهِ ثَلَاثُ فِرَقٍ. فِرْقَةٌ رَأَتْ أَنَّ الْعَبْدَ أَقَلُّ وَأَعْجَزُ مِنْ أَنْ يُوجِبَ عَلَى رَبِّهِ حَقًّا. فَقَالَتْ: لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ. وَأَنْكَرَتْ وُجُوبَ مَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ. وَفِرْقَةٌ رَأَتْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أُمُورًا لِعَبْدِهِ. فَظَنَّتْ أَنَّ الْعَبْدَ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ بِأَعْمَالِهِ، وَأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ سَبَبًا لِهَذَا الْإِيجَابِ. وَالْفِرْقَتَانِ غَالِطَتَانِ. وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: أَهْلُ الْهُدَى وَالصَّوَابِ، قَالَتْ: لَا يَسْتَوْجِبُ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ بِسَعْيِهِ نَجَاةً وَلَا فَلَاحًا. وَلَا يُدْخِلُ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ أَبَدًا، وَلَا يُنْجِيهِ مِنَ النَّارِ. وَاللَّهُ تَعَالَى - بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَمَحْضِ جُودِهِ وَإِحْسَانِهِ - أَكَّدَ إِحْسَانَهُ وَجُودَهُ وَبِرَّهُ بِأَنْ أَوْجَبَ لِعَبْدِهِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ حَقًّا بِمُقْتَضَى الْوَعْدِ. فَإِنَّ وَعْدَ الْكَرِيمِ إِيجَابٌ، وَلَوْ بِعَسَى، وَلَعَلَّ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ. وَوَعْدُ اللَّئِيمِ خُلْفٌ. وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ الْعَهْدُ وَالْحَلِفُ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ عَدَمَ رُؤْيَةِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلَى اللَّهِ لَا يُنَافِي مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَجَعَلَهُ حَقًّا لِعَبْدِهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا

فصل منزلة الفتوة

حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: حَقُّهُمْ عَلَيْهِ: أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ بِالنَّارِ» . فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ مَا لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقٌّ. وَلَا يَضِيعُ لَدَيْهِ سَعْيٌ. كَمَا قِيلَ: مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ ... كَلَّا وَلَا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ، أَوْ نُعِّمُوا ... فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الْكَرِيمُ الْوَاسِعُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَنْزِلُ عَنْ رَسْمِكَ فِي الْمُشَاهَدَةِ. أَيْ مِنْ جُمْلَةِ التَّوَاضُعِ لِلْحَقِّ: فَنَاؤُكَ عَنْ نَفْسِكَ. فَإِنَّ رَسْمَهُ هِيَ نَفْسُهُ. وَالنُّزُولُ عَنْهَا: فَنَاؤُهُ عَنْهَا حِينَ شُهُودِهِ الْحَضْرَةَ. وَهَذَا النُّزُولُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ كَسْبِيٌّ بِاعْتِبَارٍ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْقَوْمِ غَيْرَ كَسْبِيٍّ. لِأَنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ التَّجَلِّي. وَالتَّجَلِّي نُورٌ. وَالنُّورُ يَقْهَرُ الظُّلْمَةَ وَيُبْطِلُهَا. وَالرَّسْمُ عِنْدَ الْقَوْمِ ظُلْمَةٌ. فَهِيَ تَنْفِرُ مِنَ النُّورِ بِالذَّاتِ. فَصَارَ النُّزُولُ عَنِ الرَّسْمِ حِينَ التَّجَلِّي ذَاتِيًّا. وَوَجْهُ كَوْنِهِ كَسْبِيًّا: أَنَّهُ نَتِيجَةُ الْمَقَامَاتِ الْكَسْبِيَّةِ. وَنَتِيجَةُ الْكَسْبِيِّ كَسْبِيٌّ. وَثَمَرَتُهُ، وَإِنْ حَصَلَتْ ضَرُورَةً بِالذَّاتِ: لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهَا كَوْنُهَا كَسَبِيَّةً بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفُتُوَّةِ] [حَقِيقَةُ الْفُتُوَّةِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفُتُوَّةِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْفُتُوَّةِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ حَقِيقَتُهَا هِيَ مَنْزِلَةُ الْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ. وَكَفُّ الْأَذَى عَنْهُمْ. وَاحْتِمَالُ أَذَاهُمْ. فَهِيَ اسْتِعْمَالُ حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَهُمْ. فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَتِيجَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَاسْتِعْمَالِهِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُرُوءَةِ: أَنَّ الْمُرُوءَةَ أَعَمُّ مِنْهَا. فَالْفُتُوَّةُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُرُوءَةِ. فَإِنَّ الْمُرُوءَةَ اسْتِعْمَالُ مَا يُجَمِّلُ وَيُزَيِّنُ مِمَّا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْعَبْدِ، أَوْ مُتَعَدٍّ إِلَى غَيْرِهِ. وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُ وَيُشِينُ مِمَّا هُوَ مُخْتَصٌّ أَيْضًا بِهِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِهِ. وَالْفُتُوَّةُ إِنَّمَا هِيَ اسْتِعْمَالُ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ مَعَ الْخَلْقِ. فَهِيَ ثَلَاثَةُ مَنَازِلَ: مَنْزِلَةُ التَّخَلُّقِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ. وَمَنْزِلَةُ الْفُتُوَّةِ. وَمَنْزِلَةُ الْمُرُوءَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَنْزِلَةُ الْخُلُقِ. وَهَذِهِ مَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ، لَمْ تُعَبِّرْ عَنْهَا الشَّرِيعَةُ بِاسْمِ الْفُتُوَّةِ بَلْ عَبَّرَتْ عَنْهَا بِاسْمِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَمَا فِي حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنَ الْأَفْعَالِ» . وَأَصْلُ الْفُتُوَّةِ مِنَ الْفَتَى وَهُوَ الشَّابُّ الْحَدِيثُ السِّنِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] وَقَالَ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ: إِنَّهُمْ {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ - وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [يوسف: 36 - 62] . فَاسْمُ الْفَتَى لَا يُشْعِرُ بِمَدْحٍ وَلَا ذَمٍّ، كَاسْمِ الشَّابِّ وَالْحَدَثِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَجِئِ اسْمُ

الْفُتُوَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي لِسَانِ السَّلَفِ. وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَأَصْلُهَا عِنْدَهُمْ: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أَبَدًا فِي أَمْرِ غَيْرِهِ. وَأَقْدَمُ مَنْ عَلِمْتُهُ تَكَلَّمَ فِي الْفُتُوَّةِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ. وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَسَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْجُنَيْدُ. ثُمَّ الطَّائِفَةُ. فَيُذْكَرُ أَنَّ عَفْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ سُئِلَ عَنِ الْفُتُوَّةِ؟ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: إِنْ أُعْطِيتُ شَكَرْتُ. وَإِنْ مُنِعْتُ صَبَرْتُ. فَقَالَ: الْكِلَابُ عِنْدَنَا كَذَلِكَ. فَقَالَ السَّائِلُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ. فَمَا الْفُتُوَّةُ عِنْدَكُمْ؟ فَقَالَ: إِنْ أُعْطِينَا آثَرْنَا. وَإِنْ مُنِعْنَا شَكَرْنَا. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: الْفُتُوَّةُ: الصَّفْحُ عَنْ عَثَرَاتِ الْإِخْوَانِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ - عَنْهُ، وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْفُتُوَّةِ؟ فَقَالَ: تَرْكُ مَا تَهْوَى لِمَا تَخْشَى. وَلَا أَعْلَمُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِيهَا سِوَاهُ. وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنِ الْفُتُوَّةِ؟ فَقَالَ: لَا تُنَافِرُ فَقِيرًا، وَلَا تُعَارِضُ غَنِيًّا. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ: الْفُتُوَّةُ أَنْ تَنْصِفَ وَلَا تَنْتَصِفَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَكِّيُّ: الْفُتُوَّةُ حُسْنُ الْخُلُقِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: الْفُتُوَّةُ أَنْ تَكُونَ خَصْمًا لِرَبِّكَ عَلَى نَفْسِكَ. وَقِيلَ: الْفُتُوَّةُ أَنْ لَا تَرَى لِنَفْسِكَ فَضْلًا عَلَى غَيْرِكَ. وَقَالَ الدَّقَّاقُ: هَذَا الْخُلُقُ لَا يَكُونُ كَمَالُهُ إِلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: نَفْسِي نَفْسِي، وَهُوَ يَقُولُ أُمَّتِي أُمَّتِي.

وَقِيلَ: الْفُتُوَّةُ: كَسْرُ الصَّنَمِ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَفْسُكَ. فَإِنَّ اللَّهَ حَكَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ جَعَلَ الْأَصْنَامَ جُذَاذًا. فَكَسَرَ الْأَصْنَامَ لَهُ. فَالْفَتَى مَنْ كَسَرَ صَنَمًا وَاحِدًا فِي اللَّهِ. وَقِيلَ: الْفُتُوَّةُ أَنْ لَا تَكُونَ خَصْمًا لِأَحَدٍ. يَعْنِي فِي حَظِّ نَفْسِكَ. وَأَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ، فَالْفُتُوَّةُ: أَنْ تَكُونَ خَصْمًا لِكُلِّ أَحَدٍ وَلَوْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْفُتُوَّةُ أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَكُمُ الْمُقِيمُ وَالطَّارِئُ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْفُتُوَّةُ أَنْ لَا يُمَيِّزَ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَهُ وَلِيٌّ أَوْ كَافِرٌ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ أَيْضًا: الْفُتُوَّةُ كَفُّ الْأَذَى وَبَذْلُ النَّدَى. وَقَالَ سَهْلٌ: هِيَ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ الْوَفَاءُ وَالْحِفَاظُ. وَقِيلَ: فَضِيلَةٌ تَأْتِيهَا، وَلَا تَرَى نَفْسَكَ فِيهَا. وَقِيلَ: أَنْ لَا تَحْتَجِبَ مِمَّنْ قَصَدَكَ. وَقِيلَ: أَنْ لَا تَهْرُبَ إِذَا أَقْبَلَ الْعَافِي. يَعْنِي طَالِبَ الْمَعْرُوفِ. وَقِيلَ: إِظْهَارُ النِّعْمَةِ وَإِسْرَارُ الْمِحْنَةِ. وَقِيلَ: أَنْ لَا تَدَّخِرَ وَلَا تَعْتَذِرَ. وَقِيلَ: تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ. فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ رَأَى بِهَا الْجُدَرِيَّ. فَقَالَ: اشْتَكَيْتُ عَيْنِي. ثُمَّ قَالَ: عَمِيتُ. فَبَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً مَاتَتْ. وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ بَصِيرٌ. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ يُحْزِنَهَا رُؤْيَتِي لِمَا بِهَا. فَقِيلَ لَهُ: سَبَقْتَ الْفِتْيَانَ. وَقِيلَ: لَيْسَ مِنَ الْفُتُوَّةِ أَنْ تَرْبَحَ عَلَى صَدِيقِكَ. وَاسْتَضَافَ رَجُلٌ جَمَاعَةً مِنَ الْفِتْيَانِ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ خَرَجَتْ جَارِيَةٌ تَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى أَيْدِيهِمْ. فَانْقَبَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ: لَيْسَ مِنَ الْفُتُوَّةِ أَنْ تَصُبَّ النِّسْوَانُ الْمَاءَ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ. فَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: أَنَا مُنْذُ سِنِينَ أَدْخُلُ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ. وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ امْرَأَةً تَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى أَيْدِينَا أَوْ رَجُلًا. وَقَدِمَ جَمَاعَةُ فِتْيَانٍ لِزِيَارَةِ فَتًى. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا غُلَامُ قَدِّمِ السُّفْرَةَ. فَلَمْ يُقَدِّمْ. فَقَالَهَا ثَانِيًا وَثَالِثًا فَلَمْ يُقَدِّمْ. فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَالُوا: لَيْسَ مِنَ الْفُتُوَّةِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ الرَّجُلُ مَنْ يَتَعَاصَى عَلَيْهِ فِي تَقْدِيمِ السُّفْرَةِ كُلَّ هَذَا. فَقَالَ الرَّجُلُ: لِمَ أَبْطَأْتَ بِالسُّفْرَةِ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ: كَانَ عَلَيْهَا نَمْلٌ. فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَدَبِ تَقْدِيمُ السُّفْرَةِ إِلَى الْفِتْيَانِ مَعَ النَّمْلِ. وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْفُتُوَّةِ إِلْقَاءُ النَّمْلِ وَطَرْدُهُمْ عَنِ الزَّادِ. فَلَبِثْتُ حَتَّى دَبَّ النَّمْلُ. فَقَالُوا: يَا غُلَامُ. مِثْلُكُ يَخْدُمُ الْفِتْيَانَ. وَمِنَ الْفُتُوَّةِ الَّتِي لَا تُلْحَقُ: مَا يُذْكَرُ أَنَّ رَجُلًا نَامَ مِنَ الْحَاجِّ فِي الْمَدِينَةِ. فَفَقَدَ هِمْيَانًا فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ. فَقَامَ فَزِعًا. فَوَجَدَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَعَلِقَ بِهِ. وَقَالَ: أَخَذْتَ هِمْيَانِي. فَقَالَ:

فصل تعريف الفتوة

أَيُّ شَيْءٍ كَانَ فِيهِ؟ قَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ. فَأَدْخَلَهُ دَارَهُ وَوَزَنَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ وَجَدَ هِمْيَانَهُ، فَجَاءَ إِلَى جَعْفَرٍ مُعْتَذِرًا بِالْمَالِ. فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ. وَقَالَ: شَيْءٌ أَخْرَجْتُهُ مِنْ يَدِي لَا أَسْتَرِدُّهُ أَبَدًا. فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّاسِ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. [فَصْلٌ تَعْرِيفُ الْفُتُوَّةِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": نُكْتَةُ الْفُتُوَّةِ: أَنْ لَا تَشْهَدَ لَكَ فَضْلًا. وَلَا تَرَى لَكَ حَقًّا. يَقُولُ: قَلْبُ الْفُتُوَّةِ، وَإِنْسَانُ عَيْنِهَا: أَنْ تَفْنَى بِشَهَادَةِ نَقْصِكَ، وَعَيْبِكَ عَنْ فَضْلِكَ. وَتَغِيبَ بِشَهَادَةِ حُقُوقِ الْخَلْقِ عَلَيْكَ عَنْ شَهَادَةِ حُقُوقِكَ عَلَيْهِمْ. وَالنَّاسُ فِي هَذَا مَرَاتِبُ. فَأَشْرَفُهَا: أَهْلُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ. وَأَخَسُّهَا: عَكْسُهُمْ. وَهُمْ أَهْلُ الْفَنَاءِ فِي شُهُودِ فَضَائِلِهِمْ عَنْ عُيُوبِهِمْ. وَشُهُودِ حُقُوقِهِمْ عَلَى النَّاسِ عَنْ شُهُودِ حُقُوقِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ. وَأَوْسَطُهُمْ: مَنْ شَهِدَ هَذَا وَهَذَا. فَيَشْهَدُ مَا فِي الْعَيْبِ وَالْكَمَالِ. وَيَشْهَدُ حُقُوقَ النَّاسِ عَلَيْهِ وَحُقُوقَهُ عَلَيْهِمْ. [دَرَجَاتُ الْفُتُوَّةِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى تَرْكُ الْخُصُومَةِ] قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَرْكُ الْخُصُومَةِ. وَالتَّغَافُلُ عَنِ الزَّلَّةِ، وَنِسْيَانُ الْأَذِيَّةِ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنْ بَابِ التَّرْكِ وَالتَّخَلِّي. وَهِيَ أَنْ لَا يُخَاصِمَ أَحَدًا. فَلَا يُنَصِّبُ نَفْسَهُ خَصْمًا لِأَحَدٍ غَيْرَهَا. فَهِيَ خَصْمُهُ. وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةُ أَيْضًا ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ. لَا يُخَاصِمُ بِلِسَانِهِ. وَلَا يَنْوِي الْخُصُومَةَ بِقَلْبِهِ. وَلَا يُخْطِرُهَا عَلَى بَالِهِ. هَذَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ رَبِّهِ: فَالْفُتُوَّةُ أَنْ يُخَاصِمَ بِاللَّهِ وَفِي اللَّهِ. وَيُحَاكِمَ إِلَى اللَّهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ: «وَبِكَ خَاصَمْتُ. وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ» وَهَذِهِ دَرَجَةُ فُتُوَّةِ الْعُلَمَاءِ الدُّعَاةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا التَّغَافُلُ عَنِ الزَّلَّةِ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا رَأَى مِنْ أَحَدٍ زَلَّةً يُوجِبُ عَلَيْهِ الشَّرْعُ أَخْذَهُ بِهَا:

فصل الدرجة الثانية أن تقرب من يقصيك

أَظْهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهَا، لِئَلَّا يُعَرِّضَ صَاحِبَهَا لِلْوَحْشَةِ. وَيُرِيحَهُ مِنْ تَحَمُّلِ الْعُذْرِ. وَفُتُوَّةُ التَّغَافُلِ: أَرْفَعُ مِنْ فُتُوَّةِ الْكِتْمَانِ مَعَ الرُّؤْيَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَسَأَلَتْ حَاتِمًا عَنْ مَسْأَلَةٍ؟ فَاتَّفَقَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا صَوْتٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. فَخَجِلَتْ. فَقَالَ حَاتِمٌ: ارْفَعِي صَوْتَكِ. فَأَوْهَمَهَا أَنَّهُ أَصَمُّ. فَسُرَّتِ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ. وَقَالَتْ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الصَّوْتَ. فَلُقِّبَ بِحَاتِمٍ الْأَصَمِّ وَهَذَا التَّغَافُلُ هُوَ نِصْفُ الْفُتُوَّةِ. وَأَمَّا نِسْيَانُ الْأَذِيَّةِ فَهُوَ بِأَنْ تَنْسَى أَذِيَّةَ مَنْ نَالَكَ بِأَذًى، لِيَصْفُوَ قَلْبُكَ لَهُ. وَلَا تَسْتَوْحِشَ مِنْهُ. قُلْتُ: وَهُنَا نِسْيَانٌ آخَرُ أَيْضًا. وَهُوَ مِنَ الْفُتُوَّةِ. وَهُوَ نِسْيَانُ إِحْسَانِكَ إِلَى مَنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْكَ. وَهَذَا النِّسْيَانُ أَكْمَلُ مِنَ الْأَوَّلِ. وَفِيهِ قِيلَ: يَنْسَى صَنَائِعَهُ وَاللَّهُ يُظْهِرُهَا ... إِنَّ الْجَمِيلَ إِذَا أَخْفَيْتَهُ ظَهَرَا [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تُقَرِّبَ مَنْ يُقْصِيكَ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تُقَرِّبَ مَنْ يُقْصِيكَ. وَتُكْرِمَ مَنْ يُؤْذِيكَ. وَتَعْتَذِرَ إِلَى مَنْ يَجْنِي عَلَيْكَ، سَمَاحَةً لَا كَظْمًا، وَمَوَدَّةً لَا مُصَابَرَةً. هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا وَأَصْعَبُ. فَإِنَّ الْأُولَى: تَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّغَافُلَ. وَهَذِهِ تَتَضَمَّنُ الْإِحْسَانَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَمُعَامَلَتَهُ بِضِدِّ مَا عَامَلَكَ بِهِ. فَيَكُونُ الْإِحْسَانُ وَالْإِسَاءَةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ خُطَّتَيْنِ. فَخُطَّتُكَ: الْإِحْسَانُ. وَخَطَّتُهُ: الْإِسَاءَةُ. وَفِي مَثْلِهَا قَالَ الْقَائِلُ: إِذَا مَرِضْنَا أَتَيْنَاكُمْ نَعُودُكُمُ ... وَتُذْنِبُونَ فَنَأْتِيكُمْ وَنَعْتَذِرُ وَمَنْ أَرَادَ فَهْمَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ كَمَا يَنْبَغِي فَلْيَنْظُرْ إِلَى سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ النَّاسِ يَجِدْهَا هَذِهِ بِعَيْنِهَا. وَلَمْ يَكُنْ كَمَالُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ لِأَحَدٍ سِوَاهُ. ثُمَّ لِلْوَرَثَةِ مِنْهَا بِحَسَبِ سِهَامِهِمْ مِنَ التَّرِكَةِ. وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ أَجْمَعَ لِهَذِهِ الْخِصَالِ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْأَكَابِرِ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي لِأَصْحَابِي مِثْلُهُ لِأَعْدَائِهِ وَخُصُومِهِ.

فصل الدرجة الثالثة أن لا تتعلق في السير بدليل

وَمَا رَأَيْتُهُ يَدْعُو عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطُّ، وَكَانَ يَدْعُو لَهُمْ. وَجِئْتُ يَوْمًا مُبَشِّرًا لَهُ بِمَوْتِ أَكْبَرِ أَعْدَائِهِ، وَأَشَدِّهِمْ عَدَاوَةً وَأَذًى لَهُ. فَنَهَرَنِي وَتَنَكَّرَ لِي وَاسْتَرْجَعَ. ثُمَّ قَامَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى بَيْتِ أَهْلِهِ فَعَزَّاهُمْ، وَقَالَ: إِنِّي لَكُمْ مَكَانَهُ، وَلَا يَكُونُ لَكُمْ أَمْرٌ تَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى مُسَاعَدَةٍ إِلَّا وَسَاعَدْتُكُمْ فِيهِ. وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ. فَسُّرُوا بِهِ وَدَعَوْا لَهُ. وَعَظَّمُوا هَذِهِ الْحَالَ مِنْهُ. فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَهَذَا مَفْهُومٌ. وَأَمَّا الِاعْتِذَارُ إِلَى مَنْ يَجْنِي عَلَيْكَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَفْهُومٍ فِي بَادِي الرَّأْيِ، إِذْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْكَ جِنَايَةٌ تُوجِبُ اعْتِذَارًا، وَغَايَتُكَ: أَنَّكَ لَا تُؤَاخِذُهُ. فَهَلْ تَعْتَذِرُ إِلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّكَ تُنْزِلُ نَفْسَكَ مَنْزِلَةَ الْجَانِي لَا الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَالْجَانِي خَلِيقٌ بِالْعُذْرِ. وَالَّذِي يُشْهِدُكَ هَذَا الْمَشْهَدَ: أَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا سُلِّطَ عَلَيْكَ بِذَنْبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] . فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّكَ بَدَأْتَ بِالْجِنَايَةِ فَانْتَقِمْ بِالِلَّهِ مِنْكَ عَلَى يَدِهِ - كُنْتَ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْلَى بِالِاعْتِذَارِ. وَالَّذِي يُهَوِّنُ عَلَيْكَ هَذَا كُلَّهُ: مُشَاهَدَةُ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ الْعَشَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. فَعَلَيْكَ بِهَا. فَإِنَّ فِيهَا كُنُوزَ الْمَعْرِفَةِ وَالْبِرِّ. وَقَوْلُهُ: سَمَاحَةً لَا كَظْمًا. وَمَوَدَّةً، لَا مُصَابَرَةً. يَعْنِي: اجْعَلْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مِنْكَ صَادِرَةً عَنْ سَمَاحَةٍ، وَطَيِبَةِ نَفْسٍ، وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ، لَا عَنْ كَظْمٍ، وَضِيقٍ وَمُصَابَرَةٍ. فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي خُلُقِكَ. وَإِنَّمَا هُوَ تَكَلُّفٌ يُوشِكُ أَنْ يَزُولَ وَيَظْهَرَ حُكْمُ الْخَلْقِ صَرِيحًا فَتُفْتَضَحَ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِلَّا إِصْلَاحَ الْبَاطِنِ وَالسِّرِّ وَالْقَلْبِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ الْعُبُورِ عَلَى جِسْرِ الْمُصَابَرَةِ وَالْكَظْمِ. فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ أَفْضَى بِهِ إِلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بِعَوْنِ اللَّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ فِي السَّيْرِ بِدَلِيلٍ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ فِي السَّيْرِ بِدَلِيلٍ. وَلَا تَشُوبَ إِجَابَتَكَ بِعِوَضٍ. وَلَا تَقِفَ فِي شُهُودِكَ عَلَى رَسْمٍ.

هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الدَّرَجَةُ. أَمَّا عَدَمُ تَعَلُّقِهِ فِي السَّيْرِ بِدَلِيلٍ: فَقَدْ بَيَّنَ مُرَادَهُ بِهِ فِي آخِرِ الْبَابِ، إِذْ يَقُولُ: وَفِي عِلْمُ الْخُصُوصِ: مَنْ طَلَبَ نُورَ الْحَقِيقَةِ عَلَى قَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى الْفُتُوَّةِ أَبَدًا. وَهَذَا مَوْضِعٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَبْيِينٍ وَتَقْدِيرٍ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ السَّائِرَ إِلَى اللَّهِ يَسِيرُ عَلَى قَدَمِ الْيَقِينِ، وَطَرِيقِ الْبَصِيرَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ. فَوُقُوفُهُ مَعَ الدَّلِيلِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشَمَّ رَائِحَةَ الْيَقِينِ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُمْ ضَرُورِيَّةٌ لَا اسْتِدْلَالِيَّةٌ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَلِهَذَا لَمْ تَدْعُ الرُّسُلُ قَطُّ الْأُمَمَ إِلَى الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِنَّمَا دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ. وَخَاطَبُوهُمْ خِطَابَ مَنْ لَا شُبْهَةَ عِنْدِهِ قَطُّ فِي الْإِقْرَارِ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَلَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] وَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَدْلُولٍ هُوَ أَظْهَرُ مِنْ دَلِيلِهِ؟ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ أَطْلُبُ الدَّلِيلَ عَلَى مَنْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟ فَتَقَيُّدُ السَّائِرِ بِالدَّلِيلِ وَتَوَقُّفُهُ عَلَيْهِ، دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ يَقِينِهِ. بَلْ إِنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالدَّلِيلِ الْمُوصِّلِ لَهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ. فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ - بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ - إِلَى دَلِيلٍ يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ، وَيَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ. وَهَذَا الدَّلِيلُ: هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ يَتَقَيَّدُ بِهِ. لَا يَخْطُو خَطْوَةً إِلَّا وَرَاءَهُ. وَأَيْضًا فَالْقَوْمُ يُشِيرُونَ إِلَى الْكَشْفِ، وَمُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ. وَهَذَا لَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ بِالدَّلِيلِ أَصْلًا. وَلَا يُقَالُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى حُصُولِ هَذَا؟ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالسُّلُوكِ فِي مَنَازِلِ السَّيْرِ، وَقَطْعِهَا مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً، حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْمَطْلُوبِ. فَوُصُولُهُ إِلَيْهِ بِالسَّيْرِ لَا بِالِاسْتِدْلَالِ، بِخِلَافِ وُصُولِ الْمُسْتَدِلِّ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَى الْعِلْمِ، وَمَطْلُوبُ الْقَوْمِ وَرَاءَهُ. وَالْعِلْمُ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِهِمْ - كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَلِهَذَا يُسَمُّونَ أَصْحَابَ الِاسْتِدْلَالِ: أَصْحَابَ الْقَالِ. وَأَصْحَابَ الْكَشْفِ: أَصْحَابَ الْحَالِ. وَالْقَوْمُ عَامِلُونَ عَلَى الْكَشْفِ الَّذِي يُحَصِّلُ نُورَ الْعِيَانِ، لَا عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي يُنَالُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْبُرْهَانِ. وَهَذَا مَوْضِعُ غَلَطٍ وَاشْتِبَاهٍ. فَإِنَّ الدَّلِيلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ شَرْطٌ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ. وَهُوَ بَابٌ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَا يُوصَلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ إِلَّا مِنْ بَابِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] . ثُمَّ إِنَّهُ يُخَافُ عَلَى مَنْ لَا يَقِفُ مَعَ الدَّلِيلِ مَا هُوَ أَعْظَمُ الْأُمُورِ وَأَشَدُّهَا خَطَرًا. وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الطَّلَبِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْوُصُولِ إِلَى مُجَرَّدِ الْخَيَالِ وَالْمُحَالِ. فَمَنْ خَرَجَ عَنِ الدَّلِيلِ: ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: تَعَلُّقُهُ فِي الْمَسِيرِ بِالدَّلِيلِ: يُفَرِّقُ عَلَيْهِ عَزْمَهُ وَقَلْبَهُ. فَإِنَّ الدَّلِيلَ يُفَرِّقُ وَالْمَدْلُولَ يُجَمِّعُ. فَالسَّالِكُ يَقْصِدُ الْجَمْعِيَّةَ عَلَى الْمَدْلُولِ. فَمَا لَهُ وَلِتَفْرِقَةِ الدَّلِيلِ؟ قِيلَ: هَذِهِ الْبَلِيَّةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَعْرَضَ مَنْ أَعْرَضَ مِنَ السَّالِكِينَ عَنِ الْعِلْمِ وَنَهَى عَنْهُ. وَجُعِلَتْ عِلَّةً فِي الطَّرِيقِ، وَوَقَعَ هَذَا مِنْ زَمَنِ الشُّيُوخِ الْقُدَمَاءِ الْعَارِفِينَ فَأَنْكَرُوهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ. وَتَبَرَّءُوا مِنْهُ وَمِنْ قَائِلِهِ. وَأَوْصَوْا بِالْعِلْمِ. وَأَخْبَرُوا أَنَّ طَرِيقَهُمْ مُقَيَّدَةٌ بِالْعِلْمِ. لَا يُفْلِحُ فِيهَا مَنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِالْعِلْمِ. وَالْجُنَيْدُ كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُبَالَغَةً فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعِلْمِ، وَحَثًّا لِأَصْحَابِهِ عَلَيْهِ. وَالتَّفَرُّقُ فِي الدَّلِيلِ خَيْرٌ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ عَلَى الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ. فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْجَمْعِيَّةِ حَقًّا إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَالْعِلْمِ. فَالدَّلِيلُ وَالْعِلْمُ ضَرُورِيَّانِ لِلصَّادِقِ. لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُمَا. نَعَمْ يَقِينُهُ وَنُورُ بَصِيرَتِهِ وَكَشْفُهُ: يُغْنِيهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَتَكَلَّفُهَا الْمُتَكَلِّفُونَ، وَأَرْبَابُ الْقَالِ. فَإِنَّهُ مَشْغُولٌ عَنْهَا بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا. وَهُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ. مِثَالُهُ: أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُفْنِي زَمَانَهُ فِي تَقْرِيرِ حُدُوثِ الْعَالَمِ، وَإِثْبَاتِ وُجُودِ الصَّانِعِ. وَذَلِكَ أَمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ عِنْدَ السَّالِكِ الصَّادِقِ صَاحِبِ الْيَقِينِ. فَالَّذِي يَطْلُبُهُ هَذَا بِالِاسْتِدْلَالِ - الَّذِي هُوَ عُرْضَةُ الشَّبَهِ، وَالْأَسْئِلَةِ، وَالْإِيرَادَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا - هُوَ كَشْفٌ وَيَقِينٌ لِلسَّالِكِ، فَتَقَيُّدُهُ فِي سُلُوكِهِ بِحَالِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ انْقِطَاعٌ، وَخُرُوجٌ عَنِ الْفُتُوَّةِ. وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَارِفٌ، فَتَرَى الْمُتَكَلِّمَ يَبْحَثُ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، وَالْأَكْوَانِ، وَهِمَّتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهَا لَا يَعُدُوهَا لِيَصِلَ مِنْهَا إِلَى الْمُكَوِّنِ وَعُبُودِيَّتِهِ. وَالسَّالِكُ قَدْ جَاوَزَهَا إِلَى جَمْعِ الْقَلْبِ عَلَى الْمُكَوِّنِ وَعُبُودِيَّتِهِ بِمُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ. وَلَا يَشْتَغِلُ قَلْبُهُ بِسِوَاهُ. فَالْمُتَكَلِّمُ مُتَفَرِّقٌ مُشْتَغِلٌ فِي مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَالْعَارِفُ قَدْ شَحَّ بِالزَّمَانِ أَنْ يَذْهَبَ ضَائِعًا فِي غَيْرِ السَّيْرِ إِلَى رَبِّ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.

وَبِالْجُمْلَةِ: فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ لَا يَتَعَلَّقُ فِي سَيْرِهِ بِدَلِيلٍ. وَلَا يُمْكِنُهُ السَّيْرُ إِلَّا خَلْفَ الدَّلِيلِ، وَكِلَاهُمَا يَجْتَمِعُ فِي حَقِّهِ. فَهُوَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى وُجُودِ الْمَطْلُوبِ. وَلَا يَسْتَغْنِي طَرْفَةَ عَيْنٍ عَنْ دَلِيلٍ يُوَصِّلُهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ. فَسَيْرُ الصَّادِقِ عَلَى الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ وَالْكَشْفِ، لَا عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا تَشُوبُ إِجَابَتَكَ بِعِوَضٍ. أَيْ تَكُونُ إِجَابَتُكَ لِدَاعِي الْحَقِّ خَالِصَةً، إِجَابَةَ مَحَبَّةٍ وَرَغْبَةٍ، وَطَلَبٍ لِلْمَحْبُوبِ ذَاتِهِ، غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِطَلَبِ غَيْرِهِ مِنَ الْحُظُوظِ وَالْأَعْوَاضِ، فَإِنَّهُ مَتَى حَصَلَ لَكَ حَصَلَ لَكَ كُلُّ عِوَضٍ وَكُلُّ حَظٍّ بِهِ وَكُلُّ قَسَمٍ. كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ: «ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي، وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ. وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ. وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» . فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ طَلَبِ مَا سِوَى اللَّهِ، وَلَمْ يَشُبْ طَلَبَهُ لَهُ بِعِوَضٍ، بَلْ كَانَ حُبًّا لَهُ، وَإِرَادَةً خَالِصَةً لِوَجْهِهِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي يَفُوزُ بِالْأَعْوَاضِ وَالْأَقْسَامِ وَالْحُظُوظِ كُلِّهَا. فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجْعَلْهَا غَايَةَ طَلَبِهِ، تَوَفَّرَتْ عَلَيْهِ فِي حُصُولِهَا. وَهُوَ مَحْمُودٌ مَشْكُورٌ مُقَرَّبٌ. وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مَطْلُوبَةً لَنَقَصَتْ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اشْتِغَالِهِ بِطَلَبِهَا وَإِرَادَتِهَا عَنْ طَلَبِ الرَّبِّ تَعَالَى لِذَاتِهِ وَإِرَادَتِهِ. فَهَذَا قَلْبُهُ مُمْتَلِئٌ بِهَا وَالْحَاصِلُ لَهُ مِنْهَا: نَزْرٌ يَسِيرٌ. وَالْعَارِفُ لَيْسَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا. وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ كُلُّهَا. فَالزُّهْدُ فِيهَا لَا يُفِيتُكُهَا، بَلْ هُوَ عَيْنُ حُصُولِهَا. وَالزُّهْدُ فِي اللَّهِ هُوَ الَّذِي يُفِيتُكَهُ وَيُفِيتُكَ الْحُظُوظَ. وَإِذَا كَانَ لَكَ أَرْبَعَةُ عَبِيدٍ. أَحَدُهُمْ: يُرِيدُكَ وَلَا يُرِيدُ مِنْكَ، بَلْ إِرَادَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَيْكَ وَعَلَى مَرْضَاتِكَ. وَالثَّانِي: يُرِيدُ مِنْكَ وَلَا يُرِيدُكَ، بَلْ إِرَادَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى حُظُوظِهِ مِنْكَ. وَالثَّالِثُ: يُرِيدُكَ وَيُرِيدُ مِنْكَ. وَالرَّابِعُ: لَا يُرِيدُكَ وَلَا يُرِيدُ مِنْكَ. بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقُ الْقَلْبِ بِبَعْضِ عَبِيدِكَ. فَلَهُ يُرِيدُ. وَمِنْهُ يُرِيدُ. فَإِنَّ آثَرَ الْعَبِيدِ عِنْدَكَ، وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْكَ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْكَ مَنْزِلَةً، وَالْمَخْصُوصَ مِنْ إِكْرَامِكَ وَعَطَائِكَ بِمَا لَا يَنَالُهُ الْعَبِيدُ الثَّلَاثَةُ - هُوَ الْأَوَّلُ. هَكَذَا نَحْنُ عِنْدَ اللَّهِ سَوَاءً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا تَقِفْ فِي شُهُودِكَ عَلَى رَسْمٍ. فَيَعْنِي: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْكَ نَظَرٌ إِلَى السِّوَى عِنْدَ الشُّهُودِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرِارًا. وَهَذَا عِنْدَ الْقَوْمِ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ. فَإِنَّ الشُّهُودَ إِذَا صَحَّ مَحَا الرُّسُومَ ضَرُورَةً فِي نَظَرِ الشَّاهِدِ. فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ عَدَمَ الْوُقُوفِ عَلَيْهَا. وَالشُّهُودُ الصَّحِيحُ مَاحٍ لَهَا بِالذَّاتِ. لَكِنَّ أَوَّلَهُ قَدْ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْكَسْبِ. وَنِهَايَتُهُ لَا تَقِفُ عَلَى كَسْبٍ. قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَحْوَجَ عَدُوَّهُ إِلَى شَفَاعَةٍ، وَلَمْ يَخْجَلْ مِنَ الْمَعْذِرَةِ إِلَيْهِ: لَمْ يَشَمَّ

رَائِحَةَ الْفُتُوَّةِ. يَعْنِي أَنَّ الْعَدُوَّ مَتَّى عَلِمَ أَنَّكَ مُتَأَلِّمٌ مِنْ جِهَةِ مَا نَالَكَ مِنَ الْأَذَى مِنْهُ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْكَ، وَيُشَفِّعَ إِلَيْكَ شَافِعًا يُزِيلُ مَا فِي قَلْبِكَ مِنْهُ. فَالْفُتُوَّةُ كُلُّ الْفُتُوَّةِ: أَنْ لَا تُحْوِجَهُ إِلَى الشَّفَاعَةِ، بِأَنْ لَا يَظْهَرَ لَهُ مِنْكَ عَتَبٌ وَلَا تَغَيُّرٌ عَمَّا كَانَ لَهُ مِنْكَ قَبْلَ مُعَادَاتِهِ. وَلَا تَطْوِيَ عَنْهُ بِشْرَكَ وَلَا بِرَّكَ. وَإِذَا لَمْ تَخْجَلْ أَنْتَ مِنْ قِيَامِهِ بَيْنَ يَدَيْكَ مَقَامَ الْمُعْتَذِرِ لَمْ يَكُنْ لَكَ فِي الْفُتُوَّةِ نَصِيبٌ. وَلَا تَسْتَعْظِمُ هَذَا الْخُلُقَ. فَإِنَّ لِلْفِتْيَانِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ. وَلَا تَسْتَصْعِبُهُ. فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشُّطَّارِ وَالْعُشَرَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي حَالِ الْمَعْرِفَةِ وَلَا فِي لِسَانِهَا نَصِيبٌ، فَأَنْتَ أَيُّهَا الْعَارِفُ أَوْلَى بِهِ. قَالَ: وَفِي عِلْمِ الْخُصُوصِ: مَنْ طَلَبَ نُورَ الْحَقِيقَةِ عَلَى قَدَمِ الِاسْتِدْلَالِ: لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى الْفُتُوَّةِ أَبَدًا. كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا لَمْ تُحْوِجْ عَدُوَّكَ إِلَى الْعُذْرِ وَالشَّفَاعَةِ. وَلَمْ تُكَلِّفْهُ طَلَبَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ عُذْرِهِ، فَكَيْفَ تُحْوِجُ وَلِيَّكَ وَحَبِيبَكَ إِلَى أَنْ يُقِيمَ لَكَ الدَّلِيلَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَا تُشِيرُ إِلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ لَكَ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؟ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ دَرَجَةِ الْفُتُوَّةِ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا خِلَافَ الْفُتُوَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؟ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا دَعَاكَ إِلَى دَارِهِ. فَقَلْتَ لِلرَّسُولِ: لَا آتِي مَعَكَ حَتَّى تُقِيمَ لِيَ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُودِ مَنْ أَرْسَلَكَ، وَأَنَّهُ مُطَاعٌ، وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُغْشَى بَابُهُ. لَكُنْتَ فِي دَعْوَى الْفُتُوَّةِ زَنِيمًا. فَكَيْفَ بِمَنْ وَجُودُهُ، وَوَحْدَانِيَّتُهُ، وَقُدْرَتُهُ، وَرُبُوبِيَّتُهُ، وَإِلَهِيَّتُهُ - أَظْهَرُ مَنْ كُلِّ دَلِيلٍ تَطْلُبُهُ؟ فَمَا مِنْ دَلِيلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ، إِلَّا وَوَحْدَانِيَّةُ اللَّهِ وَكَمَالُهُ أَظْهَرُ مِنْهُ. فَإِقْرَارُ الْفِطَرِ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ خَالِقِ الْعَالَمِ: لَمْ يُوقِفْهَا عَلَيْهِ مُوقِفٌ. وَلَمْ تَحْتَجْ فِيهِ إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] . فَأَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ دَرَجَةِ الْفُتُوَّةِ: طَالِبُ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ.

فصل منزلة المروءة

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْمُرُوءَةِ] [حَقِيقَةُ الْمُرُوءَةِ] وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْمُرُوءَةِ. الْمُرُوءَةُ فُعُولَةٌ مَنْ لَفَظِ الْمَرْءِ، كَالْفُتُوَّةِ مِنَ الْفَتَى، وَالْإِنْسَانِيَّةُ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَلِهَذَا كَانَ حَقِيقَتُهَا: اتِّصَافَ النَّفْسِ بِصِفَاتِ الْإِنْسَانِ الَّتِي فَارَقَ بِهَا الْحَيَوَانَ الْبَهِيمَ، وَالشَّيْطَانَ الرَّجِيمَ. فَإِنَّ فِي النَّفْسِ ثَلَاثَةَ دَوَاعٍ مُتَجَاذِبَةٍ: دَاعٍ يَدْعُوهَا إِلَى الْإِنْصَافِ بِأَخْلَاقِ الشَّيْطَانِ: مِنَ الْكِبْرِ، وَالْحَسَدِ، وَالْعُلُوِّ، وَالْبَغْيِ، وَالشَّرِّ، وَالْأَذَى، وَالْفَسَادِ، وَالْغِشِّ. وَدَاعٍ يَدْعُوهَا إِلَى أَخْلَاقِ الْحَيَوَانِ. وَهُوَ دَاعِي الشَّهْوَةِ. وَدَاعٍ يَدْعُوهَا إِلَى أَخْلَاقِ الْمَلَكِ: مِنَ الْإِحْسَانِ، وَالنُّصْحِ، وَالْبِرِّ، وَالْعِلْمِ، وَالطَّاعَةِ. فَحَقِيقَةُ الْمُرُوءَةِ: بُغْضُ ذَيْنِكَ الدَّاعِيَيْنِ، وَإِجَابَةُ الدَّاعِي الثَّالِثِ. وَقِلَّةُ الْمُرُوءَةِ وَعَدَمُهَا: هُوَ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ ذَيْنِكَ الدَّاعِيَيْنِ، وَالتَّوَجُّهُ لِدَعْوَتِهِمَا أَيْنَ كَانَتْ. فَالْإِنْسَانِيَّةُ، وَالْمُرُوءَةُ، وَالْفُتُوَّةُ: كُلُّهَا فِي عِصْيَانِ الدَّاعِيَيْنِ، وَإِجَابَةُ الدَّاعِي الثَّالِثِ. كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ عُقُولًا بِلَا شَهْوَةٍ. وَخَلَقَ الْبَهَائِمَ شَهْوَةً بِلَا عُقُولٍ. وَخَلَقَ ابْنَ آدَمَ، وَرَكَّبَ فِيهِ الْعَقْلَ وَالشَّهْوَةَ. فَمَنْ غَلَبَ عَقْلُهُ شَهْوَتَهُ: الْتَحَقَ بِالْمَلَائِكَةِ. وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَقْلَهُ: الْتَحَقَ بِالْبَهَائِمِ. وَلِهَذَا قِيلَ فِي حَدِّ الْمُرُوءَةِ: إِنَّهَا غَلَبَةُ الْعَقْلِ لِلشَّهْوَةِ. وَقَالَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّهَا: هِيَ اسْتِعْمَالُ مَا يُجَمِّلُ الْعَبْدَ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ. وَقِيلَ: الْمُرُوءَةُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ. وَاجْتِنَابُ كُلِّ خُلُقٍ قَبِيحٍ. وَحَقِيقَةُ الْمُرُوءَةِ تَجَنُّبُ الدَّنَايَا وَالرَّذَائِلِ، مِنَ الْأَقْوَالِ، وَالْأَخْلَاقِ، وَالْأَعْمَالِ. فَمُرُوءَةُ اللِّسَانِ: حَلَاوَتُهُ وَطِيبُهُ وَلِينُهُ، وَاجْتِنَاءُ الثِّمَارِ مِنْهُ بِسُهُولَةٍ وَيُسْرٍ. وَمُرُوءَةُ الْخُلُقِ: سَعَتُهُ وَبَسْطُهُ لِلْحَبِيبِ وَالْبَغِيضِ.

وَمُرُوءَةُ الْمَالِ: الْإِصَابَةُ بِبَذْلِهِ مَوَاقِعَهُ الْمَحْمُودَةَ عَقْلًا وَعُرْفًا وَشَرْعًا. وَمُرُوءَةُ الْجَاهِ: بَذْلُهُ لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ. وَمُرُوءَةُ الْإِحْسَانِ: تَعْجِيلُهُ وَتَيْسِيرُهُ، وَتَوْفِيرُهُ، وَعَدَمُ رُؤْيَتِهِ حَالَ وُقُوعِهِ، وَنِسْيَانُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ. فَهَذِهِ مُرُوءَةُ الْبَذْلِ. وَأَمَّا مُرُوءَةُ التَّرْكِ: فَتَرْكُ الْخِصَامِ، وَالْمُعَاتَبَةِ، وَالْمُطَالَبَةِ وَالْمُمَارَاةِ، وَالْإِغْضَاءِ عَنْ عَيْبِ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ حَقِّكَ. وَتَرْكُ الِاسْتِقْصَاءِ فِي طَلَبِهِ. وَالتَّغَافُلُ عَنْ عَثَرَاتِ النَّاسِ، وَإِشْعَارُهُمْ أَنَّكَ لَا تَعْلَمُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ عَثْرَةً، وَالتَّوْقِيرُ لِلْكَبِيرِ، وَحِفْظُ حُرْمَةِ النَّظِيرِ، وَرِعَايَةُ أَدَبِ الصَّغِيرِ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُرُوءَةُ الْمَرْءِ مَعَ نَفْسِهِ، وَهِيَ أَنْ يَحْمِلَهَا قَسْرًا عَلَى مَا يُجَمِّلُ وَيُزَيِّنُ. وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُ وَيَشِينُ، لِيَصِيرَ لَهَا مَلَكَةٌ فِي الْعَلَانِيَةِ. فَمَنْ أَرَادَ شَيْئًا فِي سِرِّهِ وَخَلْوَتِهِ: مَلَكَهُ فِي جَهْرِهِ وَعَلَانِيَتِهِ. فَلَا يَكْشِفُ عَوْرَتَهُ فِي الْخَلْوَةِ، وَلَا يَتَجَشَّأُ بِصَوْتٍ مُزْعِجٍ مَا وَجَدَ إِلَى خِلَافِهِ سَبِيلًا. وَلَا يُخْرِجُ الرِّيحَ بِصَوْتٍ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَا يَجْشَعُ وَيَنْهِمُ عِنْدَ أَكْلِهِ وَحْدَهُ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَلَا يَفْعَلُ خَالِيًا مَا يَسْتَحْيِي مِنْ فِعْلِهِ فِي الْمَلَأِ، إِلَّا مَا لَا يَحْظُرُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ. وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْخَلْوَةِ، كَالْجِمَاعِ وَالتَّخَلِّي وَنَحْوِ ذَلِكَ. الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرُوءَةُ مَعَ الْخَلْقِ، بِأَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُمْ شُرُوطَ الْأَدَبِ وَالْحَيَاءِ، وَالْخُلُقِ الْجَمِيلِ، وَلَا يُظْهِرُ لَهُمْ مَا يَكْرَهُهُ هُوَ مِنْ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ. وَلِيَتَّخِذَ النَّاسَ مِرْآةً لِنَفْسِهِ. فَكُلُّ مَا كَرِهَهُ وَنَفَرَ عَنْهُ، مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ خُلُقٍ، فَلْيَتَجَنَّبْهُ. وَمَا أَحَبَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَحْسَنَهُ فَلْيَفْعَلْهُ. وَصَاحِبُ هَذِهِ الْبَصِيرَةِ يَنْتَفِعُ بِكُلِّ مَنْ خَالَطَهُ وَصَاحَبَهُ مِنْ كَامِلٍ وَنَاقِصٍ، وَسَيِّئِ الْخُلُقِ وَحَسَنِهِ. وَعَدِيمِ الْمُرُوءَةِ وَغَزِيرِهَا. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: يَتَعَلَّمُ الْمُرُوءَةَ، وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ مِنَ الْمَوْصُوفِينَ بِأَضْدَادِهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَمْلُوكٌ سَيِّئُ الْخُلُقِ، فَظٌّ غَلِيظٌ، لَا يُنَاسِبُهُ. فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَدْرُسُ عَلَيْهِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ. وَهَذَا يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي ضِدِّ أَخْلَاقِهِ. وَيَكُونُ بِتَمْرِينِ النَّفْسِ عَلَى مُصَاحَبَتِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ. الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرُوءَةُ مَعَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، بِالِاسْتِحْيَاءِ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْكَ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْكَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَنَفْسٍ، وَإِصْلَاحِ عُيُوبِ نَفْسِكَ جَهْدَ الْإِمْكَانِ. فَإِنَّهُ قَدِ اشْتَرَاهَا

فصل منزلة البسط

مِنْكَ. وَأَنْتَ سَاعٍ فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَتَقَاضِي الثَّمَنِ. وَلَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ: تَسْلِيمُهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ، وَتَقَاضِي الثَّمَنِ كَامِلًا. أَوْ رُؤْيَةُ مِنَّتِهِ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لَهُ، لَا أَنْتَ. فَيُغْنِيكَ الْحَيَاءُ مِنْهُ عَنْ رُسُومِ الطَّبِيعَةِ. وَالِاشْتِغَالُ بِإِصْلَاحِ عُيُوبِ نَفْسِكَ عَنِ الْتِفَاتِكَ إِلَى عَيْبِ غَيْرِكَ، وَشُهُودِ الْحَقِيقَةِ عَنْ رُؤْيَةِ فِعْلِكَ وَصَلَاحِكَ. وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ فِي مَنْزِلَةِ الْخُلُقِ وَالْفُتُوَّةِ فَإِنَّهُ بِعَيْنِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَلِذَلِكَ اقْتَصَرْنَا مِنْهَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ. وَصَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَغْنَى بِمَا ذَكَرَ فِي الْفُتُوَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْبَسْطِ] [حَقِيقَةُ الْبَسْطِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْبَسْطِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْبَسْطِ، وَالتَّخَلِّي عَنِ الْقَبْضِ. وَهِيَ مَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ لَطِيفَةٌ. وَهِيَ عُنْوَانٌ عَلَى الْحَالِ. وَدَاعِيَةٌ لِمَحَبَّةِ الْخَلْقِ. وَقَدْ غَلِطَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " حَيْثُ صَدَّرَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى، حَاكِيًا عَنْ كَلِيمِهِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155] . وَكَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ: انْبِسَاطًا بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. حَمَلَهُ عَلَى أَنْ قَالَ: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] . وَسَمِعْتُ بَعْضَ الصُّوفِيَّةَ يَقُولُ لِآخَرَ - وَهُمَا فِي الطَّوَافِ - لَمَّا قَالَ: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] تَدَارَكَ هَذَا الِانْبِسَاطَ بِالتَّذَلُّلِ بِقَوْلِهِ: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155] أَوْ نَحْوٍ مَنْ هَذَا الْكَلَامِ. وَكُلُّ هَذَا وَهْمٌ. وَفَهْمٌ خِلَافَ الْمَقْصُودِ. فَالْفِتْنَةُ هَاهُنَا: هِيَ الِامْتِحَانُ. وَالِاخْتِبَارُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] وَقَوْلِهِ: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] .

درجات البسط

وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ اخْتِبَارٌ مِنْكَ لِعَبْدِكَ، وَامْتِحَانٌ. تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ. وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ. فَأَيُّ تَعَلُّقٍ لِهَذَا بِالِانْبِسَاطِ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا تَوْحِيدٌ، وَشُهُودٌ لِلْحِكْمَةِ، وَسُؤَالٌ لِلْعِصْمَةِ، وَالْمَغْفِرَةِ؟ وَلَيْسَ لِلْعَارِفِ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ حَظٌّ مَعَ اللَّهِ. وَإِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَلْقِ. وَصَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": جَعَلَهَا ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ. الْأُولَى: مَعَ النَّاسِ، وَالثَّانِيَةَ، وَالثَّالِثَةَ: مَعَ اللَّهِ. وَسَنُبَيِّنُ مَا فِي كَلَامِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَتَوْفِيقِهِ. قَالَ: الِانْبِسَاطُ: إِرْسَالُ السَّجِيَّةِ، وَالتَّحَاشِي مِنْ وَحْشَةِ الْحِشْمَةِ. السَّجِيَّةُ الطَّبْعُ، وَجَمْعُهَا سَجَايَا، يُقَالُ: سَجِيَّةٌ، وَخَلِيقَةٌ، وَطَبِيعَةٌ، وَغَرِيزَةٌ. وَإِرْسَالُهَا: تَرْكُهَا فِي مَجْرَاهَا. وَالتَّحَاشِي مِنْ وَحْشَةِ الْحِشْمَةِ. التَّحَاشِي: هُوَ تَجَنُّبُ الْوَحْشَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَنْ تُحِبُّهُ وَتَخْدُمُهُ. فَإِنَّ مَرْتَبَتَهُ تَقْتَضِي احْتِشَامَهُ، وَالْحَيَاءَ مِنْهُ، وَإِجْلَالَهُ عَنِ انْبِسَاطِكَ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ نَوْعُ وَحْشَةٍ، فَالِانْبِسَاطُ: إِزَالَةُ تِلْكَ الْوَحْشَةِ لَا تُسْقِطُكَ مِنْ عَيْنِهِ. بَلْ تَزِيدُكَ حُبًّا إِلَيْهِ. وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَقَعَ فِي مَوْقِعِهِ. قَالَ: وَهُوَ السَّيْرُ مَعَ الْجِبِلَّةِ، أَيِ الْمَشْيُ مَعَ مَا جَبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعَبْدَ مِنَ الْأَخْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ. [دَرَجَاتُ الْبَسْطِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى الِانْبِسَاطُ مَعَ الْخَلْقِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الِانْبِسَاطُ مَعَ الْخَلْقِ. وَهُوَ أَنْ تَعْتَزِلَهُمْ، ضَنًّا عَلَى نَفْسِكَ، أَوْ شُحًّا عَلَى حَظِّكَ. وَتَسْتَرْسِلَ لَهُمْ فِي فَضْلِكَ. وَتَسَعَهُمْ بُخُلُقِكَ، وَتَدَعَهُمْ يَطَؤُونَكَ. وَالْعِلْمُ قَائِمٌ، وَشُهُودُ الْمَعْنَى دَائِمٌ. يُرِيدُ: لَا تَبْخَلْ عَلَيْهِمْ بِنَفْسِكَ. فَيَحْمِلَكَ ذَلِكَ الْبُخْلُ عَلَى اعْتِزَالِهِمْ. وَتَشِحَّ بِحَظِّكَ فِي الْخَلْوَةِ. وَرَاحَةُ الْعُزْلَةِ: أَنْ تَذْهَبَ بِمُخَالَطَتِهِمْ، بَلْ تَحْمِلُكَ السَّمَاحَةُ وَالْجُودُ وَالْبَذْلُ عَلَى أَنْ تَتْرُكَ ذَلِكَ لِرَاحَةِ إِخْوَانِكَ بِكَ، وَانْتِفَاعِهِمْ بِمُجَالَسَتِكَ. فَتَتَكَرَّمَ عَلَيْهِمْ بِحَظِّكَ فِي عُزْلَتِكَ وَخَلْوَتِكَ، وَتُؤْثِرَهُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. وَهَذَا مِنَ الْفُتُوَّةِ. وَالْمُرُوءَةُ وَالتَّخَلُّقُ ضِدٌّ مِنْ أَضْدَادِهَا. قَوْلُهُ: وَتَسْتَرْسِلَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِكَ. يَعْنِي: إِذَا اسْتَرْسَلْتَ مَعَهُمْ، وَلَمْ تَجْذِبْ عَنْهُمْ عِنَانَكَ: نَالُوا مِنْ فَضْلِكَ. فَيَكُونُ اسْتِرْسَالُكَ سَبَبًا لِنَيْلِهِمْ لِفَضْلِكَ، وَقَبْضُ الْعِنَانِ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ.

فصل الدرجة الثانية الانبساط مع الحق

وَتَسَعُهُمْ بِخُلُقِكَ بِاحْتِمَالِ مَا يَبْدُو مِنْهُمْ مَنْ سُوءِ الْعِشْرَةِ، فَخُذْ مِنْهُمْ مَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ. وَهُوَ الْعَفْوُ. وَتَدَعَهُمْ يَطَؤُونَكَ أَيْ يَدُوسُونَكَ مِنْ لِينِكَ وَتَوَاضُعِكَ، وَخَفْضِ جَنَاحِكَ، بِحَيْثُ لَا تَتْرُكُ لِنَفْسِكَ بَيْنَهُمْ رُتْبَةً تَتَقَاضَاهُمْ أَنْ يَحْتَرِمُوكَ لِأَجْلِهَا. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ. قَوْلُهُ: وَالْعِلْمُ قَائِمٌ. وَشُهُودُ الْمَعْنَى دَائِمٌ. أَمَّا قِيَامُ الْعِلْمِ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاسْتِرْسَالُ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، غَيْرَ مُخْرِجٍ عَنْ حُدُودِهِ وَآدَابِهِ، بِحَيْثُ لَا تَحْمِلُهُمْ عَلَى تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ، وَتَضْيِيعِ حَقِّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ. وَأَمَّا دَوَامُ شُهُودِ الْمَعْنَى فَهُوَ حِفْظُ حَالِكَ وَقَلْبِكَ مَعَ اللَّهِ، وَدَوَامُ إِقْبَالِكَ عَلَيْهِ بِقَلْبِكَ كُلِّهِ. فَأَنْتَ مَعَهُمْ مُسْتَرْسِلٌ بِشَبَحِكَ وَرَسْمِكَ وَصُورَتِكَ فَقَطْ. وَمُفَارَقَتِهِمْ بِقَلْبِكَ وَسِرِّكَ، مُشَاهِدًا لِلْمَعْنَى الَّذِي بِهِ حَيَاتُكَ. فَإِذَا فَارَقْتَهُ كُنْتَ كَالْحُوتِ إِذَا فَارَقَ الْمَاءَ. فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ حَيَاةُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ. فَإِذَا فَاتَ الْعَبْدَ عَلَتْهُ الْكَآبَةُ، وَغَمَرَهُ الْهَمُّ وَالْغَمُّ وَالْأَحْزَانُ، وَتَلَوَّنَ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ. وَتَاهَ قَلْبُهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ. وَفَقَدَ نَعِيمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ يَحْيَى الصَّرْصَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: إِذَا صَارَ قَلْبُ الْعَبْدِ لِلسِّرِّ مَعْدِنًا تَلُوحُ عَلَى أَعْطَافِهِ بَهْجَةُ السَّنَا وَإِنْ فَاتَهُ الْمَعْنَى عَلَتْهُ كَآبَةٌ فَأَصْبَحَ فِي أَفْعَالِهِ مُتَلَوِّنَا فَمَتَى كَانَ شُهُودُ هَذَا الْمَعْنَى قَائِمًا فِي قَلْبِكَ: لَا يَضُرُّكَ مُخَالَطَةُ مَنْ لَا تَسْلُبُكَ إِيَّاهُ مُخَالَطَتُهُ وَالِانْبِسَاطُ إِلَيْهِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الِانْبِسَاطُ مَعَ الْحَقِّ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الِانْبِسَاطُ مَعَ الْحَقِّ. وَهُوَ أَنْ لَا يَحْبِسَكَ خَوْفٌ، وَلَا يَحْجُبَكَ رَجَاءٌ. وَلَا يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ آدَمُ وَلَا حَوَّاءُ.

يُرِيدُ: أَنْ لَا يَمْنَعَكَ عَنْ الِانْبِسَاطِ إِلَيْهِ خَوْفٌ. فَإِنَّ مَقَامَ الْخَوْفِ لَا يُجَامِعُ مَقَامَ الِانْبِسَاطِ. وَالْخَوْفُ مِنْ أَحْكَامِ اسْمِ الْقَابِضِ وَالِانْبِسَاطُ مِنْ أَحْكَامِ اسْمِ الْبَاسِطِ. وَالْبَسْطُ عِنْدَهُمْ: مِنْ مُشَاهَدَةِ أَوْصَافِ الْجِمَالِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّوَدُّدِ وَالرَّحْمَةِ. وَالْقَبْضُ مِنْ مُشَاهَدَةِ أَوْصَافِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَدْلِ وَالِانْتِقَامِ. وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْخَوْفَ مِنْ مَنَازِلِ الْعَامَّةِ. وَالِانْبِسَاطُ مِنْ مَنَازِلِ الْخَاصَّةِ. إِذِ الِانْبِسَاطُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْعَارِفِينَ أَرْبَابِ التَّجَلِّيَاتِ. وَلَيْسَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ خَوْفٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَحْجُبَكَ رَجَاءٌ؛ فَلِأَنَّ الرَّاجِيَ لِطَلَبِهِ حَاجَتُهُ تَحْتَاجُ إِلَى التَّمَلُّقِ وَالتَّذَلُّلِ. فَيَحْجُبُهُ رَجَاؤُهُ وَطَمَعُهُ فِيمَا يَنَالُهُ مِنَ الْمُعَظَّمِ عَنِ انْبِسَاطِهِ. كَالسَّائِلِ لِلْغَنِيِّ. فَإِنَّ سُؤَالَهُ وَطَمَعَهُ يَمْنَعُهُ مِنِ انْبِسَاطِهِ إِلَيْهِ. فَإِذَا غَابَ عَنْ ذَلِكَ انْبَسَطَ. وَقَوْلُهُ: وَلَا يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ آدَمُ وَلَا حَوَّاءُ. اسْتِعَارَةٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَرَاهُ أَقْرَبَ إِلَيْكَ مِنْ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، وَأَرْحَمَ بِكَ مِنْهُمَا، وَأَشْفَقَ عَلَيْكَ. فَلَا تُوَسِّطُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَبًا خَرَجْتَ مِنْ صُلْبِهِ، وَلَا أُمًّا رَكَضْتَ فِي رَحِمِهَا. وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ. وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّكَ تُشَاهِدُ خَلْقَهُ لَكَ بِلَا وَاسِطَةٍ. كَمَا خَلَقَ آدَمَ وَحَوَّاءَ. فَتُشَاهِدُ خَلْقَهُ لَكَ بِيَدِهِ، وَنَفْخَهُ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ. وَإِسْجَادَ مَلَائِكَتَهُ لَكَ. وَإِبْعَادَ إِبْلِيسَ حَيْثُ لَمْ يَسْجُدْ لَكَ. وَأَنْتَ فِي صُلْبِ أَبِيكَ آدَمَ. وَهَذَا يُوجِبُ لَكَ شُهُودَ الِانْطِوَاءِ عَنْ الِانْبِسَاطِ. وَهُوَ رَحْبُ الْهِمَّةِ لِانْطِوَاءِ انْبِسَاطِ الْعَبْدِ فِي بَسْطِ الْحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنْ لَا يَرَى الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ انْبِسَاطًا وَلَا انْقِبَاضًا. بَلْ يَنْطَوِي انْبِسَاطُهُ وَيَضْمَحِلُّ فِي صِفَةِ الْبَسْطِ الَّتِي لِلْحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَهَذَا شُهُودُ مَعْنَى اسْمِ الْبَاسِطِ عَزَّ وَجَلَّ. فَهَذَا تَقْدِيرُ كَلَامِهِ، عَلَى أَنَّ فِيهِ مَقْبُولًا وَمَرْدُودًا. وَلَا مَعْنَى لِتَعَلُّقِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِالرَّبِّ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا تَعَلُّقُهَا بِالْخَلْقِ: فَصَحِيحٌ. نَعَمْ هَاهُنَا مَقَامُ اشْتِبَاهٍ وَفَرْقٍ. وَهُوَ أَنَّ الْمُحِبَّ الصَّادِقَ: لَا بُدَّ أَنْ يُقَارِنَهُ أَحْيَانًا فَرَحٌ بِمَحْبُوبِهِ. وَيَشْتَدَّ فَرَحُهُ بِهِ. وَيَرَى مَوَاقِعَ لُطْفِهِ بِهِ، وَبِرِّهِ بِهِ، وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِ وَحُسْنَ دِفَاعِهِ عَنْهُ، وَالتَّلَطُّفَ فِي إِيصَالِهِ الْمَنَافِعَ وَالْمَسَارَّ وَالْمَبَارَّ إِلَيْهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَدَفْعَ الْمَضَارِّ وَالْمَكَارِهِ عَنْهُ

بِكُلِّ طَرِيقٍ. وَكُلَّمَا فَتَّشَ عَنْ ذَلِكَ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى أُمُورٍ عَجِيبَةٍ. لَا يَقِفُ وَهْمُهُ وَمُقْتَبَسُهُ لَهَا عَلَى غَايَةٍ. بَلْ مَا خَفِيَ عَنْهُ مِنْهَا أَعْظَمُ. فَيُدَاخِلُهُ مِنْ شُهُودِ هَذِهِ الْحَالَةِ نَوْعُ إِدْلَالٍ وَانْبِسَاطٍ. وَشُهُودُ نَفْسِهِ فِي مَنْزِلَةِ الْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ. وَلَا يَسْلَمُ مِنْ آفَاتِ ذَلِكَ إِلَّا خَوَاصُّ الْعَارِفِينَ. وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ نِهَايَتُهُ: أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا، وَمَا يَبْدُو مِنْهُ مِنْ أَحْكَامِهِ بِالشَّطَحَاتِ أَلْيَقُ مِنْهُ بِأَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ. وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ فِي مَنْزِلَةِ الْقُرْبِ وَالْكَرَامَةِ وَالْحُظْوَةِ وَالْجَاهِ مَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَكَانَ أَشَدَّ الْخَلْقِ لِلَّهِ خَشْيَةً وَتَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا. وَحَالُهُ كُلُّهَا مَعَ اللَّهِ تَشْهَدُ بِتَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ. وَأَيْنَ دَرَجَةُ الِانْبِسَاطِ مِنَ الْمَخْلُوقِ مِنَ التُّرَابِ، إِلَى الِانْبِسَاطِ مَعَ رَبِّ الْأَرْبَابِ؟ نَعَمْ لَا يُنْكِرُ فَرَحَ الْقَلْبِ بِالرَّبِّ تَعَالَى وَسُرُورَهُ بِهِ، وَابْتِهَاجَهُ وَقُرَّةَ عَيْنِهِ، وَنَعِيمَهُ بِحُبِّهِ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِهِ: إِلَّا كَثِيفُ الْحِجَابِ، حَجَرِيُّ الطِّبَاعِ. فَلَا بِهَذَا الْمَيَعَانِ. وَلَا بِذَاكَ الْجُمُودِ وَالْقَسْوَةِ. وَبِهَذَا وَمِثْلِهِ طَرَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْقَوْمِ السَّبِيلَ إِلَيْهِمْ. وَفَتَحُوا لِلْمَقَالَةِ فِيهِمْ بَابًا، فَالْعَبْدُ الْخَائِفُ الْوَجِلُ الْمُشْفِقُ الذَّلِيلُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، الْمُنَكَّسُ الرَّأْسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، الَّذِي لَا يَرْضَى لِرَبِّهِ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ: هُوَ أَحْوَجُ شَيْءٍ إِلَى عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلَا يَرَى نَفْسَهُ فِي نِعْمَتِهِ إِلَّا طُفَيْلِيًّا. وَلَا يَرَى نَفْسَهُ مُحْسِنًا قَطُّ. وَإِنْ صَدَرَ مِنْهُ إِحْسَانٌ: عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا بِهَا وَلَا فِيهَا. وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَصَدَقَتُهُ عَلَيْهِ. فَمَا لِهَذَا وَالِانْبِسَاطِ؟ نَعَمِ انْبِسَاطُهُ انْبِسَاطُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ وَرِضًا وَابْتِهَاجٍ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِانْبِسَاطِ هَذَا: فَلَا نُنْكِرُهُ. لَكِنَّهُ غَيْرَ الِاسْتِرْسَالِ الْمَذْكُورِ، وَالِاسْتِشْهَادُ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ يُبَيِّنُ مُرَادَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل منزلة العزم

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْعَزْمِ] [أَنْوَاعُ الْعَزْمِ] وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْعَزْمِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: عَزْمُ الْمُرِيدِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الطَّرِيقِ. وَهُوَ بِدَايَةٌ. وَالثَّانِي: عَزْمُ السَّالِكِ. وَهُوَ مَقَامٌ ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " فِي وَسَطِ كِتَابِهِ فِي قِسْمِ الْأُصُولِ فَقَالَ: هُوَ تَحْقِيقُ الْقَصْدِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. أَمَّا قَوْلُهُ: تَحْقِيقُ الْقَصْدِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ مُحَقَّقًا. لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ التَّرَدُّدِ. وَأَمَّا تَقْسِيمُهُ هَذَا التَّحْقِيقَ إِلَى طَوْعٍ وَكَرْهٍ: فَصَحِيحٌ. فَإِنَّ الْمُخْتَارَ: تَحْقِيقُ قَصْدِهِ طَوْعًا. وَأَمَّا الْمُكْرَهُ: فَتَحْقِيقُ قَصْدِهِ كَرْهًا. فَإِنَّهُ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى فِعْلٍ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ: قَدْ حَقَّقَ قَصْدَهُ كَرْهًا لَا طَوْعًا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ فِي الْمُكْرَهِ: هَلْ يُسَمَّى مُخْتَارًا، أَمْ لَا؟ . وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: التَّحْقِيقُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاخْتِيَارِ. فَلَهُ اخْتِيَارٌ فِي الْفِعْلِ. وَبِهِ صَحَّ وُقُوعُهُ. فَإِنَّهُ لَوْلَا إِرَادَتُهُ وَاخْتِيَارُهُ: لَمَا وَقَعَ الْفِعْلُ. وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ وَالِاخْتِيَارَ لَيْسَتْ مِنْ قِبَلِهِ. فَهُوَ مُخْتَارٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ مِنْهُ. وَغَيْرُ مُخْتَارٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ غَيْرَهُ حَمَلَهُ عَلَى الِاخْتِيَارِ. وَلَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا مِنْ نَفْسِهِ. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ.

درجات العزم

[دَرَجَاتُ الْعَزْمِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى إِبَاءُ الْحَالِ عَلَى الْعِلْمِ] قَالَ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: إِبَاءُ الْحَالِ عَلَى الْعِلْمِ، لِشَيْمِ بَرْقِ الْكَشْفِ، وَاسْتِدَامَةِ نُورِ الْأُنْسِ، وَالْإِجَابَةِ لِإِمَاتَةِ الْهَوَى. يُرِيدُ بِ " إِبَاءِ الْحَالِ عَلَى الْعِلْمِ ": اسْتِعْصَاؤَهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ صَاحِبَ الْحَالِ: تَأْبَى عَلَيْهِ حَالُهُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْهُ إِلَى دَرَجَةِ الْعِلْمِ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلَّ الصُّعُوبَةِ. وَهُوَ انْحِطَاطٌ فِي رُتْبَتِهِ. وَلَا يُرِيدُ امْتِنَاعَ الْحَالِ عَنْ طَاعَةِ الْعِلْمِ وَتَحْكِيمِهِ. فَإِنَّ هَذَا انْحِلَالٌ، وَانْسِلَاخٌ مِنَ الطَّرِيقِ بِالْكُلِّيَّةِ. فَكُلُّ حَالٍ لَا يُطِيعُ الْعِلْمَ وَلَا يُحَكِّمَهُ فَهُوَ حَالٌ فَاسِدٌ، مُبْعِدٌ عَنِ اللَّهِ. لَكِنَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى حَالِ الْعِلْمِ يَحْجُبُهُ حَالُهُ أَنْ يَنْزِلَ إِلَى دَرَجَةِ الْعِلْمِ. وَيَنْحَطَّ إِلَيْهَا بِلَا حَالٍ. فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ هَذَا الْمَعْنَى: فَهُوَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ: امْتِنَاعَ الْحَالِ عَنْ طَاعَةِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يَدْعُو إِلَى أَحْكَامِ الْغَيْبَةِ وَالْحِجَابِ. وَالْحَالَ يَدْعُو إِلَى أُنْسِ الْكَشْفِ وَالْحُضُورِ. فَصَاحِبُ الْحَالِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْعِلْمِ - فَبَاطِلٌ. فَإِنَّ الْعِلْمَ شَرْطٌ فِي الْحَالِ تَسْتَحِيلُ مَعْرِفَةُ صِحَّتِهِ بِدُونِهِ. نَعَمْ لَا يُنْكَرُ حُصُولُهُ بِدُونِ الْعِلْمِ. لَكِنَّ صَاحِبَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا وُثُوقٍ بِهِ. وَشَيْمُ بَرْقِ الْكَشْفِ، هُوَ النَّظَرُ إِلَيْهِ عَلَى بُعْدٍ. فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَالِ: عَامِلٌ عَلَى شَيْمِ بِرْقِ الْكَشْفِ. لِأَنَّ شَيْمَ بَرْقِ الْكَشْفِ: يُوجِبُ نُورًا يَأْنَسُ بِهِ الْقَلْبُ. فَعَزِيمَةُ صَاحِبِهِ: عَلَى اسْتَدَامَتِهِ وَحِفْظِهِ. وَأَمَّا الْإِجَابَةُ لِإِمَاتَةِ الْهَوَى. فَهُوَ أَنَّ السَّالِكَ إِذَا أَشْرَفَ عَلَى الْكَشْفِ: أَحَسَّ بِحَالَةٍ شَبِيهَةٍ بِالْمَوْتِ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَسْقُطُ إِلَى الْأَرْضِ. وَيَظُنُّ ذَلِكَ مَوْتًا. وَهَذِهِ الْحَالُ مِنْ مَبَادِئِ الْفَنَاءِ فَتَهْوَى نَفْسُهُ الْعَوْدَ إِلَى الْحِجَابِ، خَوْفًا مِنْ الِانْعِدَامِ، لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ مِنْ كَرَاهَةِ الْمَوْتِ. فَإِذَا حَصَلَ الْعَزْمُ أُمِيتَ هَذَا الْهَوَى، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، رَغْبَةً فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنَ الْفَنَاءِ فِي الْفَرْدَانِيَّةِ. فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَبْدَأُ إِلَّا بَعْدَ فَنَاءِ الْبَشَرِيَّةِ. هَذَا الَّذِي قَالَهُ حَقٌّ. لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا مَنْ لَمْ يَذُقْهُ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي مَرْتَبَتِهِ، وَأَنَّهُ غَايَةٌ أَوْ تَوَسُّطٌ أَوْ لَازَمٌ، أَوْ عَارِضٌ؟ .

فصل الدرجة الثانية الاستغراق في لوائح المشاهدة

فَشَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَرَى أَنَّهُ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ الطَّرِيقِ لَا يَعْرِضُ لِلْكُّلِ. وَمِنَ السَّالِكِينَ مَنْ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَلْبَتَّةَ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرَاهُ لَازِمًا لِلطَّرِيقِ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرَاهُ غَايَةً لَا شَيْءَ فَوْقَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ تَوَسُّطًا. وَفَوْقَهُ مَا هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ وَأَرْفَعُ. وَهُوَ حَالَةُ الْبَقَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الِاسْتِغْرَاقُ فِي لَوَائِحِ الْمُشَاهَدَةِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الِاسْتِغْرَاقُ فِي لَوَائِحِ الْمُشَاهَدَةِ. وَاسْتِنَارَةُ ضِيَاءِ الطَّرِيقِ وَاسْتِجْمَاعُ قُوَى الِاسْتِقَامَةِ. هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: فِقْدَانُ الْإِحْسَاسِ بِغَيْرِهِ. لِاسْتِغْرَاقِهِ فِي مُشَاهَدَتِهِ. الثَّانِي: اسْتِنَارَةُ ضِيَاءِ الطَّرِيقِ. يَعْنِي ظُهُورَ الْجَادَّةِ لَهُ وَوُضُوحَهَا. وَاتِّصَالَهَا بِمَطْلُوبِهِ. وَهَذَا كَمَنْ هُوَ سَائِرٌ إِلَى مَدِينَةٍ. فَإِذَا شَارَفَهَا وَرَآهَا: رَأَى الطَّرِيقَ حِينَئِذٍ وَاضِحَةً إِلَيْهَا، وَاسْتَنَارَ لَهُ ضِيَاؤُهَا وَاتِّصَالُهَا بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ قَبْلَ مُشَاهَدَةِ الْمَدِينَةِ عَلَى عِلْمٍ - أَوْ ظَنٍّ - يَجُوزُ مَعَهُ أَنْ يَضِيعَ عَنْ بَابِ الْمَدِينَةِ. وَأَمَّا الْآنَ: فَقَدْ أَمِنَ مِنْ أَنْ يَضِيعَ عَنِ الْبَابِ. وَكَذَلِكَ هَذَا السَّالِكُ: قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ الْمَوَانِعُ، وَاسْتَبَانَ لَهُ الطَّرِيقُ. وَأَيْقَنَ بِالْوُصُولِ. وَصَارَتْ حَالُهُ حَالَ مُعَايِنِ بَابِ الْمَدِينَةِ مِنْ حِينِ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَيْهِ. وَكَحَالِ مُعَايِنِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ قُرْبَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، حَيْثُ تَيَقَّنَ أَنَّ الشَّمْسَ بَعْدَهُ. قَوْلُهُ: وَاسْتِجْمَاعُ قُوَى الِاسْتِقَامَةِ. يَعْنِي: تُسْتَجْمَعُ لَهُ قُوَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى قَصْدِ الْوُصُولِ وَالْعَزْمِ عَلَيْهِ، لِمُشَاهَدَتِهِ مَا هُوَ سَائِرٌ إِلَيْهِ. وَهَكَذَا عَادَةُ الْمُسَافِرِ: أَنَّهُ إِذَا عَايَنَ الْقَرْيَةَ الَّتِي يُرِيدُ دُخُولَهَا أَسْرَعَ السَّيْرَ، وَبَذَلَ الْجُهْدَ. وَكَذَلِكَ الْمُسَابِقُ إِذَا عَايَنَ الْغَايَةَ: اسْتَفْرَغَ قُوَى جَرْيِهِ وَسَوْقِهِ. وَكَذَلِكَ الصَّادِقُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ: أَقْوَى عَزْمًا وَقَصْدًا مِنْ أَوَّلِهِ، لِقُرْبِهِ مِنَ الْغَايَةِ الَّتِي يَجْرِي إِلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مَعْرِفَةُ الْعَزْمِ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْعَزْمِ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْرِفَةُ الْعَزْمِ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْعَزْمِ. ثُمَّ الْخَلَاصُ مِنْ

تَكَالِيفِ تَرْكِ الْعَزْمِ. فَإِنَّ الْعَزَائِمَ لَمْ تُوَرِّثْ أَرْبَابَهَا مِيرَاثًا أَكْرَمَ مِنْ وُقُوفِهِمْ عَلَى عِلَلِ الْعَزَائِمِ. مَعْرِفَةُ عِلَّةِ الْعَزْمِ هِيَ نِسْبَتُهُ إِلَى نَفْسِهِ. فَإِذَا عَرَفَ أَنَّ الْعَزْمَ مُجَرَّدُ فَضْلِ اللَّهِ وَإِيثَارِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ: فَنِسْبَتُهُ إِيَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ عِلَّةٌ قَادِحَةٌ فِيهِ. فَإِذَا لَاحَ لَهُ لَائِحُ الْكَشْفِ. وَشَهِدَ تَوْحِيدَ الْفَضْلِ، عَلِمَ حِينَئِذٍ عِلَّةَ عَزْمِهِ. وَهُوَ نِسْبَتُهُ إِيَّاهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَرُؤْيَتُهُ لَهُ. فَإِذَا عَرَفَ هَذِهِ الْعِلَّةَ عَزَمَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا بِالْعَزْمِ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْعَزْمِ. وَهَذَا قَدْ يَسْبِقُ مِنْهُ إِلَى الذِّهْنِ تُنَاقُضٌ وَتَدَافُعٌ. فَكَيْفَ يَتَخَلَّصُ مِنَ الْعَزْمِ بِالْعَزْمِ؟ . وَمُرَادُهُ: أَنْ يَعْزِمَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْعَزْمِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ بِالْعَزْمِ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ فَضْلِ اللَّهِ وَمَوْهِبَتِهِ. وَلَا تَنَاقُضَ حِينَئِذٍ. فَيَتَخَلَّصُ مِنَ الْعَزْمِ بِالْعَزْمِ، كَمَا يُنَازَعُ الْقَدَرُ بِالْقَدَرِ. وَأَمَّا الْخَلَاصُ مِنْ تَرْكِ تَكَالِيفِ الْعَزْمِ. فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا تَخَلَّصَ مِنْ هَذَا الْعَزْمِ وَتَرَكَهُ: بَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ. وَهِيَ رُؤْيَتُهُ أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ. فَعَلَيْهِ التَّخَلُّصُ مِنْ رُؤْيَةِ هَذَا التَّرْكِ. فَهُوَ يَطْلُبُ الْآنَ الْخَلَاصَ مِنْ رُؤْيَةِ تَرْكِ الْعَزْمِ. كَمَا كَانَ يَطْلُبُ تَرْكَ الْعَزْمِ. قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْعَزَائِمَ لَمْ تُوَرِّثْ أَرْبَابَهَا مِيرَاثًا أَكْرَمَ مِنْ وُقُوفِهِمْ عَلَى عِلَلِ الْعَزَائِمِ. مَدَارُ عِلَلِ الْعَزَائِمِ: عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: فُتُورُهَا وَضَعْفُهَا. الثَّانِي: عَدَمُ تَجَرُّدِهَا مِنَ الْأَغْرَاضِ وَشَوَائِبِ الْحُظُوظِ. الثَّالِثُ: رُؤْيَةُ الْعَزَائِمِ وَشُهُودُهَا، وَنِسْبَتُهَا إِلَى أَنْفُسِهِمْ. فَإِذَا عَرَفَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ: عَرَفَ عِلَلَ الْعَزَائِمِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

فصل منزلة الإرادة

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْإِرَادَةِ] [حَقِيقَةُ الْإِرَادَةِ] وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْإِرَادَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى - إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى - وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 19 - 21] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] . وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ تَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ بِاللَّهِ. وَكُونُ وَجْهِهِ تَعَالَى مُرَادًا. قَالُوا: الْإِرَادَةُ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْحَادِثِ. وَأَمَّا بِالْقَدِيمِ: فَلَا؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يُرَادُ. وَأَوَّلُوا الْإِرَادَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ بِإِرَادَةِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمُ التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ. فَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِإِرَادَةِ طَاعَتِهِ الْمُوجِبَةِ لِجَزَائِهِ. هَذَا حَاصِلُ مَا عِنْدَهُمْ. وَحِجَابُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ غَلِيظٌ كَثِيفٌ مِنْ أَغْلَظِ الْحُجْبِ وَأَكْثَفِهَا. وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ أَهْلَ قَسْوَةٍ. وَلَا تُجِدُ عَلَيْهِمْ رُوحَ السُّلُوكِ، وَلَا بَهْجَةَ الْمَحَبَّةِ. وَالطَّلَبُ وَالْإِرَادَةُ عِنْدَ أَرْبَابِ السُّلُوكِ: هِيَ التَّجَرُّدُ عَنِ الْإِرَادَةِ. فَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُمُ الْإِرَادَةُ إِلَّا لِمَنْ لَا إِرَادَةَ لَهُ. وَلَا تَظُنُّ أَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ. بَلْ هُوَ مَحْضُ الْحَقِّ. وَاتِّفَاقُ كَلِمَةِ الْقَوْمِ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَنَوَّعَتْ عِبَارَاتُ الْقَوْمِ عَنْهَا. وَغَالِبُهُمْ يُخْبِرُ عَنْهَا بِأَنَّهَا تَرْكُ الْعَادَةِ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ عَادَةَ النَّاسِ غَالِبًا التَّعْرِيجُ عَلَى أَوْطَانِ الْغَفْلَةِ، وَإِجَابَةُ دَاعِي الشَّهْوَةِ، وَالْإِخْلَادُ إِلَى أَرْضِ الطَّبِيعَةِ. وَالْمُرِيدُ مُنْسَلِخٌ عَنْ ذَلِكَ. فَصَارَ خُرُوجُهُ عَنْهُ: أَمَارَةً وَدَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ الْإِرَادَةِ. فَسُمِّيَ انْسِلَاخُهُ وَتَرْكُهُ إِرَادَةً. وَقِيلَ: نُهُوضُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ.

وَيُقَالُ: لَوْعَةٌ تُهَوِّنُ كُلَّ رَوْعَةٍ. قَالَ الدَّقَّاقُ: الْإِرَادَةُ لَوْعَةٌ فِي الْفُؤَادِ، لَذْعَةٌ فِي الْقَلْبِ، غَرَامٌ فِي الضَّمِيرِ، انْزِعَاجٌ فِي الْبَاطِنِ، نِيرَانٌ تَأَجَّجُ فِي الْقُلُوبِ. وَقِيلَ: مِنْ صِفَاتِ الْمُرِيدِ: التَّحَبُّبُ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ، وَالْإِخْلَاصُ فِي نَصِيحَةِ الْأُمَّةِ، وَالْأُنْسُ بِالْخَلْوَةِ، وَالصَّبْرُ عَلَى مُقَاسَاةِ الْأَحْكَامِ، وَالْإِيثَارُ لِأَمْرِهِ، وَالْحَيَاءُ مِنْ نَظَرِهِ، وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي مَحْبُوبِهِ. وَالتَّعَرُّضُ لِكُلِّ سَبَبٍ يُوصِّلُ إِلَيْهِ. وَالْقَنَاعَةُ بِالْخُمُولِ. وَعَدَمُ قَرَارِ الْقَلْبِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى وَلِيِّهِ وَمَعْبُودِهِ. وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: إِذَا رَأَيْتَ الْمُرِيدَ يُرِيدُ غَيْرَ مُرَادِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ أَظْهَرَ نَذَالَتَهُ. وَقِيلَ: مِنْ حُكْمِ الْمُرِيدِ: أَنْ يَكُونَ نَوْمُهُ غَلَبَةً، وَأَكْلُهُ فَاقَةً، وَكَلَامُهُ ضَرُورَةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نِهَايَةُ الْإِرَادَةِ: أَنْ تُشِيرَ إِلَى اللَّهِ. فَتَجِدَهُ مَعَ الْإِشَارَةِ. فَقِيلَ لَهُ: وَأَيْنَ تَسْتَوْعِبُهُ الْإِشَارَةُ؟ فَقَالَ: أَنْ تَجِدَ اللَّهَ بِلَا إِشَارَةٍ. وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ. فَإِنَّ الْمَرَاتِبَ ثَلَاثَةٌ: أَعْلَاهَا: أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِلَّهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ. لَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ لَهُ عَلَى الْإِشَارَةِ مِنْهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ مَلَكَةٌ وَحَالٌ وَإِرَادَةٌ تَامَّةٌ، بِحَيْثُ إِنَّهُ مَتَى أُشِيرَ لَهُ إِلَى اللَّهِ وَجَدَهُ عِنْدَ إِشَارَةِ الْمُشِيرِ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، وَيَتَكَلَّفَ وِجْدَانُهُ عِنْدَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ. فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: لِلْمُقَرَّبِينَ السَّابِقَيْنَ. وَالْوُسْطَى: لِلْأَبْرَارِ الْمُقْتَصِدِينَ. وَالثَّالِثَةُ: لِلْغَافِلِينَ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ: مَنْ لَمْ تَصِحَّ إِرَادَتُهُ ابْتِدَاءً، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ مُرُورُ الْأَيَّامِ عَلَيْهِ إِلَّا إِدْبَارًا. وَقَالَ: الْمُرِيدُ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا مِنْ عُلُومِ الْقَوْمِ فَعَمِلَ بِهِ: صَارَ حِكْمَةً فِي قَلْبِهِ إِلَى آخَرِ عُمْرِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ. وَإِذَا تَكَلَّمَ انْتَفَعَ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ. وَمَنْ سَمِعَ شَيْئًا مِنْ عُلُومِهِمْ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ كَانَ حِكَايَةً يَحْفَظُهَا أَيْامًا ثُمَّ يَنْسَاهَا. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: أَوَّلُ مَقَامِ الْمُرِيدِ: إِرَادَةُ الْحَقِّ بِإِسْقَاطِ إِرَادَتِهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: أَشَدُّ شَيْءٍ عَلَى الْمُرِيدِ: مُعَاشَرَةُ الْأَضْدَادِ. وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ: مَا لِلْمُرِيدِ حَظٌّ فِي مَجَازَاتِ الْحِكَايَاتِ؟ فَقَالَ: الْحِكَايَاتُ جُنْدٌ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ يُثَبِّتُ اللَّهُ بِهَا قُلُوبَ الْمُرِيدِينَ. ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] .

وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْجُنَيْدِ كَلِمَتَانِ فِي الْإِرَادَةِ مُجْمَلَتَانِ. تَحْتَاجُ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى تَفْسِيرٍ. الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَخْلَدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَعْفَرًا يَقُولُ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ يَقُولُ: الْمُرِيدُ الصَّادِقُ غَنِيٌّ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَيْضًا: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ يَقُولُ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْمُرِيدِ خَيْرًا: أَوْقَعَهُ إِلَى الصُّوفِيَّةِ. وَمَنَعَهُ صُحْبَةَ الْقُرَّاءِ. قُلْتُ: إِذَا صَدَقَ الْمُرِيدُ، وَصَحَّ عَقْدُ صِدْقِهِ مَعَ اللَّهِ: فَتَحَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ بِبَرَكَةِ الصِّدْقِ، وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ اللَّهِ: مَا يُغْنِيهِ عَنِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ نَتَائِجُ أَفْكَارِ النَّاسِ وَآرَائِهِمْ. وَعَنِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ فَضْلَةٌ لَيْسَتْ مِنْ زَادِ الْقَبْرِ. وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ إِشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ وَعُلُومِهِمْ، الَّتِي أَفْنَوْا فِيهَا أَعْمَارَهُمْ: مِنْ مَعْرِفَةِ النَّفْسِ وَآفَاتِهَا وَعُيُوبِهَا، وَمَعْرِفَةِ مُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ، وَأَحْكَامِ السُّلُوكِ. فَإِنَّ حَالَ صِدْقِهِ، وَصِحَّةَ طَلَبِهِ: يُرِيهِ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْفِعْلِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ: رَجُلٌ قَاعِدٌ فِي الْبَلَدِ يَدْأَبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فِي عِلْمِ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ وَعَقَبَاتِهَا وَأَوْدِيَتِهَا، وَمَوَاضِعِ الْمَتَاهَاتِ فِيهَا، وَالْمَوَارِدِ وَالْمَفَاوِزِ. وَآخَرُ: حَمَلَهُ الْوَجْدُ وَصِدْقُ الْإِرَادَةِ عَلَى أَنْ رَكِبَ الطَّرِيقَ وَسَارَ فِيهَا. فَصِدْقُهُ يُغْنِيهِ عَنْ عِلْمِ ذَلِكَ الْقَاعِدِ، وَيُرِيهِ إِيَّاهَا فِي سُلُوكِهِ عَيَانًا.

وَأَمَّا أَنْ يُغْنِيَهُ صِدْقُ إِرَادَتِهِ عَنْ عِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَأَحْكَامِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَمَعْرِفَةِ الْعِبَادَاتِ وَشُرُوطِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَمُبْطِلَاتِهَا، وَعَنْ عِلْمِ أَحْكَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ: فَقَدْ أَعَاذَ اللَّهُ مَنْ هُوَ دُونَ الْجُنَيْدِ مِنْ ذَلِكَ، فَضْلًا عَنْ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ وَإِمَامِهَا، وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، وَزَنَادِقَةُ الصُّوفِيَّةِ وَمَلَاحِدَتُهُمْ، الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ شَرْطًا فِي الطَّرِيقِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُرِيدَ الصَّادِقَ: يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَيُنَوِّرُهُ بِنُورٍ مِنْ عِنْدِهِ، مُضَافٌ إِلَى مَا مَعَهُ مِنْ نُورِ الْعِلْمِ، يَعْرِفُ بِهِ كَثِيرًا مِنْ أَمْرِ دِينِهِ. فَيَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ عِلْمِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورٌ. وَقَلَبَ الصَّادِقِ مُمْتَلِئٌ بِنُورِ الصِّدْقِ. وَمَعَهُ نُورُ الْإِيمَانِ. وَالنُّورُ يَهْدِي إِلَى النُّورِ. وَالْجُنَيْدُ أَخْبَرَ بِهَذَا عَنْ حَالِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ جُزْئِيٌّ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ بَلْ صِدْقَهُ يُغْنِيهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعِلْمِ. وَأَمَّا عَنْ جُمْلَةِ الْعِلْمِ: فَكَلَامُ أَبِي الْقَاسِمِ الثَّابِتُ عَنْهُ فِي ضَرُورَةِ الصَّادِقِ إِلَى الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ، وَأَنَّ طَرِيقَ الْقَوْمِ مُقَيَّدَةٌ بِالْعِلْمِ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الطَّرِيقِ إِلَّا بِالْعِلْمِ، فَمَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى طَرَفًا مِنْهُ. كَقَوْلِهِ: مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ. لِأَنَّ عِلْمَنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ عِلْمَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ: هُوَ مَا فَهِمُوهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَالْمُرِيدُ الصَّادِقُ: هُوَ الَّذِي قَرَأَ الْقُرْآنَ وَحَفِظَ السُّنَّةَ، وَاللَّهَ يَرْزُقُهُ بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ وَنُورِ قَلْبِهِ فَهُمَا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ يُغْنِيهِ عَنْ تَقْلِيدِ فَهْمِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - يَعْنِي الْجُنَيْدَ - إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْمُرِيدِ خَيْرًا: أَوْقَعَهُ عَلَى الصُّوفِيَّةِ. وَمَنَعَهُ صُحْبَةَ الْقُرَّاءِ. فَالْقُرَّاءُ فِي لِسَانِهِمْ: هُمْ أَهْلُ التَّنَسُّكِ وَالتَّعَبُّدِ، سَوَاءٌ كَانُوا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ أَمْ لَا، فَالْقَارِئُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الْكَثِيرُ التَّعَبُّدِ وَالتَّنَسُّكِ، الَّذِي قَدْ قَصَرَ هِمَّتُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَادَةِ، دُونَ أَرْوَاحِ الْمَعَارِفِ. وَدُونَ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ، وَرُوحِ الْمَحَبَّةِ، وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، فَهِمَّتُهُمْ كُلُّهَا إِلَى الْعِبَادَةِ، وَلَا خَبَرَ عِنْدَهُمْ مِمَّا عِنْدَ أَهْلِ التَّصَوُّفِ، وَأَرْبَابِ الْقُلُوبِ وَأَهْلِ الْمَعَارِفِ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: طَرِيقُنَا تَفَتٍّ لَا تَقَسُّرٌ. فَسَيْرُ هَؤُلَاءِ بِالْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَسَيْرُ أُولَئِكَ: بِمُجَرَّدِ الْقَوَالِبِ وَالْأَشْبَاحِ، وَبَيْنَ

أَرْوَاحِ هَؤُلَاءِ وَقُلُوبِهِمْ وَأَرْوَاحِ هَؤُلَاءِ وَقُلُوبِهِمْ: نَوْعُ تَنَاكُرٍ وَتَنَافُرٍ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدُهُمْ عَلَى صُحْبَةِ النَّوْعِ الْآخَرِ إِلَّا عَلَى نَوْعِ إِغْضَاءٍ، وَتَحْمِيلٍ لِلطَّبِيعَةِ مَا تَأْبَاهُ. وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ظَاهِرِيَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنَ التَّنَافُرِ. وَيُسَمُّونَهُمْ: أَصْحَابَ الرُّسُومِ. وَيُسَمُّونَ أُولَئِكَ: الْقُرَّاءَ. وَالطَّائِفَتَانِ عِنْدَهُمْ: أَهْلُ ظَوَاهِرٍ، لَا أَرْبَابُ حَقَائِقَ. هَؤُلَاءِ مَعَ رُسُومِ الْعِلْمِ. وَهَؤُلَاءِ مَعَ رُسُومِ الْعِبَادَةِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ - فِي أَنْفُسِهِمْ - فَرِيقَانِ: صُوفِيَّةٌ وَفُقَرَاءُ. وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ فِي تَرْجِيحِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ هُمَا سَوَاءٌ. عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. فَطَائِفَةٌ رَجَّحَتِ الصُّوفِيَّ. مِنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَعَلَى هَذَا صَاحِبُ الْعَوَارِفِ، وَجَعَلُوا نِهَايَةَ الْفَقِيرِ: بِدَايَةَ الصُّوفِيِّ. وَطَائِفَةٌ رَجَّحَتِ الْفَقِيرَ. وَجَعَلُوا الْفَقْرَ لُبَّ التَّصَوُّفِ وَثَمَرَتُهُ، وَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ. وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ قَالُوا: الْفَقْرُ وَالتَّصَوُّفُ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الشَّامِ. وَلَا يَسْتَقِيمُ الْحُكْمُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ حَقِيقَةُ الْفَقْرِ وَالتَّصَوُّفِ. وَحِينَئِذٍ يُعْلَمُ: هَلْ هَمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ حَقِيقَتَانِ؟ وَيُعْلَمُ رَاجِحُهُمَا مِنْ مَرْجُوحِهِمَا. وَسَتَرَى ذَلِكَ مُبَيَّنًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَنْزِلَتَيِ الْفَقْرِ، وَالتَّصَوُّفِ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِمَا. إِنْ سَاعَدَ اللَّهُ وَمَنَّ بِفَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ. فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَبِهِ الْمُسْتَعَانُ. وَعَلَيْهِ

التُّكْلَانُ. وَمَا شَاءَ كَانَ. وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْمَرَاتِبَ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةٌ: مَرْتَبَةُ التَّقْوَى وَهِيَ مَرْتَبَةُ التَّعَبُّدِ وَالتَّنَسُّكِ. وَمُرَتَّبَةُ التَّصَوُّفِ وَهِيَ مَرْتَبَةُ التَّفَتِّي بِكُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ. وَالْخُرُوجِ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ. وَمَرْتَبَةُ الْفَقْرِ وَهِيَ مَرْتَبَةُ التَّجَرُّدِ، وَقَطْعُ كُلُّ عَلَاقَةٍ تَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذِهِ مَرَاتِبُ طُلَّابِ الْآخِرَةِ. وَمَنْ عَدَاهُمْ: فَمَعَ الْقَاعِدِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ. فَأَشَارَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ إِلَى أَنَّ الْمُرِيدَ لِلَّهِ بِصِدْقٍ، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا: أَوْقَعَهُ عَلَى طَائِفَةِ الصُّوفِيَّةِ، يُهَذِّبُونَ أَخْلَاقَهُ. وَيَدُلُّونَهُ عَلَى تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ، وَإِزَالَةِ أَخْلَاقِهَا الذَّمِيمَةِ. وَالِاسْتِبْدَالِ بِالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ. وَيُعِرِّفُونَهُ مَنَازِلَ الطَّرِيقِ وَمَفَازَاتِهَا، وَقَوَاطِعَهَا وَآفَاتِهَا. وَأَمَّا الْقُرَّاءُ: فَيَدُقُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ دَقًّا. وَلَا يُذِيقُونَهُ شَيْئًا مِنْ حَلَاوَةِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَتَهْذِيبِ النُّفُوسِ. إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ طَرِيقُهُمْ. وَلِهَذَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَرْبَابِ التَّصَوُّفِ نَوْعُ تَنَافَرٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْبَصِيرُ الصَّادِقُ: يَضْرِبُ فِي كُلِّ غَنِيمَةٍ بِسَهْمٍ، وَيُعَاشِرُ كُلَّ طَائِفَةٍ عَلَى أَحْسَنِ مَا مَعَهَا. وَلَا يَتَحَيَّزُ إِلَى طَائِفَةٍ. وَيَنْأَى عَنِ الْأُخْرَى بِالْكُلِّيَّةِ: أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنَ الْحَقِّ. فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الصَّادِقِينَ. وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ كَامِنَةٌ فِي النُّفُوسِ. وَلَا أَعْنِي بِذَلِكَ أَصْغَرَيْهِمْ وَلَكِنِّي أُرِيدُ بِهِ الدُّوَيْنَا «سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ قَائِلًا يَقُولُ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، وَآخَرٌ يَقُولُ: يَا لَلْأَنْصَارِ! فَقَالَ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» . هَذَا، وَهُمَا اسْمَانِ شَرِيفَانِ. سَمَّاهُمُ اللَّهُ بِهِمَا فِي كِتَابِهِ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَدَاعُوا بِ " الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ " وَهِيَ الدَّعْوَى الْجَامِعَةُ. بِخِلَافِ الْمُفَرَّقَةِ. كَ " الْفُلَانِيَّةِ وَالْفُلَانِيَّةِ " فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

فصل تعريف الإرادة

«وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ. فَقَالَ: عَلَى كِبَرِ السِّنِّ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ» . فَمَنْ يَأْمَنُ الْقُرَّاءَ بَعْدَكَ يَا شَهْرُ؟ وَلَا يَذُوقُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، وَطَعْمَ الصِّدْقِ وَالْيَقِينِ، حَتَّى تَخْرُجَ الْجَاهِلِيَّةُ كُلُّهَا مِنْ قَلْبِهِ. وَاللَّهِ لَوْ تَحَقَّقَ النَّاسُ فِي هَذَا الزَّمَانِ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِ رَجُلٍ لَرَمَوْهُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالُوا: هَذَا مُبْتَدِعٌ، وَمِنْ دُعَاةِ الْبِدَعِ. فَإِلَى اللَّهِ الْمُشْتَكَى. وَهُوَ الْمَسْئُولُ الصَّبْرَ، وَالثَّبَاتَ. فَلَا بُدَّ مِنْ لِقَائِهِ {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61] . {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] . [فَصْلٌ تَعْرِيفُ الْإِرَادَةِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ: بَابُ الْإِرَادَةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] . فِي تَصْدِيرِهِ الْبَابَ بِهَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ قَدْرِهِ. وَجَلَالَةِ مَحِلِّهِ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ. فَإِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى كُلِّ مَا يُشَاكِلُهُ، وَيُنَاسِبُهُ، وَيَلِيقُ بِهِ. فَالْفَاجِرُ يَعْمَلُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ. وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، وَمُرِيدُ الدُّنْيَا وَجِيفَتِهَا عَامِلٌ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ، وَلَا يَلِيقُ بِهِ سِوَاهُ. وَمُحِبُّ الصُّوَرِ: عَامِلٌ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ وَيَلِيقُ بِهِ. فَكُلُّ امْرِئٍ يَهْفُو إِلَى مَا يُحِبُّهُ وَكُلُّ امْرِئٍ يَصْبُو إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ فَالْمُرِيدُ الصَّادِقُ الْمُحِبُّ لِلَّهِ: يَعْمَلُ مَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ وَالْمُنَاسِبُ لَهُ. فَهُوَ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَةِ إِرَادَتِهِ. وَمَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِهِ، وَالْأَنْسَبُ لَهَا. قَالَ: الْإِرَادَةُ مِنْ قَوَانِينِ هَذَا الْعِلْمِ، وَجَوَامِعِ أَبْنِيَتِهِ. وَهِيَ الْإِجَابَةُ لِدَوَاعِي الْحَقِيقَةِ، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا.

درجات الإرادة

يُرِيدُ: أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِرَادَةِ. فَهِيَ أَسَاسُهُ، وَمَجْمَعُ بِنَائِهِ. وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَفَاصِيلِ أَحْكَامِ الْإِرَادَةِ. وَهِيَ حَرَكَةُ الْقَلْبِ. وَلِهَذَا سُمِّيَ عِلْمَ الْبَاطِنِ كَمَا أَنَّ عِلْمَ الْفِقْهِ يَشْتَمِلُ عَلَى تَفَاصِيلِ أَحْكَامِ الْجَوَارِحِ. وَلِهَذَا سَمَّوْهُ عِلْمَ الظَّاهِرِ فَهَاتَانِ حَرَكَتَانِ اخْتِيَارِيَّتَانِ. وَلِلْعَبْدِ حَرَكَةٌ طَبِيعِيَّةٌ اضْطِرَارِيَّةٌ. فَالْعِلْمُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى تَفَاصِيلِهَا، وَأَحْكَامِهَا: هُوَ عِلْمُ الطِّبِّ. فَهَذِهِ الْعُلُومُ الثَّلَاثَةُ: هِيَ الْكَفِيلَةُ بِمَعْرِفَةِ حَرَكَاتِ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ. وَحَرَكَاتِ اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، وَحَرَكَاتِ الطَّبِيعَةِ. فَالطَّبِيبُ: يَنْظُرُ فِي تِلْكَ الْحَرَكَاتِ مِنْ جِهَةِ تَأَثُّرِ الْبَدَنِ عَنْهَا صِحَّةً وَاعْتِلَالًا، وَفِي لَوَازِمِ ذَلِكَ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ. وَالْفَقِيهُ: يَنْظُرُ فِي تِلْكَ الْحَرَكَاتِ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَتِهَا لِأَمْرِ الشَّرْعِ، وَنَهْيِهِ وَإِذْنِهِ، وَكَرَاهَتِهِ، وَمُتَعَلِّقَاتِ ذَلِكَ. وَالصُّوفِيُّ: يَنْظُرُ فِي تِلْكَ الْحَرَكَاتِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُوَصِّلَةً لَهُ إِلَى مُرَادِهِ. أَوْ قَاطِعَةً عَنْهُ، وَمُفْسِدَةً لِقَلْبِهِ، أَوْ مُصَحِّحَةً لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهِيَ الْإِجَابَةُ لِدَاعِي الْحَقِيقِيَّةِ فَالْإِجَابَةُ هِيَ الِانْقِيَادُ، وَالْإِذْعَانُ. وَالْحَقِيقَةُ عِنْدَهُمْ: مُشَاهَدَةُ الرُّبُوبِيَّةِ. وَالشَّرِيعَةُ الْتِزَامُ الْعُبُودِيَّةِ. فَالشَّرِيعَةُ: أَنْ تَعْبُدَه. وَالْحَقِيقَةُ: أَنْ تَشَهَدُهُ. فَالشَّرِيعَةُ: قِيَامُكَ بِأَمْرِهِ. وَالْحَقِيقَةُ: شُهُودُكَ لِوَصْفِهِ. وَدَاعِي الْحَقِيقَةِ: هُوَ صِحَّةُ الْمَعْرِفَةِ. فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ أَحَبَّهُ وَلَا بُدَّ. وَلَا بُدَّ فِي هَذِهِ الْإِجَابَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: نَفْسٌ مُسْتَعِدَّةٌ قَابِلَةٌ. لَا تُعْوِزُ إِلَّا الدَّاعِيَ. وَدَعْوَةٌ مُسْتَمَعَةٌ، وَتَخْلِيَةُ الطَّرِيقِ مِنَ الْمَانِعِ. فَمَا انْقَطَعَ مَنِ انْقَطَعَ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ. وَقَوْلُهُ: طَوْعًا أَوْ كَرْهًا يُشِيرُ إِلَى الْمَجْذُوبِ، الْمُخْتَطَفِ مِنْ نَفْسِهِ، وَالسَّالِكِ إِرَادَةً وَاخْتِيَارًا وَمُجَاهَدَةً. [دَرَجَاتُ الْإِرَادَةِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى ذَهَابٌ عَنِ الْعَادَاتِ بِصِحَّةِ الْعِلْمِ] قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: ذَهَابٌ عَنِ الْعَادَاتِ بِصِحَّةِ الْعِلْمِ. وَالتَّعَلُّقُ بِأَنْفَاسِ السَّالِكِينَ، مَعَ صِدْقِ الْقَصْدِ. وَخَلْعُ كُلِّ شَاغِلٍ مِنَ الْإِخْوَانِ. وَمُشَتِّتٌ مِنَ الْأَوْطَانِ. هَذَا يُوَافِقُ مِنْ حَدِّ الْإِرَادَةِ بِأَنَّهَا: مُخَالَفَةُ الْعَادَةِ. وَهِيَ تَرْكُ عَوَائِدِ النَّفْسِ

فصل الدرجة الثانية تقطع بصحبة الحال

وَشَهَوَاتِهَا، وَرَعُونَاتِهَا وَبَطَالَاتِهَا. وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلَّا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا. وَهِيَ: صُحْبَةُ الْعِلْمِ وَمُعَانَقَتُهُ. فَإِنَّهُ النُّورُ الَّذِي يُعَرِّفُ الْعَبْدَ مَوَاقِعَ مَا يَنْبَغِي إِيثَارُ طَلَبِهِ. وَمَا يَنْبَغِي إِيثَارُ تَرْكِهِ. فَمَنْ لَمْ يَصْحَبْهُ الْعِلْمُ: لَمْ تَصِحَّ لَهُ إِرَادَةٌ بِاتِّفَاقِ كَلِمَةِ الصَّادِقِينَ. وَلَا عِبْرَةٌ بِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَتَى رَأَيْتُ الصُّوفِيَّ الْفَقِيرَ يَقْدَحُ فِي الْعِلْمِ. فَاتَّهِمْهُ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَمِنْهَا: التَّعَلُّقُ بِأَنْفَاسِ السَّالِكِينَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَعَلَّقَ بِأَنْفَاسِ قَوْمٍ انْخَرَطَ فِي مَسْلَكِهِمْ. وَدَخَلَ فِي جَمَاعَتِهِمْ. وَقَالَ أَنْفَاسُ السَّالِكِينَ وَلَمْ يَقُلْ: أَنْفَاسُ الْعَابِدِينَ. فَإِنَّ الْعَابِدِينَ مِنْ شَأْنِهِمُ الْقِيَامُ بِالْأَعْمَالِ. وَشَأْنُ السَّالِكِينَ مُرَاعَاةُ الْأَحْوَالِ. وَقَوْلُهُ: مَعَ صِدْقِ الْقَصْدِ. يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: تَوْحِيدُهُ. وَالثَّانِي: تَوْحِيدُ الْمَقْصُودِ. فَلَا يَقَعُ فِي قَصْدِكَ قِسْمَةٌ. وَلَا فِي مَقْصُودِكَ. وَقَوْلُهُ: وَخَلْعُ كُلِّ شَاغِلٍ مِنَ الْإِخْوَانِ، وَمُشَتِّتٍ مِنَ الْأَوْطَانِ. يُشِيرُ إِلَى تَرْكِ الْمَوَانِعِ، وَالْقَوَاطِعِ الْعَائِقَةِ عَنِ السُّلُوكِ: مِنْ صُحْبَةِ الْأَغْيَارِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَوْطَانِ، الَّتِي أَلِفَ فِيهَا الْبَطَالَةَ وَالنَّذَالَةَ. فَلَيْسَ عَلَى الْمُرِيدِ الصَّادِقِ أَضَرَّ مِنْ عُشَرَائِهِ وَوَطَنِهِ، الْقَاطِعِينَ لَهُ عَنْ سَيْرِهِ إِلَى [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تُقْطَعُ بِصُحْبَةِ الْحَالِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تُقْطَعُ بِصُحْبَةِ الْحَالِ، وَتَرْوِيحِ الْأُنْسِ، وَالسَّيْرِ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ. أَيْ يَنْقَطِعُ إِلَى صُحْبَةِ الْحَالِ. وَهُوَ الْوَارِدُ الَّذِي يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ تَأْثِيرِهِ بِالْمُعَامَلَةِ، السَّالِبُ لِوَصْفِ الْكَسَلِ وَالْفُتُورِ، الْجَالِبُ لَهُ إِلَى مُرَافَقَةِ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَيَنْتَقِلُ مِنْ مَقَامِ الْعِلْمِ إِلَى مَقَامِ الْكَشْفِ، وَمِنْ مَقَامِ رُسُومِ الْأَعْمَالِ إِلَى

مَقَامِ حَقَائِقِهَا وَأَذْوَاقِهَا، وَمَوَاجِيدِهَا، وَأَحْوَالِهَا. فَيَتَرَقَّى مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْإِحْسَانِ. وَأَمَّا تَرْوِيحُ الْأُنْسِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ: فَإِنَّ السَّالِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَجِدُ تَعَبَ التَّكَالِيفِ وَمَشَقَّةَ الْعَمَلِ. لِعَدَمِ أُنْسِ قَلْبِهِ بِمَعْبُودِهِ. فَإِذَا حَصَلَ لِلْقَلْبِ رُوحُ الْأُنْسِ زَالَتْ عَنْهُ تِلْكَ التَّكَالِيفُ وَالْمَشَاقُّ. فَصَارَتْ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ. وَقُوَّةً وَلَذَّةً. فَتَصِيرُ الصَّلَاةُ قُرَّةَ عَيْنِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عِبْئًا عَلَيْهِ. وَيَسْتَرِيحُ بِهَا، بَعْدَ أَنْ كَانَ يَطْلُبُ الرَّاحَةَ مِنْهَا. فَلَهُ مِيرَاثٌ مِنْ قَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ يَا بِلَالُ» . «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَأُنْسِهِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَوَحْشَتِهِ مِمَّا سِوَاهُ. وَأَمَّا السَّيْرُ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ. فَ " الْقَبْضُ وَالْبَسْطُ " حَالَتَانِ تَعْرِضَانِ لِكُلِّ سَالِكٍ. يَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْخَوْفِ تَارَةً، وَالرَّجَاءِ تَارَةً، فَيَقْبِضُهُ الْخَوْفُ. وَيَبْسُطُهُ الرَّجَاءُ. وَيَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْوَفَاءِ تَارَةً، وَالْجَفَاءِ تَارَةً، فَوَفَاؤُهُ: يُورِثُهُ الْبَسْطَ. وَرَجَاؤُهُ يُورِثُهُ الْقَبْضَ. وَيَتَوَلَّدَانِ مِنَ التَّفْرِقَةِ تَارَةً، وَالْجَمْعِيَّةِ تَارَةً، فَتَفْرِقَتُهُ تُورِثُهُ الْقَبْضَ. وَجَمْعِيَّتُهُ تُورِثُهُ الْبَسْطَ. وَيَتَوَلَّدَانِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَارِدِ تَارَةً. فَوَارِدٌ يُورِثُ قَبْضًا، وَوَارِدٌ يُورِثُ بَسْطًا. وَقَدْ يَهْجُمُ عَلَى قَلْبِ السَّالِكِ قَبْضٌ لَا يَدْرِي مَا سَبَبُهُ. وَبَسْطٌ لَا يَدْرِي مَا سَبَبُهُ. وَحُكْمُ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْضِ: أَمْرَانِ. الْأَوَّلُ: التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ. لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَبْضَ نَتِيجَةُ جِنَايَةٍ. أَوْ جَفْوَةٍ. وَلَا يَشْعُرُ بِهَا. وَالثَّانِي: الِاسْتِسْلَامُ حَتَّى يَمْضِيَ عَنْهُ ذَلِكَ الْوَقْتُ، وَلَا يَتَكَلَّفُ دَفْعَهُ. وَلَا يَسْتَقْبِلُ وَقْتَهُ مُغَالَبَةً وَقَهْرًا. وَلَا يَطْلُبُ طُلُوعَ الْفَجْرِ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ، وَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَمْضِيَ عَامَّةُ اللَّيْلِ. وَيَحِينَ طُلُوعُ الْفَجْرِ. وَانْقِشَاعُ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. بَلْ يَصْبِرَ حَتَّى يَهْجُمَ عَلَيْهِ الْمَلِكُ. فَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ. وَكَذَلِكَ إِذَا هَجَمَ عَلَيْهِ وَارِدُ الْبَسْطِ: فَلْيَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالِاهْتِزَازِ. وَلْيُحْرِزْهُ بِالسُّكُونِ وَالِانْكِمَاشِ. فَالْعَاقِلُ يَقِفُ عَلَى الْبِسَاطِ، وَيَحْذَرُ مِنْ الِانْبِسَاطِ، وَهَذَا

الدرجة الثالثة ذهول مع صحبة الاستقامة

شَأْنُ عُقَلَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَرُؤَسَائِهِمْ: إِذَا مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ مَا يَسُرُّهُمْ وَيُبْسِطُهُمْ وَيُهَيِّجُ أَفْرَاحَهُمْ، قَابَلُوهُ بِالسُّكُونِ وَالثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ فِي مَدْحِ الْمُهَاجِرِينَ: لَيْسُوا مَفَارِيحَ إِنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمُ ... قَوْمًا. وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إِذَا نِيلُوا [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ ذُهُولٌ مَعَ صُحْبَةِ الِاسْتِقَامَةِ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: ذُهُولٌ مَعَ صُحْبَةِ الِاسْتِقَامَةِ. وَمُلَازَمَةِ الرِّعَايَةِ عَلَى تَهْذِيبِ الْأَدَبِ. الذُّهُولُ هَاهُنَا: الْغَيْبَةُ فِي الْمُشَاهَدَةِ بِالْحَالِ الْغَالِبِ، الْمُذْهِلِ لِصَاحِبِهِ عَنِ الْتِفَاتِهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَنْفَعُ إِذَا كَانَ مَصْحُوبًا بِالِاسْتِقَامَةِ. وَهِيَ حِفْظُ حُدُودِ الْعِلْمِ، وَالْوُقُوفُ مَعَهَا، وَعَدَمُ إِضَاعَتِهَا. وَإِلَّا فَأَحْسَنُ أَحْوَالِ هَذَا الذَّاهِلِ: أَنْ يَكُونَ كَالْمَجْنُونِ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمَ. فَلَا يُقْتَدَى بِهِ. وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ الِاسْتِقَامَةَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ سَبَبُ الذُّهُولِ الْمُخْرِجَ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ، بِاسْتِدْعَائِهِ وَتَكَلُّفِهِ وَإِرَادَتِهِ: فَهُوَ عَاصٍ مُفَرِّطٌ، مُضَيِّعٌ لِأَمْرِ اللَّهِ. لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنَ الْمُفَرِّطِينَ. وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَقُولُ: مَتَى كَانَ السَّبَبُ مَحْظُورًا. لَمْ يَكُنِ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا. وَقَوْلُهُ: وَمُلَازَمَةُ الرِّعَايَةِ عَلَى تَهْذِيبِ الْأَدَبِ. يُرِيدُ بِهِ: مُلَازَمَتَهُ رِعَايَةَ حُقُوقِ اللَّهِ مَعَ التَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ. فَلَا يُخْرِجُهُ ذُهُولٌ عَنِ اسْتِقَامَتِهِ. وَلَا عَنْ رِعَايَةِ حُقُوقِ سَيِّدِهِ، وَلَا عَنِ الْوُقُوفِ بِالْأَدَبِ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْأَدَبِ] [تَعْرِيفُ الْأَدَبِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْأَدَبِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْأَدَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ. وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مُؤْذِنَةٌ بِالِاجْتِمَاعِ. فَالْأَدَبُ: اجْتِمَاعُ خِصَالِ الْخَيْرِ فِي الْعَبْدِ، وَمِنْهُ

فصل أنواع الأدب

الْمَأْدُبَةُ. وَهِيَ الطَّعَامُ الَّذِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ. وَعِلْمُ الْأَدَبِ: هُوَ عِلْمُ إِصْلَاحِ اللِّسَانِ وَالْخِطَابِ، وَإِصَابَةِ مَوَاقِعِهِ، وَتَحْسِينِ أَلْفَاظِهِ، وَصِيَانَتِهِ عَنِ الْخَطَأِ وَالْخَلَلِ. وَهُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الْأَدَبِ الْعَامِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أَنْوَاعُ الْأَدَبِ] فَصْلٌ وَالْأَدَبُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَدَبٌ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَدَبٌ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرْعِهِ. وَأَدَبٌ مَعَ خُلُقِهِ. فَالْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: صِيَانَةُ مُعَامَلَتِهِ أَنْ يَشُوبَهَا بِنَقِيصَةٍ. الثَّانِي: صِيَانَةُ قَلْبِهِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى غَيْرِهِ. الثَّالِثُ: صِيَانَةُ إِرَادَتِهِ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَا يَمْقُتُكَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: الْعَبْدُ يَصِلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَصِلُ بِأَدَبِهِ فِي طَاعَتِهِ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ: رَأَيْتُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَنْفِهِ فَقَبَضَ عَلَى يَدِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: الْأَدَبُ الْوُقُوفُ مَعَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا مَعْنَاهُ؟ فَقَالَ: أَنْ تُعَامِلَهُ سُبْحَانَهُ بِالْأَدَبِ سِرًّا وَعَلَنًا. ثُمَّ أَنْشَدَ: إِذَا نَطَقَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلَاحَةٍ ... وَإِنْ سَكَتَتْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَلِيحٍ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَنْ صَاحَبَ الْمُلُوكَ بِغَيْرِ أَدَبٍ أَسْلَمَهُ الْجَهْلُ إِلَى الْقَتْلِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: إِذَا تَرَكَ الْعَارِفُ أَدَبَهُ مَعَ مَعْرُوفِهِ، فَقَدْ هَلَكَ مَعَ الْهَالِكِينَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: تَرْكُ الْأَدَبِ يُوجِبُ الطَّرْدَ. فَمَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى الْبِسَاطِ رُدَّ إِلَى الْبَابِ. وَمَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى الْبَابِ رُدَّ إِلَى سِيَاسَةِ الدَّوَابِّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: مَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ صَارَ مَنْ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ مُبَارَكٍ: نَحْنُ إِلَى قَلِيلٍ مِنَ الْأَدَبِ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعِلْمِ. وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَنْفَعَ الْأَدَبِ؟ فَقَالَ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ. وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْرِفَةُ بِمَا لِلَّهِ عَلَيْكَ. وَقَالَ سَهْلٌ: الْقَوْمُ اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ. وَصَبَرُوا لِلَّهِ عَلَى آدَابِ اللَّهِ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: طَلَبْنَا الْأَدَبَ حِينَ فَاتَنَا الْمُؤَدَّبُونَ. وَقَالَ: الْأَدَبُ لِلْعَارِفِ كَالتَّوْبَةِ لِلْمُسْتَأْنِفِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ - لَمَّا قَالَ لَهُ الْجُنَيْدُ: لَقَدْ أَدَّبْتَ أَصْحَابَكَ أَدَبَ السَّلَاطِينِ - فَقَالَ: حُسْنُ الْأَدَبِ فِي الظَّاهِرِ عُنْوَانُ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي الْبَاطِنِ. فَالْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ حُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَهُ، وَبِإِيقَاعِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ عَلَى مُقْتَضَى التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْحَيَاءِ. كَحَالِ مَجَالِسِ الْمُلُوكِ وَمُصَاحِبِهِمْ. وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ السَّرَّاجُ: النَّاسُ فِي الْأَدَبِ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ. أَمَّا أَهْلُ الدُّنْيَا: فَأَكْبَرُ آدَابِهِمْ: فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ. وَحِفْظِ الْعُلُومِ، وَأَسْمَارِ الْمُلُوكِ، وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا أَهْلُ الدِّينِ: فَأَكْبَرُ آدَابِهِمْ: فِي طَهَارَةِ الْقُلُوبِ، وَمُرَاعَاةِ الْأَسْرَارِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَحِفْظِ الْوَقْتِ، وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْخَوَاطِرِ، وَحُسْنِ الْأَدَبِ، فِي مَوَاقِفِ الطَّلَبِ، وَأَوْقَاتِ الْحُضُورِ، وَمَقَامَاتِ الْقُرْبِ. وَقَالَ سَهْلٌ: مَنْ قَهَرَ نَفْسَهُ بِالْأَدَبِ فَهُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ بِالْإِخْلَاصِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْقَوْلَ فِي الْأَدَبِ وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ وَرُعُونَاتِهَا، وَتَجَنُّبُ تِلْكَ الرُّعُونَاتِ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: الِانْبِسَاطُ بِالْقَوْلِ مَعَ الْحَقِّ تَرْكُ الْأَدَبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: مَنْ أَلْزَمْتُهُ الْقِيَامَ مَعَ أَسْمَائِي وَصِفَاتِي أَلْزَمْتُهُ الْأَدَبَ وَمَنْ كَشَفْتُ لَهُ عَنْ حَقِيقَةِ ذَاتِي أَلْزَمْتُهُ الْعَطَبَ فَاخْتَرِ الْأَدَبَ أَوِ الْعَطَبَ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَشَفَ لِلْجَبَلِ عَنْ ذَاتِهِ سَاخَ الْجَبَلُ وَتَدَكْدَكَ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى عَظَمَةِ الذَّاتِ.

وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: إِذَا صَحَّتِ الْمَحَبَّةُ تَأَكَّدَتْ عَلَى الْمُحِبِّ مُلَازَمَةُ الْأَدَبِ. وَقَالَ النُّورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ لِلْوَقْتِ فَوَقْتُهُ مَقْتٌ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: إِذَا خَرَجَ الْمُرِيدُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْأَدَبِ: فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ. وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَعَ اللَّهِ، وَخِطَابَهُمْ وَسُؤَالَهُمْ. كَيْفَ تَجِدُهَا كُلَّهَا مَشْحُونَةً بِالْأَدَبِ قَائِمَةً بِهِ؟ قَالَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] وَلَمْ يَقُلْ: لَمْ أَقُلْهُ. وَفَرْقٌ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ فِي حَقِيقَةِ الْأَدَبِ. ثُمَّ أَحَالَ الْأَمْرَ عَلَى عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ بِالْحَالِ وَسِرِّهِ. فَقَالَ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116] ثُمَّ بَرَّأَ نَفْسَهُ عَنْ عِلْمِهِ بِغَيْبِ رَبِّهِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] ثُمَّ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ. وَوَصَفَهُ بِتَفَرُّدِهِ بِعِلْمِ الْغُيُوبِ كُلِّهَا. فَقَالَ {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] ثُمَّ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُمْ غَيْرَ مَا أَمَرَهُ رَبُّهُ بِهِ - وَهُوَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ - فَقَالَ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِمْ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِيهِمْ. وَأَنَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] . ثُمَّ وَصَفَهُ بِأَنَّ شَهَادَتَهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ كُلِّ شَهَادَةٍ وَأَعَمُّ. فَقَالَ: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] ثُمَّ قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ. أَيْ شَأْنُ السَّيِّدِ رَحْمَةُ عَبِيدِهِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ. وَهَؤُلَاءِ عَبِيدُكَ لَيْسُوا عَبِيدًا لِغَيْرِكَ. فَإِذَا عَذَّبْتَهُمْ - مَعَ كَوْنِهِمْ عَبِيدَكَ - فَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَبِيدُ سُوءٍ مِنْ أَبْخَسِ الْعَبِيدِ، وَأَعْتَاهُمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ، وَأَعْصَاهُمْ لَهُ - لَمْ تُعَذِّبْهُمْ. لِأَنَّ قُرْبَةَ الْعُبُودِيَّةَ تَسْتَدْعِي إِحْسَانَ السَّيِّدِ إِلَى عَبْدِهِ وَرَحْمَتَهُ. فَلِمَاذَا يُعَذِّبُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَعْظَمُ الْمُحْسِنِينَ إِحْسَانًا عَبِيدَهُ؟ لَوْلَا فَرْطُ عُتُوِّهِمْ، وَإِبَاؤُهُمْ عَنْ طَاعَتِهِ، وَكَمَالُ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْعَذَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] أَيْ هُمْ عِبَادُكَ. وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ. فَإِذَا عَذَّبْتَهُمْ: عَذَّبْتَهُمْ عَلَى عِلْمٍ مِنْكَ بِمَا تُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ. فَهُمْ عِبَادُكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا جَنَوْهُ وَاكْتَسَبُوهُ. فَلَيْسَ فِي هَذَا اسْتِعْطَافٌ لَهُمْ، كَمَا يَظُنُّهُ الْجُهَّالُ. وَلَا تَفْوِيضٌ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَالْمُلْكِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْحِكْمَةِ، كَمَا تَظُنُّهُ الْقَدَرِيَّةُ. وَإِنَّمَا هُوَ إِقْرَارٌ وَاعْتِرَافٌ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَكَمَالِ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ، وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْعَذَابِ. ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] وَلَمْ يَقُلِ: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنَّهُ قَالَهُ فِي وَقْتِ غَضَبِ الرَّبِّ عَلَيْهِمْ، وَالْأَمْرِ بِهِمْ إِلَى النَّارِ. فَلَيْسَ هُوَ مَقَامَ اسْتِعْطَافٍ وَلَا شَفَاعَةٍ. بَلْ مَقَامُ بَرَاءَةٍ مِنْهُمْ. فَلَوْ قَالَ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لَأَشْعَرَ بِاسْتِعْطَافِهِ رَبَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِ الَّذِينَ قَدِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ. فَالْمَقَامُ مَقَامُ مُوَافَقَةٍ لِلرَّبِّ فِي غَضَبِهِ عَلَى مَنْ غَضِبَ الرَّبُّ عَلَيْهِمْ. فَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُسْأَلُ بِهِمَا عَطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ إِلَى ذِكْرِ الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ، الْمُتَضَمِّنَتَيْنِ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَكَمَالِ الْعِلْمِ. وَالْمَعْنَى: إِنْ غَفَرْتَ لَهُمْ فَمُغْفِرَتُكَ تَكُونُ عَنْ كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ. لَيْسَتْ عَنْ عَجْزٍ عَنْ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَلَا عَنْ خَفَاءٍ عَلَيْكَ بِمِقْدَارِ جَرَائِمِهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَغْفِرُ لِغَيْرِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِقَامِ مِنْهُ. وَلِجَهْلِهِ بِمِقْدَارِ إِسَاءَتِهِ إِلَيْهِ. وَالْكَمَالُ: هُوَ مَغْفِرَةُ الْقَادِرِ الْعَالِمِ. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَكَانَ ذِكْرُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَيْنَ الْأَدَبِ فِي الْخِطَابِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ حَمَلَةُ الْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ: اثْنَانِ يَقُولَانِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ. وَاثْنَانِ يَقُولَانِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ. وَلِهَذَا يَقْتَرِنُ كُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِالْأُخْرَى. كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12] وَقَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149] . وَكَذَلِكَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78] وَلَمْ يَقُلْ: وَإِذَا أَمْرَضَنِي. حِفْظًا لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّفِينَةِ {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] . وَلَمْ يَقُلْ: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ أَعِيبَهَا. وَقَالَ فِي الْغُلَامَيْنِ: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82] . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُؤْمِنِي الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الجن: 10] وَلَمْ يَقُولُوا: أَرَادَهُ بِهِمْ. ثُمَّ قَالُوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] . وَأَلْطَفُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] وَلَمْ يَقُلْ: أَطْعِمْنِي.

وَقَوْلُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] وَلَمْ يَقُلْ: رَبِّ قَدَرْتَ عَلَيَّ وَقَضَيْتَ عَلَيَّ. وَقَوْلُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] . وَلَمْ يَقُلْ: فَعَافِنِي وَاشْفِنِي. وَقَوْلُ يُوسُفَ لِأَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100] وَلَمْ يَقُلْ: أَخْرَجَنِي مِنَ الْجُبِّ، حِفْظًا لِلْأَدَبِ مَعَ إِخْوَتِهِ. وَتَفَتِّيًا عَلَيْهِمْ: أَنْ لَا يُخْجِلَهُمْ بِمَا جَرَى فِي الْجُبِّ. وَقَالَ {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: 100] وَلَمْ يَقُلْ: رَفَعَ عَنْكُمْ جُهْدَ الْجُوعِ وَالْحَاجَةَ. أَدَبًا مَعَهُمْ. وَأَضَافَ مَا جَرَى إِلَى السَّبَبِ. وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى الْمُبَاشِرِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْهُ. فَقَالَ: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100] فَأَعْطَى الْفُتُوَّةَ وَالْكَرْمَ وَالْأَدَبَ حَقَّهُ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ كَمَالُ هَذَا الْخُلُقِ إِلَّا لِلرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. وَمِنْ هَذَا أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ: أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَإِنْ كَانَ خَالِيًا لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، أَدَبًا مَعَ اللَّهِ، عَلَى حَسَبِ الْقُرْبِ مِنْهُ، وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ، وَشِدَّةِ الْحَيَاءِ مِنْهُ، وَمَعْرِفَةِ وَقَارِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْزَمِ الْأَدَبَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. فَمَا أَسَاءَ أَحَدٌ الْأَدَبَ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا عُوقِبَ ظَاهِرًا. وَمَا أَسَاءَ أَحَدٌ الْأَدَبَ بَاطِنًا إِلَّا عُوقِبَ بَاطِنًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ تَهَاوَنَ بِالْأَدَبِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ السُّنَنِ. وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالسُّنَنِ. عُوقِبَ بِحِرْمَانِ الْفَرَائِضِ. وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالْفَرَائِضِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ الْمَعْرِفَةِ. وَقِيلَ: الْأَدَبُ فِي الْعَمَلِ عَلَامَةُ قَبُولِ الْعَمَلِ.

فصل وصف لأدبه صلى الله عليه وسلم

وَحَقِيقَةُ الْأَدَبِ اسْتِعْمَالُ الْخُلُقِ الْجَمِيلِ. وَلِهَذَا كَانَ الْأَدَبُ: اسْتِخْرَاجَ مَا فِي الطَّبِيعَةِ مِنَ الْكَمَالِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هَيَّأَ الْإِنْسَانَ لِقَبُولِ الْكَمَالِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْأَهْلِيَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، الَّتِي جَعَلَهَا فِيهِ كَامِنَةً كَالنَّارِ فِي الزِّنَادِ. فَأَلْهَمَهُ وَمَكَّنَهُ، وَعَرَّفَهُ وَأَرْشَدَهُ. وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلَهُ. وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ كَتَبَهُ لِاسْتِخْرَاجِ تِلْكَ الْقُوَّةِ الَّتِي أَهَّلَهُ بِهَا لِكَمَالِهِ إِلَى الْفِعْلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا - فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا - قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا - وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10] . فَعَبَّرَ عَنْ خُلُقِ النَّفْسِ بِالتَّسْوِيَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاعْتِدَالِ وَالتَّمَامِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قَبُولِهَا لِلْفُجُورِ وَالتَّقْوَى. وَأَنَّ ذَلِكَ نَالَهَا مِنْهُ امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا. ثُمَّ خَصَّ بِالْفَلَاحِ مَنْ زَكَّاهَا فَنَمَّاهَا وَعَلَّاهَا. وَرَفَعَهَا بِآدَابِهِ الَّتِي أَدَّبَ بِهَا رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ. وَهِيَ التَّقْوَى. ثُمَّ حَكَمَ بِالشَّقَاءِ عَلَى مَنْ دَسَّاهَا فَأَخْفَاهَا وَحَقَّرَهَا. وَصَغَّرَهَا وَقَمَعَهَا بِالْفُجُورِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ وَصْفٌ لِأَدَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَصْلٌ وَجَرَتْ عَادَةُ الْقَوْمِ: أَنْ يَذْكُرُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ قَوْلَهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَرَاهُ مَا أَرَاهُ: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] وَأَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ صَدَّرَ بَابُ الْأَدَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ. وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّ هَذَا وَصْفٌ لِأَدَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ. إِذْ لَمْ يَلْتَفِتْ جَانِبًا. وَلَا تَجَاوَزَ مَا رَآهُ. وَهَذَا كَمَالُ الْأَدَبِ. وَالْإِخْلَالُ بِهِ: أَنْ يَلْتَفِتَ النَّاظِرُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، أَوْ يَتَطَلَّعَ أَمَامَ الْمَنْظُورِ. فَالِالْتِفَاتُ زَيْغٌ. وَالتَّطَلُّعُ إِلَى مَا أَمَامَ الْمَنْظُورِ: طُغْيَانٌ وَمُجَاوَزَةٌ. فَكَمَالُ إِقْبَالِ النَّاظِرِ عَلَى الْمَنْظُورِ: أَنْ لَا يَصْرِفَ بَصَرَهُ عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً. وَلَا يَتَجَاوَزَهُ. هَذَا مَعْنَى مَا حَصَّلْتُهُ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ. وَهِيَ مِنْ غَوَامِضِ الْآدَابِ اللَّائِقَةِ بِأَكْمَلِ الْبَشَرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَوَاطَأَ هُنَاكَ بَصَرُهُ وَبَصِيرَتُهُ. وَتَوَافَقَا وَتَصَادَقَا فِيمَا شَاهَدَهُ بَصَرُهُ. فَالْبَصِيرَةُ مُوَاطِئَةٌ لَهُ. وَمَا شَاهَدَتْهُ بَصِيرَتُهُ فَهُوَ أَيْضًا حَقٌّ مَشْهُودٌ بِالْبَصَرِ. فَتَوَاطَأَ فِي حَقِّهِ مَشْهَدُ الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ.

وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى - أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 11 - 12] أَيْ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَآهُ بِبَصَرِهِ. وَلِهَذَا قَرَأَهَا أَبُو جَعْفَرٍ: مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى - بِتَشْدِيدِ الذَّالِ - أَيْ لَمْ يُكَذِّبِ الْفُؤَادُ الْبَصَرَ. بَلْ صَدَّقَهُ وَوَاطَأَهُ. لِصِحَّةِ الْفُؤَادِ وَالْبَصَرِ. أَوِ اسْتِقَامَةِ الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرِ. وَكَوْنُ الْمَرْئِيِّ الْمُشَاهَدِ بِالْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ حَقًّا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} [النجم: 11] بِالتَّخْفِيفِ. وَهُوَ مُتَعَدٍّ. وَ: مَا رَأَى مَفْعُولَهُ: أَيْ مَا كَذَبَ قَلْبُهُ مَا رَأَتْهُ عَيْنَاهُ. بَلْ وَاطَأَهُ وَوَافَقَهُ. فَلِمُوَاطَأَةِ قَلْبِهِ لِقَالَبِهِ، وَظَاهِرِهِ لِبَاطِنِهِ. وَبَصَرِهِ لِبَصِيرَتِهِ: لَمْ يَكْذِبِ الْفُؤَادُ الْبَصَرَ. وَلَمْ يَتَجَاوَزِ الْبَصَرُ حَدَّهُ فَيَطْغَى. وَلَمْ يَمِلْ عَنِ الْمَرْئِيِّ فَيَزِيغَ، بَلِ اعْتَدَلَ الْبَصَرُ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ. مَا جَاوَزَهُ وَلَا مَالَ عَنْهُ، كَمَا اعْتَدَلَ الْقَلْبُ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ. فَإِنَّهُ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ بِكُلِّيَّتِهِ. وَلِلْقَلْبِ زَيْغٌ وَطُغْيَانٌ. وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ عَنْ قَلْبِهِ وَبَصَرِهِ. فَلَمْ يَزِغْ قَلْبُهُ الْتِفَاتًا عَنِ اللَّهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَلَمْ يَطْغَ بِمُجَاوَزَتِهِ مَقَامِهِ الَّذِي أُقِيمَ فِيهِ. وَهَذَا غَايَةُ الْكَمَالِ وَالْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ فِيهِ سِوَاهُ. فَإِنَّ عَادَةَ النُّفُوسِ، إِذَا أُقِيمَتْ فِي مَقَامٍ عَالٍ رَفِيعٍ: أَنْ تَتَطَلَّعَ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَفَوْقَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أُقِيمَ فِي مَقَامِ التَّكْلِيمِ وَالْمُنَاجَاةِ: طَلَبَتْ نَفْسُهُ الرُّؤْيَةَ؟ وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُقِيمَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَفَّاهُ حَقَّهُ: فَلِمَ يَلْتَفِتْ بَصَرُهُ وَلَا قَلْبُهُ إِلَى غَيْرِ مَا أُقِيمَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ؟ وَلِأَجْلِ هَذَا مَا عَاقَهُ عَائِقٌ. وَلَا وَقْفَ بِهِ مُرَادٌ، حَتَّى جَاوَزَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ حَتَّى عَاتَبَ مُوسَى رَبَّهُ فِيهِ. وَقَالَ: يَقُولُ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنِّي كَرِيمُ الْخُلُقِ عَلَى اللَّهِ. وَهَذَا قَدْ جَاوَزَنِي وَخَلَّفَنِي عُلُوًّا. فَلَوْ أَنَّهُ وَحْدَهُ؟ وَلَكِنْ مَعَهُ كُلُّ أُمَّتِهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ «فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ بَكَى. قِيلَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي أَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي» . ثُمَّ جَاوَزَهُ عُلُوًّا فَلَمْ تَعُقْهُ إِرَادَةٌ. وَلَمْ تَقِفْ بِهِ دُونَ كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ هِمَّةٌ.

فصل الأدب هو الدين كله

وَلِهَذَا كَانَ مَرْكُوبُهُ فِي مَسْرَاهُ يَسْبِقُ خَطْوَهُ الطَّرْفَ. فَيَضَعُ قَدَمَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، مُشَاكِلًا لِحَالِ رَاكِبِهِ، وَبُعْدِ شَأْوِهِ، الَّذِي سَبَقَ الْعَالَمَ أَجْمَعَ فِي سَيْرِهِ، فَكَانَ قَدَمُ الْبُرَاقِ لَا يَخْتَلِفُ عَنْ مَوْضِعِ نَظَرِهِ. كَمَا كَانَ قَدَمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ مَحَلِّ مَعْرِفَتِهِ. فَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَفَارَةِ كَمَالِ أَدَبِهِ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتَكْمِيلِ مَرَاتِبِ عُبُودِيَّتِهِ لَهُ، حَتَّى خَرَقَ حُجُبَ السَّمَاوَاتِ، وَجَاوَزَ السَّبْعَ الطِّبَاقَ. وَجَاوَزَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى. وَوَصَلَ إِلَى مَحَلٍّ مِنَ الْقُرْبِ سَبَقَ بِهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ. فَانْصَبَّتْ إِلَيْهِ هُنَاكَ أَقْسَامُ الْقُرْبِ انْصِبَابًا. وَانْقَشَعَتْ عَنْهُ سَحَائِبُ الْحُجُبِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حِجَابًا حِجَابًا. وَأُقِيمَ مَقَامًا غَبَطَهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ. فَإِذَا كَانَ فِي الْمَعَادِ أُقِيمَ مَقَامًا مِنَ الْقُرْبِ ثَانِيًا، يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ. وَاسْتَقَامَ هُنَاكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ مِنْ كَمَالِ أَدَبِهِ مَعَ اللَّهِ، مَا زَاغَ الْبَصَرُ عَنْهُ وَمَا طَغَى. فَأَقَامَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى أَقْوَمَ صِرَاطٍ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى. وَأَقْسَمَ بِكَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يس - وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ - إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ - عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1 - 4] فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْمَعَادِ أَقَامَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَسْأَلُهُ السَّلَامَةَ لِأَتْبَاعِهِ وَأَهْلِ سُنَّتِهِ، حَتَّى يَجُوزُوهُ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. [فَصْلٌ الْأَدَبُ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ] فَصْلٌ وَالْأَدَبُ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ. فَإِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنَ الْأَدَبِ. وَالْوُضُوءَ وَغُسْلَ الْجَنَابَةِ مِنَ الْأَدَبِ. وَالتَّطَهُّرَ مِنَ الْخُبْثِ مِنَ الْأَدَبِ. حَتَّى يَقِفَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ طَاهِرًا. وَلِهَذَا كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَجَمَّلَ الرَّجُلُ فِي صَلَاتِهِ. لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: أَمَرَ اللَّهُ بِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَهُوَ أَخْذُ الزِّينَةِ. فَقَالَ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] فَعَلَّقَ الْأَمْرَ بِأَخْذِ الزِّينَةِ، لَا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ، إِيذَانًا بِأَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ: أَنْ يَلْبَسَ أَزْيَنَ ثِيَابِهِ، وَأَجْمَلَهَا فِي الصَّلَاةِ. وَكَانَ لِبَعْضِ السَّلَفِ حُلَّةٌ بِمَبْلَغٍ عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ. وَكَانَ يَلْبَسُهَا وَقْتَ الصَّلَاةِ. وَيَقُولُ: رَبِّي أَحَقُّ مَنْ تَجَمَّلْتُ لَهُ فِي صَلَاتِي. وَمَعْلُومٌ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ. لَاسِيَّمَا إِذَا

وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَأَحْسَنُ مَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِمَلَابِسِهِ وَنِعْمَتِهِ الَّتِي أَلْبَسَهُ إِيَّاهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَمِنَ الْأَدَبِ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَلِّيَ: «أَنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ» . فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَقُولُ: هَذَا مِنْ كَمَالِ أَدَبِ الصَّلَاةِ: أَنْ يَقِفَ الْعَبْدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ مُطْرِقًا، خَافِضًا طَرْفَهُ إِلَى الْأَرْضِ. وَلَا يَرْفَعَ بَصَرَهُ إِلَى فَوْقٍ. قَالَ: وَالْجَهْمِيَّةُ - لَمَّا لَمْ يَفْقَهُوا هَذَا الْأَدَبَ، وَلَا عَرَفُوهُ - ظَنُّوا أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ. كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ. وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ رُسُلُهُ وَجَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ. قَالَ: وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ. بَلْ هَذَا دَلِيلٌ لِمَنْ عَقَلَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ; إِذْ مِنَ الْأَدَبِ مَعَ الْمُلُوكِ: أَنَّ الْوَاقِفَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَطْرُقُ إِلَى الْأَرْضِ. وَلَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَيْهِمْ. فَمَا الظَّنُّ بِمَلِكِ الْمُلُوكِ سُبْحَانَهُ؟ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ - فِي نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ - إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ أَشْرَفُ الْكَلَامِ. وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ. وَحَالَتَا الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَالَتَا ذُلٍّ وَانْخِفَاضٍ مِنَ الْعَبْدِ. فَمِنَ الْأَدَبِ مَعَ كَلَامِ اللَّهِ: أَنْ لَا يُقْرَأَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ. وَيَكُونَ حَالُ الْقِيَامِ وَالِانْتِصَابِ أَوْلَى بِهِ. وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ: أَنْ لَا يَسْتَقْبِلَ بَيْتَهُ وَلَا يَسْتَدْبِرَهُ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ وَسَلْمَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ هَذَا الْأَدَبَ: يَعُمُّ الْفَضَاءَ وَالْبُنْيَانَ. كَمَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ، فِي الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ: وَضَعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى حَالَ قِيَامِ الْقِرَاءَةِ، فَفِي الْمُوَطَّأِ لِمَالِكٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ، وَكَانَ النَّاسُ

فصل الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم

يُؤْمَرُونَ بِهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ أَدَبِ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ. فَعَظِيمُ الْعُظَمَاءِ أَحَقُّ بِهِ. وَمِنْهَا: السُّكُونُ فِي الصَّلَاةِ. وَهُوَ الدَّوَامُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ أَخْبَرَهُ قَالَ: سَأَلْنَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] أَهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ دَائِمًا؟ قَالَ: لَا. وَلَكِنَّهُ إِذَا صَلَّى لَمْ يَلْتَفِتْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَا عَنْ شِمَالِهِ وَلَا خَلْفَهُ. قُلْتُ: هُمَا أَمْرَانِ. الدَّوَامُ عَلَيْهَا. وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا. فَهَذَا الدَّوَامُ. وَالْمُدَاوَمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34] وَفُسِّرَ الدَّوَامُ بِسُكُونِ الْأَطْرَافِ وَالطُّمَأْنِينَةِ. وَأَدَبِهِ فِي اسْتِمَاعِ الْقِرَاءَةِ: أَنْ يُلْقِيَ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ. وَأَدَبُهُ فِي الرُّكُوعِ: أَنْ يَسْتَوِيَ. وَيُعَظِّمَ اللَّهَ تَعَالَى، حَتَّى لَا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَيَتَضَاءَلَ وَيَتَصَاغَرَ فِي نَفْسِهِ. حَتَّى يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ الْهَبَاءِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْأَدَبَ مَعَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: هُوَ الْقِيَامُ بِدِينِهِ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَلَا يَسْتَقِيمُ لِأَحَدٍ قَطُّ الْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: مَعْرِفَتُهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَعْرِفَتُهُ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ، وَمَا يُحِبُّ وَمَا يَكْرَهُ. وَنَفْسٌ مُسْتَعِدَّةٌ قَابِلَةٌ لَيِّنَةٌ، مُتَهَيِّئَةٌ لِقَبُولِ الْحَقِّ عِلْمًا وَعَمَلًا وَحَالًا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ الْأَدَبُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَصْلٌ وَأَمَّا الْأَدَبُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِهِ. فَرَأَسُ الْأَدَبِ مَعَهُ: كَمَالُ التَّسْلِيمِ لَهُ، وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِهِ. وَتَلَقِّي خَبَرِهِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، دُونَ أَنْ يُحَمِّلَهُ مُعَارَضَةَ خَيَالٍ بَاطِلٍ، يُسَمِّيهِ مَعْقُولًا. أَوْ يُحَمِّلَهُ شُبْهَةً أَوْ شَكًّا، أَوْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ آرَاءَ الرِّجَالِ، وَزُبَالَاتِ أَذْهَانِهِمْ، فَيُوَحِّدُهُ بِالتَّحْكِيمِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالِانْقِيَادِ وَالْإِذْعَانِ. كَمَا وَحَّدَ الْمُرْسِلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْعِبَادَةِ وَالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ، وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ.

فَهُمَا تَوْحِيدَانِ. لَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا بِهِمَا: تَوْحِيدُ الْمُرْسِلِ. وَتَوْحِيدُ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ. فَلَا يُحَاكِمُ إِلَى غَيْرِهِ. وَلَا يَرْضَى بِحُكْمِ غَيْرِهِ. وَلَا يَقِفُ تَنْفِيذُ أَمْرِهِ. وَتَصْدِيقُ خَبَرِهِ. عَلَى عَرْضِهِ عَلَى قَوْلِ شَيْخِهِ وَإِمَامِهِ، وَذَوِي مَذْهَبِهِ وَطَائِفَتِهِ، وَمَنْ يُعَظِّمُهُ. فَإِنْ أَذِنُوا لَهُ نَفَّذَهُ وَقَبِلَ خَبَرَهُ، وَإِلَّا فَإِنْ طَلَبَ السَّلَامَةَ: أَعْرَضَ عَنْ أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ وَفَوَّضَهُ إِلَيْهِمْ، وَإِلَّا حَرَّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَسَمَّى تَحْرِيفَهُ: تَأْوِيلًا، وَحَمْلًا. فَقَالَ: نُؤَوِّلُهُ وَنَحْمِلُهُ. فَلَأَنْ يَلْقَى الْعَبْدُ رَبَّهُ بِكُلِّ ذَنْبٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ - مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ - خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِهَذِهِ الْحَالِ. وَلَقَدْ خَاطَبْتُ يَوْمًا بَعْضَ أَكَابِرِ هَؤُلَاءِ. فَقُلْتُ لَهُ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ. لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا. وَقَدْ وَاجَهَنَا بِكَلَامِهِ وَبِخِطَابِهِ. أَكَانَ فَرْضًا عَلَيْنَا أَنْ نَتْبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِ وَكَلَامِهِ وَمَذْهَبِهِ، أَمْ لَا نَتْبَعَهُ حَتَّى نَعْرِضَ مَا سَمِعْنَاهُ مِنْهُ عَلَى آرَاءِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ؟ فَقَالَ: بَلْ كَانَ الْفَرْضُ الْمُبَادَرَةَ إِلَى الِامْتِثَالِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى سِوَاهُ. فَقُلْتُ: فَمَا الَّذِي نَسَخَ هَذَا الْفَرْضَ عَنَّا؟ وَبِأَيِّ شَيْءٍ نُسِخَ؟ فَوَضَعَ إِصْبَعَهُ عَلَى فِيهِ. وَبَقِيَ بَاهِتًا مُتَحَيِّرًا. وَمَا نَطَقَ بِكَلِمَةٍ. هَذَا أَدَبُ الْخَوَاصِّ مَعَهُ. لَا مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَالشِّرْكِ بِهِ. وَرَفْعِ الْأَصْوَاتِ، وَإِزْعَاجِ الْأَعْضَاءِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ. وَعَزْلِ كَلَامِهِ عَنِ الْيَقِينِ. وَأَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ، أَوْ يُتَلَقَّى مِنْهُ أَحْكَامُهُ. بَلِ الْمُعَوَّلُ فِي بَابِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَلَى الْعُقُولِ الْمُتَهَوِّكَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ الْمُتَنَاقِضَةِ. وَفِي الْأَحْكَامِ: عَلَى تَقْلِيدِ الرِّجَالِ وَآرَائِهَا. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ إِنَّمَا نَقْرَؤُهُمَا تَبَرُّكًا، لَا أَنَّا نَتَلَقَّى مِنْهُمَا أُصُولَ الدِّينِ وَلَا فُرُوعَهُ. وَمَنْ طَلَبَ ذَلِكَ وَرَامَهُ عَادَيْنَاهُ وَسَعَيْنَا فِي قَطْعِ دَابِرِهِ. وَاسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهِ {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ - حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ - لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ - قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ - مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ - أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ - أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ - أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ - وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ - أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ - وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون: 63 - 74] .

وَالنَّاصِحُ لِنَفْسِهِ. الْعَامِلُ عَلَى نَجَاتِهَا: يَتَدَبَّرُ هَذِهِ الْآيَاتَ حَقَّ تَدَبُّرِهَا. وَيَتَأَمَّلُهَا حَقَّ تَأَمُّلِهَا. وَيُنْزِلُهَا عَلَى الْوَاقِعِ: فَيَرَى الْعَجَبَ. وَلَا يَظُنُّهَا اخْتَصَّتْ بِقَوْمٍ كَانُوا فَبَانُوا. فَالْحَدِيثُ لَكِ. وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَلَا إِذَنٍ وَلَا تَصَرُّفٍ. حَتَّى يَأْمُرَ هُوَ، وَيَنْهَى وَيَأْذَنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] وَهَذَا بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يُنْسَخْ. فَالتَّقَدُّمُ بَيْنَ يَدَيْ سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، كَالتَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي حَيَّاتِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَفْتَاتُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ: لَا تُقَدِّمْ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ وَبَيْنَ يَدَيِ الْأَبِ. أَيْ لَا تُعَجِّلُوا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دُونَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا تَأْمُرُوا حَتَّى يَأْمُرَ. وَلَا تَنْهُوا حَتَّى يَنْهَى. وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَهُ: أَنْ لَا تُرْفَعَ الْأَصْوَاتُ فَوْقَ صَوْتِهِ. فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِحُبُوطِ الْأَعْمَالِ فَمَا الظَّنُّ بِرَفْعِ الْآرَاءِ، وَنَتَائِجِ الْأَفْكَارِ عَلَى سُنَّتِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ؟ أَتُرَى ذَلِكَ مُوجِبًا لِقَبُولِ الْأَعْمَالِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ فَوْقَ صَوْتِهِ مُوجِبٌ لِحُبُوطِهَا؟ وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَهُ: أَنْ لَا يَجْعَلَ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] . وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ. أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ لَا تَدْعُونَهُ بِاسْمِهِ، كَمَا يَدْعُو بَعْضُكُمْ بَعْضًا، بَلْ قُولُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَعَلَى هَذَا: الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ دُعَاءَكُمُ الرَّسُولَ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَهُ لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ دُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا. إِنْ شَاءَ أَجَابَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، بَلْ إِذَا دَعَاكُمْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ بُدٌّ مِنْ إِجَابَتِهِ، وَلَمْ يَسَعْكُمُ التَّخَلُّفُ عَنْهَا أَلْبَتَّةَ. فَعَلَى هَذَا: الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ. أَيْ دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ. وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَهُ: أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ - مِنْ خُطْبَةٍ، أَوْ جِهَادٍ، أَوْ رِبَاطٍ - لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَذْهَبًا فِي حَاجَتِهِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:

فصل الأدب مع الخلق

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] . فَإِذَا كَانَ هَذَا مَذْهَبًا مُقَيَّدًا بِحَاجَةٍ عَارِضَةٍ، وَلَمْ يُوَسِّعْ لَهُمْ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَكَيْفَ بِمَذْهَبٍ مُطْلَقٍ فِي تَفَاصِيلِ الدِّينِ: أُصُولِهِ، وَفُرُوعِهِ، دَقِيقِهِ، وَجَلِيلِهِ؟ هَلْ يُشْرَعُ الذَّهَابُ إِلَيْهِ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِ؟ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . وَمِنَ الْأَدَبِ مَعَهُ: أَنْ لَا يُسْتَشْكَلَ قَوْلُهُ:. بَلْ تُسْتَشْكَلُ الْآرَاءُ لِقَوْلِهِ: وَلَا يُعَارَضُ نَصُّهُ بِقِيَاسٍ بَلْ تُهْدَرُ الْأَقْيِسَةُ وَتُلْقَى لِنُصُوصِهِ. وَلَا يُحَرَّفُ كَلَامُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ لِخَيَالٍ يُسَمِّيهِ أَصْحَابُهُ مَعْقُولًا، نَعَمْ هُوَ مَجْهُولٌ، وَعَنِ الصَّوَابِ مَعْزُولٌ، وَلَا يُوقَفُ قَبُولُ مَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُوَافَقَةِ أَحَدٍ، فَكُلُّ هَذَا مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ عَيْنُ الْجُرْأَةِ. [فَصْلٌ الْأَدَبُ مَعَ الْخَلْقِ] فَصْلٌ وَأَمَّا الْأَدَبُ مَعَ الْخَلْقِ: فَهُوَ مُعَامَلَتُهُمْ - عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ - بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ. فَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ أَدَبٌ. وَالْمَرَاتِبُ فِيهَا أَدَبٌ خَاصٌّ. فَمَعَ الْوَالِدَيْنِ: أَدَبٌ خَاصٌّ وَلِلْأَبِ مِنْهُمَا: أَدَّبٌ هُوَ أَخُصُّ بِهِ، وَمَعَ الْعَالِمِ: أَدَبٌ آخَرُ، وَمَعَ السُّلْطَانِ: أَدَبٌ يَلِيقُ بِهِ، وَلَهُ مَعَ الْأَقْرَانِ أَدَبٌ يَلِيقُ بِهِمْ. وَمَعَ الْأَجَانِبِ: أَدَبٌ غَيْرُ أَدَبِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَذَوِي أُنْسِهِ. وَمَعَ الضَّيْفِ: أَدَبٌ غَيْرُ أَدَبِهِ مَعَ أَهْلِ بَيْتِهِ. وَلِكُلِّ حَالٍ أَدَبٌ: فَلِلْأَكْلِ آدَابٌ. وَلِلشُّرْبِ آدَابٌ. وَلِلرُّكُوبِ وَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ وَالسَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ وَالنَّوْمِ آدَابٌ. وَلِلْبَوْلِ آدَابٌ. وَلِلْكَلَامِ آدَابٌ. وَلِلسُّكُوتِ وَالِاسْتِمَاعِ آدَابٌ. وَأَدَبُ الْمَرْءِ: عُنْوَانُ سَعَادَتِهِ وَفَلَاحِهِ. وَقِلَّةُ أَدَبِهِ: عُنْوَانُ شَقَاوَتِهِ وَبَوَارِهِ. فَمَا اسْتُجْلِبَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمِثْلِ الْأَدَبِ، وَلَا اسْتُجْلِبَ حِرْمَانُهُمَا بِمِثْلِ قِلَّةِ الْأَدَبِ. فَانْظُرْ إِلَى الْأَدَبِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ: كَيْفَ نَجَّى صَاحِبَهُ مِنْ حَبْسِ الْغَارِ حِينَ أَطْبَقَتْ عَلَيْهِمُ الصَّخْرَةُ؟ وَالْإِخْلَالُ بِهِ مَعَ الْأُمِّ - تَأْوِيلًا وَإِقْبَالًا عَلَى الصَّلَاةِ - كَيْفَ امْتُحِنَ

صَاحِبُهُ بِهَدْمِ صَوْمَعَتِهِ وَضَرْبِ النَّاسِ لَهُ، وَرَمْيِهِ بِالْفَاحِشَةِ؟ وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ كُلِّ شَقِيٍّ وَمُغْتَرٍّ وَمُدْبِرٍ: كَيْفَ تَجِدُ قِلَّةَ الْأَدَبِ هِيَ الَّتِي سَاقَتْهُ إِلَى الْحِرْمَانِ؟ وَانْظُرْ قِلَّةَ أَدَبِ عَوْفٍ مَعَ خَالِدٍ: كَيْفَ حَرَمَهُ السَّلْبَ بَعْدَ أَنْ بَرَدَ بِيَدَيْهِ؟ وَانْظُرْ أَدَبَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ: أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَيْفَ أَوْرَثَهُ مَقَامَهُ وَالْإِمَامَةَ بِالْأُمَّةِ بَعْدَهُ؟ فَكَانَ ذَلِكَ التَّأَخُّرُ إِلَى خَلْفِهِ - وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ أَنِ اثْبُتْ مَكَانَكَ - جَمْزًا، وَسَعْيًا إِلَى قُدَّامَ؟ بِكُلِّ خُطْوَةٍ إِلَى وَرَاءَ مَرَاحِلُ إِلَى قُدَّامَ. تَنْقَطِعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل حقيقة الأدب

[فَصْلٌ حَقِيقَةُ الْأَدَبِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الْأَدَبُ: حِفْظُ الْحَدِّ، بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالْجَفَاءِ، بِمَعْرِفَةِ ضَرَرِ الْعُدْوَانِ. هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْحُدُودِ. فَإِنَّ الِانْحِرَافَ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيِ الْغُلُوِّ وَالْجَفَاءِ: هُوَ قِلَّةُ الْأَدَبِ. وَالْأَدَبُ: الْوُقُوفُ فِي الْوَسَطِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَلَا يُقَصِّرُ بِحُدُودِ الشَّرْعِ عَنْ تَمَامِهَا. وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهَا مَا جُعِلَتْ حُدُودًا لَهُ. فَكِلَاهُمَا عُدْوَانٌ. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَالْعُدْوَانُ: هُوَ سُوءُ الْأَدَبِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: دِينُ اللَّهِ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ. فَإِضَاعَةُ الْأَدَبِ بِالْجَفَاءِ: كَمَنْ لَمْ يُكْمِلْ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ. وَلَمْ يُوفِّ الصَّلَاةَ آدَابَهَا الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَعَلَهَا. وَهِيَ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةِ أَدَبٍ: مَا بَيْنَ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ. وَإِضَاعَتُهُ بِالْغُلُوِّ: كَالْوَسْوَسَةِ فِي عَقْدِ النِّيَّةِ. وَرَفَعِ الصَّوْتِ بِهَا. وَالْجَهْرِ بِالْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ الَّتِي شُرِعَتْ سِرًّا. وَتَطْوِيلِ مَا السُّنَّةُ تَخْفِيفُهُ وَحَذْفُهُ. كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالسَّلَامِ الَّذِي حَذْفُهُ سُنَّةٌ. وَزِيَادَةِ التَّطْوِيلِ عَلَى مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عَلَى مَا يَظُنُّهُ سُرَّاقُ الصَّلَاةِ وَالنَّقَّارُونَ لَهَا وَيَشْتَهُونَهُ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَ بِأَمْرٍ وَيُخَالِفَهُ. وَقَدْ صَانَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالتَّخْفِيفِ وَيَؤُمُّهُمْ بِالصَّافَّاتِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّخْفِيفِ وَتُقَامُ صَلَاةُ الظُّهْرِ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ. وَيَأْتِي أَهْلَهُ وَيَتَوَضَّأُ. وَيُدْرِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى. فَهَذَا هُوَ التَّخْفِيفُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ. لَا نَقْرَ الصَّلَاةِ وَسَرْقَهَا. فَإِنَّ ذَلِكَ اخْتِصَارٌ، بَلِ اقْتِصَارٌ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَيُسَمَّى بِهِ مُصَلِّيًا، وَهُوَ كَأَكْلِ الْمُضْطَرِّ فِي الْمَخْمَصَةِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ: فَلَيْتَهُ شِبَعَ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَهُوَ كَجَائِعٍ قُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ لَذِيذٌ جِدًّا. فَأَكَلَ مِنْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ. فَمَاذَا يُغْنِيَانِ عَنْهُ؟ وَلَكِنْ لَوْ أَحَسَّ بِجُوعِهِ لَمَا قَامَ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى يَشْبَعَ مِنْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. لَكِنَّ الْقَلْبَ شَبْعَانُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ. وَمِثَالُ هَذَا التَّوَسُّطُ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: أَنْ لَا يَغْلُوَ فِيهِمْ، كَمَا غَلَتِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ، وَلَا يَجْفُوَ عَنْهُمْ، كَمَا جَفَتِ الْيَهُودُ. فَالنَّصَارَى عَبَدُوهُمْ. وَالْيَهُودُ قَتَلُوهُمْ وَكَذَّبُوهُمْ. وَالْأُمَّةُ الْوَسَطُ: آمَنُوا بِهِمْ، وَعَزَّرُوهُمْ وَنَصَرُوهُمْ، وَاتَّبَعُوا مَا جَاءُوا بِهِ.

فصل درجات الأدب

وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْخَلْقِ: أَنْ لَا يُفَرِّطَ فِي الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ، وَلَا يَسْتَغْرِقَ فِيهَا، بِحَيْثُ يَشْتَغِلُ بِهَا عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أَوْ عَنْ تَكْمِيلِهَا، أَوْ عَنْ مَصْلَحَةِ دِينِهِ وَقَلْبِهِ، وَأَنْ لَا يَجْفُوَ عَنْهَا حَتَّى يُعَطِّلَهَا بِالْكُلِّيَّةِ. فَإِنَّ الطَّرَفَيْنِ مِنَ الْعُدْوَانِ الضَّارِّ. وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ، فَحَقِيقَةُ الْأَدَبِ: هِيَ الْعَدْلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْأَدَبِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى مَنْعُ الْخَوْفِ] فَصْلٌ قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مَنْعُ الْخَوْفِ: أَنْ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْيَأْسِ، وَحَبْسُ الرَّجَاءِ: أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْأَمْنِ، وَضَبْطُ السُّرُورِ: أَنْ يُضَاهِئَ الْجُرْأَةَ. يُرِيدُ: أَنَّهُ لَا يَدْعُ الْخَوْفَ يُفْضِي بِهِ إِلَى حَدٍّ يُوقِعُهُ فِي الْقُنُوطِ، وَالْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. فَإِنَّ هَذَا الْخَوْفَ مَذْمُومٌ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: حَدُّ الْخَوْفِ مَا حَجَزَكَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ. فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ: فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ. وَهَذَا الْخَوْفُ الْمُوقِعُ فِي الْإِيَاسِ: إِسَاءَةُ أَدَبٍ عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَجَهْلٌ بِهَا. وَأَمَّا حَبْسُ الرَّجَاءِ: أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْأَمْنِ فَهُوَ أَنْ لَا يَبْلُغَ بِهِ الرَّجَاءُ إِلَى حَدٍّ يَأْمَنُ مَعَهُ الْعُقُوبَةَ. فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ. وَهَذَا إِغْرَاقٌ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ. بَلْ حَدُّ الرَّجَاءِ: مَا طَيَّبَ لَكَ الْعِبَادَةَ، وَحَمَلَكَ عَلَى السَّيْرِ. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرِّيَاحِ الَّتِي تُسَيِّرُ السَّفِينَةَ. فَإِذَا انْقَطَعَتْ وَقَفَتِ السَّفِينَةُ. وَإِذَا زَادَتْ أَلْقَتْهَا إِلَى الْمَهَالِكِ. وَإِذَا كَانَتْ بِقَدْرٍ: أَوْصَلَتْهَا إِلَى الْبُغْيَةِ. وَأَمَّا ضَبْطُ السُّرُورِ: أَنْ يَخْرُجَ إِلَى مُشَابَهَةِ الْجُرْأَةِ. فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْأَقْوِيَاءُ أَرْبَابُ الْعَزَائِمِ. الَّذِينَ لَا تَسْتَفِزُّهُمُ السَّرَّاءُ، فَتَغْلِبَ شُكْرَهُمْ. وَلَا تُضْعِفُهُمُ الضَّرَّاءُ. فَتَغْلِبَ صَبْرَهُمْ، كَمَا قِيلَ: لَا تَغَلِبُ السَّرَّاءُ مِنْهُمْ شُكْرَهُمْ ... كَلَّا. وَلَا الضَّرَاءُ صَبْرَ الصَّابِرِ وَالنَّفْسُ قَرِينَةُ الشَّيْطَانِ وَمُصَاحِبَتُهُ، وَتُشْبِهُهُ فِي صِفَاتِهِ. وَمَوَاهِبُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَنْزِلُ

فصل الدرجة الثانية الخروج عن الخوف إلى ميدان القبض

عَلَى الْقَلْبِ وَالرُّوحِ. فَالنَّفْسُ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ. فَإِذَا نَزَلَتْ عَلَى الْقَلْبِ تِلْكَ الْمَوَاهِبُ: وَثَبَتْ لِتَأْخُذَ قِسْطَهَا مِنْهَا، وَتُصَيِّرَهُ مِنْ عِدَّتِهَا وَحَوَاصِلِهَا. فَالْمُسْتَرْسِلُ مَعَهَا، الْجَاهِلُ بِهَا فَيَدَعُهَا تَسْتَوْفِي ذَلِكَ. فَبَيْنَا هُوَ فِي مَوْهِبَةِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَعِدَّةٍ وَقُوَّةٍ لَهُ، إِذْ صَارَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ حَاصِلِ النَّفْسِ وَآلَتِهَا، وَعُدَدِهَا. فَصَالَتْ بِهِ وَطَغَتْ. لِأَنَّهَا رَأَتْ غِنَاهَا بِهِ. وَالْإِنْسَانُ يَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى بِالْمَالِ. فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا، وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنَ الْمَالِ، بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا: مَنْ عِلْمٍ، أَوْ حَالٍ، أَوْ مَعْرِفَةٍ، أَوْ كَشْفٍ؟ فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ مِنْ حَاصِلِهَا: انْحَرَفَ الْعَبْدُ بِهِ وَلَا بُدَّ إِلَى طَرَفٍ مَذْمُومٍ مِنْ جُرْأَةٍ، أَوْ شَطْحٍ، أَوْ إِدْلَالٍ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَوَاللَّهِ كَمْ هَاهُنَا مِنْ قَتِيلٍ، وَسَلِيبٍ، وَجَرِيحٍ يَقُولُ: مِنْ أَيْنَ أُتِيتُ؟ وَمِنْ أَيْنَ دُهِيتُ؟ وَمِنْ أَيْنَ أُصِبْتُ؟ وَأَقَلُّ مَا يُعَاقَبُ بِهِ مِنَ الْحِرْمَانِ بِذَلِكَ: أَنْ يُغْلَقَ عَنْهُ بَابُ الْمَزِيدِ. وَلِهَذَا كَانَ الْعَارِفُونَ وَأَرْبَابُ الْبَصَائِرِ: إِذَا نَالُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ انْحَرَفُوا إِلَى طَرَفِ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ، وَمُطَالَعَةِ عُيُوبِ النَّفْسِ. وَاسْتَدْعَوْا حَارِسَ الْخَوْفِ، وَحَافَظُوا عَلَى الرِّبَاطِ بِمُلَازَمَةِ الثَّغْرِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ النَّفْسِ، وَنَظَرُوا إِلَى أَقْرَبِ الْخَلْقِ مِنَ اللَّهِ، وَأَكْرَمِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ وَسِيلَةً، وَأَعْظَمِهِمْ عِنْدَهُ جَاهًا، وَقَدْ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَذَقْنَهُ تَمَسُّ قُرْبُوسَ سَرْجِهِ: انْخِفَاضًا وَانْكِسَارًا، وَتَوَاضُعًا لِرَبِّهِ تَعَالَى فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ، الَّتِي عَادَةُ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ فِيهَا: أَنْ يَمْلِكَهَا سُرُورُهَا، وَفَرَحُهَا بِالنَّصْرِ، وَالظَّفَرِ، وَالتَّأْيِيدِ، وَيَرْفَعُهَا إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ. فَالرَّجُلُ: مَنْ صَانَ فَتْحَهُ وَنَصِيبَهُ مِنَ اللَّهِ. وَوَارَاهُ عَنِ اسْتِرَاقِ نَفْسِهِ. وَبَخِلَ عَلَيْهَا بِهِ، وَالْعَاجِزُ: مَنْ جَادَ لَهَا بِهِ. فَيَا لَهُ مِنْ جُودٍ مَا أَقْبَحَهُ. وَسَمَاحَةٍ مَا أَسْفَهَ صَاحِبَهَا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الْخُرُوجُ عَنِ الْخَوْفِ إِلَى مَيْدَانِ الْقَبْضِ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الْخُرُوجُ عَنِ الْخَوْفِ إِلَى مَيْدَانِ الْقَبْضِ، وَالصُّعُودُ مِنَ الرَّجَاءِ إِلَى مَيْدَانِ الْبَسْطِ، ثُمَّ التَّرَقِّي مِنَ السُّرُورِ إِلَى مَيْدَانِ الْمُشَاهَدَةِ. ذَكَرَ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى: كَيْفَ يُحْفَظُ الْحَدُّ بَيْنَ الْمَقَامَاتِ، حَتَّى لَا يَتَعَدَّى إِلَى غُلُوٍّ أَوْ جَفَاءٍ. وَذَلِكَ سُوءُ أَدَبٍ. فَذَكَرَ مَعَ الْخَوْفِ: أَنْ يُخْرِجَهُ إِلَى الْيَأْسِ، وَمَعَ الرَّجَاءِ: أَنْ يُخْرِجَهُ إِلَى الْأَمْنِ، وَمَعَ

فصل الدرجة الثالثة معرفة الأدب

السُّرُورِ: أَنْ يُخْرِجَهُ إِلَى الْجُرْأَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: أَدَبَ التَّرَقِّي مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِلَى مَا يَحْفَظُهُ عَلَيْهَا. وَلَا يُضَيِّعُهَا بِالْكُلِّيَّةِ. كَمَا أَنَّ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى: لَا يُبَالِغُ بِهِ. بَلْ يَكُونُ خُرُوجُهُ مِنَ الْخَوْفِ إِلَى الْقَبْضِ، يَعْنِي لَا يُزَايِلُ الْخَوْفَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ قَبْضَهُ لَا يُؤَيِّسُهُ وَلَا يُقَنِّطُهُ. وَلَا يَحْمِلُهُ عَلَى مُخَالَفَةٍ وَلَا بَطَالَةٍ. وَكَذَلِكَ رَجَاؤُهُ لَا يَقْعُدُ بِهِ عَنْ مَيْدَانِ الْبَسْطِ. بَلْ يَكُونُ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ. وَهَذِهِ حَالُ الْكَمَالِ. وَهِيَ السَّيْرُ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ. وَسُرُورُهُ: لَا يَقْعُدُ بِهِ عَنْ تَرَقِّيهِ إِلَى مَيْدَانِ مُشَاهَدَتِهِ، بَلْ يَرْقَى بِسُرُورِهِ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ. وَيَرْجِعُ مِنْ رَجَائِهِ إِلَى الْبَسْطِ. وَمِنْ خَوْفِهِ إِلَى الْقَبْضِ. وَمَقْصُودُهُ: أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ أَشْبَاحِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ إِلَى أَرْوَاحِهَا. فَإِنَّ الْخَوْفَ شَبَحٌ. وَالْقَبْضَ رُوحُهُ. وَالرَّجَاءَ شَبَحٌ، وَالْبَسْطَ رُوحُهُ. وَالسُّرُورَ شَبَحٌ، وَالْمُشَاهَدَةَ رُوحُهُ. فَيَكُونُ حَظَّهُ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ: أَرْوَاحُهَا وَحَقَائِقُهَا، لَا صُوَرُهَا وَرُسُومُهَا. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مَعْرِفَةُ الْأَدَبِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْرِفَةُ الْأَدَبِ. ثُمَّ الْفَنَاءُ عَنِ التَّأَدُّبِ بِتَأْدِيبِ الْحَقِّ ثُمَّ الْخَلَاصُ مِنْ شُهُودِ أَعْبَاءِ الْأَدَبِ. قَوْلُهُ: مَعْرِفَةُ الْأَدَبِ. يَعْنِي لَا بُدَّ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي كُلِّ دَرَجَةٍ. وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. فَإِنَّهُ يُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى الْأَدَبِ فِي الدَّرَجَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ. فَإِذَا عَرَفَهُ وَصَارَ لَهُ حَالًا. فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْنَى عَنْهُ، بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ شُهُودُ مَنْ أَقَامَهُ فِيهِ. فَيَنْسِبَهُ إِلَيْهِ تَعَالَى دُونَ نَفْسِهِ. وَيَفْنَى عَنْ رُؤْيَةِ نَفْسِهِ، وَقِيَامِهَا بِالْأَدَبِ بِشُهُودِ الْفَضْلِ لِمَنْ أَقَامَهَا فِيهِ وَمِنَّتِهِ. فَهَذَا هُوَ الْفَنَاءُ عَنِ التَّأَدُّبِ بِتَأْدِيبِ الْحَقِّ. قَوْلُهُ: ثُمَّ الْخَلَاصُ مِنْ شُهُودِ أَعْبَاءِ الْأَدَبِ يَعْنِي: أَنَّهُ يَفْنَى عَنْ مُشَاهَدَةِ الْأَدَبِ بِالْكُلِّيَّةِ، لِاسْتِغْرَاقِهِ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ الَّتِي غَيَّبَتْهُ عَنِ الْأَدَبِ. فَفَنَاؤُهُ عَنِ الْأَدَبِ فِيهَا: هُوَ الْأَدَبُ حَقِيقَةً. فَيَسْتَرِيحُ حِينَئِذٍ مِنْ كُلْفَةِ حَمْلِ أَعْبَاءِ الْأَدَبِ وَأَثْقَالِهِ. لِأَنَّ اسْتِغْرَاقَهُ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ لَمْ يُبْقِ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَعْبَاءِ الْأَدَبِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

فصل منزلة اليقين

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْيَقِينِ] [حَقِيقَةُ الْيَقِينِ وَالْأَقْوَالُ فِيهِ] وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْيَقِينِ وَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ مَنْزِلَةُ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ. وَبِهِ تَفَاضَلَ الْعَارِفُونَ. وَفِيهِ تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ. وَإِلَيْهِ شَمَّرَ الْعَامِلُونَ. وَعَمَلُ الْقَوْمِ إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ. وَإِشَارَاتُهُمْ كُلُّهَا إِلَيْهِ. وَإِذَا تَزَوَّجَ الصَّبْرُ بِالْيَقِينِ: وُلِدَ بَيْنَهُمَا حُصُولُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِقَوْلِهِ: يَهْتَدِي الْمُهْتَدُونَ {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] . وَخَصَّ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْيَقِينِ بِالِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ. فَقَالَ، وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] . وَخَصَّ أَهْلَ الْيَقِينِ بِالْهُدَى وَالْفَلَاحِ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ - أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 4 - 5] . وَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ: بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] . فَالْيَقِينُ رُوحُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ أَرْوَاحُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ. وَهُوَ حَقِيقَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ. وَهُوَ قُطْبُ هَذَا الشَّأْنِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُهُ. وَرَوَى خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ السُّفْيَانَيْنِ عَنِ التَّيْمِيِّ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُرْضِيَنَّ أَحَدًا بِسَخَطِ اللَّهِ. وَلَا تَحْمَدَنَّ أَحَدًا عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، وَلَا تَذُمَّنَّ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ. فَإِنَّ رِزْقَ اللَّهِ لَا يَسُوقُهُ إِلَيْكَ حِرْصُ حَرِيصٍ. وَلَا يَرُدُّهُ عَنْكَ كَرَاهِيَةَ كَارِهٍ. وَإِنَّ اللَّهَ بِعَدْلِهِ وَقِسْطِهِ جَعَلَ الرُّوحَ وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَا وَالْيَقِينِ، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ» .

وَالْيَقِينُ قَرِينُ التَّوَكُّلِ. وَلِهَذَا فُسِّرَ التَّوَكُّلُ بِقُوَّةِ الْيَقِينِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ التَّوَكُّلَ ثَمَرَتُهُ وَنَتِيجَتُهُ. وَلِهَذَا حَسُنَ اقْتِرَانُ الْهُدَى بِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79] فَالْحَقُّ: هُوَ الْيَقِينُ. وَقَالَتْ رُسُلُ اللَّهِ: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: 12] . وَمَتَّى وَصَلَ الْيَقِينُ إِلَى الْقَلْبِ امْتَلَأَ نُورًا وَإِشْرَاقًا. وَانْتَفَى عَنْهُ كُلُّ رَيْبٍ وَشَكٍّ وَسَخَطٍ، وَهَمٍّ وَغَمٍّ. فَامْتَلَأَ مَحَبَّةً لِلَّهِ. وَخَوْفًا مِنْهُ وَرِضًا بِهِ، وَشْكْرًا لَهُ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، وَإِنَابَةً إِلَيْهِ. فَهُوَ مَادَّةُ جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ وَالْحَامِلُ لَهَا. وَاخْتُلِفَ فِيهِ: هَلْ هُوَ كَسْبِيٌّ، أَوْ مَوْهِبِيٌّ؟ فَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ الْمُسْتَوْدَعُ فِي الْقُلُوبِ. يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ كَسْبِيٍّ. وَقَالَ سَهْلٌ: الْيَقِينُ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْإِيمَانَ كَسْبِيٌّ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ كَسْبِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَسْبَابِهِ، مَوْهِبِيٌّ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ. قَالَ سَهْلٌ: ابْتِدَاؤُهُ الْمُكَاشَفَةُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا. ثُمَّ الْمُعَايَنَةُ وَالْمُشَاهَدَةُ. وَقَالَ ابْنُ خَفِيفٍ: هُوَ تَحَقُّقُ الْأَسْرَارِ بِأَحْكَامِ الْمَغِيبَاتِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ ظَاهِرٍ: الْعِلْمُ تُعَارِضُهُ الشُّكُوكُ، وَالْيَقِينُ لَا شَكَّ فِيهِ. وَعِنْدَ الْقَوْمِ: الْيَقِينُ لَا يُسَاكِنُ قَلْبًا فِيهِ سُكُونٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: الْيَقِينُ يَدْعُو إِلَى قَصْرِ الْأَمَلِ، وَقَصْرُ الْأَمَلِ يَدْعُو إِلَى الزُّهْدِ. وَالزُّهْدُ يُورِثُ الْحِكْمَةَ، وَهِيَ تُورِثُ النَّظَرَ فِي الْعَوَاقِبِ. قَالَ: وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الْيَقِينِ: قِلَّةُ مُخَالَطَةِ النَّاسِ فِي الْعَشْرَةِ. وَتَرْكُ الْمَدْحِ لَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ. وَالتَّنَزُّهُ عَنْ ذَمِّهِمْ عِنْدَ الْمَنْعِ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِهِ أَيْضًا: النَّظَرُ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ. وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الْيَقِينُ هُوَ اسْتِقْرَارُ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَنْقَلِبُ وَلَا يُحَوَّلُ، وَلَا يَتَغَيَّرُ فِي الْقَلْبِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِمْ مِنَ التَّقْوَى أَدْرَكُوا مِنَ الْيَقِينِ. وَأَصْلُ التَّقْوَى مُبَايَنَةُ النَّهْيِ. وَهُوَ مُبَايَنَةُ النَّفْسِ. فَعَلَى قَدْرِ مُفَارَقَتِهِمُ النَّفْسَ: وَصَلُوا إِلَى الْيَقِينِ. وَقِيلَ: الْيَقِينُ هُوَ الْمُكَاشَفَةُ. وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: مُكَاشَفَةٌ فِي الْأَخْبَارِ. وَمُكَاشَفَةٌ بِإِظْهَارِ الْقُدْرَةِ. وَمُكَاشَفَةُ الْقُلُوبِ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ. وَمُرَادُ الْقَوْمِ بِالْمُكَاشَفَةِ: ظُهُورُ الشَّيْءِ لِلْقَلْبِ بِحَيْثُ يَصِيرُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ. فَلَا يَبْقَى مَعَكَ شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ أَصْلًا. وَهَذَا نِهَايَةُ الْإِيمَانِ. وَهُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ. وَقَدْ يُرِيدُونَ بِهَا أَمْرًا آخَرَ. وَهُوَ مَا يَرَاهُ أَحَدُهُمْ فِي بَرْزَخٍ بَيْنَ النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ عِنْدَ أَوَائِلِ تَجَرُّدِ الرُّوحِ عَنِ الْبَدَنِ. وَمَنْ أَشَارَ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِ هَذَيْنِ: فَقَدْ غَلِطَ وَلُبِّسَ عَلَيْهِ. وَقَالَ السَّرِيُّ: الْيَقِينُ سُكُونُكَ عِنْدَ جَوَلَانِ الْمَوَارِدِ فِي صَدْرِكَ، لِتَيَقُّنِكَ أَنَّ حَرَكَتَكَ فِيهَا لَا تَنْفَعُكَ. وَلَا تَرُدَّ عَنْكَ مَقْضِيًّا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: الْيَقِينُ مَلَاكُ الْقَلْبِ. وَبِهِ كَمَالُ الْإِيمَانِ. وَبِالْيَقِينِ عُرِفَ اللَّهُ. بِالْعَقْلِ عُقِلَ عَنِ اللَّهِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: قَدْ مَشَى رِجَالٌ بِالْيَقِينِ عَلَى الْمَاءِ. وَمَاتَ بِالْعَطَشِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ يَقِينًا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفْضِيلِ الْيَقِينِ عَلَى الْحُضُورِ وَالْحُضُورِ عَلَى الْيَقِينِ. فَقِيلَ: الْحُضُورُ أَفْضَلُ. لِأَنَّهُ وَطَنَاتٌ، وَالْيَقِينُ خَطِرَاتٌ. وَبَعْضُهُمْ رَجَّحَ الْيَقِينَ. وَقَالَ: هُوَ غَايَةُ الْإِيمَانِ. وَالْأَوَّلُ: رَأَى أَنَّ الْيَقِينَ ابْتِدَاءُ الْحُضُورِ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْيَقِينَ ابْتِدَاءً. وَالْحُضُورَ دَوَامًا. وَهَذَا الْخِلَافُ لَا يَتَبَيَّنُ. فَإِنَّ الْيَقِينَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْحُضُورِ. وَلَا الْحُضُورُ عَنِ الْيَقِينِ. بَلْ فِي الْيَقِينِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِهِ وَشُعَبِهِ، وَتَنْزِيلِهَا مَنَازِلَهَا - مَا لَيْسَ فِي الْحُضُورِ. فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَفِي الْحُضُورِ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ، وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ، وَالدُّخُولِ فِي الْفِنَاءِ: مَا قَدْ يَنْفَكُّ عَنْهُ الْيَقِينُ. فَالْيَقِينُ أَخَصُّ بِالْمَعْرِفَةِ. وَالْحُضُورُ أَخَصُّ بِالْإِرَادَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ النَّهْرَجُورِيُّ: إِذَا اسْتَكْمَلَ الْعَبْدُ حَقَائِقَ الْيَقِينِ صَارَ الْبَلَاءُ عِنْدَهُ نِعْمَةً وَالرَّخَاءُ عِنْدَهُ مُصِيبَةً.

فصل تعريف ابن القيم لليقين

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: الْيَقِينُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: يَقِينُ خَبَرٍ. وَيَقِينُ دَلَالَةٍ. وَيَقِينُ مُشَاهَدَةٍ. يُرِيدُ بِيَقِينِ الْخَبَرِ: سُكُونَ الْقَلْبِ إِلَى خَبَرِ الْمُخْبِرِ وَتَوَثُّقَهُ بِهِ. وَبِيَقِينِ الدَّلَالَةِ: مَا هُوَ فَوْقَهُ. وَهُوَ أَنْ يُقِيمَ لَهُ - مَعَ وُثُوقِهِ بِصِدْقِهِ - الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَهَذَا كَعَامَّةِ أَخْبَارِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْقُرْآنِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ - مَعَ كَوْنِهِ أَصْدَقَ الصَّادِقِينَ - يُقِيمُ لِعِبَادِهِ الْأَدِلَّةَ وَالْأَمْثَالَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى صِدْقِ أَخْبَارِهِ. فَيَحْصُلُ لَهُمُ الْيَقِينُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ، وَمِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ. فَيَرْتَفِعُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ: وَهِيَ يَقِينُ الْمُكَاشَفَةِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمُخْبَرُ بِهِ لِقُلُوبِهِمْ كَالْمَرْئِيِّ لِعُيُونِهِمْ. فَنِسْبَةُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ حِينَئِذٍ إِلَى الْقَلْبِ: كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ. وَهَذَا أَعْلَى أَنْوَاعِ الْمُكَاشَفَةِ. وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا عَامِرُ بْنُ عَبَدِ قَيْسٍ فِي قَوْلِهِ: لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مِنْ قَوْلِ عَلَيٍّ - كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْمَنْقُولَاتِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقِيقَةً. قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُمَا بِعَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُؤْيَتِي لَهُمَا بِعَيْنَيْهِ: آثَرُ عِنْدِي مِنْ رُؤْيَتِي لَهُمَا بِعَيْنِي. فَإِنَّ بَصَرِي قَدْ يَطْغَى وَيَزِيغُ، بِخِلَافِ بَصَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْيَقِينُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْأَهْوَالِ، وَرُكُوبِ الْأَخْطَارِ. وَهُوَ يَأْمُرُ بِالتَّقَدُّمِ دَائِمًا. فَإِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ الْعِلْمُ: حُمِلَ عَلَى الْمَعَاطِبِ. وَالْعِلْمُ يَأْمُرُ بِالتَّأَخُّرِ وَالْإِحْجَامِ. فَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ الْيَقِينُ قَعَدَ بِصَاحِبِهِ عَنِ الْمَكَاسِبِ وَالْغَنَائِمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ تَعْرِيفُ ابْنِ الْقَيِّمِ لِلْيَقِينِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ: الْيَقِينُ: مَرْكِبُ الْآخِذِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ. وَهُوَ غَايَةُ دَرَجَاتِ الْعَامَّةِ. وَقِيلَ: أَوَّلُ خُطْوَةٍ لِلْخَاصَّةِ. لَمَّا كَانَ الْيَقِينُ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُ السَّائِرَ إِلَى اللَّهِ - كَمَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: الْعِلْمُ مَا اسْتَعْمَلَكَ. وَالْيَقِينُ مَا حَمَلَكَ - سَمَّاهُ مَرْكِبًا يَرْكَبُهُ السَّائِرُ إِلَى اللَّهِ. فَإِنَّهُ لَوْلَا الْيَقِينُ مَا سَارَ

درجات اليقين

رَكْبٌ إِلَى اللَّهِ، وَلَا ثَبَتَ لِأَحَدٍ قَدَمٌ فِي السُّلُوكِ إِلَّا بِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَهُ آخِرَ دَرَجَاتِ الْعَامَّةِ: لِأَنَّهُمْ إِلَيْهِ يَنْتَهُونَ. ثُمَّ حَكَى قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَوَّلُ خُطْوَةٍ لِلْخَاصَّةِ. يَعْنِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَقَامٍ لَهُمْ. وَإِنَّمَا هُوَ مَبْدَأٌ لِسُلُوكِهِمْ. فَمِنْهُ يَبْتَدِئُونَ سُلُوكَهُمْ وَسَيْرَهُمْ. وَهَذَا لِأَنَّ الْخَاصَّةَ عِنْدَهُ سَائِرُونَ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ. لَا تَقِفُ بِهِمْ دُونَهَا هِمَّةٌ. وَلَا يَعْرُجُونَ دُونَهَا عَلَى رَسْمٍ. فَكُلُّ مَا دُونَهَا فَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ مَشَاهِدِ الْعَامَّةِ، وَمَنَازِلِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ. حَتَّى الْمَحَبَّةُ. وَحَسْبُكَ بِجَعْلِ الْيَقِينِ نِهَايَةً لِلْعَامَّةِ. وَبِدَايَةً لَهُمْ. قَالَ: [دَرَجَاتُ الْيَقِينِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى عِلْمُ الْيَقِينِ] وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: عِلْمُ الْيَقِينِ. وَهُوَ قَبُولُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْحَقِّ. وَقَبُولُ مَا غَابَ لِلْحَقِّ. وَالْوُقُوفُ عَلَى مَا قَامَ بِالْحَقِّ. ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، هِيَ مُتَعَلِّقُ الْيَقِينِ وَأَرْكَانُهُ. الْأُولَى: قَبُولُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْحَقِّ تَعَالَى. وَالَّذِي ظَهَرَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ: أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَشَرْعُهُ، وَدِينُهُ الَّذِي ظَهَرَ لَنَا مِنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ. فَنَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَالِانْقِيَادِ، وَالْإِذْعَانِ وَالتَّسْلِيمِ لِلرُّبُوبِيَّةِ. وَالدُّخُولِ تَحْتَ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ. الثَّانِي: قَبُولُ مَا غَابَ لِلْحَقِّ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ مِنْ أُمُورِ الْمَعَادِ وَتَفْصِيلِهِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ: مِنَ الصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْحِسَابِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ: مِنْ تَشَقُّقِ السَّمَاءِ وَانْفِطَارِهَا، وَانْتِثَارِ الْكَوَاكِبِ، وَنَسْفِ الْجِبَالِ، وَطَيِّ الْعَالِمِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ: مِنْ أُمُورِ الْبَرْزَخِ، وَنَعِيمِهِ وَعَذَابِهِ. فَقَبُولُ هَذَا كُلِّهِ - إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَإِيقَانًا - هُوَ الْيَقِينُ. بِحَيْثُ لَا يُخَالِجُ الْقَلْبَ فِيهِ شُبْهَةٌ. وَلَا شَكٌّ وَلَا تَنَاسٍ، وَلَا غَفْلَةٌ عَنْهُ. فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَهْلِكْ يَقِينُهُ أَفْسَدَهُ وَأَضْعَفَهُ. الثَّالِثُ: الْوُقُوفُ عَلَى مَا قَامَ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَهُوَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ، الَّذِي أَسَاسُهُ: إِثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَضِدُّهُ: التَّعْطِيلُ وَالنَّفْيُ، وَالتَّهَجُّمُ. فَهَذَا التَّوْحِيدُ يُقَابِلُهُ التَّعْطِيلُ. وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الْقَصْدِيُّ الْإِرَادِيُّ، الَّذِي هُوَ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ: فَيُقَابِلُهُ الشِّرْكُ، وَالتَّعْطِيلُ شَرٌّ مِنَ الشِّرْكِ، فَإِنَّ الْمُعَطِّلَ جَاحِدٌ لِلذَّاتِ أَوْ لِكَمَالِهَا. وَهُوَ جَحْدٌ لِحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ. فَإِنَّ ذَاتًا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَرْضَى، وَلَا تَغْضَبُ،

فصل الدرجة الثانية عين اليقين

وَلَا تَفْعَلُ شَيْئًا. وَلَيْسَتْ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَلَا مُتَّصِلَةً بِالْعَالَمِ وَلَا مُنْفَصِلَةً، وَلَا مُجَانِبَةً لَهُ، وَلَا مُبَايِنَةً لَهُ، وَلَا مُجَاوِرَةً وَلَا مُجَاوِزَةً، وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ، وَلَا تَحْتَ الْعَرْشِ، وَلَا خَلْفَهُ وَلَا أَمَامَهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ: سَوَاءٌ هِيَ وَالْعَدَمِ. وَالْمُشْرِكُ مُقِرٌّ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ. لَكِنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ. فَهُوَ خَيْرٌ مِنَ الْمُعَطِّلِ لِلذَّاتِ وَالصِّفَاتِ. فَالْيَقِينُ هُوَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا قَامَ بِالْحَقِّ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَنُعُوتِ كَمَالِهِ، وَتَوْحِيدِهِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَشْرَفُ عُلُومِ الْخَلَائِقِ: عِلْمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَعِلْمُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالتَّوْحِيدِ، وَعِلْمُ الْمَعَادِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ عَيْنُ الْيَقِينِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: عَيْنُ الْيَقِينِ. وَهُوَ الْمُغْنِي بِالِاسْتِدْلَالِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ. وَعَنِ الْخَبَرِ بِالْعِيَانِ. وَخَرْقُ الشُّهُودِ حِجَابَ الْعِلْمِ. الْفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ: كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْخَبَرِ الصَّادِقِ وَالْعَيَانِ. وَحَقُّ الْيَقِينِ: فَوْقَ هَذَا. وَقَدْ مَثَّلْتُ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَةِ بِمَنْ أَخْبَرَكَ: أَنَّ عِنْدَهُ عَسَلًا، وَأَنْتَ لَا تَشُكُّ فِي صِدْقِهِ. ثُمَّ أَرَاكَ إِيَّاهُ. فَازْدَدْتَ يَقِينًا. ثُمَّ ذُقْتَ مِنْهُ. فَالْأَوَّلُ: عِلْمُ الْيَقِينِ. وَالثَّانِي: عَيْنُ الْيَقِينِ. وَالثَّالِثُ: حَقُّ الْيَقِينِ. فَعِلْمُنَا الْآنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ: عِلْمُ يَقِينٍ. فَإِذَا أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ فِي الْمَوْقِفِ لِلْمُتَّقِينَ وَشَاهَدَهَا الْخَلَائِقُ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ. وَعَايَنَهَا الْخَلَائِقُ. فَذَلِكَ: عَيْنُ الْيَقِينِ. فَإِذَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ: فَذَلِكَ حِينَئِذٍ حَقُّ الْيَقِينِ. قَوْلُهُ: هُوَ الْمُغْنِي بِالِاسْتِدْلَالِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ. يُرِيدُ بِالِاسْتِدْلَالِ: الْإِدْرَاكَ وَالشُّهُودَ. يَعْنِي صَاحِبُهُ قَدِ اسْتَغْنَى بِهِ عَنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَطْلُبُ الدَّلِيلَ لِيَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِالْمَدْلُولِ. فَإِذَا كَانَ الْمَدْلُولُ مُشَاهَدًا لَهُ - وَقَدْ أَدْرَكَهُ بِكَشْفِهِ - فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ؟ وَهَذَا مَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْخَبَرِ بِالْعِيَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَخَرْقُ الشُّهُودِ حِجَابَ الْعِلْمِ.

فصل الدرجة الثالثة حق اليقين

فَيُرِيدُ بِهِ: أَنَّ الْمَعَارِفَ الَّتِي تَحْصُلُ لِصَاحِبِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: هِيَ مِنَ الشُّهُودِ الْخَارِقِ لِحِجَابِ الْعِلْمِ. فَإِنَّ الْعِلْمَ حِجَابٌ عَنِ الشُّهُودِ. فَفِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَرْتَفِعُ الْحِجَابُ. وَيُفْضِي إِلَى الْمَعْلُومِ، بِحَيْثُ يُكَافِحُ بَصِيرَتَهُ وَقَلْبَهُ مُكَافَحَةً. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ حَقُّ الْيَقِينِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ حَقُّ الْيَقِينِ. وَهُوَ إِسْفَارُ صُبْحِ الْكَشْفِ. ثُمَّ الْخَلَاصُ مِنْ كُلْفَةِ الْيَقِينِ. ثُمَّ الْفَنَاءُ فِي حَقِّ الْيَقِينِ. اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ لَا تُنَالُ فِي هَذَا الْعَالَمِ إِلَّا لِلرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. فَإِنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى بِعَيْنِهِ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ إِلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا. وَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ وَمُوسَى يَنْظُرُ، فَجَعَلَهُ دَكًّا هَشِيمًا. نَعَمْ يَحْصُلُ لَنَا حَقُّ الْيَقِينِ مِنْ مَرْتَبَةٍ، وَهِيَ ذَوْقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ، الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُلُوبِ وَأَعْمَالِهَا. فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا بَاشَرَهَا وَذَاقَهَا صَارَتْ فِي حَقِّهِ حَقَّ يَقِينٍ. وَأَمَّا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ وَالْمَعَادِ، وَرُؤْيَةِ اللَّهِ جَهْرَةً عَيَانًا، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ حَقِيقَةً بِلَا وَاسِطَةٍ - فَحَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ: الْإِيمَانُ. وَعِلْمُ الْيَقِينِ. وَحَقُّ الْيَقِينِ: يَتَأَخَّرُ إِلَى وَقْتِ اللِّقَاءِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ السَّالِكُ عِنْدَهُ يَنْتَهِي إِلَى الْفَنَاءِ. وَيَتَحَقَّقُ شُهُودَ الْحَقِيقَةِ. وَيَصِلُ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ، قَالَ: حَقُّ الْيَقِينِ: هُوَ إِسْفَارُ صُبْحِ الْكَشْفِ. يَعْنِي: تَحَقُّقَهُ وَثُبُوتَهُ، وَغَلَبَةَ نُورِهِ عَلَى ظُلْمَةِ لَيْلِ الْحِجَابِ. فَيَنْتَقِلُ مِنْ طَوْرِ الْعِلْمِ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي الشُّهُودِ بِالْفَنَاءِ عَنِ الرَّسْمِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ الْخَلَاصُ مِنْ كُلْفَةِ الْيَقِينِ. يَعْنِي: أَنَّ الْيَقِينَ لَهُ حُقُوقٌ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا. وَيَقُومُ بِهَا، وَيَتَحَمَّلُ كُلَفَهَا وَمَشَاقَّهَا. فَإِذَا فَنِيَ فِي التَّوْحِيدِ حَصَلَ لَهُ أُمُورٌ أُخْرَى رَفِيعَةٌ عَالِيَةٌ جِدًا. يَصِيرُ فِيهَا مَحْمُولًا، بَعْدَ أَنْ كَانَ حَامِلًا، وَطَائِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ سَائِرًا، فَتَزُولُ عَنْهُ كُلْفَةُ حَمْلِ تِلْكَ الْحُقُوقِ. بَلْ يَبْقَى لَهُ كَالنَّفَسِ، وَكَالْمَاءِ لِلسَّمَكِ. وَهَذَا أَمْرٌ التَّحَاكُمُ فِيهِ إِلَى الذَّوْقِ وَالْإِحْسَاسِ. فَلَا تُسْرِعْ إِلَى إِنْكَارِهِ. وَتَأَمَّلْ حَالَ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي أَخَذَ تَمْرَاتِهِ. وَقَعَدَ يَأْكُلُهَا عَلَى حَاجَةٍ وَجُوعٍ وَفَاقَةٍ إِلَيْهَا. فَلَمَّا عَايَنَ سُوقَ الشَّهَادَةِ قَامَتْ. أَلْقَى قُوتَهُ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ،

فصل منزلة الأنس بالله

إِنْ بَقِيتُ حَتَّى آكُلَ هَذِهِ التَّمْرَاتِ. وَأَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ، وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَكَذَلِكَ أَحْوَالُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. كَانَتْ مُطَابِقَةً لِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ. لَكِنْ بَقِيَتْ نُكْتَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ مَوْضِعُ السَّجْدَةِ، وَهِيَ أَنَّ فَنَاءَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَشُهُودِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي يُشِيرُ إِلَيْهَا أَرْبَابُ الْفَنَاءِ بَلْ فِي تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ. فَفَنُوا بِحُبِّهِ تَعَالَى عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ. وَبِمُرَادِهِ مِنْهُمْ عَنْ مُرَادِهِمْ وَحُظُوظِهِمْ. فَلَمْ يَكُونُوا عَامِلِينَ عَلَى فَنَاءٍ. وَلَا الِاسْتِغْرَاقِ فِي الشُّهُودِ. بِحَيْثُ يَفْنَوْنَ بِهِ عَنْ مُرَادِ مَحْبُوبِهِمْ مِنْهُمْ، بَلْ قَدْ فَنُوا بِمُرَادِهِ عَنْ مُرَادِهِمْ. فَهُمْ أَهْلُ بَقَاءٍ فِي فَنَاءٍ، وَفَرْقٍ فِي جَمْعٍ. وَكَثْرَةٍ فِي وَحْدَةٍ. وَحَقِيقَةٍ كَوْنِيَّةٍ فِي حَقِيقَةٍ دِينِيَّةٍ. هُمُ الْقَوْمُ. لَا قَوْمَ إِلَّا هُمُ وَلَوْلَاهُمُ مَا اهْتَدَيْنَا السَّبِيلَا فَنِسْبَةُ أَحْوَالِ مَنْ بَعْدَهُمُ الصَّحِيحَةُ الْكَامِلَةُ إِلَى أَحْوَالِهِمْ: كَنِسْبَةِ مَا يَرْشَحُ مِنَ الظَّرْفِ وَالْقِرْبَةِ إِلَى مَا فِي دَاخِلِهَا. وَأَمَّا الطَّرِيقُ الْمُنْحَرِفَةُ الْفَاسِدَةُ: فَسَبِيلٌ غَيْرُ سَبِيلِهِمْ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْأُنْسِ بِاللَّهِ] [تَعْرِيفُ الْأُنْسِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْأُنْسِ بِاللَّهِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْأُنْسِ بِاللَّهِ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهُوَ رُوحُ الْقُرْبِ وَلِهَذَا صَدَّرَ مَنْزِلَتَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] . فَاسْتِحْضَارُ الْقَلْبِ هَذَا الْبِرَّ وَالْإِحْسَانَ وَاللُّطْفَ: يُوجِبُ قُرْبَهُ مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقَرْبُهُ مِنْهُ يُوجِبُ لَهُ الْأُنْسَ وَالْأُنْسُ ثَمَرَةُ الطَّاعَةِ وَالْمَحَبَّةِ، فَكُلُّ مُطِيعٍ

درجات الأنس

مُسْتَأْنِسٌ، وَكُلُّ عَاصٍ مُسْتَوْحِشٌ، كَمَا قِيلَ: فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ ... فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ وَالْقُرْبُ يُوجِبُ الْأُنْسَ وَالْهَيْبَةَ وَالْمَحَبَّةَ. قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ. [دَرَجَاتُ الْأُنْسِ] [الدَّرَجَةُ الْأَوْلَى الْأُنْسُ بِالشَّوَاهِدِ] وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الْأُنْسُ بِالشَّوَاهِدِ، وَهُوَ اسْتِحْلَاءُ الذِّكْرِ. وَالتَّغَذِّي بِالسَّمَاعِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى الْإِشَارَاتِ. هَذِهِ اللَّفْظَةُ يُجْرُونَهَا فِي كَلَامِهِمْ - أَعْنِي لَفْظَةَ الشَّوَاهِدِ - وَمُرَادُهُمْ بِهَا أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: الْحَقِيقَةُ. وَهِيَ مَا يَقُومُ بِقَلْبِ الْعَبْدِ، حَتَّى كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ وَيُبْصِرُهُ لِغَلَبَتِهِ عَلَيْهِ. فَكُلُّ مَا يَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِ صَاحِبِهِ ذَكَرَهُ: فَإِنَّهُ شَاهِدُهُ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ شَاهِدُهُ الْعَمَلَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ شَاهِدُهُ الذِّكْرَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ شَاهِدَهَ الْمَحَبَّةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ شَاهِدُهُ الْخَوْفَ. فَالْمُرِيدُ: يَأْنَسُ بِشَاهِدِهِ. وَيَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ. وَالثَّانِي: شَاهِدُ الْحَالِ. وَهُوَ الْأَثَرُ الَّذِي يَقُومُ بِهِ. وَيَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِهِ، وَسُلُوكِهِ وَحَالِهِ. فَإِنَّ شَاهِدَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ. وَمُرَادُ صَاحِبِ " الْمَنَازِلِ ": الشَّاهِدُ الْأَوَّلِ. الَّذِي يَأْنَسُ بِهِ الْمُرِيدُ، وَهُوَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى اسْتِحْلَاءِ الذِّكْرِ، طَلَبًا لِظَفَرِهِ بِحُصُولِ الْمَذْكُورِ. فَهُوَ يَسْتَأْنِسُ بِالذِّكْرِ طَلَبًا لِاسْتِئْنَاسِهِ بِالْمَذْكُورِ، وَيَتَغَذَّى بِالسَّمَاعِ كَمَا يَتَغَذَّى الْجِسْمُ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. فَإِنْ كَانَ مُحِبًّا صَادِقًا، طَالِبًا لِلَّهِ، عَامِلًا عَلَى مَرْضَاتِهِ: كَانَ غِذَاؤُهُ بِالسَّمَاعِ الْقُرْآنِيِّ، الَّذِي كَانَ غِذَاءَ سَادَاتِ الْعَارِفِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَبَرَّهَا قُلُوبًا، وَأَصَحَّهَا أَحْوَالًا. وَهُمُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَإِنْ كَانَ مُنْحَرِفًا فَاسِدَ الْحَالِ، مَلْبُوسًا عَلَيْهِ، مَغْرُورًا مَخْدُوعًا: كَانَ غِذَاؤُهُ بِالسَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ. الَّذِي هُوَ قُرْآنُ الشَّيْطَانِ، الْمُشْتَمِلُ عَلَى مَحَابِّ النُّفُوسِ، وَلَذَّتِهَا وَحُظُوظِهَا. وَأَصْحَابُهُ: أَبْعَدُ الْخَلْقِ مِنَ اللَّهِ. وَأَغْلَظُهُمْ عَنْهُ حِجَابًا وَإِنْ كَثُرَتْ إِشَارَاتُهُمْ إِلَيْهِ. وَهَذَا السَّمَاعُ الْقُرْآنِيُّ سَمَاعُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ. وَيَحْصُلُ لِلْأَذْهَانِ الصَّافِيَةِ مِنْ مَعَانٍ وَإِشَارَاتٍ، وَمَعَارِفَ وَعُلُومٍ. تَتَغَذَّى بِهَا الْقُلُوبُ الْمُشْرِقَةُ بِنُورِ الْأُنْسِ. فَيَجِدُ بِهَا وَلَهَا لَذَّةً رُوحَانِيَّةً. يَصِلُ نَعِيمُهَا إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ. وَرُبَّمَا فَاضَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْأَجْسَامِ. فَيَجِدُ مِنَ اللَّذَّةِ مَا لَمْ يَعْهَدْ مِثْلَهُ مِنَ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ.

وَلِلتَّغَذِّي بِالسَّمَاعِ سِرٌّ لِطَيْفٌ. نَذْكُرُهُ لِلُطْفِ مَوْضِعِهِ. وَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ كَثِيرًا مِنَ السَّالِكِينَ فِي إِيثَارِ سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ. لِمَا رَأَى فِيهِ مِنْ غِذَاءِ الْقَلْبِ وَقُوَّتِهِ وَنَعِيمِهِ. فَلَوْ جِئْتَهُ بِأَلْفِ آيَةٍ وَأَلْفِ خَبَرٍ لِمَا أَعْطَاكَ شَطْرًا مِنْ إِصْغَائِهِ. وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَعْظَمَ مِنَ الظَّوَاهِرِ الَّتِي يُعَارِضُ بِهَا الْفَلَاسِفَةُ وَأَرْبَابُ الْكَلَامِ. اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِلْقُلُوبِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْغِذَاءِ: نَوْعًا مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْحِسِّيِّ. وَلِلْقَلْبِ مِنْهُ خُلَاصَتُهُ وَصَفْوُهُ، وَلِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ وَقَبُولِهِ. وَالثَّانِي: غِذَاءٌ رُوحَانِيٌّ مَعْنَوِيٌّ، خَارِجٌ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ: مِنَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ، وَالِابْتِهَاجِ وَاللَّذَّةِ. وَالْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ. وَبِهَذَا الْغِذَاءِ كَانَ سَمَاوِيًّا عُلْوِيًّا. وَبِالْغِذَاءِ الْمُشْتَرَكِ كَانَ أَرْضِيًّا سُفْلِيًّا. وَقِوَامُهُ بِهَذَيْنَ الْغِذَاءَيْنِ. وَلَهُ ارْتِبَاطٌ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَغِذَاءٌ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْهَا. فَلَهُ ارْتِبَاطٌ بِحَاسَّةِ اللَّمْسِ. وَيَصِلُ إِلَيْهِ مِنْهَا غِذَاءٌ. وَكَذَلِكَ حَاسَّةُ الشَّمِّ. وَكَذَلِكَ حَاسَّةُ الذَّوْقِ. وَكَذَلِكَ ارْتِبَاطُهُ بِحَاسَّتَيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ: أَشَدُّ مِنِ ارْتِبَاطِهِ بِغَيْرِهِمَا. وَوُصُولُ الْغِذَاءِ مِنْهُمَا إِلَيْهِ أَكْمَلُ، وَأَقْوَى مِنْ سَائِرِ الْحَوَاسِّ. وَانْفِعَالُهُ عَنْهُمَا أَشَدُّ مِنِ انْفِعَالِهِ عَنْ غَيْرِهِمَا. وَلِهَذَا تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ اقْتِرَانَهُ بِهِمَا أَكْثَرَ مِنِ اقْتِرَانِهِ بِغَيْرِهِمَا. بَلْ لَا يَكَادُ يُقْرَنُ إِلَّا بِهِمَا، أَوْ بِإِحْدَاهُمَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] . وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] . وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ.

لِأَنَّ تَأَثُّرَهُ بِمَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ: أَعْظَمُ مِنْ تَأَثُّرِهِ بِمَا يَلْمَسُهُ وَيَذُوقُهُ وَيَشَمُّهُ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ: هِيَ طُرُقُ الْعِلْمِ. وَهِيَ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْعَقْلُ. وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالسَّمْعِ وَارْتِبَاطُهُ بِهِ: أَشَدُّ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِالْبَصَرِ وَارْتِبَاطِهِ بِهِ. وَلِهَذَا يَتَأَثَّرُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِنَ الْمَلْذُوذَاتِ أَعْظَمُ مِمَّا يَتَأَثَّرُ بِمَا يَرَاهُ مِنَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ. وَكَذَلِكَ فِي الْمَكْرُوهَاتِ سَمَاعًا وَرُؤْيَةً. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ حَاسَّةَ السَّمْعِ أَفْضَلُ مِنْ حَاسَّةِ الْبَصَرِ لِشَدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِالْقَلْبِ، وَعِظَمِ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا. وَتَوَقُّفِ كَمَالِهِ عَلَيْهَا. وَوُصُولِ الْعُلُومِ إِلَيْهِ بِهَا، وَتَوَقُّفِ الْهُدَى عَلَى سَلَامَتِهَا. وَرَجَحَّتْ طَائِفَةٌ حَاسَّةَ الْبَصَرِ لِكَمَالِ مُدْرَكِهَا. وَامْتِنَاعِ الْكَذِبِ فِيهِ. وَزَوَالِ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ بِهِ. وَلِأَنَّهُ عَيْنُ الْيَقِينِ. وَغَايَةُ مُدْرَكِ حَاسَّةِ السَّمْعِ عِلْمُ الْيَقِينِ. وَعَيْنُ الْيَقِينِ أَفْضَلُ، وَأَكْمَلُ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ. وَلِأَنَّ مُتَعَلِّقَهَا رُؤْيَةُ وَجْهِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ فِي دَارِ النَّعِيمِ. وَلَا شَيْءَ أَعْلَى وَأَجَلَّ مِنْ هَذَا التَّعَلُّقِ. وَحَكَمَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ حُكْمًا حَسَنًا. فَقَالَ: الْمُدْرَكُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ. وَالْمُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ. فَلِلسَّمْعِ الْعُمُومُ وَالشُّمُولُ، وَالْإِحَاطَةُ بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ، وَالْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، وَالْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَلِلْبَصَرِ: التَّمَامُ وَالْكَمَالُ. وَإِذَا عَرَفَ هَذَا. فَهَذِهِ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ لَهَا أَشْبَاحٌ وَأَرْوَاحٌ، وَأَرْوَاحُهَا حَظُّ الْقَلْبِ وَنَصِيبُهُ مِنْهَا.

فَمِنَ النَّاسِ: مَنْ لَيْسَ لِقَلْبِهِ مِنْهَا نَصِيبٌ إِلَّا كَنَصِيبِ الْحَيَوَانَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ مِنْهَا. فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهَا. وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَوَّلُ دَرَجَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَلِهَذَا شَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أُولَئِكَ بِالْأَنْعَامِ. بَلْ جَعَلَهُمْ أَضَلَّ. فَقَالَ تَعَالَى {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44] وَلِهَذَا نَفَى اللَّهُ عَنِ الْكُفَّارِ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْعُقُولَ. إِمَّا لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا. فَنُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْمَعْدُومِ. وَإِمَّا لِأَنَّ النَّفْيَ تَوَجَّهَ إِلَى أَسْمَاعِ قُلُوبِهِمْ وَأَبْصَارِهَا، وَإِدْرَاكِهَا. وَلِهَذَا يَظْهَرُ لَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ انْكِشَافِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ. كَقَوْلِ أَصْحَابِ السَّعِيرِ {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] وَمِنْهُ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَى صُورَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ، وَلَا يُبْصِرُونَ صُورَةَ نُبُوَّتِهِ، وَمَعْنَاهَا بِالْحَاسَّةِ الْبَاطِنَةِ، الَّتِي هِيَ بَصَرُ الْقَلْبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الْأَصْنَامِ. ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ، أَيْ كَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ. وَلَا أَبْصَارَ لَهُمْ يَرَوْنَكَ بِهَا. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ بِهِ الْمُقَابَلَةُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: دَارِي تَنْظُرُ دَارَكَ. أَيْ تُقَابِلُهَا. وَكَذَلِكَ السَّمْعُ ثَابِتٌ لَهُمْ. وَبِهِ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ. وَمُنْتَفٍ عَنْهُمْ. وَهُوَ سَمْعُ الْقَلْبِ. فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ الْحِسِّيُّ الْمُشْتَرَكُ، كَالْغَنَمِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ إِلَّا نَعِيقَ الرَّاعِي بِهَا دُعَاءً وَنِدَاءً. وَلَمْ يَسْمَعُوهُ بِالرُّوحِ الْحَقِيقِيِّ، الَّذِي هُوَ رُوحُ حَاسَّةِ السَّمْعِ، الَّتِي هِيَ حَظُّ الْقَلْبِ. فَلَوْ سَمِعُوهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ: لَحَصَلَتْ لَهُمُ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ، الَّتِي مَنْشَؤُهَا مِنَ السَّمَاعِ الْمُتَّصِلِ أَثَرُهُ بِالْقَلْبِ. وَلَزَالَ عَنْهُمُ الصَّمَمُ وَالْبَكَمُ. وَلَأَنْقَذُوا نُفُوسَهُمْ مِنَ السَّعِيرِ بِمُفَارَقَةِ مَنْ عُدِمَ السَّمْعَ وَالْعَقْلَ. فَحُصُولُ السَّمْعِ الْحَقِيقِيِّ: مَبْدَأٌ لِظُهُورِ آثَارِ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الْحَيَاةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. فَإِنَّ بِهَا يَحْصُلُ غِذَاءُ الْقَلْبِ وَيَعْتَدِلُ. فَتَتِمُّ قُوَّتُهُ وَحَيَاتُهُ، وَسُرُورُهُ وَنَعِيمُهُ، وَبَهْجَتُهُ. وَإِذَا فَقَدَ غِذَاءَهُ الصَّالِحَ: احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ بِغِذَاءٍ قَبِيحٍ خَبِيثٍ. وَإِذَا فَسَدَ غِذَاؤُهُ: خَبُثَ وَنَقَصَ مِنْ حَيَاتِهِ وَقُوَّتِهِ وَسُرُورِهِ وَنَعِيمِهِ بِحَسَبِ مَا فَسَدَ مِنْ غِذَائِهِ، كَالْبَدَنِ إِذَا فَسَدَ غِذَاؤُهُ نَقَصَ. فَلَمَّا كَانَ تَعَلُّقُ السَّمْعِ الظَّاهِرِ الْحِسِّيَّ بِالْقَلْبِ أَشَدَّ، وَالْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا أَقْرَبَ مِنَ الْمَسَافَةِ

بَيْنَ الْبَصَرِ وَبَيْنَهُ. وَلِذَلِكَ يُؤَدِّي آثَارُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّمْعِ الظَّاهِرِ إِلَى الْقَلْبِ أَسْرَعَ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهِ آثَارُ الْبَصَرِ الظَّاهِرِ، وَلِهَذَا رُبَّمَا غُشِيَ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا سَمِعَ كَلَامًا يَسُرُّهُ أَوْ يَسُوءُهُ. أَوْ صَوْتًا لَذِيذًا طَيِّبًا مُطْرِبًا مُنَاسِبًا. وَلَا يَكَادُ يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَحْسَنَةِ بِالْبَصَرِ الظَّاهِرِ. وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْمَسْمُوعُ شَدِيدَ التَّأْثِيرِ فِي الْقَلْبِ. وَلَا يَشْعُرُ بِهِ صَاحِبُهُ، لِاشْتِعَالِهِ بِغَيْرِهِ، وَلِمُبَايَنَةِ ظَاهِرِهِ لِبَاطِنِهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ. فَإِذَا حَصَلَ لَهُ نَوْعُ تَجَرُّدٍ وَرِيَاضَةٍ: ظَهَرَتْ قُوَّةُ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ وَالتَّأَثُّرِ. فَكُلَّمَا تَجَرَّدَتِ الرُّوحُ وَالْقَلْبُ، وَانْقَطَعَتَا عَنْ عَلَائِقِ الْبَدَنِ، كَانَ حَظُّهُمَا مِنْ ذَلِكَ السَّمَاعِ أَوْفَى، وَتَأَثُّرُهُمَا بِهِ أَقْوَى. فَإِنْ كَانَ الْمَسْمُوعُ مَعْنًى شَرِيفًا بِصَوْتٍ لَذِيذٍ: حَصَلَ لِلْقَلْبِ حَظُّهُ وَنَصِيبُهُ مِنْ إِدْرَاكِ الْمَعْنَى، وَابْتَهَجَ بِهِ أَتَمَّ ابْتِهَاجٍ عَلَى حَسَبِ إِدْرَاكِهِ لَهُ. وَلِلرُّوحِ حَظُّهَا وَنَصِيبُهَا مِنْ لَذَّةِ الصَّوْتِ وَنَغَمَتِهِ وَحُسْنِهِ. فَابْتَهَجَتْ بِهِ. فَتَتَضَاعَفُ اللَّذَّةُ. وَيَتِمُّ الِابْتِهَاجُ. وَيَحْصُلُ الِارْتِيَاحُ. حَتَّى رُبَّمَا فَاضَ عَلَى الْبَدَنِ وَالْجَوَارِحِ. وَعَلَى الْجَلِيسِ. وَهَذَا لَا يَحْصُلُ عَلَى الْكَمَالِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ. فَإِذَا تَجَرَّدَتِ الرُّوحُ وَكَانَتْ مُسْتَعِدَّةً. وَبَاشَرَ الْقَلْبَ رُوحُ الْمَعْنَى. وَأَقْبَلَ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى الْمَسْمُوعِ. فَأَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ. وَسَاعَدَهُ طِيبُ صَوْتِ الْقَارِئِ: كَادَ الْقَلْبُ يُفَارِقُ هَذَا الْعَالَمَ. وَيَلِجُ عَالَمًا آخَرَ. وَيَجِدُ لَهُ لَذَّةً وَحَالَةً لَا يَعْهَدُهَا فِي شَيْءٍ غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ. وَذَلِكَ رَقِيقَةٌ مِنْ حَالَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ. فَيَا لَهُ مِنْ غِذَاءٍ مَا أَصْلَحَهُ وَمَا أَنْفَعَهُ. وَحَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ قَدْ تَرَبَّى عَلَى غِذَاءِ السَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ: أَنْ يَجِدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي سَمَاعِ الْقُرْآنِ. بَلْ إِنْ حَصَلَ لَهُ نَوْعُ لَذَّةٍ. فَهُوَ مِنْ قِبَلِ الصَّوْتِ الْمُشْتَرَكِ. لَا مِنْ قِبَلِ الْمَعْنَى الْخَاصِّ. وَلَيْسَ فِي نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَعْلَى مِنْ رُؤْيَتِهِمْ وَجْهَ اللَّهِ مَحْبُوبِهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِيَانًا، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ مِنْهُ. وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ أَثَرًا - لَا يَحْضُرُنِي الْآنَ هَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ أَوْ مَرْفُوعٌ - إِذَا سَمِعَ النَّاسُ الْقُرْآنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ. فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَإِذَا امْتَلَأَ الْقَلْبُ بِشَيْءٍ، وَارْتَفَعَتِ الْمُبَايَنَةُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ: أَدَّتِ

الْأُذُنُ إِلَى الْقَلْبِ مِنَ الْمَسْمُوعِ مَا يُنَاسِبُهُ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَسْمُوعُ. وَلَا قَصَدَهُ الْمُتَكَلِّمُ. وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى مَعْنًى. بَلْ قَدْ يَقَعُ فِي الْأَصْوَاتِ الْمُجَرَّدَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيَّ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ وَرَجُلٌ يَسْتَقِي الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ عَلَى بَكَرَةٍ. فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَتَدْرِي إِيشُ تَقُولُ هَذِهِ الْبَكَرَةُ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ تَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ. وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. كَمَا سَمِعَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ مِنَ الْمُنَادِي: يَا سَعْتَرْ بَرِّي: اسْعَ تَرَ بِرِّي. وَهَذَا السَّمَاعُ الرَّوْحَانِيُّ تَبَعٌ لِحَقِيقَةِ الْقَلْبِ وَمَادَّتِهِ مِنْهُ، فَالِاتِّحَادُ بِهِ يَظُنُّ بِهِ السَّامِعُ: أَنَّهُ أَدْرَكَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا مَحَالَةَ مِنَ الصَّوْتِ الْخَارِجِيِّ. وَسَبَبُ ذَلِكَ اتِّحَادُ السَّمْعِ بِالْقَلْبِ. وَأَكْمَلُ السَّمَاعِ: سَمَاعُ مَنْ يَسْمَعُ بِاللَّهِ مَا هُوَ مَسْمُوعٌ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ كَلَامُهُ. وَهُوَ سَمَاعُ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يُرْوَى عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ. وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ. فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ. وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ. وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا. وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا. فَبِي يَسْمَعُ. وَبِي يُبْصِرُ. وَبِي يَبْطِشُ. وَبِي يَمْشِي» . وَالْقَلْبُ يَتَأَثَّرُ بِالسَّمَاعِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَحَبَّةِ. فَإِذَا امْتَلَأَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَسَمْعِ كَلَامِ مَحْبُوبِهِ - أَيْ بِمُصَاحَبَتِهِ وَحُضُورِهِ فِي قَلْبِهِ - فَلَهُ مِنْ سَمَاعِهِ هَذَا شَأْنٌ. وَلِغَيْرِهِ شَأْنٌ آخَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ وَالثَّانِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهُمَا: مَنِ اتَّصَفَ قَلْبُهُ بِصِفَاتِ نَفْسِهِ. بِحَيْثُ صَارَ قَلْبُهُ نَفْسًا مَحْضَةً. فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ آفَاتُ الشَّهَوَاتِ، وَدَعَوَاتُ الْهَوَى. فَهَذَا حَظُّهُ مِنَ السَّمَاعِ: كَحَظِّ الْبَهَائِمِ. لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً. وَالْفَرْقُ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ: غَيْرُ طَائِلٍ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَنِ اتَّصَفَتْ نَفْسُهُ بِصِفَاتِ قَلْبِهِ. فَصَارَتْ نَفْسُهُ قَلْبًا مَحْضًا. فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ، وَالْعَقْلُ وَاللُّبُّ. وَعَشِقَ صِفَاتِ الْكَمَالِ. فَاسْتَنَارَتْ نَفْسُهُ بِنُورِ الْقَلْبِ. وَاطْمَأَنَّتْ إِلَى رَبِّهَا. وَقَرَّتْ عَيْنُهَا بِعُبُودِيَّتِهِ. وَصَارَ نَعِيمُهَا فِي حُبِّهِ وَقُرْبِهِ. فَهَذَا حَظُّهُ مِنَ السَّمَاعِ مِثْلُ - أَوْ قَرِيبٌ مِنْ - حَظِّ الْمَلَائِكَةِ. وَسَمَاعُهُ غِذَاءُ قَلْبِهِ وَرُوحِهِ، وَقُرَّةُ عَيْنِهِ وَنَعِيمُهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَرِيَاضُهُ الَّتِي يَسْرَحُ فِيهَا. وَحَيَاتُهُ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَصَدَ أَرْبَابُ سَمَاعِ الْقَصَائِدِ وَالْأَبْيَاتِ. وَلَكِنْ أَخْطَأُوا الطَّرِيقَ وَأَخَذُوا عَنِ الدَّرْبِ شِمَالًا وَوَرَاءً. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ لَهُ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ. وَقَلْبُهُ بَاقٍ عَلَى فِطْرَتِهِ الْأُولَى. وَلَكِنْ مَا تَصَرَّفَ فِي نَفْسِهِ تَصَرُّفًا أَحَالَهَا إِلَيْهِ. وَأَزَالَ بِهِ رُسُومَهُ. وَجَلَا عَنْهُ ظُلْمَتَهَا. وَلَا قَوِيَتِ النَّفْسُ عَلَى الْقَلْبِ بِإِحَالَتِهِ إِلَيْهَا. وَتَصَرَّفَتْ فِيهِ تَصَرُّفًا أَزَالَتْ عَنْهُ نُورَهُ وَصِحَّتَهُ وَفِطْرَتَهُ. فَبَيْنَ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ مُنَازَلَاتٌ وَوَقَائِعُ، وَالْحَرْبُ بَيْنَهُمَا دُوَلٌ وَسِجَالٌ، تُدَالُ النَّفْسُ عَلَيْهِ تَارَةً، وَيُدَالُ عَلَيْهَا تَارَةً. فَهَذَا حَظُّهُ مِنَ السَّمَاعِ: حَظٌّ بَيْنَ الْحَظَّيْنِ، وَنُصِيبُهُ مِنْهُ بَيْنَ النَّصِيبَيْنِ، فَإِنْ صَادَفَهُ وَقْتُ دَوْلَةِ الْقَلْبِ: كَانَ حَظُّهُ مِنْهُ قَوِيًّا. وَإِنْ صَادَفَهُ وَقْتُ دَوْلَةِ النَّفْسِ: كَانَ ضَعِيفًا. وَمِنْ هَاهُنَا يَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْفِقْهِ عَنِ اللَّهِ. وَالْفَهْمِ عَنْهُ. وَالِابْتِهَاجُ وَالنَّعِيمُ بِسَمَاعِ كَلَامِهِ. وَصَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ - فِي حَالِ سَمَاعِهِ - يَشْتَغِلُ الْقَلْبُ بِالْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّفْسِ، فَيَفُوتُهُ مِنْ رُوحِ الْمَسْمُوعِ وَنَعِيمِهِ وَلَذَّتِهِ بِحَسَبِ اشْتِغَالِهِ عَنْهُ بِالْمُحَارَبَةِ. وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى حُصُولِ ذَلِكَ بِتَمَامِهِ، حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. وَرُبَّمَا صَادَفَهُ فِي حَالِ السَّمَاعِ وَارِدُ حُقٍّ، أَوِ الظَّفَرُ بِمَعْنًى بَدِيعٍ لَا يَقْدِرُ فِكْرُهُ عَلَى صَيْدِهِ كُلَّ وَقْتٍ. فَيَغِيبُ بِهِ وَيَسْتَغْرِقُ فِيهِ عَمَّا يَأْتِي بَعْدَهُ. فَيَعْجِزُ عَنْ صَيْدِ تِلْكَ الْمَعَانِي. وَيُدْهِشُهُ ازْدِحَامُهَا. فَيَبْقَى قَلْبُهُ بَاهِتًا. كَمَا يُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ: أَرْسَلَ صَائِدًا لَهُ عَلَى صَيْدٍ. فَخَرَجَ الصَّيْدُ عَلَيْهِ مِنْ أَمَامِهِ وَخَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، فَوَقَفَ بَاهِتًا يَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا. وَلَمْ يَصْطَدْ شَيْئًا. فَقَالَ:

تَكَاثَرَتِ الظِّبَاءُ عَلَى خِرَاشٍ ... فَمَا يَدْرِي خِرَاشٌ مَا يَصِيدُ فَوَظِيفَتُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ: أَنْ يَفْنَى عَنْ وَارِدِهِ. وَيُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِالْمُتَكَلِّمِ. وَكَأَنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ مِنْهُ. وَيَجْعَلَ قَلْبَهُ نَهْرًا لِجَرَيَانِ مَعَانِيهِ. وَيُفْرِغَهُ مِنْ سِوَى فَهْمِ الْمُرَادِ. وَيَنْصَبَّ إِلَيْهِ انْصِبَابًا يَتَلَقَّى فِيهِ مَعَانِيَهُ، كَتَلَقِّي الْمُحِبِّ لِلْأَحْبَابِ الْقَادِمِينَ عَلَيْهِ. لَا يَشْغَلُهُ حَبِيبٌ مِنْهُمْ عَنْ حَبِيبٍ. بَلْ يُعْطَى كُلُّ قَادِمٍ حَقَّهُ. وَكَتَلَقِّي الضُّيُوفِ وَالزُّوَّارِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ سَعَةِ الْقَلْبِ، وَقُوَّةِ الِاسْتِعْدَادِ، وَكَمَالِ الْحُضُورِ. فَإِذَا سَمِعَ خِطَابَ التَّرْغِيبِ وَالتَّشْوِيقِ، وَاللُّطْفِ وَالْإِحْسَانِ: لَا يَفْنَى بِهِ عَمَّا يَجِيءُ بَعْدَهُ مِنْ خِطَابِ التَّخْوِيفِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْعَدْلِ. بَلْ يَسْمَعُ الْخِطَابَ الثَّانِيَ مُسْتَصْحِبًا لِحُكْمِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ. وَيَمْزُجُ هَذَا بِهَذَا. وَيَسِيرُ بِهِمَا وَمَعَهُمَا جَمِيعًا، عَاكِفًا بِقَلْبِهِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ وَصِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ. وَهَذَا سَيْرٌ فِي اللَّهِ. وَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ أَعْلَى وَأَرْفَعُ مِنْ مُجَرَّدِ الْمَسِيرِ إِلَيْهِ. وَلَا يَنْقَطِعُ بِذَلِكَ سَيْرُهُ إِلَيْهِ. بَلْ يُدْرِجُ سَيْرَهُ. فَإِنَّ سَيْرَ الْقَلْبِ فِي مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَمَعْرِفَتِهِ. وَمَتَّى بَقِيَتْ لِلْقَلْبِ فِي ذَلِكَ مَلَكَةٌ، وَاشْتَدَّ تَعَلُّقُهُ بِهِ: لَمْ تَحْجُبْهُ مَعَانِي الْمَسْمُوعِ، وَصِفَاتِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَلَكِنْ فِي الِابْتِدَاءِ يَعْسُرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَفِي التَّوَسُّطِ يَهُونُ عَلَيْهِ، وَلَا انْتِهَاءَ هَاهُنَا أَلْبَتَّةَ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَهَذِهِ كَلِمَاتٌ تُشِيرُ إِلَى مَعَانِي سَمَاعِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ، وَالْأَحْوَالِ الْمُسْتَقِيمَةِ. وَأَمَّا السَّمَاعُ الشَّيْطَانِيُّ: فَبِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَفْسَدَةٍ. وَلَوْلَا خَوْفُ الْإِطَالَةِ لَسُقْنَاهَا مُفَصَّلَةً. وَسَنُفْرِدُ لَهَا مُصَنَّفًا مُسْتَقِلًّا. إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ مِنَ الْأُنْسِ بِالشَّوَاهِدِ: التَّغَذِّيَ بِالسَّمَاعِ. وَقَوْلِهِ: وَالْوُقُوفُ عَلَى الْإِشَارَاتِ. الْإِشَارَاتُ هِيَ الْمَعَانِي الَّتِي تُشِيرُ إِلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ بُعْدٍ، وَمِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَهِيَ تَارَةً تَكُونُ مِنْ مَسْمُوعٍ. وَتَارَةً تَكُونُ مِنْ مَرْئِيٍّ. وَتَارَةً تَكُونُ مِنْ مَعْقُولٍ. وَقَدْ تَكُونُ مِنَ الْحَوَاسِّ كُلِّهَا. فَالْإِشَارَاتُ: مِنْ جِنْسِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَعْلَامِ. وَسَبَبُهَا: صَفَاءٌ يَحْصُلُ بِالْجَمْعِيَّةِ. فَيَلْطُفُ بِهِ الْحِسُّ وَالذِّهْنُ. فَيَسْتَيْقِظُ لِإِدْرَاكِ أُمُورٍ لَطِيفَةٍ. لَا يَكْشِفُ حِسُّ غَيْرِهِ وَفَهْمِهِ عَنْ إِدْرَاكِهَا.

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ: الصَّحِيحُ مِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِإِشَارَتِهِ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الْأَوْلَى. قُلْتُ: مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] . قَالَ: وَالصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: الصُّحُفُ الَّتِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ. لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ. مِنْهَا: أَنَّهُ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مَكْنُونٌ وَالْمَكْنُونُ: الْمَسْتُورُ عَنِ الْعُيُونِ. وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الصُّحُفِ الَّتِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَالَ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُتَوَضِّئِينَ لَقَالَ: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُتَطَهِّرُونَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] فَالْمَلَائِكَةُ مُطَهَّرُونَ. وَالْمُؤْمِنُونَ مُتَطَهِّرُونَ. وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ. وَلَوْ كَانَ نَهْيًا لَقَالَ: لَا يَمْسَسْهُ بِالْجَزْمِ، وَالْأَصْلُ فِي الْخَبَرِ: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا صُورَةً وَمَعْنًى. وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ جَاءَ بِهَذَا الْقُرْآنِ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا تَنَالُهُ الشَّيَاطِينُ. وَلَا وُصُولَ لَهَا إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الشُّعَرَاءِ {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ - وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210 - 211] وَإِنَّمَا تَنَالُهُ الْأَرْوَاحُ الْمُطَهَّرَةُ. وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا نَظِيرُ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ عَبَسَ {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ - فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ - مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ - بِأَيْدِي سَفَرَةٍ - كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 12 - 16] . قَالَ مَالِكٌ فِي مَوَطَّئِهِ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] أَنَّهَا مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ عَبَسَ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ مِنْ سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ. تَتَضَمَّنُ تَقْرِيرَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَالرَّدَّ عَلَى الْكُفَّارِ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَلْيَقُ بِالْمَقْصُودِ مِنْ فَرْعٍ عَمَلِيٍّ. وَهُوَ حُكْمُ مَسِّ الْمُحْدِثِ الْمُصْحَفَ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِهِ الْكِتَابُ الَّذِي بِأَيْدِي النَّاسِ: لَمْ يَكُنْ فِي الْإِقْسَامِ عَلَى ذَلِكَ بِهَذَا الْقَسَمِ الْعَظِيمِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ. إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَهُوَ قَابِلٌ لِأَنَّ يَكُونَ فِي كِتَابٍ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا. بِخِلَافِ مَا إِذَا وَقَعَ الْقَسَمُ عَلَى أَنَّهُ فِي كِتَابٍ مَصُونٍ، مَسْتُورٍ عَنِ الْعُيُونِ عِنْدَ اللَّهِ. لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْطَانٌ. وَلَا يَنَالُ مِنْهُ. وَلَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْأَرْوَاحُ الطَّاهِرَةُ الزَّكِيَّةُ. فَهَذَا الْمَعْنَى أَلْيَقُ وَأَجَلُّ وَأَخْلَقُ بِالْآيَةِ وَأَوْلَى بِلَا شَكٍّ. فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ: لَكِنْ تَدُلُّ الْآيَةَ بِإِشَارَتِهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفُ إِلَّا طَاهِرٌ. لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الصُّحُفُ لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمُطَهِّرُونَ، لِكَرَامَتِهَا عَلَى اللَّهِ. فَهَذِهِ الصُّحُفُ أَوْلَى أَنْ لَا يَمَسَّهَا إِلَّا طَاهِرٌ. وَسَمِعَتْهُ يَقُولُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» إِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ الْمَخْلُوقُونَ يَمْنَعُهَا الْكَلْبُ وَالصُّورَةُ عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ. فَكَيْفَ تَلِجُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَحَبَّتُهُ وَحَلَاوَةُ ذِكْرِهِ، وَالْأُنْسُ بِقُرْبِهِ، فِي قَلْبٍ مُمْتَلِئٍ بِكِلَابِ الشَّهَوَاتِ وَصُوَرِهَا؟ فَهَذَا مِنْ إِشَارَةِ اللَّفْظِ الصَّحِيحَةِ. وَمِنْ هَذَا: أَنَّ طَهَارَةَ الثَّوْبِ الطَّاهِرِ وَالْبَدَنِ إِذَا كَانَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَالِاعْتِدَادِ بِهَا. فَإِذَا أَخَلَّ بِهَا كَانَتْ فَاسِدَةً. فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْقَلْبُ نَجِسًا، وَلَمْ يُطَهِّرْهُ صَاحِبُهُ؟ فَكَيْفَ يُعْتَدُّ لَهُ بِصَلَاتِهِ، وَإِنْ أَسْقَطْتِ الْقَضَاءَ؟ وَهَلْ طَهَارَةُ الظَّاهِرِ إِلَّا تَكْمِيلٌ لِطَهَارَةِ الْبَاطِنِ؟ . وَمِنْ هَذَا: أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا. وَهِيَ بَيْتُ الرَّبِّ. فَتَوَجُّهُ الْمُصَلَّى إِلَيْهَا بِبَدَنِهِ وَقَالَبِهِ شَرْطٌ. فَكَيْفَ تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ بِقَلْبِهِ إِلَى رَبِّ الْقِبْلَةِ وَالْبَدَنِ؟ بَلْ وَجَّهَ بَدَنَهُ إِلَى الْبَيْتِ. وَوَجَّهَ قَلْبَهُ إِلَى غَيْرِ رَبِّ الْبَيْتِ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْإِشَارَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لَا تُنَالُ إِلَّا بِصَفَاءِ الْبَاطِنِ، وَصِحَّةِ الْبَصِيرَةِ، وَحُسْنِ التَّأَمُّلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل الدرجة الثانية الأنس بنور الكشف

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الْأُنْسُ بِنُورِ الْكَشْفِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الْأُنْسُ بِنُورِ الْكَشْفِ. وَهُوَ أَنَسٌ شَاخِصٌ عَنِ الْأُنْسِ الْأَوَّلِ. تَشُوبُهُ صَوْلَةُ الْهَيْمَانِ. وَيَضْرِبُهُ مَوْجُ الْفَنَاءِ. وَهُوَ الَّذِي غَلَبَ قَوْمًا عَلَى عُقُولِهِمْ وَسَلَبَ قَوْمًا طَاقَةَ الِاصْطِبَارِ. وَحَلَّ عَنْهُمْ قُيُودَ الْعِلْمِ. وَفِي هَذَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِهَذَا الدُّعَاءِ: «أَسْأَلُكُ شَوْقًا إِلَى لِقَائِكَ، مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ. وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ» . يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِنُورِ الْكَشْفِ. بَاءَ السَّبَبِيَّةِ، أَوْ بَاءَ الْإِلْصَاقِ. فَإِنْ كَانَتْ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ: كَانَ الْمَعْنَى: الْأُنْسَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ نُورِ الْكَشْفِ. وَإِنْ كَانَتْ بَاءَ الْإِلْصَاقِ، كَانَ الْمَعْنَى: الْأُنْسَ الْمُتَلَبِّسَ بِنُورِ الْكَشْفِ. فَإِنْ قُلْتُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأُنْسِ، وَنُورِ الْكَشْفِ، حَتَّى يَكُونَ أَحَدُهُمَا سَبَبًا لِلْآخَرِ، أَوْ مُتَلَبِّسًا بِهِ؟ . قُلْتُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ نُورَ الْكَشْفِ مِنْ بَابِ الْمَعَارِفِ وَانْكِشَافِ الْحَقِيقَةِ لِلْقَلْبِ. وَأَمَّا الْأُنْسُ: فَمِنْ بَابِ الْقُرْبِ وَالدُّنُوِّ، وَالسُّكُونِ إِلَى مَنْ يَأْنَسُ بِهِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ. فَضِدَّهُ: الْوَحْشَةُ. وَضِدَّ نُورِ الْكَشْفِ: ظُلْمَةُ الْحِجَابِ. وَقَوْلُهُ: شَاخِصٌ عَنِ الْأُنْسِ الْأَوَّلِ. أَيْ مُرْتَفِعٌ عَنْهُ وَأَعْلَى مِنْهُ. قَوْلُهُ: تَشُوبُهُ صَوْلَةُ الْهَيَمَانِ. وَذَلِكَ: لِأَنَّ هَذَا الْأُنْسَ الْمَذْكُورَ يَكُونُ مَبْدَؤُهُ الْكَشْفَ عَنْ أَسْمَاءِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَحْصُلُ عَنْهَا الْأُنْسُ. وَيَتَعَلَّقُ بِهَا. كَاسْمِ الْجَمِيلِ، وَالْبَرِّ، وَاللَّطِيفِ، وَالْوَدُودِ، وَالْحَلِيمِ، وَالرَّحِيمِ وَنَحْوِهَا. ثُمَّ يَقْوَى التَّعَلُّقُ بِهَا إِلَى أَنْ يَسْتَغْرِقَ الْعَقْلَ، فَيُمَازِجَهُ نَوْعٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ. فَيَقْهَرَ الْعَقْلَ بِصَوْلَتِهِ. وَالْهَيَمَانُ هُوَ الْحَرَكَةُ إِلَى كُلِّ جِهَةٍ بِسَبَبِ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ. وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ نَوْعِ عَدَمِ تَمْيِيزٍ. وَقُوَّةِ إِرَادَةٍ قَاهِرَةٍ، لَا يَمْلِكُ صَاحِبُهَا ضَبْطَهَا. وَقَوْلُهُ: وَيَضْرِبُهُ مَوْجُ الْفَنَاءِ. أَيْ إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأُنْسِ: يُطَالِعُ مَبَادِئَ الْفَنَاءِ مُحِيطَةً بِهِ. فَهِيَ تُقَلِّبُهُ كَمَا يَقْلِبُ

الْمَوْجُ الْغَرِيقَ. وَهَذَا قَبْلَ اسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْفَنَاءِ عَلَى وُجُودِهِ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي غَلَبَ قَوْمًا عَلَى عُقُولِهِمْ أَيْ سَلَبَهُمْ إِيَّاهَا. لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا شَيْئًا فَوْقَ مَدَارِكِ الْعُقُولِ. وَفَوْقَ كُلَّ مُدْرَكٍ بِالْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَلَا إِلْفَ لَهُمْ بِهِ. فَأَوْجَبَتْ قُوَّةُ الْمُشَاهَدَةِ وَالْوَارِدِ، وَضَعْفُ الْمَحَلِّ وَالْحَامِلِ: غَلَبَتَهُ عَلَى الْعَقْلِ. وَالْكَامِلُ مِنَ الْقَوْمِ يَثْبُتُ لِذَلِكَ وَلَا يَتَحَرَّكُ. بَلْ يَبْقَى كَأَنَّهُ جَبَلٌ. وَتَلَا الْجُنَيْدُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ - وَقَدْ قِيلَ لَهُ: أَمَا يُغَيِّرُكَ مَا تَسْمَعُ؟ فَتَلَا: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] . وَبَعْضُهُمْ تَلَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 18] . وَقَوْمٌ أَقْوَى تَمْكِينًا مِنْ هَؤُلَاءِ: لَمْ يَغْلِبْهُمْ عَلَى عُقُولِهِمْ بَلْ سَلْبَهُمْ طَاقَةُ صَبْرِهِمْ. فَبَدَا مِنْهُمْ مَا يُنَافِي الصَّبْرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَحَلَّ عَنْهُمْ قُيُودَ الْعِلْمِ. فَكَلَامٌ لَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ. وَتُكَلُّفِ وَجْهٍ يُصَحِّحُهُ. وَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْعِلْمَ يُقَيِّدُ صَاحِبَهُ. وَالْمَعْرِفَةَ تُطْلِقُهُ. وَتُوَسِّعُ بِطَانَهُ وَتُرِيهِ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ. فَتَزُولُ عَنْهُ التَّقَيُّدَاتُ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً بِسَبَبِ خَفَاءِ نُورِ الْمَعْرِفَةِ وَكَشْفِهَا عَلَيْهِ. فَإِنَّ الْعَارِفَ صَاحِبُ ضِيَاءِ الْكَشْفِ أَوْسَعُ بِطَانًا وَقَلْبًا. وَأَعْظَمُ إِطْلَاقًا بِلَا شَكٍّ مِنْ صَاحِبِ الْعِلْمِ. وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ صَاحِبِ الْعِلْمِ إِلَى الْجَاهِلِ. فَكَمَا أَنَّ الْعَالِمَ أَوْسَعُ بِطَانًا مِنَ الْجَاهِلِ. وَلَهُ إِطْلَاقٌ بِحَسَبِ عِلْمِهِ فَالْعَارِفُ - بِمَا مَعَهُ مِنْ رُوحِ الْعِلْمِ. وَضِيَاءِ الْكَشْفِ وَنُورِهِ - هُوَ أَكْثَرُ إِطْلَاقًا. وَأَوْسَعُ بِطَانًا مِنْ صَاحِبِ الْعِلْمِ. فَيَتَقَيَّدُ الْعَالِمُ بِظَوَاهِرِ الْعِلْمِ وَأَحْكَامِهِ. وَالْعَارِفُ لَا يَرَاهَا قُيُودًا. وَمِنْ هَاهُنَا تَزَنْدَقَ مَنْ تَزَنْدَقَ. وَظَنَّ أَنَّهُ إِذَا لَاحَتْ لَهُ حَقَائِقُهَا، وَبَوَاطِنُهَا: خَلَعَ قُيُودَ ظَوَاهِرِهَا وَرُسُومِهَا، اشْتِغَالًا بِالْمَقْصُودِ عَنِ الْوَسِيلَةِ. وَبِالْحَقِيقَةِ عَنِ الرَّسْمِ. فَهَؤُلَاءُ هُمُ الْمَقْطُوعُونَ عَنِ اللَّهِ، الْقُطَّاعُ لِطَرِيقِ اللَّهِ. وَهُمْ مَعَاطِبُ الطَّرِيقِ وَآفَاتُهَا.

وَاتَّفَقَ أَنَّ الْعَارِفِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْحَقَائِقِ. وَأَمَرُوا بِالِانْتِقَالِ مِنَ الرُّسُومِ وَالظَّوَاهِرِ إِلَيْهَا، وَأَنْ لَا يَقِفَ عِنْدَهَا. فَظَنَّ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةُ: أَنَّهُمْ جَوَّزُوا خَلْعَهَا، وَالِانْحِلَالَ مِنْهَا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ: فَهُوَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ. وَاللَّهُ يَرْكُمُ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. فَيَجْعَلُهُ فِي جَهَنَّمَ. أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. فَصَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": أَشَارَ إِلَى الْمَعْنَى الْحَقِّ الصَّحِيحِ. كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ شُيُوخُ الْقَوْمِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَسْأَلُكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ. وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ» فَلَيْسَ مُطَابِقًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ. فَأَيْنَ طَلَبُ الشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، الْبَاعِثُ عَلَى كَمَالِ الِاسْتِعْدَادِ، وَعَلَى خِفَّةِ أَعْبَاءِ السَّيْرِ، وَالْمُزِيلُ لِكُلِّ فُتُورٍ، وَالْحَامِلُ عَلَى كُلِّ صِدْقٍ، وَإِخْلَاصٍ وَإِنَابَةٍ. وَصِحَّةِ مُعَامَلَةٍ - إِلَى أَمْرٍ مَشُوبٍ بِصَوْلَةِ الْهَيَمَانِ. تَضْرِبُهُ أَمْوَاجُ الْفَنَاءِ، بِحَيْثُ غَلَبَ قَوْمًا عَلَى عُقُولِهِمْ، وَسَلَبَ قَوْمًا صَبْرَهُمْ بِحَيْثُ صَيَّرَهُمْ فِي عَالَمِ الْفَنَاءِ؟ . وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَكُنْ لِيَسْأَلَ حَالَةَ الْفَنَاءِ قَطُّ. وَإِنَّمَا سَأَلَ شَوْقًا مُوجِبًا لِلْبَقَاءِ، مُصَاحِبًا لَهُ. مُوجِبًا لَهُ طَيِّبُ الْحَيَاةِ، وَقُرَّةُ الْعَيْنِ، وَلَذَّةُ الْقَلْبِ، وَبَهْجَةُ الرُّوحِ. وَصَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": كَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ اشْتِيَاقَهُ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ عَلَى عَقْلٍ، وَلَا فَقْدٍ لِاصْطِبَارٍ. وَلِهَذَا قَالَ: مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَهِيَ الْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ. وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، وَهِيَ مُفَارَقَةُ أَحْكَامِ الْعِلْمِ. وَهَذَا غَايَتُهُ: أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ إِشَارَةِ الْحَدِيثِ عَلَى عَادَةِ الْقَوْمِ. وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ نَفْسَ الْمُرَادِ: فَلَا. وَإِنَّمَا الْمَسْئُولُ: أَنْ يَهَبَ لَهُ شَوْقًا إِلَى لِقَائِهِ. مُصَاحِبًا لِلْعَافِيَةِ، وَالْهِدَايَةِ. فَلَا تَصْحَبُهُ فِتْنَةٌ وَلَا مِحْنَةٌ. وَهَذَا مِنْ أَجَلِّ الْعَطَايَا وَالْمَوَاهِبِ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَحْصُلُ لَهُ هَذَا لَا يَنَالُهُ إِلَّا بَعْدَ امْتِحَانٍ وَاخْتِبَارٍ: هَلْ يَصْلُحُ أَمْ لَا؟ وَمَنْ لَمْ يُمْتَحَنْ وَلَمْ يُخْتَبَرْ فَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يُؤَهَّلْ لِهَذَا. فَتَضَمَّنَ هَذَا الدُّعَاءُ: حُصُولَ ذَلِكَ. وَالتَّأْهِيلَ لَهُ، مَعَ كَمَالِ الْعَافِيَةِ بِلَا مِحْنَةٍ، وَالْهِدَايَةَ بِلَا فِتْنَةٍ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل الدرجة الثالثة أنس اضمحلال في شهود الحضرة

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ أُنْسُ اضْمِحْلَالٍ فِي شُهُودِ الْحَضْرَةِ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أُنْسُ اضْمِحْلَالٍ فِي شُهُودِ الْحَضْرَةِ. لَا يُعَبَّرُ عَنْ غَيْبِهِ، وَلَا يُشَارُ إِلَى حَدِّهِ. وَلَا يُوقَفُ عَلَى كُنْهِهِ. الِاضْمِحْلَالُ: الِانْعِدَامُ. وَشُهُودُ الْحَضْرَةِ هُوَ مُشَاهَدَةُ الْحَقِيقَةِ. وَالْفَنَاءُ فِي ذَلِكَ الشُّهُودِ. قَوْلُهُ: وَلَا يُعَبَّرُ عَنْ غَيْبِهِ إِلَى آخِرِهِ. حَاصِلُهُ: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَرَاءَ الْعِبَارَةِ. لَا تَنَالُهُ الْعِبَارَةُ. وَلَا يُحَاطُ بِهِ عَيْنًا. وَلَا حَدًّا. وَلَا كُنْهًا. وَلَا حَقِيقَةً. فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ: تَسْتَغْرِقُ الْعِبَارَةَ، وَالْإِشَارَةَ، وَالدَّلَالَةَ وَفِي وَصْفِهِ يَقُولُ قَائِلُهُمْ: فَأَلْقَوْا حِبَالَ مَرَاسِيهِمْ ... فَغَطَّاهُمُ الْبَحْرُ. ثُمَّ انْطَبَقَ وَهَاهُنَا إِنَّمَا حِوَالَةُ الْقَوْمِ عَلَى الذَّوْقِ. وَإِشَارَتُهُمْ إِلَى الْفَنَاءِ الَّذِي يَصْطَلِمُ الْمُشِيرَ وَإِشَارَتَهُ، وَالْمَعْبِّرَ وَعِبَارَتَهُ، مَعَ ظُهُورِ سُلْطَانِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْإِشَارَةِ، وَالْعِبَارَةِ، وَالدَّلَالَةِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةِ الذِّكْرِ] [حَقِيقَةُ الذِّكْرِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةِ الذِّكْرِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الذِّكْرِ وَهِيَ مَنْزِلَةُ الْقَوْمِ الْكُبْرَى الَّتِي مِنْهَا يَتَزَوَّدُونَ وَفِيهَا يَتَّجِرُونَ، وَإِلَيْهَا دَائِمًا يَتَرَدَّدُونَ. وَالذِّكْرُ مَنْشُورُ الْوِلَايَةِ الَّذِي مِنْ أُعْطِيَهُ اتَّصَلَ وَمَنْ مُنِعَهُ عُزِلَ، وَهُوَ قُوتُ قُلُوبِ الْقَوْمِ الَّذِي مَتَى فَارَقَهَا صَارَتِ الْأَجْسَادُ لَهَا قُبُورًا، وَعِمَارَةُ دِيَارِهِمُ الَّتِي إِذَا تَعَطَّلَتْ عَنْهُ صَارَتْ بُورًا، وَهُوَ سِلَاحُهُمُ الَّذِي يُقَاتِلُونَ بِهِ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ، وَمَاؤُهُمُ الَّذِي يُطْفِئُونَ بِهِ الْتِهَابَ الطَّرِيقِ وَدَوَاءُ أَسْقَامِهِمُ الَّذِي مَتَى فَارَقَهُمُ انْتَكَسَتْ مِنْهُمُ الْقُلُوبُ، وَالسَّبَبُ الْوَاصِلُ وَالْعَلَاقَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَلَّامِ الْغُيُوبِ. إِذَا مَرِضْنَا تَدَاوِينَا بِذِكْرِكُمُ ... فَنَتْرُكُ الذِّكْرَ أَحْيَانًا فَنَنْتَكِسُ

فصل أوجه الذكر في القرآن

بِهِ يَسْتَدْفِعُونَ الْآفَاتِ وَيَسْتَكْشِفُونَ الْكُرُبَاتِ وَتَهُونُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْمُصِيبَاتُ، إِذَا أَظَلَّهُمُ الْبَلَاءُ فَإِلَيْهِ مَلْجَؤُهُمْ، وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمُ النَّوَازِلُ فَإِلَيْهِ مَفْزَعَهُمْ. فَهُوَ رِيَاضُ جَنَّتِهِمُ الَّتِي فِيهَا يَتَقَلَّبُونَ وَرُءُوسُ أَمْوَالِ سَعَادَتِهِمُ الَّتِي بِهَا يَتَّجِرُونَ. يَدَعُ الْقَلْبَ الْحَزِينَ ضَاحِكًا مَسْرُورًا، وَيُوصِّلُ الذَّاكِرَ إِلَى الْمَذْكُورِ، بَلْ يَدَعُ الذَّاكِرَ مَذْكُورًا. وَفِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنَ الْجَوَارِحِ عُبُودِيَّةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وَالذِّكْرُ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَهِيَ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، بَلْ هُمْ مَأْمُورُونَ بِذِكْرِ مَعْبُودِهِمْ وَمَحْبُوبِهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ: قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ. فَكَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ قِيعَانٌ وَهُوَ غِرَاسُهَا، فَكَذَلِكَ الْقُلُوبُ بُورٌ وَخَرَابٌ وَهُوَ عِمَارَتُهَا وَأَسَاسُهَا. وَهُوَ جَلَاءُ الْقُلُوبِ وَصِقَالُهَا وَدَوَاؤُهَا إِذَا غَشِيَهَا اعْتِلَالُهَا، وَكُلَّمَا ازْدَادَ الذَّاكِرُ فِي ذِكْرِهِ اسْتِغْرَاقًا: ازْدَادَ الْمَذْكُورُ مَحَبَّةً إِلَى لِقَائِهِ وَاشْتِيَاقًا، وَإِذَا وَاطَأَ فِي ذِكْرِهِ قَلْبُهُ لِلِسَانِهِ: نَسِيَ فِي جَنْبِ ذِكْرِهِ كُلَّ شَيْءٍ وَحَفِظَ اللَّهُ عَلَيْهِ كُلَّ شَيْءٍ وَكَانَ لَهُ عِوَضًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. بِهِ يَزُولُ الْوَقْرُ عَنِ الْأَسْمَاعِ وَالْبَكَمُ عَنِ الْأَلْسُنِ وَتَنْقَشِعُ الظُّلْمَةُ عَنِ الْأَبْصَارِ. زَيَّنَ اللَّهُ بِهِ أَلْسِنَةَ الذَّاكِرِينَ كَمَا زَيَّنَ بِالنُّورِ أَبْصَارَ النَّاظِرِينَ، فَاللِّسَانُ الْغَافِلُ: كَالْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ وَالْأُذُنِ الصَّمَّاءِ وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ. وَهُوَ بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الْمَفْتُوحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يُغْلِقْهُ الْعَبْدُ بِغَفْلَتِهِ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَفَقَّدُوا الْحَلَاوَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: فِي الصَّلَاةِ وَفِي الذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْبَابَ مُغْلَقٌ. وَبِالذِّكْرِ: يَصْرُعُ الْعَبْدُ الشَّيْطَانَ كَمَا يَصْرَعُ الشَّيْطَانُ أَهْلَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا تَمَكَّنَ الذِّكْرُ مِنَ الْقَلْبِ فَإِنْ دَنَا مِنْهُ الشَّيْطَانُ صَرَعَهُ كَمَا يَصْرَعُ الْإِنْسَانُ إِذَا دَنَا مِنْهُ الشَّيْطَانُ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ فَيَقُولُونَ: مَا لِهَذَا؟ فَيُقَالُ: قَدْ مَسَّهُ الْإِنْسِيُّ. وَهُوَ رُوحُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإِذَا خَلَا الْعَمَلُ عَنِ الذِّكْرِ كَانَ كَالْجَسَدِ الَّذِي لَا رُوحَ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أَوْجُهُ الذِّكْرِ فِي الْقُرْآنِ] فَصْلٌ وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: الْأَمْرُ بِهِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا. الثَّانِي: النَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ. الثَّالِثُ: تَعْلِيقُ الْفَلَاحِ بِاسْتِدَامَتِهِ وَكَثْرَتِهِ.

تفصيل أوجه الذكر في القرآن

الرَّابِعُ: الثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِهِ وَالْإِخْبَارُ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ. الْخَامِسُ: الْإِخْبَارُ عَنْ خُسْرَانِ مَنْ لَهَا عَنْهُ بِغَيْرِهِ. السَّادِسُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ ذِكْرَهُ لَهُمْ جَزَاءً لِذِكْرِهِمْ لَهُ. السَّابِعُ: الْإِخْبَارُ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ جَعَلَهُ خَاتِمَةَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا كَانَ مِفْتَاحَهَا. التَّاسِعُ: الْإِخْبَارُ عَنْ أَهْلِهِ بِأَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الِانْتِفَاعِ بِآيَاتِهِ وَأَنَّهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ دُونَ غَيْرِهِمْ. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ جَعَلَهُ قَرِينَ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَرُوحَهَا، فَمَتَى عُدِمَتْهُ كَانَتْ كَالْجَسَدِ بِلَا رُوحٍ. [تَفْصِيلُ أَوْجُهِ الذِّكْرِ فِي الْقُرْآنِ] فَصْلٌ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ 1 - أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا - هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41 - 43] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] . وَفِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: فِي سِرِّكَ وَقَلْبِكَ، وَالثَّانِي: بِلِسَانِكَ بِحَيْثُ تُسْمِعُ نَفْسَكَ. 2 - وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ: فَكَقَوْلِهِ: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205] وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19] . 3 - وَأَمَّا تَعْلِيقُ الْفَلَاحِ بِالْإِكْثَارِ مِنْهُ: فَكَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] . 4 - وَأَمَّا الثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِهِ وَحُسْنُ جَزَائِهِمْ: فَكَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] . 5 - وَأَمَّا خُسْرَانُ مَنْ لَهَا عَنْهُ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9] .

6 - وَأَمَّا جَعْلُ ذِكْرِهِ لَهُمْ جَزَاءً لِذِكْرِهِمْ لَهُ فَكَقَوْلِهِ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] . 7 - وَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] وَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ أَفْضَلُ الطَّاعَاتِ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالطَّاعَاتِ كُلِّهَا: إِقَامَةُ ذِكْرِهِ فَهُوَ سِرُّ الطَّاعَاتِ وَرُوحُهَا. الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ ذَكَرَكُمْ فَكَانَ ذِكْرُهُ لَكُمْ أَكْبَرَ مِنْ ذِكْرِكُمْ لَهُ. فَعَلَى هَذَا: الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: مُضَافٌ إِلَى الْمَذْكُورِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَبْقَى مَعَهُ فَاحِشَةٌ وَمُنْكَرٌ، بَلْ إِذَا تَمَّ الذِّكْرُ: مَحَقَ كُلَّ خَطِيئَةٍ وَمَعْصِيَةٍ. هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ فِي الصَّلَاةِ فَائِدَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: نَهْيُهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ، وَالثَّانِيَةُ: اشْتِمَالُهَا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَتَضَمُّنِهَا لَهُ وَلَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ نَهْيِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ. 8 - وَأَمَّا خَتْمُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِهِ: فَكَمَا خُتِمَ بِهِ عَمَلُ الصِّيَامِ بِقَوْلِهِ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] . وَخُتِمَ بِهِ الْحَجُّ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] . وَخُتِمَ بِهِ الصَّلَاةُ كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] وَخُتِمَ بِهِ الْجُمُعَةُ كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]

وَلِهَذَا كَانَ خَاتِمَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِذَا كَانَ آخِرَ كَلَامِ الْعَبْدِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ 9 - وَأَمَّا اخْتِصَاصُ الذَّاكِرِينَ بِالِانْتِفَاعِ بِآيَاتِهِ وَهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ وَالْعُقُولِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ - الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 190 - 191] 10 - وَأَمَّا مُصَاحَبَتُهُ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ وَاقْتِرَانُهُ بِهَا وَأَنَّهُ رُوحُهَا: فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ كَقَوْلِهِ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وَقَرَنَهُ بِالصِّيَامِ وَبِالْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ، بَلْ هُوَ رُوحُ الْحَجِّ وَلُبُّهُ وَمَقْصُودُهُ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ: «إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ» . وَقَرَنَهُ بِالْجِهَادِ وَأَمَرَ بِذِكْرِهِ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْأَقْرَانِ وَمُكَافَحَةِ الْأَعْدَاءِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ عَبْدِي - كُلَّ عَبْدِيَ - الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُلَاقٍ قِرْنَهُ. سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَسْتَشْهِدُ بِهِ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: الْمُحِبُّونَ يَفْتَخِرُونَ بِذِكْرِ مَنْ يُحِبُّونَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ: وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ كَأَنَّهَا ... أَشْطَانُ بِئْرٍ فِي لُبَانِ الْأَدْهَمِ وَقَالَ الْآخَرُ: ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطُرُ بَيْنَنَا ... وَقَدْ نَهَلَتْ مِنَّا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ قَالَ آخَرُ: وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ شَوَاجِرٌ ... تَحْوِي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مِنْ دَمِي وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْمَحَبَّةِ. فَإِنَّ ذِكْرَ الْمُحِبِّ مَحْبُوبَهُ

فصل فضل أهل الذكر

فِي تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي لَا يَهُمُّ الْمَرْءَ فِيهَا غَيْرُ نَفْسِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ أَوْ أَعَزُّ مِنْهَا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الْمَحَبَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فَضْلُ أَهْلِ الذِّكْرِ] فَصْلٌ وَالذَّاكِرُونَ: هُمْ أَهْلُ السَّبْقِ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ فَقَالَ: سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ. قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ» وَالْمُفَرِّدُونَ إِمَّا الْمُوَحِّدُونَ وَإِمَّا الْآحَادُ الْفُرَادَى وَفِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَغَرَّ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فَيَمَنْ عِنْدَهُ» وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَيَكْفِي فِي شَرَفِ الذِّكْرِ: أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِأَهْلِهِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ: خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ:

آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟ قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسْنَا إِلَّا ذَلِكَ. قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنْ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي: أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ» . «وَسَأَلَ أَعْرَابِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» «وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَمُرْنِي بِأَمْرٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. فَقَالَ: لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» . وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ارْتَعُوا فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: مَجَالِسُ الذِّكْرِ» . وَقَالَ: «اغْدُوَا وَرُوحُوا وَاذْكُرُوا، مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللَّهِ عِنْدَهُ; فَإِنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِنْهُ حَيْثُ أَنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ» وَرَوَى النَّبِيُّ عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: «أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّيَ السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ وَأَنَّهَا قِيعَانٌ وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ: «مَثَلُ الَّذِي

يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُهُ: مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: «مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهَ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهَ فِيهِ: مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» فَجَعَلَ بَيْتَ الذَّاكِرِ بِمَنْزِلَةِ بَيْتِ الْحَيِّ وَبَيْتَ الْغَافِلِ بِمَنْزِلَةِ بَيْتِ الْمَيِّتِ وَهُوَ الْقَبْرُ. وَفِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ: جَعَلَ الذَّاكِرَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيِّ وَالْغَافِلَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ، فَتَضَمَّنَ اللَّفْظَانِ: أَنَّ الْقَلْبَ الذَّاكِرَ كَالْحَيِّ فِي بُيُوتِ الْأَحْيَاءِ، وَالْغَافِلَ كَالْمَيِّتِ فِي بُيُوتِ الْأَمْوَاتِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبْدَانَ الْغَافِلِينَ قُبُورٌ لِقُلُوبِهِمْ وَقُلُوبَهُمْ فِيهَا كَالْأَمْوَاتِ فِي الْقُبُورِ، كَمَا قِيلَ: فَنِسْيَانُ ذِكْرِ اللَّهِ مَوْتُ قُلُوبِهِمْ ... وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ وَأَرْوَاحُهُمْ فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِهِمْ ... وَلَيْسَ لَهُمْ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ وَكَمَا قِيلَ: فَنِسْيَانُ ذِكْرِ اللَّهِ مَوْتُ قُلُوبِهِمْ ... وَأَجْسَامُهُمْ فَهْيَ الْقُبُورُ الدَّوَارِسُ وَأَرْوَاحُهُمْ فِي وَحْشَةٍ مِنْ حَبِيبِهِمْ ... وَلَكِنَّهَا عِنْدَ الْخَبِيثِ أَوَانِسُ وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى عَبْدِي ذِكْرِي: أَحَبَّنِي وَأَحْبَبْتُهُ» . وَفِي آخَرَ: «فَبِي فَافْرَحُوا وَبِذِكْرِي فَتَنَعَّمُوا» . وَفِي آخَرَ: «ابْنَ آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي! أَذْكُرُكَ وَتَنْسَانِي وَأَدْعُوكَ وَتَهْرُبُ إِلَى غَيْرِي، وَأُذْهِبُ عَنْكَ الْبَلَايَا وَأَنْتَ مُعْتَكِفٌ عَلَى الْخَطَايَا. يَا ابْنَ آدَمَ مَا تَقُولُ غَدًا إِذَا جِئْتَنِي؟» . وَفِي آخَرَ: «ابْنَ آدَمَ اذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ: أَذْكُرْكَ حِينَ أَغْضَبُ، وَارْضَ بِنُصْرَتِي لَكَ فَإِنَّ نُصْرَتِي لَكَ خَيْرٌ مِنْ نُصْرَتِكَ لِنَفْسِكَ» . وَفِي الصَّحِيحِ فِي الْأَثَرِ الَّذِي يَرْوِيهِ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الذِّكْرِ نَحْوَ مِائَةِ فَائِدَةٍ فِي كِتَابِنَا " الْوَابِلُ الصَّيِّبُ وَرَافِعُ الْكَلِمِ الطَّيِّبُ "

فصل حقيقة الذكر

وَذَكَرَنَا هُنَاكَ أَسْرَارَ الذِّكْرِ وَعِظَمَ نَفْعِهِ وَطِيبَ ثَمَرَتِهِ وَذَكَرْنَا فِيهِ: أَنَّ الذِّكْرَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: ذِكْرُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَمَعَانِيهَا، وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِهَا، وَتَوْحِيدِ اللَّهِ بِهَا. وَذِكْرُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَذِكْرُ الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ وَالْإِحْسَانِ وَالْأَيَادِي. وَأَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أَيْضًا: ذِكْرٌ يَتَوَاطَأُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ، وَهُوَ أَعْلَاهَا، وَذِكْرٌ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ وَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَذِكْرٌ بِاللِّسَانِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. [فَصْلٌ حَقِيقَةُ الذِّكْرِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] يَعْنِي: إِذَا نَسِيتَ غَيْرَهُ وَنَسِيتَ نَفْسَكَ فِي ذِكْرِكَ ثُمَّ نَسِيتَ ذِكْرَكَ فِي ذِكْرِهِ ثُمَّ نَسِيتَ فِي ذِكْرِ الْحَقِّ إِيَّاكَ كُلَّ ذِكْرٍ. لَيْتَهُ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - لَمْ يَقُلْ. فَلَا وَاللَّهِ مَا عَنَى اللَّهُ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا هُوَ مُرَادُ الْآيَةِ وَلَا تَفْسِيرُهَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ وَلَا مِنَ الْخَلَفِ. وَتَفْسِيرُ الْآيَةِ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّكَ لَا تَقُلْ لِشَيْءٍ: أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، حَتَّى تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَإِذَا نَسِيتَ أَنْ تَقُولَهَا فَقُلْهَا مَتَى ذَكَرْتَهَا. وَهَذَا هُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَرَاخِي الَّذِي جَوَّزَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَأَوَّلَ عَلَيْهِ الْآيَةَ. وَهُوَ الصَّوَابُ. فَغَلِطَ عَلَيْهِ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ كَلَامَهُ وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، أَوْ قَالَ: نِسَائِيَ الْأَرْبَعُ طَوَالِقُ. ثُمَّ بَعْدَ سَنَةٍ يَقُولُ: إِلَّا وَاحِدَةً، أَوْ: إِلَّا زَيْنَبَ - إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَنْفَعُهُ. وَقَدْ صَانَ اللَّهُ عَنْ هَذَا مَنْ هُوَ دُونَ غِلْمَانِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِكَثِيرٍ، فَضْلًا عَنِ الْبَحْرِ حَبْرِ الْأُمَّةِ وَعَالِمِهَا الَّذِي فَقَّهَهُ اللَّهُ فِي الدِّينِ وَعَلَّمَهُ التَّأْوِيلَ. وَمَا أَكْثَرَ مَا يَنْقُلُ النَّاسُ الْمَذَاهِبَ الْبَاطِلَةَ عَنِ الْعُلَمَاءِ بِالْأَفْهَامِ الْقَاصِرَةِ. وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ ذَلِكَ لَطَالَ جِدًّا وَإِنْ سَاعَدَ اللَّهُ أَفْرَدْنَا لَهُ كِتَابًا. وَالَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا النَّبِيَّ عَنِ الرُّوحِ وَعَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ: أُخْبِرُكُمْ غَدًا. وَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَتَلَبَّثَ الْوَحْيُ أَيَّامًا ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ: مَعْنَاهُ:

إِذَا نَسِيتَ الِاسْتِثْنَاءَ ثُمَّ ذَكَرْتَ فَاسْتَثْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَيَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى سَنَةٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا غَضِبْتَ وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هَذَا فِي الصَّلَاةِ؛ أَيْ إِذَا نَسِيتَ الصَّلَاةَ فَصَلِّهَا مَتَى ذَكَرْتَهَا. وَأَمَّا كَلَامُ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِشَارَةِ لَا عَلَى التَّفْسِيرِ. فَذَكَرَ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَنْسَى غَيْرَ اللَّهِ وَلَا يَنْسَى نَفْسَهُ لِأَنَّهُ نَاسٍ لِغَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ نَاسِيًا إِلَّا وَنَفْسُهُ بَاقِيَةٌ يَعْلَمُ أَنَّهُ نَاسٍ بِهَا لِمَا سِوَى الْمَذْكُورِ. الثَّانِيَةُ: نِسْيَانُ نَفْسِهِ فِي ذِكْرِهِ، وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: وَنَسِيتَ نَفْسَكَ فِي ذِكْرِكَ. وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ: ذِكْرُهُ مَعَهُ لَمْ يُنْسِهِ. فَقَالَ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ: ثُمَّ نَسِيتَ ذِكْرَكَ فِي ذِكْرِهِ. وَهِيَ مَرْتَبَةُ الْفَنَاءِ. ثُمَّ قَالَ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ: ثُمَّ نَسِيتَ فِي ذِكْرِ الْحَقِّ إِيَّاكَ كُلَّ ذِكْرٍ. وَهَذَا الْفَنَاءُ بِذِكْرِ الْحَقِّ عَبْدَهُ عَنْ ذِكْرِ الْعَبْدِ رَبَّهُ. فَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: فَهِيَ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الذِّكْرِ وَهِيَ أَنْ تَنْسَى غَيْرَ الْمَذْكُورِ وَلَا تَنْسَى نَفْسَكَ فِي الذِّكْرِ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ: لَمْ يَذْكُرْهُ بِتَمَامِ الذِّكْرِ إِذْ لِتَمَامِهِ مَرْتَبَتَانِ فَوْقَهُ: إِحْدَاهُمَا: نِسْيَانُ نَفْسِهِ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ فَيَغِيبُ بِذِكْرِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَيُعْدَمُ إِدْرَاكَهَا بِوِجْدَانِ الْمَذْكُورِ. الثَّانِيَةُ: نِسْيَانُ ذِكْرِهِ فِي ذِكْرِهِ، كَمَا سُئِلَ ذُو النُّونِ عَنِ الذِّكْرِ فَقَالَ: غَيْبَةُ الذَّاكِرِ عَنِ الذِّكْرِ، ثُمَّ أَنْشَدَ: لَا لِأَنِّي أَنْسَاكَ أُكْثِرُ ذِكْرَا كَ ... وَلَكِنْ بِذَاكَ يَجْرِي لِسَانِي وَهَذِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ. فَفِي الْأُولَى: فَنِيَ عَمَّا سِوَى الْمَذْكُورِ وَلَمْ يَفْنَ عَنْ نَفْسِهِ. وَفِي الثَّانِيَةِ: فَنِيَ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ ذِكْرِهِ. وَفِي الثَّالِثَةِ: فَنِيَ عَنْ نَفْسِهِ وَذِكْرِهِ. وَبَقِيَ بَعْدَ هَذَا مَرْتَبَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ: أَنْ يَفْنَى بِذِكْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ لَهُ عَنْ كُلِّ ذِكْرٍ، فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَ اللَّهَ إِلَّا بَعْدَ ذِكْرِ اللَّهِ لَهُ، فَذِكْرُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ سَابِقٌ عَلَى ذِكْرِ الْعَبْدِ لِلرَّبِّ فَفِي

فصل الفرق بين الغفلة والنسيان

هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ: يَشْهَدُ صِفَاتِ الْمَذْكُورِ سُبْحَانَهُ، وَذِكْرَهُ لِعَبْدِهِ، فَيَفْنَى بِذَلِكَ عَنْ شُهُودِ مَا مِنَ الْعَبْدِ وَهَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ وِجْدَانَ الْمَذْكُورِ فِي الذِّكْرِ وَالذَّاكِرِ. فَإِنَّ الذَّاكِرَ وَذِكْرَهُ وَالْمَذْكُورَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: فَالذَّاكِرُ وَذِكْرُهُ قَدِ اضْمَحَلَّا وَفَنِيَا، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الْمَذْكُورِ وَحْدَهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ سِوَاهُ، فَهُوَ الذَّاكِرُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حُلُولٍ وَلَا اتِّحَادٍ. بَلِ الذِّكْرُ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَذِكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مَحْفُوفٌ بِذِكْرَيْنِ مِنْ رَبِّهِ لَهُ: ذِكْرٍ قَبْلَهُ بِهِ صَارَ الْعَبْدُ ذَاكِرًا لَهُ، وَذِكْرٍ بَعْدَهُ بِهِ صَارَ الْعَبْدُ مَذْكُورًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وَقَالَ فِيمَا يَرْوِي عَنْهُ نَبِيُّهُ: «مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ» . وَالذِّكْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ لَهُ: نَوْعٌ غَيْرُ الذِّكْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِهِ قَبْلَ ذِكْرِهِ لَهُ، وَمَنْ كَثَّفَ فَهْمَهُ عَنْ هَذَا فَلْيُجَاوِزْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَقَدْ قِيلَ: إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ ... وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ وَسَأَلْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَوْمًا فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا كَانَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ يَرْضَى بِطَاعَةِ الْعَبْدِ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِ وَيَغْضَبُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ الْمُحْدِثُ فِي الْقَدِيمِ حُبًّا وَبُغْضًا وَفَرَحًا وَغَيْرَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ لِيَ: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ أَسْبَابَ الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالْفَرَحِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّأَثُّرُ مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ مِنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَالْمُمْتَنِعُ أَنْ يُؤَثِّرَ غَيْرُهُ فِيهِ فَهَذَا مُحَالٌ، وَأَمَّا أَنْ يَخْلُقَ هُوَ أَسْبَابًا وَيَشَاءَهَا وَيُقَدِّرَهَا تَقْتَضِي رِضَاهُ وَمَحَبَّتَهُ وَفَرَحَهُ وَغَضَبَهُ: فَهَذَا لَيْسَ بِمُحَالٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْفَرْقُ بَيْنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ] فَصْلٌ قَالَ: وَالذِّكْرُ: هُوَ التَّخَلُّصُ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ: أَنَّ الْغَفْلَةَ تَرْكٌ بِاخْتِيَارِ الْغَافِلِ، وَالنِّسْيَانَ تَرْكٌ

درجات الذكر

بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205] وَلَمْ يَقُلْ: وَلَا تَكُنْ مِنَ النَّاسِينَ، فَإِنَّ النِّسْيَانَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ فَلَا يَنْهَى عَنْهُ. [دَرَجَاتُ الذِّكْرِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى الذِّكْرُ الظَّاهِرُ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الذِّكْرُ الظَّاهِرُ مِنْ: ثَنَاءٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ رِعَايَةٍ. يُرِيدُ بِالظَّاهِرِ: الْجَارِيَ عَلَى اللِّسَانِ الْمُطَابِقَ لِلْقَلْبِ، لَا مُجَرَّدَ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ، فَإِنَّ الْقَوْمَ لَا يَعْتَدُّونَ بِهِ. فَأَمَّا ذِكْرُ الثَّنَاءِ: فَنَحْوُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَأَمَّا ذِكْرُ الدُّعَاءِ فَنَحْوُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] وَ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ. وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا ذِكْرُ الرِّعَايَةِ: فَمِثْلُ قَوْلِ الذَّاكِرِ: اللَّهُ مَعِي وَاللَّهُ نَاظِرٌ إِلَيَّ، اللَّهُ شَاهِدِي. وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ لِتَقْوِيَةِ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ، وَفِيهِ رِعَايَةٌ لِمَصْلَحَةِ الْقَلْبِ وَلِحِفْظِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ وَالتَّحَرُّزِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالِاعْتِصَامِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ. وَالْأَذْكَارُ النَّبَوِيَّةُ تَجْمَعُ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ، فَإِنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِلثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّعَرُّضِ لِلدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ وَالتَّصْرِيحِ بِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ: كَيْفَ جَعَلَهَا دُعَاءً قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ يَرْجُو نَائِلَهُ: أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي ... حَيَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الْحِيَاءُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ فَهَذَا مَخْلُوقٌ وَاكْتَفَى مِنْ مَخْلُوقٍ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مِنْ سُؤَالِهِ، فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟ . وَالْأَذْكَارُ النَّبَوِيَّةُ مُتَضَمِّنَةٌ أَيْضًا لِكَمَالِ الرِّعَايَةِ وَمَصْلَحَةِ الْقَلْبِ وَالتَّحَرُّزِ مِنَ

فصل الدرجة الثانية الذكر الخفي

الْغَفْلَاتِ وَالِاعْتِصَامِ مِنَ الْوَسَاوِسِ وَالشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الذِّكْرُ الْخَفِيُّ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الذِّكْرُ الْخَفِيُّ وَهُوَ الْخَلَاصُ مِنَ الْقُيُودِ وَالْبَقَاءُ مَعَ الشُّهُودِ وَلُزُومُ الْمُسَامَرَةِ. يُرِيدُ بِالْخَفِيِّ هَاهُنَا: الذِّكْرَ بِمُجَرَّدِ الْقَلْبِ بِمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ الْوَارِدَاتِ، وَهَذَا ثَمَرَةُ الذِّكْرِ الْأَوَّلِ. وَيُرِيدُ بِالْخَلَاصِ مِنَ الْقُيُودِ: التَّخَلُّصَ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ وَالْحُجُبِ الْحَائِلَةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ. وَالْبَقَاءُ مَعَ الشُّهُودِ: مُلَازَمَةُ الْحُضُورِ مَعَ الْمَذْكُورِ وَمُشَاهَدَةُ الْقَلْبِ لَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ. وَلُزُومُ الْمُسَامَرَةِ: هِيَ لُزُومُ مُنَاجَاةِ الْقَلْبِ لِرَبِّهِ: تَمَلُّقًا تَارَةً، وَتَضَرُّعًا تَارَةً، وَثَنَاءً تَارَةً، وَاسْتِعْظَامًا تَارَةً. وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُنَاجَاةِ بِالسِّرِّ وَالْقَلْبِ، وَهَذَا شَأْنُ كُلُّ مُحِبٍّ وَحَبِيبِهِ، كَمَا قِيلَ: إِذَا مَا خَلَوْنَا وَالرَّقِيبُ بِمَجْلِسٍ ... فَنَحْنُ سُكُوتٌ وَالْهَوَى يَتَكَلَّمُ [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الذِّكْرُ الْحَقِيقِيُّ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الذِّكْرُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ شُهُودُ ذِكْرِ الْحَقِّ إِيَّاكَ، وَالتَّخَلُّصُ مِنْ شُهُودِ ذِكْرِكَ، وَمَعْرِفَةُ افْتِرَاءِ الذَّاكِرِ فِي بَقَائِهِ مَعَ الذِّكْرِ. إِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الذِّكْرُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ حَقِيقِيًّا; لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى، وَأَمَّا نِسْبَةُ الذِّكْرِ لِلْعَبْدِ: فَلَيْسَتْ حَقِيقِيَّةً. فَذِكْرُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ هُوَ الذِّكْرُ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ شُهُودُ ذِكْرِ الْحَقِّ عَبْدَهُ وَأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِيمَنِ اخْتَصَّهُ وَأَهَّلَهُ لِلْقُرْبِ مِنْهُ وَلِذِكْرِهِ. فَجَعَلَهُ ذَاكِرًا لَهُ، فَفِي الْحَقِيقَةِ: هُوَ الذَّاكِرُ لِنَفْسِهِ بِأَنْ جَعَلَ عَبْدَهُ ذَاكِرًا لَهُ وَأَهَّلَهُ لِذِكْرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ بِقَوْلِهِ: تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ ... وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ أَيْ هُوَ الَّذِي وَحَّدَ نَفْسَهُ فِي الْحَقِيقَةِ فَتَوْحِيدُ الْعَبْدِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، وَنِسْبَتُهُ إِلَى

الْعَبْدِ غَيْرُ حَقِيقِيَّةٍ. إِذْ ذَاكَ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَلَا مِنْهُ وَإِنَّمَا هُوَ مَجْعُولٌ فِيهِ فَإِنْ سُمِّيَ مُوَحِّدًا ذَاكِرًا، فَلِكَوْنِهِ مَجْرَى وَمَحَلًّا لِمَا أُجْرِيَ فِيهِ، كَمَا يُسَمَّى أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ وَطَوِيلًا وَقَصِيرًا; لِكَوْنِهِ مَحَلًّا لِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهَا وَلَمْ تُوجِبْهَا مَشِيئَتُهُ وَلَا حَوْلُهُ وَلَا قُوَّتُهُ. هَذَا مَعَ مَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنِ اسْتِيلَاءِ الْقُرْبِ وَالْفَنَاءِ عَنِ الرَّسْمِ وَالْغَيْبَةِ بِالْمَشْهُودِ عَنِ الشُّهُودِ وَقُوَّةِ الْوَارِدِ، فَيَتَرَكَّبُ مِنْ ذَلِكَ ذَوْقٌ خَاصٌّ: أَنَّهُ مَا وَحَدَّ اللَّهَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا ذَكَرَ اللَّهَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا أَحَبَّ اللَّهَ إِلَّا اللَّهُ. فَهَذَا حَقِيقَةُ مَا عِنْدَ الْقَوْمِ، فَالْعَارِفُونَ مِنْهُمْ أَرْبَابُ الْبَصَائِرِ أَعْطَوْا مَعَ ذَلِكَ الْعُبُودِيَّةَ حَقَّهَا وَالْعِلْمَ حَقَّهُ وَعَرَفُوا أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدٌ حَقِيقَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالرَّبَّ رَبٌّ حَقِيقَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَامُوا بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ بِاللَّهِ لَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلِلَّهِ لَا لِحُظُوظِهِمْ وَفَنُوا بِمُشَاهَدَةِ مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَمَّا سِوَاهُ، وَبِمَا لَهُ مَحَبَّةً وَرِضًا عَمَّا بِهِ كَوْنًا وَمَشِيئَةً. فَإِنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ بِهِ وَالَّذِي لَهُ: هُوَ مَحْبُوبُهُ وَمُرْضِيهِ، فَهُوَ لَهُ وَبِهِ، وَالْمُنْحَرِفُونَ فَنُوا بِمَا بِهِ عَمَّا لَهُ، فَوَالَوْا أَعْدَاءَهُ وَعَطَّلُوا دِينَهُ وَسَوَّوْا بَيْنَ مَحَابِّهِ وَمَسَاخِطِهِ، وَمَوَاقِعِ رِضَاهُ وَغَضَبِهِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَوْلُهُ: التَّخَلُّصُ مِنْ شُهُودِ ذِكْرِكَ. يَعْنِي: بِفَنَاءِ شُهُودِ ذِكْرِهِ لَكَ عَنْ شُهُودِ ذِكْرِكَ لَهُ، وَهَذَا الشُّهُودُ يُرِيحُ الْعَبْدَ مِنْ رُؤْيَةِ النَّفْسِ وَمُلَاحَظَةِ الْعَمَلِ وَيُمِيتُهُ وَيُحْيِيهِ: يُمِيتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَيُحْيِيهِ بِرَبِّهِ وَيُفْنِيهِ وَيَقْتَطِعُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَيُوصِلُهُ بِرَبِّهِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الظَّفَرِ بِالنَّفْسِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: انْتَهَى سَفَرُ الطَّالِبِينَ إِلَى الظَّفَرِ بِنُفُوسِهِمْ. قَوْلُهُ: وَمَعْرِفَةُ افْتِرَاءِ الذَّاكِرِ فِي بَقَائِهِ مَعَ الذِّكْرِ. يَعْنِي: أَنَّ الْبَاقِيَ مَعَ الذِّكْرِ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ ذَاكِرٌ، وَذَلِكَ افْتِرَاءٌ مِنْهُ; فَإِنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ. وَلَا يَزُولُ عَنْهُ هَذَا الِافْتِرَاءُ إِلَّا إِذَا فَنِيَ عَنْ ذِكْرِهِ فَإِنَّ شُهُودَ ذِكْرِهِ وَبَقَاءَهُ مَعَهُ افْتِرَاءٌ يَتَضَمَّنُ نِسْبَةَ الذِّكْرِ إِلَيْهِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ لَهُ. فَيُقَالُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَيُّ افْتِرَاءٍ فِي هَذَا؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا شُهُودُ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ؟ فَإِنَّهُ إِذَا شَهِدَ نَفْسَهُ ذَاكِرًا بِجَعْلِ اللَّهِ لَهُ ذَاكِرًا وَتَأْهِيلِهِ لَهُ وَتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ لِلْعَبْدِ عَلَى ذِكْرِ الْعَبْدِ لَهُ، فَاجْتَمَعَ فِي شُهُودِهِ الْأَمْرَانِ فَأَيُّ افْتِرَاءٍ هَاهُنَا؟ ! وَهَلْ هَذَا إِلَّا عَيْنُ الْحَقِّ وَشُهُودُ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ؟ . نَعَمِ الِافْتِرَاءُ: أَنْ يَشْهَدَ ذَلِكَ بِهِ وَبِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ لَا بِاللَّهِ وَحْدَهُ. لَكِنَّ الشَّيْخَ لَا تَأْخُذُهُ فِي الْفَنَاءِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يُصْغِي فِيهِ إِلَى عَاذِلٍ.

فصل منزلة الفقر

وَالَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ: أَنَّ الْبَقَاءَ فِي الذِّكْرِ أَكْمَلُ مِنَ الْفَنَاءِ فِيهِ وَالْغِيبَةِ بِهِ; لِمَا فِي الْبَقَاءِ مِنَ التَّفْصِيلِ وَالْمَعَارِفِ وَشُهُودِ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ وَمَا قَامَ بِالْعَبْدِ وَمَا قَامَ بِالرَّبِّ تَعَالَى وَشُهُودِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَعْبُودِ. وَلَيْسَ فِي الْفَنَاءِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْفَنَاءُ - كَاسْمِهِ - الْفَنَاءُ، وَالْبَقَاءُ بَقَاءٌ كَاسْمِهِ، وَالْفَنَاءُ مَطْلُوبٌ لِغَيْرِهِ وَالْبَقَاءُ مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ وَالْفِنَاءُ وَصْفُ الْعَبْدِ وَالْبَقَاءُ وَصْفُ الرَّبِّ. وَالْفَنَاءُ عَدَمٌ وَالْبَقَاءُ وُجُودٌ وَالْفَنَاءُ نَفْيٌ وَالْبَقَاءُ إِثْبَاتٌ وَالسُّلُوكُ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ مُخْطِرٌ، وَكَمْ بِهِ مِنْ مَفَازَةٍ وَمَهْلَكَةٍ، وَالسُّلُوكُ عَلَى دَرْبِ الْبَقَاءِ آمِنٌ; فَإِنَّهُ دَرِبَ عَلَيْهِ الْأَعْلَامُ وَالْهُدَاةُ وَالْخُفَرَاءُ، وَلَكِنَّ أَصْحَابَ الْفَنَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ طَوِيلٌ وَلَا يَشُكُّونَ فِي سَلَامَتِهِ وَإِيصَالِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ دَرْبَ الْفَنَاءِ أَقْرَبُ وَرَاكِبَهُ طَائِرٌ وَرَاكِبَ دَرْبِ الْبَقَاءِ سَائِرٌ، وَالْكُمَّلُ مِنَ السَّائِرِينَ يَرَوْنَ الْفَنَاءَ مَنْزِلَةً مِنْ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ وَلَيْسَ نُزُولُهَا عَامًّا لِكُلِّ سَائِرٍ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهَا وَلَا يَمُرُّ بِهَا، وَإِنَّمَا الدَّرْبُ الْأَعْظَمُ وَالطَّرِيقُ الْأَقْوَمُ هُوَ دَرْبُ الْبَقَاءِ. وَيَحْتَجُّونَ عَلَى صَاحِبِ الْفَنَاءِ بِالِانْتِقَالِ إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ، وَإِلَّا فَهُوَ عِنْدَهُمْ عَلَى خَطَرٍ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفَقْرِ] [حَقِيقَةُ الْفَقْرِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفَقْرِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْفَقْرِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ أَشْرَفُ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَأَعْلَاهَا وَأَرْفَعُهَا. بَلْ هِيَ رُوحُ كُلِّ مَنْزِلَةٍ وَسِرُّهَا وَلُبُّهَا وَغَايَتُهَا. وَهَذَا إِنَّمَا يُعْرَفُ بِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْفَقْرِ. وَالَّذِي تُرِيدُ بِهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَخَصَّ مِنْ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ. فَإِنَّ لَفْظَ الْفَقْرِ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273]- الْآيَةَ أَيِ الصَّدَقَاتُ لِهَؤُلَاءِ. كَانَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةٍ. لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسَاكِنُ فِي الْمَدِينَةِ وَلَا عَشَائِرُ. وَكَانُوا قَدْ حَبَسُوا

أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَكَانُوا وَقْفًا عَلَى كُلِّ سَرِيَّةٍ يَبْعَثُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُمْ أَهْلُ الصُّفَّةِ. هَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي إِحْصَارِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ حَبْسُهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: حَبْسُهُمُ الْفَقْرُ وَالْعُدْمُ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: لَمَّا عَادَوْا أَعْدَاءَ اللَّهِ وَجَاهَدُوهُمْ فِي اللَّهِ تَعَالَى أَحُصِرُوا عَنِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ. فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُمْ - لِفَقْرِهِمْ وَعَجْزِهِمْ وَضَعْفِهِمْ - لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ، وَلِكَمَالِ عِفَّتِهِمْ وَصِيَانَتِهِمْ يَحْسَبُهُمْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُمْ أَغْنِيَاءَ. وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60]- الْآيَةَ. وَالْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] . فَالصِّنْفُ الْأَوَّلُ: خَوَاصُّ الْفُقَرَاءِ. وَالثَّانِي: فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ خَاصِّهِمْ وَعَامِّهِمْ. وَالثَّالِثُ: الْفَقْرُ الْعَامُّ لِأَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ: غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ. فَالْفُقَرَاءُ الْمَوْصُوفُونَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: يُقَابِلُهُمْ أَصْحَابُ الْجِدَةِ، وَمَنْ لَيْسَ مُحْصَرًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ لَا يَكْتُمُ فَقْرَهُ تَعَفُّفًا. فَمُقَابِلُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ مُقَابِلِ الصِّنْفِ الثَّانِي. وَالصِّنْفُ الثَّانِي: يُقَابِلُهُمُ الْأَغْنِيَاءُ أَهْلُ الْجِدَةِ. وَيَدْخُلُ فِيهِمُ الْمُتَعَفِّفُ وَغَيْرُهُ. وَالْمُحْصَرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَغَيْرُهُ. وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: لَا مُقَابِلَ لَهُمْ. بَلِ اللَّهُ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ. وَمُرَادُ الْقَوْمِ بِالْفَقْرِ شَيْءٌ أَخَصُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. وَهُوَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ. وَالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالَةٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَجَلُّ مَنْ أَنْ يُسَمَّى فَقْرًا. بَلْ هُوَ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَلُبُّهَا. وَعَزْلُ النَّفْسِ عَنْ مُزَاحَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَسُئِلَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ. فَقَالَ: حَقِيقَتُهُ أَنْ لَا يَسْتَغْنِيَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَرَسْمُهُ: عَدَمُ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا. يَقُولُ: عَدَمُ الْوُثُوقِ بِهَا وَالْوُقُوفِ مَعَهَا. وَهُوَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: شَيْءٌ لَا يَضَعُهُ اللَّهُ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يُحِبُّهُ. وَيَسُوقُهُ إِلَى مَنْ يُرِيدُهُ.

وَسُئِلَ رُوَيْمٌ عَنِ الْفَقْرِ؟ فَقَالَ: إِرْسَالُ النَّفْسِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يُحْمَدُ فِي إِرْسَالِهَا فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الَّتِي لَا يُؤْمَرُ بِمُدَافَعَتِهَا وَالتَّحَرُّزِ مِنْهَا. وَسُئِلَ أَبُو حَفْصٍ: بِمَ يَقْدَمُ الْفَقِيرُ عَلَى رَبِّهِ؟ فَقَالَ: مَا لِلْفَقِيرِ شَيْءٌ يَقْدَمُ بِهِ عَلَى رَبِّهِ سِوَى فَقْرِهِ. وَحَقِيقَةُ الْفَقْرِ وَكَمَالُهُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ سُئِلَ: مَتَى يَسْتَحِقُّ الْفَقِيرُ اسْمَ الْفَقْرِ؟ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَبْقِ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْهُ. فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: إِذَا كَانَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَهُوَ لَهُ. وَهَذِهِ مِنْ أَحْسَنِ الْعِبَارَاتِ عَنْ مَعْنَى الْفَقْرِ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ. وَهُوَ أَنَّ كُلَّهُ يَصِيرُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. لَا يَبْقَى عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ نَفْسِهِ وَحَظِّهِ وَهَوَاهُ. فَمَتَى بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ نَفْسِهِ فَفَقْرُهُ مَدْخُولٌ. ثُمَّ فُسِّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِذَا كَانَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ، أَيْ: إِذَا كَانَ لِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِنَفَسِهِ فَهُوَ لِلَّهِ. فَحَقِيقَةُ الْفَقْرِ أَنْ لَا تَكُونَ لِنَفْسِكَ. وَلَا يَكُونَ لَهَا مِنْكَ شَيْءٌ، بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّكَ لِلَّهِ. وَإِذَا كُنْتَ لِنَفْسِكَ فَثَمَّ مِلْكٌ وَاسْتِغْنَاءٌ مُنَافٍ لِلْفَقْرِ. وَهَذَا الْفَقْرُ الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ: لَا تُنَافِيهِ الْجِدَةُ وَلَا الْأَمْلَاكُ. فَقَدْ كَانَ رُسُلُ اللَّهِ وَأَنْبِيَاؤُهُ فِي ذُرْوَتِهِ مَعَ جِدَتِهِمْ، وَمُلْكِهِمْ، كَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَبَا الضِّيفَانِ. وَكَانَتْ لَهُ الْأَمْوَالُ وَالْمَوَاشِي، وَكَذَلِكَ كَانَ سُلَيْمَانُ وَدَاوُدُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَكَذَلِكَ كَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] فَكَانُوا أَغْنِيَاءَ فِي فَقْرِهِمْ. فُقَرَاءَ فِي غِنَاهُمْ. فَالْفَقْرُ الْحَقِيقِيُّ: دَوَامُ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَأَنْ يَشْهَدَ الْعَبْدَ - فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ - فَاقَةً تَامَّةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَالْفَقْرُ ذَاتِيٌّ لِلْعَبْدِ. وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ لَهُ لِشُهُودِهِ وَوُجُودِهِ حَالًا، وَإِلَّا فَهُوَ حَقِيقَةٌ. كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ. قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدًا ... كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِيُّ

وَلَهُ آثَارٌ وَعَلَامَاتٌ وَمُوجِبَاتٌ وَأَسْبَابٌ أَكْثَرُ إِشَارَاتِ الْقَوْمِ إِلَيْهَا. كَقَوْلِ بَعْضِهِمُ: الْفَقِيرُ لَا تَسْبِقُ هِمَّتَهُ خَطْوَتُهُ. يُرِيدُ: أَنَّهُ ابْنُ حَالِهِ وَوَقْتِهِ. فَهِمَّتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى وَقْتِهِ لَا تَتَعَدَّاهُ. وَقِيلَ: أَرْكَانُ الْفَقْرِ أَرْبَعَةٌ: عِلْمٌ يَسُوسُهُ، وَوَرَعٌ يَحْجِزُهُ، وَيَقِينٌ يَحْمِلُهُ، وَذِكْرٌ يُؤْنِسُهُ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: حَقِيقَةُ الْفَقْرِ أَنْ لَا يَسْتَغْنِيَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ. وَسُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَتَى يَسْتَرِيحُ الْفَقِيرُ؟ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ غَيْرَ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ: أَحْسُنُ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ: دَوَامُ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَمُلَازَمَةُ السُّنَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، وَطَلَبُ الْقُوتِ مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ. وَقِيلَ: مِنْ حُكْمِ الْفَقْرِ: أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ رَغْبَةٌ. فَإِذَا كَانَ وَلَا بُدَّ فَلَا تُجَاوِزُ رَغْبَتُهُ كِفَايَتَهُ. وَقِيلَ: الْفَقِيرُ مَنْ لَا يَمْلِكُ وَلَا يُمْلَكُ. وَأَتَمُّ مِنْ هَذَا: مَنْ يَمْلِكُ وَلَا يَمْلِكُهُ مَالِكٌ. وَقِيلَ: مَنْ أَرَادَ الْفَقْرَ لِشَرَفِ الْفَقْرِ مَاتَ فَقِيرًا. وَمَنْ أَرَادَهُ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنِ اللَّهِ بِشَيْءٍ مَاتَ غَنِيًّا. وَالْفَقْرُ لَهُ بِدَايَةٌ وَنِهَايَةٌ. وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، فَبِدَايَتُهُ: الذُّلُّ. وَنِهَايَتُهُ: الْعِزُّ. وَظَاهِرُهُ: الْعَدَمُ. وَبَاطِنُهُ: الْغِنَى. كَمَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: فَقْرٌ وَذُلٌّ؟ فَقَالَ: لَا. بَلْ فَقَرٌّ وَعِزٌّ. فَقَالَ: فَقْرٌ وَثَرَاءٌ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ فَقَرٌّ وَعَرْشٌ، وَكِلَاهُمَا مُصِيبٌ. وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ دَوَامَ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ - مَعَ التَّخْلِيطِ - خَيْرٌ مِنْ دَوَامِ الصَّفَاءِ مَعَ رُؤْيَةِ النَّفْسِ وَالْعُجْبِ، مَعَ أَنَّهُ لَا صَفَاءَ مَعَهُمَا. وَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الْفَقْرِ عَلِمْتَ أَنَّهُ عَيْنُ الْغِنَى بِاللَّهِ. فَلَا مَعْنَى لِسُؤَالِ مَنْ سَأَلَ: أَيُّ الْحَالَيْنِ أَكْمَلُ؟ الِافْتِقَارُ إِلَى اللَّهِ، أَمْ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ؟ . فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ. فَإِنَّ الِاسْتِغْنَاءَ بِهِ هُوَ عَيْنُ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ. وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَرَغَانِيُّ فَقَالَ: إِذَا صَحَّ الِافْتِقَارُ إِلَى اللَّهِ

تَعَالَى فَقَدْ صَحَّ الِاسْتِغْنَاءُ بِاللَّهِ، وَإِذَا صَحَّ الِاسْتِغْنَاءُ بِاللَّهِ كَمَلَ الْغِنَى بِهِ. فَلَا يُقَالُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: الِافْتِقَارُ أَمْ الِاسْتِغْنَاءُ؟ لِأَنَّهُمَا حَالَتَانِ لَا تَتِمُّ إِحْدَاهُمَا إِلَّا بِالْأُخْرَى. وَأَمَّا كَلَامُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، وَالْغَنِيِّ الشَّاكِرِ وَتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ. فَعِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ: أَنَّ التَّفْضِيلَ لَا يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى. وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ وَالْحَقَائِقِ. فَالْمَسْأَلَةُ أَيْضًا فَاسِدَةٌ فِي نَفْسِهَا. فَإِنَّ التَّفْضِيلَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّقْوَى، وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ. لَا بِفَقْرٍ وَلَا غِنًى، كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وَلَمْ يَقُلْ أَفْقَرُكُمْ وَلَا أَغْنَاكُمْ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - وَالْفَقْرُ وَالْغِنَى ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ - وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16] كَلَّا أَيْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ وَسَّعْتُ عَلَيْهِ وَأَعْطَيْتُهُ: أَكُونُ قَدْ أَكْرَمْتُهُ، وَلَا كُلُّ مَنْ ضَيَّقْتُ عَلَيْهِ وَقَتَّرْتُ: أَكُونُ قَدْ أَهَنْتُهُ، فَالْإِكْرَامُ: أَنْ يُكْرِمَ اللَّهُ الْعَبْدَ بِطَاعَتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ. وَالْإِهَانَةُ: أَنْ يَسْلُبَهُ ذَلِكَ. قَالَ - يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ - وَلَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ. بَلْ بِالتَّقْوَى، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ. سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ. وَتَذَاكَرُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ. فَقَالَ: لَا يُوزَنُ غَدًا الْفَقْرُ وَلَا الْغِنَى، وَإِنَّمَا يُوزَنُ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُحَالٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ لَا بُّدَ لَهُ مِنْ صَبْرٍ وَشُكْرٍ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ: نِصْفٌ صَبْرٌ. وَنِصْفٌ شُكْرٌ. بَلْ قَدْ يَكُونُ نَصِيبُ الْغَنِيِّ وَقِسْطُهُ مِنَ الصَّبْرِ أَوْفَرَ. لِأَنَّهُ يَصْبِرُ عَنْ قُدْرَةٍ، فَصَبْرُهُ أَتَمُّ مَنْ صَبْرِ مَنْ يَصْبِرُ عَنْ عَجْزٍ. وَيَكُونُ شُكْرُ الْفَقِيرِ أَتَمَّ؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ هُوَ اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْفَقِيرُ أَعْظَمُ فَرَاغًا لِلشُّكْرِ مِنَ الْغَنِيِّ. فَكِلَاهُمَا لَا تَقُومُ قَائِمَةُ إِيمَانِهِ إِلَّا عَلَى سَاقِي الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ. نَعَمِ، الَّذِي يَحْكِي النَّاسُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَرْعًا مِنَ الشُّكْرِ، وَفَرْعًا مِنَ الصَّبْرِ.

فصل تعريف الفقر

وَأَخَذُوا فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا. فَجَرَّدُوا غَنِيًّا مُنْفِقًا مُتَصَدِّقًا، بَاذِلًا مَالَهُ فِي وُجُوهِ الْقُرْبِ، شَاكِرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ. وَفَقِيرًا مُتَفِرِّغًا لِطَاعَةِ اللَّهِ. وَلِأَوْرَادِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الطَّاعَاتِ، صَابِرًا عَلَى فَقْرِهِ. فَهَلْ هُوَ أَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ الْغَنِيِّ، أَمِ الْغَنِيِّ أَكْمَلُ مِنْهُ؟ . فَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا: أَنَّ أَكْمَلَهُمَا أَطْوَعُهُمَا. فَإِنْ تَسَاوَتْ طَاعَتُهُمَا تَسَاوَتْ دَرَجَاتُهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ تَعْرِيفُ الْفَقْرِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ. الْفَقْرُ اسْمٌ لِلْبَرَاءَةِ مِنَ الْمَلَكَةِ. عَدَلَ الشَّيْخُ عَنْ لَفْظِ عَدَمِ الْمَلَكَةِ إِلَى قَوْلِهِ: الْبَرَاءَةُ مِنَ الْمَلَكَةِ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَلَكَةِ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِكُلِّ أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَالِكُ حَقِيقَةً. فَعَدَمُ الْمَلَكَةِ: أَمْرٌ ثَابِتٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ لِذَاتِهِ. وَالْكَلَامُ فِي الْفَقْرِ الَّذِي يُمْدَحُ بِهِ صَاحِبُهُ: هُوَ فَقْرُ الِاخْتِيَارِ. وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْفَقْرِ. وَهُوَ بَرَاءَةُ الْعَبْدِ مِنْ دَعْوَى الْمِلْكِ بِحَيْثُ لَا يُنَازِعُ مَالِكَهُ الْحَقَّ. وَلَمَّا كَانَتْ نَفْسُ الْإِنْسَانِ لَيْسَتْ لَهُ. وَإِنَّمَا هِيَ مِلْكٌ لِلَّهِ. فَمَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا وَيُسَلِّمْهَا لِمَالِكِهَا الْحَقُّ: لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِي الْفَقْرِ قَدَمٌ. فَلِذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ قَدَمِ الْفَقْرِ: الْخُرُوجُ عَنِ النَّفْسِ وَتَسْلِيمُهَا لِمَالِكِهَا وَمَوْلَاهَا. فَلَا يُخَاصِمُ لَهَا وَلَا يَتَوَكَّلُ لَهَا وَلَا يُحَاجِجُ عَنْهَا وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا، بَلْ يُفَوِّضُ ذَلِكَ لِمَالِكِهَا وَسَيِّدِهَا. قَالَ بُنْدَارُ بْنُ الْحُسَيْنِ: لَا تُخَاصِمْ لِنَفْسِكَ. فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ. دَعْهَا لِمَالِكِهَا يَفْعَلُ بِهَا مَا يُرِيدُ. وَقَدْ أَجْمَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا وُصُولَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْفَقْرِ. وَلَا دُخُولَ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ بَابِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْفَقْرِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى فَقْرُ الزُّهَّادِ] فَصْلٌ قَالَ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: فَقْرُ الزُّهَّادِ. وَهُوَ قَبْضُ الْيَدِ عَنْ

الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا. وَإِسْكَاتُ اللِّسَانِ عَنْهَا مَدْحًا أَوْ ذَمًّا. وَالسَّلَامَةُ مِنْهَا طَلَبًا أَوْ تَرْكًا. وَهَذَا هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي تَكَلَّمُوا فِي شَرَفِهِ. الدُّنْيَا عِنْدَ الْقَوْمِ: مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَالصُّوَرِ، وَالْمَرَاتِبِ وَاخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ. حَكَاهُمَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي مَقَالَاتِهِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا اسْمٌ لِمُدَّةِ بَقَاءِ هَذَا الْعَالَمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا اسْمٌ لِمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَمَا فَوْقَ السَّمَاءِ لَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا. وَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ لَيْسَ مِنْهَا. فَعَلَى الْأَوَّلِ: تَكُونُ الدُّنْيَا زَمَانًا. وَعَلَى الثَّانِي: تَكُونُ مَكَانًا. وَلَمَّا كَانَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْجَوَارِحِ وَالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، كَانَ حَقِيقَةَ الْفَقْرِ: تَعْطِيلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَنْ تَعَلُّقِهَا بِهَا وَسَلْبِهَا مِنْهَا. فَلِذَلِكَ قَالَ قَبْضُ الْيَدِ عَنِ الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا. يَعْنِي يَقْبِضُ يَدَهُ عَنْ إِمْسَاكِهَا إِذَا حَصَلَتْ لَهُ. فَإِذَا قَبَضَ يَدَهُ عَنِ الْإِمْسَاكِ جَادَ بِهَا. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَاصِلَةٍ لَهُ كَفَّ يَدَهُ عَنْ طَلَبِهَا. فَلَا يَطْلُبُ مَعْدُومَهَا. وَلَا يَبْخَلُ بِمَوْجُودِهَا. وَأَمَّا تَعْطِيلُهَا عَنِ اللِّسَانِ: فَهُوَ أَنْ لَا يَمْدَحَهَا وَلَا يَذُمَّهَا. فَإِنَّ اشْتِغَالَهُ بِمَدْحِهَا أَوْ ذَمِّهَا دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّتِهَا وَرَغْبَتِهِ فِيهَا. فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ. وَإِنَّمَا اشْتَغَلَ بِذَمِّهَا حَيْثُ فَاتَتْهُ. كَمَنْ طَلَبَ الْعُنْقُودَ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: هُوَ حَامِضٌ. وَلَا يَتَصَدَّى لِذَمِّ الدُّنْيَا إِلَّا رَاغِبٌ مُحِبٌّ مُفَارِقٌ. فَالْوَاصِلُ مَادِحٌ. وَالْمُفَارِقُ ذَامٌّ. وَأَمَّا تَعْطِيلُ الْقَلْبِ مِنْهَا فَبِالسَّلَامَةِ مِنْ آفَاتِ طَلَبِهَا وَتَرْكِهَا. فَإِنَّ لِتَرْكِهَا آفَاتٌ. وَلِطَلَبِهَا آفَاتٌ. وَالْفَقْرُ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنْ آفَاتِ الطَّلَبِ وَالتَّرْكِ. بِحَيْثُ لَا يَحْجُبُهُ عَنْ رَبِّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. لَا فِي طَلَبِهَا وَأَخْذِهَا وَلَا فِي تَرْكِهَا وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا. فَإِنْ قُلْتَ: عَرَفْتُ الْآفَةَ فِي أَخْذِهَا وَطَلَبِهَا. فَمَا وَجْهُ الْآفَةِ فِي تَرْكِهَا وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا؟ قُلْتُ: مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا تَرَكَهَا - وَهُوَ بَشَرٌ لَا مَلَكٌ - تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِمَا يُقِيمُهُ وَيُقِيتُهُ وَيُعَيِّشُهُ. وَمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. فَيَبْقَى فِي مُجَاهَدَةٍ شَدِيدَةٍ مَعَ نَفْسِهِ لِتَرْكِ مَعْلُوِمِهَا وَحَظِّهَا مِنَ الدُّنْيَا. وَهَذِهِ قِلَّةُ فِقْهٍ فِي الطَّرِيقِ، بَلِ الْفَقِيهُ الْعَارِفُ: يَرُدُّهَا عَنْهُ بِلُقْمَةٍ. كَمَا يَرُدُّ الْكَلْبَ إِذَا نَبَحَ عَلَيْهِ بِكِسْرَةٍ. وَلَا يَقْطَعُ زَمَانَهُ بِمُجَاهَدَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ، بَلْ أَعْطِهَا حَظَّهَا، وَطَالِبْهَا بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ. هَذِهِ طَرِيقَةُ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ. وَهِيَ طَرِيقَةُ الْعَارِفِينَ مِنْ أَرْبَابِ السُّلُوكِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا. وَلِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» . وَالْعَارِفُ الْبَصِيرُ يَجْعَلُ عِوَضَ مُجَاهَدَتِهِ لِنَفْسِهِ فِي تَرْكِ شَهْوَةٍ مُبَاحَةٍ: مُجَاهَدَتَهُ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْقُلُوبِ. كَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ بَنِي الْعِلْمِ، وَبَنِي الْإِرَادَةِ، وَيَسْتَفْرِغُ قُوَاهُ فِي حَرْبِهِمْ وَمُجَاهَدَتِهِمْ. وَيَتَقَوَّى عَلَى حَرْبِهِمْ بِإِعْطَاءِ النَّفْسِ حَقَّهَا مِنَ الْمُبَاحِ. وَلَا يَشْتَغِلُ بِهَا. وَمِنْ آفَاتِ التَّرْكِ: تَطَلُّعُهُ إِلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ إِذَا مَسَّتْهُ الْحَاجَةُ إِلَى مَا تَرَكَهُ، فَاسْتِدَامَتُهَا كَانَ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ هَذَا التَّرْكِ. وَمِنْ آفَاتِ تَرْكِهَا، وَعَدَمِ أَخْذِهَا: مَا يُدَاخِلُهُ مِنَ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالزَّهْوِ. وَهَذَا يُقَابِلُ الزُّهْدَ فِيهَا وَتَرْكَهَا. كَمَا أَنَّ كَسْرَةَ الْآخِذِ وَذِلَّتَهُ وَتَوَاضُعَهُ: يُقَابِلُ الْآخِذَ التَّارِكَ. فَفِي الْأَخْذِ آفَاتٌ. وَفِي التَّرْكِ آفَاتٌ. فَالْفَقْرُ الصَّحِيحُ: السَّلَامَةُ مِنْ آفَاتِ الْأَخْذِ وَالتَّرْكِ. وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِفِقْهٍ فِي الْفَقْرِ. قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَهَذَا هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي تَكَلَّمُوا فِي شَرَفِهِ. يَعْنِي تَكَلَّمَ فِيهِ أَرْبَابُ السُّلُوكِ. وَفَضَّلُوهُ وَمَدَحُوهُ.

فصل الدرجة الثانية الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الرُّجُوعُ إِلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الْفَضْلِ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الرُّجُوعُ إِلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الْفَضْلِ. وَهُوَ يُورِثُ الْخَلَاصَ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ. وَيَقْطَعُ شُهُودَ الْأَحْوَالِ. وَيُمَحِّصُ مِنْ أَدْنَاسِ مُطَالَعَةِ الْمَقَامَاتِ. يُرِيدُ بِالرُّجُوعِ إِلَى السَّبْقِ: الِالْتِفَاتَ إِلَى مَا سَبَقَتْ بِهِ السَّابِقَةُ مِنَ اللَّهِ بِمُطَالَعَةِ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ وَجُودِهِ. وَأَنَّ الْعَبْدَ - وَكُلَّ مَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ - فَهُوَ مَحْضُ جُودِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ. وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ ذَاتِهِ سِوَى الْعَدَمِ. وَذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ وَإِيمَانُهُ وَأَعْمَالُهُ كُلُّهَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَإِذَا شَهِدَ هَذَا وَأَحْضَرَهُ قَلْبُهُ. وَتَحَقَّقَ بِهِ: خَلَّصَهُ مِنْ رُؤْيَةِ أَعْمَالِهِ. فَإِنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا مِنَ اللَّهِ وَبِاللَّهِ. وَلَيْسَتْ مِنْهُ هُوَ وَلَا بِهِ. وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الطَّائِفَةِ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْأَعْمَالِ حِجَابٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ. وَيُخَلِّصُهُ مِنْهَا: شُهُودُ السَّبْقِ، وَمُطَالِعَةُ الْفَضْلِ. وَقَوْلُهُ: وَيَقْطَعُ شُهُودَ الْأَحْوَالِ. لِأَنَّهُ إِذَا طَالَعَ سَبْقَ فَضْلِ اللَّهِ: عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ حَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ مَحْضُ جُودِهِ. فَلَا يَشْهَدُ لَهُ حَالًا مَعَ اللَّهِ وَلَا مَقَامًا، كَمَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ عَمَلًا. فَقَدْ جَعَلَ عُدَّتَهُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ: فَقْرَهُ مِنْ أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ. فَهُوَ لَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْفَقْرِ الْمَحْضِ. فَالْفَقْرُ خَيْرُ الْعَلَاقَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَالنِّسْبَةِ الَّتِي يَنْتَسِبُ بِهَا إِلَيْهِ، وَالْبَابُ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يُمَحِّصُ مِنْ أَدْنَاسِ مُطَالَعَةِ الْمَقَامَاتِ. هُوَ مِنْ جِنْسِ التَّخَلُّصِ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ، وَالِانْقِطَاعِ عَنْ رُؤْيَةِ شُهُودِ الْأَحْوَالِ، وَمُطَالِعَةُ الْمَقَامَاتِ: دَنَسٌ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ. فَمُطَالَعَةُ الْفَضْلِ يُمَحِّصُ مِنْ هَذَا الدَّنَسِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالِ وَالْمَقَامِ: أَنَّ الْحَالَ مَعْنًى يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اجْتِلَابٍ لَهُ، وَلَا اكْتِسَابٍ، وَلَا تَعَمُّدٍ. وَالْمَقَامُ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِنَوْعِ كَسْبٍ وَطَلَبٍ. فَالْأَحْوَالُ عِنْدَهُمْ مَوَاهِبٌ، وَالْمَقَامَاتُ مَكَاسِبٌ. فَالْمَقَامُ يَحْصُلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ. وَأَمَّا الْحَالُ: فَمِنْ عَيْنِ الْجُودِ. وَلَمَّا دَخَلَ الْوَاسِطِيُّ نَيْسَابُورَ سَأَلَ أَصْحَابَ أَبِي عُثْمَانَ: بِمَاذَا كَانَ يَأْمُرُكُمْ شَيْخُكُمْ؟

فصل الدرجة الثالثة الاضطرار

فَقَالُوا: كَانَ يَأْمُرُ بِالْتِزَامِ الطَّاعَاتِ، وَرُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ فِيهَا. فَقَالَ: أَمَرَكُمْ بِالْمَجُوسِيَّةِ الْمَحْضَةِ. هَلَّا أَمَرَكُمْ بِالْغَيْبَةِ عَنْهَا بِرُؤْيَةِ مُنْشِئِهَا وَمُجْرِيهَا؟ . قُلْتُ: لَمْ يَأْمُرْهُمْ أَبُو عُثْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَنِيفِيَّةِ الْمَحْضَةِ. وَهِيَ الْقِيَامُ بِالْأَمْرِ وَمُطَالَعَةُ التَّقْصِيرِ فِيهِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا مِنْ رَائِحَةِ الْمَجُوسِيَّةِ شَيْءٌ. فَإِنَّهُ إِذَا بَذَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ صَانَهُ ذَلِكَ عَنْ الِاتِّحَادِ وَالشِّرْكِ. وَإِذَا شَهِدَ تَقْصِيرَهُ فِيهَا صَانَهُ عَنِ الْإِعْجَابِ. فَيَكُونُ قَائِمًا بِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وَأَمَّا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْوَاسِطِيُّ: فَمَشْهَدُ الْفَنَاءِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَشْهَدَ الْبَقَاءِ أَكْمَلُ. فَإِنَّ مَنْ غَابَ عَنْ طَاعَاتِهِ: لَمْ يَشْهَدْ تَقْصِيرَهُ فِيهَا. وَمِنْ تَمَامِ الْعُبُودِيَّةِ: شُهُودُ التَّقْصِيرِ. فَمَشْهَدُ أَبِي عُثْمَانَ أَتَمُّ مِنْ مَشْهَدِ الْوَاسِطِيِّ. وَأَبُو عُثْمَانَ هَذَا: هُوَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النَّيْسَابُورِيُّ مِنْ جُلَّةِ شُيُوخِ الْقَوْمِ وَعَارِفِيهِمْ. وَكَانَ يُقَالُ: فِي الدُّنْيَا ثَلَاثَةٌ، لَا رَابِعَ لَهُمْ: أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ بِنَيْسَابُورَ، وَالْجُنَيْدُ بِبَغْدَادَ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْجَلَا بِالشَّامِ. وَلَهُ كَلَامٌ رَفِيعٌ عَالٍ فِي التَّصَوُّفِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَكَانَ شَدِيدَ الْوَصِيَّةِ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَتَحْكِيمِهَا وَلُزُومِهَا. وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ مَزَّقَ ابْنُهُ قَمِيصًا عَلَى نَفْسِهِ. فَفَتَحَ أَبُو عُثْمَانَ عَيْنَيْهِ، وَهُوَ فِي السِّيَاقِ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ خِلَافُ السُّنَّةِ فِي الظَّاهِرِ، عَلَامَةُ رِيَاءٍ فِي الْبَاطِنِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الِاضْطِرَارُ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الِاضْطِرَارُ. وَالْوُقُوعُ فِي يَدِ التَّقَطُّعِ الْوِجْدَانِيِّ. أَوْ الِاحْتِبَاسُ فِي بَيْدَاءِ قَيْدِ التَّجْرِيدِ. وَهَذَا فَقْرُ الصُّوفِيَّةِ. الِاضْطِرَارُ: شُهُودُ كَمَالِ الضَّرُورَةِ، وَالْفَاقَةُ عِلْمًا وَحَالًا. وَيُرِيدُ بِالْوُقُوعِ فِي يَدِ التَّقَطُّعِ الْوِجْدَانِيِّ: حَضْرَةَ الْجَمْعِ الَّتِي لَيْسَ عِنْدَهَا أَغْيَارٌ. فَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَحْدَانِيَّةٌ فِي نَفْسِهَا. وَالْوُقُوعُ فِي يَدِهَا: الِاسْتِسْلَامُ وَالْإِذْعَانُ لَهَا. وَالدُّخُولُ فِي رِقِّهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ حَضْرَةَ الْجَمْعِ عِنْدَهُمْ: هِيَ شُهُودُ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَرُؤْيَتُهَا بِنُورِ الْكَشْفِ، حَيْثُ يَشْهَدُهَا مَنْشَأُ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ. وَالْكَائِنَاتُ عَدَمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا. وَأَمَّا الِاحْتِبَاسُ فِي بَيْدَاءِ قَيْدِ التَّجْرِيدِ.

فصل منزلة الغنى

فَهُوَ تَجْرِيدُ الْفَرْدَانِيَّةِ أَنْ يَشْهَدَ مَعَهَا غَيْرَهَا، وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى. وَسُمِّيَ ذَلِكَ احْتِبَاسًا لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ شُهُودِ الْأَغْيَارِ. وَجَعَلَ لِلتَّجْرِيدِ قَيْدًا. وَهُوَ التَّقَيُّدُ بِشُهُودِ الْحَقِيقَةِ. وَجَعَلَ الْقَيْدَ بَيْدَاءَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَغْيَارَ تَبِيدُ فِيهِ وَتَنْعَدِمُ. وَلَا يَكُونُ مَعَهُ سِوَاهُ. وَالثَّانِي: لِسَعَتِهِ وَفَضَائِهِ. فَصَاحِبُ مَشْهَدِهِ: فِي بَيْدَاءَ وَاسِعَةٍ، وَإِنِ احْتُبِسَ فِي قَيْدِ شُهُودِهِ. وَقَوْلُهُ: وَهَذَا فَقْرُ الصُّوفِيَّةِ. قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ: أَنَّ التَّصَوُّفَ أَعْلَى عِنْدِهِ مِنَ الْفَقْرِ. فَإِنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ - الَّتِي هِيَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْفَقْرِ عِنْدَهُ - هِيَ مِنْ بَعْضِ مَقَامَاتِ الصُّوفِيَّةِ. وَطَائِفَةٌ تُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ، وَتَقُولُ: التَّصَوُّفُ دُونَ هَذَا الْمَقَامِ بِكَثِيرٍ. وَالتَّصَوُّفُ وَسِيلَةٌ إِلَى هَذَا الْفَقْرِ. فَإِنَّ التَّصَوُّفَ خُلُقٌ. وَهَذَا الْفَقْرُ حَقِيقَةٌ، وَغَايَةٌ لَا غَايَةَ وَرَاءَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْقَوْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَحَكَيْنَا فِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ، هَذَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُفَضَّلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا تَتِمُّ حَقِيقَتُهُ إِلَّا بِالْآخَرِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّامِيِّينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْغِنَى] [حَقِيقَةُ الْغِنَى] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْغِنَى وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْغِنَى الْعَالِي. وَهُوَ نَوْعَانِ: غِنًى بِاللَّهِ، وَغِنًى عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَهُمَا حَقِيقَةُ الْفَقْرِ. وَلَكِنَّ أَرْبَابَ الطَّرِيقِ أَفْرَدُوا لِلْغِنَى مَنْزِلَةً. قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ: بَابُ الْغِنَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] . وَفِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَغْنَاهُ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ فَقْرِهِ: وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: عَائِلًا، وَالْعَائِلُ: هُوَ الْمُحْتَاجُ. لَيْسَ ذَا الْعَيْلَةِ. فَأَغْنَاهُ مِنَ الْمَالِ.

درجات الغنى

وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرْضَاهُ بِمَا أَعْطَاهُ. وَأَغْنَاهُ بِهِ عَنْ سِوَاهُ. فَهُوَ غِنَى قَلْبٍ وَنَفْسٍ، لَا غِنَى مَالٍ. وَهُوَ حَقِيقَةُ الْغِنَى. وَالثَّالِثُ: - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ: نَوْعَيِ الْغِنَى؛ فَأَغْنَى قَلْبَهُ بِهِ. وَأَغْنَاهُ مِنَ الْمَالِ. ثُمَّ قَالَ: الْغِنَى اسْمٌ لِلْمِلْكِ التَّامِّ. يَعْنِي أَنَّهُ مَنْ كَانَ مَالِكًا مَنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَيْسَ بِغَنِيٍّ. وَعَلَى هَذَا: فَلَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْغَنِيَّ بِالْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ. [دَرَجَاتُ الْغِنَى] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى غِنَى الْقَلْبِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: غِنَى الْقَلْبِ. وَهُوَ سَلَامَتُهُ مِنَ السَّبَبِ. وَمُسَالَمَتُهُ لِلْحُكْمِ. وَخَلَاصُهُ مِنَ الْخُصُومَةِ. حَقِيقَةُ غِنَى الْقَلْبِ: تُعَلُّقَهُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. وَحَقِيقَةُ فَقْرِهِ الْمَذْمُومِ: تُعَلُّقُهُ بِغَيْرِهِ. فَإِذَا تَعَلَّقَ بِاللَّهِ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا. سَلَامَتُهُ مِنَ السَّبَبِ أَيْ مِنَ التَّعَلُّقِ بِهِ. لَا مِنَ الْقِيَامِ بِهِ. وَالْغِنَى عِنْدَ أَهْلِ الْغَفْلَةِ بِالسَّبَبِ. وَلِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِهِ. وَعِنْدَ الْعَارِفِينَ بِالْمُسَبِّبِ. وَكَذَلِكَ الصِّنَاعَةُ وَالْقُوَّةُ. فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ: هِيَ جِهَاتُ الْغِنَى عِنْدَ النَّاسِ. وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ. وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ وَهُوَ غِنًى بِالشَّيْءِ. فَصَاحِبُهَا غَنِيٌّ بِهَا إِذَا سَكَنَتْ نَفْسُهُ إِلَيْهَا. وَإِنْ كَانَ سُكُونُهُ إِلَى رَبِّهِ: فَهُوَ غَنِيٌّ بِهِ. وَكُلُّ مَا سَكَنَتِ النَّفْسُ إِلَيْهِ فَهِيَ فَقِيرَةٌ إِلَيْهِ. وَأَمَّا مُسَالَمَةُ الْحُكْمِ فَعَلَى نَوْعَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مُسَالَمَةُ الْحُكْمِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ. وَهِيَ مُعَانَقَتُهُ وَمُوَافَقَتُهُ. ضِدَّ مُحَارَبَتِهِ.

الدرجة الثانية غنى النفس

وَالثَّانِي: مُسَالَمَةُ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ. الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى دَفْعِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِدَفْعِهِ. وَفِي مُسَالَمَةِ الْحُكْمِ نُكْتَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا. وَهِيَ تَجْرِيدُ إِضَافَتِهِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى مَنْ صَدَرَ عَنْهُ، بِحَيْثُ لَا يَنْسُبُهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَهَذَا يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ فِي مُسَالَمَةِ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ. وَتَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ فِي مُسَالَمَةِ الْحُكْمِ الدِّينِيِّ. وَهُمَا حَقِيقَةُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وَأَمَّا الْخَلَاصُ مِنَ الْخُصُومَةِ فَإِنَّمَا يُحْمَدُ مِنْهُ: الْخَلَاصُ مِنَ الْخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ. وَأَمَّا إِذَا خَاصَمَ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ: فَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي اسْتِفْتَاحِهِ: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ. وَبِكَ آمَنْتُ. وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ. وَبِكَ خَاصَمْتُ. وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ» . [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ غِنَى النَّفْسِ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ. غِنَى النَّفْسِ. وَهُوَ اسْتِقَامَتُهَا عَلَى الْمَرْغُوبِ. وَسَلَامَتُهَا مِنَ الْحُظُوظِ. وَبَرَاءَتُهَا مِنَ الْمُرَاءَاةِ جَعَلَ الشَّيْخُ: غِنَى النَّفْسِ فَوْقَ غِنَى الْقَلْبِ. وَمَعْلُومٌ: أَنَّ أُمُورَ الْقَلْبِ أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ أُمُورِ النَّفْسِ. لَكِنَّ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ نُكْتَةً لَطِيفَةً. وَهِيَ أَنَّ النَّفْسَ مِنْ جُنْدِ الْقَلْبِ وَرَعِيَّتِهِ. وَهِيَ مِنْ أَشَدِّ جُنْدِهِ خِلَافًا عَلَيْهِ، وَشِقَاقًا لَهُ. وَمِنْ قِبَلِهَا تَتَشَوَّشُ عَلَيْهِ الْمَمْلَكَةُ. وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الدَّاخِلُ. فَإِذَا حَصَلَ لَهُ كَمَالٌ بِالْغِنَى: لَمْ يَتِمَّ لَهُ إِلَّا بِغِنَاهَا أَيْضًا. فَإِنَّهَا مَتَى كَانَتْ فَقِيرَةً عَادَ حُكْمُ فَقْرِهَا عَلَيْهِ. وَتَشَوَّشَ عَلَيْهِ غِنَاهُ. فَكَانَ غِنَاهَا تَمَامًا لِغِنَاهُ وَكَمَالًا لَهُ. وَغِنَاهُ أَصْلًا بِغِنَاهَا. فَمِنْهُ يَصِلُ الْغِنَى إِلَيْهَا. وَمِنْهَا يَصِلُ الْفَقْرُ وَالضَّرَرُ وَالْعَنَتُ إِلَيْهِ. إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَالشَّيْخُ جَعَلَ غِنَاهَا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: اسْتِقَامَتُهَا عَلَى الْمَرْغُوبِ وَهُوَ الْحَقُّ تَعَالَى. وَاسْتِقَامَتُهَا عَلَيْهِ: اسْتِدَامَةُ طَلَبِهِ. وَقَطْعُ الْمَنَازِلِ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِ. الثَّانِي: سَلَامَتُهَا مِنَ الْحُظُوظِ وَهِيَ تَعَلُّقَاتُهَا الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ بِمَا سِوَى اللَّهِ. الثَّالِثُ: بَرَاءَتُهَا مِنَ الْمُرَاءَاةِ وَهِيَ إِرَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهَا وَأَقْوَالِهَا. فَمُرَاءَاتُهَا دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ فَقْرِهَا. وَتَعَلُّقُهَا بِالْحُظُوظِ مِنْ فَقْرِهَا أَيْضًا.

فصل الدرجة الثالثة الغنى بالحق

وَعَدَمُ اسْتِقَامَتِهَا عَلَى مَطْلُوبِهَا الْحَقَّ: أَيْضًا مِنْ فَقْرِهَا. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِدَةٍ لِلَّهِ. إِذْ لَوْ وَجَدَتْهُ لَاسْتَقَامَتْ عَلَى السَّيْرِ إِلَيْهِ. وَلَقَطَعَتْ تَعَلُّقَاتِها وَحُظُوظَهَا مِنْ غَيْرِهِ. وَلَمَا أَرَادَتْ بِعَمَلِهَا غَيْرَهُ. فَلَا تَسْتَقِيمُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ إِلَّا لِمَنْ قَدْ ظَفِرَ بِنَفْسِهِ، وَوَجَدَ مَطْلُوبَهُ. وَمَا لَمْ يَجِدْ رَبَّهُ تَعَالَى فَلَا اسْتِقَامَةَ لَهُ. وَلَا سَلَامَةَ لَهَا مِنَ الْحُظُوظِ. وَلَا بَرَاءَةَ لَهَا مِنَ الرِّيَاءِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الْغِنَى بِالْحَقِّ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الْغِنَى بِالْحَقِّ. وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ. الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: شُهُودُ ذِكْرِهِ إِيَّاكَ. وَالثَّانِيَةُ: دَوَامُ مَطَالَعَةِ أَوَّلِيَّتِهِ. وَالثَّالِثَةُ: الْفَوْزُ بِوُجُودِهِ. أَمَّا شُهُودُ ذِكْرِهِ إِيَّاكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَأَمَّا مُطَالَعَةُ أَوَّلِيَّتِهِ فَهُوَ سَبْقُهُ لِلْأَشْيَاءِ جَمِيعًا. فَهُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ. مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَبْلَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: وَأَيُّ غِنًى يَحْصُلُ لِلْقَلْبِ مِنْ مُطَالَعَةِ أَوَّلِيَّةِ الرَّبِّ، وَسَبْقِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا حَاصِلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ، فَمَا وَجْهُ الْغِنَى الْحَاصِلِ بِهِ؟ قُلْتُ: إِذَا شَهِدَ الْقَلْبُ سَبْقَهُ لِلْأَسْبَابِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي حَيِّزِ الْعَدَمِ. وَهُوَ الَّذِي كَسَاهَا حُلَّةَ الْوُجُودِ، فَهِيَ مَعْدُومَةٌ بِالذَّاتِ. فَقِيرَةٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ. وَهُوَ الْمَوْجُودُ بِذَاتِهِ. وَالْغَنِيُّ بِذَاتِهِ لَا بِغَيْرِهِ. فَلَيْسَ الْغِنَى فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا بِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا لَهُ. فَالْغِنَى بِغَيْرِهِ: عَيْنُ الْفَقْرِ. فَإِنَّهُ غِنًى بِمَعْدُومٍ فَقِيرٍ. وَفَقِيرٌ كَيْفَ يَسْتَغْنِي بِفَقِيرٍ مِثْلِهِ؟ وَأَمَّا الْفَوْزُ بِوُجُودِهِ فَإِشَارَةُ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَهُوَ نِهَايَةُ سَفَرِهِمْ. وَفِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ: ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدَتْنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ. وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ. وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَعْنَى وَجُودِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْفَوْزَ بِهِ: فَلْيَحْثُ عَلَى رَأْسِهِ الرَّمَادَ. وَلْيَبْكِ عَلَى نَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل منزلة المراد

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْمُرَادِ] [حَقِيقَةُ الْمُرَادِ] وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْمُرَادِ. أَفْرَدَهَا الْقَوْمُ بِالذِّكْرِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ: فَكُلُّ مُرِيدٍ مُرَادٌ. بَلْ لَمْ يَصِرْ مُرِيدًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُرَادًا. لَكِنَّ الْقَوْمَ خَصُّوا الْمُرِيدَ بِالْمُبْتَدِئِ، وَالْمُرَادَ بِالْمُنْتَهِي. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: الْمُرِيدُ مُتَحَمِّلٌ، وَالْمُرَادُ مَحْمُولٌ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرِيدًا، إِذْ قَالَ: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25] وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادًا، إِذْ قِيلَ لَهُ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] . وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنِ الْمُرِيدِ وَالْمُرَادِ؟ فَقَالَ: الْمُرِيدُ يَتَوَلَّى سِيَاسَتَهُ الْعِلْمُ. وَالْمُرَادُ: يَتَوَلَّى رِعَايَتَهُ الْحَقُّ. لِأَنَّ الْمُرِيدَ يَسِيرُ، وَالْمُرَادَ يَطِيرُ. فَمَتَى يَلْحَقُ السَّائِرُ الطَّائِرَ؟ [فَصْلٌ تَعْرِيفُ الْمُرَادِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": بَابُ الْمُرَادِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86] أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذَا الْعِلْمِ جَعَلُوا الْمُرِيدَ وَالْمُرَادَ اثْنَيْنِ. وَجَعَلُوا مَقَامَ الْمُرَادِ فَوْقَ مَقَامِ الْمُرِيدِ وَإِنَّمَا أَشَارُوا بِاسْمِ الْمُرَادِ إِلَى الضَّنَائِنِ الَّذِينَ وَرَدَ فِيهِمُ الْخَبَرُ. قُلْتُ: وَجْهُ اسْتِشْهَادِهِ بِالْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَلْقَى إِلَى رَسُولِهِ كِتَابَهُ، وَخَصَّهُ بِكَرَامَتِهِ. وَأَهَّلَهُ لِرِسَالَتِهِ وَنُبُوَّتِهِ. مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى رَجَاءٍ، أَوْ نَالَهُ بِكَسْبٍ، أَوْ تَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِعَمَلٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ أُرِيدَ بِهِ. فَهُوَ الْمُرَادُ حَقِيقَةً. وَقَوْلُهُ: إِنْ أَكْثَرَهُمْ جَعَلُوا الْمُرِيدَ وَالْمُرَادَ اثْنَيْنِ فَهُوَ تَعَرُّضٌ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنِ اكْتَفَى عَنْ ذِكْرِ مَقَامِ الْمُرَادِ بِمَنْزِلَةِ الْإِرَادَةِ لِأَنَّ صَاحِبَهَا مُرِيدٌ مُرَادٌ. وَأَمَّا إِشَارَتُهُمْ إِلَى الضَّنَائِنِ

درجات المراد

فَالْمُرَادُ بِهِ: حَدِيثٌ يُرْوَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ ضَنَائِنَ مِنْ خَلْقِهِ. يُحْيِيهِمْ فِي عَافِيَةٍ. وَيُمِيتُهُمْ فِي عَافِيَةٍ» . وَالضَّنَائِنُ: الْخَصَائِصُ. يُقَالُ: هُوَ ضِنَّتِي مِنْ بَيْنِ النَّاسِ - بِكَسْرِ الضَّادِ - أَيِ الَّذِي أَخْتَصُّ بِهِ وَأَضِنُّ بِجُودَتِهِ، أَيْ أَبْخَلُ بِهَا أَنْ أُضَيِّعَهَا. وَقَدْ مَثَّلَ لِلْمُرِيدِ وَالْمُرَادِ بِقَوْمٍ بَعَثَ إِلَيْهِمْ سُلْطَانُهُمْ يَسْتَدْعِيهِمْ إِلَى حَضْرَتِهِ مِنْ بِلَادٍ نَائِيَةٍ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ بِالْأَدِلَّةِ وَالْأَمْوَالِ، وَالْمَرَاكِبِ وَأَنْوَاعِ الزَّادِ. وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَجَشَّمُوا إِلَيْهِ قَطْعَ السُّبُلِ وَالْمَفَاوِزِ. وَأَنْ يَجْتَهِدُوا فِي الْمَسِيرِ حَتَّى يَلْحَقُوا بِهِ. وَبَعَثَ خَيْلًا لَهُ وَمَمَالِيكَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ. فَقَالَ: احْمِلُوهُمْ عَلَى هَذِهِ الْخَيْلِ الَّتِي تَسْبِقُ الرِّكَابَ. وَاخْدُمُوهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ. وَلَا تَدَعُوهُمْ يُعَانُونَ مُؤْنَةَ الشَّدِّ وَالرَّبْطِ، بَلْ إِذَا نَزَلُوا فَأَرِيحُوهُمْ. ثُمَّ احْمِلُوهُمْ حَتَّى تُقَدِّمُوهُمْ عَلَيَّ. فَلَمْ يَجِدْ هَؤُلَاءِ مِنْ مُجَاهَدَةِ السَّيْرِ، وَمُكَابَدَتِهِ، وَوَعْثَاءِ السَّفَرِ مَا وَجَدَهُ غَيْرُهُمْ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْمُرِيدُ يَنْتَقِلُ مِنْ مَنْزِلَةِ الْإِرَادَةِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُرَادًا فَكَانَ مُحِبًّا. فَصَارَ مَحْبُوبًا. فَكُلُّ مُرِيدٍ صَادِقٍ نِهَايَةُ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا. وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى هَذَا. وَصَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " كَأَنَّ عِنْدَهُ الْمُرَادَ هُوَ الْمَجْذُوبُ، وَالْمُرِيدَ هُوَ السَّالِكُ عَلَى طَرِيقِ الْجَادَّةِ. [دَرَجَاتُ الْمُرَادِ] [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الْأُولَى أَنْ يَعْصِمَ الْعَبْدَ] فَصْلٌ قَالَ: وَلِلْمُرَادِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: الْأُولَى: أَنْ يَعْصِمَ الْعَبْدَ. وَهُوَ مُسْتَشْرِفٌ لِلْجَفَاءِ، اضْطِرَارًا بِتَنْغِيصِ الشَّهَوَاتِ، وَتَعْوِيقِ الْمَلَاذِ، وَسَدِّ مَسَالِكِ الْمَعَاطِبِ عَلَيْهِ إِكْرَاهًا. يَعْنِي: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ لِلْجَفَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ - بِمُوَافَقَةِ شَهَوَاتِهِ - عَصَمَهُ سَيِّدُهُ اضْطِرَارًا، بِأَنْ يُنَغِّصَ عَلَيْهِ الشَّهَوَاتِ. فَلَا تَصْفُو لَهُ أَلْبَتَّةَ. بَلْ لَا يَنَالُ مَا يَنَالُ مِنْهَا إِلَّا مَشُوبًا بِأَنْوَاعِ التَّنْغِيصِ، الَّذِي رُبَّمَا أَرْبَى عَلَى لَذَّتِهَا وَاسْتَهْلَكَهَا، بِحَيْثُ تَكُونُ اللَّذَّةُ فِي جَنْبِ التَّنْغِيصِ كَالْخِلْسَةِ وَالْغَفْوَةِ، وَكَذَلِكَ يَعُوقُ الْمَلَاذَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، حَتَّى لَا يَرْكَنَ إِلَيْهَا، وَلَا يَطْمَئِنَّ إِلَيْهَا وَيُسَاكِنَهَا. فَيَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسْبَابِهَا.

فصل الدرجة الثانية أن يضع عن العبد عوارض النقص

فَإِنْ هُيِّئَتْ لَهُ قُيِّضَ لَهُ مُدَافِعٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِيفَائِهَا، فَيَقُولُ: مِنْ أَيْنَ دُهِيتَ؟ وَإِنَّمَا هِيَ عَيْنُ الْعِنَايَةِ وَالْحَمِيَّةِ وَالصِّيَانَةِ. وَكَذَلِكَ يَسُدُّ عَنْهُ طُرُقَ الْمَعَاصِي. فَإِنَّهَا طُرُقُ الْمَعَاطِبِ. وَإِنْ كَانَ كَارِهًا، عِنَايَةً بِهِ، وَصِيَانَةً لَهُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَضَعَ عَنِ الْعَبْدِ عَوَارِضَ النَّقْصِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَضَعَ عَنِ الْعَبْدِ عَوَارِضَ النَّقْصِ وَيُعَافِيَهُ مِنْ سِمَةِ اللَّائِمَةِ. وَيُمَلِّكَهُ عَوَاقِبَ الْهَفَوَاتِ. كَمَا فَعَلَ بِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَتَلَ الْخَيْلَ فَحَمَلَهُ عَلَى الرِّيحِ الرُّخَاءِ. فَأَغْنَاهُ عَنِ الْخَيْلِ. وَفَعَلَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ. وَلَمْ يَعْتِبْ عَلَيْهِ كَمَا عَتَبَ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنُوحٍ، وَدَاوُدَ، وَيُونُسَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ فِي الَّتِي قَبْلَهَا مَنْعًا مِنْ مُوَاقَعَةِ أَسْبَابِ الْجَفَاءِ اضْطِرَارًا. وَفِي هَذِهِ: إِذَا عَرَضَتْ لَهُ أَسْبَابُ النَّقِيصَةِ، الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا اللَّائِمَةَ،

لَمْ يَعْتِبْهُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَلُمْهُ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الدَّلَالِ. وَصَاحِبُهُ مِنْ ضَنَائِنِ اللَّهِ وَأَحْبَابِهِ. فَإِنَّ الْحَبِيبَ يُسَامِحُ بِمَا لَا يُسَامِحُ بِهِ سِوَاهُ. لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ أَكْبَرُ شُفَعَائِهِ. وَإِذَا هَفَا هَفْوَةً مَلَّكَهُ عَاقِبَتَهَا، بِأَنْ جَعَلَهَا سَبَبًا لِرِفْعَتِهِ، وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِ. فَيَجْعَلَ تِلْكَ الْهَفْوَةَ سَبَبًا لِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ. وَذُلٍّ خَاصٍّ، وَانْكِسَارٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ تَزِيدُ فِي قُرْبِهِ مِنْهُ أَضْعَافَ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْهَفْوَةِ. فَتَكُونُ تِلْكَ الْهَفْوَةُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ حَسَنَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَهَذَا مِنْ عَلَامَاتِ اعْتِنَاءِ اللَّهِ بِالْعَبْدِ، وَكَوْنِهِ مِنْ أَحْبَابِهِ وَحِزْبِهِ. وَقَدِ اسْتَشْهَدَ الشَّيْخُ بِقِصَّةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَلْهَتْهُ الْخَيْلُ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ. فَأَخَذَتْهُ الْغَضْبَةُ لِلَّهِ وَالْحَمِيَّةُ. فَحَمَلَتْهُ عَلَى أَنْ مَسَحَ عَرَاقِيبَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسَّيْفِ. وَأَتْلَفَ مَالًا شَغَلَهُ عَنِ اللَّهِ فِي اللَّهِ. فَعَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْهُ: أَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ. فَمَلَّكَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَاقِبَةَ هَذِهِ الْهَفْوَةِ. وَجَعَلَهَا سَبَبًا لِنَيْلِ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ. وَاسْتَشْهَدَ بِقِصَّةِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ - وَفِيهَا كَلَامُ اللَّهِ - عَنْ رَأْسِهِ، وَكَسَرَهَا، وَجَرَّ بِلِحْيَةِ أَخِيهِ. وَهُوَ نَبِيٌّ مِثْلُهُ، وَلَمْ يُعَاتِبْهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا عَتَبَ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَكْلِ لُقْمَةٍ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَعَلَى نُوحٍ فِي ابْنِهِ حِينَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ. وَعَلَى دَاوُدَ فِي شَأْنِ امْرَأَةِ أُورْبَا. وَعَلَى يُونُسَ فِي شَأْنِ الْمُغَاضَبَةِ.

فصل الدرجة الثالثة اجتباء الحق عبده

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: وَكَذَلِكَ لَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا. وَلَمْ يَعْتِبْ عَلَيْهِ رَبُّهُ. وَفِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ عَاتَبَ رَبَّهُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِذْ رَفَعَهُ فَوْقَهُ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِذَلِكَ. وَلَمْ يَعْتِبْهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: لِأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَامَ تِلْكَ الْمَقَامَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُ هَذَا الدِّلَالَ. فَإِنَّهُ قَاوَمَ فِرْعَوْنَ أَكْبَرَ أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَصَدَّى لَهُ وَلِقَوْمِهِ. وَعَالَجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ. وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ أَعْدَاءَ اللَّهِ أَشَدَّ الْجِهَادِ. وَكَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ لِرَبِّهِ، فَاحْتَمَلَ لَهُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ لِغَيْرِهِ. وَذُو النُّونِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْمَقَامِ: سَجَنَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ مِنْ غَضَبِهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدَرًا. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ اجْتِبَاءُ الْحَقِّ عَبْدَهُ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: اجْتِبَاءُ الْحَقِّ عَبْدَهُ. وَاسْتِخْلَاصُهُ إِيَّاهُ بِخَالِصَتِهِ. كَمَا ابْتَدَأَ مُوسَى، وَقَدْ خَرَجَ يَقْتَبِسُ نَارًا، فَاصْطَنَعَهُ لِنَفْسِهِ. وَأَبْقَى مِنْهُ رَسْمًا مُعَارًا. قُلْتُ: الِاجْتِبَاءُ الِاصْطِفَاءُ، وَالْإِيثَارُ. وَالتَّخْصِيصُ. وَهُوَ افْتِعَالُ مِنْ جَبَيْتُ الشَّيْءَ: إِذَا حُزْتَهُ وَأَحْرَزْتَهُ إِلَيْكَ. كَجِبَايَةِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ. وَالِاصْطِنَاعُ أَيْضًا الِاصْطِفَاءُ، وَالِاخْتِيَارُ، يَعْنِي أَنَّهُ اصْطَفَى مُوسَى وَاسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ. وَجَعَلَهُ خَالِصًا لَهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ كَانَ مِنْ مُوسَى، وَلَا وَسِيلَةٍ. فَإِنَّهُ خَرَجَ لِيَقْتَبِسَ النَّارَ. فَرَجَعَ وَهُوَ كَلِيمُ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، ابْتِدَاءً مِنْهُ سُبْحَانَهُ، مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ اسْتِحْقَاقٍ، وَلَا تَقَدُّمِ وَسِيلَةٍ. وَفِي مِثْلِ هَذَا قِيلَ: أَيُّهَا الْعَبْدُ، كُنْ لِمَا لَسْتَ تَرْجُو ... مِنْ صَلَاحٍ أَرْجَى لِمَا أَنْتَ رَاجِي إِنَّ مُوسَى أَتَى لِيَقْبِسَ نَارًا ... مِنْ ضِياءٍ رَآهُ وَالْلَيْلُ دَاجِي فَانْثَنَى رَاجِعًا، وَقَدْ كَلَّمَهُ الْلَّ ... هُ، وَنَاجَاهُ وَهْوَ خَيْرُ مُنَاجِي وَقَوْلُهُ: وَأَبْقَى مِنْهُ رَسْمًا مُعَارًا. يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالرَّسْمِ: الْبَقِيَّةَ الَّتِي تَقَدَّمَ بِهَا عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُفِعَ فَوْقَهُ بِدَرَجَاتٍ لِأَجْلِ بَقَائِهَا مِنْهُ.

وَيُحْتَمَلُ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ - أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَاصْطَنَعَهُ لِنَفْسِهِ. وَاخْتَارَهُ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ. وَخَصَّهُ بِكَلَامِهِ، وَلَمْ يُبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا رَسْمًا مُجَرَّدًا يَصْحَبُ بِهِ الْخَلْقَ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَشَرِيَّةِ. إِتْمَامًا لِحِكْمَتِهِ، وَإِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ. فَهُوَ عَارِيَةٌ مَعَهُ. فَإِذَا قَضَى مَا عَلَيْهِ: اسْتَرَدَّ ذَلِكَ الرَّسْمَ. وَجَعَلَهُ مِنْ مَالِهِ. فَتَكَمَّلَتْ إِذْ ذَاكَ مَرْتَبَةُ الِاجْتِبَاءِ. ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، حَقِيقَةً وَرَسْمًا، وَرَجَعَتِ الْعَارِيَةُ إِلَى مَالِكِهَا الْحَقِّ، الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ. فَكَمَا ابْتَدَأَتْ مِنْهُ عَادَتْ إِلَيْهِ. وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَ فِي مَظْهَرِ الْجَلَالِ، وَلِهَذَا كَانَتْ شَرِيعَتُهُ شَرِيعَةَ جَلَالٍ وَقَهْرٍ. أُمِرُوا بِقَتْلِ نُفُوسِهِمْ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، وَذَوَاتُ الظُّفُرِ وَغَيْرُهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الْغَنَائِمُ. وَعُجِّلَ لَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ مَا عُجِّلَ وَحُمِّلُوا مِنَ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ، مَا لَمْ يَحْمِلْهُ غَيْرُهُمْ. وَكَانَ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَعْظَمِ خَلْقِ اللَّهِ هَيْبَةً وَوَقَارًا. وَأَشَدِّهِمْ بَأْسًا وَغَضَبًا لِلَّهِ، وَبَطْشًا بِأَعْدَاءِ اللَّهِ، وَكَانَ لَا يُسْتَطَاعُ النَّظَرُ إِلَيْهِ. وَعِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ فِي مَظْهَرِ الْجَمَالِ. وَكَانَتْ شَرِيعَتُهُ شَرِيعَةَ فَضْلٍ وَإِحْسَانٍ. وَكَانَ لَا يُقَاتِلُ، وَلَا يُحَارِبُ. وَلَيْسَ فِي شَرِيعَتِهِ قِتَالٌ أَلْبَتَّةَ. وَالنَّصَارَى يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ دِينُهُمُ الْقِتَالَ. وَهُمْ بِهِ عُصَاةٌ لِشَرْعِهِ. فَإِنَّ الْإِنْجِيلَ يَأْمُرُهُمْ فِيهِ: أَنَّ مِنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الْأَيْمَنِ، فَأَدِرْ لَهُ خَدَّكَ الْأَيْسَرَ. وَمَنْ نَازَعَكَ ثَوْبَكَ. فَأَعْطِهِ رِدَاءَكَ. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا. فَامْشِ مَعَهُ مِيلَيْنِ. وَنَحْوَ هَذَا. وَلَيْسَ فِي شَرِيعَتِهِمْ مَشَقَّةٌ، وَلَا آصَارٌ، وَلَا أَغْلَالٌ، وَإِنَّمَا النَّصَارَى ابْتَدَعُوا تِلْكَ الرَّهْبَانِيَّةَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ. وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَكَانَ فِي مَظْهَرِ الْكَمَالِ، الْجَامِعِ لِتِلْكَ الْقُوَّةِ وَالْعَدْلِ، وَالشِّدَّةِ فِي اللَّهِ. وَهَذَا اللِّينِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَشَرِيعَتُهُ أَكْمَلُ الشَّرَائِعِ. فَهُوَ نَبِيُّ الْكَمَالِ، وَشَرِيعَتُهُ شَرِيعَةُ الْكَمَالِ. وَأُمَّتُهُ أَكْمَلُ الْأُمَمِ. وَأَحْوَالُهُمْ وَمَقَامَاتُهُمْ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ. وَلِذَلِكَ تَأْتِي شَرِيعَتُهُ بِالْعَدْلِ إِيجَابًا لَهُ وَفَرْضًا. وَبِالْفَضْلِ نَدْبًا إِلَيْهِ وَاسْتِحْبَابًا. وَبِالشِّدَّةِ فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ. وَبِاللِّينِ فِي مَوْضِعِ اللِّينِ. وَوُضِعَ السَّيْفُ مَوْضِعَهُ. وَوُضِعَ النَّدَى مَوْضِعَهُ. فَيَذْكُرَ الظُّلْمَ. وَيُحَرِّمَهُ. وَالْعَدْلَ وَيُوجِبُهُ. وَالْفَضْلَ وَيَنْدُبُ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ آيَاتٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فَهَذَا عَدْلٌ {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] فَهَذَا فَضْلٌ

فصل منزلة الإحسان

{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] فَهَذَا تَحْرِيمٌ لِلظُّلْمِ. وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] فَهَذَا إِيجَابٌ لِلْعَدْلِ، وَتَحْرِيمٌ لِلظُّلْمِ {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] نَدَبَ إِلَى الْفَضْلِ. وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] تَحْرِيمٌ لِلظُّلْمِ. {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] عَدْلٌ. {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280] فَضْلٌ. وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ صِيَانَةً وَحِمْيَةً. حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ خَبِيثٍ وَضَارٍّ، وَأَبَاحَ لَهُمْ كُلُّ طَيِّبٍ وَنَافِعٍ. فَتَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ، وَعَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ لَمْ يَخْلُ مِنْ عُقُوبَةٍ. وَهَدَاهُمْ لِمَا ضَلَّتْ عَنْهُ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ. وَوَهَبَ لَهُمْ مِنْ عِلْمِهِ وَحِلْمِهِ. وَجَعَلَهُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. وَكَمَّلَ لَهُمْ مِنَ الْمَحَاسِنِ مَا فَرَّقَهُ فِي الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ. كَمَا كَمَّلَ نَبِيَّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَحَاسِنِ بِمَا فَرَّقَهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ. وَكَمَّلَ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْمَحَاسِنِ بِمَا فَرَّقَهَا فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ. وَكَذَلِكَ فِي شَرِيعَتِهِ. فَهَؤُلَاءِ الضَّنَائِنُ وَهُمُ الْمُجْتَبُونَ الْأَخْيَارُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وَجَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ. فَأَقَامَهُمْ فِي ذَلِكَ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ الشَّاهِدِينَ عَلَى أُمَمِهِمْ. وَتَفْصِيلُ تَفْضِيلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَخَصَائِصِهَا يَسْتَدْعِي سِفْرًا. بَلْ أَسْفَارًا. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْإِحْسَانِ] [حَقِيقَةُ الْإِحْسَانِ] فَصْلٌ [مَنْزِلَةُ الْإِحْسَانِ] وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْإِحْسَانِ. وَهِيَ لُبُّ الْإِيمَانِ، وَرُوحُهُ وَكَمَالُهُ، وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةُ تَجْمَعُ جَمِيعَ الْمَنَازِلِ. فَجَمِيعُهَا مُنْطَوِيَةٌ فِيهَا. وَكُلُّ مَا قِيلَ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إِلَى هَاهُنَا فَهُوَ مِنَ الْإِحْسَانِ. قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدِ اسْتَشْهَدَ عَلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

درجات الإحسان

{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] . فَالْإِحْسَانُ: جَامِعٌ لِجَمِيعِ أَبْوَابِ الْحَقَائِقِ. وَهُوَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. أَمَّا الْآيَةُ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمُفَسِّرُونَ: هَلْ جَزَاءُ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَعَمَلَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْجَنَّةُ؟ . وَقَدْ «رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: يَقُولُ: هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَنْعَمْتُ عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ إِلَّا الْجَنَّةُ؟» . وَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَإِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمُرَاقَبَتِهِ الْجَامِعَةِ لِخَشْيَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَلِجَمِيعِ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ. [دَرَجَاتُ الْإِحْسَانِ] [الدَّرَجَةُ الْأَوْلَى الْإِحْسَانُ فِي الْقَصْدِ بِتَهْذِيبِهِ عِلْمًا] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الْإِحْسَانُ فِي الْقَصْدِ بِتَهْذِيبِهِ عِلْمًا، وَإِبْرَامِهِ عَزْمًا، وَتَصْفِيَتِهِ حَالًا. يَعْنِي: إِحْسَانُ الْقَصْدِ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: تَهْذِيبُهُ عِلْمًا، بِأَنْ يَجْعَلَهُ تَابِعًا لِلْعِلْمِ عَلَى مُقْتَضَاهُ مُهَذَّبًا بِهِ. مُنَقًّى مِنْ شَوَائِبِ الْحُظُوظِ، فَلَا يَقْصِدُ إِلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْعِلْمِ. وَالْعِلْمُ هُوَ اتِّبَاعُ الْأَمْرِ وَالشَّرْعِ. وَالثَّانِي: إِبْرَامُهُ عَزْمًا. وَالْإِبْرَامُ: الْإِحْكَامُ وَالْقُوَّةُ. أَيْ يُقَارِنُهُ عَزْمٌ يُمْضِيهِ، وَلَا يَصْحَبُهُ فُتُورٌ وَتَوَانٍ يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ. الثَّالِثُ: تَصْفِيَتُهُ حَالًا. أَيْ يَكُونُ حَالُ صَاحِبِهِ صَافِيًا مِنَ الْأَكْدَارِ وَالشَّوَائِبِ، الَّتِي تَدُلُّ عَلَى كَدَرِ قَصْدِهِ. فَإِنَّ الْحَالَ مَظْهَرُ الْقَصْدِ وَثَمَرَتُهُ. وَهُوَ أَيْضًا مَادَّتُهُ وَبَاعِثُهُ. فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْفَعِلُ عَنِ الْآخَرِ. فَصَفَاؤُهُ وَتَخْلِيصُهُ مِنْ تَمَامِ صَفَاءِ الْآخَرِ وَتَخْلِيصِهِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الْإِحْسَانُ فِي الْأَحْوَالِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِحْسَانُ فِي الْأَحْوَالِ. وَهُوَ أَنْ تُرَاعِيَهَا غَيْرَةً. وَتَسْتُرَهَا

تَظَرُّفًا، وَتُصَحِّحَهَا تَحَقِيقًا. يُرِيدُ بِمُرَاعَاتِهَا: حِفْظَهَا وَصَوْنَهَا، غَيْرَةً عَلَيْهَا أَنْ تَحُولَ. فَإِنَّهَا تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ. فَإِنْ لَمْ يَرْعَ حُقُوقَهَا حَالَتْ. وَمُرَاعَاتُهَا: بِدَوَامِ الْوَفَاءِ، وَتَجَنُّبِ الْجَفَاءِ. وَيُرَاعِيهَا أَيْضًا بِإِكْرَامِ نُزُلِهَا. فَإِنَّهَا ضَيْفٌ. وَالضَّيْفُ إِنْ لَمْ تُكَرِمْ نُزُلَهُ ارْتَحَلَ. وَيُرَاعِيهَا أَيْضًا بِضَبْطِهَا مَلَكَةً. وَشَدِّ يَدِهِ عَلَيْهَا، وَأَنْ لَا يَسْمَحَ بِهَا لِقَاطِعِ طَرِيقٍ وَلَا نَاهِبٍ. وَيُرَاعِيهَا أَيْضًا: بِالِانْقِيَادِ إِلَى حُكْمِهَا، وَالْإِذْعَانِ لِسُلْطَانِهَا إِذَا وَافَقَ الْأَمْرَ. وَيُرَاعِيهَا أَيْضًا: بِسَتْرِهَا تَظَرُّفًا، وَهُوَ أَنْ يَسْتُرَهَا عَنِ النَّاسِ مَا أَمْكَنَهُ. لِئَلَّا يَعْلَمُوا بِهَا. وَلَا يُظْهِرَهَا إِلَّا لِحُجَّةٍ. أَوْ حَاجَةٍ، أَوْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ. فَإِنَّ فِي إِظْهَارِهَا بِدُونِ ذَلِكَ آفَاتٍ عَدِيدَةً. مَعَ تَعْرِيضِهَا لِلُّصُوصِ وَالسُّرَّاقِ وَالْمُغِيرِينَ. وَإِظْهَارُ الْحَالِ لِلنَّاسِ عِنْدَ الصَّادِقِينَ: حُمْقٌ وَعَجْزٌ. وَهُوَ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ. وَأَهْلُ الصِّدْقِ وَالْعَزْمِ لَهَا أَسْتَرُ، وَأَكْتَمُ مِنْ أَرْبَابِ الْكُنُوزِ مِنَ الْأَمْوَالِ لِأَمْوَالِهِمْ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ أَضْدَادَهَا نَفْيًا وَجَحْدًا. وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَلَامَتِيَّةِ، وَلَهُمْ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَكَانَ شَيْخُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَنَازِلَ. وَاتَّفَقَتِ الطَّائِفَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَطْلَعَ النَّاسَ عَلَى حَالِهِ مَعَ اللَّهِ: فَقَدْ دَنَّسَ طَرِيقَتَهُ. إِلَّا لِحُجَّةٍ أَوْ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ. وَقَوْلُهُ: وَتَصْحِيحُهَا تَحْقِيقًا أَيْ يَجْتَهِدُ فِي تَحْقِيقِ أَحْوَالِهِ، وَتَصْحِيحِهَا وَتَخْلِيصِهَا. فَإِنَّ الْحَالَ قَدْ يَمْتَزِجُ بِحَقٍّ وَبَاطِلٍ. وَلَا يُمَيِّزُهُ إِلَّا أُولُو الْبَصَائِرِ وَالْعِلْمِ. وَأَهْلُ هَذِهِ الطَّرِيقِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَارِدَ الَّذِي يَبْتَدِئُ الْعَبْدُ مِنْ جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ وَالْهَوَاتِفَ وَالْخِطَابَ: يَكُونُ فِي الْغَالِبِ حَقًّا. وَالَّذِي يَبْتَدِئُ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ: يَكُونُ فِي الْغَالِبِ بَاطِلًا وَكَذِبًا. فَإِنَّ أَهْلَ الْيَمِينِ: هُمْ أَهْلُ الْحَقِّ. وَبِأَيْمَانِهِمْ يَأْخُذُونَ كُتُبَهُمْ. وَنُورُهُمُ الظَّاهِرُ عَلَى الصِّرَاطِ بِأَيْمَانِهِمْ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ، وَطَهُورِهِ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ. وَاللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ

الصُّفُوفِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ. وَحَظُّهُ مِنِ ابْنِ آدَمَ جِهَةُ الشِّمَالِ. وَلِهَذَا تَكُونُ الْيَدُ الشِّمَالِ لِلِاسْتِجْمَارِ، وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَالْأَذَى. وَيُبْدَأُ بِالرِّجْلِ الشِّمَالِ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ. وَمِنَ الْفُرْقَانِ أَيْضًا: أَنَّ كُلَّ وَارِدٍ يَبْقَى الْإِنْسَانُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ نَشِيطًا مَسْرُورًا نَشْوَانًا: فَإِنَّهُ وَارِدٌ مَلَكِيٌّ، وَكُلُّ وَارِدٍ يُبْقِي الْإِنْسَانَ بَعْدَ انْفِصَالِهِ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ، ثَقِيلَ الْأَعْضَاءِ وَالرُّوحِ، يَجْنَحُ إِلَى فُتُورٍ - فَهُوَ وَارِدٌ شَيْطَانِيٌّ. وَمِنَ الْفُرْقَانِ أَيْضًا: أَنَّ كُلَّ وَارِدٍ أَعْقَبَ صَاحِبُهُ تَقَدُّمًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَحُضُورًا فِيهَا، حَتَّى كَأَنَّهُ يُشَاهِدُ الْجَنَّةَ قَدْ أُزْلِفَتْ، وَالْجَحِيمَ قَدْ سُعِّرَتْ - فَهُوَ إِلَهِيٌّ مَلَكِيٌّ، وَخِلَافُهُ شَيْطَانِيٌّ نَفْسَانِيٌّ. وَمِنَ الْفُرْقَانِ أَيْضًا: أَنَّ كُلَّ وَارِدٍ كَانَ سَبَبُهُ النَّصِيحَةَ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَالْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ فِيهِ - فَهُوَ إِلَهِيٌّ مَلَكِيٌّ. وَإِلَّا فَهُوَ شَيْطَانِيٌّ. وَمِنَ الْفُرْقَانِ أَيْضًا: أَنَّ كُلَّ وَارِدٍ اسْتَنَارَ بِهِ الْقَلْبُ، وَانْشَرَحَ لَهُ الصَّدْرُ، وَقَوِيَ بِهِ

فصل الدرجة الثالثة الإحسان في الوقت

الْقَلْبُ - إِلَهِيٌّ مَلَكِيٌّ. وَإِلَّا فَهُوَ شَيْطَانِيٌّ. وَمِنَ الْفُرْقَانِ أَيْضًا: أَنَّ كُلَّ وَارِدٍ جَمَعَكَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ مِنْهُ. وَكُلَّ وَارِدٍ فَرَّقَكَ عَنْهُ، وَأَخَذَكَ عَنْهُ: فَمِنَ الشَّيْطَانِ. وَمِنَ الْفُرْقَانِ أَيْضًا: أَنَّ الْوَارِدَ الْإِلَهِيِّ لَا يُصْرَفُ إِلَّا فِي قُرْبَةٍ وَطَاعَةٍ، وَلَا يَكُونُ سَبَبُهُ إِلَّا قُرْبَةً وَطَاعَةً، فَمُسْتَخْرِجُهُ الْأَمْرُ. وَمُصَرِّفُهُ الْأَمْرُ، وَالشَّيْطَانِيُّ بِخِلَافِهِ. وَمِنَ الْفُرْقَانِ أَيْضًا: أَنَّ الْوَارِدَ الرَّحْمَانِيَّ لَا يَتَنَاقَضُ، وَلَا يَتَفَاوَتُ وَلَا يَخْتَلِفُ. بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَالشَّيْطَانِيَّ بِخِلَافِهِ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الْإِحْسَانُ فِي الْوَقْتِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِحْسَانُ فِي الْوَقْتِ. وَهُوَ أَنْ لَا تُزَايِلَ الْمُشَاهَدَةَ أَبَدًا. وَلَا تَخْلِطَ بِهِمَّتِكَ أَحَدًا. وَتَجْعَلَ هِجْرَتَكَ إِلَى الْحَقِّ سَرْمَدًا. أَيْ لَا تُفَارِقُ حَالَ الشُّهُودِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَهْلُ التَّمَكُّنِ الَّذِينَ ظَفِرُوا بِنُفُوسِهِمْ وَقَطَعُوا الْمَسَافَاتِ الَّتِي بَيْنَ النَّفْسِ وَبَيْنَ الْقَلْبِ. وَالْمَسَافَاتِ الَّتِي بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّهِ، بِمُجَاهِدَةِ الْقُطَّاعِ الَّتِي عَلَى تِلْكَ الْمَسَافَاتِ. قَوْلُهُ: وَلَا تَخْلِطَ بِهِمَّتِكَ أَحَدًا. يَعْنِي: أَنْ تُعَلِّقَ هِمَّتَكَ بِالْحَقِّ وَحْدَهُ. وَلَا تُعَلِّقَ هِمَّتَكَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ فِي طَرِيقِ الصَّادِقِينَ. قَوْلُهُ: وَأَنْ تَجْعَلَ هِجْرَتَكَ إِلَى الْحَقِّ سَرْمَدًا. يَعْنِي: أَنَّ كُلَّ مُتَوَجِّهٍ إِلَى اللَّهِ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ. فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ هَذِهِ الْهِجْرَةِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَصْحَبَهَا سَرْمَدًا. حَتَّى يَلْحَقَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَةٌ. ثُمَّ تَنْقَضِي ... وَيَحْمَدُ غِبَّ السَّيْرِ مَنْ هُوَ سَائِرٌ وَلِلَّهِ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ هِجْرَتَانِ. وَهُمَا فَرْضٌ لَازِمٌ لَهُ عَلَى الْأَنْفَاسِ: هِجْرَةٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ، وَالْإِنَابَةِ وَالْحُبِّ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْعُبُودِيَّةِ.

فصل منزلة العلم

وَهِجْرَةٌ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِالتَّحْكِيمِ لَهُ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ، وَالِانْقِيَادِ لِحُكْمِهِ، وَتَلَقِّي أَحْكَامِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مِنْ مِشْكَاتِهِ. فَيَكُونُ تَعَبُّدُهُ بِهِ أَعْظَمَ مِنْ تَعَبُّدِ الرَّكْبِ بِالدَّلِيلِ الْمَاهِرِ فِي ظُلَمِ اللَّيْلِ، وَمَتَاهَاتِ الطَّرِيقِ. فَمَا لَمْ يَكُنْ لِقَلْبِهِ هَاتَانِ الْهِجْرَتَانِ فَلْيَحْثُ عَلَى رَأْسِهِ الرَّمَادَ. وَلْيُرَاجِعِ الْإِيمَانَ مِنْ أَصْلِهِ. فَيَرْجِعَ وَرَاءَهُ لِيَقْتَبِسَ نُورًا، قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَيُقَالَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الصِّرَاطِ مِنْ وَرَاءِ السُّورِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْعِلْمِ] [حَقِيقَةُ الْعِلْمِ وَالْأَقْوَالِ فِيهِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْعِلْمِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْعِلْمِ. وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةُ إِنْ لَمْ تَصْحَبِ السَّالِكَ مِنْ أَوَّلِ قَدَمٍ يَضَعُهُ فِي الطَّرِيقِ إِلَى آخِرِ قَدَمٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ: فَسُلُوكُهُ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ. وَهُوَ مَقْطُوعٌ عَلَيْهِ طَرِيقُ الْوُصُولِ، مَسْدُودٌ عَلَيْهِ سُبُلُ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ، مُغْلَقَةٌ عَنْهُ أَبْوَابُهَا. وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الشُّيُوخِ الْعَارِفِينَ. وَلَمْ يَنْهَ عَنْ الْعِلْمِ إِلَّا قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مِنْهُمْ، وَنُوَّابُ إِبْلِيسَ وَشُرَطُهُ. قَالَ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ وَشَيْخُهُمُ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: الطُّرُقُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ إِلَّا عَلَى مَنِ اقْتَفَى آثَارَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ، لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، لِأَنَّ عِلْمَنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ: مَذْهَبُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِأُصُولِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ لَمْ يَزِنْ أَفْعَالَهُ وَأَحْوَالَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَلَمْ يَتَّهِمْ خَوَاطِرَهُ. فَلَا يُعَدُّ فِي دِيوَانِ الرِّجَالِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: رُبَّمَا يَقَعُ فِي قَلْبِيَ النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ أَيْامًا. فَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ: الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ اقْتِدَاءٍ - طَاعَةً كَانَ أَوْ مَعْصِيَةً - فَهُوَ عَيْشُ النَّفْسِ، وَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ بِالِاقْتِدَاءِ: فَهُوَ عَذَابٌ عَلَى النَّفْسِ. وَقَالَ السَّرِيُّ: التَّصَوُّفُ اسْمٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: لَا يُطْفِئُ نُورَ مَعْرِفَتِهِ نُورُ وَرَعِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ بِبَاطِنٍ فِي عِلْمٍ يَنْقُضُهُ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكِتَابِ، وَلَا تَحْمِلُهُ الْكَرَامَاتُ عَلَى هَتْكِ أَسْتَارِ مَحَارِمِ اللَّهِ.

وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ: عَمِلْتُ فِي الْمُجَاهَدَةِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَا وَجَدْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنَ الْعِلْمِ وَمُتَابَعَتِهِ، وَلَوْلَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ لَبَقِيتُ، وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ، إِلَّا فِي تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ. وَقَالَ مَرَّةً لِخَادِمِهِ: قُمْ بِنَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي قَدْ شَهَّرَ نَفْسَهُ بِالصَّلَاحِ لِنَزُورَهُ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَيْهِ الْمَسْجِدَ تَنَخَّعَ. ثُمَّ رَمَى بِهَا نَحْوَ الْقِبْلَةِ، فَرَجَعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ: هَذَا غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَأْمُونًا عَلَى مَا يَدَّعِيهِ؟ وَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنِي مُؤْنَةَ النِّسَاءِ. ثُمَّ قُلْتُ: كَيْفَ يَجُوزُ لِي أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ هَذَا؟ وَلَمْ يَسْأَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَلَمْ أَسْأَلْهُ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ كَفَانِي مُؤْنَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى لَا أُبَالِيَ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ أَوْ حَائِطٌ. وَقَالَ: لَوْ نَظَرْتُمْ إِلَى رَجُلٍ أُعْطِيَ مِنَ الْكَرَامَاتِ إِلَى أَنْ يَرْتَفِعَ فِي الْهَوَاءِ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ، حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَحِفْظِ الْحُدُودِ، وَأَدَاءِ الشَّرِيعَةِ؟ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحِوَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ عَمِلَ عَمَلًا بِلَا اتِّبَاعِ سُنَّةٍ، فَبَاطِلٌ عَمَلُهُ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الصُّحْبَةُ مَعَ اللَّهِ: بِحُسْنِ الْأَدَبِ، وَدَوَامِ الْهَيْبَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَلُزُومِ ظَاهِرِ الْعِلْمِ. وَمَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ: بِالِاحْتِرَامِ وَالْخِدْمَةِ. وَمَعَ الْأَهْلِ: بِحُسْنِ الْخُلُقِ. وَمَعَ الْإِخْوَانِ: بِدَوَامِ الْبِشْرِ. مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا. وَمَعَ الْجُهَّالِ: بِالدُّعَاءِ لَهُمْ وَالرَّحْمَةِ. زَادَ غَيْرُهُ: وَمَعَ الْحَافِظِينَ: بِإِكْرَامِهِمَا وَاحْتِرَامِهِمَا، وَإِمْلَائِهِمَا مَا يَحْمَدَانِكَ عَلَيْهِ. وَمَعَ النَّفْسِ: بِالْمُخَالَفَةِ. وَمَعَ الشَّيْطَانِ: بِالْعَدَاوَةِ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ أَيْضًا: مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا: نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا: نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] . وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ: مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَدَّعِي مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَالَةً تُخْرِجُهُ عَنْ

حَدِّ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَلَا تَقْرَبُوا مِنْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ مِنْ مَشَايِخِ الْقَوْمِ الْكِبَارِ: ذَهَابُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَرْبَعَةٍ: لَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَلَا يَتَعَلَّمُونَ مَا يَعْمَلُونَ، وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنَ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْمَكِّيُّ: الْعِلْمُ قَائِدٌ. وَالْخَوْفُ سَائِقٌ. وَالنَّفْسُ حَرُونٌ بَيْنَ ذَلِكَ، جُمُوحٌ خَدَّاعَةٌ رَوَّاغَةٌ. فَاحْذَرْهَا وَرَاعِهَا بِسِيَاسَةِ الْعِلْمِ. وَسُقْهَا بِتَهْدِيدِ الْخَوْفِ: يَتِمُّ لَكَ مَا تُرِيدُ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: كُلُّ بَاطِنٍ يُخَالِفُهُ الظَّاهِرُ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ آدَابَ السُّنَّةِ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ. لَا مَقَامَ أَشْرَفَ مِنْ مَقَامِ مُتَابَعَةِ الْحَبِيبِ فِي أَوَامِرِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ. وَقَالَ: كُلُّ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ فَاطْلُبْهُ فِي مَفَازَةِ الْعِلْمِ. فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَفِي مَيْدَانِ الْحِكْمَةِ. فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَزِنْهُ بِالتَّوْحِيدِ. فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ فَاضْرِبْ بِهِ وَجْهَ الشَّيْطَانِ. وَأُلْقِيَ بَنَانٌ الْحَمَّالُ بَيْنَ يَدَيِ السَّبُعِ. فَجَعَلَ السَّبُعُ يَشَمُّهُ لَا يَضُرُّهُ فَلَمَّا أُخْرِجَ قِيلَ لَهُ: مَا الَّذِي كَانَ فِي قَلْبِكَ حِينَ شَمَّكَ السَّبُعُ؟ قَالَ: كُنْتُ أَتَفَكَّرُ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي سُؤْرِ السِّبَاعِ.

وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الْبَغْدَادِيُّ - مِنْ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَقُولُ لَهُ فِي الْمَسَائِلِ: مَا تَقُولُ يَا صُوفِيُّ - مَنْ عَلِمَ طَرِيقَ الْحَقِّ سَهُلَ عَلَيْهِ سُلُوكُهُ. وَلَا دَلِيلَ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى اللَّهِ إِلَّا مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَمَرَّ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْوَاسِطِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجَامِعِ. فَانْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِهِ. فَأَصْلَحَهُ لَهُ رَجُلٌ صَيْدَلَانِيٌّ. فَقَالَ: تَدْرِي لِمَ انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِي؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: لِأَنِّي مَا اغْتَسَلْتُ لِلْجُمُعَةِ. فَقَالَ: هَاهُنَا حَمَّامٌ تَدْخُلُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَدَخَلَ وَاغْتَسَلَ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الرَّقِّيُّ، مِنْ أَقْرَانِ الْجُنَيْدِ: عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ: إِيثَارُ طَاعَتِهِ، وَمُتَابَعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ: أَفْضَلُ الْأَحْوَالِ: مَا قَارَنَ الْعِلْمَ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ النَّصْرَابَاذِيُّ شَيْخُ خُرَاسَانَ فِي وَقْتِهِ: أَصْلُ التَّصَوُّفِ مُلَازَمَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَتَرْكُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ. وَتَعْظِيمُ كَرَامَاتِ الْمَشَايِخِ، وَرُؤْيَةُ أَعْذَارِ الْخَلْقِ، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْأَوْرَادِ، وَتَرْكُ ارْتِكَابِ الرُّخَصِ وَالتَّأْوِيلَاتِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الطَّمِسْتَانِيُّ - مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الطَّائِفَةِ -: الطَّرِيقُ وَاضِحٌ وَالْكِتَابُ

شرف العلم وفضله

وَالسُّنَّةُ قَائِمٌ بَيْنَ أَظْهُرِنَا. وَفَضْلُ الصَّحَابَةِ مَعْلُومٌ، لِسَبْقِهِمْ إِلَى الْهِجْرَةِ وَلِصُحْبَتِهِمْ، فَمَنْ صَحِبَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَتَغَرَّبَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْخَلْقِ، وَهَاجَرَ بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ: فَهُوَ الصَّادِقُ الْمُصِيبُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ: كُلُّ حَالٍ لَا يَكُونُ عَنْ نَتِيجَةِ عِلْمٍ فَإِنَّ ضَرَرَهُ عَلَى صَاحِبِهِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ. وَقَالَ: التَّصَوُّفُ: الصَّبْرُ تَحْتَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. وَكَانَ بَعْضُ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ الْمُتَقَدِّمِينَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الصُّوفِيَّةِ، لَا تُفَارِقُوا السَّوَادَ فِي الْبَيَاضِ تَهْلِكُوا. [شَرَفُ الْعِلْمِ وَفَضْلُهُ] وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُرْوَى عَنْ بَعْضِهِمْ: مِنَ التَّزْهِيدِ فِي الْعِلْمِ، وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ. كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: نَحْنُ نَأْخُذُ عِلْمَنَا مِنَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَأَنْتُمْ تَأْخُذُونَهُ مِنْ حَيٍّ يَمُوتُ. وَقَوْلِ الْآخَرِ - وَقَدْ قِيلَ لَهُ: أَلَا تَرْحَلُ حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ - فَقَالَ: مَا يَصْنَعُ بِالسَّمَاعِ مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، مَنْ يَسْمَعُ مِنَ الْخَلَّاقِ؟ وَقَوْلِ الْآخَرِ: الْعِلْمُ حِجَابٌ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَوْلِ الْآخَرِ: لَنَا عِلْمُ الْحَرْفِ. وَلَكُمْ عِلْمُ الْوَرَقِ. وَنَحْوِ هَذَا مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي أَحْسَنُ أَحْوَالِ قَائِلِهَا: أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ، أَوْ شَاطِحًا مُعْتَرَفًا بِشَطْحِهِ، وَإِلَّا فَلَوْلَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَمْثَالُهُ، وَلَوْلَا أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا لَمَا وَصَلَ إِلَى هَذَا وَأَمْثَالِهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ.

وَمَنْ أَحَالَكَ عَلَى غَيْرِ أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا فَقَدْ أَحَالَكَ: إِمَّا عَلَى خَيَالِ صُوفِيٍّ، أَوْ قِيَاسِ فَلْسَفِيٍّ. أَوْ رَأْيِ نَفْسِيٍّ. فَلَيْسَ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَأَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا إِلَّا شُبَهَاتُ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَآرَاءُ الْمُنْحَرِفِينَ، وَخَيَالَاتُ الْمُتَصَوِّفِينَ، وَقِيَاسُ الْمُتَفَلْسِفِينَ. وَمَنْ فَارَقَ الدَّلِيلَ، ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. وَلَا دَلِيلَ إِلَى اللَّهِ وَالْجَنَّةِ، سِوَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَكُلُّ طَرِيقٍ لَمْ يَصْحَبْهَا دَلِيلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَهِيَ مِنْ طُرُقِ الْجَحِيمِ، وَالشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَالْعِلْمُ مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَالنَّافِعُ مِنْهُ: مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَالْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْحَالِ: الْعِلْمُ حَاكِمٌ. وَالْحَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. وَالْعِلْمُ هَادٍ. وَالْحَالُ تَابِعٌ. وَالْعِلْمُ آمِرٌ نَاهٍ. وَالْحَالُ مَنْفَذٌ قَابِلٌ، وَالْحَالُ سَيْفٌ، إِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ الْعِلْمُ فَهُوَ مِخْرَاقٌ فِي يَدِ لَاعِبٍ. الْحَالُ مَرْكِبٌ لَا يُجَارَى. فَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ عِلْمٌ أَلْقَى صَاحِبَهُ فِي الْمَهَالِكِ وَالْمَتَالِفِ. وَالْحَالُ كَالْمَالِ يُؤْتَاهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. فَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ نُورُ الْعِلْمِ كَانَ وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهِ. الْحَالُ بِلَا عِلْمٍ كَالسُّلْطَانِ الَّذِي لَا يَزَعُهُ عَنْ سَطْوَتِهِ وَازِعٌ. الْحَالُ بِلَا عِلْمٍ كَالنَّارِ الَّتِي لَا سَائِسَ لَهَا. نَفْعُ الْحَالِ لَا يَتَعَدَّى صَاحِبَهُ. وَنَفْعُ الْعِلْمِ كَالْغَيْثِ يَقَعُ عَلَى الظِّرَابِ وَالْآكَامِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. دَائِرَةُ الْعِلْمِ تَسَعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. وَدَائِرَةُ الْحَالِ تَضِيقُ عَنْ غَيْرِ صَاحِبِهِ. وَرُبَّمَا ضَاقَتْ عَنْهُ. الْعِلْمُ هَادٍ وَالْحَالُ الصَّحِيحُ مُهْتَدٍ بِهِ. وَهُوَ تَرِكَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَتُرَاثُهُمْ. وَأَهْلُهُ عُصْبَتُهُمْ وَوُرَّاثُهُمْ، وَهُوَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ. وَنُورُ الْبَصَائِرِ. وَشِفَاءُ الصُّدُورِ. وَرِيَاضُ الْعُقُولِ. وَلَذَّةُ الْأَرْوَاحِ. وَأَنَسُ الْمُسْتَوْحِشِينَ. وَدَلِيلُ الْمُتَحَيِّرِينَ. وَهُوَ الْمِيزَانُ الَّذِي بِهِ تُوزَنُ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ وَالْأَحْوَالُ. وَهُوَ الْحَاكِمُ الْمُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ. بِهِ يُعْرَفُ اللَّهُ وَيُعْبَدُ، وَيُذْكَرُ وَيُوَحَّدُ، وَيُحْمَدُ وَيُمَجَّدُ. وَبِهِ اهْتَدَى إِلَيْهِ السَّالِكُونَ. وَمِنْ طَرِيقِهِ وَصَلَ إِلَيْهِ الْوَاصِلُونَ. وَمِنْ بَابِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ الْقَاصِدُونَ.

بِهِ تُعْرَفُ الشَّرَائِعُ وَالْأَحْكَامُ، وَيَتَمَيَّزُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ. وَبِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ وَبِهِ تُعْرَفُ مَرَاضِي الْحَبِيبِ، وَبِمَعْرِفَتِهَا وَمُتَابَعَتِهَا يُوصَلُ إِلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ. وَهُوَ إِمَامٌ، وَالْعَمَلُ مَأْمُومٌ. وَهُوَ قَائِدٌ، وَالْعَمَلُ تَابِعٌ. وَهُوَ الصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالْأَنِيسُ فِي الْوَحْشَةِ. وَالْكَاشِفُ عَنِ الشُّبْهَةِ. وَالْغِنَى الَّذِي لَا فَقْرَ عَلَى مَنْ ظَفِرَ بِكَنْزِهِ. وَالْكَنَفُ الَّذِي لَا ضَيْعَةَ عَلَى مَنْ آوَى إِلَى حِرْزِهِ. مُذَكَرَاتُهُ تَسْبِيحٌ. وَالْبَحْثُ عَنْهُ جِهَادٌ. وَطَلَبُهُ قُرْبَةٌ. وَبَذْلُهُ صَدَقَةٌ. وَمُدَارَسَتُهُ تَعْدِلُ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ. وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْهَا إِلَى الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: النَّاسُ إِلَى الْعِلْمِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. لِأَنَّ الرَّجُلَ يَحْتَاجُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ. وَحَاجَتُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِهِ. وَرُوِّينَا عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ. وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: كُنْتُ بَيْنَ يَدِي مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَوَضَعْتُ أَلْوَاحِي وَقُمْتُ أُصَلِّي. فَقَالَ: مَا الَّذِي قُمْتَ إِلَيْهِ بِأَفْضَلَ مِمَّا قُمْتَ عَنْهُ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ.

وَاسْتَشْهَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَجَلِّ مَشْهُودٍ بِهِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَقَرَنَ شَهَادَتَهُمْ بِشَهَادَتِهِ وَشَهَادَةِ مَلَائِكَتِهِ. وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَعْدِيلُهُمْ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَسْتَشْهِدُ بِمَجْرُوحٍ. وَمِنْ هَاهُنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - يُؤْخَذُ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ. يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَتَأْوِيلَ الْمُبْطِلِينَ» . وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ. وَنُورُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ. وَقَائِدُهُمْ وَدَلِيلُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ. وَمُدْنِيهِمْ مِنْ كَرَامَتِهِ. وَيَكْفِي فِي شَرَفِهِ: أَنَّ فَضْلَ أَهْلِهِ عَلَى الْعِبَادِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةِ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ. وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ لَهُمْ أَجْنِحَتَهَا، وَتُظِلُّهُمْ بِهَا، وَأَنَّ الْعَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، وَحَتَّى النَّمْلُ فِي جُحْرِهَا، وَأَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ. وَلَقَدْ رَحَلَ كَلِيمُ الرَّحْمَنِ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي طَلَبِ الْعِلْمِ

فصل تعريف العلم

هُوَ وَفَتَاهُ، حَتَّى مَسَّهُمَا النَّصَبُ فِي سَفَرِهِمَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ. حَتَّى ظَفِرَ بِثَلَاثِ مَسَائِلَ. وَهُوَ مِنْ أَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ وَأَعْلَمِهِمْ بِهِ. وَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ فَقَالَ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] . وَحَرَّمَ اللَّهُ صَيْدَ الْجَوَارِحِ الْجَاهِلَةِ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ لِلْأُمَّةِ صَيْدَ الْجَوَارِحِ الْعَالِمَةِ. فَهَكَذَا جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ الْجَاهِلِ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ صَيْدُهَا مِنَ الْأَعْمَالِ شَيْئًا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ تَعْرِيفُ الْعِلْمِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ. الْعِلْمُ مَا قَامَ بِدَلِيلٍ. وَرَفَعَ الْجَهْلَ. يُرِيدُ: أَنَّ لِلْعِلْمِ عَلَامَةً قَبْلَهُ، وَعَلَامَةً بَعْدَهُ، فَعَلَامَتُهُ قَبْلَهُ: مَا قَامَ بِهِ الدَّلِيلُ. وَعَلَامَتُهُ بَعْدَهُ: رَفْعُ الْجَهْلِ. [دَرَجَاتُ الْعِلْمِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى عِلْمٌ جَلِيٌّ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثٍ دَرَجَاتُ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: عِلْمٌ جَلِيٌّ. بِهِ يَقَعُ الْعِيَانُ. وَاسْتِفَاضَةٌ صَحِيحَةٌ، أَوْ صِحَّةُ تَجْرِبَةٍ قَدِيمَةٍ. يُرِيدُ بِالْجَلِيِّ: الظَّاهِرَ، الَّذِي لَا خَفَاءَ بِهِ. وَجَعَلَهُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ. أَحَدُهَا: مَا وَقَعَ عَنْ عِيَانٍ. وَهُوَ الْبَصَرُ. وَالثَّانِي: مَا اسْتَنَدَ إِلَى السَّمْعِ. وَهُوَ عِلْمُ الِاسْتِفَاضَةِ. وَالثَّالِثُ: مَا اسْتَنَدَ إِلَى الْعَقْلِ. وَهُوَ عِلْمُ التَّجْرِبَةِ. فَهَذِهِ الطُّرُقُ الثَّلَاثَةُ - وَهِيَ السَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالْعَقْلُ - هِيَ طُرُقُ الْعِلْمِ وَأَبْوَابُهُ وَلَا تَنْحَصِرُ طُرُقُ الْعِلْمِ فِيمَا ذَكَرَهُ. فَإِنَّ سَائِرَ الْحَوَاسِّ تُوجِبُ الْعِلْمَ.

فصل الدرجة الثانية علم خفي

وَكَذَا مَا يُدْرَكُ بِالْبَاطِنِ. وَهِيَ الْوِجْدَانِيَّاتُ. وَكَذَا مَا يُدْرَكُ بِخَبَرِ الْمُخْبِرِ الصَّادِقِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا. وَكَذَا مَا يَحْصُلُ بِالْفِكْرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ تَجْرِبَةٍ. فَالْعِلْمُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَقَطْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْرِفَةِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لُبُّ الْعِلْمِ، وَنِسْبَةُ الْعِلْمِ إِلَيْهَا كَنِسْبَةِ الْإِيمَانِ إِلَى الْإِحْسَانِ. وَهِيَ عِلْمٌ خَاصٌّ، مُتَعَلِّقُهَا أَخْفَى مِنْ مُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ وَأَدَقُّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ هِيَ الْعِلْمُ الَّذِي يُرَاعِيهِ صَاحِبُهُ بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ. فَهِيَ عِلْمٌ تَتَّصِلُ بِهِ الرِّعَايَةُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ شَاهِدٌ لِنَفْسِهَا، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمُورِ الْوِجْدَانِيَّةِ، الَّتِي لَا يُمْكِنُ صَاحِبُهَا أَنْ يَشُكَّ فِيهَا، وَلَا يَنْتَقِلَ عَنْهَا. وَكَشْفُ الْمَعْرِفَةِ أَتَمُّ مِنْ كَشْفِ الْعِلْمِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ عِلْمٌ خَفِيٌّ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: عِلْمٌ خَفِيٌّ. يَنْبُتُ فِي الْأَسْرَارِ الطَّاهِرَةِ، مِنَ الْأَبْدَانِ الزَّاكِيَةِ، بِمَاءِ الرِّيَاضَةِ الْخَالِصَةِ، وَيَظْهَرُ فِي الْأَنْفَاسِ الصَّادِقَةِ، لِأَهْلِ الْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ، فِي الْأَحَايِينِ الْخَالِيَةِ، وَالْأَسْمَاعِ الصَّاخِيَةِ. وَهُوَ عِلْمٌ يُظْهِرُ الْغَائِبَ، وَيُغَيِّبُ الشَّاهِدَ، وَيُشِيرُ إِلَى الْجَمْعِ. يَعْنِي: أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ خَفَّيٌّ عَلَى أَهْلِ الدَّرَجَةِ الْأَوْلَى، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَعْرِفَةِ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ. قَوْلُهُ: يَنْبُتُ فِي الْأَسْرَارِ الطَّاهِرَةِ. لَفْظُ السِّرِّ يُطْلَقُ فِي لِسَانِهِمْ وَيُرَادُ بِهِ أُمُورٌ. أَحَدُهَا: اللَّطِيفَةُ الْمُودَعَةُ فِي هَذَا الْقَالَبِ، الَّتِي حَصَلَ بِهَا الْإِدْرَاكُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ. وَذَلِكَ هُوَ الرُّوحُ. الثَّانِي: مَعْنًى قَائِمٌ بِالرُّوحِ. نِسْبِتُهُ إِلَى الرُّوحِ كَنِسْبَةِ الرُّوحِ إِلَى الْبَدَنِ. وَغَالِبًا مَا يُرِيدُونَ بِهِ: هَذَا الْمَعْنَى.

وَعِنْدَهُمْ: أَنَّ الْقَلْبَ أَشْرَفُ مَا فِي الْبَدَنِ، وَالرُّوحَ أَشْرَفُ مِنَ الْقَلْبِ. وَالسِّرَّ أَلْطَفُ مِنَ الرُّوحِ. وَعِنْدَهُمْ: لِلسِّرِّ سِرٌّ آخَرُ. لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَصَاحِبُهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ، وَإِنِ اطَّلَعَ عَلَى سِرِّهِ. فَيَقُولُونَ السِّرُّ مَا لَكَ عَلَيْهِ إِشْرَافٌ، وَسِرُّ السِّرِّ مَا لَا اطِّلَاعَ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ: يُرَادُ بِهِ مَا يَكُونُ مَصُونًا مَكْتُومًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ. كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَسْرَارُنَا بِكْرٌ. لَمْ يَفْتَضَّهَا وَهْمُ وَاهِمٍ. وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: لَوْ عَرَفَ زِرِّي سِرِّي لِطَرَحْتُهُ. وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ: يَنْبُتُ فِي الْأَسْرَارِ الطَّاهِرَةِ. يَعْنِي: الطَّاهِرَةُ مِنْ كَدَرِ الدُّنْيَا وَالِاشْتِغَالِ بِهَا، وَعَلَائِقِهَا الَّتِي تَعُوقُ الْأَرْوَاحَ عَنْ دِيَارِ الْأَفْرَاحِ. فَإِنَّ هَذِهِ أَكْدَارٌ، وَتَنَفُّسَاتٌ فِي وَجْهِ مِرْآةِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ. فَلَا تَنْجَلِي فِيهَا صُوَرُ الْحَقَائِقِ كَمَا يَنْبَغِي. وَالنَّفْسُ تَنَفَّسُ فِيهَا دَائِمًا بِالرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّهْبَةِ مِنْ فَوْتِهَا. فَإِذَا جُلِيَتِ الْمِرْآةُ بِإِذْهَابِ هَذِهِ الْأَكْدَارِ صَفَتْ. وَظَهَرَتْ فِيهَا الْحَقَائِقُ وَالْمَعَارِفُ. وَأَمَّا الْأَبْدَانُ الزَّكِيَّةُ. فَهِيَ الَّتِي زَكَتْ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَنَبَتَتْ عَلَى أَكْلِ الْحَلَالِ. فَمَتَى خَلَصَتِ الْأَبْدَانُ مِنَ الْحَرَامِ، وَأَدْنَاسِ الْبَشَرِيَّةِ، الَّتِي يَنْهَى عَنْهَا الْعَقْلُ وَالدِّينُ وَالْمُرُوءَةُ، وَطَهُرَتِ الْأَنْفُسُ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا: زَكَتْ أَرْضُ الْقَلْبِ. فَقَبِلَتْ بَذْرَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ. فَإِنْ سُقِيَتْ - بَعْدَ ذَلِكَ - بِمَاءِ الرِّيَاضَةِ الشَّرْعِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ - وَهِيَ الَّتِي لَا تَخْرُجُ عَنْ عِلْمٍ، وَلَا تَبْعُدُ عَنْ وَاجِبٍ وَلَا تُعَطِّلُ سُنَّةً - أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَفَائِدَةٍ وَتَعَرُّفٍ. فَاجْتَنَى مِنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ جَالَسَهُ أَنْوَاعَ الطُّرَفِ وَالْفَوَائِدِ، وَالثِّمَارِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ وَالْأَذْوَاقِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا عُقِدَتِ الْقُلُوبُ عَلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي: جَالَتْ فِي الْمَلَكُوتِ. ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى أَصْحَابِهَا بِأَنْوَاعِ التُّحَفِ وَالْفَوَائِدِ. قَوْلُهُ: وَتَظْهَرُ فِي الْأَنْفَاسِ الصَّادِقَةِ يُرِيدُ بِالْأَنْفَاسِ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْفَاسُ الذِّكْرِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَالثَّانِي: أَنْفَاسُ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ. وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْرُوفِ الْمَذْكُورِ. وَبِالْمَحْبُوبِ الْمُرَادِ مِنَ الذَّاكِرِ وَالْمُحِبِّ. وَصِدْقُهَا خُلُوصُهَا مِنْ شَوَائِبِ الْأَغْيَارِ وَالْحُظُوظِ. وَقَوْلُهُ: لِأَهْلِ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ فَهِيَ الَّتِي لَا تَقِفُ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَا تُعَرِّجُ فِي سَفَرِهَا عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ. وَأَعْلَى الْهِمَمِ: مَا تَعَلَّقَ بِالْعَلِيِّ الْأَعْلَى. وَأَوْسَعُهَا: مَا تَعَلَّقَ بِصَلَاحِ

فصل الدرجة الثالثة علم لدني

الْعِبَادِ. وَهِيَ هِمَمُ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَوَرَثَتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَحَايِينِ الْخَالِيَةِ. يُرِيدُ بِهَا: سَاعَاتِ الصَّفَاءِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَوْقَاتِ النَّفَحَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، الَّتِي مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا يُوشِكُ أَنْ لَا يُحْرَمَهَا. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا فَهِيَ عَنْهُ أَشَدُّ إِعْرَاضًا. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَسْمَاعِ الصَّاخِيَةِ فَهِيَ الَّتِي صَحَتْ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْبَاطِلِ وَاللَّغْوِ، وَأَصَاخَتْ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ، وَمُنَادِي الْإِيمَانِ. فَإِنَّ الْبَاطِلَ وَاللَّغْوَ خَمْرُ الْأَسْمَاعِ وَالْعُقُولِ. فَصَحْوُهَا بِتَجَنُّبِهِ وَالْإِصْغَاءِ إِلَى دَعْوَةِ الْحَقِّ. قَوْلُهُ: وَهُوَ عِلْمٌ يُظْهِرُ الْغَائِبَ أَيْ يَكْشِفُ مَا كَانَ غَائِبًا عَنِ الْعَارِفِ. قَوْلُهُ: وَيُغَيِّبُ الشَّاهِدَ أَيْ يُغِيِّبَهُ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى مَشْهُودِهِ الْحَقِّ. وَيُشِيرُ إِلَى الْجَمْعِ وَهُوَ مَقَامُ الْفَرْدَانِيَّةِ، وَاضْمِحْلَالُ الرُّسُومِ، حَتَّى رَسْمِ الشَّاهِدِ نَفْسِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ عِلْمٌ لَدُنِّيٌ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: عِلْمٌ لَدُنِّيٌ. إِسْنَادُهُ وُجُودُهُ، وَإِدْرَاكُهُ عِيَانُهُ. وَنَعْتُهُ حُكْمُهُ. لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَيْبِ حِجَابٌ. يُشِيرُ الْقَوْمُ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِ إِلَى مَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، بَلْ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ، وَتَعْرِيفٍ مِنْهُ لِعَبْدِهِ، كَمَا حَصَلَ لِلْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ مُوسَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] . وَفَرَّقَ بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ. وَجَعَلَهُمَا مِنْ عِنْدِهِ وَمِنْ لَدُنْهُ إِذْ لَمْ يَنُلْهُمَا عَلَى يَدِ بِشْرٍ، وَكَانَ مِنْ لَدُنْهُ أَخَصَّ وَأَقْرَبَ مِنْ عِنْدِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] فَالْسُلْطَانُ النَّصِيرُ الَّذِي مِنْ لَدُنْهُ سُبْحَانَهُ: أَخُصُّ وَأَقْرَبُ مِمَّا عِنْدَهُ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] . وَهُوَ الَّذِي أَيَّدَهُ بِهِ. وَالَّذِي مِنْ عِنْدِهِ: نَصْرُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62] .

وَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ ثَمَرَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمُتَابَعَةِ، وَالصِّدْقِ مَعَ اللَّهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي تَلَقِّي الْعِلْمِ مِنْ مِشْكَاةِ رَسُولِهِ. وَكَمَالِ الِانْقِيَادِ لَهُ. فَيَفْتَحُ لَهُ مِنْ فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَمْرٍ يَخُصُّهُ بِهِ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ سُئِلَ هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ؟ - فَقَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسْمَةَ. إِلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ. فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ الْحَقِيقِيُّ، وَأَمَّا عِلْمُ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِمَا: فَهُوَ مِنْ لَدُنِ النَّفْسِ وَالْهَوَى، وَالشَّيْطَانِ، فَهُوَ لَدُنَّيٌّ. لَكِنْ مِنْ لَدُنْ مَنْ؟ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْعِلْمِ لَدُنَّيًّا رَحْمَانِيًّا: بِمُوَافَقَتِهِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ نَوْعَانِ: لَدُنِّيٌّ رَحْمَانِيٌّ، وَلَدُنِّيٌّ شَيْطَانِيٌّ بَطْنَاوِيٌّ. وَالْمَحَكُّ: هُوَ الْوَحْيُ. وَلَا وَحْيَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا قِصَّةُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: فَالتَّعَلُّقُ بِهَا فِي تَجْوِيزِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْوَحْيِ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ إِلْحَادٌ، وَكُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، مُوجِبٌ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ. وَالْفَرْقُ: أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إِلَى الْخَضِرِ. وَلَمْ يَكُنْ الْخَضِرُ مَأْمُورًا بِمُتَابَعَتِهِ. وَلَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِهَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى مُوسَى وَيَكُونَ مَعَهُ. وَلِهَذَا قَالَ لَهُ: أَنْتَ مُوسَى نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الثِّقْلَيْنِ. فَرِسَالَتُهُ عَامَّةٌ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَلَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حَيَّيْنِ لَكَانَا مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَإِذَا نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْخَضِرِ مَعَ مُوسَى. أَوْ جَوَّزَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ: فَلْيُجَدِّدْ إِسْلَامَهُ، وَلْيَتَشَهَّدْ شَهَادَةَ الْحَقِّ. فَإِنَّهُ بِذَلِكَ مُفَارِقٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ. فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَاصَّةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَخُلَفَائِهِ وَنُوَّابِهِ.

فصل منزلة الحكمة

وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَقْطَعٌ وَمَفْرَقٌ بَيْنَ زَنَادِقَةِ الْقَوْمِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنْهُمْ، فَحَرِّكْ تَرَهُ. قَوْلُهُ: إِسْنَادُهُ وُجُودُهُ. يَعْنِي: أَنَّ طَرِيقَ هَذَا الْعِلْمِ: وِجْدَانُهُ، كَمَا أَنَّ طَرِيقَ غَيْرِهِ: هُوَ الْإِسْنَادُ. وَإِدْرَاكُهُ عِيَانَهُ. أَيْ إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَا يُؤْخَذُ بِالْفِكْرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ عِيَانًا وَشُهُودًا. وَنَعْتُهُ حُكْمُهُ. يَعْنِي: أَنَّ نُعُوتَهُ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِهِ، فَهِيَ قَاصِرَةٌ عَنْهُ، يَعْنِي أَنَّ شَاهِدَهُ مِنْهُ، وَدَلِيلَ وُجُودِهِ. وَإِنِّيَتَهُ لِمِّيَّتُهُ، فَبُرْهَانُ الْإِنِّ فِيهِ. هُوَ بُرْهَانُ اللَّمِّ. فَهُوَ الدَّلِيلُ. وَهُوَ الْمَدْلُولُ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُيُوبِ حِجَابٌ. بِخِلَافِ مَا دُونَهُ مِنَ الْعُلُومِ. فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُلُومِ حِجَابًا. وَالَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ: هُوَ نُورٌ مِنْ جَنَابِ الْمَشْهُودِ. يَمْحُو قُوَى الْحَوَاسِّ وَأَحْكَامَهَا. وَيَقُومُ لِصَاحِبِهَا مَقَامَهَا. فَهُوَ الْمَشْهُودُ بِنُورِهِ، وَيَفْنَى مَا سِوَاهُ بِظُهُورِهِ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ مَعْنَى الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ فَإِذَا أَحْبَبْتَهُ كُنْتَ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، فَبِي يَسْمَعُ. وَبِي يُبْصِرُ. وَالْعِلْمُ اللَّدُنِيُّ الرَّحْمَانِيُّ: هُوَ ثَمَرَةُ هَذِهِ الْمُوَافَقَةِ، وَالْمَحَبَّةِ الَّتِي أَوْجَبَهَا التَّقَرُّبُ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ. وَاللَّدُنِّيُّ الشَّيْطَانِيُّ: ثَمَرَةُ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْوَحْيِ، وَتَحْكِيمِ الْهَوَى وَالشَّيْطَانِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْحِكْمَةِ] [حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْحِكْمَةِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْحِكْمَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]

درجات الحكمة

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] وَقَالَ عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 48] . الْحِكْمَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَوْعَانِ: مُفْرَدَةٌ. وَمُقْتَرِنَةٌ بِالْكِتَابِ. فَالْمُفْرَدَةُ: فُسِّرَتْ بِالنُّبُوَّةِ، وَفُسِّرَتْ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هِيَ عِلْمُ الْقُرْآنِ: نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ. وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ. وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ. وَأَمْثَالِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الْقُرْآنُ وَالْفَهْمُ فِيهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْقُرْآنُ وَالْعِلْمُ وَالْفِقْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: هِيَ الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هِيَ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ وَفَهْمُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَرَعُ فِي دِينِ اللَّهِ. كَأَنَّهُ فَسَّرَهَا بِثَمَرَتِهَا وَمُقْتَضَاهَا. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْكِتَابِ: فَهِيَ السُّنَّةُ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ الْقَضَاءُ بِالْوَحْيِ. وَتَفْسِيرُهَا بِالسُّنَّةِ أَعَمُّ وَأَشْهَرُ. وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ. قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَمَالِكٍ: إِنَّهَا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَالْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ، وَالْفِقْهِ، فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ. وَالْحِكْمَةُ حِكْمَتَانِ: عِلْمِيَّةٌ، وَعَمَلِيَّةٌ. فَالْعِلْمِيَّةُ: الِاطِّلَاعُ عَلَى بَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ. وَمَعْرِفَةُ ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِمُسَبِّبَاتِهَا، خَلْقًا وَأَمْرًا. قَدَرًا وَشَرْعًا. وَالْعِلْمِيَّةُ كَمَا قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " وَهِيَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ. [دَرَجَاتُ الْحِكْمَةِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى أَنْ تُعْطِيَ كُلَّ شَيْءٍ حَقَّهُ] قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تُعْطِيَ كُلَّ شَيْءٍ حَقَّهُ وَلَا تَعُدِّيَهُ حَدَّهُ، وَلَا تُعَجِّلَهُ عَنْ وَقْتِهِ، وَلَا تُؤَخِّرَهُ عَنْهُ.

لَمَّا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ لَهَا مَرَاتِبُ وَحُقُوقٌ، تَقْتَضِيهَا شَرْعًا وَقَدَرًا. وَلَهَا حُدُودٌ وَنِهَايَاتٌ تَصِلُ إِلَيْهَا وَلَا تَتَعَدَّاهَا. وَلَهَا أَوْقَاتٌ لَا تَتَقَدَّمُ عَنْهَا وَلَا تَتَأَخَّرُ - كَانَتِ الْحِكْمَةُ مُرَاعَاةَ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ. بِأَنْ تُعْطَى كُلُّ مَرْتَبَةٍ حَقَّهَا الَّذِي أَحَقَّهُ اللَّهُ بِشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ. وَلَا تَتَعَدَّى بِهَا حَدَّهَا. فَتَكُونَ مُتَعَدِّيًا مُخَالِفًا لِلْحِكْمَةِ. وَلَا تَطْلُبُ تَعْجِيلَهَا عَنْ وَقْتِهَا فَتُخَالِفَ الْحِكْمَةَ. وَلَا تُؤَخِّرُهَا عَنْهُ فَتُفَوِّتَهَا. وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ مَعَ مُسَبَّبَاتِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا. فَإِضَاعَتُهَا تَعْطِيلٌ لِلْحِكْمَةِ بِمَنْزِلَةِ إِضَاعَةِ الْبَذْرِ وَسَقْيِ الْأَرْضِ. وَتَعَدِّي الْحَقِّ: كَسَقْيِهَا فَوْقَ حَاجَتِهَا، بِحَيْثُ يَغْرِقُ الْبَذْرُ وَالزَّرْعُ وَيَفْسُدُ. وَتَعْجِيلُهَا عَنْ وَقْتِهَا: كَحَصَادِهِ قَبْلَ إِدْرَاكِهِ وَكَمَالِهِ. وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْغِذَاءِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ: إِخْلَالٌ بِالْحِكْمَةِ، وَتَعَدِّي الْحَدِّ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، خُرُوجٌ عَنْهَا أَيْضًا. وَتَعْجِيلُ ذَلِكَ قَبْلَ وَقْتِهِ: إِخْلَالٌ بِهَا. وَتَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِهِ: إِخْلَالٌ بِهَا. فَالْحِكْمَةُ إِذًا: فِعْلُ مَا يَنْبَغِي، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَنْبَغِي. وَاللَّهُ تَعَالَى أَوْرَثَ الْحِكْمَةَ آدَمَ وَبَنِيهِ. فَالرَّجُلُ الْكَامِلُ: مَنْ لَهُ إِرْثٌ كَامِلٌ مِنْ أَبِيهِ، وَنِصْفُ الرَّجُلِ - كَالْمَرْأَةِ - لَهُ نِصْفُ مِيرَاثٍ، وَالتَّفَاوُتُ فِي ذَلِكَ لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ فِي هَذَا: الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. وَأَكْمَلُهُمْ أُولُو الْعَزْمِ. وَأَكْمَلُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِهَذَا امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِ، وَعَلَى أُمَّتِهِ بِمَا آتَاهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] . وَقَالَ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151] . فَكُلُّ نِظَامِ الْوُجُودِ مُرْتَبِطٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَكُلُّ خَلَلٍ فِي الْوُجُودِ، وَفِي الْعَبْدِ فَسَبَبُهُ: الْإِخْلَالُ بِهَا. فَأَكْمَلُ النَّاسِ: أَوْفَرُهُمْ نَصِيبًا. وَأَنْقَصُهُمْ وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ الْكَمَالِ: أَقَلُّهُمْ مِنْهَا مِيرَاثًا. وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ: الْعِلْمُ، وَالْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ. وَآفَاتُهَا وَأَضْدَادُهَا: الْجَهْلُ، وَالطَّيْشُ، وَالْعَجَلَةُ.

فصل الدرجة الثانية أن تشهد نظر الله في وعده

فَلَا حِكْمَةَ لِجَاهِلٍ، وَلَا طَائِشٍ، وَلَا عَجُولٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَشْهَدَ نَظَرَ اللَّهِ فِي وَعْدِهِ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَشْهَدَ نَظَرَ اللَّهِ فِي وَعْدِهِ. وَتَعْرِفَ عَدْلَهُ فِي حُكْمِهِ. وَتَلْحَظَ بِرَّهُ فِي مَنْعِهِ. أَيْ تَعْرِفُ الْحِكْمَةَ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَشْهَدُ حُكْمَهُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] . فَتَشْهَدُ عَدْلَهُ فِي وَعِيدِهِ، وَإِحْسَانَهُ فِي وَعْدِهِ، وَكُلٌّ قَائِمٌ بِحِكْمَتِهِ. وَكَذَلِكَ تَعْرِفُ عَدْلَهُ فِي أَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْكَوْنِيَّةِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْخَلَائِقِ، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ فِيهَا، وَلَا حَيْفَ وَلَا جَوْرَ. وَإِنْ أَجْرَاهَا عَلَى أَيْدِي الظَّلَمَةِ. فَهُوَ أَعْدَلُ الْعَادِلِينَ. وَمَنْ جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ هُوَ الظَّالِمُ. وَكَذَلِكَ تَعْرِفُ بِرَّهُ فِي مَنْعِهِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يُنْقِصُ خَزَائِنَهُ الْإِنْفَاقُ، وَلَا يَغِيضُ مَا فِي يَمِينِهِ سَعَةُ عَطَائِهِ. فَمَا مَنَعَ مَنْ مَنَعَهُ فَضْلَهُ إِلَّا لِحِكْمَةٍ كَامِلَةٍ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّهُ الْجَوَادُ الْحَكِيمُ. وَحِكْمَتُهُ لَا تُنَاقِضُ جُودَهُ. فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَضَعُ بِرَّهُ وَفَضْلَهُ إِلَّا فِي مَوْضِعِهِ وَوَقْتِهِ. بِقَدْرِ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ. وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَفَسَدُوا وَهَلَكُوا. وَلَوْ عَلِمَ فِي الْكُفَّارِ خَيْرًا وَقَبُولًا لِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَشُكْرًا لَهُ عَلَيْهَا، وَمَحَبَّةً لَهُ وَاعْتِرَافًا بِهَا، لَهَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. وَلِهَذَا لَمَّا قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] أَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] . سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَقُولُ: هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ قَدْرَ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَيَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَيْهَا. فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَا أَعْطَى إِلَّا بِحِكْمَتِهِ. وَلَا مَنْعَ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ، وَلَا أَضَلَّ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ. وَإِذَا تَأَمَّلَ الْبَصِيرُ أَحْوَالَ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ: رَآهُ عَيْنَ الْحِكْمَةِ. وَمَا عَمَرَتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَّا بِحِكْمَتِهِ. وَفِي الْحِكْمَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلنَّاسِ.

فصل الدرجة الثالثة أن تبلغ في استدلالك البصيرة

أَحَدُهَا: أَنَّهَا مُطَابَقَةُ عِلْمِهِ لِمَعْلُومِهِ، وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لِمُرَادِهِ. هَذَا تَفْسِيرُ الْجَبْرِيَّةِ. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْيُ حِكْمَتِهِ. إِذْ مُطَابَقَةُ الْمَعْلُومِ وَالْمُرَادِ: أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ حِكْمَةً أَوْ خِلَافَهَا، فَإِنَّ السَّفِيهَ مِنَ الْعِبَادِ: يُطَابِقُ عِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ لِمَعْلُومِهِ وَمُرَادِهِ. مَعَ كَوْنِهِ سَفِيهًا. الثَّانِي: - مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ -: أَنَّهَا مَصَالِحُ الْعِبَادِ وَمَنَافِعُهُمُ الْعَائِدَةُ عَلَيْهِمْ. وَهُوَ إِنْكَارٌ لِوَصْفِهِ تَعَالَى بِالْحِكْمَةِ. وَرَدُّوهَا إِلَى مَخْلُوقٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. الثَّالِثُ: - قَوْلُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَالسُّنَّةِ -: أَنَّهَا الْغَايَاتُ الْمَحْمُودَةُ الْمَطْلُوبَةُ لَهُ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، الَّتِي أَمَرَ لِأَجْلِهَا، وَقَدَّرَ وَخَلَقَ لِأَجْلِهَا. وَهِيَ صِفَتُهُ الْقَائِمَةُ بِهِ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ: مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحَيَاتِهِ وَكَلَامِهِ. وَلِلرَّدِّ عَلَى طَائِفَتَيِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ تَبْلُغَ فِي اسْتِدْلَالِكَ الْبَصِيرَةَ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَبْلُغَ فِي اسْتِدْلَالِكَ الْبَصِيرَةَ. وَفِي إِرْشَادِكَ الْحَقِيقَةَ. وَفِي إِشَارَتِكَ الْغَايَةَ. يُرِيدُ أَنْ تَصِلَ بِاسْتِدْلَالِكَ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ. وَهِيَ الْبَصِيرَةُ الَّتِي تَكُونُ نِسْبَةُ الْعُلُومِ فِيهَا إِلَى الْقَلْبِ كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْبَصَرِ. وَهَذِهِ هِيَ الْخِصِّيصَةُ الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا الصَّحَابَةُ عَنْ سَائِرِ الْأُمَّةِ. وَهِيَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] أَيْ أَنَا وَأَتْبَاعِي عَلَى بَصِيرَةٍ. وَقِيلَ {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] عَطْفٌ عَلَى الْمَرْفُوعِ بِأَدْعُو أَيْ أَنَا أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ. وَمَنِ اتَّبَعَنِي كَذَلِكَ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَتْبَاعَهُ هُمْ أَهْلُ الْبَصَائِرِ الدَّاعِينَ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ. فَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَ مِنْ أَتْبَاعِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمُوَافَقَةِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِهِ عَلَى الِانْتِسَابِ وَالدَّعْوَى. وَقَوْلُهُ: وَفِي إِرْشَادِكَ الْحَقِيقَةَ إِمَّا أَنْ يُرِيدَ: أَنَّكَ إِذَا أَرْشَدْتَ غَيْرَكَ تَبْلُغُ فِي إِرْشَادِهِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ تَبْلُغُ فِي إِرْشَادِ غَيْرِكَ لَكَ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا تَقِفُ دُونَهَا.

فصل منزلة الفراسة

فَعَلَى الْأَوَّلِ: الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ، وَعَلَى الثَّانِي: إِلَى الْمَفْعُولِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوُجُودِ الَّذِينَ إِذَا أَشَارُوا لَمْ يُشِيرُوا إِلَّا إِلَى الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ الَّتِي لَيْسَ وَرَاءَهَا مَرْمَى. وَالْقَوْمُ يُسَمُّونَ أَخْبَارَهُمْ عَنِ الْمَعَارِفِ وَعَنِ الْمَطْلُوبِ إِشَارَاتٍ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَجَلُّ مَنْ أَنْ يُفْصَحَ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ مُطَابِقَةٍ، وَشَأْنُهُ فَوْقَ ذَلِكَ. فَالْكَامِلُ مَنْ إِشَارَتُهُ إِلَى الْغَايَةِ. وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِمَنْ فَنِيَ عَنْ رَسْمِهِ وَهَوَاهُ وَحَظِّهِ. وَبَقِيَ بِرَبِّهِ وَمُرَادِهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ وَكُلُّ أَحَدٍ، فَإِشَارَتُهُ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ وَهِمَّتِهِ. وَمَعَارِفُ الْقَوْمِ وَهِمَّتُهُمْ تُؤْخَذُ مِنْ إِشَارَتِهِمْ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفِرَاسَةِ] [حَقِيقَةُ الْفِرَاسَةِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفِرَاسَةِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْفِرَاسَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] قَالَ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُتَفَرِّسِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لِلنَّاظِرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُعْتَبِرِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِلْمُتَفَكِّرِينَ. وَلَا تَنَافِي بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ النَّاظِرَ مَتَى نَظَرَ فِي آثَارِ دِيَارِ الْمُكَذِّبِينَ وَمَنَازِلِهِمْ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ: أَوْرَثَهُ فِرَاسَةً وَعِبْرَةً وَفِكْرَةً. وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] . فَالْأَوَّلُ: فِرَاسَةُ النَّظَرِ وَالْعَيْنِ. وَالثَّانِي: فِرَاسَةُ الْأُذُنِ وَالسَّمْعِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: عَلَّقَ مَعْرِفَتَهُ إِيَّاهُمْ بِالنَّظَرِ عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَلَمْ يُعَلِّقْ تَعْرِيفَهُمْ بِلَحْنِ خِطَابِهِمْ عَلَى شَرْطٍ. بَلْ أَخْبَرَ بِهِ خَبَرًا مُؤَكَّدًا بِالْقَسَمِ. فَقَالَ: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَهُوَ تَعْرِيضُ الْخِطَابِ، وَفَحْوَى الْكَلَامِ وَمَغْزَاهُ. وَاللَّحْنُ ضَرْبَانِ: صَوَابٌ وَخَطَأٌ. فَلَحْنُ الصَّوَابِ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: الْفِطْنَةُ. وَمِنْهُ

فصل أنواع الفراسة

الْحَدِيثَ «وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ» . وَالثَّانِي: التَّعْرِيضُ وَالْإِشَارَةُ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْكِنَايَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَحَدِيثٌ أَلَذُّهُ وَهْوَ مِمَّا ... يَشْتَهِي السَّامِعُونَ يُوزَنُ وَزْنًا مَنْطِقٌ صَائِبٌ. وَتَلْحَنُ أَحْيَا ... نًا وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنًا وَالثَّالِثُ: فَسَادُ الْمَنْطِقِ فِي الْإِعْرَابِ. وَحَقِيقَتُهُ: تَغْيِيرُ الْكَلَامِ عَنْ وَجْهِهِ: إِمَّا إِلَى خَطَأٍ، وَإِمَّا إِلَى مَعْنًى خَفِيٍّ لَمْ يُوضَعْ لَهُ اللَّفْظُ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقْسَمَ عَلَى مَعْرِفَتِهِمْ مِنْ لَحْنِ خِطَابِهِمْ. فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُتَكَلِّمِ وَمَا فِي ضَمِيرِهِ مِنْ كَلَامِهِ: أَقْرَبُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِسِيمَاهُ وَمَا فِي وَجْهِهِ. فَإِنَّ دَلَالَةَ الْكَلَامِ عَلَى قَصْدِ قَائِلِهِ وَضَمِيرِهِ أَظْهَرُ مِنَ السِّيمَاءِ الْمَرْئِيَّةِ. وَالْفِرَاسَةُ تَتَعَلَّقُ بِالنَّوْعَيْنِ بِالنَّظَرِ وَالسَّمَاعِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقَوْا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ. فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ. ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] .» [فَصْلٌ أَنْوَاعُ الْفِرَاسَةِ] [الْأُولَى الْفِرَاسَةُ الْإِيمَانِيَّةُ] فَصْلٌ وَالْفِرَاسَةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: إِيمَانِيَّةٌ. وَهِيَ الْمُتَكَلَّمُ فِيهَا فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ. وَسَبَبُهَا: نُورُ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ. يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَالِي وَالْعَاطِلِ، وَالصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ. وَحَقِيقَتُهَا: أَنَّهَا خَاطِرٌ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ يَنْفِي مَا يُضَادُّهُ. يَثِبُ عَلَى الْقَلْبِ كَوُثُوبِ الْأَسَدِ عَلَى الْفَرِيسَةِ. لَكِنَّ الْفَرِيسَةَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعُولَةٌ. وَبِنَاءُ الْفِرَاسَةِ كَبِنَاءِ الْوِلَايَةِ وَالْإِمَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ.

وَهَذِهِ الْفِرَاسَةُ عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ. فَمَنْ كَانَ أَقْوَى إِيمَانًا فَهُوَ أَحَدُّ فِرَاسَةً. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: مَنْ نَظَرَ بِنُورِ الْفِرَاسَةِ نَظَرَ بِنُورِ الْحَقِّ، وَتَكُونُ مَوَادُّ عِلْمِهِ مَعَ الْحَقِّ بِلَا سَهْوٍ وَلَا غَفْلَةٍ. بَلْ حُكْمُ حَقٍّ جَرَى عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: الْفِرَاسَةُ شَعَاشِعُ أَنْوَارٍ لَمَعَتْ فِي الْقُلُوبِ، وَتَمَكُّنُ مُعْرِفَةِ جُمْلَةِ السَّرَائِرِ فِي الْغُيُوبِ مَنْ غَيْبٍ إِلَى غَيْبٍ، حَتَّى يَشْهَدَ الْأَشْيَاءَ مِنْ حَيْثُ أَشْهَدَهُ الْحَقُّ إِيَّاهَا، فَيَتَكَلَّمَ عَنْ ضَمِيرِ الْخَلْقِ. وَقَالَ الدَّارَانِيُّ: الْفِرَاسَةُ مُكَاشَفَةُ النَّفْسِ وَمُعَايَنَةُ الْغَيْبِ، وَهِيَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ. وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْفِرَاسَةِ؟ فَقَالَ: أَرْوَاحٌ تَتَقَلَّبُ فِي الْمَلَكُوتِ. فَتُشْرِفُ عَلَى مَعَانِي الْغُيُوبِ. فَتَنْطِقُ عَنْ أَسْرَارِ الْخَلْقِ، نُطْقَ مُشَاهَدَةٍ لَا نُطْقَ ظَنٍّ وَحُسْبَانٍ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ نُجِيدٍ: كَانَ شَاهُ الْكِرْمَانِيُّ حَادَّ الْفِرَاسَةِ لَا يُخْطِئُ. وَيَقُولُ: مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَأَمْسَكَ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِالْمُرَاقَبَةِ وَظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَتَعَوَّدَ أَكْلَ الْحَلَالِ: لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْحَدَّادُ: الْفِرَاسَةُ أَوَّلُ خَاطِرٍ بِلَا مُعَارِضٍ، فَإِنْ عَارَضَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِهِ. فَهُوَ خَاطِرٌ وَحَدِيثُ نَفْسٍ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ النَّيْسَابُورِيُّ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْفِرَاسَةَ. وَلَكِنْ يَتَّقِي الْفِرَاسَةَ مِنَ الْغَيْرِ. لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقَوْا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ. فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» . وَلَمْ يَقُلْ: تَفَرَّسُوا. وَكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَى الْفِرَاسَةِ لِمَنْ هُوَ فِي مَحَلِّ اتِّقَاءِ الْفِرَاسَةِ؟ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيُّ: إِذَا جَالَسْتُمْ أَهْلَ الصِّدْقِ فَجَالِسُوهُمْ بِالصِّدْقِ. فَإِنَّهُمْ جَوَاسِيسُ الْقُلُوبِ، يَدْخُلُونَ فِي قُلُوبِكُمْ وَيَخْرُجُونَ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُونَ. وَكَانَ الْجُنَيْدُ يَوْمًا يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ. فَوَقَفَ عَلَيْهِ شَابٌّ نَصْرَانِيٌّ مُتَنَكِّرًا. فَقَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اتَّقَوْا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» فَأَطْرَقَ الْجُنَيْدُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ: أَسْلِمْ. فَقَدْ حَانَ وَقْتُ إِسْلَامِكَ. فَأَسْلَمَ الْغُلَامُ.

وَيُقَالُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ: إِنَّ الصِّدِّيقَ لَا تُخْطِئُ فِرَاسَتُهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: الْعَزِيزُ فِي يُوسُفَ، حَيْثُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21] . وَابْنَةُ شُعَيْبٍ حِينَ قَالَتْ لِأَبِيهَا فِي مُوسَى: اسْتَأْجِرْهُ وَأَبُو بَكْرٍ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، حَيْثُ اسْتَخْلَفَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ حِينَ قَالَتْ: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9] . وَكَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْظَمَ الْأُمَّةِ فِرَاسَةً. وَبَعْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَوَقَائِعُ فِرَاسَتِهِ مَشْهُورَةٌ. فَإِنَّهُ مَا قَالَ لِشَيْءٍ أَظُنُّهُ كَذَا إِلَّا كَانَ كَمَا قَالَ. وَيَكْفِي فِي فِرَاسَتِهِ: مُوَافَقَتُهُ رَبَّهُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَعْرُوفَةِ. وَمَرَّ بِهِ سَوَّادُ بْنُ قَارِبٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ. فَقَالَ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي، أَوْ أَنَّ هَذَا كَاهِنٌ، أَوْ كَانَ يَعْرِفُ الْكِهَانَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَلَمَّا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ ذَلِكَ عُمَرُ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا اسْتَقْبَلْتَ أَحَدًا مِنْ جُلَسَائِكَ بِمِثْلِ مَا اسْتَقْبَلْتَنِي بِهِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا كُنَّا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَكِنْ أَخْبِرْنِي عَمَّا سَأَلْتُكَ عَنْهُ. فَقَالَ: صَدَقْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. كُنْتُ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَادِقُ الْفِرَاسَةِ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَكُنْتُ رَأَيْتُ امْرَأَةً فِي الطَّرِيقِ تَأَمَّلْتُ مَحَاسِنَهَا. فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَدْخُلُ عَلَيَّ أَحَدُكُمْ وَأَثَرُ الزِّنَا ظَاهِرٌ فِي عَيْنَيْهِ. فَقُلْتُ: أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: وَلَكِنْ تَبْصِرَةٌ وَبُرْهَانٌ وَفِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ. وَفِرَاسَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَصْدَقُ الْفِرَاسَةِ. وَأَصْلُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفِرَاسَةِ: مِنَ الْحَيَاةِ وَالنُّورِ اللَّذَيْنِ يَهَبُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَيَحْيَا الْقَلْبُ بِذَلِكَ وَيَسْتَنِيرُ، فَلَا تَكَادُ فِرَاسَتُهُ تُخْطِئُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] كَانَ مَيْتًا بِالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ. وَجَعَلَ لَهُ بِالْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ نُورًا يَسْتَضِيءُ بِهِ فِي النَّاسِ عَلَى قَصْدِ السَّبِيلِ. وَيَمْشِي بِهِ فِي الظُّلَمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل الثانية فراسة الرياضة والجوع

[فَصْلٌ الثَّانِيَةُ فِرَاسَةُ الرِّيَاضَةِ وَالْجُوعِ] فَصْلٌ الْفِرَاسَةُ الثَّانِيَةُ: فِرَاسَةُ الرِّيَاضَةِ وَالْجُوعِ، وَالسَّهَرِ وَالتَّخَلِّي. فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنِ الْعَوَائِقِ صَارَ لَهَا مِنَ الْفِرَاسَةِ وَالْكَشْفِ بِحَسَبِ تَجَرُّدِهَا. وَهَذِهِ فِرَاسَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَلَا تَدُلُّ عَلَى إِيمَانٍ وَلَا عَلَى وِلَايَةٍ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ يَغْتَرُّ بِهَا. وَلِلرُّهْبَانِ فِيهَا وَقَائِعُ مَعْلُومَةٌ. وَهِيَ فِرَاسَةٌ لَا تَكْشِفُ عَنْ حَقٍّ نَافِعٍ. وَلَا عَنْ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. بَلْ كَشْفُهَا جُزْئِيٌّ مِنْ جِنْسِ فِرَاسَةِ الْوُلَاةِ، وَأَصْحَابِ عِبَارَةِ الرُّؤْيَا وَالْأَطِبَّاءِ وَنَحْوِهِمْ. وَلِلْأَطِبَّاءِ فِرَاسَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ حِذْقِهِمْ فِي صِنَاعَتِهِمْ. وَمَنْ أَحَبَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا فَلْيُطَالِعْ تَارِيخَهُمْ وَأَخْبَارَهُمْ. وَقَرِيبٌ مِنْ نِصْفِ الطِّبِّ فِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ، يَقْتَرِنُ بِهَا تَجْرِبَةٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الثَّالِثَةُ الْفِرَاسَةُ الْخَلْقِيَّةُ] فَصْلٌ الْفِرَاسَةُ الثَّالِثَةُ: الْفِرَاسَةُ الْخَلْقِيَّةُ. وَهِيَ الَّتِي صَنَّفَ فِيهَا الْأَطِبَّاءُ وَغَيْرُهُمْ. وَاسْتَدَلُّوا بِالْخَلْقِ عَلَى الْخُلُقِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِارْتِبَاطِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللَّهِ. كَالِاسْتِدْلَالِ بِصِغَرِ الرَّأْسِ الْخَارِجِ عَنِ الْعَادَةِ عَلَى صِغَرِ الْعَقْلِ. وَبِكِبَرِهِ، وَبِسِعَةِ الصَّدْرِ، وَبُعْدِ مَا بَيْنَ جَانِبَيْهِ: عَلَى سَعَةِ خُلُقِ صَاحِبِهِ. وَاحْتِمَالِهِ وَبِسْطَتِهِ. وَبِضِيقِهِ عَلَى ضِيقِهِ، وَبِخُمُودِ الْعَيْنِ وَكَلَالِ نَظَرِهَا عَلَى بَلَادَةِ صَاحِبِهَا، وَضَعْفِ حَرَارَةِ قَلْبِهِ. وَبِشِدَّةِ بَيَاضِهَا مَعَ إِشْرَابِهِ بِحُمْرَةٍ - وَهُوَ الشَّكْلُ - عَلَى شَجَاعَتِهِ وَإِقْدَامِهِ وَفِطْنَتِهِ. وَبِتَدْوِيرِهَا مَعَ حُمْرَتِهَا وَكَثْرَةِ تَقَلُّبِهَا عَلَى خِيَانَتِهِ وَمَكْرِهِ وَخِدَاعِهِ. وَمُعْظَمُ تَعَلُّقِ الْفِرَاسَةِ بِالْعَيْنِ. فَإِنَّهَا مِرْآةُ الْقَلْبِ وَعُنْوَانُ مَا فِيهِ. ثُمَّ بِاللِّسَانِ. فَإِنَّهُ رَسُولُهُ وَتُرْجُمَانُهُ. وَبِالِاسْتِدْلَالِ بِزُرْقَتِهَا مَعَ شُقْرَةِ صَاحِبِهَا عَلَى رَدَاءَتِهِ. وَبِالْوَحْشَةِ الَّتِي تُرَى عَلَيْهَا عَلَى سُوءِ دَاخِلِهِ وَفَسَادِ طَوِيَّتِهِ. وَكَالِاسْتِدْلَالِ بِإِفْرَاطِ الشَّعَرِ فِي السُّبُوطَةِ عَلَى الْبَلَادَةِ. وَبِإِفْرَاطِهِ فِي الْجُعُودَةِ عَلَى الشَّرِّ. وَبِاعْتِدَالِهِ عَلَى اعْتِدَالِ صَاحِبِهِ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْفِرَاسَةِ: أَنَّ اعْتِدَالَ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ: هُوَ مِنِ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَالرُّوحِ. وَعَنِ اعْتِدَالِهَا يَكُونُ اعْتِدَالُ الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ. وَبِحَسَبِ انْحِرَافِ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ عَنْ

الِاعْتِدَالِ: يَقَعُ الِانْحِرَافُ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ. هَذَا إِذَا خُلِّيتِ النَّفْسُ وَطَبِيعَتَهَا. وَلَكِنَّ صَاحِبَ الصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ الْمُعْتَدِلَةِ يَكْتَسِبُ بِالْمُقَارَنَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ أَخْلَاقَ مَنْ يُقَارِنُهُ وَيُعَاشِرُهُ. وَلَوْ أَنَّهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ. فَيَصِيرُ مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ أَخْلَاقًا وَأَفْعَالًا، وَتَعُودُ لَهُ تِلْكَ طِبَاعًا، وَيَتَعَذَّرُ - أَوْ يَتَعَسَّرُ - عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ عَنْهَا. وَكَذَلِكَ صَاحَبُ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ الْمُنْحَرِفَةِ عَنْ الِاعْتِدَالِ يَكْتَسِبُ بِصُحْبَةِ الْكَامِلِينَ بِخُلْطَتِهِمْ أَخْلَاقًا وَأَفْعَالًا شَرِيفَةً. تَصِيرُ لَهُ كَالطَّبِيعَةِ. فَإِنَّ الْعَوَائِدَ وَالْمُزَاوَلَاتِ تُعْطِي الْمَلَكَاتِ وَالْأَخْلَاقَ. فَلْيَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ وَلَا يُعَجِّلْ بِالْقَضَاءِ بِالْفِرَاسَةِ دُونَهُ. فَإِنَّ الْقَاضِيَ حِينَئِذٍ يَكُونُ خَطَؤُهُ كَثِيرًا. فَإِنَّ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ أَسْبَابٌ لَا مُوجِبَةٌ. وَقَدْ تَتَخَلَّفُ عَنْهَا أَحْكَامُهَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ، أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ. وَفِرَاسَةُ الْمُتَفَرِّسِ تَتَعَلَّقُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِعَيْنِهِ. وَأُذُنِهِ. وَقَلْبِهِ. فَعَيْنُهُ لِلسِّيمَاءِ وَالْعَلَامَاتِ. وَأُذُنُهُ: لِلْكَلَامِ وَتَصْرِيحِهِ وَتَعْرِيضِهِ، وَمَنْطُوقِهِ، وَمَفْهُومِهِ، وَفَحْوَاهُ وَإِشَارَتِهِ. وَلَحْنِهِ وَإِيمَانِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَلْبُهُ لِلْعُبُورِ: وَالِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْمَنْظُورِ وَالْمَسْمُوعِ إِلَى بَاطِنِهِ وَخَفِيِّهِ. فَيَعْبُرُ إِلَى مَا وَرَاءَ ظَاهِرِهِ، كَعُبُورِ النُّقَّادِ مِنْ ظَاهِرِ النَّقْشِ وَالسِّكَّةِ إِلَى بَاطِنِ النَّقْدِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ: هَلْ هُوَ صَحِيحٌ، أَوْ زَغَلٌ؟ وَكَذَلِكَ عُبُورُ الْمُتَفَرِّسِ مِنْ ظَاهِرِ الْهَيْئَةِ وَالدَّلِّ، إِلَى بَاطِنِ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ، فَنِسْبَةُ نَقْدِهِ لِلْأَرْوَاحِ مِنَ الْأَشْبَاحِ كَنِسْبَةِ نَقْدِ الصَّيْرَفِيِّ يَنْظُرُ لِلْجَوْهَرِ مِنْ ظَاهِرِ السِّكَّةِ وَالنَّقْدِ. وَكَذَلِكَ نَقْدُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. فَإِنَّهُ يَمُرُّ إِسْنَادٌ ظَاهِرٌ كَالشَّمْسِ عَلَى مَتْنٍ مَكْذُوبٍ. فَيُخْرِجُهُ نَاقِدُهُمْ، كَمَا يُخْرِجُ الصَّيْرَفِيُّ الزَّغَلَ مِنْ تَحْتِ الظَّاهِرِ مِنَ الْفِضَّةِ. وَكَذَلِكَ فِرَاسَةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ. وَلِلْفِرَاسَةِ سَبَبَانِ. أَحَدُهُمَا: جَوْدَةُ ذِهْنِ الْمُتَفَرِّسِ، وَحِدَّةُ قَلْبِهِ، وَحُسْنُ فِطْنَتِهِ. وَالثَّانِي: ظُهُورُ الْعَلَامَاتِ وَالْأَدِلَّةِ عَلَى الْمُتَفَرِّسِ فِيهِ. فَإِذَا اجْتَمَعَ السَّبَبَانِ لَمْ تَكَدْ تُخْطِئُ لِلْعَبْدِ فِرَاسَةٌ. وَإِذَا انْتَفَيَا لَمْ تَكَدْ تَصِحُّ لَهُ فِرَاسَةٌ. وَإِذَا قَوِيَ أَحَدُهُمَا وَضَعُفَ الْآخَرُ. كَانَتْ فِرَاسَتُهُ بَيْنَ بَيْنَ. وَكَانَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِرَاسَةً. وَلَهُ الْوَقَائِعُ الْمَشْهُورَةُ. وَكَذَلِكَ

الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: إِنَّ لَهُ فِيهَا تَآلِيفُ. وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْ فِرَاسَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أُمُورًا عَجِيبَةً. وَمَا لَمْ أُشَاهِدْهُ مِنْهَا أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ. وَوَقَائِعُ فِرَاسَتِهِ تَسْتَدْعِي سِفْرًا ضَخْمًا. أَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِدُخُولِ التَّتَارِ الشَّامَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَنَّ جُيُوشَ الْمُسْلِمِينَ تُكْسَرُ، وَأَنَّ دِمَشْقَ لَا يَكُونُ بِهَا قَتْلٌ عَامٌّ وَلَا سَبْيٌ عَامٌّ، وَأَنَّ كَلَبَ الْجَيْشِ وَحِدَّتَهُ فِي الْأَمْوَالِ. وَهَذَا قَبْلَ أَنْ يَهُمَّ التَّتَارُ بِالْحَرَكَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ النَّاسَ وَالْأُمَرَاءَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ لَمَّا تَحَرَّكَ التَّتَارُ وَقَصَدُوا الشَّامَ: أَنَّ الدَّائِرَةَ وَالْهَزِيمَةَ عَلَيْهِمْ. وَأَنَّ الظَّفَرَ وَالنَّصْرَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ يَمِينًا. فَيُقَالُ لَهُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَيَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَحْقِيقًا لَا تَعْلِيقًا. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ. قَالَ: فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيَّ. قُلْتُ: لَا تُكْثِرُوا. كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. أَنَّهُمْ مَهْزُومُونَ فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ. وَأَنَّ النَّصْرَ لِجُيُوشِ الْإِسْلَامِ. قَالَ: وَأَطْمَعَتْ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ وَالْعَسْكَرِ حَلَاوَةُ النَّصْرِ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إِلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ. وَكَانَتْ فِرَاسَتُهُ الْجُزْئِيَّةُ فِي خِلَالِ هَاتَيْنِ الْوَاقِعَتَيْنِ مِثْلَ الْمَطَرِ. وَلَمَّا طُلِبَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأُرِيدَ قَتْلُهُ - بَعْدَمَا أُنْضِجَتْ لَهُ الْقُدُورُ، وَقُلِّبَتْ لَهُ الْأُمُورُ - اجْتَمَعَ أَصْحَابُهُ لِوَدَاعِهِ. وَقَالُوا: قَدْ تَوَاتَرَتِ الْكُتُبُ بِأَنَّ الْقَوْمَ عَامِلُونَ عَلَى قَتْلِكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَصِلُونَ إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا. قَالُوا: أَفَتُحْبَسُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيَطُولُ حَبْسِي. ثُمَّ أَخْرُجُ وَأَتَكَلَّمُ بِالسُّنَّةِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ. سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ. وَلَمَّا تَوَلَّى عَدُوُّهُ الْمُلَقَّبُ بِالْجَاشِنْكِيرِ الْمُلْكَ أَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ. وَقَالُوا: الْآنَ بَلَغَ مُرَادَهُ مِنْكَ. فَسَجَدَ لِلَّهِ شُكْرًا وَأَطَالَ. فَقِيلَ لَهُ: مَا سَبَبُ هَذِهِ السَّجْدَةُ؟ فَقَالَ: هَذَا بِدَايَةُ ذُلِّهِ وَمُفَارَقَةُ عِزِّهِ مِنَ الْآنِ، وَقُرْبُ زَوَالِ أَمْرِهِ. فَقِيلَ: مَتَى هَذَا؟ فَقَالَ: لَا تُرْبَطُ خُيُولُ الْجُنْدِ عَلَى الْقُرْطِ حَتَّى تُغْلَبَ دَوْلَتُهُ. فَوَقَعَ الْأَمْرُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَ بِهِ. سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْهُ. وَقَالَ مَرَّةً: يَدْخُلُ عَلَيَّ أَصْحَابِي وَغَيْرُهُمْ. فَأَرَى فِي وُجُوهِهِمْ وَأَعْيُنِهِمْ أُمُورًا لَا أَذْكُرُهَا لَهُمْ. فَقُلْتُ لَهُ - أَوَ غَيْرِي - لَوْ أَخْبَرْتَهُمْ؟ فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ أَكُونَ مُعَرِّفًا كَمُعَرَّفِ الْوُلَاةِ؟

فصل تعريف الفراسة

وَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: لَوْ عَامَلْتَنَا بِذَلِكَ لَكَانَ أَدْعَى إِلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالصَّلَاحِ. فَقَالَ: لَا تَصْبِرُونَ مَعِي عَلَى ذَلِكَ جُمُعَةً، أَوْ قَالَ: شَهْرًا. وَأَخْبَرَنِي غَيْرَ مَرَّةٍ بِأُمُورٍ بَاطِنَةٍ تَخْتَصُّ بِي مِمَّا عَزَمْتُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانِي. وَأَخْبَرَنِي بِبَعْضِ حَوَادِثَ كِبَارٍ تَجْرِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَمْ يُعَيِّنْ أَوْقَاتَهَا. وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَهَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ بَقِيَّتَهَا. وَمَا شَاهَدَهُ كِبَارُ أَصْحَابِهِ مِنْ ذَلِكَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا شَاهَدَتْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ تَعْرِيفُ الْفِرَاسَةِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفِرَاسَةُ: اسْتِئْنَاسُ حُكْمِ غَيْبٍ وَالِاسْتِئْنَاسُ: اسْتِفْعَالٌ مَنْ آنَسْتَ كَذَا، إِذَا رَأَيْتَهُ. فَإِنْ أَدْرَكْتَ بِهَذَا الِاسْتِئْنَاسِ حُكْمَ غَيْبٍ: كَانَ فِرَاسَةً. وَإِنْ كَانَ بِالْعَيْنِ: كَانَ رُؤْيَةً. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْمَدَارِكِ: فَبِحَسَبِهَا. قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِشَاهِدِهِ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ: أَمْرٌ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ. وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْبُرُوقِ وَالرُّعُودِ عَلَى الْأَمْطَارِ، وَكَاسْتِدْلَالِ رُؤَسَاءِ الْبَحْرِ بِالْكَدَرِ الَّذِي يَبْدُو لَهُمْ فِي جَانِبِ الْأُفُقِ عَلَى رِيحٍ عَاصِفٍ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَاسْتِدْلَالِ الطَّبِيبِ بِالسِّحْنَةِ وَالتَّفْسِرَةِ عَلَى حَالِ الْمَرِيضِ. وَيَدِقُّ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى حَدٍّ يَعْجِزُ عَنْهُ أَكْثَرُ الْأَذْهَانِ. وَكَمَا يُسْتَدَلُّ بِسِيرَةِ الرَّجُلِ وَسَيْرِهِ عَلَى عَاقِبَةِ أَمْرِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. فَيُطَابِقُ، أَوْ يَكَادُ. فَهَذَا خَارِجٌ عَنِ الْفِرَاسَةِ الَّتِي تَتَكَلَّمُ فِيهَا هَذِهِ الطَّائِفَةُ. وَهُوَ نَوْعُ فِرَاسَةٍ، لَكِنَّهَا غَيْرُ فِرَاسَتِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ مِنْ مَسَائِلِ الطِّبِّ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْفِلَاحَةِ وَغَيْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل درجات الفراسة

[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْفِرَاسَةِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى فِرَاسَةٌ طَارِئَةٌ نَادِرَةٌ] فَصْلٌ قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الْأُولَى: فِرَاسَةٌ طَارِئَةٌ نَادِرَةٌ. تَسْقُطُ عَلَى لِسَانٍ وَحْشِيٍّ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً. لِحَاجَةِ سَمْعِ مُرِيدٍ صَادِقٍ إِلَيْهَا. لَا يُتَوَقَّفُ عَلَى مُخْرِجِهَا. وَلَا يُؤْبَهُ لِصَاحِبِهَا. وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَخْلُصُ مِنَ الْكَهَانَةِ وَمَا ضَاهَأَهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تُشِرْ عَنْ عَيْنٍ، وَلَمْ تَصْدُرْ عَنْ عِلْمٍ. وَلَمْ تُسْبَقْ بِوُجُودٍ. يُرِيدُ بِهَذَا النَّوْعِ: فِرَاسَةً تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْغَافِلِينَ، الَّذِينَ لَيْسَتْ لَهُمْ يَقَظَةُ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ. فَلِذَلِكَ قَالَ: طَارِئَةٌ نَادِرَةٌ تَسْقُطُ عَلَى لِسَانٍ وَحْشِيٍّ. الَّذِي لَمْ يَأْنَسْ بِذِكْرِ اللَّهِ. وَلَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ قَلْبُ صَاحِبِهِ. فَيَسْقُطُ عَلَى لِسَانِهِ مُكَاشَفَةٌ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً. وَذَلِكَ نَادِرٌ. وَرَمْيَةٌ مِنْ غَيْرِ رَامٍ. وَقَوْلُهُ: لِحَاجَةِ مُرِيدٍ صَادِقٍ. يُشِيرُ إِلَى حِكْمَةِ إِجْرَائِهَا عَلَى لِسَانِهِ. وَهِيَ حَاجَةُ الْمُرِيدِ الصَّادِقِ إِلَيْهَا. فَإِذَا سَمِعَهَا عَلَى لِسَانِ غَيْرِهِ كَانَ أَشَدَّ تَنْبِيهًا لَهُ. وَكَانَتْ عِنْدَهُ أَعْظَمَ مَوْقِعًا. وَقَوْلُهُ: لَا يُوقَفُ عَلَى مُخْرِجِهَا. يَعْنِي لَا يُعْلَمُ الشَّخْصُ الَّذِي وَصَلَتْ إِلَيْهِ. وَاتَّصَلَتْ بِهِ. مَا سَبَبُ مُخْرِجِ ذَلِكَ الْكَلَامِ؟ وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مُقْتَطَعًا مِمَّا قَبْلَهُ وَمِمَّا هَيَّجَهُ. وَلَا يُؤْبَهُ لِصَاحِبِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ. قُلْتُ: وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْفَأْلِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْفَأْلَ وَيُعْجِبُهُ. وَالطِّيَرَةُ مِنْ هَذَا. وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَتَطَيَّرُ. فَإِنَّ التَّطَيُّرَ شِرْكٌ. وَلَا يَصُدُّهُ مَا سَمِعَ عَنْ مَقْصِدِهِ وَحَاجَتِهِ. بَلْ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ وَيَثِقُ بِهِ. وَيَدْفَعُ شَرَّ التَّطَيُّرِ عَنْهُ بِالتَّوَكُّلِ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، وَمَا مِنَّا إِلَّا. وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ» . وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ - وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَا مَنَّا إِلَّا - يَعْنِي مَنْ يَعْتَرِيهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهَا بِالتَّوَكُّلِ - مُدْرَجَةٌ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَجَاءَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا. وَمِنْ لَهُ يَقَظَةٌ يَرَى وَيَسْمَعُ مِنْ ذَلِكَ عَجَائِبَ. وَهِيَ مِنْ إِلْقَاءِ الْمَلَكِ تَارَةً عَلَى لِسَانِ النَّاطِقِ. وَتَارَةً مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ. فَالْإِلْقَاءُ الْمَلَكِيُّ: تَبْشِيرٌ وَتَحْذِيرٌ وَإِنْذَارٌ. وَالْإِلْقَاءُ الشَّيْطَانِيُّ: تَحْزِينٌ وَتَخْوِيفٌ وَشِرْكٌ. وَصَدٌّ عَنِ الْمَطَالِبِ. وَصَاحِبُ الْهِمَّةِ وَالْعَزِيمَةِ: لَا يَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ. وَلَا يَصْرِفُ إِلَيْهِ هِمَّتَهُ. وَإِذَا سَمِعَ مَا يَسُرُّهُ اسْتَبْشَرَ. وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ وَحَسُنَ ظَنُّهُ. وَحَمِدَ اللَّهَ. وَسَأَلَهُ إِتْمَامَهُ. وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى حُصُولِهِ. وَإِذَا سَمِعَ مَا يَسُوءُهُ: اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ وَوَثِقَ بِهِ. وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ. وَلَجَأَ إِلَيْهِ، وَالْتَجَأَ إِلَى التَّوْحِيدِ. وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ. وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ. وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ. اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ. وَلَا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ. وَمَنْ جَعَلَ هَذَا نُصْبَ قَلْبِهِ، وَعَلَّقَ بِهِ هِمَّتَهُ: كَانَ ضَرَرُهُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ. قَوْلُهُ: وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَخْلُصُ مِنَ الْكَهَانَةِ يَعْنِي: أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكَهَانَةِ. وَأَحْوَالُ الْكُهَّانِ مَعْلُومَةٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي إِخْبَارِهِمْ عَنْ نَوْعٍ مِنَ الْمَغِيبَاتِ بِوَاسِطَةِ إِخْوَانِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يُلْقُونَ إِلَيْهِمُ السَّمْعَ، وَلَمْ يَزَلْ هَؤُلَاءِ فِي الْوُجُودِ. وَيَكْثُرُونَ فِي الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الَّتِي يَخْفَى فِيهَا نُورُ النُّبُوَّةِ. وَلِذَلِكَ كَانُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكُلُّ زَمَانِ جَاهِلِيَّةٍ وَبَلَدِ جَاهِلِيَّةٍ وَطَائِفَةِ جَاهِلِيَّةٍ، فَلَهُمْ

الدرجة الثانية فراسة تجنى عن غرس الإيمان

نُصِيبٌ مِنْهَا بِحَسَبِ اقْتِرَانِ الشَّيَاطِينِ بِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ لَهُمْ، وَعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَمَا ضَاهَأَهَا أَيْ وَمَا شَابَهَهَا مِنْ جِنْسِ الْخَطِّ بِالرَّمْلِ، وَضَرْبِ الْحَصَا وَالْوَدَعِ، وَزَجْرِ الطَّيْرِ، الَّذِي يُسَمُّونَهُ السَّانِحَ وَالْبَارِحَ، وَالْقُرْعَةِ الشِّرْكِيَّةِ لَا الشَّرْعِيَّةِ، وَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ النُّفُوسُ الْجَاهِلِيَّةُ الْمُشْرِكَةُ الَّتِي عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرٌ وَبَوَارٌ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهَا لَمْ تُشِرْ عَنْ عَيْنٍ. أَيْ عَنْ عَيْنِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي لَا يَصْدُرُ عَنْهَا إِلَّا حَقٌّ. يَعْنِي غَيْرَ مُتَّصِلَةٍ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تَصْدُرْ عَنْ عِلْمٍ. يَعْنِي أَنَّهَا ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ، لَا عَنْ عِلْمٍ وَيَقِينٍ. وَصَاحِبُهَا دَائِمًا فِي شَكٍّ. لَيْسَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تُسَقْ بِوُجُودٍ. أَيْ لَمْ يَسُقْهَا وُجُودُ الْحَقِيقَةِ لِصَاحِبِهَا، بَلْ هُوَ فَارِغٌ بَوٌّ غَيْرُ وَاجِدٍ، بَلْ فَاقِدٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْوُجُودِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ فِرَاسَةٌ تُجْنَى عَنْ غَرْسِ الْإِيمَانِ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: فِرَاسَةٌ تُجْنَى عَنْ غَرْسِ الْإِيمَانِ. وَتَطْلُعُ مِنْ صِحَّةِ الْحَالِ. وَتَلْمَعُ مِنْ نُورِ الْكَشْفِ. هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْفِرَاسَةِ: مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ. وَلِذَلِكَ قَالَ: تُجْنَى مِنْ غَرْسِ الْإِيمَانِ وَشَبَّهَ الْإِيمَانَ بِالْغَرْسِ، لِأَنَّهُ يَزْدَادُ وَيَنْمُو، وَيَزْكُو عَلَى السَّقْيِ. وَيُؤْتِي أُكُلَهُ كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهِ. وَأَصْلُهُ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ. وَفُرُوعُهُ فِي السَّمَاءِ، فَمَنْ غَرَسَ الْإِيمَانَ فِي أَرْضِ قَلْبِهِ الطَّيِّبَةِ الزَّاكِيَةِ، وَسَقَى ذَلِكَ الْغِرَاسَ بِمَاءِ الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ وَالْمُتَابَعَةِ: كَانَ مِنْ بَعْضِ ثَمَرِهِ هَذِهِ الْفِرَاسَةُ. قَوْلُهُ: وَتَطْلُعُ مِنْ صِحَّةِ الْحَالِ يَعْنِي: أَنَّ صِدْقَ الْفِرَاسَةِ مَنْ صِدْقِ الْحَالِ. فَكُلَّمَا كَانَ الْحَالُ أَصْدَقَ وَأَصَحَّ فَالْفِرَاسَةُ كَذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَتَلْمَعُ مِنْ نُورِ الْكَشْفِ يَعْنِي أَنَّ نُورَ الْكَشْفِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُولِّدُ الْفِرَاسَةَ، بَلْ أَصْلُهَا نُورُ الْكَشْفِ.

فصل الدرجة الثالثة فراسة سرية

وَقُوَّةُ الْفِرَاسَةِ: بِحَسَبِ قُوَّةِ هَذَا النُّورِ وَضَعْفِهِ، وَقُوَّتُهُ وَضَعْفُهُ بِحَسَبِ قُوَّةِ مَادَّتِهِ وَضِعْفِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ فِرَاسَةٌ سَرِيَّةٌ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: فِرَاسَةٌ سَرِيَّةٌ، لَمْ تَجْتَلِبْهَا رَوِيَّةٌ عَلَى لِسَانٍ مُصْطَنَعٍ تَصْرِيحًا أَوْ رَمْزًا. يَحْتَمِلُ لَفْظُ السَّرِيَّةِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الشَّرَفُ. أَيْ فِرَاسَةٌ شَرِيفَةٌ. فَإِنَّ الرَّجُلَ السَّرِيَّ هُوَ الرَّجُلُ الشَّرِيفُ. وَجَمْعُهُ سَرَاةٌ، وَمِنْهُ - فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ - قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24] أَيْ سَيِّدًا مُطَاعًا. وَهُوَ الْمَسِيحُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ سَرِيَّةٌ بِوَزْنِ شَرِيفَةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنَ السِّرِّ، أَيْ فِرَاسَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَسْرَارِ لَا بِالظَّوَاهِرِ، فَتَكُونُ سَرِيَّةٌ بِوَزْنِ شَرِيبَةٌ وَمَكِيثَةٌ. قَوْلُهُ: لَمْ تَجْتَلِبْهَا رَوِيَّةٌ أَيْ لَا تَكُونُ عَنْ فِكْرَةٍ. بَلْ تَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ هُجُومًا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ. قَوْلُهُ: عَلَى لِسَانٍ مُصْطَنَعٍ أَيْ مُخْتَارٍ مُصْطَفًى عَلَى غَيْرِهِ. تَصْرِيحًا أَوْ رَمْزًا يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْمُخْتَارَ الْمُصْطَفَى يُخْبِرُ بِهَذِهِ الْفِرَاسَةِ الْعَالِيَةِ عَنْ أُمُورٍ مُغَيَّبَةٍ، تَارَةً بِالتَّصْرِيحِ، وَتَارَةً بِالتَّلْوِيحِ، إِمَّا سَتْرًا لِحَالِهِ، وَإِمَّا صِيَانَةً لِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ الِابْتِذَالِ، وَوُصُولِهِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ. وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّعْظِيمِ] [حَقِيقَةُ التَّعْظِيمِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّعْظِيمِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ التَّعْظِيمِ. وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةُ تَابِعَةٌ لِلْمَعْرِفَةِ. فَعَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ يَكُونُ تَعْظِيمُ الرَّبِّ تَعَالَى فِي الْقَلْبِ. وَأَعْرَفُ النَّاسِ بِهِ: أَشَدُّهُمْ لَهُ تَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يُعَظِّمْهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ. وَلَا عَرَفَهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ. وَلَا وَصَفَهُ حَقَّ صِفَتِهِ. وَأَقْوَالُهُمْ تَدُورُ عَلَى هَذَا. فَقَالَ

فصل درجات التعظيم

تَعَالَى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا لَكُمْ لَا تُعَظِّمُونَ اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ؟ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَالرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْمَخُوفِ. وَالْوَقَارُ الْعَظَمَةُ. اسْمٌ مِنَ التَّوْقِيرِ. وَهُوَ التَّعْظِيمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تَعْرِفُونَ لِلَّهِ حَقًّا، وَلَا تَشْكُرُونَ لَهُ نِعْمَةً. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَا تَرْجُونَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ أَنْ يُثِيبَكُمْ عَلَى تَوْقِيرِكُمْ إِيَّاهُ خَيْرًا. وَرُوحُ الْعِبَادَةِ: هُوَ الْإِجْلَالُ وَالْمَحَبَّةُ. فَإِذَا تَخَلَّى أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ فَسَدَتْ. فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهَذَيْنِ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَحْبُوبِ الْمُعَظَّمِ. فَذَلِكَ حَقِيقَةُ الْحَمْدِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ التَّعْظِيمِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّعْظِيمُ: مَعْرِفَةُ الْعَظَمَةِ، مَعَ التَّذَلُّلِ لَهَا. وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الْأُولَى: تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُعَارَضَا بِتَرَخُّصٍ جَافٍّ. وَلَا يُعَرَّضَا لِتَشَدُّدٍ غَالٍ. وَلَا يُحْمَلَا عَلَى عِلَّةٍ تُوهِنُ الِانْقِيَادَ. هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، تُنَافِي تَعْظِيمَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. أَحَدُهَا: التَّرَخُّصُ الَّذِي يَجْفُو بِصَاحِبِهِ عَنْ كَمَالِ الِامْتِثَالِ. وَالثَّانِي: الْغُلُوُّ الَّذِي يَتَجَاوَزُ بِصَاحِبِهِ حُدُودَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَالْأَوَّلُ: تَفْرِيطٌ. وَالثَّانِي: إِفْرَاطٌ. وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِأَمْرٍ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَزْعَتَانِ: إِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ وَإِضَاعَةٍ، وَإِمَّا إِلَى إِفْرَاطٍ وَغُلُوٍّ. وَدِينُ اللَّهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْجَافِي عَنْهُ وَالْغَالِي فِيهِ. كَالْوَادِي بَيْنَ جَبَلَيْنِ. وَالْهُدَى بَيْنَ

ضَلَالَتَيْنِ. وَالْوَسَطِ بَيْنَ طَرَفَيْنِ ذَمِيمَيْنِ. فَكَمَا أَنَّ الْجَافِيَ عَنِ الْأَمْرِ مُضَيِّعٌ لَهُ، فَالْغَالِي فِيهِ: مُضَيِّعٌ لَهُ. هَذَا بِتَقْصِيرِهِ عَنِ الْحَدِّ. وَهَذَا بِتَجَاوُزِهِ الْحَدَّ. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ الْغُلُوِّ بِقَوْلِهِ: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77] . وَالْغُلُوُّ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُطِيعًا. كَمَنْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ رَكْعَةً، أَوْ صَامَ الدَّهْرَ مَعَ أَيَّامِ النَّهْيِ، أَوْ رَمَى الْجَمَرَاتِ بِالصَّخْرَاتِ الْكِبَارِ الَّتِي يُرْمَى بِهَا فِي الْمَنْجَنِيقِ، أَوْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَشْرًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ عَمْدًا. وَغُلُوٌّ يُخَافُ مِنْهُ الِانْقِطَاعُ وَالِاسْتِحْسَارُ. كَقِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ. وَسَرْدِ الصِّيَامِ الدَّهْرَ أَجْمَعَ. بِدُونِ صَوْمِ أَيَّامِ النَّهْيِ. وَالْجَوْرِ عَلَى النُّفُوسِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَوْرَادِ، الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ. فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَيَسِّرُوا. وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ. وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» يَعْنِي اسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ. فَإِنَّ الْمُسَافِرَ يَسْتَعِينُ عَلَى قَطْعِ مَسَافَةِ السَّفَرِ بِالسَّيْرِ فِيهَا. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ. فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَرْقُدْ» رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ - قَالَهَا ثَلَاثًا - وَهُمُ الْمُتَعَمِّقُونَ الْمُتَشَدِّدُونَ» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا» .

وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ. فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ. وَلَا تُبَغِّضَنَّ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ» . أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَوْلُهُ: وَلَا يُحْمَلَا عَلَى عِلَّةٍ تُوهِنُ الِانْقِيَادَ. يُرِيدُ: أَنْ لَا يَتَأَوَّلَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عِلَّةً تَعُودُ عَلَيْهِمَا بِالْإِبْطَالِ، كَمَا تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِأَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَالتَّعَرُّضِ لِلْفَسَادِ. فَإِذَا أَمِنَ مِنْ هَذَا الْمَحْذُورِ مِنْهُ جَازَ شُرْبُهُ. كَمَا قِيلَ: أَدِرْهَا فَمَا التَّحْرِيمُ فِيهَا لِذَاتِهَا ... وَلَكِنْ لِأَسْبَابٍ تَضَمَّنَّهَا السُّكْرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ سُكْرٌ يُضِلُّ عَنِ الْهُدَى ... فَسِيَّانِ مَاءٌ فِي الزُّجَاجَةِ أَوْ خَمْرُ وَقَدْ بَلَغَ هَذَا بِأَقْوَامٍ إِلَى الِانْسِلَاخِ مِنَ الدِّينِ جُمْلَةً. وَقَدْ حَمَلَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ جَعَلُوا تَحْرِيمَ مَا عَدَا شَرَابِ خَمْرِ الْعِنَبِ مُعَلَّلًا بِالْإِسْكَارِ. فَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ مَا شَاءَ، مَا لَمْ يُسْكِرْ. وَمِنَ الْعِلَلِ الَّتِي تُوهِنُ الِانْقِيَادَ: أَنْ يُعَلِّلَ الْحُكْمَ بِعِلَّةٍ ضَعِيفَةٍ، لَمْ تَكُنْ هِيَ الْبَاعِثَةَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. فَيَضْعُفَ انْقِيَادُ الْعَبْدِ إِذَا قَامَ عِنْدَهُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ عِلَّةُ الْحَكَمِ. وَلِهَذَا كَانَتْ طَرِيقَةُ الْقَوْمِ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لِعِلَلِ التَّكَالِيفِ خَشْيَةَ هَذَا الْمَحْذُورِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ الْقَدِيمَةِ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ. لَا تَقُولُوا: لِمَ أَمَرَ رَبُّنَا؟ وَلَكِنْ قُولُوا: بِمَ أَمَرَ رَبُّنَا؟ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَمْتَثِلِ الْأَمْرَ حَتَّى تَظْهَرَ لَهُ عِلَّتُهُ، لَمْ يَكُنْ مُنْقَادًا لِلْأَمْرِ. وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ: أَنْ يَضْعُفَ انْقِيَادُهُ لَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى حِكَمِ الْعِبَادَاتِ وَالتَّكَالِيفِ مَثَلًا. وَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِيهَا هِيَ جَمْعِيَّةَ الْقَلْبِ، وَالْإِقْبَالَ بِهِ عَلَى اللَّهِ. فَقَالَ: أَنَا أَشْتَغِلُ بِالْمَقْصُودِ عَنِ الْوَسِيلَةِ. فَاشْتَغَلَ بِجَمْعِيَّتِهِ وَخَلْوَتِهِ عَنْ أَوْرَادِ الْعِبَارَاتِ فَعَطَّلَهَا، وَتَرَكَ الِانْقِيَادَ بِحَمْلِهِ الْأَمْرَ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي أَذْهَبَتِ انْقِيَادَهُ.

فصل الدرجة الثانية تعظيم الحكم

وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَرْكِ تَعَظُّمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَقَدْ دَخَلَ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الطَّوَائِفِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. فَمَا يَدْرِي مَا أَوْهَنَتِ الْعِلَلُ الْفَاسِدَةُ مِنْ الِانْقِيَادِ إِلَّا اللَّهُ. فَكَمْ عَطَّلَتْ لِلَّهِ مِنْ أَمْرٍ. وَأَبَاحَتْ مِنْ نَهْيٍ. وَحَرَّمَتْ مِنْ مُبَاحٍ؟ ! وَهِيَ الَّتِي اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ السَّلَفِ عَلَى ذَمِّهَا. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تَعْظِيمُ الْحُكْمِ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَعْظِيمُ الْحُكْمِ: أَنْ يُبْغَى لَهُ عِوَجٌ، أَوْ يُدَافَعَ بِعِلْمٍ. أَوْ يَرْضَى بِعِوَضٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ الْحُكْمِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ. وَهُوَ الَّذِي يَخُصُّهُ الْمُصَنِّفُ بِاسْمِ الْحُكْمِ وَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَرْعَى حُكْمَ اللَّهِ الدِّينِيَّ بِالتَّعْظِيمِ. فَكَذَلِكَ يَرْعَى حُكْمَهُ الْكَوْنِيَّ بِهِ. فَذَكَرَ مِنْ تَعْظِيمِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا أَنْ لَا يُبْغَى لَهُ عِوَجٌ أَيْ يُطْلَبَ لَهُ عِوَجٌ، أَوْ يُرَى فِيهِ عِوَجٌ. بَلْ يَرَاهُ كُلَّهُ مُسْتَقِيمًا. لِأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ عَيْنِ الْحِكْمَةِ. فَلَا عِوَجَ فِيهِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ أَشْكَلَ عَلَى النَّاسِ جِدًّا. فَقَالَ نُفَاةُ الْقَدَرِ: مَا فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ وَلَا عِوَجٍ. وَالْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَعْظَمِ التَّفَاوُتِ وَالْعِوَجِ. فَلَيْسَتْ بِخَلْقِهِ لَا مَشِيئَتِهِ وَلَا قَدَرِهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ تُقَابِلُهُمْ: بَلْ هِيَ مِنْ خَلْقِ الرَّحْمَنِ وَقَدَرِهِ. فَلَا عِوَجَ فِيهَا. وَكُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مُسْتَقِيمٌ. وَالطَّائِفَتَانِ ضَالَّتَانِ، مُنْحَرِفَتَانِ عَنِ الْهُدَى. وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ أَشَدُّ انْحِرَافًا. لِأَنَّهَا جَعَلَتِ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا لَا عِوَجَ فِيهِ. وَعَدَمُ تَفْرِيقِ الطَّائِفَتَيْنِ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْمَقْضِيِّ، وَالْحُكْمِ وَالْمَحْكُومِ بِهِ: هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِيمَا أَوْقَعَهُمْ فِيهِ. وَقَوْلُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَجُمْهُورِهَا: إِنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ الْمَقْضِيِّ. فَالْقَضَاءُ فِعْلُهُ وَمَشِيئَتُهُ وَمَا قَامَ بِهِ. وَالْمَقْضِيُّ مَفْعُولُهُ الْمُبَايِنُ لَهُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ. وَهُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْعِوَجِ وَالِاسْتِقَامَةِ.

فَقَضَاؤُهُ كُلُّهُ حَقٌّ. وَالْمَقْضِيُّ: مِنْهُ حَقٌّ، وَمِنْهُ بَاطِلٌ. وَقَضَاؤُهُ كُلُّهُ عَدْلٌ. وَالْمَقْضِيُّ: مِنْهُ عَدْلٌ، وَمِنْهُ جَوْرٌ، وَقَضَاؤُهُ كُلُّهُ مَرَضِيٌّ. وَالْمَقْضِيُّ: مِنْهُ مَرَضِيٌّ، وَمِنْهُ مَسْخُوطٌ. وَقَضَاؤُهُ كُلُّهُ مُسَالِمٌ. وَالْمَقْضِيُّ: مِنْهُ مَا يُسَالِمُ، وَمِنْهُ مَا يُحَارِبُ. وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ. وَهُوَ مَوْضِعُ مَزَلَّةِ أَقْدَامٍ كَمَا رَأَيْتَ وَالْمُنْحَرِفُ عَنْهُ: إِمَّا جَاهِلٌ لِلْحِكْمَةِ، أَوِ الْقُدْرَةِ، أَوْ لِلْأَمْرِ وَالشَّرْعِ وَلَا بُدَّ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ صَاحِبِ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ لَا يُبْتَغَى لِلْحُكْمِ عِوَجٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ يَدْفَعُ بِعِلْمٍ فَأُشْكِلَ مِنَ الْأَوَّلِ. فَإِنَّ الْعِلْمَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقَدَرِ. وَحَاكِمٌ عَلَيْهِ. وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ. فَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ، أَنْ يُقَالَ: قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدْرُهُ وَحُكْمُهُ الْكَوْنِيُّ، لَا يُنَاقِضُ دِينَهُ وَشَرْعَهُ وَحُكْمَهُ الدِّينِيَّ. بِحَيْثُ تَقَعُ الْمُدَافَعَةُ بَيْنَهُمَا. لِأَنَّ هَذَا مَشِيئَتُهُ الْكَوْنِيَّةُ. وَهَذَا إِرَادَتُهُ الدِّينِيَّةُ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادَانِ قَدْ يَتَدَافَعَانِ وَيَتَعَارَضَانِ. لَكِنَّ مِنْ تَعْظِيمِ كُلٍّ مِنْهُمَا: أَنْ لَا يُدَافَعَ بِالْآخَرِ وَلَا يُعَارَضَ. فَإِنَّهُمَا وَصْفَانِ لِلرَّبِّ تَعَالَى. وَأَوْصَافُهُ لَا يُدَافَعُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَإِنِ اسْتُعِيذَ بِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ. فَالْكُلُّ مِنْهُ سُبْحَانَهُ. وَهُوَ الْمُعِيذُ مِنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِهِ: «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ. وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» فَرِضَاهُ - وَإِنْ أَعَاذَ مِنْ سَخَطِهِ - فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُهُ وَلَا يَدْفَعُهُ. وَإِنَّمَا يَدْفَعُ تَعَلُّقَهُ بِالْمُسْتَعِيذِ. وَتُعَلُّقُهُ بِأَعْدَائِهِ بَاقٍ غَيْرُ زَائِلٍ. فَهَكَذَا أَمْرُهُ وَقَدَرُهُ سَوَاءٌ. فَإِنَّ أَمْرَهُ لَا يُبْطِلُ قَدْرَهُ، وَلَا قَدْرُهُ يُبْطِلُ أَمْرَهُ. وَلَكِنْ يَدْفَعُ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَأَحَبَّهُ. وَهُوَ أَيْضًا مِنْ قَضَائِهِ. فَمَا دُفِعَ قَضَاؤُهُ إِلَّا بِقَضَائِهِ وَأَمْرِهِ. فَلَمْ يَدْفَعِ الْعِلْمُ الْحُكْمَ بَلِ الْمَحْكُومَ بِهِ. وَالْعِلْمُ وَالْحُكْمُ دَفَعَا الْمَحْكُومَ بِهِ الَّذِي قُدِّرَ دَفْعُهُ وَأُمِرَ بِهِ. فَتَأَمَّلْ هَذَا. فَإِنَّهُ مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ، وَالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ، وَالتَّنْفِيذِ لَهُ بِالْقَدَرِ، فَمَا نَفَّذَ الْمُطِيعُ أَمْرَ اللَّهِ إِلَّا بِقَدَرِ اللَّهِ. وَلَا دُفِعَ مَقْدُورُ اللَّهِ بِقَدَرِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَرْضَى بِعِوَضٍ أَيْ أَنَّ صَاحِبَ مَشْهَدِ الْحُكْمِ قَدْ وَصَلَ إِلَى حَدٍّ لَا يَطْلُبُ مَعَهُ عِوَضًا. وَلَا يَكُونُ مِمَّنْ يَعْبُدُ اللَّهَ بِالْعِوَضِ. فَإِنَّهُ يُشَاهِدُ جَرَيَانَ حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَعَدَمَ تَصَرُّفِهِ فِي نَفْسِهِ، وَأَنَّ

فصل الدرجة الثالثة تعظيم الحق سبحانه

الْمُتَصَرِّفَ فِيهِ حَقًّا هُوَ مَالِكُهُ الْحَقُّ. فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُهُ وَيُقْعِدُهُ، وَيُقَلِّبُهُ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُ الْعِوَضَ مَنْ غَابَ عَنِ الْحُكْمِ وَذَهَلَ عَنْهُ. وَذَلِكَ مُنَافٍ لِتَعْظِيمِهِ. فَمِنْ تَعْظِيمِهِ: أَنْ لَا يَرْضَى الْعَبْدُ بِعِوَضٍ يَطْلُبُهُ بِعَمَلِهِ. لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ الْحُكْمِ وَتَعْظِيمَهُ يَمْنَعُهُ أَنْ يَرَى لِنَفْسِهِ مَا يُعَاوِضُ عَلَيْهِ. فَهَذَا الَّذِي يُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَعْظِيمُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ] فَصْلٌ قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: تَعْظِيمُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَهُوَ أَنْ لَا يَجْعَلَ دُونَهُ سَبَبًا، وَلَا يَرَى عَلَيْهِ حَقًّا، أَوْ يُنَازِعَ لَهُ اخْتِيَارًا. هَذِهِ الدَّرَجَةُ تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ الْحَاكِمِ سُبْحَانَهُ، صَاحِبِ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ قَضَائِهِ لَا مَقْضِّيهِ، وَالْأُولَى: تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ أَمْرِهِ. وَذَكَرَ مِنْ تَعْظِيمِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا تَجْعَلَ دُونَهُ سَبَبًا أَيْ لَا تَجْعَلَ لِلْوَصْلَةِ إِلَيْهِ سَبَبًا غَيْرَهُ. بَلْ هُوَ الَّذِي يُوصِّلُ عَبْدَهُ إِلَيْهِ، فَلَا يُوصِّلُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ سِوَاهُ. وَلَا يُدْنِي إِلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إِلَى رِضَاهُ إِلَّا بِهِ. فَمَا دَلَّ عَلَى اللَّهِ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا هَدَى إِلَيْهِ سِوَاهُ. وَلَا أَدْنَى إِلَيْهِ غَيْرُهُ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ السَّبَبَ سَبَبًا. فَالسَّبَبُ وَسَبَبِيَّتُهُ وَإِيصَالُهُ: كُلُّهُ خَلْقُهُ وَفِعْلُهُ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَرَى عَلَيْهِ حَقًّا أَيْ لَا تَرَى لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ - لَا لَكَ وَلَا لِغَيْرِكَ - حَقًّا عَلَى اللَّهِ. بَلِ الْحَقُّ لِلَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَفِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ: أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ، بِحَقِّ آبَائِي عَلَيْكَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا دَاوُدُ. أَيُّ حَقٍّ لِآبَائِكَ عَلَيَّ؟ أَلَسْتُ أَنَا الَّذِي هَدَيْتُهُمْ وَمَنَنْتُ عَلَيْهِمْ وَاصْطَفَيْتُهُمْ. وَلِيَ الْحَقُّ عَلَيْهِمْ؟ . وَأَمَّا حُقُوقُ الْعَبِيدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى: مِنْ إِثَابَتِهِ لِمُطِيعِهِمْ، وَتَوْبَتِهِ عَلَى تَائِبِهِمْ، وَإِجَابَتِهِمْ لِسَائِلِهِمْ: فَتِلْكَ حُقُوقٌ أَحَقَّهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ، بِحُكْمِ وَعْدِهِ وَإِحْسَانِهِ لَا أَنَّهَا حُقُوقٌ أَحَقُّوهَا هُمْ عَلَيْهِ. فَالْحَقُّ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ عَلَيْهِ هُوَ مَا اقْتَضَاهُ بِجُودِهِ وَبِرِّهِ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ بِمَحْضِ جُودِهِ وَكَرَمِهِ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ التَّوْفِيقِ وَالْبَصَائِرِ. وَهُوَ وَسَطٌ بَيْنَ قَوْلَيْنِ مُنْحَرِفَيْنِ. قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا مِرَارًا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

منزلة الإلهام والإفهام والوحي والتحديث والرؤيا الصادقة

وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ لَا يُنَازِعُ لَهُ اخْتِيَارًا. أَيْ إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدِ اخْتَارَ لَكَ أَوْ لِغَيْرِكَ شَيْئًا - إِمَّا بِأَمْرِهِ وَدِينِهِ، وَإِمَّا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ - فَلَا تُنَازِعُ اخْتِيَارَهُ، بَلِ ارْضَ بِاخْتِيَارِ مَا اخْتَارَهُ لَكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِهِ سُبْحَانَهُ. وَلَا يَرُدَّ عَلَيْهِ قَدَرَهُ مِنَ الْمَعَاصِي. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ - وَإِنْ قَدَّرَهَا - لَكِنَّهُ لَمْ يَخْتَرْهَا لَهُ، فَمُنَازَعَتُهَا غَيْرُ اخْتِيَارِهِ مِنْ عَبْدِهِ. وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ تَعْظِيمِ الْعَبْدِ لَهُ سُبْحَانَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [مَنْزِلَةُ الْإِلْهَامِ وَالْإِفْهَامِ وَالْوَحْيِ وَالتَّحْدِيثِ وَالرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ] فَصَلٌ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْإِلْهَامِ، وَالْإِفْهَامِ، وَالْوَحْيِ، وَالتَّحْدِيثِ وَالرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَرَاتِبِ الْهِدَايَةِ. وَذَكَرْنَا كَلَامَ صَاحِبِ " الْمَنَازِلِ " هُنَاكَ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ السَّكِينَةِ] [السَّكِينَةُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ السَّكِينَةِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ السَّكِينَةِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ مِنْ مَنَازِلِ الْمَوَاهِبِ. لَا مِنْ مَنَازِلِ الْمَكَاسِبِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ السَّكِينَةَ فِي كِتَابِهِ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248] . الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 26] . الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40] . الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4] .

الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] . السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] . الْآيَةَ. وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِذَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ: قَرَأَ آيَاتَ السَّكِينَةِ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي وَاقِعَةٍ عَظِيمَةٍ جَرَتْ لَهُ فِي مَرَضِهِ، تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ حَمْلِهَا - مِنْ مُحَارَبَةِ أَرْوَاحٍ شَيْطَانِيَّةٍ، ظَهَرَتْ لَهُ إِذْ ذَاكَ فِي حَالِ ضَعْفِ الْقُوَّةِ - قَالَ: فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيَّ الْأَمْرُ، قُلْتُ لِأَقَارِبِي وَمَنْ حَوْلِيَ: اقْرَءُوا آيَاتِ السَّكِينَةِ، قَالَ: ثُمَّ أَقْلَعَ عَنِّي ذَلِكَ الْحَالُ، وَجَلَسْتُ وَمَا بِي قَلْبَةٌ. وَقَدْ جَرَّبْتُ أَنَا أَيْضًا قِرَاءَةَ هَذِهِ الْآيَاتِ عِنْدَ اضْطِرَابِ الْقَلْبِ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ. فَرَأَيْتُ لَهَا تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي سُكُونِهِ وَطُمَأْنِينَتِهِ. وَأَصْلُ السَّكِينَةِ هِيَ الطُّمَأْنِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَالسُّكُونُ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ، عِنْدَ اضْطِرَابِهِ مِنْ شِدَّةِ الْمَخَاوِفِ. فَلَا يَنْزَعِجُ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ. وَيُوجِبُ لَهُ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ، وَقُوَّةَ الْيَقِينِ وَالثَّبَاتِ. وَلِهَذَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ إِنْزَالِهَا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوَاضِعِ الْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ. كَيَوْمِ الْهِجْرَةِ، إِذْ هُوَ وَصَاحِبُهُ فِي الْغَارِ وَالْعَدُوُّ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ. لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ إِلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَرَآهُمَا. وَكَيَوْمِ حُنَيْنٍ، حِينَ وَلَّوْا مُدَبِّرِينَ مِنْ شِدَّةِ بَأْسِ الْكُفَّارِ، لَا يَلْوِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ. وَكَيَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ اضْطَرَبَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ تَحَكُّمِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ، وَدُخُولِهِمْ تَحْتَ شُرُوطِهِمُ الَّتِي لَا تَحَمَّلُهَا النُّفُوسُ. وَحَسْبُكَ بِضَعْفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ حَمْلِهَا - وَهُوَ عُمَرُ - حَتَّى ثَبَّتَهُ اللَّهُ بِالصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كُلُّ سَكِينَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ طُمَأْنِينَةٌ، إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ

فصل تعريف السكينة

مِنْ تُرَابِ الْخَنْدَقِ، حَتَّى وَارَى التُّرَابُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ. وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِكَلِمَةِ» عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اللهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلْنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا إِنَّ الْأُولَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا وَفِي صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةُ إِنِّي بَاعِثٌ نَبِيًّا أُمِّيًا، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا مُتَزَيِّنٍ بِالْفُحْشِ، وَلَا قَوَّالٍ لِلْخَنَا. أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ جَمِيلٍ. وَأَهَبُ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ. ثُمَّ أَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ، وَالْبَرَّ شِعَارَهُ، وَالتَّقْوَى ضَمِيرَهُ. وَالْحِكْمَةَ مَعْقُولَهُ، وَالصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَفْوَ وَالْمَعْرُوفَ خُلُقَهُ، وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ. وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، وَالْهُدَى إِمَامَهُ، وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ، وَأَحْمَدَ اسْمَهُ. [فَصْلٌ تَعْرِيفُ السَّكِينَةِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": السَّكِينَةُ: اسْمٌ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَوَّلُهَا: سَكِينَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أُعْطُوهَا فِي التَّابُوتِ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: هِيَ رِيحٌ هَفَّافَةٌ. وَذَكَرُوا صِفَتَهَا قُلْتُ: اخْتَلَفُوا: هَلْ هِيَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، أَوْ مَعْنًى؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَيْنٌ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِي صِفَتِهَا فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ. لَهَا رَأْسَانِ وَوَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّهَا صُورَةُ هِرَّةٍ لَهَا جَنَاحَانِ، وَعَيْنَانِ لَهُمَا شُعَاعٌ. وَجَنَاحَانِ مِنْ زُمُرُّدٍ وَزَبَرْجَدٍ، فَإِذَا سَمِعُوا صَوْتَهَا أَيْقَنُوا بِالنَّصْرِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ طَسْتٌ مِنْ ذَهَبِ الْجَنَّةِ. كَانَ يُغْسَلُ فِيهِ قُلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ. وَعَنْ وَهُبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: هِيَ رُوحٌ مِنْ رُوحِ اللَّهِ تَتَكَلَّمُ. إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَخْبَرَتْهُمْ بِبَيَانِ مَا يُرِيدُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَعْنًى. وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248] أَيْ وَمَجِيئُهُ إِلَيْكُمْ: سَكِينَةٌ لَكُمْ وَطُمَأْنِينَةٌ.

فصل أنواع السكينة

وَعَلَى الْأَوَّلِ: يَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ السَّكِينَةَ فِي نَفْسِ التَّابُوتِ. وَيُؤَيِّدُهُ عَطْفُ قَوْلِهِ: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248] قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: فِيهِ سَكِينَةٌ هِيَ مَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْآيَاتِ. فَتَسْكُنُونَ إِلَيْهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ مِنَ السُّكُونِ، أَيْ طُمَأْنِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ. فَفِي أَيْ مَكَانٍ كَانَ التَّابُوتُ اطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ وَسَكَنُوا. [فَصْلٌ أَنْوَاعُ السَّكِينَةِ] [السَّكِينَةُ الْأُولَى سَكِينَةُ الْأَنْبِيَاءِ] فَصْلٌ قَالَ: وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: لِلْأَنْبِيَاءِ مُعْجِزَةٌ. وَلِمُلُوكِهِمْ كَرَامَةٌ. وَهِيَ آيَةُ النَّصْرِ تَخْلَعُ قُلُوبَ الْأَعْدَاءِ بِصَوْتِهَا رُعْبًا إِذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ لِلْقِتَالِ. وَكَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ: هِيَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ. لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا نَالُوهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ وَبِسَبَبِ اتِّبَاعِهِمْ فَهِيَ لَهُمْ كَرَامَاتٌ. وَلِلْأَنْبِيَاءِ دَلَالَاتٌ. فَكَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ: لَا تُعَارِضُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ. حَتَّى يُطْلَبَ الْفَرْقَانُ بَيْنَهُمَا. لِأَنَّهَا مِنْ أَدِلَّتِهِمْ، وَشَوَاهِدِ صِدْقِهِمْ. نَعَمِ: الْفَرْقَانُ بَيْنَ مَا لِلْأَنْبِيَاءِ وَمَا لِلْأَوْلِيَاءِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا. لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا. وَغَيْرُ هَذَا الْكِتَابِ أَلْيَقُ بِهَا. [فَصْلٌ السَّكِينَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ الْمُحَدَّثِينَ] فَصْلٌ قَالَ السَّكِينَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ الَّتِي تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ الْمُحَدَّثِينَ. لَيْسَتْ هِيَ شَيْئًا يُمْلَكُ. إِنَّمَا هِيَ شَيْءٌ مِنْ لَطَائِفِ صُنْعِ الْحَقِّ. تُلْقِي عَلَى لِسَانِ الْمُحَدَّثِ الْحِكْمَةَ كَمَا يُلْقِي الْمَلَكُ الْوَحْيَ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ. وَتَنْطِقُ بِنُكَتِ الْحَقَائِقِ مَعَ تَرْوِيحِ الْأَسْرَارِ، وَكَشْفِ الشُّبَهِ. وَالسَّكِينَةُ إِذَا نَزَلَتْ عَلَى الْقَلْبِ اطْمَأَنَّ بِهَا. وَسَكَنَتْ إِلَيْهَا الْجَوَارِحُ. وَخَشَعَتْ، وَاكْتَسَبَتِ الْوَقَارَ، وَأَنْطَقَتِ اللِّسَانَ بِالصَّوَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ الْخَنَا وَالْفُحْشِ، وَاللَّغْوِ وَالْهَجْرِ، وَكُلِّ بَاطِلٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ. وَكَثِيرًا مَا يَنْطِقُ صَاحِبُ السَّكِينَةِ بِكَلَامٍ لَمْ يَكُنْ عَنْ فِكْرَةٍ مِنْهُ، وَلَا رَوِيَّةٍ وَلَا هِبَةٍ، وَيَسْتَغْرِبُهُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ. كَمَا يَسْتَغْرِبُ السَّامِعُ لَهُ. وَرُبَّمَا لَا يَعْلَمُ بَعْدَ انْقِضَائِهِ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ.

فصل السكينة الثالثة هي التي نزلت على قلب النبي صلى الله عليه وسلم

وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ: هَذَا عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَصِدْقِ الرَّغْبَةِ مِنَ السَّائِلِ، وَالْمُجَالِسِ، وَصِدْقِ الرَّغْبَةِ مِنْهُ: هُوَ إِلَى اللَّهِ، وَالْإِسْرَاعُ بِقَلْبِهِ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ، وَحَضْرَتِهِ، مَعَ تَجَرُّدِهِ مِنَ الْأَهْوَاءِ، وَتَجْرِيدِهِ النَّصِيحَةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِزَالَةِ نَفْسِهِ مِنَ الْبَيْنِ. وَمَنْ جَرَّبَ هَذَا عَرَفَ مَنْفَعَتَهُ وَعَظَّمَهَا. وَسَاءَ ظَنُّهُ بِمَا يُحْسِنُ بِهِ الْغَافِلُونَ ظُنُونَهُمْ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ. قَوْلُهُ: وَلَيْسَتْ شَيْئًا يُمْلَكُ يَعْنِي هِيَ مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ بِسَبَبِيَّةٍ وَلَا كَسَبِيَّةٍ. وَلَيْسَتْ كَالسَّكِينَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي التَّابُوتِ تُنْقَلُ مَعَهُمْ كَيْفَ شَاءُوا. وَقَوْلُهُ: تُلْقِي عَلَى لِسَانِ الْمُحَدِّثِ الْحِكْمَةَ أَيْ تُجْرِي الصَّوَابَ عَلَى لِسَانِهِ. وَقَوْلُهُ: كَمَا يُلْقِي الْمَلَكُ الْوَحْيَ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. يَعْنِي: أَنَّهَا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ. بِحَيْثُ تُلْقِي فِي قُلُوبِ أَرْبَابِهَا الْحِكْمَةَ عَنْهُمْ وَالطُّمَأْنِينَةَ وَالصَّوَابَ. كَمَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ تَتَلَقَّى الْوَحْيَ عَنِ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ. وَلَكِنْ مَا لِلْأَنْبِيَاءِ مُخْتَصٌّ بِهِمْ. وَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ. وَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ. وَقَوْلُهُ: تُنْطِقُ الْمُحَدَّثِينَ بِنُكَتِ الْحَقَائِقِ، مَعَ تَرْوِيجِ الْأَسْرَارِ وَكَشْفِ الشُّبَهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ: ذِكْرُ مَرْتَبَةِ الْمُحَدِّثِ، وَأَنَّ هَذَا التَّحْدِيثَ مِنْ مَرَاتِبِ الْهِدَايَةِ الْعَشَرَةِ، وَأَنَّ الْمُحَدِّثَ هُوَ الَّذِي يُحَدِّثُ فِي سِرِّهِ بِالشَّيْءِ، فَيَكُونُ كَمَا يُحَدِّثُ بِهِ. وَالْحَقَائِقُ هِيَ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ وَالسُّلُوكِ. وَنُكَتُهَا عُيُونُهَا وَمَوَاضِعُ الْإِشَارَاتِ مِنْهَا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ تِلْكَ تُوجِبُ لِلْأَسْرَارِ رُوحًا تَحْيَا بِهِ وَتَتَنَعَّمُ. وَتَكْشِفُ عَنْهَا شُبَهَاتٍ لَا يَكْشِفُهَا الْمُتَكَلِّمُونَ وَلَا الْأُصُولِيُّونَ. فَتَسْكُنُ الْأَرْوَاحُ وَالْقُلُوبُ إِلَيْهَا. وَلِهَذَا سُمِّيَتْ سَكِينَةً وَمَنْ لَمْ يَفُزْ مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ لَمْ تَنْكَشِفْ عَنْهُ شُبَهَاتُهُ. فَإِنَّهَا لَا يَكْشِفُهَا إِلَّا سَكِينَةُ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ. [فَصْلٌ السَّكِينَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَصْلٌ قَالَ السَّكِينَةُ الثَّالِثَةُ: هِيَ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَهِيَ شَيْءٌ يَجْمَعُ قُوَّةً وَرُوحًا، يَسْكُنُ إِلَيْهِ الْخَائِفُ، وَيَتَسَلَّى بِهِ الْحَزِينُ وَالضَّجِرُ. وَيَسْكُنُ إِلَيْهِ الْعَصِيُّ وَالْجَرِئُ وَالْأَبِيُّ. هَذَا مِنْ عُيُونِ كَلَامِهِ وَغَرَرِهِ الَّذِي تُثْنَى عَلَيْهِ الْخَنَاصِرُ. وَتُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ. وَتَظْفَرُ

فصل السكينة يسكن إليها العصي

بِهِ عَنْ ذَوْقٍ تَامٍّ. لَا عَنْ مُجَرَّدٍ. فَذَكَرَ: أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقُلُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: النُّورُ، وَالْقُوَّةُ، وَالرُّوحُ. وَذَكَرَ لَهُ ثَلَاثَ ثَمَرَاتٍ: سُكُونُ الْخَائِفِ إِلَيْهِ، وَتَسَلِّي الْحَزِينِ وَالضَّجَرِ بِهِ، وَاسْتِكَانَةُ صَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ وَالْإِبَاءِ إِلَيْهِ. فَبِالرُّوحِ الَّذِي فِيهَا: حَيَاةُ الْقَلْبِ. وَبِالنُّورِ الَّذِي فِيهَا: اسْتِنَارَتُهُ، وَضِيَاؤُهُ وَإِشْرَاقُهُ، وَبِالْقُوَّةِ: ثَبَاتُهُ وَعَزْمُهُ وَنَشَاطُهُ. فَالنُّورُ: يَكْشِفُ لَهُ عَنْ دَلَائِلِ الْإِيمَانِ، وَحَقَائِقِ الْيَقِينِ. وَيُمَيِّزُ لَهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرُّشْدِ، وَالشَّكِّ وَالْيَقِينِ. وَالْحَيَاةُ: تُوجِبُ كَمَالَ يَقَظَتِهِ وَفِطْنَتِهِ، وَحُضُورِهِ وَانْتِبَاهِهِ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ. وَتَأَهُّبَهُ لِلِقَائِهِ. وَالْقُوَّةُ: تُوجِبُ لَهُ الصِّدْقَ، وَصِحَّةَ الْمَعْرِفَةِ، وَقَهْرَ دَاعِي الْغَيِّ وَالْعَنَتِ، وَضَبْطَ النَّفْسِ عَنْ جَزَعِهَا وَهَلَعِهَا، وَاسْتِرْسَالِهَا فِي النَّقَائِضِ وَالْعُيُوبِ. وَلِذَلِكَ ازْدَادَ بِالسَّكِينَةِ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِ. وَالْإِيمَانُ: يُثْمِرُ لَهُ النُّورَ وَالْحَيَاةَ وَالْقُوَّةَ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تُثْمِرُهُ أَيْضًا. وَتُوجِبُ زِيَادَتَهُ. فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِهَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا. فَبِالنُّورِ: يَكْشِفُ دَلَائِلَ الْإِيمَانِ. وَبِالْحَيَاةِ: يَنْتَبِهُ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ. وَيَصِيرُ يَقْظَانًا. وَبِالْقُوَّةِ: يَقْهَرُ الْهَوَى وَالنَّفْسَ، وَالشَّيْطَانَ. كَمَا قِيلَ: وَتِلْكَ مَوَاهِبُ الرَّحْمَنِ لَيْسَتْ ... تَحْصُلُ بَاجْتِهَادٍ أَوْ بِكَسْبٍ وَلَكِنْ لَا غِنَى عَنْ بَذْلِ جُهْدٍ ... بِإِخْلَاصٍ وَجِدٍّ لَا بلِعْبِ وَفَضْلُ اللَّهِ مَبْذُولٌ وَلَكِنْ ... بِحِكْمَتِهِ وَعَنْ ذَا النَّصِّ يُنْبِي فَمَا مِنْ حِكْمَةِ الرَّحْمَنِ وَضْعُ الْ ... كَوَاكِبِ بَيْنَ أَحْجَارٍ وَتُرْبِ فَشْكْرًا لِلَّذِي أَعْطَاكَ مِنْهُ ... فَلَوْ قَبِلَ الْمَحَلُّ لَزَادَ رَبِّي [فَصْلٌ السَّكِينَةُ يَسْكُنُ إِلَيْهَا الْعِصِيُّ] فَصْلٌ فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ بِالسَّكِينَةِ - وَهِيَ النُّورُ، وَالْحَيَاةُ وَالرُّوحُ - سَكَنَ إِلَيْهَا الْعِصِيُّ وَهُوَ الَّذِي سُكُونُهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ؛ لِعَدَمِ سَكِينَةِ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ صَارَ سُكُونُهُ إِلَيْهَا عِوَضَ سُكُونِهِ إِلَى الشَّهَوَاتِ، وَالْمُخَالَفَاتِ. فَإِنَّهُ قَدْ وَجَدَ فِيهَا مَطْلُوبَهُ. وَهُوَ اللَّذَّةُ الَّتِي كَانَ يَطْلُبُهَا مِنَ الْمَعْصِيَةِ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُعِيضُهُ عَنْهَا. فَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ

فصل درجات سكينة الوقار

اعْتَاضَ بِذِلَّتِهَا وَرُوحِهَا، وَنَعِيمِهَا عَنْ لَذَّةِ الْمَعْصِيَةِ. فَاسْتَرَاحَتْ بِهَا نَفْسُهُ. وَهَاجَ إِلَيْهَا قَلْبُهُ. وَوَجَدَ فِيهَا مِنَ الرُّوحِ وَالرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ مَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّذَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ النَّفْسَانِيَّةِ. فَصَارَتْ لَذَّتُهُ رُوحَانِيَّةً قَلْبِيَّةً. بَعْدَ أَنْ كَانَتْ جُسْمَانِيَّةً فَانْسَلَبَ مِنْهَا، وَحُبِسَ عَنْهَا وَخَلَّصَتْهُ. فَإِذَا تَأَلَّقَتْ بُرُوقُهَا قَالَ: تَأَلَّقَ الْبَرْقُ نَجْدِيًّا فَقُلْتُ لَهُ: ... يَا أَيُّهَا الْبَرْقُ، إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ وَإِذَا طَرَقَتْهُ طُيُوفُهَا الْخَيَالِيَّةُ فِي ظَلَامِ لَيْلِ الشَّهَوَاتِ، نَادَى لِسَانُ حَالِهِ، وَتَمَثَّلَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: طَرَقَتْكَ صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا ... وَقْتَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلَامِ فَإِذَا وَدَّعَتْهُ وَعَزَمَتْ عَلَى الرَّحِيلِ، وَوَعَدَتْهُ بِالْمُوَافَاةِ، بِقَوْلِ الْآخَرِ: قَالَتْ - وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا - ... مَاذَا تُرِيدُ؟ فَقُلْتُ: أَنْ لَا تَرْجِعِي فَإِذَا بَاشَرَتْ هَذِهِ السَّكِينَةُ قَلْبَهُ سَكَّنَتْ خَوْفَهُ. وَهُوَ قَوْلُهُ: يَسْكُنُ إِلَيْهَا الْخَائِفُ، وَسَلَّتْ حُزْنَهُ؛ فَإِنَّهَا لَا حُزْنَ مَعَهَا. فَهِيَ سَلْوَةُ الْمَحْزُونِ. وَمُذْهِبَةُ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ. وَكَذَلِكَ تُذْهِبُ عَنْهُ وَخَمَ ضَجَرِهِ. وَتَبْعَثُ نَشْوَةَ الْعَزْمِ. وَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُرْأَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ. وَبَيْنَ إِبَاءِ النَّفْسِ وَالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ سَكِينَةِ الْوَقَارِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى سَكِينَةُ الْخُشُوعِ عِنْدَ الْقِيَامِ لِلْخِدْمَةِ] فَصْلٌ قَالَ وَأَمَّا سَكِينَةُ الْوَقَارِ، الَّتِي نَزَّلَهَا نَعْتًا لِأَرْبَابِهَا: فَإِنَّهَا ضِيَاءُ تِلْكَ السَّكِينَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: سَكِينَةُ الْخُشُوعِ عِنْدَ الْقِيَامِ لِلْخِدْمَةِ: رِعَايَةً، وَتَعْظِيمًا، وَحُضُورًا. سَكِينَةُ الْوَقَارِ هِيَ نَوْعٌ مِنَ السَّكِينَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْوَقَارِ سَمَّاهَا الشَّيْخُ سَكِينَةَ الْوَقَارِ. وَقَوْلُهُ: نَزَّلَهَا نَعْتًا يَعْنِي نَزَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ أَهْلِهَا. وَنَعَتَهُمْ بِهَا. وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهَا ضِيَاءُ تِلْكَ السَّكِينَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَيْ نَتِيجَتُهَا وَثَمَرَتُهَا. وَعَنْهَا نَشَأَتْ. كَمَا أَنَّ الضِّيَاءَ عَنِ الشَّمْسِ حَصَلَ. وَلَمَّا كَانَ النُّورُ وَالْحَيَاةُ وَالْقُوَّةُ - الَّتِي ذَكَرْنَاهَا - مِمَّا يُثْمِرُ الْوَقَارَ: جَعَلَ سَكِينَةَ الْوَقَارِ

فصل الدرجة الثانية السكينة عند المعاملة بمحاسبة النفوس

كَالضِّيَاءِ لِتِلْكَ السَّكِينَةِ. إِذْ هُوَ عَلَامَةُ حُصُولِهَا. وَدَلِيلٌ عَلَيْهَا. كَدَلَالَةِ الضِّيَاءِ عَلَى حَامِلِهِ. قَوْلُهُ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: سَكِينَةُ الْخُشُوعِ عِنْدَ الْقِيَامِ لِلْخِدْمَةِ يُرِيدُ بِهِ الْوَقَارَ وَالْخُشُوعَ الَّذِي يَحْصُلُ لِصَاحِبِ مَقَامِ الْإِحْسَانِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ مُوجِبًا لِلْخُشُوعِ، وَدَاعِيًا إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] . دَعَاهُمْ مِنْ مَقَامِ الْإِيمَانِ إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ. يَعْنِي: أَمَا آنَ لَهُمْ أَنْ يَصِلُوا إِلَى الْإِحْسَانِ بِالْإِيمَانِ؟ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ بِخُشُوعِهِمْ لِذِكْرِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ؟ قَوْلُهُ: رِعَايَةً، وَتَعْظِيمًا، وَحُضُورًا هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ. تُحَقِّقُ الْخُشُوعَ فِي الْخِدْمَةِ. وَهِيَ رِعَايَةُ حُقُوقِهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. فَلَيْسَ يُضَيِّعُهَا خُشُوعٌ وَلَا وَقَارٌ. الثَّانِي: تَعْظِيمُ الْخِدْمَةِ وَإِجْلَالُهَا. وَذَلِكَ تَبَعٌ لِتَعْظِيمِ الْمَعْبُودِ وَإِجْلَالِهِ وَوَقَارِهِ. فَعَلَى قَدْرِ تَعْظِيمِهِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَإِجْلَالِهِ وَوَقَارِهِ: يَكُونُ تَعْظِيمُهُ لِخِدْمَتِهِ، وَإِجْلَالُهُ وَرِعَايَتُهُ لَهَا. وَالثَّالِثُ: الْحُضُورُ. وَهُوَ إِحْضَارُ الْقَلْبِ فِيهَا مُشَاهَدَةَ الْمَعْبُودِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ. فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تُثْمِرُ لَهُ سَكِينَةَ الْوَقَارِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ السَّكِينَةُ عِنْدَ الْمُعَامَلَةِ بِمُحَاسَبَةِ النُّفُوسِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: السَّكِينَةُ عِنْدَ الْمُعَامَلَةِ بِمُحَاسَبَةِ النُّفُوسِ، وَمُلَاطَفَةِ الْخَلْقِ، وَمُرَاقَبَةِ الْحَقِّ هَذِهِ الدَّرَجَةُ هِيَ الَّتِي يَحُومُ عَلَيْهَا أَهْلُ التَّصَوُّفِ، وَالْعِلْمُ الَّذِي يُشَمِّرُونَ إِلَيْهِ لِلْمُعَامَلَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَلْقِهِ. وَتَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ، حَتَّى تَعْرِفَ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا. وَلَا يَدَعُهَا تَسْتَرْسِلُ فِي الْحُقُوقِ اسْتِرْسَالًا، فَيُضَيِّعُهَا وَيُهْمِلُهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ زَكَاتَهَا وَطَهَارَتَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى مُحَاسَبَتِهَا. فَلَا تَزْكُو وَلَا تَطْهُرُ وَلَا تَصْلُحُ أَلْبَتَّةَ إِلَّا بِمُحَاسَبَتِهَا.

فصل الدرجة الثالثة السكينة التي تثبت الرضا بالقسم

قَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ - وَاللَّهِ - لَا تَرَاهُ إِلَّا قَائِمًا عَلَى نَفْسِهِ: مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَةِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَةٍ؟ مَا أَرَدْتُ بِمَدْخَلِ كَذَا وَمَخْرَجِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتُ بِهَذَا؟ مَا لِي وَلِهَذَا؟ وَاللَّهِ لَا أَعُودُ إِلَى هَذَا. وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ. فَبِمُحَاسَبَتِهَا يَطَّلِعُ عَلَى عُيُوبِهَا وَنَقَائِصِهَا. فَيُمْكِنُهُ السَّعْيُ فِي إِصْلَاحِهَا. الثَّانِي: مُلَاطَفَةُ الْخَلْقِ. وَهِيَ مُعَامَلَتُهُمْ بِمَا يُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوهُ بِهِ مِنَ اللُّطْفِ. وَلَا يُعَامِلُهُمْ بِالْعُنْفِ وَالشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ. فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَفِّرُهُمْ عَنْهُ. وَيُغْرِيهِمْ بِهِ. وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ وَحَالَهُ مَعَ اللَّهِ وَوَقْتَهُ، فَلَيْسَ لِلْقَلْبِ أَنْفَعُ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّاسِ بِاللُّطْفِ. فَإِنَّ مُعَامَلَةَ النَّاسِ بِذَلِكَ: إِمَّا أَجْنَبِيٌّ. فَتَكْسِبُ مَوَدَّتَهُ وَمَحَبَّتَهُ، وَإِمَّا صَاحِبٌ وَحَبِيبٌ فَتَسْتَدِيمُ صُحْبَتَهُ وَمَوَدَّتَهُ. وَإِمَّا عَدُوٌّ وَمُبْغِضٌ. فَتُطْفِئُ بِلُطْفِكَ جَمْرَتَهُ. وَتَسْتَكْفِي شَرَّهُ. وَيَكُونُ احْتِمَالُكَ لِمَضَضِ لُطْفِكَ بِهِ دُونَ احْتِمَالِكَ لِضَرَرِ مَا يَنَالُكَ مِنَ الْغِلْظَةِ عَلَيْهِ وَالْعُنْفِ بِهِ. الثَّالِثُ: مُرَاقَبَةُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَهِيَ الْمُوجِبَةُ لِكُلِّ صَلَاحٍ وَخَيْرٍ عَاجِلٍ وَآجِلٍ. وَلَا تَصِحُّ الدَّرَجَتَانِ الْأُولَتَانِ إِلَّا بِهَذِهِ. وَهِيَ الْمَقْصُودُ لِذَاتِهِ. وَمَا قَبْلَهُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ، وَعَوْنٌ عَلَيْهِ. فَمُرَاقَبَةُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: تُوجِبُ إِصْلَاحَ النَّفْسِ، وَاللُّطْفَ بِالْخَلْقِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ السَّكِينَةُ الَّتِي تُثْبِتُ الرِّضَا بِالْقَسْمِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: السَّكِينَةُ الَّتِي تُثْبِتُ الرِّضَا بِالْقَسْمِ. وَتَمْنَعُ مِنَ الشَّطْحِ الْفَاحِشِ. وَتَقِفُ صَاحِبَهَا عَلَى حَدِّ الرُّتْبَةِ، وَالسَّكِينَةُ لَا تَنْزِلُ إِلَّا فِي قَلْبِ نَبِيٍّ، أَوْ وَلِيٍّ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: كَأَنَّهَا عِنْدَ الشَّيْخِ لِأَهْلِ الصَّحْوِ بَعْدَ السُّكْرِ. وَلِمَنْ شَامَ بَوَارِقَ الْحَقِيقَةِ. فَقَوْلُهُ: تُثْبِتُ الرِّضَا بِالْقَسْمِ أَيْ تُوجِبُ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَرْضَى بِالْمَقْسُومِ. وَلَا تَتَطَلَّعَ نَفْسُهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَتَمْنَعُ مِنَ الشَّطْحِ الْفَاحِشِ يَعْنِي مِثْلَ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ وَنَحْوِهِ، بِخِلَافِ الْجُنَيْدِ وَسَهْلٍ وَأَمْثَالِهِمَا. فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَانَتْ لَهُمْ هَذِهِ السَّكِينَةُ لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُمُ الشَّطَحَاتُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الشَّطْحَ سَبَبُهُ عَدَمُ السَّكِينَةِ. فَإِنَّهَا إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الْقَلْبِ مَنَعَتْهُ مِنَ الشَّطْحِ وَأَسْبَابِهِ.

فصل منزلة الطمأنينة

قَوْلُهُ: وَتُوقِفُ صَاحِبَهَا عَلَى حَدِّ الرُّتْبَةِ أَيْ تُوجِبُ لِصَاحِبِهَا الْوُقُوفَ عِنْدَ حَدِّهِ مِنْ رُتْبَةِ الْعُبُودِيَّةِ. فَلَا يَتَعَدَّى مَرْتَبَةَ الْعُبُودِيَّةِ وَحْدَّهَا. قَوْلُهُ: وَالسَّكِينَةُ لَا تَنْزِلُ إِلَّا عَلَى قَلْبِ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ مَوَاهِبِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَمِنَحِهِ. وَمِنْ أَجَلِّ عَطَايَاهُ. وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. فَمَنْ أُعْطِيَهَا فَقَدْ خُلِعَتْ عَلَيْهِ خُلَعُ الْوِلَايَةِ، وَأُعْطِيَ مَنْشُورَهَا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الطُّمَأْنِينَةِ] [حَقِيقَةُ الطُّمَأْنِينَةِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الطُّمَأْنِينَةِ وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الطُّمَأْنِينَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27] . الطُّمَأْنِينَةُ سُكُونُ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ. وَعَدَمُ اضْطِرَابِهِ وَقَلَقِهِ. وَمِنْهُ الْأَثَرُ الْمَعْرُوفُ «الصِّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ، وَالْكَذِبُ رِيبَةٌ» أَيِ الصِّدْقُ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُ السَّامِعِ. وَيَجِدُ عِنْدَهُ سُكُونًا إِلَيْهِ. وَالْكَذِبُ يُوجِبُ لَهُ اضْطِرَابًا وَارْتِيَابًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ

الْقَلْبُ» أَيْ سَكَنَ إِلَيْهِ وَزَالَ عَنْهُ اضْطِرَابُهُ وَقَلَقُهُ. وَفِي ذِكْرِ اللَّهِ هَاهُنَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذِكْرُ الْعَبْدِ رَبَّهُ. فَإِنَّهُ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ وَيَسْكُنُ. فَإِذَا اضْطَرَبَ الْقَلْبُ وَقَلِقَ فَلَيْسَ لَهُ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ سِوَى ذِكْرِ اللَّهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِيهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا فِي الْحَلِفِ وَالْيَمِينِ. إِذَا حَلَفَ الْمُؤْمِنُ عَلَى شَيْءٍ سَكَنَتْ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ وَاطْمَأَنَّتْ، وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ ذِكْرُ الْعَبْدِ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، يَسْكُنُ إِلَيْهِ قَلْبُهُ وَيَطْمَئِنُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ هَاهُنَا الْقُرْآنُ. وَهُوَ ذِكْرُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ. بِهِ طُمَأْنِينَةُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَطْمَئِنُّ إِلَّا بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ. وَلَا سَبِيلَ إِلَى حُصُولِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ إِلَّا مِنَ الْقُرْآنِ. فَإِنَّ سُكُونَ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتَهُ مِنْ يَقِينِهِ. وَاضْطِرَابَهُ وَقَلَقَهُ مِنْ شَكِّهِ. وَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُحَصِّلُ لِلْيَقِينِ، الدَّافِعُ لِلشُّكُوكِ وَالظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ، فَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا بِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلَانِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] . وَالصَّحِيحُ: أَنَّ ذِكْرَهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ - وَهُوَ كِتَابُهُ - مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ: قَيَّضَ لَهُ شَيْطَانًا يُضِلُّهُ وَيَصُدُّهُ عَنِ السَّبِيلِ. وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى. وَكَذَلِكَ الْقَوْلَانِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] . وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ ذِكْرُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ - وَهُوَ كِتَابُهُ - وَلِهَذَا يَقُولُ الْمُعْرِضُ عَنْهُ: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 125] . وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْحَلِفِ: فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْمَقْصُودِ. فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ

فصل تعريف ابن القيم للطمأنينة

بِالْحَلِفِ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمُؤْمِنُونَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَى الصَّادِقِ وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ. وَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَى مَنْ يَرْتَابُونَ فِيهِ وَلَوْ حَلَفَ. وَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الطُّمَأْنِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَنُفُوسِهِمْ، وَجَعَلَ الْغِبْطَةَ وَالْمِدْحَةَ وَالْبِشَارَةَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ لِأَهْلِ الطُّمَأْنِينَةِ. فَطُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 27] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُطْمَئِنَّةً. فَهُنَاكَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ. وَتَدْخُلُ فِي عِبَادِهِ. وَتَدْخُلُ جَنَّتَهُ. وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ بَعْضِ السَّلَفِ اللَّهُمَّ هَبْ لِي نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً إِلَيْكَ. [فَصْلٌ تَعْرِيفُ ابْنِ الْقَيِّمِ لِلطُّمَأْنِينَةِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الطُّمَأْنِينَةُ: سُكُونٌ يُقَوِّيهِ أَمْنٌ صَحِيحٌ، شَبِيهٌ بِالْعِيَانِ. وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّكِينَةِ فَرْقَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّكِينَةَ صَوْلَةٌ تُورِثُ خُمُودَ الْهَيْبَةِ أَحْيَانًا. وَالطُّمَأْنِينَةُ سُكُونُ أَمْنٍ فِي اسْتِرَاحَةِ أُنْسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ السَّكِينَةَ تَكُونُ نَعْتًا. وَتَكُونُ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، وَالطُّمَأْنِينَةُ لَا تُفَارِقُ صَاحِبَهَا. الطُّمَأْنِينَةُ مُوجِبُ السَّكِينَةِ. وَأَثَرٌ مِنْ آثَارِهَا. وَكَأَنَّهَا نِهَايَةُ السَّكِينَةِ. فَقَوْلُهُ: سُكُونٌ يُقَوِّيهِ أَمْنٌ أَيْ سُكُونُ الْقَلْبِ مَعَ قُوَّةِ الْأَمْنِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يَكُونُ أَمْنَ غُرُورٍ. فَإِنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَسْكُنُ إِلَى أَمْنِ الْغُرُورِ. وَلَكِنْ لَا يَطْمَئِنُّ بِهِ لِمُفَارَقَةِ ذَلِكَ السُّكُونِ لَهُ. وَالطُّمَأْنِينَةُ لَا تُفَارِقُهُ، فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِقَامَةِ. يُقَالُ: اطْمَأَنَّ بِالْمَكَانِ وَالْمَنْزِلِ: إِذَا أَقَامَ بِهِ. وَسَبَبُ صِحَّةِ هَذَا الْأَمْنِ الْمُقَوِّي لِلسُّكُونِ: شِبَهُهُ بِالْعِيَانِ. بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ مُجَوِّزَاتِ الظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ. بَلْ كَأَنَّ صَاحِبَهُ يُعَايِنُ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ. فَيَأْمَنُ بِهِ اضْطِرَابَ قَلْبِهِ وَقَلَقَهُ وَارْتِيَابَهُ. وَأَمَّا الْفَرْقَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّكِينَةِ. فَحَاصِلُ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ: أَنَّ السَّكِينَةَ تَصُولُ عَلَى الْهَيْبَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ. فَتُخْمِدُهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ. فَيَسْكُنُ

فصل درجات الطمأنينة

الْقَلْبُ مِنِ انْزِعَاجِ الْهَيْبَةِ بَعْضَ السُّكُونِ. وَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. فَلَيْسَ حُكْمًا دَائِمًا مُسْتَمِرًّا. وَهَذَا يَكُونُ لِأَهْلِ الطُّمَأْنِينَةِ دَائِمًا. وَيَصْحَبُهُ الْأَمْنُ وَالرَّاحَةُ بِوُجُودِ الْأُنْسِ. فَإِنَّ الِاسْتِرَاحَةَ فِي السَّكِينَةِ قَدْ تَكُونُ مِنَ الْخَوْفِ وَالْهَيْبَةِ فَقَطْ. وَالِاسْتِرَاحَةُ فِي مَنْزِلَةِ الطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ مَعَ زِيَادَةِ أُنْسٍ. وَذَلِكَ فَوْقَ مُجَرَّدِ الْأَمْنِ، وَقَدْرٌ زَائِدٌ عَلَيْهِ. وَحَاصِلُ الْفَرْقِ الثَّانِي: أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ مَلَكَةٌ، وَمَقَامٌ لَا يُفَارَقُ. وَالسَّكِينَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى سَكِينَةٍ هِيَ مَقَامٌ وَنَعْتٌ لَا يَزُولُ وَإِلَى سَكِينَةٍ تَكُونُ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَمْرَانِ، سِوَى مَا ذَكَرَ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَفَرَهُ وَفَوْزَهُ بِمَطْلُوبِهِ الَّذِي حَصَّلَ لَهُ السَّكِينَةَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَاجَهَهُ عَدُوٌّ يُرِيدُ هَلَاكَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ عَدُّوهُ، فَسَكَنَ رَوْعُهُ. وَالطُّمَأْنِينَةُ بِمَنْزِلَةِ حِصْنٍ رَآهُ مَفْتُوحًا فَدَخَلَهُ. وَأَمِنَ فِيهِ. وَتَقَوَّى بِصَاحِبِهِ وَعِدَّتِهِ. فَلِلْقَلْبِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: الْخَوْفُ وَالِاضْطِرَابُ وَالْقَلَقُ مِنَ الْوَارِدِ الَّذِي يُزْعِجُهُ وَيُقْلِقُهُ. الثَّانِي: زَوَالُ ذَلِكَ الْوَارِدِ الَّذِي يُزْعِجُهُ وَيُقْلِقُهُ عَنْهُ وَعَدَمُهُ. الثَّالِثُ: ظَفَرُهُ وَفَوْزُهُ بِمَطْلُوبِهِ الَّذِي كَانَ ذَلِكَ الْوَارِدُ حَائِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ وَيُقَارِنُهُ. فَالطُّمَأْنِينَةُ تَسْتَلْزِمُ السَّكِينَةَ وَلَا تُفَارِقُهَا. وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ. لَكِنَّ اسْتِلْزَامَ الطُّمَأْنِينَةِ لِلسَّكِينَةِ أَقْوَى مِنِ اسْتِلْزَامِ السَّكِينَةِ لِلطُّمَأْنِينَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ أَعَمُّ، فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ بِهِ، وَالْيَقِينِ وَالظَّفَرِ بِالْمَعْلُومِ. وَلِهَذَا اطْمَأَنَّتِ الْقُلُوبُ بِالْقُرْآنِ لَمَّا حَصَلَ لَهَا الْإِيمَانُ بِهِ، وَمَعْرِفَتُهُ وَالْهِدَايَةُ بِهِ فِي ظُلَمِ الْآرَاءِ وَالْمَذَاهِبِ. وَاكْتَفَتْ بِهِ مِنْهُ، وَحَكَّمَتْهُ عَلَيْهَا وَعَزَلَتْهَا. وَجَعَلَتْ لَهُ الْوِلَايَةَ بِأَسْرِهَا كَمَا جَعَلَهَا اللَّهُ. فَبِهِ خَاصَمَتْ، وَإِلَيْهِ حَاكَمَتْ. وَبِهِ صَالَتْ. وَبِهِ دَفَعَتِ الشُّبَهَ. وَأَمَّا السَّكِينَةُ: فَإِنَّهَا ثَبَاتُ الْقَلْبِ عِنْدَ هُجُومِ الْمَخَاوِفِ عَلَيْهِ، وَسُكُونُهُ وَزَوَالُ قَلَقِهِ وَاضْطِرَابِهِ، كَمَا يَحْصُلُ لِحِزْبِ اللَّهِ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ وَصَوْلَتِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الطُّمَأْنِينَةِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ. وَهِيَ طُمَأْنِينَةُ الْخَائِفِ إِلَى الرَّجَاءِ، وَالضَّجِرِ إِلَى الْحُكْمِ، وَالْمُبْتَلَى إِلَى الْمَثُوبَةِ.

فصل الدرجة الثانية طمأنينة الروح في القصد إلى الكشف

قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ بِذِكْرِ اللَّهِ بِكَلَامِهِ وَكِتَابِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الطُّمَأْنِينَةِ بِذِكْرِهِ. وَهِيَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ. فَذَكَرَ طُمَأْنِينَةَ الْخَائِفِ إِلَى الرَّجَاءِ، فَإِنَّ الْخَائِفَ إِذَا طَالَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ وَاشْتَدَّ بِهِ. وَأَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُرِيحَهُ، وَيَحْمِلَ عَنْهُ: أَنْزَلَ عَلَيْهِ السَّكِينَةَ، فَاسْتَرَاحَ قَلْبُهُ إِلَى الرَّجَاءِ وَاطْمَأَنَّ بِهِ. وَسَكَنَ لَهِيبُ خَوْفِهِ. وَأَمَّا طُمَأْنِينَةُ الضَّجِرِ إِلَى الْحُكْمِ: فَالْمُرَادُ بِهَا: أَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ الضَّجَرُ مِنْ قُوَّةِ التَّكَالِيفِ، وَأَعْبَاءِ الْأَمْرِ وَأَثْقَالِهِ - وَلَا سِيَّمَا مَنْ أُقِيمَ مُقَامَ التَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ، وَمُجَاهَدَةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ - فَإِنَّ مَا يَحْمِلُهُ وَيَتَحَمَّلُهُ فَوْقَ مَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ وَيَتَحَمَّلُونَهُ. فَلَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَهُ الضَّجَرُ، وَيَضْعُفَ صَبْرُهُ. فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُرِيحَهُ وَيَحْمِلَ عَنْهُ: أَنْزَلَ عَلَيْهِ سَكِينَتَهُ. فَاطْمَأَنَّ إِلَى حُكْمِهِ الدِّينِيِّ، وَحُكْمِهِ الْقَدَرِيِّ. وَلَا طَمَأْنِينَةَ لَهُ بِدُونِ مُشَاهَدَةِ الْحُكْمَيْنِ. وَبِحَسَبِ مُشَاهَدَتِهِ لَهُمَا تَكُونُ طُمَأْنِينَتُهُ. فَإِنَّهُ إِذَا اطْمَأَنَّ إِلَى حُكْمِهِ الدِّينِيِّ عَلِمَ أَنَّهُ دِينُهُ الْحَقُّ، وَهُوَ صِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ وَنَاصِرُ أَهْلِهِ وَكَافِيهِمْ وَوَلِيُّهُمْ. وَإِذَا اطْمَأَنَّ إِلَى حُكْمِهِ الْكَوْنِيِّ: عَلِمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، وَأَنَّهُ مَا يَشَاءُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَلَا وَجْهَ لِلْجَزَعِ وَالْقَلَقِ إِلَّا ضَعْفُ الْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ. فَإِنَّ الْمَحْذُورَ وَالْمَخُوفَ: إِنْ لَمْ يُقَدَّرْ فَلَا سَبِيلَ إِلَى وُقُوعِهِ، وَإِنْ قُدِّرَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى صَرْفِهِ بَعْدَ أَنْ أُبْرِمَ تَقْدِيرُهُ. فَلَا جَزَعَ حِينَئِذٍ لَا مِمَّا قُدِّرَ وَلَا مِمَّا لَمْ يُقَدَّرْ. نَعَمْ إِنْ كَانَ لَهُ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ حِيلَةٌ. فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَضْجَرَ عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حِيلَةٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَضْجَرَ مِنْهَا. فَهَذِهِ طُمَأْنِينَةُ الضَّجِرِ إِلَى الْحُكْمِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا قَالَ الْقَائِلُ: مَا قَدْ قُضَى يَا نَفْسُ فَاصْطَبِرِي لَهُ ... وَلَكِ الْأَمَانُ مِنَ الَّذِي لَمْ يُقْدَرِ وَتَحَقَّقِي أَنَّ الْمُقَدَّرَ كَائِنٌ ... يَجْرِي عَلَيْكِ حَذَرْتِ أَمْ لَمْ تَحْذَرِي وَأَمَّا طُمَأْنِينَةُ الْمُبْتَلَى إِلَى الْمَثُوبَةِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُبْتَلَى إِذَا قَوِيَتْ مُشَاهَدَتُهُ لِلْمَثُوبَةِ سَكَنَ قَلْبُهُ وَاطْمَأَنَّ بِمُشَاهَدَةِ الْعِوَضِ. وَإِنَّمَا يَشْتَدُّ بِهِ الْبَلَاءُ إِذَا غَابَ عَنْهُ مُلَاحَظَةُ الثَّوَابِ. وَقَدْ تَقْوَى مُلَاحَظَةُ الْعِوَضِ حَتَّى يَسْتَلِذَّ بِالْبَلَاءِ وَيَرَاهُ نِعْمَةً، وَلَا تَسْتَبْعِدْ هَذَا. فَكَثِيرٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِذَا تَحَقَّقَ نَفْعَ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ فَإِنَّهُ يَكَادُ يَلْتَذُّ بِهِ. وَمُلَاحَظَتُهُ لِنَفْعِهِ تُغَيِّبُهُ عَنْ تَأَلُّمِهِ بِمَذَاقِهِ أَوْ تُخَفِّفِهِ عَنْهُ. وَالْعَمَلُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ: إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْبَصَائِرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ طُمَأْنِينَةُ الرُّوحِ فِي الْقَصْدِ إِلَى الْكَشْفِ] فَصْلٌ

فصل الدرجة الثالثة طمأنينة شهود الحضرة إلى اللطف

قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: طُمَأْنِينَةُ الرُّوحِ فِي الْقَصْدِ إِلَى الْكَشْفِ، وَفِي الشَّوْقِ إِلَى الْعِدَةِ. وَفِي التَّفْرِقَةِ إِلَى الْجَمْعِ. طُمَأْنِينَةُ الرُّوحِ أَنْ تَطْمَئِنَّ فِي حَالِ قَصْدِهَا. وَلَا تَلْتَفِتَ إِلَى مَا وَرَاءَهَا. وَالْمُرَادُ بِالْكَشْفِ: كَشَفُ الْحَقِيقَةِ، لَا الْكَشْفُ الْجُزْئِيُّ السُّفْلِيُّ. وَهُوَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ. كَشْفٌ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُوصِّلِ إِلَى الْمَطْلُوبِ. وَهُوَ الْكَشْفُ عَنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ. وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. وَكَشْفٌ عَنِ الْمَطْلُوبِ الْمَقْصُودِ بِالسَّيْرِ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَنَوْعَيِ التَّوْحِيدِ وَتَفَاصِيلِهِ. وَمُرَاعَاةِ ذَلِكَ حَقَّ رِعَايَتِهِ. وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ إِلَّا الدَّعَاوَى وَالشَّطْحُ وَالْغُرُورُ. وَقَوْلُهُ: وَفِي الشَّوْقِ إِلَى الْعِدَةِ. يَعْنِي أَنَّ الرُّوحَ تَظْهَرُ فِي اشْتِيَاقِهَا إِلَى مَا وُعِدَتْ بِهِ، وَشُوِّقَتْ إِلَيْهِ، فَطُمَأْنِينَتُهُا بِتِلْكَ الْعِدَةِ: تُسِكِّنُ عَنْهَا لَهِيبَ اشْتِيَاقِهَا. وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُشْتَاقٍ إِلَى مَحْبُوبٍ وُعِدَ بِحُصُولِهِ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِرُوحِهِ الطُّمَأْنِينَةُ بِسُكُونِهَا إِلَى وَعْدِ اللِّقَاءِ. وَعِلْمُهَا بِحُصُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ. قَوْلُهُ: وَفِي التَّفْرِقَةِ إِلَى الْجَمْعِ أَيْ وَتَطْمَئِنُّ الرُّوحُ فِي حَالِ تَفْرِقَتِهَا إِلَى مَا اعْتَادَتْهُ مِنَ الْجَمْعِ، بِأَنْ تُوَافِيَهَا رُوحُهُ فَتَسْكُنَ إِلَيْهِ وَتَطْمَئِنَّ بِهِ، كَمَا يَطْمَئِنُّ الْجَائِعُ الشَّدِيدُ الْجُوعِ إِلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الطَّعَامِ. وَيَسْكُنُ إِلَيْهِ قَلْبُهُ. وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْجَمْعِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ رَقِيقٍ. وَشَامَ بَرْقَهُ. فَاطْمَأَنَّ بِحُصُولِهِ. وَأَمَّا مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ الْحُجُبُ الْكَثِيفَةُ: فَلَا يَطْمَئِنُّ بِهِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ طُمَأْنِينَةُ شُهُودِ الْحَضْرَةِ إِلَى اللُّطْفِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: طُمَأْنِينَةُ شُهُودِ الْحَضْرَةِ إِلَى اللُّطْفِ. وَطُمَأْنِينَةُ الْجَمْعِ إِلَى الْبَقَاءِ. وَطُمَأْنِينَةُ الْمَقَامِ إِلَى نُورِ الْأَزَلِ.

هَذِهِ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْفَنَاءِ وَالْبَقَاءِ، فَالْوَاصِلُ إِلَى شُهُودِ الْحَضْرَةِ: مُطْمَئِنٌّ إِلَى لُطْفِ اللَّهِ. وَحَضْرَةِ الْجَمْعِ يُرِيدُونَ بِهَا الشُّهُودَ الذَّاتِيَّ. فَإِنَّ الشُّهُودَ عِنْدَهُمْ مَرَاتِبُ بِحَسَبِ تَعَلُّقِهِ. فَشُهُودُ الْأَفْعَالِ: أَوَّلُ مَرَاتِبِ الشُّهُودِ. ثُمَّ فَوْقَهُ: شُهُودُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. ثُمَّ فَوْقَهُ: شُهُودُ الذَّاتِ الْجَامِعَةِ إِلَى الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَالتَّجَلِّي عِنْدَ الْقَوْمِ: بِحَسَبِ هَذِهِ الشُّهُودِ الثَّلَاثَةِ. فَأَصْحَابُ تَجَلِّي الْأَفْعَالِ: مَشْهَدُهُمْ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ. وَأَصْحَابُ تَجَلِّي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: مَشْهَدُهُمْ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ: وَأَصْحَابُ تَجَلِّي الذَّاتِ: يُغْنِيهِمْ بِهِ عَنْهُمْ. وَقَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِهِمْ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْوَارِدِ وَضَعْفِ الْمَحَلِّ عَجْزٌ عَنِ الْقِيَامِ وَالْحَرَكَةِ. فَرُبَّمَا عَطَّلَ بَعْضَ الْفُرُوضِ، وَهَذَا لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَجْزِ وَالتَّفْرِيطِ، وَالْكَامِلُونَ مِنْهُمْ قَدْ يَفْتُرُونَ فِي تِلْكَ الْحَالِ عَنِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ. وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى الْفَرَائِضِ وَسُنَنِهَا وَحُقُوقِهَا. وَلَا يَقْعُدُ بِهِمْ ذَلِكَ الشُّهُودُ وَالتَّجَلِّي عَنْهَا. وَلَا يُؤْثِرُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ النَّوَافِلِ وَالْحَرَكَاتِ الَّتِي لَمْ تَعْرِضْ عَلَيْهِمْ أَلْبَتَّةَ. وَذَلِكَ فِي طَرِيقِهِمْ رُجُوعٌ وَانْقِطَاعٌ. وَأَكْمَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ: مَنْ يَصْحَبُهُ ذَلِكَ فِي حَالِ حَرَكَاتِهِ وَنَوَافِلِهِ. فَلَا يُعَطِّلُ ذَرَّةً مِنْ أَوْرَادِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ فَاوَتَ بَيْنَ قُوَى الْقُلُوبِ أَشَدَّ مِنْ تَفَاوُتِ قُوَى الْأَبْدَانِ. وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ. وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَالْبَصَائِرِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ لَوْلَا طُمَأْنِينَتُهُ إِلَى لُطْفِ اللَّهِ لَمَحَقَهُ شُهُودُ الْحَضْرَةِ وَأَفْنَاهُ جُمْلَةً. فَقَدْ خَرَّ مُوسَى صَعِقًا لَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ. وَتَدَكْدَكَ الْجَبَلُ وَسَاخَ فِي الْأَرْضِ مِنْ تَجَلِّيهِ سُبْحَانَهُ. هَذَا وَلَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْحَاصِلَ فِي الدُّنْيَا لِلْبَشَرِ كَذَلِكَ، وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ أَبَدًا. وَإِنَّمَا هِيَ الْمَعَارِفُ، وَاسْتِيلَاءُ مَقَامِ الْإِحْسَانِ عَلَى الْقَلْبِ فَقَطْ. وَإِيَّاكَ وَتُرَّهَاتِ الْقَوْمِ، وَخَيَالَاتِهِمْ وَرَعُونَاتِهِمْ، وَإِنْ سَمَّوْكَ مَحْجُوبًا، فَقُلِ: اللَّهُمَّ زِدْنِي مِنْ هَذَا الْحِجَابِ الَّذِي مَا وَرَاءَهُ إِلَّا الْخَيَالَاتُ وَالتُّرَّهَاتُ وَالشَّطَحَاتُ. فَكَلِيمُ الرَّحْمَنِ وَحْدَهُ مَعَ هَذَا لَمْ تَتَجَلَّ الذَّاتُ لَهُ، وَأَرَاهُ رَبُّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِتَجَلِّي ذَاتِهِ، لَمَّا أَشْهَدَهُ مِنْ حَالِ الْجَبَلِ، وَخَرَّ الْكَلِيمُ صَعِقًا مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، لَمَّا رَأَى مَا رَأَى مِنْ حَالِ الْجَبَلِ عِنْدَ تَجَلِّي رَبِّهِ لَهُ. وَلَمْ يَكُنْ تَجَلِّيًا مُطْلَقًا. قَالَ الضَّحَّاكُ: أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ نُورِ الْحُجُبِ مِثْلَ مِنْخَرِ ثَوْرٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ: مَا تَجَلَّى مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ لِلْجَبَلِ إِلَّا مِثْلُ سَمِّ الْخِيَاطِ حَتَّى صَارَ دَكًّا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا تَجَلَّى إِلَّا قَدْرُ الْخِنْصَرِ.

فصل طمأنينة الجمع إلى البقاء

وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ: هَكَذَا - وَوَضَعَ الْإِبْهَامَ عَلَى الْمِفْصَلِ الْأَعْلَى مِنَ الْخِنْصَرِ - فَسَاخَ الْجَبَلُ» . وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَلَمَّا حَدَّثَ بِهِ حُمَيْدٌ عَنْ ثَابِتٍ اسْتَعْظَمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَقَالَ: تُحَدِّثُ بِهَذَا؟ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ. وَقَالَ: يُحَدِّثُ بِهِ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُنْكِرُهُ أَنْتَ، وَلَا أُحَدِّثُ بِهِ؟ فَإِذَا شَهِدَ لَكَ الْمَخْدُوعُونَ بِأَنَّكَ مَحْجُوبٌ عَنْ تُرَّهَاتِهِمْ وَخَيَالَاتِهِمْ، فَتِلْكَ الشَّهَادَةُ لَكَ بِالِاسْتِقَامَةِ. فَلَا تَسْتَوْحِشْ مِنْهَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ طُمَأْنِينَةُ الْجَمْعِ إِلَى الْبَقَاءِ] فَصْلٌ وَأَمَّا طُمَأْنِينَةُ الْجَمْعِ إِلَى الْبَقَاءِ فَمَشْهَدٌ شَرِيفٌ فَاضِلٌ. وَهُوَ مَشْهَدُ الْكُمَّلِ. فَإِنَّ حَضْرَةَ الْجَمْعِ تُعْفِي الْآثَارَ، وَتَمْحُو الْأَغْيَارَ. وَتَحُولُ بَيْنَ الشَّاهِدِ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ لِلْخَلْقِ. فَيَرَى الْحَقَّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ قَائِمًا بِذَاتِهِ. وَيَرَى كُلَّ شَيْءٍ قَائِمًا بِهِ، مُتَوَحِّدًا فِي كَثْرَةِ أَسْمَائِهِ وَأَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ. وَلَا يَرَى مَعَهُ غَيْرَهُ وَلَا يَشْهَدُهُ عَكْسَ حَالِ مَنْ يَشْهَدُ غَيْرَهُ. وَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي هَذَا الشُّهُودِ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ فِي مَقَامِ الْفَنَاءِ. فَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنْهُ إِلَى مَقَامِ الْبَقَاءِ وَإِلَّا انْقَطَعَ انْقِطَاعًا كُلِّيًّا. فَفِي هَذَا الْمَقَامِ: إِنْ لَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَى حُصُولِ الْبَقَاءِ وَإِلَّا عَطَّلَ الْأَمْرَ. وَخَلَعَ رِبْقَةَ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ عُنُقِهِ. فَإِذَا اطْمَأَنَّ إِلَى الْبَقَاءِ طُمَأْنِينَةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ وَإِلَّا فَسَدَ وَهَلَكَ - كَانَ هَذَا مِنْ طُمَأْنِينَةِ الْجَمْعِ إِلَى الْبَقَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ طُمَأْنِينَةُ الْمَقَامِ إِلَى نُورِ الْأَزَلِ] فَصْلٌ وَأَمَّا طُمَأْنِينَةُ الْمَقَامِ إِلَى نُورِ الْأَزَلِ فَيُرِيدُ بِهِ: طُمَأْنِينَةَ مَقَامِهِ إِلَى السَّابِقَةِ الَّتِي سَبَقَ بِهَا الْأَزَلُ. فَلَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ وَلِهَذَا قَالَ: طُمَأْنِينَةُ الْمَقَامِ. وَلَمْ يَقُلْ: طُمَأْنِينَةَ الْحَالِ. فَإِنَّ الْحَالَ يَزُولُ وَيَحُولُ، وَلَوْ لَمْ يَحُلْ لَمَا سُمِّيَ حَالًا، بِخِلَافِ الْمَقَامِ. فَإِذَا اطْمَأَنَّ إِلَى السَّابِقَةِ وَالْحُسْنَى الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ. كَانَ هَذَا طُمَأْنِينَةَ الْمَقَامِ إِلَى الْأَزَلِ. وَهَذَا هُوَ شُهُودُ أَهْلِ الْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل منزلة الهمة

[فَصْلُ مَنْزِلَةِ الْهِمَّةِ] [حَقِيقَةُ الْهِمَّةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَمِنْ مَنَازِلِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " مَنْزِلَةُ الْهِمَّةِ وَقَدْ صَدَّرَهَا صَاحِبُ الْمَنَازِلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] . وَقَدْ تَقَدَّمَ: أَنَّهُ صَدَّرَ بِهَا بَابَ الْأَدَبِ، وَذَكَرْنَا وَجْهَهُ. وَأَمَّا وَجْهُ تَصْدِيرِ " الْهِمَّةِ " بِهَا: فَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هِمَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَعَلَّقَتْ بِسِوَى مَشْهُودِهِ، وَمَا أُقِيمَ فِيهِ. وَلَوْ تَجَاوَزَتْهُ هِمَّتُهُ لِتَبِعَهَا بَصَرُهُ. وَالْهِمَّةُ فِعْلَةٌ مِنَ الْهَمِّ. وَهُوَ مَبْدَأُ الْإِرَادَةِ. وَلَكِنْ خَصُّوهَا بِنِهَايَةِ الْإِرَادَةِ. فَالْهَمُّ مَبْدَؤُهَا. وَالْهِمَّةُ نِهَايَتُهَا. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: فِي بَعْضِ الْآثَارِ الْإِلَهِيَّةِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «إِنِّي لَا أَنْظُرُ إِلَى كَلَامِ الْحَكِيمِ. وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى هِمَّتِهِ» . قَالَ: وَالْعَامَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ. وَالْخَاصَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يَطْلُبُ. يُرِيدُ: أَنَّ قِيمَةَ الْمَرْءِ هِمَّتُهُ وَمَطْلَبُهُ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:

فصل درجات الهمة

الْهِمَّةُ: مَا يَمْلِكُ الِانْبِعَاثَ لِلْمَقْصُودِ صِرْفًا. لَا يَتَمَالَكُ صَاحِبُهَا. وَلَا يَلْتَفِتُ عَنْهَا. قَوْلُهُ " يَمْلِكُ الِانْبِعَاثَ لِلْمَقْصُودِ " أَيْ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ كَاسْتِيلَاءِ الْمَالِكِ عَلَى الْمَمْلُوكِ، وَصِرْفًا أَيْ خَالِصًا صِرْفًا. وَالْمُرَادُ: أَنَّ هِمَّةَ الْعَبْدِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْحَقِّ تَعَالَى طَلَبًا صَادِقًا خَالِصًا مَحْضًا. فَتِلْكَ هِيَ الْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ، الَّتِي لَا يَتَمَالَكُ صَاحِبُهَا أَيْ: لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُهْلَةِ. وَلَا يَتَمَالَكُ صَبْرَهُ؛ لِغَلَبَةِ سُلْطَانِهِ عَلَيْهِ. وَشِدَّةِ إِلْزَامِهَا إِيَّاهُ بِطَلَبِ الْمَقْصُودِ، وَلَا يَلْتَفِتُ عَنْهَا إِلَى مَا سِوَى أَحْكَامِهَا. وَصَاحِبُ هَذِهِ الْهِمَّةِ: سَرِيعٌ وُصُولُهُ وَظَفَرُهُ بِمَطْلُوبِهِ. مَا لَمْ تَعُقْهُ الْعَوَائِقُ، وَتَقْطَعْهُ الْعَلَائِقُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْهِمَّةِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى هِمَّةٌ تَصُونُ الْقَلْبَ عَنْ وَحْشَةِ الرَّغْبَةِ فِي الْفَانِي] فَصْلٌ قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الدَّرَجَةُ الْأُولَى: هِمَّةٌ تَصُونُ الْقَلْبَ عَنْ وَحْشَةِ الرَّغْبَةِ فِي الْفَانِي، وَتَحْمِلُهُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْبَاقِي، وَتُصَفِّيهِ مِنْ كَدَرِ التَّوَانِي. الْفَانِي الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا. أَيْ يَزْهَدُ الْقَلْبُ فِيهَا وَفِي أَهْلِهَا. وَسَمَّى الرَّغْبَةَ فِيهَا وَحْشَةً لِأَنَّهَا وَأَهْلَهَا تُوحِشُ قُلُوبَ الرَّاغِبِينَ فِيهَا، وَقُلُوبَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا. أَمَّا الرَّاغِبُونَ فِيهَا: فَأَرْوَاحُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ فِي وَحْشَةٍ مِنْ أَجْسَامِهِمْ. إِذْ فَاتَهَا مَا خُلِقَتْ لَهُ. فَهِيَ فِي وَحْشَةٍ لِفَوَاتِهِ. وَأَمَّا الزَّاهِدُونَ فِيهَا: فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَهَا مُوحِشَةً لَهُمْ. لِأَنَّهَا تَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَطْلُوبِهِمْ وَمَحْبُوبِهِمْ. وَلَا شَيْءَ أَوْحَشُ عِنْدَ الْقَلْبِ مِمَّا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَطْلُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ. وَلِذَلِكَ كَانَ مَنْ نَازَعَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ، وَطَلَبَهَا مِنْهُمْ أَوْحَشَ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ وَأَبْغَضَهُ. وَأَيْضًا: فَالزَّاهِدُونَ فِيهَا: إِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا بِالْبَصَائِرِ. وَالرَّاغِبُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا بِالْأَبْصَارِ فَيَسْتَوْحِشُ الزَّاهِدُ مِمَّا يَأْنَسُ بِهِ الرَّاغِبُ. كَمَا قِيلَ: وَإِذَا أَفَاقَ الْقَلْبُ وَانْدَمَلَ الْهَوَى ... رَأَتِ الْقُلُوبُ وَلَمْ تَرَ الْأَبْصَارُ وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْهِمَّةُ تَحْمِلُهُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْبَاقِي لِذَاتِهِ. وَهُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ. وَالْبَاقِي بِإِبْقَائِهِ: هُوَ الدَّارُ الْآخِرَةُ.

فصل الدرجة الثانية همة تورث أنفة من المبالاة بالعلل

وَتُصَفِّيهِ مِنْ كَدَرِ التَّوَانِي أَيْ تُخَلِّصُهُ وَتُمَحِّصُهُ مِنْ أَوْسَاخِ الْفُتُورِ وَالتَّوَانِي، الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْإِضَاعَةِ وَالتَّفْرِيطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ هِمَّةٌ تُورِثُ أَنَفَةً مِنَ الْمُبَالَاةِ بِالْعِلَلِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: هِمَّةٌ تُورِثُ أَنَفَةً مِنَ الْمُبَالَاةِ بِالْعِلَلِ، وَالنُّزُولِ عَلَى الْعَمَلِ وَالثِّقَةِ بِالْأَمَلِ. الْعِلَلُ هَاهُنَا: هِيَ عِلَلُ الْأَعْمَالِ مِنْ رُؤْيَتِهَا، أَوْ رُؤْيَةِ ثَمَرَاتِهَا وَإِرَادَتِهَا. وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنَّهَا عِنْدَهُمْ عِلَلٌ. فَصَاحِبُ هَذِهِ الْهِمَّةِ: يَأْنَفُ عَلَى هِمَّتِهِ، وَقَلْبِهِ مِنْ أَنْ يُبَالِيَ بِالْعِلَلِ. فَإِنَّ هِمَّتَهُ فَوْقَ ذَلِكَ. فَمُبَالَاتُهُ بِهَا، وَفِكْرَتُهُ فِيهَا: نُزُولٌ مِنَ الْهِمَّةِ. وَعَدَمُ هَذِهِ الْمُبَالَاةِ: إِمَّا لِأَنَّ الْعِلَلَ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ؛ لِأَنَّ عُلُوَّ هِمَّتِهِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. فَلَا يُبَالِي بِمَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ. وَإِمَّا لِأَنَّ هِمَّتَهُ وَسِعَتْ مَطْلُوبَهُ، وَعُلُوُّهُ يَأْتِي عَلَى تِلْكَ الْعِلَلِ، وَيَسْتَأْصِلُهَا. فَإِنَّهُ إِذَا عَلَّقَ هِمَّتَهُ بِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا تَضَمَّنَتْهَا الْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ. فَانْدَرَجَ حُكْمُهَا فِي حُكْمِ الْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ غَرِيبٌ عَزِيزٌ جِدًّا. وَمَا أَدْرِي قَصَدَهُ الشَّيْخُ أَوْ لَا؟ وَأَمَّا أَنَفَتُهُ مِنَ النُّزُولِ عَلَى الْعَمَلِ: فَكَلَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدٍ وَتَبْيِينٍ. وَهُوَ أَنَّ الْعَالِيَ الْهِمَّةِ مَطْلَبُهُ فَوْقَ مَطْلَبِ الْعُمَّالِ وَالْعُبَّادِ. وَأَعْلَى مِنْهُ. فَهُوَ يَأْنَفُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ سَمَاءِ مَطْلَبِهِ الْعَالِي، إِلَى مُجَرَّدِ الْعَمَلِ وَالْعِبَادَةِ، دُونَ السَّفَرِ بِالْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ، لِيَحْصُلَ لَهُ وَيَفُوزَ بِهِ. فَإِنَّهُ طَالِبٌ لِرَبِّهِ تَعَالَى طَلَبًا تَامًّا بِكُلِّ مَعْنًى وَاعْتِبَارٍ فِي عَمَلِهِ، وَعِبَادَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ، وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ، وَحَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ، وَعُزْلَتِهِ وَخُلْطَتِهِ، وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ. فَقَدِ انْصَبَغَ قَلْبُهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيُّمَا صِبْغَةٍ. وَهَذَا الْأَمْرُ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ. فَهُمْ لَا يَقْنَعُونَ بِمُجَرَّدِ رُسُومِ الْأَعْمَالِ، وَلَا بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الطَّلَبِ حَالَ الْعَمَلِ فَقَطْ. وَأَمَّا أَنَفَتُهُ مِنَ الثِّقَةِ بِالْأَمَلِ: فَإِنَّ الثِّقَةَ تُوجِبُ الْفُتُورَ وَالتَّوَانِيَ. وَصَاحِبُ هَذِهِ الْهِمَّةِ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، كَيْفَ؟ وَهُوَ طَائِرٌ لَا سَائِرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل الدرجة الثالثة همة تتصاعد عن الأحوال والمعاملات

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ هِمَّةٌ تَتَصَاعَدُ عَنِ الْأَحْوَالِ وَالْمُعَامَلَاتِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: هِمَّةٌ تَتَصَاعَدُ عَنِ الْأَحْوَالِ وَالْمُعَامَلَاتِ. وَتُزْرِي بِالْأَعْوَاضِ وَالدَّرَجَاتِ. وَتَنْحُو عَنِ النُّعُوتِ نَحْوَ الذَّاتِ. أَيْ هَذِهِ الْهِمَّةُ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ صَاحِبُهَا بِالْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ آثَارُ الْأَعْمَالِ وَالْوَارِدَاتِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَامَلَاتِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَعْطِيلَهَا. بَلِ الْقِيَامَ بِهَا مَعَ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَالتَّعَلُّقِ بِهَا. وَوَجْهُ صُعُودِ هَذِهِ الْمُهِمَّةِ عَنْ هَذَا: مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ: تُزْرِي بِالْأَعْوَاضِ وَالدَّرَجَاتِ، وَتَنْحُو عَنِ النُّعُوتِ نَحْوَ الذَّاتِ، أَيْ صَاحِبُهَا لَا يَقِفُ عِنْدَ عِوَضٍ وَلَا دَرَجَةٍ. فَإِنَّ ذَلِكَ نُزُولٌ مِنْ هِمَّتِهِ. وَمَطْلَبُهُ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ. فَإِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْهِمَّةِ قَدْ قَصَرَ هِمَّتَهُ عَلَى الْمَطْلَبِ الْأَعْلَى، الَّذِي لَا شَيْءَ أَعْلَى مِنْهُ. وَالْأَعْوَاضُ وَالدَّرَجَاتُ دُونَهُ. وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ لَهُ فَهُنَاكَ كُلُّ عِوَضٍ وَدَرَجَةٍ عَالِيَةٍ. وَأَمَّا نَحْوُهَا نَحْوَ الذَّاتِ فَيُرِيدُ بِهِ: أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَقْتَصِرُ عَلَى شُهُودِ الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. بَلِ الذَّاتُ الْجَامِعَةُ لِمُتَفَرِّقَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ. كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْمَحَبَّةِ] [حَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْمَحَبَّةِ وَمِنْ مَنَازِلِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " مَنْزِلَةُ الْمَحَبَّةِ وَهِيَ الْمَنْزِلَةُ الَّتِي فِيهَا تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ. وَإِلَيْهَا شَخَصَ الْعَامِلُونَ. وَإِلَى عِلْمِهَا شَمَّرَ السَّابِقُونَ. وَعَلَيْهَا تَفَانَى الْمُحِبُّونَ. وَبِرُوحِ نَسِيمِهَا تَرَوَّحَ الْعَابِدُونَ. فَهِيَ قُوتُ الْقُلُوبِ، وَغِذَاءُ الْأَرْوَاحِ، وَقُرَّةُ الْعُيُونِ. وَهِيَ الْحَيَاةُ الَّتِي مَنْ حُرِمَهَا فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ. وَالنُّورُ الَّذِي مَنْ فَقَدَهُ فَهُوَ فِي بِحَارِ الظُّلُمَاتِ. وَالشِّفَاءُ الَّذِي مَنْ عَدِمَهُ حَلَّتْ بِقَلْبِهِ جَمِيعُ الْأَسْقَامِ. وَاللَّذَّةُ الَّتِي مَنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهَا فَعَيْشُهُ كُلُّهُ هُمُومٌ وَآلَامٌ. وَهِيَ رُوحُ

الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي مَتَى خَلَتْ مِنْهَا فَهِيَ كَالْجَسَدِ الَّذِي لَا رُوحَ فِيهِ. تَحْمِلُ أَثْقَالَ السَّائِرِينَ إِلَى بِلَادٍ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ بَالِغِيهَا. وَتُوصِلُهُمْ إِلَى مَنَازِلَ لَمْ يَكُونُوا بِدُونِهَا أَبَدًا وَاصِلِيهَا. وَتُبَوِّؤُهُمْ مِنْ مَقَاعِدِ الصِّدْقِ مَقَامَاتٍ لَمْ يَكُونُوا لَوْلَاهَا دَاخِلِيهَا. وَهِيَ مَطَايَا الْقَوْمِ الَّتِي مَسْرَاهُمْ عَلَى ظُهُورِهَا دَائِمًا إِلَى الْحَبِيبِ. وَطَرِيقُهُمُ الْأَقْوَمُ الَّذِي يُبَلِّغُهُمْ إِلَى مَنَازِلِهِمُ الْأُولَى مِنْ قَرِيبٍ. تَاللَّهِ لَقَدْ ذَهَبَ أَهْلُهَا بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. إِذْ لَهُمْ مِنْ مَعِيَّةِ مَحْبُوبِهِمْ أَوْفَرُ نَصِيبٍ. وَقَدْ قَضَى اللَّهُ - يَوْمَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ بِمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ -: أَنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ. فَيَا لَهَا مِنْ نِعْمَةٍ عَلَى الْمُحِبِّينَ سَابِغَةٍ. تَاللَّهِ لَقَدْ سَبَقَ الْقَوْمُ السُّعَاةَ، وَهُمْ عَلَى ظُهُورِ الْفُرُشِ نَائِمُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمُوا الرَّكْبَ بِمَرَاحِلَ، وَهُمْ فِي سَيْرِهِمْ وَاقِفُونَ. مِنْ لِي بِمِثْلِ سَيْرِكَ الْمُدَلَّلِ ... تَمْشِي رُوَيْدًا وَتَجِي فِي الْأَوَّلِ أَجَابُوا مُنَادِيَ الشَّوْقِ إِذْ نَادَى بِهِمْ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. وَبَذَلُوا نُفُوسَهُمْ فِي طَلَبِ الْوُصُولِ إِلَى مَحْبُوبِهِمْ، وَكَانَ بَذْلُهُمْ بِالرِّضَا وَالسَّمَاحِ. وَوَاصَلُوا إِلَيْهِ الْمَسِيرَ بِالْإِدْلَاجِ وَالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ. تَاللَّهِ لَقَدْ حَمِدُوا عِنْدَ الْوُصُولِ سُرَاهُمْ. وَشَكَرُوا مَوْلَاهُمْ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ. وَإِنَّمَا يَحْمَدُ الْقَوْمَ السُّرَى عِنْدَ الصَّبَاحِ. فَحَيَّهَلًا إِنْ كُنْتَ ذَا هِمَّةٍ فَقَدْ ... حَدَا بِكَ حَادِي الشَّوْقِ فَاطْوِ الْمَرَاحِلَا وَقُلْ لِمُنَادِي حُبِّهِمْ وَرِضَاهُمْ ... إِذَا مَا دَعَا لَبَّيْكَ أَلْفًا كَوَامِلَا وَلَا تَنْظُرِ الْأَطْلَالَ مِنْ دُونِهِمْ فَإِنْ ... نَظَرْتَ إِلَى الْأَطْلَالِ عُدْنَ حَوَائِلَا وَلَا تَنْتَظِرْ بِالسَّيْرِ رُفْقَةَ قَاعِدٍ ... وَدَعْهُ فَإِنَّ الشَّوْقَ يَكْفِيكَ حَامِلَا وَخُذْ مِنْهُمْ زَادًا إِلَيْهِمْ وَسِرْ عَلَى ... طَرِيقِ الْهُدَى وَالْفَقْرِ تُصْبِحُ وَاصِلَا وَأَحْيِ بِذِكْرَاهُمْ سُرَاكَ إِذَا وَنَتْ ... رِكَابُكَ فَالذِّكْرَى تُعِيدُكَ عَامِلَا وَإِمَّا تَخَافَنَّ الْكَلَالَ فَقُلْ لَهَا ... أَمَامُكِ وِرْدُ الْوَصْلِ فَابْغِ الْمَنَاهِلَا وَخُذْ قَبَسًا مِنْ نُورِهِمْ ثُمَّ سِرْ بِهِ ... فَنُورُهُمْ يَهْدِيكَ لَيْسَ الْمَشَاعِلَا وَحَيِّ عَلَى وَادِ الْأَرَاكَ فَقِلْ بِهِ ... عَسَاكَ تَرَاهُمْ فِيهِ إِنْ كُنْتَ قَائِلَا وَإِلَّا فَفِي نُعْمَانَ عِنْدَ مُعَرِّفِ الْ ... أَحِبَّةِ فَاطْلُبْهُمْ إِذَا كُنْتَ سَائِلَا وَإِلَّا فَفِي جَمْعٍ بِلَيْلَتِهِ فَإِنْ ... تَفُتْ، فَمَتَى؟ يَا وَيْحَ مَنْ كَانَ غَافِلَا وَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ بِقُرْبِهِمْ ... مَنَازِلُكَ الْأُولَى بِهَا كُنْتَ نَازِلًا وَلَكِنْ سَبَاكَ الْكَاشِحُونَ لِأَجْلِ ذَا ... وَقَفْتَ عَلَى الْأَطْلَالِ تَبْكِي الْمَنَازِلَا

فَدَعْهَا رُسُومًا دَارِسَاتٍ فَمَا بِهَا مَقِيلٌ فَجَاوِزْهَا فَلَيْسَتْ مَنَازِلَا ... رُسُومٌ عَفَتْ يَفْنَى بِهَا الْخَلْقُ كَمْ بِهَا قَتِيلٌ؟ وَكَمْ فِيهَا لِذَا الْخُلُقِ قَاتِلَا ... وَخُذْ يَمْنَةً عَنْهَا عَلَى الْمَنْهَجِ الَّذِي عَلَيْهِ سَرَى وَفْدُ الْمَحَبَّةِ آهِلَا ... وَقُلْ سَاعِدِي يَا نَفْسُ بِالصَّبْرِ سَاعَةً فَعِنْدَ اللُّقَّا ذَا الْكَدِّ يُصْبِحُ زَائِلَا ... فَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي وَيُصْبِحُ ذُو الْأَحْزَانِ فَرْحَانَ جَاذِلَا أَوَّلُ نَقْدَةٍ مِنْ أَثْمَانِ الْمَحَبَّةِ: بَذْلُ الرُّوحِ فَمَا لِلْمُفْلِسِ الْجَبَانِ الْبَخِيلِ وَسَوْمِهَا؟ بِدَمِ الْمُحِبِّ يُبَاعُ وَصْلُهُمْ ... فَمَنِ الَّذِي يَبْتَاعُ بِالثَّمَنِ تَاللَّهِ مَا هُزِلَتْ فَيَسْتَامَهَا الْمُفْلِسُونَ، وَلَا كَسَدَتْ فَيَبِيعَهَا بِالنَّسِيئَةِ الْمُعْسِرُونَ، لَقَدْ أُقِيمَتْ لِلْعَرْضِ فِي سُوقِ مَنْ يَزِيدُ، فَلَمْ يُرْضَ لَهَا بِثَمَنٍ دُونَ بَذْلِ النُّفُوسِ. فَتَأَخَّرَ الْبَطَّالُونَ. وَقَامَ الْمُحِبُّونَ يَنْظُرُونَ: أَيُّهُمُّ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا؟ فَدَارَتِ السِّلْعَةُ بَيْنَهُمْ. وَوَقَعَتْ فِي يَدِ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] . لَمَّا كَثُرَ الْمُدَّعُونَ لِلْمَحَبَّةِ طُولِبُوا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى. فَلَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى الْخَلِيُّ حُرْقَةَ الشَّجِيِّ. فَتَنَوَّعَ الْمُدَّعُونَ فِي الشُّهُودِ. فَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا بِبَيِّنَةٍ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] . فَتَأَخَّرَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ. وَثَبَتَ أَتْبَاعُ الْحَبِيبِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ. فَطُولِبُوا بِعَدَالَةِ الْبَيِّنَةِ بِتَزْكِيَةِ {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54] . فَتَأَخَّرَ أَكْثَرُ الْمُحِبِّينَ وَقَامَ الْمُجَاهِدُونَ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ نُفُوسَ الْمُحِبِّينَ وَأَمْوَالَهُمْ لَيْسَتْ لَهُمْ. فَهَلُمُّوا إِلَى بَيْعَةِ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] . فَلَمَّا عَرَفُوا عَظَمَةَ الْمُشْتَرِي، وَفَضْلَ الثَّمَنِ، وَجَلَالَةَ مَنْ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ عَقْدُ التَّبَايُعِ: عَرَفُوا قَدْرَ السِّلْعَةِ، وَأَنَّ لَهَا شَأْنًا. فَرَأَوْا مِنْ أَعْظَمِ الْغَبْنِ أَنْ يَبِيعُوهَا لِغَيْرِهِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ. فَعَقَدُوا مَعَهُ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ بِالتَّرَاضِي، مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ خِيَارٍ. وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُقِيلُكَ وَلَا نَسْتَقِيلُكَ.

فصل حد المحبة

فَلَمَّا تَمَّ الْعَقْدُ وَسَلَّمُوا الْمَبِيعَ، قِيلَ لَهُمْ: مُذْ صَارَتْ نُفُوسُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ لَنَا رَدَدْنَاهَا عَلَيْكُمْ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، وَأَضْعَافَهَا مَعًا {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169 - 170] . إِذَا غُرِسَتْ شَجَرَةُ الْمَحَبَّةِ فِي الْقَلْبِ، وَسُقِيَتْ بِمَاءِ الْإِخْلَاصِ، وَمُتَابَعَةِ الْحَبِيبِ، أَثْمَرَتْ أَنْوَاعَ الثِّمَارِ. وَآتَتْ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا. أَصْلُهَا ثَابِتٌ فِي قَرَارِ الْقَلْبِ. وَفَرْعُهَا مُتَّصِلٌ بِسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. لَا يَزَالُ سَعْيُ الْمُحِبِّ صَاعِدًا إِلَى حَبِيبِهِ لَا يَحْجُبُهُ دُونَهُ شَيْءٌ {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] . [فَصْلٌ حَدُّ الْمَحَبَّةِ] فَصْلٌ لَا تُحَدُّ الْمَحَبَّةُ بِحَدٍّ أَوْضَحَ مِنْهَا. فَالْحُدُودُ لَا تَزِيدُهَا إِلَّا خَفَاءً وَجَفَاءً. فَحَدُّهَا وُجُودُهَا. وَلَا تُوصَفُ الْمَحَبَّةُ بِوَصْفٍ أَظْهَرَ مِنَ الْمَحَبَّةِ. وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ النَّاسُ فِي أَسْبَابِهَا وَمُوجِبَاتِهَا، وَعَلَامَاتِهَا وَشَوَاهِدِهَا، وَثَمَرَاتِهَا وَأَحْكَامِهَا. فَحُدُودُهُمْ وَرُسُومُهُمْ دَارَتْ عَلَى هَذِهِ السِّتَّةِ. وَتَنَوَّعَتْ بِهِمُ الْعِبَارَاتُ. وَكَثُرَتِ الْإِشَارَاتُ، بِحَسَبِ إِدْرَاكِ الشَّخْصِ وَمَقَامِهِ وَحَالِهِ، وَمِلْكِهِ لِلْعِبَارَةِ. وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تَدُورُ فِي اللُّغَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: الصَّفَاءُ وَالْبَيَاضُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِصَفَاءِ بَيَاضِ الْأَسْنَانِ وَنَضَارَتِهَا: حَبَبُ الْأَسْنَانِ. الثَّانِي: الْعُلُوُّ وَالظُّهُورُ. وَمِنْهُ حَبَبُ الْمَاءِ وَحُبَابُهُ. وَهُوَ مَا يَعْلُوهُ عِنْدَ الْمَطَرِ الشَّدِيدِ. وَحَبَبُ الْكَأْسِ مِنْهُ. الثَّالِثُ: اللُّزُومُ وَالثَّبَاتُ. وَمِنْهُ: حَبَّ الْبَعِيرُ وَأَحَبَّ، إِذَا بَرَكَ وَلَمْ يَقُمْ. قَالَ الشَّاعِرُ: حُلْتَ عَلَيْهِ بِالْفَلَاةِ ضَرْبًا ... ضَرْبَ بِعِيرِ السُّوءِ إِذْ أَحَبَّا

الرَّابِعُ: اللُّبُّ. وَمِنْهُ: حَبَّةُ الْقَلْبِ، لِلُبِّهِ وَدَاخِلِهِ. وَمِنْهُ الْحَبَّةُ لِوَاحِدَةِ الْحُبُوبِ. إِذْ هِيَ أَصْلُ الشَّيْءِ وَمَادَّتُهُ وَقِوَامُهُ. الْخَامِسُ: الْحِفْظُ وَالْإِمْسَاكُ. وَمِنْهُ حِبُّ الْمَاءِ لِلْوِعَاءِ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ وَيُمْسِكُهُ وَفِيهِ مَعْنَى الثُّبُوتِ أَيْضًا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْمَحَبَّةِ. فَإِنَّهَا صَفَاءُ الْمَوَدَّةِ، وَهَيَجَانُ إِرَادَاتِ الْقَلْبِ لِلْمَحْبُوبِ. وَعُلُوُّهَا وَظُهُورُهَا مِنْهُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمَحْبُوبِ الْمُرَادِ. وَثُبُوتِ إِرَادَةِ الْقَلْبِ لِلْمَحْبُوبِ. وَلُزُومِهَا لُزُومًا لَا تُفَارِقُهُ، وَلِإِعْطَاءِ الْمُحِبِّ مَحْبُوبَهُ لُبَّهُ، وَأَشْرَفَ مَا عِنْدَهُ. وَهُوَ قَلْبُهُ، وَلِاجْتِمَاعِ عَزَمَاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ وَهُمُومِهِ عَلَى مَحْبُوبِهِ. فَاجْتَمَعَتْ فِيهَا الْمَعَانِي الْخَمْسَةُ. وَوَضَعُوا لِمَعْنَاهَا حَرْفَيْنِ مُنَاسِبَيْنِ لِلْمُسَمَّى غَايَةَ الْمُنَاسَبَةِ " الْحَاءَ " الَّتِي هِيَ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ، وَ " الْبَاءَ " الشَّفَوِيَّةَ الَّتِي هِيَ نِهَايَتُهُ. فَلِلْحَاءِ الِابْتِدَاءُ، وَلِلْبَاءِ الِانْتِهَاءُ. وَهَذَا شَأْنُ الْمَحَبَّةِ وَتَعَلُّقُهَا بِالْمَحْبُوبِ. فَإِنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْهُ وَانْتِهَاءَهَا إِلَيْهِ. وَقَالُوا فِي فِعْلِهَا: حَبَّهُ وَأَحَبَّهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: أُحِبُّ أَبَا ثَرْوَانَ مِنْ حُبِّ تَمْرِهِ ... وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الرِّفْقَ بِالْجَارِ أَرْفَقُ فَوَاللَّهِ لَوْلَا تَمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ ... وَلَا كَانَ أَدْنَى مِنْ عُبَيْدٍ وَمِشْرِقِ ثُمَّ اقْتَصَرُوا عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ أَحَبَّ فَقَالُوا: مُحِبٌّ، وَلَمْ يَقُولُوا: حَابٌّ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ حَبَّ، فَقَالُوا: مَحْبُوبٌ، وَلَمْ يَقُولُوا: مُحَبٌّ إِلَّا قَلِيلًا. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ وَأَعْطَوُا الْحُبَّ حَرَكَةَ الضَّمِّ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ الْحَرَكَاتِ وَأَقْوَاهَا، مُطَابَقَةً لِشِدَّةِ حَرَكَةِ مُسَمَّاهُ وَقُوَّتِهَا. وَأَعْطَوُا الْحِبَّ وَهُوَ الْمَحْبُوبُ: حَرَكَةَ الْكَسْرِ لِخِفَّتِهَا عَنِ الضَّمَّةِ، وَخِفَّةِ الْمَحْبُوبِ، وَخِفَّةِ ذِكْرِهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ: مِنْ إِعْطَائِهِ حُكْمَ نَظَائِرِهِ، كَنِهْبٍ

فصل رسوم وحدود قيلت في المحبة

بِمَعْنَى مَنْهُوبٍ، وَذِبْحٍ بِمَعْنَى مَذْبُوحٍ، وَحِمْلٍ لِلْمَحْمُولِ. بِخِلَافِ الْحَمْلِ - الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ - لِخِفَّتِهِ. ثُمَّ أَلْحَقُوا بِهِ حِمْلًا لَا يَشُقُّ عَلَى حَامِلِهِ حَمْلُهُ، كَحَمْلِ الشَّجَرَةِ وَالْوَلَدِ. فَتَأَمَّلْ هَذَا اللُّطْفَ وَالْمُطَابَقَةَ وَالْمُنَاسَبَةَ الْعَجِيبَةَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ تُطْلِعْكَ عَلَى قَدْرِ هَذِهِ اللُّغَةِ، وَأَنَّ لَهَا شَأْنًا لَيْسَ لِسَائِرِ اللُّغَاتِ. [فَصْلٌ رُسُومٌ وَحُدُودٌ قِيلَتْ فِي الْمَحَبَّةِ] فَصْلٌ فِي ذِكْرِ رُسُومٍ وَحُدُودٍ قِيلَتْ فِي الْمَحَبَّةِ، بِحَسَبِ آثَارِهَا وَشَوَاهِدِهَا. وَالْكَلَامِ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْهَا. الْأَوَّلُ، قِيلَ: الْمَحَبَّةُ الْمَيْلُ الدَّائِمُ، بِالْقَلْبِ الْهَائِمِ. وَهَذَا الْحَدُّ لَا تَمْيِيزَ فِيهِ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ، وَالصَّحِيحَةِ وَالْمَعْلُولَةِ. الثَّانِي: إِيثَارُ الْمَحْبُوبِ، عَلَى جَمِيعِ الْمَصْحُوبِ. وَهَذَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمَحَبَّةِ وَأَثَرٌ مِنْ آثَارِهَا. الثَّالِثُ: مُوَافَقَةُ الْحَبِيبِ، فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ. وَهَذَا أَيْضًا مُوجِبُهَا وَمُقْتَضَاهَا. وَهُوَ أَكْمَلُ مِنَ الْحَدَّيْنِ قَبْلَهُ. فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَحَبَّةَ الصَّادِقَةَ الصَّحِيحَةَ خَاصَّةً، بِخِلَافِ مُجَرَّدِ الْمَيْلِ وَالْإِيثَارِ بِالْإِرَادَةِ. فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ تَصْحَبْهُ مُوَافَقَةٌ فَمَحَبَّتُهُ مَعْلُولَةٌ. الرَّابِعُ: مَحْوُ الْحُبِّ لِصِفَاتِهِ. وَإِثْبَاتُ الْمَحْبُوبِ لِذَاتِهِ. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَحْكَامِ الْفَنَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ: أَنْ تَنْمَحِيَ صِفَاتُ الْمُحِبِّ، وَتَفْنَى فِي صِفَاتِ مَحْبُوبِهِ وَذَاتِهِ. وَهَذَا يَسْتَدْعِي بَيَانًا أَتَمَّ مِنْ هَذَا، لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا مَنْ أَفْنَاهُ وَارِدُ الْمَحَبَّةِ عَنْهُ، وَأَخَذَهُ مِنْهُ. الْخَامِسُ: مُوَاطَأَةُ الْقَلْبِ لِمُرَادَاتِ الْمَحْبُوبِ. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ مُوجِبَاتِهَا وَأَحْكَامِهَا. وَالْمُوَاطَأَةُ الْمُوَافَقَةُ لِمُرَادَاتِ الْمَحْبُوبِ وَأَوَامِرِهِ وَمَرَاضِيهِ. السَّادِسُ: خَوْفُ تَرْكِ الْحُرْمَةِ، مَعَ إِقَامَةِ الْخِدْمَةِ. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَعْلَامِهَا وَشَوَاهِدِهَا وَآثَارِهَا: أَنْ يَقُومَ بِالْخِدْمَةِ كَمَا يَنْبَغِي، مَعَ خَوْفِهِ مِنْ تَرْكِ الْحُرْمَةِ وَالتَّعْظِيمِ. السَّابِعُ: اسْتِقْلَالُ الْكَثِيرِ مِنْ نَفْسِكَ، وَاسْتِكْثَارُ الْقَلِيلِ مِنْ حَبِيبِكَ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يَزِيدَ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَحْكَامِهَا وَمُوجِبَاتِهَا وَشَوَاهِدِهَا. وَالْمُحِبُّ

الصَّادِقُ لَوْ بَذَلَ لِمَحْبُوبِهِ جَمِيعَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَاسْتَقَلَّهُ وَاسْتَحْيَى مِنْهُ، وَلَوْ نَالَهُ مِنْ مَحْبُوبِهِ أَيْسَرُ شَيْءٍ لَاسْتَكْثَرَهُ وَاسْتَعْظَمَهُ. الثَّامِنُ: اسْتِكْثَارُ الْقَلِيلِ مِنْ جِنَايَتِكَ، وَاسْتِقْلَالُ الْكَثِيرِ مِنْ طَاعَتِكَ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا مِنَ الْمُحِبِّ. التَّاسِعُ: مُعَانَقَةُ الطَّاعَةِ، وَمُبَايَنَةُ الْمُخَالَفَةِ. وَهُوَ لِسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَهُوَ أَيْضًا حُكْمُ الْمَحَبَّةِ وَمُوجِبُهَا. الْعَاشِرُ: دُخُولُ صِفَاتِ الْمَحْبُوبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ صِفَاتِ الْمُحِبِّ. وَهُوَ لِلْجُنَيْدِ. وَفِيهِ غُمُوضٌ. وَمُرَادُهُ: أَنَّ اسْتِيلَاءَ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ عَلَى قَلْبِ الْمُحِبِّ حَتَّى لَا يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ إِلَّا ذَلِكَ، وَلَا يَكُونَ شُعُورُهُ وَإِحْسَاسُهُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِهَا. فَيَصِيرُ شُعُورُهُ وَإِحْسَاسُهُ بَدَلًا مِنْ شُعُورِهِ وَإِحْسَاسِهِ بِصِفَاتِ نَفْسِهِ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ مَعْنًى أَشْرَفَ مِنْ هَذَا: تُبَدَّلُ صِفَاتُ الْمُحِبِّ الذَّمِيمَةُ - الَّتِي لَا تُوَافِقُ صِفَاتِ الْمَحْبُوبِ - بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ الْمَحْبُوبَةِ الَّتِي تُوَافِقُ صِفَاتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ تَهَبَ كُلَّكَ لِمَنْ أَحْبَبْتَ. فَلَا يَبْقَى لَكَ مِنْكَ شَيْءٌ. وَهُوَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ. وَهُوَ أَيْضًا مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَحَبَّةِ وَأَحْكَامِهَا. وَالْمُرَادُ: أَنْ تَهَبَ إِرَادَتَكَ وَعَزْمَكَ وَأَفْعَالَكَ وَنَفْسَكَ وَمَالَكَ وَوَقْتَكَ لِمَنْ تُحِبُّهُ وَتَجْعَلَهَا حَبْسًا فِي مَرْضَاتِهِ وَمَحَابِّهِ. فَلَا تَأْخُذُ لِنَفْسِكَ مِنْهَا إِلَّا مَا أَعْطَاكَ. فَتَأْخُذُهُ مِنْهُ لَهُ. الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ تَمْحُوَ مِنَ الْقَلْبِ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ. وَهُوَ لِلشِّبْلِيِّ، وَكَمَالُ الْمَحَبَّةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ. فَإِنَّهُ مَا دَامَتْ فِي الْقَلْبِ بَقِيَّةٌ لِغَيْرِهِ وَمَسْكَنٌ لِغَيْرِهِ فَالْمَحَبَّةُ مَدْخُولَةٌ. الثَّالِثَ عَشَرَ: إِقَامَةُ الْعِتَابَ عَلَى الدَّوَامِ. وَهُوَ لِابْنِ عَطَاءٍ. وَفِيهِ غُمُوضٌ. وَمُرَادُهُ: أَنْ لَا تَزَالَ عَاتِبًا عَلَى نَفْسِكَ فِي مَرْضَاةِ الْمَحْبُوبِ. وَأَنْ لَا تَرْضَى لَهُ فِيهَا عَمَلًا وَلَا حَالًا. الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ تَغَارَ عَلَى الْمَحْبُوبِ: أَنْ يُحِبَّهُ مِثْلُكَ. وَهُوَ لِلشِّبْلِيِّ أَيْضًا. وَفِيهِ كَلَامٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَنْزِلَةِ الْغَيْرَةِ، وَمُرَادُهُ: احْتِقَارُكَ لِنَفْسِكَ وَاسْتِصْغَارُهَا: أَنْ يَكُونَ مِثْلُكَ مِنْ مُحِبِّيهِ.

الْخَامِسَ عَشَرَ: إِرَادَةٌ غُرِسَتْ أَغْصَانُهَا فِي الْقَلْبِ. فَأَثْمَرَتِ الْمُوَافَقَةَ وَالطَّاعَةَ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَنْ يَنْسَى الْمُحِبُّ حَظَّهُ فِي مَحْبُوبِهِ، وَيَنْسَى حَوَائِجَهُ إِلَيْهِ. وَهُوَ لِأَبِي يَعْقُوبَ السُّوسِيِّ. وَمُرَادُهُ: أَنَّ اسْتِيلَاءَ سُلْطَانِهَا عَلَى قَلْبِهِ غَيَّبَهُ عَنْ حُظُوظِهِ وَعَنْ حَوَائِجِهِ. وَانْدَرَجَتْ كُلُّهَا فِي حُكْمِ الْمَحَبَّةِ. السَّابِعَ عَشَرَ: مُجَانَبَةُ السُّلُوِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَهُوَ لِلنَّصْرَابَاذِيِّ. وَهُوَ أَيْضًا مِنْ لَوَازِمِهَا وَثَمَرَاتِهَا، كَمَا قِيلَ: مَرَّتْ بِأَرْجَاءِ الْخَيَالِ طُيُوفَهُ ... فَبَكَتْ عَلَى رَسْمِ السُّلُوِّ الدَّارِسِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: تَوْحِيدُ الْمَحْبُوبِ بِخَالِصِ الْإِرَادَةِ وَصِدْقِ الطَّلَبِ. التَّاسِعَ عَشَرَ: سُقُوطُ كُلِّ مَحَبَّةٍ مِنَ الْقَلْبِ إِلَّا مَحَبَّةَ الْحَبِيبِ. وَهُوَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ. وَمُرَادُهُ: تَوْحِيدُ الْمَحْبُوبِ بِالْمَحَبَّةِ. الْعِشْرُونَ: غَضُّ طَرَفِ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى الْمَحْبُوبِ غَيْرَةً. وَعَنِ الْمَحْبُوبِ هَيْبَةً. وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى تَبْيِينٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَظَاهَرٌ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّ غَضَّ طَرَفِ الْقَلْبِ عَنِ الْمَحْبُوبِ - مَعَ كَمَالِ مَحَبَّتِهِ - كَالْمُسْتَحِيلِ. وَلَكِنْ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْهَيْبَةِ يَقَعُ مِثْلُ هَذَا. وَذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَحَبَّةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْهَيْبَةِ وَالتَّعْظِيمِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» أَيْ يُعْمِي عَمَّا سِوَاهُ غَيْرَةً، وَعَنْهُ هَيْبَةً.

وَلَيْسَ هَذَا مُرَادَ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ: أَنَّ حُبَّكَ لِلشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ عَنْ تَأَمُّلِ قَبَائِحِهِ وَمُسَاوِيهِ. فَلَا تَرَاهَا وَلَا تَسْمَعُهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ: ذِكْرَ الْمَحَبَّةِ الْمَطْلُوبَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرَّبِّ. وَلَا يُقَالُ فِي حُبِّ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: حُبُّكَ الشَّيْءَ. وَلَا يُوصَفُ صَاحِبُهَا بِالْعَمَى وَالصَّمَّ. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. فَإِنَّ الْمُحِبَّ قَدْ يَعْمَى وَيَصِمُّ عَنْهُ بِالْهَيْبَةِ وَالْإِجْلَالِ، وَلَكِنْ لَا تُوصَفُ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ. وَلَيْسَ أَهْلُهَا مِنْ أَهْلِ الْعَمَى وَالصَّمَمِ. بَلْ هُمْ أَهْلُ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَمَنْ سِوَاهُمْ هُمُ الْبُكْمُ الْعُمْيُ الصُّمُّ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: مَيْلُكَ لِلشَّيْءِ بِكُلِّيَّتِكَ. ثُمَّ إِيثَارُكَ لَهُ عَلَى نَفْسِكَ وَرُوحِكَ وَمَالِكَ. ثُمَّ مُوَافَقَتُكَ لَهُ سِرًّا وَجَهْرًا. ثُمَّ عِلْمُكَ بِتَقْصِيرِكَ فِي حُبِّهِ. قَالَ الْجُنَيْدُ: سَمِعْتُ الْحَارِثَ الْمُحَاسَبِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: الْمَحَبَّةُ نَارٌ فِي الْقَلْبِ، تُحْرِقُ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لُمْتُ بَعْضَ الْإِبَاحِيَّةِ، فَقَالَ لِي ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مُرَادُهُ، فَأَيَّ شَيْءٍ أَبْغَضَ مِنْهُ؟ قَالَ الشَّيْخُ: فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا كَانَ الْمَحْبُوبُ قَدْ أَبْغَضَ أَفْعَالًا وَأَقْوَالًا وَأَقْوَامًا وَعَادَاهُمْ فَطَرَدَهُمْ وَلَعَنَهُمْ فَأَحْبَبْتَهُمْ: تَكُونُ مُوَالِيًا لِلْمَحْبُوبِ أَوْ مُعَادِيًا لَهُ؟ قَالَ: فَكَأَنَّمَا أُلْقِمَ حَجَرًا. وَافْتُضِحَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ. وَكَانَ مُقَدَّمًا فِيهِمْ مُشَارًا إِلَيْهِ. وَهَذَا الْحَدُّ صَحِيحٌ: وَقَائِلُهُ إِنَّمَا أَرَادَ: أَنَّهَا تُحْرِقُ مِنَ الْقَلْبِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ، الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، لَا الْمُرَادَ الَّذِي قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ. لَكِنْ لِقِلَّةِ حَظِّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ: وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْإِبَاحَةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: الْمَحَبَّةُ بَذْلُ الْمَجْهُودِ، وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمَحْبُوبِ.

وَهَذَا أَيْضًا مِنْ حُقُوقِهَا وَثَمَرَاتِهَا. وَمُوجِبَاتِهَا. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: سُكْرٌ لَا يَصْحُو صَاحِبُهُ إِلَّا بِمُشَاهَدَةِ مَحْبُوبِهِ. ثُمَّ السُّكْرُ الَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ لَا يُوصَفُ، وَأَنْشَدَ: فَأَسْكَرَ الْقَوْمَ دَوْرُ الْكَأْسِ بَيْنَهُمْ ... لَكِنَّ سُكْرِي نَشَا مِنْ رُؤْيَةِ السَّاقِي. وَيَنْبَغِي صَوْنُ الْمَحَبَّةِ وَالْحَبِيبِ عَنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، الَّتِي غَايَةُ صَاحِبِهَا: أَنْ يُعْذَرَ بِصِدْقِهِ وَغَلَبَةِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ، وَقَهْرِهِ لَهُ. فَمَحَبَّةُ اللَّهِ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تُضْرَبَ لَهَا هَذِهِ الْأَمْثَالُ، وَتُجْعَلَ عُرْضَةً لِلْأَفْوَاهِ الْمُتَلَوِّثَةِ، وَالْأَلْفَاظِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَلَكِنَّ الصَّادِقَ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ لَا يُؤَثِّرَ عَلَى الْمَحْبُوبِ غَيْرُهُ، وَأَنْ لَا يَتَوَلَّى أُمُورَكَ غَيْرُهُ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: الدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّ الْمَحْبُوبِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَالْحُرِّيَّةُ مِنِ اسْتِرْقَاقِ مَا سِوَاهُ. السَّابِعَ وَالْعِشْرُونَ: الْمَحَبَّةُ سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْمَحْبُوبِ، وَلَهَجُ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ عَلَى الدَّوَامِ. قُلْتُ: أَمَّا سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْمَحْبُوبِ: فَهُوَ الشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، وَأَمَّا لَهَجُ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ: فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مَنْ ذِكْرِهِ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مَا لَا يَنْقُصُ بِالْجَفَاءِ. وَلَا تَزِيدُ بِالْبِرِّ. وَهُوَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ، بَلِ الْإِرَادَةُ وَالطَّلَبُ وَالشَّوْقُ إِلَى الْمَحْبُوبِ لِذَاتِهِ، فَلَا يُنْقِصُ ذَلِكَ جَفَاؤُهُ. وَلَا يَزِيدُهُ بِرُّهُ. وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ. فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ الذَّاتِيَّةَ تَزِيدُ بِالْبِرِّ. وَلَا تُنْقِصُهَا زِيَادَتُهَا بِالْبِرِّ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلَّةٍ، وَلَكِنَّ مُرَادَ يَحْيَى: أَنَّ الْقَلْبَ قَدِ امْتَلَأَ بِالْمَحَبَّةِ الذَّاتِيَّةِ. فَإِذَا جَاءَ الْبِرُّ مِنْ مَحْبُوبِهِ. لَمْ يَجِدْ فِي الْقَلْبِ مَكَانًا خَالِيًا مِنْ حُبِّهِ يَشْغَلُهُ مَحَبَّةُ الْبِرِّ. بَلْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ قَدِ اسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ بِالذَّاتِ بِلَا سَبَبٍ. وَمَعَ هَذَا فَلَا يُزِيلُ الْوَهْمَ. فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ لَا نِهَايَةَ لَهَا. وَكُلَّمَا قَوِيَتِ الْمَعْرِفَةُ وَالْبِرُّ قَوِيَتِ الْمَحَبَّةُ. وَلَا نِهَايَةَ لِجَمَالِ الْمَحْبُوبِ وَلَا بِرِّهِ. فَلَا نِهَايَةَ لِمَحَبَّتِهِ، بَلْ لَوِ اجْتَمَعَتْ مَحَبَّةُ الْخَلْقِ كُلِّهُمْ وَكَانَتْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: كَانَ ذَلِكَ دُونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَلِهَذَا لَا تُسَمَّى مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ عِشْقًا - كَمَا سَيَأْتِي - لِأَنَّهُ إِفْرَاطُ الْمَحَبَّةِ، وَالْعَبْدُ لَا يَصِلُ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ إِلَى حَدِّ الْإِفْرَاطِ، أَلْبَتَّةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل أسباب المحبة

التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْمَحَبَّةُ أَنْ يَكُونَ كُلُّكَ بِالْمَحْبُوبِ مَشْغُولًا، وَذَلِكَ لَهُ مَبْذُولًا. الثَّلَاثُونَ: وَهُوَ مِنْ أَجْمَعِ مَا قِيل فِيهَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْكَتَّانِيُّ: جَرَتْ مَسْأَلَةٌ فِي الْمَحَبَّةِ بِمَكَّةَ - أَعَزَّهَا اللَّهُ تَعَالَى - أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَتَكَلَّمَ الشُّيُوخُ فِيهَا. وَكَانَ الْجُنَيْدُ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا. فَقَالُوا: هَاتِ مَا عِنْدَكَ يَا عِرَاقِيُّ. فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ، وَدَمِعَتْ عَيْنَاهُ. ثُمَّ قَالَ: عَبْدٌ ذَاهِبٌ عَنْ نَفْسِهِ، مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ رَبِّهِ، قَائِمٌ بِأَدَاءِ حُقُوقِهِ، نَاظِرٌ إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ، أَحْرَقَتْ قَلْبَهُ أَنْوَارُ هَيْبَتِهِ. وَصَفَا شُرْبُهُ مِنْ كَأْسِ وُدِّهِ. وَانْكَشَفَ لَهُ الْجَبَّارُ مِنْ أَسْتَارِ غَيْبِهِ. فَإِنْ تَكَلَّمَ فَبِاللَّهِ. وَإِنْ نَطَقَ فَعَنِ اللَّهِ. وَإِنْ تَحَرَّكَ فَبِأَمْرِ اللَّهِ. وَإِنْ سَكَنَ فَمَعَ اللَّهِ. فَهُوَ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَمَعَ اللَّهِ. فَبَكَى الشُّيُوخُ وَقَالُوا: مَا عَلَى هَذَا مَزِيدٌ. جَزَاكَ اللَّهُ يَا تَاجَ الْعَارِفِينَ. [فصل أسباب المحبة] فِي الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِلْمَحَبَّةِ، وَالْمُوجِبَةِ لَهَا وَهِيَ عَشَرَةٌ. أَحَدُهَا: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمِ لِمَعَانِيهِ وَمَا أُرِيدَ بِهِ، كَتَدَبُّرِ الْكِتَابِ الَّذِي يَحْفَظُهُ الْعَبْدُ وَيَشْرَحُهُ. لِيَتَفَهَّمَ مُرَادَ صَاحِبِهِ مِنْهُ. الثَّانِي: التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ. فَإِنَّهَا تُوَصِّلُهُ إِلَى دَرَجَةِ الْمَحْبُوبِيَّةِ بَعْدَ الْمَحَبَّةِ. الثَّالِثُ: دَوَامُ ذِكْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ: بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَالْعَمَلِ وَالْحَالِ. فَنَصِيبُهُ مِنَ الْمَحَبَّةِ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْ هَذَا الذِّكْرِ. الرَّابِعُ: إِيثَارُ مَحَابِّهِ عَلَى مَحَابِّكَ عِنْدَ غَلَبَاتِ الْهَوَى، وَالتَّسَنُّمُ إِلَى مَحَابِّهِ، وَإِنْ صَعُبَ الْمُرْتَقَى. الْخَامِسُ: مُطَالَعَةُ الْقَلْبِ لِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمُشَاهَدَتُهَا وَمَعْرِفَتُهَا. وَتَقَلُّبُهُ فِي رِيَاضِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَمَبَادِيهَا. فَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ: أَحَبَّهُ لَا مَحَالَةَ. وَلِهَذَا كَانَتِ الْمُعَطِّلَةُ وَالْفِرْعَوْنِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ عَلَى الْقُلُوبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَحْبُوبِ. السَّادِسُ: مُشَاهَدَةُ بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَآلَائِهِ، وَنِعَمِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ. فَإِنَّهَا دَاعِيَةٌ إِلَى مَحَبَّتِهِ.

فصل محبة العبد لربه ومحبة الرب لعبده

السَّابِعُ: وَهُوَ مِنْ أَعْجَبِهَا، انْكِسَارُ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ الْأَسْمَاءِ وَالْعِبَارَاتِ. الثَّامِنُ: الْخَلْوَةُ بِهِ وَقْتَ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ، لِمُنَاجَاتِهِ وَتِلَاوَةِ كَلَامِهِ، وَالْوُقُوفِ بِالْقَلْبِ وَالتَّأَدُّبِ بِأَدَبِ الْعُبُودِيَّةِ بَيْنَ يَدَيْهِ. ثُمَّ خَتْمِ ذَلِكَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ. التَّاسِعُ: مُجَالَسَةُ الْمُحِبِّينَ الصَّادِقِينَ، وَالْتِقَاطُ أَطَايِبِ ثَمَرَاتِ كَلَامِهِمْ كَمَا يَنْتَقِي أَطَايِبَ الثَّمَرِ. وَلَا تَتَكَلَّمْ إِلَّا إِذَا تَرَجَّحَتْ مَصْلَحَةُ الْكَلَامِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ فِيهِ مَزِيدًا لِحَالِكَ، وَمَنْفَعَةً لِغَيْرِكَ. الْعَاشِرُ: مُبَاعَدَةُ كُلِّ سَبَبٍ يَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَمِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْعَشْرَةِ: وَصَلَ الْمُحِبُّونَ إِلَى مَنَازِلِ الْمَحَبَّةِ. وَدَخَلُوا عَلَى الْحَبِيبِ. وَمِلَاكُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَمْرَانِ: اسْتِعْدَادُ الرُّوحِ لِهَذَا الشَّأْنِ، وَانْفِتَاحُ عَيْنِ الْبَصِيرَةِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمَحَبَّةُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ] فَصْلٌ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مُعَلَّقٌ بِطَرَفَيْنِ: طَرَفُ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ. وَطَرَفُ مَحَبَّةِ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ. وَالنَّاسُ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ وَنَفْيِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: فَأَهْلٌ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ عَلَى إِثْبَاتِ الطَّرَفَيْنِ، وَأَنَّ مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ فَوْقَ كُلِّ مَحَبَّةٍ تُقَدَّرُ. وَلَا نِسْبَةَ لِسَائِرِ الْمَحَابِّ إِلَيْهَا. وَهِيَ حَقِيقَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ: صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى رَحْمَتِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَعَطَائِهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ أَثَرُ الْمَحَبَّةِ وَمُوجِبُهَا. فَإِنَّهُ لِمَا أَحَبَّهُمْ كَانَ نَصِيبُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَبِرِّهِ أَتَمَّ نَصِيبٍ. وَالْجَهْمِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ عَكْسُ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُحَبُّ. وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ تَكْذِيبُ النُّصُوصِ. فَأَوَّلُوا نُصُوصَ مَحَبَّةِ الْعِبَادِ لَهُ عَلَى مَحَبَّةِ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ. وَالِازْدِيَادِ مِنَ الْأَعْمَالِ لِيَنَالُوا بِهَا الثَّوَابَ. وَإِنْ أَطْلَقُوا عَلَيْهِمْ بِهَا لَفْظَ الْمَحَبَّةِ فَلِمَا يَنَالُونَ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، وَالثَّوَابُ الْمُنْفَصِلُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ. وَالرَّبُّ تَعَالَى مَحْبُوبٌ لِغَيْرِهِ حُبَّ الْوَسَائِلِ. وَأَوَّلُوا نُصُوصَ مَحَبَّتِهِ لَهُمْ بِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ. وَإِعْطَائِهِمُ الثَّوَابَ. وَرُبَّمَا أَوَّلُوهَا بِثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ وَمَدْحِهِ لَهُمْ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَرُبَّمَا أَوَّلُوهَا بِإِرَادَتِهِ لِذَلِكَ. فَتَارَةً يُؤَوِّلُونَهَا بِالْمَفْعُولِ الْمُنْفَصِلِ. وَتَارَةً يُؤَوِّلُونَهَا بِنَفْسِ الْإِرَادَةِ. وَيَقُولُونَ: الْإِرَادَةُ إِنْ تَعَلَّقَتْ بِتَخْصِيصِ الْعَبْدِ بِالْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ: سُمِّيَتْ

مَحَبَّةً، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعُقُوبَةِ وَالِانْتِقَامِ: سُمِّيَتْ غَضَبًا وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِعُمُومِ الْإِحْسَانِ وَالْإِنْعَامِ الْخَاصِّ: سُمِّيَتْ بِرًّا وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِإِيصَالِهِ فِي خَفَاءٍ، مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، وَلَا يَحْتَسِبُ: سُمِّيَتْ لُطْفًا وَهِيَ وَاحِدَةٌ. وَلَهَا أَسْمَاءٌ وَأَحْكَامٌ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقَاتِهَا. وَمَنْ جَعَلَ مَحَبَّتَهُ لِلْعَبْدِ ثَنَاءَهُ عَلَيْهِ وَمَدْحَهُ لَهُ: رَدَّهَا إِلَى صِفَةِ الْكَلَامِ. فَهِيَ عِنْدُهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، لَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَالْفِعْلُ عِنْدَهُ نَفْسُ الْمَفْعُولِ. فَلَمْ يَقُمْ بِذَاتِ الرَّبِّ مَحَبَّةٌ لِعَبْدِهِ، وَلَا لِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ أَلْبَتَّةَ. وَمَنْ رَدَّهَا إِلَى صِفَةِ الْإِرَادَةِ جَعَلَهَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْإِرَادَةِ، وَمِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا. وَلِمَّا رَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ إِرَادَةٌ، مَنْ رَأَى ذَلِكَ قَالَ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْمُحْدَثِ الْمَقْدُورِ، وَالْقَدِيمُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُرَادَ: أَنْكَرُوا مَحَبَّةَ الْعِبَادِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ لَهُ. وَقَالُوا: لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا إِرَادَةُ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَالتَّعْظِيمُ لَهُ، وَإِرَادَةُ عِبَادَتِهِ. فَأَنْكَرُوا خَاصَّةَ الْإِلَهِيَّةِ، وَخَاصَّةَ الْعُبُودِيَّةِ. وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا مِنْ مُوجِبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ. فَعِنْدَهُمْ لَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ وَالتَّنْزِيهُ إِلَّا بِجَحْدِ حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَجَحْدِ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ. وَجَمِيعُ طُرُقِ الْأَدِلَّةِ - عَقْلًا وَنَقْلًا وَفِطْرَةً، وَقِيَاسًا وَاعْتِبَارًا، وَذْوَقًا وَوَجْدًا - تَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَالرَّبِّ لِعَبْدِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا لِذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ طَرِيقٍ فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ فِي الْمَحَبَّةِ. وَذَكَرْنَا فِيهِ فَوَائِدَ الْمَحَبَّةِ، وَمَا تُثْمِرُ لِصَاحِبِهَا مِنَ الْكَمَالَاتِ، وَأَسْبَابَهَا وَمُوجِبَاتِهَا، وَالرَّدَّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهَا. وَبَيَانَ فَسَادِ قَوْلِهِ، وَأَنَّ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ قَدْ أَنْكَرُوا خَاصَّةَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالْغَايَةَ الَّتِي وُجِدُوا لِأَجْلِهَا. فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ، وَالثَّوَابَ، وَالْعِقَابَ: إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ الْمَحَبَّةِ وَلِأَجْلِهَا. وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي بِهِ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ. وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ. وَهِيَ سِرُّ التَّأْلِيهِ. وَتَوْحِيدُهَا: هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ الْمُنْكِرُونَ: أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ. فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّهُ لَا رَبَّ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ، وَبِأَنَّهُ وَحْدَهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالرُّبُوبِيَّةِ. وَلَمْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ بِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ. وَهُوَ الْمَحَبَّةُ وَالتَّعْظِيمُ، بَلْ كَانُوا يُؤَلِّهُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ. وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَصَاحِبُهُ مِمَّنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]

فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ مَنْ دُونِ اللَّهِ شَيْئًا، كَمَا يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى: فَهُوَ مِمَّنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا، فَهَذَا نِدٌّ فِي الْمَحَبَّةِ، لَا فِي الْخَلْقِ وَالرُّبُوبِيَّةِ. فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَمْ يُثْبِتْ هَذَا النِّدَّ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، بِخِلَافِ نِدِّ الْمَحَبَّةِ. فَإِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ قَدِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا فِي الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ. ثُمَّ قَالَ {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] وَفِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَنْدَادِ لِأَنْدَادِهِمْ وَآلِهَتِهِمُ الَّتِي يُحِبُّونَهَا، وَيُعَظِّمُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَنْدَادِ لِلَّهِ. فَإِنَّ مَحَبَّةَ الْمُؤْمِنِينَ خَالِصَةٌ، وَمَحَبَّةَ أَصْحَابِ الْأَنْدَادِ قَدْ ذَهَبَتْ أَنْدَادُهُمْ بِقِسْطٍ مِنْهَا. وَالْمَحَبَّةُ الْخَالِصَةُ: أَشَدُّ مِنَ الْمُشْتَرَكَةِ. وَالْقَوْلَانِ مُرَتَّبَانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] فَإِنَّ فِيهَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ. فَيَكُونُ قَدْ أَثْبَتَ لَهُمْ مَحَبَّةَ اللَّهِ. وَلَكِنَّهَا مَحَبَّةٌ يُشْرِكُونَ فِيهَا مَعَ اللَّهِ أَنْدَادًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى يُحِبُّونَ أَنْدَادَهُمْ كَمَا يُحِبُّ الْمُؤْمِنُونَ اللَّهَ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ أَشَدُّ مِنْ مَحَبَّةِ أَصْحَابِ الْأَنْدَادِ لِأَنْدَادِهِمْ. وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُرَجِّحُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا ذُمُّوا بِأَنْ أَشْرَكُوا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْدَادِهِمْ فِي الْمَحَبَّةِ. وَلَمْ يُخْلِصُوهَا لِلَّهِ كَمَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ. وَهَذِهِ التَّسْوِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ. وَهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ

لِآلِهَتِهِمْ وَأَنْدَادِهِمْ، وَهِيَ مُحْضَرَةٌ مَعَهُمْ فِي الْعَذَابِ {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ - إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يُسَوُّوهُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْخَلْقِ وَالرُّبُوبِيَّةِ. وَإِنَّمَا سَوَّوْهُمْ بِهِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ. . وَهَذَا أَيْضًا هُوَ الْعَدْلُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] أَيْ يَعْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ الْمَحَبَّةُ وَالتَّعْظِيمُ. وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. وَقِيلَ: الْبَاءُ. بِمَعْنَى " عَنْ " وَالْمَعْنَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَنْ رَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ. إِذْ لَا تَقُولُ الْعَرَبُ عَدَلْتُ بِكَذَا، أَيْ عَدَلْتُ عَنْهُ. وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا فِي فِعْلِ السُّؤَالِ. نَحْوَ: سَأَلْتُ بِكَذَا. أَيْ عَنْهُ. كَأَنَّهُمْ ضَمَّنُوهُ: اعْتَنَيْتُ بِهِ وَاهْتَمَمْتُ. وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وَهِيَ تُسَمَّى آيَةُ الْمَحَبَّةِ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: لَمَّا ادَّعَتِ الْقُلُوبُ مَحَبَّةَ اللَّهِ: أَنْزَلَ اللَّهُ لَهَا مِحْنَةً {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ادَّعَى قَوْمٌ مَحَبَّةَ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْمِحْنَةِ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] . وَقَالَ " {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] " إِشَارَةٌ إِلَى دَلِيلِ الْمَحَبَّةِ وَثَمَرَتِهَا، وَفَائِدَتِهَا. فَدَلِيلُهَا وَعَلَامَتُهَا: اتِّبَاعُ الرَّسُولِ. وَفَائِدَتُهَا وَثَمَرَتُهَا: مَحَبَّةُ الْمُرْسَلِ لَكُمْ. فَمَا لَمْ تَحْصُلِ الْمُتَابَعَةُ. فَلَيْسَتْ مَحَبَّتُكُمْ لَهُ حَاصِلَةً. وَمَحَبَّتُهُ لَكُمْ مُنْتَفِيَةً. وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54] فَقَدْ ذَكَرَ لَهُمْ أَرْبَعَ عَلَامَاتٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَذِلَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَرِقَّاءُ، رُحَمَاءُ مُشْفِقُونَ عَلَيْهِمْ. عَاطِفُونَ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا ضَمَّنَ أَذِلَّةً هَذَا الْمَعْنَى عَدَّاهُ بِأَدَاةِ " عَلَى ". قَالَ عَطَاءٌ: لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَالْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ. وَعَلَى الْكَافِرِينَ كَالْأَسَدِ عَلَى فَرِيسَتِهِ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .

الْعَلَامَةُ الثَّالِثَةُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالنَّفْسِ وَالْيَدِ، وَاللِّسَانِ وَالْمَالِ، وَذَلِكَ تَحْقِيقُ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ. الْعَلَامَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُمْ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. وَهَذَا عَلَامَةُ صِحَّةِ الْمَحَبَّةِ فَكُلُّ مُحِبٍّ يَأْخُذُهُ اللَّوْمُ عَنْ مَحْبُوبِهِ فَلَيْسَ بِمُحِبٍّ عَلَى الْحَقِيقَةِ. كَمَا قِيلَ: لَا كَانَ مَنْ لِسِوَاكَ فِيهِ بَقِيَّةٌ ... يَجِدُ السَّبِيلَ بِهَا إِلَيْهِ اللُّوَمُ. وَقَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57]- إِلَى قَوْلِهِ - {مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] فَذِكْرُ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثِ: الْحُبُّ. وَهُوَ ابْتِغَاءُ الْقُرْبِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَسُّلُ إِلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَالرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْتِغَاءَ الْوَسِيلَةِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى رَجَاءِ الرَّحْمَةِ وَخَوْفِ الْعَذَابِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ قَطْعًا: أَنَّكَ لَا تَتَنَافَسُ إِلَّا فِي قُرْبِ مَنْ تُحِبُّ قُرْبَهُ، وَحُبُّ قُرْبِهِ تَبَعٌ لِمَحَبَّةِ ذَاتِهِ. بَلْ مَحَبَّةُ ذَاتِهِ أَوْجَبَتْ مَحَبَّةَ الْقُرْبِ مِنْهُ. وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ: مَا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ شَيْءٌ. فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ لَا تَقْرَبُ ذَاتُهُ مِنْ شَيْءٍ، وَلَا يَقْرَبُ مِنْ ذَاتِهِ شَيْءٌ، وَلَا يُحِبُّ لِذَاتِهِ. وَلَا يُحَبُّ. فَأَنْكَرُوا حَيَاةَ الْقُلُوبِ، وَنَعِيمَ الْأَرْوَاحِ، وَبَهْجَةَ النُّفُوسِ، وَقُرَّةَ الْعُيُونِ، وَأَعْلَى نَعِيمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلِذَلِكَ ضُرِبَتْ قُلُوبُهُمْ بِالْقَسْوَةِ، وَضُرِبَتْ دُونَهُمْ وَدُونَ اللَّهِ حُجُبٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ. فَلَا يَعْرِفُونَهُ وَلَا يُحِبُّونَهُ. وَلَا يَذْكُرُونَهُ إِلَّا عِنْدَ تَعْطِيلِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَذِكْرُهُمْ أَعْظَمُ آثَامِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ. بَلْ يُعَاقِبُونَ مَنْ يَذْكُرُهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ. وَيَرْمُونَهُمْ بِالْأَدْوَاءِ الَّتِي هُمْ أَحَقُّ بِهَا وَأَهْلُهَا، وَحَسْبُ ذِي الْبَصِيرَةِ وَحَيَاةِ الْقَلْبِ: مَا يَرَى عَلَى كَلَامِهِمْ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْمَقْتِ، وَالتَّنْفِيرِ عَنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]

وَقَالَ أَحْبَابُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19] فَجَعَلَ غَايَةَ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرَّبِينَ وَالْمُحِبِّينَ: إِرَادَةَ وَجْهِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] فَجَعَلَ إِرَادَتَهُ غَيْرَ إِرَادَةِ الْآخِرَةِ. . وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ لِوَجْهِهِ مُوجِبَةٌ لِلَذَّةِ النَّظَرِ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنِ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو: اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ: أَحْيِنِي إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي. وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا. وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى. وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ. وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ. وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ. وَأَسْأَلُكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ. اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ. وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ» . فَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ عَلَى ثُبُوتِ لَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ، وَعَلَى ثُبُوتِ الشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ. وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ لَا وَجْهَ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَيْهِ، فَضْلًا أَنْ يَحْصُلَ بِهِ لَذَّةٌ. كَمَا سَمِعَ بَعْضُهُمْ دَاعِيًا يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ فَقَالَ: وَيْحَكَ! هَبْ أَنَّ لَهُ وَجْهًا، أَفَتَلْتَذُّ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ؟ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ مِنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ - بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ - كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ. وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ

أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ. وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ. فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا. وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا، فَأَحِبَّهُ. فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ. ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ. ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ» . وَذَكَرَ فِي الْبُغْضِ عَكْسَ ذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَدِيثِ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " لِأَصْحَابِهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ. فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ» . وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَأَهْلِي. وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ» . وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ. اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ، فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا فِيمَا تُحِبُّ» . وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِذِكْرِ مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَذِكْرِ مَا يُحِبُّهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ - وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 134]

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ - إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ - فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 222 - 76] . وَقَوْلِهِ فِي ضِدِّ ذَلِكَ {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ - وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ - وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ - إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 205 - 36] .

وَكَمْ فِي السُّنَّةِ " أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ كَذَا وَكَذَا "، وَ " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ كَذَا وَكَذَا " كَقَوْلِهِ «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَ «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ» وَ «أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ: مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ» وَقَوْلِهِ «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ» . وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَلِكَ. وَفَرَحُهُ الْعَظِيمُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ فَرَحٍ يَعْلَمُهُ الْعِبَادُ. وَهُوَ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِلتَّوْبَةِ وَلِلتَّائِبِ. فَلَوْ بَطَلَتْ مَسْأَلَةُ الْمَحَبَّةِ لَبَطَلَتْ جَمِيعُ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ. وَلَتَعَطَّلَتْ مَنَازِلُ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. فَإِنَّهَا رُوحُ كُلِّ مَقَامٍ وَمَنْزِلَةٍ وَعَمَلٍ. فَإِذَا خَلَا مِنْهَا فَهُوَ مَيِّتٌ لَا رُوحَ فِيهِ. وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْأَعْمَالِ كَنِسْبَةِ الْإِخْلَاصِ إِلَيْهَا. بَلْ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ، بَلْ هِيَ نَفْسُ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّهُ الِاسْتِسْلَامُ بِالذُّلِّ وَالْحُبِّ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ. فَمَنْ لَا مَحَبَّةَ لَهُ لَا إِسْلَامَ لَهُ أَلْبَتَّةَ. بَلْ هِيَ حَقِيقَةُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي يَأْلَهُهُ الْعِبَادُ ذُلًّا، وَخَوْفًا وَرَجَاءً، وَتَعْظِيمًا وَطَاعَةً لَهُ. بِمَعْنَى مَأْلُوهٍ. وَهُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ. أَيْ تُحِبُّهُ وَتَذِلُّ لَهُ.

وَأَصْلُ التَّأَلُّهِ التَّعَبُّدُ. وَالتَّعَبُّدُ آخِرُ مَرَاتِبِ الْحُبِّ. يُقَالُ: عَبَّدَهُ الْحُبُّ وَتَيَّمَهُ: إِذَا مَلَكَهُ وَذَلَّلَهُ لِمَحْبُوبِهِ. فَ " الْمَحَبَّةُ " حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ. وَهَلْ تُمْكِنُ الْإِنَابَةُ بِدُونِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا، وَالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ! ! وَهَلِ الصَّبْرُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا صَبْرَ الْمُحِبِّينَ! ! فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُتَوَكَّلُ عَلَى الْمَحْبُوبِ فِي حُصُولِ مَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ. وَكَذَلِكَ الزُّهْدُ فِي الْحَقِيقَةِ: هُوَ زُهْدُ الْمُحِبِّينَ. فَإِنَّهُمْ يَزْهَدُونَ فِي مَحَبَّةِ مَا سِوَى مَحْبُوبِهِمْ لِمَحَبَّتِهِ. وَكَذَلِكَ الْحَيَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ: إِنَّمَا هُوَ حَيَاءُ الْمُحِبِّينَ. فَإِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ. وَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ عَنْ مَحَبَّةٍ: فَذَلِكَ خَوْفٌ مَحْضٌ. وَكَذَلِكَ مَقَامُ الْفَقْرِ فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ فَقْرُ الْأَرْوَاحِ إِلَى مَحْبُوبِهَا. وَهُوَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْفَقْرِ. فَإِنَّهُ لَا فَقْرَ أَتَمُّ مِنْ فَقْرِ الْقَلْبِ إِلَى مَنْ يُحِبُّهُ. لَا سِيَّمَا إِذَا وَحَّدَهُ فِي الْحُبِّ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ عِوَضًا سِوَاهُ. هَذَا حَقِيقَةُ الْفَقْرِ عِنْدَ الْعَارِفِينَ. وَكَذَلِكَ الْغِنَى هُوَ غِنَى الْقَلْبِ بِحُصُولِ مَحْبُوبِهِ. وَكَذَلِكَ الشَّوْقُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلِقَائِهِ. فَإِنَّهُ لُبُّ الْمَحَبَّةِ وَسِرُّهَا. كَمَا سَيَأْتِي. فَمُنْكِرُ الْمَحَبَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمُعَطِّلُهَا مِنَ الْقُلُوبِ: مُعَطِّلٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ. وَحِجَابُهُ أَكْثَفُ الْحُجُبِ. وَقَلْبُهُ أَقْسَى الْقُلُوبِ، وَأَبْعَدُهَا عَنِ اللَّهِ. وَهُوَ مُنْكِرٌ لِخُلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنَّ الْخُلَّةَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ. وَهُوَ يَتَأَوَّلُ الْخَلِيلَ بِالْمُحْتَاجِ. فَخَلِيلُ اللَّهِ عِنْدَهُ: هُوَ الْمُحْتَاجُ. فَكَمْ - عَلَى قَوْلِهِ - لِلَّهِ مِنْ خَلِيلٍ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، بَلْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ. إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ مَنْ يُنْزِلُ حَوَائِجَهُ كُلَّهَا بِاللَّهِ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا. وَيَرَى نَفْسَهُ أَحْوَجَ شَيْءٍ إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ. فَلَا بِالْخُلَّةِ أَقَرَّ الْمُنْكِرُونَ، وَلَا بِالْعُبُودِيَّةِ، وَلَا بِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا بِحَقَائِقِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ. وَلِهَذَا ضَحَّى خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِمُقَدَّمِ هَؤُلَاءِ وَشَيْخِهِمْ جَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ فِي يَوْمِ عِيدِ اللَّهِ الْأَكْبَرِ، عَقِيبَ خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، ضَحُّوا. تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ. فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ. فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ، فَشَكَرَ الْمُسْلِمُونَ سَعْيَهُ. وَرَحِمَهُ اللَّهُ وَتَقَبَّلَ مِنْهُ.

فصل في مراتب المحبة

[فَصْلٌ فِي مَرَاتِبِ الْمَحَبَّةِ] أَوَّلُهَا: الْعَلَاقَةُ، وَسُمِّيَتْ عَلَاقَةً لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَعَلَاقَةً أُمَّ الْوَلِيدِ بُعَيْدَ مَا ... أَفْنَانُ رَأْسِكِ كَالثَّغَامِ الْمُخْلِسِ. الثَّانِيَةُ: الْإِرَادَةُ، وَهِيَ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى مَحْبُوبِهِ وَطَلَبُهُ لَهُ. الثَّالِثَةُ: الصَّبَابَةُ، وَهِيَ انْصِبَابُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ. بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُهُ صَاحِبُهُ. كَانْصِبَابِ الْمَاءِ فِي الْحُدُورِ. فَاسْمُ الصِّفَةِ مِنْهَا صَبٌّ وَالْفِعْلُ صَبَا إِلَيْهِ يَصْبُو صَبًا، وَصَبَابَةً، فَعَاقَبُوا بَيْنَ الْمُضَاعَفِ وَالْمُعْتَلِّ، وَجَعَلُوا الْفِعْلَ مِنَ الْمُعْتَلِّ وَالصِّفَةَ مِنَ الْمُضَاعَفِ. وَيُقَالُ: صَبَا وَصَبْوَةً، وَصَبَابَةً. فَالصَّبَا: أَصْلُ الْمَيْلِ. وَالصَّبْوَةُ: فَوْقَهُ، وَالصَّبَابَةُ: الْمَيْلُ اللَّازِمُ. وَانْصِبَابُ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ. الرَّابِعَةُ: الْغَرَامُ وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ، الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ. بَلْ يُلَازِمُهُ كَمُلَازَمَةِ الْغَرِيمِ لِغَرِيمِهِ. وَمِنْهُ سُمِّيَ عَذَابُ النَّارِ غَرَامًا لِلُزُومِهِ لِأَهْلِهِ. وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهِ لَهُمْ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] . الْخَامِسَةُ: الْوِدَادُ وَهُوَ صَفْوُ الْمَحَبَّةِ، مَرَاتِبُهَا عَشَرَةٌ وَخَالِصُهَا وَلُبُّهَا، وَالْوَدُودُ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى. وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمَوْدُودُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: الْوَدُودُ الْحَبِيبُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْوَادُّ لِعِبَادِهِ. أَيِ الْمُحِبُّ لَهُمْ. وَقَرَنَهُ بِاسْمِهِ الْغَفُورِ إِعْلَامًا بِأَنَّهُ

يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيُحِبُّ التَّائِبَ مِنْهُ، وَيَوَدُّهُ. فَحَظُّ التَّائِبِ: نَيْلُ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ " الْوَدُودُ " فِي مَعْنًى يَكُونُ سِرُّ الِاقْتِرَانِ. أَيِ اقْتِرَانُ " الْوَدُودِ بِالْغَفُورِ " اسْتِدْعَاءَ مَوَدَّةِ الْعِبَادِ لَهُ، وَمَحَبَّتِهِمْ إِيَّاهُ بِاسْمِ الْغَفُورِ. السَّادِسَةُ: الشَّغَفُ يُقَالُ: شُغِفَ بِكَذَا. فَهُوَ مَشْغُوفٌ بِهِ. وَقَدْ شَغَفَهُ الْمَحْبُوبُ. أَيْ وَصَلَ حُبُّهُ إِلَى شَغَافِ قَلْبِهِ. كَمَا قَالَ النِّسْوَةُ عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف: 30] وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْحُبُّ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْقَلْبِ، بِحَيْثُ يَحْجُبُهُ عَنْ غَيْرِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: حَجَبَ حُبُّهُ قَلْبَهَا حَتَّى لَا تَعْقِلَ سِوَاهُ. الثَّانِي: الْحُبُّ الْوَاصِلُ إِلَى دَاخِلِ الْقَلْبِ. قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ: الْمَعْنَى أَحَبَّتْهُ حَتَّى دَخَلَ حُبُّهُ شَغَافَ قَلْبِهَا، أَيْ دَاخِلَهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْحُبُّ الْوَاصِلُ إِلَى غِشَاءِ الْقَلْبِ. وَالشَّغَافُ غِشَاءُ الْقَلْبِ إِذَا وَصَلَ الْحُبُّ إِلَيْهِ بَاشَرَ الْقَلْبَ. قَالَ السُّدِّيُّ: الشَّغَافُ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ عَلَى الْقَلْبِ. يَقُولُ: دَخَلَهُ الْحُبُّ حَتَّى أَصَابَ الْقَلْبَ. وَقَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ " شَعَفَهَا " بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. وَمَعْنَاهُ: ذَهَبَ الْحُبُّ بِهَا كُلَّ مَذْهَبٍ. وَبَلَغَ بِهَا أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، وَمِنْهُ: شَعَفُ الْجِبَالِ، لِرُءُوسِهَا. السَّابِعَةُ: الْعِشْقُ وَهُوَ الْحُبُّ الْمُفْرِطُ الَّذِي يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْهُ. وَعَلَيْهِ تَأَوَّلَ إِبْرَاهِيمُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ الْعِشْقُ.

وَرُفِعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - شَابٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ يَعْرِفُهُ - قَدْ صَارَ كَالْخَلَالِ. فَقَالَ: مَا بِهِ؟ قَالُوا: الْعِشْقُ. فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَامَّةَ دُعَائِهِ بِعَرَفَةَ: الِاسْتِعَاذَةَ مِنَ الْعِشْقِ. وَفِي اشْتِقَاقِهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْعَشَقَةِ - مُحَرَّكَةً - وَهِيَ نَبْتٌ أَصْفَرُ يَلْتَوِي عَلَى الشَّجَرِ، فَشُبِّهَ بِهِ الْعَاشِقُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْإِفْرَاطِ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: فَلَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَا الْعَبْدُ فِي مَحَبَّةِ رَبِّهِ. وَإِنْ أَطْلَقَهُ سَكْرَانُ مِنَ الْمَحَبَّةِ قَدْ أَفْنَاهُ الْحُبُّ عَنْ تَمْيِيزِهِ. كَانَ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِ وَمَحَبَّتِهِ. الثَّامِنَةُ: التَّتَيُّمُ وَهُوَ التَّعَبُّدُ، وَالتَّذَلُّلُ. يُقَالُ: تَيَّمَهُ الْحُبُّ أَيْ ذَلَّلَهُ وَعَبَّدَهُ. وَتَيْمُ اللَّهُ: عَبْدُ اللَّهِ. وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيُتْمِ - الَّذِي هُوَ الِانْفِرَادُ - تَلَاقٍ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَوْسَطِ، وَتَنَاسُبٌ فِي الْمَعْنَى. فَإِنَّ الْمُتَيَّمَ الْمُنْفَرِدُ بِحُبِّهِ وَشَجْوِهِ. كَانْفِرَادِ الْيَتِيمِ بِنَفْسِهِ عَنْ أَبِيهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَكْسُورٌ ذَلِيلٌ. هَذَا كَسَرَهُ يُتْمٌ. وَهَذَا كَسَرَهُ تَتَيُّمٌ. التَّاسِعَةُ: التَّعَبُّدُ وَهُوَ فَوْقَ التَّتَيُّمِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي قَدْ مَلَكَ الْمَحْبُوبُ رِقَّهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ نَفْسِهِ أَلْبَتَّةَ. بَلْ كُلُّهُ عَبَدٌ لِمَحْبُوبِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ. وَمَنْ كَمَّلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَمَّلَ مَرْتَبَتَهَا. وَلَمَّا كَمَّلَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ: وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ. مَقَامِ الْإِسْرَاءِ، كَقَوْلِهِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وَمَقَامِ الدَّعْوَةِ. كَقَوْلِهِ {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] وَمَقَامِ التَّحَدِّي كَقَوْلِهِ {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] وَبِذَلِكَ اسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ عَلَى الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَكَذَلِكَ يَقُولُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُمْ، إِذَا طَلَبُوا مِنْهُ الشَّفَاعَةَ - بَعْدَ

الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، عَبْدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ". سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَقُولُ: فَحَصَلَتْ لَهُ تِلْكَ الْمَرْتَبَةُ. بِتَكْمِيلِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَمَالِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ. وَحَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ: الْحُبُّ التَّامُّ، مَعَ الذُّلِّ التَّامِّ وَالْخُضُوعِ لِلْمَحْبُوبِ. تَقُولُ الْعَرَبُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ أَيْ قَدْ ذَلَّلَتْهُ الْأَقْدَامُ وَسَهَّلَتْهُ. الْعَاشِرَةُ: مَرْتَبَةُ الْخُلَّةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْخَلِيلَانِ - إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - كَمَا صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا» . وَقَالَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا. وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ» . وَالْحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحِ. وَهُمَا يُبْطِلَانِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْخُلَّةُ

لِإِبْرَاهِيمَ. وَالْمَحَبَّةُ لِمُحَمَّدٍ، فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُهُ وَمُحَمَّدٌ حَبِيبُهُ. وَالْخُلَّةُ هِيَ الْمَحَبَّةُ الَّتِي تَخَلَّلَتْ رُوحَ الْمُحِبِّ وَقَلْبَهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِ الْمَحْبُوبِ، كَمَا قِيلَ: قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَلِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلَا. وَهَذَا هُوَ السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أُمِرَ الْخَلِيلُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَثَمَرَةِ فُؤَادِهِ وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ. لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ الْوَلَدَ فَأُعْطِيَهُ، تَعَلَّقَتْ بِهِ شُعْبَةٌ مِنْ قَلْبِهِ. وَالْخُلَّةُ مَنْصِبٌ لَا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ وَالْقِسْمَةَ. فَغَارَ الْخَلِيلُ عَلَى خَلِيلِهِ: أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِهِ. فَأَمَرَهُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ. لِيُخْرِجَ الْمُزَاحِمَ مِنْ قَلْبِهِ. فَلَمَّا وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ عَزْمًا جَازِمًا: حَصَلَ مَقْصُودُ الْأَمْرِ. فَلَمْ يَبْقَ فِي إِزْهَاقِ نَفْسِ الْوَلَدِ مَصْلَحَةٌ. فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَفَدَاهُ بِالذِّبْحِ الْعَظِيمِ. وَقِيلَ لَهُ: {يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104] أَيْ عَمِلْتَ عَمَلَ الْمُصَدِّقِ {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 80] نَجْزِي مَنْ بَادَرَ إِلَى طَاعَتِنَا، فَنُقِرُّ عَيْنَهُ كَمَا أَقْرَرْنَا عَيْنَكَ بِامْتِثَالِ أَوَامِرَنَا، وَإِبْقَاءِ الْوَلَدِ وَسَلَامَتِهِ {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] وَهُوَ اخْتِبَارُ الْمَحْبُوبِ لِمُحِبِّهِ، وَامْتِحَانُهُ إِيَّاهُ لِيُؤْثِرَ مَرْضَاتَهُ. فَيُتِمَّ عَلَيْهِ نِعَمَهُ، فَهُوَ بَلَاءُ مِحْنَةٍ وَمِنْحَةٍ عَلَيْهِ مَعًا. وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ إِنَّمَا دَعَا إِلَيْهَا بِهَا خَوَاصُّ خَلْقِهِ، وَأَهْلُ الْأَلْبَابِ وَالْبَصَائِرِ مِنْهُمْ. فَمَا كَلُّ أَحَدٍ يُجِيبُ دَاعِيهَا. وَلَا كُلُّ عَيْنٍ قَرِيرَةً بِهَا. وَأَهْلُهَا هُمُ الَّذِينَ حَصَلُوا فِي وَسَطِ قَبْضَةِ الْيَمِينِ يَوْمَ الْقَبْضَتَيْنِ. وَسَائِرُ أَهْلِ الْيَمِينِ فِي أَطْرَافِهَا. فَمَا كَلُّ عَيْنٍ بِالْحَبِيبِ قَرِيرَةً ... وَلَا كُلُّ مَنْ نُودِيَ يُجِيبُ الْمُنَادِيَا وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ هُدَاكَ فَخَلِّهِ ... يُجِبْ كُلَّ مَنْ أَضْحَى إِلَى الْغَيِّ دَاعِيَا وَقُلْ لِلْعُيُونِ الرُّمَّدِ: إِيَّاكِ أَنْ تَرَيْ ... سَنَا الشَّمْسِ فَاسْتَغْشَيْ ظَلَامَ اللَّيَالِيَا وَسَامِحْ نُفُوسًا لَمْ يَهَبْهَا لِحِبِّهِمْ ... وَدَعْهَا وَمَا اخْتَارَتْ وَلَا تَكُ جَافِيَا

فصل المحبة تعلق القلب بين الهمة والأنس

وَقُلْ لِلَّذِي قَدْ غَابَ يَكْفِي عُقُوبَةُ مَغِيبِكَ عَنْ ذَا الشَّأْنِ لَوْ كُنْتَ وَاعِيَا ... وَوَاللَّهِ لَوْ أَضْحَى نَصِيبُكَ وَافِرًا رَحِمْتَ عَدُوًّا حَاسِدًا لَكَ قَالِيَا ... أَلَمْ تَرَ آثَارَ الْقَطِيعَةِ قَدْ بَدَتْ عَلَى حَالِهِ فَارْحَمْهُ إِنْ كُنْتَ رَاثِيَا ... خَفَافِيشُ أَعْشَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ وَلَاءَمَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ بَادِيَا ... فَجَالَتْ وَصَالَتْ فِيهِ حَتَّى إِذَا النَّ هَارُ بَدَا اسْتَخْفَتْ وَأَعْطَتْ تَوَارِيَا ... فَيَا مِحْنَةَ الْحَسْنَاءِ تُهْدَى إِلَى امْرِئٍ ضَرِيرٍ وَعِنِّينٍ مِنَ الْوَجْدِ خَالِيَا ... إِذَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ انْجَلَتْ بِضِيَائِهَا يَعُودُ لِعَيْنَيْهِ ظَلَامًا كَمَا هِيَا ... فَضِنَّ بِهَا إِنْ كُنْتَ تَعْرِفُ قَدْرَهَا إِلَى أَنْ تَرَى كُفْؤًا أَتَاكَ مُوَافِيَا ... فَمَا مَهْرُهَا شَيْءٌ سِوَى الرُّوحِ أَيُّهَا الْ جَبَانُ تَأَخَّرْ لَسْتَ كُفْؤًا مُسَاوِيَا ... فَكُنْ أَبَدًا حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ رَكَائِبُ الْ مَحَبَّةِ فِي ظَهْرِ الْعَزَائِمِ سَارِيَا ... وَأَدْلِجْ وَلَا تَخْشَ الظَّلَامَ فَإِنَّهُ سَيَكْفِيكَ وَجْهُ الْحُبِّ فِي اللَّيْلِ هَادِيَا ... وَسُقْهَا بِذِكْرَاهُ مَطَايَاكَ إِنَّهُ سَيَكْفِي الْمَطَايَا طِيبُ ذِكْرَاهُ حَادِيَا ... وَعِدْهَا بِرُوحِ الْوَصْلِ تُعْطِيكَ سَيْرَهَا فَمَا شِئْتَ وَاسْتَبْقِ الْعِظَامَ الْبَوَالِيَا ... وَأَقْدِمْ فَإِمَّا مُنْيَةٌ أَوْ مَنِيَّةٌ تُرِيحُكَ مِنْ عَيْشٍ بِهِ لَسْتَ رَاضِيَا ... فَمَا ثَمَّ إِلَّا الْوَصْلُ أَوْ كَلَفٌ بِهِمْ وَحَسْبُكَ فَوْزًا ذَاكَ إِنْ كُنْتَ وَاعِيَا ... أَمَا سَئِمَتْ مِنْ عَيْشِهَا نَفْسُ وَالِهٍ تَبِيتُ بِنَارِ الْبُعْدِ تَلْقَى الْمَكَاوِيَا ... أَمَا مَوْتُهُ فِيهِمْ حَيَاةٌ؟ وَذُلُّهُ هُوَ الْعِزُّ وَالتَّوْفِيقُ مَا زَالَ غَالِيَا ... أَمَا يَسْتَحِي مَنْ يَدَّعِي الْحُبَّ بَاخِلًا بِمَا لِحَبِيبٍ عَنْهُ يَدْعُوهُ ذَا لِيَا ... أَمَا تِلْكَ دَعْوَى كَاذِبٍ لَيْسَ حَظُّهُ مِنَ الْحُبِّ إِلَّا قَوْلَهُ وَالْأَمَانِيَا ... أَمَّا أَنْفُسُ الْعُشَّاقِ مِلْكٌ لِغَيْرِهِمْ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحُبِّ مَا زَالَ فَاشِيَا ... أَمَا سَمِعَ الْعُشَّاقُ قَوْلَ حَبِيبَةٍ لِصَبٍّ بِهَا وَافَى مِنَ الْحُبِّ شَاكِيَا ... وَلَمَّا شَكَوْتُ الْحُبَّ قَالَتْ. كَذَبْتَنِي فَمَا لِي أَرَى الْأَعْضَاءَ مِنْكَ كَوَاسِيَا ... فَلَا حُبَّ حَتَّى يَلْصَقَ الْقَلْبُ بِالْحَشَا وَتَخْرَسَ حَتَّى لَا تُجِيبَ الْمُنَادِيَا ... وَتَنْحَلُّ حَتَّى لَا يُبْقِي لَكَ الْهَوَى سِوَى مُقْلَةٍ تَبْكِي بِهَا وَتُنَاجِيَا [فَصْلٌ الْمَحَبَّةُ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمَحَبَّةُ: تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ.

فصل المحبة أول أودية الفناء

يَعْنِي: تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ تَعَلُّقًا مُقْتَرِنًا بِهِمَّةِ الْمُحِبِّ، وَأُنْسِهِ بِالْمَحْبُوبِ، فِي حَالَتَيْ بَذْلِهِ وَمَنْعِهِ، وَإِفْرَادِهِ بِذَلِكَ التَّعَلُّقِ. بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ فِيهِ نَصِيبٌ. وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ لَمَّا كَانَتْ هِيَ نِهَايَةُ شِدَّةِ الطَّلَبِ، وَكَانَ الْمُحِبُّ شَدِيدَ الرَّغْبَةِ وَالطَّلَبِ: كَانَتِ الْهِمَّةُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ حُبِّهِ، وَجُمْلَةِ صِفَاتِهِ. وَلَمَّا كَانَ الطَّلَبُ بِالْهِمَّةِ قَدْ يَعْرَى عَنِ الْأُنْسِ، وَكَانَ الْمُحِبُّ لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَأْنِسًا بِجَمَالِ مَحْبُوبِهِ، وَطَمَعِهِ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ. فَمِنْ هَذَيْنِ يَتَوَلَّدُ الْأُنْسُ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُحِبُّ مَوْصُوفًا بِالْأُنْسِ. فَصَارَتِ الْمَحَبَّةُ قَائِمَةً بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ. وَيُرِيدُ بِالْبَذْلِ وَالْمَنْعِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بَذْلُ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ لِمَحْبُوبِهِ، وَمَنْعُهَا عَنْ غَيْرِهِ. فَيَكُونُ الْبَذْلُ وَالْمَنْعُ صِفَةَ الْمُحِبِّ، وَإِمَّا بَذْلُ الْحَبِيبِ وَمَنْعُهُ. فَتَتَعَلَّقُ هِمَّةُ الْمُحِبِّ بِهِ فِي حَالَتَيْ بَذْلِهِ وَمَنْعِهِ. وَيُرِيدُ بِالْإِفْرَادِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا إِفْرَادُ الْمَحْبُوبِ وَتَوْحِيدُهُ بِذَلِكَ التَّعَلُّقِ. وَإِمَّا فَنَاءُهُ فِي مَحَبَّتِهِ، بِحَيْثُ يَنْسَى نَفْسَهُ وَصِفَاتِهِ فِي ذِكْرِ مَحَاسِنِ مَحْبُوبِهِ، حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا الْمَحْبُوبُ وَحْدَهُ. وَالْمَقْصُودُ: إِفْرَادُ الْمُحِبِّ لِمَحْبُوبِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْمَحَبَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْمَحَبَّةُ أَوَّلُ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ] فَصْلٌ قَالَ: وَالْمَحَبَّةُ: أَوَّلُ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ، وَالْعَقَبَةُ الَّتِي يَنْحَدِرُ مِنْهَا عَلَى مَنَازِلِ الْمَحْوِ. وَهِيَ آخِرُ مَنْزِلٍ تَلْتَقِي فِيهِ مُقَدِّمَةُ الْعَامَّةِ، وَسَاقَةُ الْخَاصَّةِ. إِنَّمَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ أَوَّلَ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ: لِأَنَّهَا تُفْنِي خَوَاطِرَ الْمُحِبِّ عَنِ التَّعَلُّقِ بِالْغَيْرِ. وَأَوَّلُ مَا يَفْنَى مِنَ الْمُحِبِّ: خَوَاطِرُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَا سِوَى مَحْبُوبِهِ. لِأَنَّهُ إِذَا انْجَذَبَ قَلْبُهُ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى مَحْبُوبِهِ انْجَذَبَتْ خَوَاطِرُهُ تَبَعًا. وَيُرِيدُ بِمَنَازِلِ الْمَحْوِ مَقَامَاتِهِ. وَأَوَّلُهَا: مَحْوُ الْأَفْعَالِ فِي فِعْلِ الْحَقِّ تَعَالَى. فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ فِعْلًا. وَالثَّانِي: مَحْوُ الصِّفَاتِ الَّتِي فِي الْعَبْدِ. فَيَرَاهَا عَارِيَةً أُعِيرَهَا، وَهِبَةً وُهِبَهَا. لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى بَارِئِهِ وَفَاطِرِهِ، وَعَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ. فَيَعْلَمُ بِوَاسِطَةِ حَيَاتِهِ: مَعْنَى حَيَاةِ رَبِّهِ، وَبِوَاسِطَةِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَكَلَامِهِ وَغَضَبِهِ وَرِضَاهُ:

مَعْنَى عِلْمِ رَبِّهِ، وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَكَلَامِهِ، وَغَضَبِهِ وَرِضَاهُ. وَلَوْلَا هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهِ لِمَا عَرَفَهَا مِنْ رَبِّهِ. وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْأَثَرِ الْإِسْرَائِيلِيِّ: اعْرِفْ نَفْسَكَ تَعْرِفْ رَبَّكَ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ فِي الْحَقِيقَةِ: أَثَرُ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ فِيهِ. فَإِنَّهَا أَثَرُ أَفْعَالِ الْحَقِّ، وَأَفْعَالُهُ مُوجِبُ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ. فَإِذَنْ عَادَ الْأَمْرُ كُلُّهُ إِلَى أَفْعَالِهِ، وَعَادَتْ أَفْعَالُهُ إِلَى صِفَاتِهِ. فَفِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ يَمْحُو الْعَبْدُ شُهُودَ صِفَاتِهِ وَوُجُودَهَا الَّذِي لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ. وَيُثْبِتُ شُهُودَ صِفَاتِ الْمَعْبُودِ وَوُجُودَهَا الْحَقِيقِيِّ. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنَحَ عَبْدَهُ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِيَعْرِفَهُ بِهَا. وَيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَيْهِ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا عَطَّلَ عَلَيْهِ طَرِيقَ الْمَعْرِفَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا. فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ. وَلِهَذَا يُوصَفُ الْغَافِلُ عَنِ اللَّهِ بِالصَّمِّ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى وَالْمَوْتِ، وَعَدَمِ الْعَقْلِ. الثَّالِثُ: مَحْوُ الذَّاتِ. وَهُوَ شُهُودُ تَفَرُّدِ الْحَقِّ تَعَالَى بِالْوُجُودِ أَزَلًا وَأَبَدًا. وَأَنَّهُ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَالْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ. وَوُجُودُ كُلِّ مَا سِوَاهُ قَائِمٌ بِهِ وَأَثَرُ صُنْعِهِ. فَوُجُودُهُ هُوَ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ الْحَقُّ، الثَّابِتُ لِنَفْسِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا. وَأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِذَلِكَ. وَهَذَا الْمَحْوُ يَصِحُّ بِاعْتَبَارَيْنِ. أَحَدُهُمَا: بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ الذَّاتِيِّ. وَلَا رَيْبَ فِي إِثْبَاتِ مَحْوِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. إِذْ لَيْسَ مَعَ اللَّهِ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ سِوَاهُ. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَمَوْجُودٌ بِإِيجَادِهِ سُبْحَانَهُ. الِاعْتِبَارُ الثَّانِي: الْمَحْوُ فِي الْمَشْهَدِ. فَلَا يَشْهَدُ فَاعِلًا غَيْرَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَلَا صِفَاتِ غَيْرَ صِفَاتِهِ، وَلَا مَوْجُودَ سِوَاهُ، لِغَيْبَتِهِ بِكَمَالِ شُهُودِهِ عَنْ شُهُودِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا مَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُودِ جُمْلَةً: فَهُوَ مَحْوُ الزَّنَادِقَةِ وَطَائِفَةِ الِاتِّحَادِيَّةِ. وَصَاحِبُ الْمَنَازِلِ وَكُلُّ وَلِيٍّ لِلَّهِ بَرِيءٌ مِنْهُمْ حَالًا وَعَقِيدَةً. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مِنْ عَقَبَةِ الْمَحَبَّةِ يَنْحَدِرُ الْمُحِبُّ عَلَى مَنَازِلِ الْمَحْوِ. وَلَمَّا كَانَتْ مَنَازِلُ الْمَحْوِ وَالْفَنَاءِ غَايَةً عِنْدَ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ جَعَلَ الْمَحَبَّةَ عَقَبَةً يَنْحَدِرُ مِنْهَا إِلَيْهَا. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْمَحَبَّةَ غَايَةً: فَمَنَازِلُ الْمَحْوِ عِنْدَهُ أَوْدِيَةٌ يَصْعَدُ مِنْهَا إِلَى رُوحِ الْمَحَبَّةِ. وَلَيْسَ بَعْدَ الْمَحَبَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا مَنَازِلُ الْبَقَاءِ. وَأَمَّا الْفَنَاءُ وَالْمَحْوُ: فَعَقَبَاتٌ وَأَوْدِيَةٌ فِي طَرِيقِهَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل ما دون المحبة من المقامات

قَوْلُهُ: وَهِيَ آخِرُ مَنْزِلَةٍ تَلْتَقِي فِيهَا مُقَدِّمَةُ الْعَامَّةِ وَسَاقَةُ الْخَاصَّةِ. هَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَهُوَ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ يُنْحَدَرُ مِنْهَا عَلَى أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ. فَهِيَ أَوَّلُ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ. فَمُقَدَّمَةُ الْعَامَّةِ: هُمْ فِي آخِرِ مَقَامِ الْمَحَبَّةِ، وَسَاقَةُ الْخَاصَّةِ: فِي أَوَّلِ مَنْزِلِ الْفَنَاءِ. وَمَنْزِلَةُ الْفَنَاءِ مُتَّصِلَةٌ بِآخِرِ مَنْزِلَةِ الْمَحَبَّةِ. فَتَلْتَقِي حِينَئِذٍ مُقَدِّمَةُ الْعَامَّةِ بِسَاقَةِ الْخَاصَّةِ، هَذَا شَرْحُ كَلَامِهِ. وَعِنْدَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى: الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. وَهُوَ أَنَّ مُقَدِّمَةَ أَرْبَابِ الْفَنَاءِ يَلْتَقُونَ بِسَاقَةِ أَوْ بَابِ الْمَحَبَّةِ. فَإِنَّهُمْ أَمَامَهُمْ فِي السَّيْرِ. وَهُمْ أَمَامَ الرَّكْبِ دَائِمًا. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَقَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ أَعْلَى شَأْنًا مِنْ أَهْلِ الْفَنَاءِ. وَهُوَ الصَّوَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَا دُونَ الْمَحَبَّةِ مِنَ الْمَقَامَاتِ] فَصْلٌ قَالَ: وَمَا دُونَهَا: أَغْرَاضٌ لِأَعْوَاضٍ. يَعْنِي مَا دُونَ الْمَحَبَّةِ مِنَ الْمَقَامَاتِ: فَهِيَ أَغْرَاضٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لِأَجْلِ أَعْوَاضٍ يَنَالُونَهَا، وَأَمَّا الْمُحِبُّونَ: فَإِنَّهُمْ عَبِيدٌ. وَالْعَبْدُ وَنَفْسُهُ وَعَمَلُهُ وَمَنَافِعُهُ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ، فَكَيْفَ يُعَاوِضُهُ عَلَى مِلْكِهِ؟ وَالْأَجِيرُ عِنْدَ أَخْذِ الْأُجْرَةِ يَنْصَرِفُ. وَالْعَبْدُ فِي الْبَابِ لَا يَنْصَرِفُ. فَلَا عُبُودِيَّةَ إِلَّا عُبُودِيَّةُ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ. أُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ. [فَصْلٌ الْمَحَبَّةُ هِيَ سِمَةُ الطَّائِفَةِ وَعُنْوَانُ الطَّرِيقَةِ] فَصْلٌ قَالَ: وَالْمَحَبَّةُ هِيَ سِمَةُ الطَّائِفَةِ، وَعُنْوَانُ الطَّرِيقَةِ، وَمَعْقِدُ النِّسْبَةِ. يَعْنِي: سِمَةُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْمُسَافِرِينَ إِلَى رَبِّهِمْ، الَّذِينَ رَكِبُوا جَنَاحَ السَّفَرِ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَمْ يُفَارِقُوهُ إِلَى حِينِ اللِّقَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَعَدُوا عَلَى الْحَقَائِقِ. وَقَعَدَ مَنْ سِوَاهُمْ عَلَى الرُّسُومِ. وَعُنْوَانُ طَرِيقَتِهِمْ أَيْ دَلِيلُهَا. فَإِنَّ الْعُنْوَانَ يَدُلُّ عَلَى الْكِتَابِ، وَالْمَحَبَّةُ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الطَّالِبِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ. وَمَعْقِدُ النِّسْبَةِ أَيِ النِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَ الْعَبْدِ. فَإِنَّهُ لَا نِسْبَةَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ إِلَّا مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ مِنَ الْعَبْدِ وَالرُّبُوبِيَّةِ مِنَ الرَّبِّ. وَلَيْسَ فِي الْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْ

فصل درجات المحبة

الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَا فِي الرَّبِّ شَيْءٌ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ. فَالْعَبْدُ عَبْدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَالرَّبُّ تَعَالَى هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَمَعْقِدُ نِسْبَةِ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ الْمَحَبَّةُ. فَالْعُبُودِيَّةُ مَعْقُودَةٌ بِهَا، بِحَيْثُ مَتَى انْحَلَّتِ الْمَحَبَّةُ انْحَلَّتِ الْعُبُودِيَّةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْمَحَبَّةِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى مَحَبَّةٌ تَقْطَعُ الْوَسَاوِسَ] فَصْلٌ قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مَحَبَّةٌ تَقْطَعُ الْوَسَاوِسَ، وَتُلِذُّ الْخِدْمَةَ. وَتُسَلِّي عَنِ الْمَصَائِبِ. قَوْلُهُ " تَقْطَعُ الْوَسَاوِسَ " فَإِنَّ الْوَسَاوِسَ وَالْمَحَبَّةَ مُتَنَاقِضَانِ. فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ تُوجِبُ اسْتِيلَاءَ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ عَلَى الْقَلْبِ. وَالْوَسَاوِسُ تَقْتَضِي غَيْبَتَهُ عَنْهُ، حَتَّى تُوَسْوِسَ لَهُ نَفْسُهُ بِغَيْرِهِ. فَبَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْوَسَاوِسِ تَنَاقُضٌ شَدِيدٌ، كَمَا بَيْنَ الذِّكْرِ وَالْغَفْلَةِ. فَعَزِيمَةُ الْمَحَبَّةِ: تَنْفِي تَرَدُّدَ الْقَلْبِ بَيْنَ الْمَحْبُوبِ وَغَيْرِهِ. وَذَلِكَ سَبَبُ الْوَسَاوِسِ، وَهَيْهَاتَ أَنْ يَجِدَ الْمُحِبُّ الصَّادِقُ فَرَاغًا لِوَسْوَاسِ الْغَيْرِ، لِاسْتِغْرَاقِ قَلْبِهِ فِي حُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيْ مَحْبُوبِهِ. وَهَلِ الْوَسْوَاسُ إِلَّا لِأَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَمِنْ أَيْنَ يَجْتَمِعُ الْحُبُّ وَالْوَسْوَاسُ؟ لَا كَانَ مَنْ لِسِوَاكَ فِيهِ بَقِيَّةٌ ... فِيهَا يُقَسِّمُ فِكْرَهُ وَيُوَسْوَسُ. قَوْلُهُ " وَتُلِذُّ الْخِدْمَةُ " أَيِ الْمُحِبُّ يَلْتَذُّ بِخِدْمَةِ مَحْبُوبِهِ. فَيَرْتَفِعُ عَنْ رُؤْيَةِ التَّعَبِ الَّذِي يَرَاهُ الْخَلِيُّ فِي أَثْنَاءِ الْخِدْمَةِ. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ. قَوْلُهُ " وَتُسَلِّي عَنِ الْمَصَائِبِ " فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَجِدُ فِي لَذَّةِ الْمَحَبَّةِ مَا يُنْسِيهِ الْمَصَائِبَ وَلَا يَجِدُ مِنْ مَسِّهَا مَا يَجِدُ غَيْرَهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَدِ اكْتَسَى طَبِيعَةً ثَانِيَةً لَيْسَتْ طَبِيعَةَ الْخَلْقِ. بَلْ يَقْوَى سُلْطَانُ الْمَحَبَّةِ، حَتَّى يَلْتَذَّ الْمُحِبُّ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمَصَائِبِ الَّتِي يُصِيبُهُ بِهَا حَبِيبَهُ أَعْظَمَ مِنَ الْتِذَاذِ الْخَلِيِّ بِحُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ. وَالذَّوْقُ وَالْوُجُودُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ قَالَ: وَهِيَ مَحَبَّةٌ تَنْبُتُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْمِنَّةِ. وَتُثْبِتُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ. وَتَنْمُو عَلَى الْإِجَابَةِ بِالْفَاقَةِ. قَوْلُهُ " تَنْبُتُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْمِنَّةِ " أَيْ تَنْشَأُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْعَبْدِ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَنِعَمَهُ

الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ، فَبِقَدْرِ مُطَالَعَتِهِ ذَلِكَ تَكُونُ قُوَّةُ الْمَحَبَّةِ. فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا. وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ قَطُّ إِحْسَانٌ إِلَّا مِنَ اللَّهِ. وَلَا إِسَاءَةَ إِلَّا مِنَ الشَّيْطَانِ. وَمِنْ أَعْظَمِ مُطَالَعَةِ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ: تَأْهِيلُهُ لِمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ، وَمُتَابَعَةِ حَبِيبِهِ. وَأَصْلُ هَذَا: نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ. فَإِذَا دَارَ ذَلِكَ النُّورُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَذَاتِهِ: أَشْرَقَتْ ذَاتُهُ. فَرَأَى فِيهِ نَفْسَهُ، وَمَا أُهِلَّتْ لَهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ وَالْمَحَاسِنِ. فَعَلَتْ بِهِ هِمَّتُهُ. وَقَوِيَتْ عَزِيمَتُهُ. وَانْقَشَعَتْ عَنْهُ ظُلُمَاتُ نَفْسِهِ وَطَبْعِهِ. لِأَنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ لَا يَجْتَمِعَانِ إِلَّا وَيَطْرُدُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ. فَرَقِيَتْ حِينَئِذٍ بَيْنَ الْهَيْبَةِ وَالْأُنْسِ إِلَى الْحَبِيبِ الْأَوَّلِ. نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى ... مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ كَمْ مَنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى ... وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ وَهَذَا النُّورُ كَالشَّمْسِ فِي قُلُوبِ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ، وَكَالْبَدْرِ فِي قُلُوبِ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَكَالنَّجْمِ فِي قُلُوبِ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَتَفَاوُتُهُمْ فِيهِ كَتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الزُّهْرَةِ وَالسُّهَى. قَوْلُهُ " وَتَثْبُتُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ " أَيْ ثَبَاتُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَعْمَالِهِ، وَأَقْوَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ. فَبِحَسَبِ هَذَا الِاتِّبَاعِ يَكُونُ مَنْشَأُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَثَبَاتِهَا وَقُوَّتِهَا. وَبِحَسَبِ نُقْصَانِهِ يَكُونُ نُقْصَانُهَا، كَمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ هَذَا الِاتِّبَاعَ يُوجِبُ الْمَحَبَّةَ وَالْمَحْبُوبِيَّةَ مَعًا. وَلَا يَتِمُّ الْأَمْرُ إِلَّا بِهِمَا. فَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي أَنْ تُحِبَّ اللَّهَ، بَلِ الشَّأْنُ فِي أَنْ يُحِبَّكَ اللَّهُ. وَلَا يُحِبَّكَ اللَّهُ إِلَّا إِذَا اتَّبَعْتَ حَبِيبَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَصَدَّقْتَهُ خَبَرًا، وَأَطَعْتَهُ أَمْرًا، وَأَجَبْتَهُ دَعْوَةً، وَآثَرْتَهُ طَوْعًا. وَفَنِيَتْ عَنْ حُكْمِ غَيْرِهِ بِحُكْمِهِ، وَعَنْ مَحَبَّتِهِ غَيْرِهِ مِنَ الْخَلْقِ بِمَحَبَّتِهِ، وَعَنْ طَاعَةِ غَيْرِهِ بِطَاعَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَلَا تَتَعَنَّ. وَارْجِعْ مِنْ حَيْثُ شِئْتَ فَالْتَمِسْ نُورًا. فَلَسْتَ عَلَى شَيْءٍ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] أَيِ الشَّأْنُ فِي أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّكُمْ. لَا فِي أَنَّكُمْ تُحِبُّونَهُ، وَهَذَا لَا تَنَالُونَهُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْحَبِيبِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

فصل الدرجة الثانية محبة تبعث على إيثار الحق على غيره

قَوْلُهُ " وَتَنْمُو عَلَى الْإِجَابَةِ بِالْفَاقَةِ " الْإِجَابَةُ بِالْفَاقَةِ: أَنْ يُجِيبَ الدَّاعِي بِمَوْفُورِ الْأَعْمَالِ. وَهُوَ خَالٍ مِنْهَا. كَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهَا، بَلْ يُجِيبُ دَعْوَتَهُ بِمُجَرَّدِ الْإِفْلَاسِ وَالْفَقْرِ التَّامِّ. فَإِنَّ طَرِيقَةُ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ: تَأْبَى أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِهَا عَمَلٌ، أَوْ حَالٌ أَوْ مَقَامٌ. وَإِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَى رَبِّهِ بِالْإِفْلَاسِ الْمَحْضِ، وَالْفَاقَةِ الْمُجَرَّدَةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَنْمُو عَلَى هَذَا الْمَشْهَدِ، وَهَذِهِ الْإِجَابَةِ. وَمَا أَعَزَّهُ مِنْ مَقَامٍ. وَأَعْلَاهُ مِنْ مَشْهَدٍ. وَمَا أَنْفَعَهُ لِلْعَبْدِ! وَمَا أَجْلَبَهُ لِلْمَحَبَّةِ! وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مَحَبَّةٌ تَبْعَثُ عَلَى إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى غَيْرِهِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مَحَبَّةٌ تَبْعَثُ عَلَى إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى غَيْرِهِ، وَتُلْهِجُ اللِّسَانَ بِذِكْرِهِ. وَتُعَلِّقَ الْقَلْبَ بِشُهُودِهِ. وَهِيَ مَحَبَّةٌ تَظْهَرُ مِنْ مُطَالَعَةِ الصِّفَاتِ، وَالنَّظَرِ إِلَى الْآيَاتِ، وَالِارْتِيَاضِ بِالْمَقَامَاتِ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا، بِاعْتِبَارِ سَبَبِهَا وَغَايَتِهَا. فَإِنَّ سَبَبَ الْأُولَى: مُطَالَعَةُ الْإِحْسَانِ وَالْمِنَّةِ. وَسَبَبُ هَذِهِ: مُطَالَعَةُ الصِّفَاتِ. وَشُهُودُ مَعَانِي آيَاتِهِ الْمَسْمُوعَةِ، وَالنَّظَرِ إِلَى آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ. وَحُصُولُ الْمَلَكَةِ فِي مَقَامَاتِ السُّلُوكِ، وَهُوَ الِارْتِيَاضُ بِالْمَقَامَاتِ. وَلِذَلِكَ كَانَتْ غَايَتُهَا أَعْلَى مِنْ غَايَةِ مَا قَبْلَهَا. فَقَوْلُهُ " تَبْعَثُ عَلَى إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى غَيْرِهِ " أَيْ لِكَمَالِهَا وَقُوَّتِهَا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي مِنَ الْمُحِبِّ أَنْ يَتْرُكَ لِأَجْلِ الْحَقِّ مَا سِوَاهُ، فَيُؤْثِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَا يُؤْثِرُ غَيْرَهُ عَلَيْهِ. وَيَجْعَلُ اللِّسَانَ لَهِجًا بِذِكْرِهِ. فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ. " وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِشُهُودِهِ " لِفَرْطِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى الْقَلْبِ. وَتَعَلُّقِهِ بِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُشَاهِدُ غَيْرَهُ. وَقَوْلُهُ " وَهِيَ مَحَبَّةٌ تَظْهَرُ مِنْ مُطَالَعَةِ الصِّفَاتِ " يَعْنِي: إِثْبَاتَهَا أَوَّلًا. وَمَعْرِفَتَهَا ثَانِيًا. وَنَفْيَ التَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ عَنْ نُصُوصِهَا ثَالِثًا، وَنَفْيَ التَّمْثِيلِ وَالتَّكْيِيفِ عَنْ مَعَانِيهَا رَابِعًا. فَلَا يَصِحُّ لَهُ مُطَالَعَةُ الصِّفَاتِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْمَحَبَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ. وَكُلَّمَا أَكْثَرَ قَلْبُهُ مِنْ مُطَالَعَتِهَا، وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهَا: ازْدَادَتْ مَحَبَّتُهُ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا. وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْجَهْمِيَّةُ - قُطَّاعُ طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ - بَيْنَ الْمُحِبِّينَ وَبَيْنَهُمُ السَّيْفُ الْأَحْمَرُ. وَقَوْلُهُ " وَالنَّظَرُ إِلَى الْآيَاتِ " أَيْ نَظَرُ الْفِكْرِ وَالِاعْتِبَارِ إِلَى آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ. وَفِي آيَاتِهِ

فصل الدرجة الثالثة محبة خاطفة

الْمَسْمُوعَةِ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا دَاعٍ قَوِيٌّ إِلَى مَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ. لِأَنَّهَا أَدِلَّةٌ عَلَى صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، وَتَوْحِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ، وَعَلَى حِكْمَتِهِ وَبِرِّهِ، وَإِحْسَانِهِ وَلُطْفِهِ، وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَسُبُوغِ نِعْمَتِهِ، فَإِدَامَةُ النَّظَرِ فِيهَا دَاعٍ - لَا مَحَالَةَ - إِلَى مَحَبَّتِهِ. وَكَذَلِكَ الِارْتِيَاضُ بِالْمَقَامَاتِ. فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ رِيَاضَةً وَمَلَكَةً فِي مَقَامَاتِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ: كَانَتْ مَحَبَّتُهُ أَقْوَى. لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لَهُ أَتَمُّ. وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَنْشَأَ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّتَهُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مَحَبَّةٌ خَاطِفَةٌ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مَحَبَّةٌ خَاطِفَةٌ. تَقْطَعُ الْعِبَارَةَ. وَتَدْفَعُ الْإِشَارَةَ. وَلَا تَنْتَهِي بِالنُّعُوتِ. يَعْنِي: أَنَّهَا تَخْطِفُ قُلُوبَ الْمُحِبِّينَ. لِمَا يَبْدُو لَهُمْ مِنْ جَمَالِ مَحْبُوبِهِمْ. وَيُشِيرُ الشَّيْخُ بِذَلِكَ إِلَى الْفَنَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالشُّهُودِ. وَإِنَّ الْعِبَارَةَ تَنْقَطِعُ دُونَ حَقِيقَةِ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ. وَلَا تَبْلُغُهَا. وَلَا تَصِلُّ إِلَيْهَا الْإِشَارَةُ. فَإِنَّهَا فَوْقَ الْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ. وَحَقِيقَتُهَا عِنْدَهُمْ: فَنَاءُ الْحُدُوثِ فِي الْقِدَمِ، وَاضْمِحْلَالُ الرُّسُومِ فِي نُورِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي تَظْهَرُ لِقُلُوبِ الْمُحِبِّينَ. فَتَمْلِكُ عَلَيْهَا الْعِبَارَةَ وَالْإِشَارَةَ وَالصِّفَةَ. فَلَا يَقْدِرُ الْمُحِبُّ أَنْ يُعَبِّرَ عَمَّا يَجِدَهُ لِأَنَّ وَارِدَهَا قَدْ خَطَفَ فَهْمَهُ. وَالْعِبَارَةُ تَابِعَةٌ لِلْفَهْمِ. فَلَا يَقْدِرُ الْمُحِبُّ أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِ إِشَارَةً تَامَّةً. وَالْعِبَارَةُ عِنْدَهُمْ: تَحْتَ الْإِشَارَةِ وَأَبْعَدَ مِنْهَا. وَلِذَلِكَ جُعِلَ حَظَّهَا الْقَطْعُ. وَحَظَّ الْإِشَارَةِ الدَّفْعُ. فَإِنَّ مَقَامَ الْمَحَبَّةِ يَقْبَلُ الْعِبَارَةَ. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ لَا تَقْبَلُ إِشَارَةً مَا. وَلَا تَقْبَلُ عِبَارَةً. وَعِنْدَهُمْ: إِنَّمَا تَمْتَنِعُ الْعِبَارَةُ وَالْإِشَارَةُ فِي مَقَامِ التَّوْحِيدِ، حَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْمَحَبَّةِ رَسْمٌ، وَلَا اسْمٌ، وَلَا إِشَارَةٌ، وَهُوَ الْغَايَةُ عِنْدَهُمْ كَمَا سَيَأْتِي. وَالصَّوَابُ: أَنَّ تَوْحِيدَ الْمَحَبَّةِ أَكْمَلُ مِنْ هَذَا التَّوْحِيدِ الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ، وَأَعْلَى مَقَامًا، وَأَجَلَّ مَشْهَدًا. وَهُوَ مَقَامُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَخَوَاصُّ الْمُقَرَّبِينَ. وَأَمَّا تَوْحِيدُ الْفَنَاءِ: فَدُونَهُ بِكَثِيرٍ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَقَامَاتِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ

فصل مدار شأن السالكين المسافرين إلى الله على هذه المحبة الثالثة

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَإِنَّ تَوْحِيدَهُمْ تَوْحِيدُ بَقَاءٍ وَمَحَبَّةٍ. لَا تَوْحِيدَ فَنَاءٍ وَغَيْبَةٍ، وَسُكْرٍ وَاصْطِلَامٍ. وَلَمَّا كَانَ الْمُحِبُّ عِنْدَ أَرْبَابِ الْفَنَاءِ. لَمْ يَخْلُصْ إِلَى مَقَامِ تَوْحِيدِ الْفَنَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ. بَلْ رُسُومُ الْمَحَبَّةِ مَعَهُ بَعْدُ، جَعَلُوا الْمَحَبَّةَ هِيَ الْعَقَبَةَ الَّتِي يَنْحَدِرُ مِنْهَا إِلَى أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ. كَمَا تَقَدَّمَ. وَالصَّوَابُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، عِنْدَ أَرْبَابِ التَّحْقِيقِ وَالْبَصَائِرِ: أَنَّ لِسَانَ الْمَحَبَّةِ أَتَمُّ، وَمَقَامَهَا أَكْمَلُ، وَحَالَهَا أَشْرَفُ، وَصَاحِبَهَا مِنْ أَهْلِ الصَّحْوِ بَعْدَ السُّكْرِ، وَالتَّمْكِينِ بَعْدَ التَّلْوِينِ، وَالْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ. وَلِسَانُهُ نَائِبٌ عَنْ كُلِّ لِسَانٍ. وَبَيَانُهُ وَافٍ بِكُلِّ ذَوْقٍ. وَمَقَامُهُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَقَامٍ. فَهُوَ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ مَنْ دُونَهُ مِنْ أَرْبَابِ الْمَقَامَاتِ. لِأَنَّ مَقَامَهُ أَمِيرٌ عَلَى الْمَقَامَاتِ كُلِّهَا. أَمِينٌ أَمِينٌ عَلَيْهِ النَّدَى ... جَوَادٌ بَخِيلٌ بِأَنْ لَا يَجُودَا. وَأَمَّا كَوْنُ نُعُوتِ الْمَحَبَّةِ لَا تَتَنَاهَى: فَلِأَنَّ لَهَا فِي كُلِّ مَقَامٍ نِسْبَةً وَتَعَلُّقًا بِهِ. وَهِيَ رُوحُ كُلِّ مَقَامٍ، وَالْحَامِلَةُ لَهُ. وَأَقْدَامُ السَّالِكِينَ إِنَّمَا تَتَحَرَّكُ بِهَا. فَلَهَا تَعَلَّقُ بِكُلِّ قَدَمٍ، وَحَالٍ وَمَقَامٍ. فَلَا تَتَنَاهَى نُعُوتُهَا أَلْبَتَّةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَدَارُ شَأْنِ السَّالِكِينَ الْمُسَافِرِينَ إِلَى اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ الثَّالِثَةِ] فَصْلٌ قَوْلُهُ: وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ: هِيَ قُطْبُ هَذَا الشَّأْنِ. وَمَا دُونَهَا مَحَابٌّ، نَادَتْ عَلَيْهَا الْأَلْسُنُ، وَادَّعَتْهَا الْخَلِيقَةُ. وَأَوْجَبَتْهَا الْعُقُولُ. يُرِيدُ: أَنَّ مَدَارَ شَأْنِ السَّالِكِينَ الْمُسَافِرِينَ إِلَى اللَّهِ: عَلَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ الثَّالِثَةِ. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِخُلُوصِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَالْعِلَلِ وَالْأَغْرَاضِ. وَصَاحِبُهَا مُرَادٌ وَمَجْذُوبٌ وَمَطْلُوبٌ، وَمَا دُونَهَا مِنَ الْمَحَابِّ: فَصَاحِبُهَا بَاقٍ مَعَ إِرَادَتِهِ مِنْ مَحْبُوبِهِ. أَمَّا مَحَبَّةُ الْإِحْسَانِ وَالْأَفْعَالِ: فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا مَحَبَّةُ الصِّفَاتِ: فَصَاحِبُهَا مَعَ لَذَّةِ رُوحِهِ وَنَعِيمِ قَلْبِهِ بِمُطَالَعَةِ الصِّفَاتِ. فَإِنَّ لَذَّةَ الْأَرْوَاحِ وَالْعُقُولِ لَا مَحَالَةَ فِي مُطَالَعَةِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَنُعُوتِ الْجَمَالِ. وَصَاحِبُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ الثَّالِثَةِ: قَدِ ارْتَقَى عَنْ هَاتَيْنِ الدَّرَجَتَيْنِ. وَأُخِذَ مِنْهُ، وَعُيِّبَ عَنْهُ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ فِي كَوْنِ الْفَنَاءِ غَايَةً. وَقَدْ عَرَفْتَهُ.

وَقَوْلُهُ " وَنَادَتْ عَلَيْهَا الْأَلْسُنُ " أَيْ وَصَفَتْهَا الْأَلْسُنُ. فَأَكْثَرَتْ صِفَاتِهَا. وَتَمَكَّنَتْ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهَا. وَ " ادَّعَتْهَا الْخَلِيقَةُ " بِخِلَافِ الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. فَإِنَّهُ لَا وُصُولَ لِأَحَدٍ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْحَقِّ تَعَالَى. فَهِيَ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ. وَلَا تُنَالُ بِسَبَبٍ. فَلَا يُمْكِنُ فِيهَا الدَّعْوَى. فَإِنَّ شَأْنَهَا أَجَلُّ مَنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ " وَأَوْجَبَتْهَا الْعُقُولُ " يُرِيدُ: أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِوُجُوبِهَا. وَهُوَ كَمَا قَالَ. فَإِنَّ الْعُقُولَ تَحْكُمُ بِوُجُوبِ تَقْدِيمِ مَحَبَّةِ اللَّهِ عَلَى مَحَبَّةِ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ. وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُحَكِّمْ عَقْلَهُ بِهَذَا: فَلَا تَعْبَأْ بِعَقْلِهِ. فَإِنَّ الْعَقْلَ وَالْفِطْرَةَ وَالشِّرْعَةَ وَالِاعْتِبَارَ، وَالنَّظَرَ. تَدْعُو كُلَّهَا إِلَى مَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ. بَلْ إِلَى تَوْحِيدِهِ فِي الْمَحَبَّةِ. وَإِنَّمَا جَاءَتِ الرُّسُلُ بِتَقْرِيرِ مَا فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ. كَمَا قِيلَ: هَبِ الرُّسُلَ لَمْ تَأْتِ مِنْ عِنْدِهِ ... وَلَا أَخْبَرَتْ عَنْ جَمَالِ الْحَبِيبِ أَلَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ الْمُسْتَ ... حَقِّ مَحَبَّتُهُ فِي اللِّقَا وَالْمَغِيبِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَقْلُهُ آمِرًا ... بِذَا. مَا لَهُ فِي الْحِجَى مِنْ نَصِيبِ وَإِنَّ الْعُقُولَ لَتَدْعُو إِلَى ... مَحَبَّةِ فَاطِرِهَا مِنْ قَرِيبِ أَلَيْسَتْ عَلَى ذَاكَ مَجْبُولَةً ... وَمَفْطُورَةً لَا بِكَسْبِ غَرِيبِ أَلَيْسَ الْجَمَالُ حَبِيبَ الْقُلُوبِ ... لِذَاتِ الْجَمَالِ، وَذَاتِ الْقُلُوبِ أَلَيْسَ جَمِيلًا يُحِبُّ الْجَمَالَ ... تَعَالَى إِلَهُ الْوَرَى عَنْ نَسِيبِ أَمَا بَعْدَ ذَلِكَ إِحْسَانُهُ ... بِدَاعٍ إِلَيْهِ لِقَلْبِ الْمُنِيبِ أَلَيْسَ إِذَا كَمُلَا أَوْجَبَا ... كَمَالَ الْمَحَبَّةِ لِلْمُسْتَجِيبِ فَمَنْ ذَا يُشَابِهُ أَوْصَافَهُ ... تَعَالَى إِلَهُ الْوَرَى عَنْ ضَرِيبِ وَمَنْ ذَا يُكَافِئُ إِحْسَانَهُ ... فَيَأْلَهُهُ قَلْبُ عَبْدٍ مُنِيبِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ ... إِلَى كُلِّ ذِي الْخُلُقِ أَوْلَى حَبِيبِ فَيَا مُنْكِرًا ذَاكَ وَاللَّهِ أَنْ ... تَ عَيْنُ الطَّرِيدِ وَعَيْنُ الْحَرِيبِ وَيَا مَنْ يُحِبُّ سِوَاهُ كَمِثْ ... لِ مَحَبَّتِهِ أَنْتَ عَبْدُ الصَّلِيبِ وَيَا مَنْ يُوَحِّدُ مَحْبُوبَهُ ... وَيُرْضِيهِ فِي مَشْهَدٍ أَوْ مَغِيبِ وَلَوْ سَخِطَ الْخَلْقُ فِي وَجْهِهِ ... لَقَالَ هَوَانًا وَلَوْ بِالنَّسِيبِ حَظَيْتَ وَخَابُوا فَلَا تَبْتَئِسْ ... بِكَيْدِ الْعَدُوِّ وَهَجْرِ الرَّقِيبِ

فصل منزلة الغيرة

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْغَيْرَةِ] [حَقِيقَةُ الْغَيْرَةِ] وَمِنْ مَنَازِلِ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " مَنْزِلَةُ الْغَيْرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ غَيْرَتِهِ: حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ. وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ: أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ «إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ: أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ» . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعِدٍ؟ ! لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي» . وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي الْغَيْرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] . قَالَ السَّرِيُّ لِأَصْحَابِهِ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَا الْحِجَابُ؟ حِجَابُ الْغَيْرَةِ. وَلَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلِ الْكُفَّارَ أَهْلًا لِفَهْمِ كَلَامِهِ، وَلَا أَهْلًا لِمَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَمَحَبَّتِهِ. فَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِهِ وَكَلَامِهِ وَتَوْحِيدِهِ حِجَابًا مَسْتُورًا عَنِ الْعُيُونِ، غَيْرَةً عَلَيْهِ أَنْ يَنَالَهُ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا بِهِ.

وَالْغَيْرَةُ مَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، جَلِيلَةُ الْمِقْدَارِ. وَلَكِنَّ الصُّوفِيَّةَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ مَنْ قَلَبَ مَوْضُوعَهَا. وَذَهَبَ بِهَا مَذْهَبًا بَاطِلًا. سَمَّاهُ غَيْرَةً فَوَضَعَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. وَلُبِّسَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ تَلْبِيسٍ. كَمَا سَتَرَاهُ. وَالْغَيْرَةُ نَوْعَانِ: غَيْرَةٌ مِنَ الشَّيْءِ. وَغَيْرَةٌ عَلَى الشَّيْءِ. وَالْغَيْرَةُ مِنَ الشَّيْءِ: هِيَ كَرَاهَةُ مُزَاحَمَتِهِ وَمُشَارَكَتِهِ لَكَ فِي مَحْبُوبِكَ. وَالْغَيْرَةُ عَلَى الشَّيْءِ: هِيَ شِدَّةُ حِرْصِكَ عَلَى الْمَحْبُوبِ أَنْ يَفُوزَ بِهِ غَيْرُكَ دُونَكَ أَوْ يُشَارِكَكَ فِي الْفَوْزِ بِهِ. وَالْغَيْرَةُ أَيْضًا نَوْعَانِ: غَيْرَةُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ، كَغَيْرَتِهِ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى قَلْبِهِ، وَمِنْ تَفْرِقَتِهِ عَلَى جَمْعِيَّتِهِ، وَمِنْ إِعْرَاضِهِ عَلَى إِقْبَالِهِ، وَمِنْ صِفَاتِهِ الْمَذْمُومَةِ عَلَى صِفَاتِهِ الْمَمْدُوحَةِ. وَهَذِهِ الْغَيْرَةُ خَاصِّيَّةُ النَّفْسِ الشَّرِيفَةِ الزَّكِيَّةِ الْعُلْوِيَّةِ. وَمَا لِلنَّفْسِ الدَّنِيَّةِ الْمَهِينَةِ فِيهَا نَصِيبٌ. وَعَلَى قَدْرِ شَرَفِ النَّفْسِ وَعُلُوِّ هِمَّتِهَا تَكُونُ هَذِهِ الْغَيْرَةُ. ثُمَّ الْغَيْرَةُ أَيْضًا نَوْعَانِ: غَيْرَةُ الْحَقِّ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ، وَغَيْرَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ لَا عَلَيْهِ. فَأَمَّا غَيْرَةُ الرَّبِّ عَلَى عَبْدِهِ: فَهِيَ أَنْ لَا يَجْعَلَهُ لِلْخَلْقِ عَبْدًا. بَلْ يَتَّخِذُهُ لِنَفْسِهِ عَبْدًا. فَلَا يَجْعَلُ لَهُ فِيهِ شُرَكَاءَ مُتَشَاكِسِينَ. بَلْ يُفْرِدُهُ لِنَفْسِهِ. وَيَضِنُّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. وَهَذِهِ أَعْلَى الْغَيْرَتَيْنِ. وَغَيْرَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، نَوْعَانِ أَيْضًا: غَيْرَةٌ مِنْ نَفْسِهِ. وَغَيْرَةٌ مِنْ غَيْرِهِ. فَالَّتِي مِنْ نَفْسِهِ: أَنْ لَا يَجْعَلَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأَوْقَاتِهِ وَأَنْفَاسِهِ لِغَيْرِ رَبِّهِ، وَالَّتِي مِنْ غَيْرِهِ: أَنْ يَغْضَبَ لِمَحَارِمِهِ إِذَا انْتَهَكَهَا الْمُنْتَهِكُونَ. وَلِحُقُوقِهِ إِذَا تَهَاوَنَ بِهَا الْمُتَهَاوِنُونَ. وَأَمَّا الْغَيْرَةُ عَلَى اللَّهِ: فَأَعْظَمُ الْجَهْلِ وَأَبْطَلُ الْبَاطِلِ. وَصَاحِبُهَا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ جَهْلًا. وَرُبَّمَا أَدَّتْ بِصَاحِبِهَا إِلَى مُعَادَاتِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. وَإِلَى انْسِلَاخِهِ مِنْ أَصْلِ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ. وَرُبَّمَا كَانَ صَاحِبُهَا شَرًّا عَلَى السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ. بَلْ هُوَ مِنْ قُطَّاعِ طَرِيقِ السَّالِكِينَ حَقِيقَةً. وَأَخْرَجَ قَطْعَ الطَّرِيقِ فِي قَالَبِ الْغَيْرَةِ. وَأَيْنَ هَذَا مِنَ الْغَيْرَةِ لِلَّهِ؟ الَّتِي تُوجِبُ تَعْظِيمَ حُقُوقِهِ، وَتَصْفِيَةَ أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ لِلَّهِ؟ فَالْعَارِفُ يَغَارُ لِلَّهِ. وَالْجَاهِلُ يَغَارُ عَلَى اللَّهِ. فَلَا يُقَالُ: أَنَا أَغَارُ عَلَى اللَّهِ. وَلَكِنْ أَنَا أَغَارُ لِلَّهِ. وَغَيْرَةُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ: أَهَمُّ مِنْ غَيْرَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنَّكَ إِذَا غِرْتَ مِنْ نَفْسِكَ صَحَّتْ لَكَ غَيْرَتُكَ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِكَ، وَإِذَا غِرْتَ لَهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَلَمْ تَغِرْ مِنْ نَفْسِكَ: فَالْغَيْرَةُ مَدْخُولَةٌ

مَعْلُولَةٌ وَلَا بُدَّ. فَتَأَمَّلْهَا وَحَقِّقِ النَّظَرَ فِيهَا. فَلْيَتَأَمَّلِ السَّالِكُ اللَّبِيبُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، الَّذِي زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامُ كَثِيرٍ مِنَ السَّالِكِينَ. وَاللَّهُ الْهَادِي وَالْمُوَفِّقُ الْمُثَبِّتُ. كَمَا حُكِيَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ مَشْهُورِي الصُّوفِيَّةِ، أَنَّهُ قَالَ: لَا أَسْتَرِيحُ حَتَّى لَا أَرَى مَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ. يَعْنِي غَيْرَةً عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْغَفْلَةِ وَذِكْرِهِمْ. وَالْعَجَبُ أَنَّ هَذَا يُعَدُّ مِنْ مَنَاقِبِهِ وَمَحَاسِنِهِ. وَغَايَةُ هَذَا: أَنْ يُعْذَرَ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ. وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ الشَّطَحَاتِ. وَذِكْرُ اللَّهِ عَلَى الْغَفْلَةِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ خَيْرٌ مِنْ نِسْيَانِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالْأَلْسُنُ مَتَى تَرَكَتْ ذِكْرَ اللَّهِ - الَّذِي هُوَ مَحْبُوبُهَا - اشْتَغَلَتْ بِذِكْرِ مَا يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُ عَلَيْهِ. فَأَيُّ رَاحَةٍ لِلْعَارِفِ فِي هَذَا؟ وَهَلْ هُوَ إِلَّا أَشَقُّ عَلَيْهِ، وَأَكْرَهُ إِلَيْهِ؟ وَقَوْلٌ آخَرُ: لَا أُحِبُّ أَنْ أَرَى اللَّهَ وَلَا أَنْظُرَ إِلَيْهِ. فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ؟ قَالَ: غَيْرَةً عَلَيْهِ مِنْ نَظَرِ مِثْلِي. فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ الْغَيْرَةِ الْقَبِيحَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى جَهْلِ صَاحِبِهَا، مَعَ أَنَّهُ فِي خِفَارَةِ ذُلِّهِ وَتَوَاضُعِهِ وَانْكِسَارِهِ وَاحْتِقَارِهِ لِنَفْسِهِ. وَمِنْ هَذَا مَا يُحْكَى عَنِ الشِّبْلِيِّ: أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ ابْنُهُ دَخَلَ الْحَمَّامَ وَنَوَّرَ لِحْيَتَهُ، حَتَّى أَذْهَبَ شَعْرَهَا كُلَّهُ. فَكُلُّ مَنْ أَتَاهُ مُعَزِّيًا، قَالَ: إِيشْ هَذَا يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: وَافَقْتُ أَهْلِي فِي قَطْعِ شُعُورِهِمْ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَخْبِرْنِي لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهُمْ يُعَزُّونَنِي عَلَى الْغَفْلَةِ وَيَقُولُونَ: آجَرَكَ اللَّهُ. فَفَدَيْتُ ذِكْرَهُمْ لِلَّهِ عَلَى الْغَفْلَةِ بِلِحْيَتِي. فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ الْغَيْرَةِ الْمُحَرَّمَةِ الْقَبِيحَةِ، الَّتِي تَضَمَّنَتْ أَنْوَاعًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ: حَلْقِ الشِّعْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ وَسَلَقَ وَخَرَقَ»

أَيْ حَلَقَ شَعْرَهُ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالنَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ. وَخَرَقَ ثِيَابَهُ. وَمِنْهَا: حَلْقُ اللِّحْيَةِ، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِعْفَائِهَا وَتَوْفِيرِهَا. وَمِنْهَا: مَنْعُ إِخْوَانِهِ مِنْ تَعْزِيَتِهِ وَنَيْلِ ثَوَابِهَا. وَمِنْهَا: كَرَاهَتُهُ لِجَرَيَانِ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ بِالْغَفْلَةِ. وَذَلِكَ خَيْرٌ بِلَا شَكٍّ مِنْ تَرْكِ ذِكْرِهِ. فَغَايَةُ صَاحِبِ هَذَا: أَنْ تُغْفَرَ لَهُ هَذِهِ الذُّنُوبُ وَيُعْفَى عَنْهُ. وَأَمَّا أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ فِي مَنَاقِبِهِ، وَفِي الْغَيْرَةِ الْمَحْمُودَةِ فَسُبْحَانُكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. وَمِنْ هَذَا: مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ النُّورِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُؤَذِّنُ. فَقَالَ: طَعَنَهُ وَسْمُ الْمَوْتِ. وَسَمِعَ كَلْبًا يَنْبَحُ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَقَالُوا لَهُ: هَذَا تَرْكٌ لِلدِّينِ. وَصَدَقُوا وَاللَّهِ، يَقُولُ لِلْمُؤَذِّنِ فِي تَشَهُّدِهِ: طَعَنَهُ. وَسْمُ الْمَوْتِ. وَيُلَبِّي نُبَاحَ الْكَلْبِ؟ فَقَالَ: أَمَّا ذَاكَ فَكَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَنْ رَأْسِ الْغَفْلَةِ. وَأَمَّا الْكَلْبُ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] . فَيَالِلَّهِ! ! مَاذَا تَرَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَاجِهُ هَذَا الْقَائِلِ لَوْ رَآهُ يَقُولُ ذَلِكَ، أَوْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، أَوْ مَنْ عَدَّ ذَلِكَ فِي الْمَنَاقِبِ وَالْمَحَاسِنِ؟ ! . وَسَمِعَ الشِّبْلِيُّ رَجُلًا يَقُولُ: جَلَّ اللَّهُ. فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ تُجِلَّهُ عَنْ هَذَا. وَأَذَّنَ مَرَّةً. فَلَمَّا بَلَغَ الشَّهَادَتَيْنِ، قَالَ: لَوْلَا أَنَّكَ أَمَرْتَنِي مَا ذَكَرْتُ مَعَكَ غَيْرَكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ مِنَ الْقَوْمِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ أَصْلِ الْقَلْبِ، وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ الْقُرْطِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، مِنْ تَمَامِ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَالْكَلِمَتَانِ يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْلِ الْقَلْبِ، مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. لَا تَتِمُّ إِحْدَاهُمَا إِلَّا بِالْأُخْرَى.

فصل الغيرة سقوط الاحتمال ضنا والضيق عن الصبر نفاسة

[فَصْلٌ الْغَيْرَةُ سُقُوطُ الِاحْتِمَالِ ضَنًّا وَالضِّيقُ عَنِ الصَّبْرِ نَفَاسَةً] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: بَابُ الْغَيْرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - حَاكِيًا عَنْ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] . وَوَجْهُ اسْتِشْهَادِهِ بِالْآيَةِ: أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحِبُّ الْخَيْلَ. فَشَغَلَهُ اسْتِحْسَانُهَا، وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا - لَمَّا عُرِضَتْ عَلَيْهِ - عَنْ صَلَاةِ النَّهَارِ، حَتَّى تَوَارَتِ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ. فَلَحِقَتْهُ الْغَيْرَةُ لِلَّهِ مِنَ الْخَيْلِ، إِذِ اسْتَغْرَقَهُ اسْتِحْسَانُهَا، وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا عَنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ وَحَقِّهِ. فَقَالَ: رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ يَضْرِبُ أَعْنَاقَهَا وَعَرَاقِيبَهَا بِالسَّيْفِ غَيْرَةً لِلَّهِ. قَالَ: الْغَيْرَةُ: سُقُوطُ الِاحْتِمَالِ ضَنًّا، وَالضِّيقُ عَنِ الصَّبْرِ نَفَاسَةً. أَيْ عَجْزُ الْغَيُورِ عَنِ احْتِمَالِ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ مَحْبُوبِهِ، وَيَحْجُبُهُ عَنْهُ ضَنًّا بِهِ - أَيْ بُخْلًا بِهِ - أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ. وَهَذَا الْبُخْلُ: هُوَ مَحْضُ الْكَرَمِ عِنْدَ الْمُحِبِّينَ الصَّادِقِينَ. وَأَمَّا الضِّيقُ عَنِ الصَّبْرِ نَفَاسَةً فَهُوَ أَنْ يَضِيقَ ذَرْعُهُ بِالصَّبْرِ عَنْ مَحْبُوبِهِ. وَهَذَا هُوَ الصَّبْرُ الَّذِي لَا يُذَمُّ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ سِوَاهُ، أَوْ مَا كَانَ مِنْ وَسِيلَتِهِ. وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الضِّيقِ: مُغَالَاتُهُ بِمَحْبُوبِهِ. وَهِيَ النَّفَاسَةُ. فَإِنَّهُ - لِمُنَافَسَتِهِ وَرَغْبَتِهِ - لَا يُسَامِحُ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَنْهُ. وَالْمُنَافَسَةُ هِيَ كَمَالُ الرَّغْبَةِ فِي الشَّيْءِ، وَمَنْعُ الْغَيْرِ مِنْهُ: إِنْ لَمْ يُمْدَحْ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ، وَالْمُسَابَقَةُ إِلَيْهِ إِنْ مُدِحَتْ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ. قَالَ تَعَالَى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] وَبَيْنَ الْمُنَافَسَةِ وَالْغِبْطَةِ جَمْعٌ وَفَرْقٌ، وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحَسَدِ أَيْضًا جَمْعٌ وَفَرْقٌ. فَالْمُنَافَسَةُ تَتَضَمَّنُ مُسَابَقَةً وَاجْتِهَادًا وَحِرْصًا. وَالْحَسَدُ: يَدُلُّ عَلَى مَهَانَةِ الْحَاسِدِ وَعَجْزِهِ، وَإِلَّا فَنَافِسْ مَنْ حَسَدْتَهُ. فَذَلِكَ أَنْفَعُ لَكَ مِنْ حَسَدِهِ، كَمَا قِيلَ: إِذَا أَعْجَبَتْكَ خِلَالُ امْرِئٍ ... فَكُنْهُ يَكُنْ مِنْكَ مَا يُعْجِبُكْ فَلَيْسَ عَلَى الْجُودِ وَالْمَكْرُمَا ... تِ إِذَا جِئْتَهَا حَاجِبٌ يَحْجُبُكْ وَالْغِبْطَةُ تَتَضَمَّنُ نَوْعَ تَعَجُّبٍ وَفَرَحٍ لِلْمَغْبُوطِ وَاسْتِحْسَانٍ لِحَالِهِ.

فصل درجات الغيرة

[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْغَيْرَةِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى غَيْرَةُ الْعَابِدِ] فَصْلٌ قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: غَيْرَةُ الْعَابِدِ عَلَى ضَائِعٍ يَسْتَرِدُّ ضَيَاعَهُ. وَيَسْتَدْرِكُ فَوَاتَهُ، وَيَتَدَارَكُ قُوَاهُ. الْعَابِدُ هُوَ الْعَامِلُ - بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ النَّافِعِ - لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ. فَغَيْرَتُهُ عَلَى مَا ضَاعَ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ. فَهُوَ يَسْتَرِدُّ ضَيَاعَهُ بِأَمْثَالِهِ. وَيَجْبُرُ مَا فَاتَهُ مِنَ الْأَوْرَادِ وَالنَّوَافِلِ وَأَنْوَاعِ الْقُرَبِ بِفِعْلِ أَمْثَالِهَا، مِنْ جِنْسِهَا وَغَيْرِ جِنْسِهَا. فَيَقْضِي مَا يَنْفَعُ فِيهِ الْقَضَاءُ. وَيُعَوِّضُ مَا يَقْبَلُ الْعِوَضَ. وَيَجْبُرُ مَا يُمْكِنُ جَبْرُهُ. وَقَوْلُهُ " وَيَسْتَدْرِكُ فَوَاتَهُ " الْفَرْقُ بَيْنَ اسْتِرْدَادِ ضَائِعِهِ، وَاسْتِدْرَاكِ فَائِتِهِ، أَنَّ الْأَوَّلَ: يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَرَدَّ بِعَيْنِهِ، كَمَا إِذَا فَاتَهُ الْحَجُّ فِي عَامٍ تَمَكَّنَ مِنْهُ. فَأَضَاعَهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ: اسْتَدْرَكَهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ. وَكَذَلِكَ إِذَا أَخَّرَ الزَّكَاةَ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا اسْتَدْرَكَهَا بَعْدَ تَأْخِيرِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْفَائِتُ: فَإِنَّمَا يُسْتَدْرَكُ بِنَظِيرِهِ. كَقَضَاءِ الْوَاجِبِ الْمُؤَقَّتِ إِذَا فَاتَ وَقْتُهُ. أَوْ يَكُونُ مُرَادُهُ بِاسْتِرْدَادِ الضَّائِعِ وَاسْتِدْرَاكِ الْفَائِتِ نَوْعَيِ التَّفْرِيطِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَيَسْتَرِدُّ ضَائِعَ هَذَا بِقَضَائِهِ وَفِعْلِ أَمْثَالِهِ. وَيَسْتَدْرِكُ فَائِتَ هَذَا - أَيْ سَالِفَهُ - بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ. وَأَمَّا تَدَارُكُ قُوَاهُ فَهُوَ أَنْ يَتَدَارَكَ قُوَّتَهُ بِبَذْلِهَا فِي الطَّاعَةِ قَبْلَ أَنْ تَتَبَدَّلَ بِالضَّعْفِ. فَهُوَ يَغَارُ عَلَيْهَا أَنْ تَذْهَبَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ. وَيَتَدَارَكُ قُوَى الْعَمَلِ الَّذِي لَحِقَهُ الْفُتُورُ عَنْهُ بِأَنْ يَكْسُوَهُ قُوَّةً وَنَشَاطًا، غَيْرَةً لَهُ وَعَلَيْهِ. فَهَذِهِ غَيْرَةُ الْعُبَّادِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ غَيْرَةُ الْمُرِيدِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: غَيْرَةُ الْمُرِيدِ. وَهِيَ غَيْرَةٌ عَلَى وَقْتٍ فَاتَ. وَهِيَ غَيْرَةٌ قَاتِلَةٌ. فَإِنَّ الْوَقْتَ وَحِيُّ التَّقَضِّي. أَبِيُّ الْجَانِبِ، بَطِيُّ الرُّجُوعِ. وَ " الْمُرِيدُونَ " هُمْ أَرْبَابُ الْأَحْوَالِ، وَ " الْعُبَّادُ " أَرْبَابُ الْأَوْرَادِ وَالْعِبَادَاتِ. وَكُلُّ مُرِيدٍ عَابِدٌ. وَكُلُّ عَابِدٍ مُرِيدٌ. لَكِنَّ الْقَوْمَ خَصُّوا أَهْلَ الْمَحَبَّةِ وَأَذْوَاقِ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ

بَاسْمِ " الْمُرِيدِ " وَخَصُّوا أَصْحَابَ الْعَمَلِ الْمُجَرَّدِ بِاسْمِ " الْعَابِدِ " وَكُلُّ مُرِيدٍ لَا يَكُونُ عَابِدًا فَزِنْدِيقٌ، وَكُلُّ عَابِدٍ لَا يَكُونُ مُرِيدًا فَمُرَاءٍ. وَ " الْوَقْتُ " عِنْدَ الْعَابِدِ: هُوَ وَقْتُ الْعِبَادَةِ وَالْأَوْرَادِ. وَعِنْدَ الْمُرِيدِ: هُوَ وَقْتُ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ، وَالْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ، وَالْعُكُوفِ عَلَيْهِ بِالْقَلْبِ كُلِّهِ. وَ " الْوَقْتُ " أَعَزُّ شَيْءٍ عَلَيْهِ، يَغَارُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْقَضِيَ بِدُونِ ذَلِكَ. فَإِذَا فَاتَهُ الْوَقْتُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِدْرَاكُهُ أَلْبَتَّةَ. لِأَنَّ الْوَقْتَ الثَّانِيَ قَدِ اسْتَحَقَّ وَاجِبَهُ الْخَاصَّ، فَإِذَا فَاتَهُ وَقْتٌ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تَدَارُكِهِ. كَمَا فِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ: لَمْ يَقْضِهِ عَنْهُ صِيَامُ الدَّهْرِ، وَإِنْ صَامَهُ» . وَقَوْلُهُ " وَهِيَ غَيْرَةٌ قَاتِلَةٌ " يَعْنِي: مُضِرَّةً ضَرَرًا شَدِيدًا بَيِّنًا يُشْبِهُ الْقَتْلَ، لِأَنَّ حَسْرَةَ الْفَوْتِ قَاتِلَةٌ. وَلَا سِيَّمَا إِذَا عَلِمَ الْمُتَحَسِّرُ: أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الِاسْتِدْرَاكِ. وَأَيْضًا. فَالْغَيْرَةُ عَلَى التَّفْوِيتِ تَفْوِيتٌ آخَرُ، كَمَا يُقَالُ: الِاشْتِغَالُ بِالنَّدَمِ عَلَى الْوَقْتِ الْفَائِتِ تَضْيِيعٌ لِلْوَقْتِ الْحَاضِرِ. وَلِذَلِكَ يُقَالُ: الْوَقْتُ سَيْفٌ. إِنْ لَمْ تَقْطَعْهُ، وَإِلَّا قَطَعَكَ. ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ السَّبَبَ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْغَيْرَةِ قَاتِلَةً. فَقَالَ: " فَإِنَّ الْوَقْتَ وَحِيُّ التَّقَضِّي " أَيْ سَرِيعُ الِانْقِضَاءِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ الْوَحَا الْوَحَا، الْعَجَلَ الْعَجَلَ، وَالْوَحْيُ الْإِعْلَامُ فِي خَفَاءٍ وَسُرْعَةٍ. وَيُقَالُ: جَاءَ فُلَانٌ وَحْيًا أَيْ مَجِيئًا سَرِيعًا. فَالْوَقْتُ مُنْقَضٍ بِذَاتِهِ، مُنْصَرِمٌ بِنَفْسِهِ. فَمَنْ غَفَلَ عَنْ نَفْسِهِ تَصَرَّمَتْ أَوْقَاتُهُ، وَعَظُمَ فَوَاتُهُ. وَاشْتَدَّتْ حَسَرَاتُهُ. فَكَيْفَ حَالُهُ إِذَا عَلِمَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْفَوْتِ مِقْدَارَ مَا أَضَاعَ. وَطَلَبَ الرُّجْعَى فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِرْجَاعِ وَطَلَبِ تَنَاوُلِ الْفَائِتِ.

فصل الدرجة الثالثة غيرة العارف

وَكَيْفَ يُرَدُّ الْأَمْسُ فِي الْيَوْمِ الْجَدِيدِ؟ {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ: 52] وَمُنِعَ مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْتَضِيهِ، وَعَلِمَ أَنَّ مَا اقْتَنَاهُ لَيْسَ مِمَّا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَقْتَنِيَهُ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهِيهِ. فَيَا حَسَرَاتِ مَا إِلَى رَدِّ مِثْلِهِ ... سَبِيلٌ وَلَوْ رُدَّتْ لَهَانَ التَّحَسُّرُ هِيَ الشَّهَوَاتُ اللَّاءِ كَانَتْ تَحَوَّلَتْ ... إِلَى حَسَرَاتٍ حِينَ عَزَّ التَّصَبُّرُ فَلَوْ أَنَّهَا رُدَّتْ بِصَبْرٍ وَقُوَّةٍ ... تَحَوَّلْنَ لَذَّاتٍ وَذُو اللُّبِّ يُبْصِرُ وَيُقَالُ: إِنَّ أَصْعَبَ الْأَحْوَالِ الْمُنْقَطِعَةِ: انْقِطَاعُ الْأَنْفَاسِ. فَإِنَّ أَرْبَابَهَا إِذَا صَعِدَ النَّفَسُ الْوَاحِدُ صَعَّدُوهُ إِلَى نَحْوِ مَحْبُوبِهِمْ، صَاعِدًا إِلَيْهِ، مُتَلَبِّسًا بِمَحَبَّتِهِ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ. فَإِذَا أَرَادُوا دَفْعَهُ لَمْ يَدْفَعُوهُ حَتَّى يُتْبِعُوهُ نَفَسًا آخَرَ مِثْلَهُ. فَكُلُّ أَنْفَاسِهِمْ بِاللَّهِ. وَإِلَى اللَّهِ، مُتَلَبِّسَةً بِمَحَبَّتِهِ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ وَالْأُنْسِ بِهِ. فَلَا يَفُوتُهُمْ نَفَسٌ مِنْ أَنْفَاسِهِمْ مَعَ اللَّهِ إِلَّا إِذَا غَلَبَهُمُ النَّوْمُ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرَى فِي نَوْمِهِ: أَنَّهُ كَذَلِكَ لِالْتِبَاسِ رُوحِهِ وَقَلْبِهِ. فَيَحْفَظُ عَلَيْهِ أَوْقَاتَ نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ. وَلَا تُسْتَنْكَرُ هَذِهِ الْحَالُ. فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا غَلَبَتْ عَلَى الْقَلْبِ وَمَلَكَتْهُ: أَوْجَبَتْ لَهُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْوَارِدَاتِ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ. تَمُرُّ أَسْرَعَ مِنَ السَّحَابِ، وَيَنْقَضِي الْوَقْتُ بِمَا فِيهِ. فَلَا يَعُودُ عَلَيْكَ مِنْهُ إِلَّا أَثَرُهُ وَحُكْمُهُ. فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ مَا يَعُودُ عَلَيْكَ مِنْ وَقْتِكَ. فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَيْكَ لَا مَحَالَةَ. لِهَذَا يُقَالُ لِلسُّعَدَاءِ {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] وَيُقَالُ لِلْأَشْقِيَاءِ {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] . [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ غَيْرَةُ الْعَارِفِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: غَيْرَةُ الْعَارِفِ عَلَى عَيْنٍ غَطَّاهَا غَيْنٌ. وَسُرٍّ غَشِيَهُ رَيْنٌ، وَنَفَسٍ عَلِقَ بِرَجَاءٍ، أَوِ الْتَفَتَ إِلَى عَطَاءٍ. أَيْ يَغَارُ عَلَى بَصِيرَةٍ غَطَّاهَا سِتْرٌ أَوْ حِجَابٌ. فَإِنَّ الْغَيْنَ بِمَنْزِلَةِ الْغِطَاءِ

فصل منزلة الشوق

وَالْحِجَابِ. وَهُوَ غِطَاءٌ رَقِيقٌ جِدًّا. وَفَوْقَهُ الْغَيْمُ وَهُوَ لِعُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفَوْقَهُ الرَّيْنُ وَالرَّانُ وَهُوَ لِلْكُفَّارِ. وَقَوْلُهُ " وَسِرٍّ غَشِيَهُ رَيْنٌ " أَيْ حِجَابٌ أَغْلَظُ مِنَ الْغَيْمِ الْأَوَّلِ. وَالسِّرُّ هَاهُنَا: إِمَّا اللَّطِيفَةُ الْمُدْرَكَةُ مِنَ الرُّوحِ، وَإِمَّا الْحَالُ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَإِذَا غَشِيَهُ رَيْنُ النَّفْسِ وَالطَّبِيعَةِ اسْتَغَاثَ صَاحِبُهُ، كَمَا يَسْتَغِيثُ الْمُعَذَّبُ فِي عَذَابِهِ، غَيْرَةً عَلَى سِرِّهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَنَفَسٌ عَلِقَ بِرَجَاءٍ، وَالْتَفَتَ إِلَى عَطَاءٍ. يَعْنِي: أَنَّ صَاحِبَ النَّفَسِ يَغَارُ عَلَى نَفَسِهِ إِذَا تَعَلَّقَ بِرَجَاءٍ مِنْ ثَوَابٍ مُنْفَصِلٍ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ. فَإِنَّ بَيْنَ النَّفَسَيْنِ كَمَا بَيْنَ مُتَعَلَّقِهِمَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " أَوِ الْتَفَتَ إِلَى عَطَاءٍ " يَعْنِي: أَنَّهُ يَلْتَفِتُ إِلَى عَطَاءِ مَنْ دُونِ اللَّهِ فَيَرْضَى بِهِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا يَلْتَفِتَ إِلَّا إِلَى الْمُعْطِي الْغَنِيِّ الْحَمِيدِ. وَهُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الشَّوْقِ] [حَقِيقَةُ الشَّوْقِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الشَّوْقِ وَمِنْ مَنَازِلِ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " مَنْزِلَةُ الشَّوْقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5] . قِيلَ: هَذَا تَعْزِيَةٌ لِلْمُشْتَاقِينَ، وَتَسْلِيَةٌ لَهُمْ. أَيْ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَائِي فَهُوَ مُشْتَاقٌ إِلَيَّ. فَقَدْ أَجَّلْتُ لَهُ أَجَلًا يَكُونُ عَنْ قَرِيبٍ. فَإِنَّهُ آتٍ لَا مَحَالَةَ. وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ. وَفِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى. وَهِيَ تَعْلِيلُ الْمُشْتَاقِينَ بِرَجَاءِ اللِّقَاءِ.

فصل الشوق أثر من آثار المحبة

لَوْلَا التَّعَلُّلُ بِالرَّجَاءِ لَقُطِّعَتْ ... نَفْسُ الْمُحِبِّ صَبَابَةً وَتَشَوُّقًا وَلَقَدْ يَكَادُ يَذُوبُ مِنْهُ قَلْبُهُ ... مِمَّا يُقَاسِي حَسْرَةً وَتَحَرُّقَا حَتَّى إِذَا رَوْحُ الرَّجَاءِ أَصَابَهُ ... سَكَنَ الْحَرِيقُ إِذَا تَعَلَّلَ بِاللِّقَا وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي دُعَائِهِ «أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ» . قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَائِمَ الشَّوْقِ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ. لَمْ يَسْكُنْ شَوْقُهُ إِلَى لِقَائِهِ قَطُّ. وَلَكِنَّ الشَّوْقَ مَائَةُ جُزْءٍ. تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لَهُ. وَجُزْءٌ مَقْسُومٌ عَلَى الْأُمَّةِ. فَأَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجُزْءُ مُضَافًا إِلَى مَا لَهُ مِنَ الشَّوْقِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الشَّوْقُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمَحَبَّةِ] فَصْلٌ وَالشَّوْقُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمَحَبَّةِ، وَحُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِهَا. فَإِنَّهُ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَقِيلَ: هُوَ اهْتِيَاجُ الْقُلُوبِ إِلَى لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ. وَقِيلَ: هُوَ احْتِرَاقُ الْأَحْشَاءِ. وَمِنْهَا يَتَهَيَّجُ وَيَتَوَلَّدُ، وَيُلْهِبُ الْقُلُوبَ وَيُقَطِّعُ الْأَكْبَادَ. وَالْمَحَبَّةُ أَعْلَى مِنْهُ. لِأَنَّ الشَّوْقَ عَنْهَا يَتَوَلَّدُ، وَعَلَى قَدْرِهَا يَقْوَى وَيَضْعُفُ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: عَلَامَةُ الشَّوْقِ فِطَامُ الْجَوَارِحِ عَنِ الشَّهَوَاتِ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: عَلَامَتُهُ حُبُّ الْمَوْتِ مَعَ الرَّاحَةِ وَالْعَافِيَةِ، كَحَالِ يُوسُفَ لَمَّا أُلْقِيَ فِي الْجُبِّ لَمْ يَقُلْ تَوَفَّنِي، وَلَمَّا أُدْخِلَ السِّجْنَ لَمْ يَقُلْ تَوَفَّنِي، وَلَمَّا تَمَّ لَهُ الْأَمْرُ وَالْأَمْنُ وَالنِّعْمَةُ، قَالَ: " تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ". قَالَ ابْنُ خَفِيفٍ: الشَّوْقُ ارْتِيَاحُ الْقُلُوبِ بِالْوَجْدِ، وَمَحَبَّةُ اللِّقَاءِ بِالْقُرْبِ. وَقِيلَ: هُوَ لَهَبٌ يَنْشَأُ بَيْنَ أَثْنَاءِ الْحَشَا، يَسْنَحُ عَنِ الْفُرْقَةِ. فَإِذَا وَقَعَ اللِّقَاءُ طُفِئَ.

فصل الشوق يراد به حركة القلب واهتياجه للقاء المحبوب

قُلْتُ: هَذِهِ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ. وَهِيَ: أَنَّ الشَّوْقَ هَلْ يَزُولُ بِاللِّقَاءِ أَمْ لَا؟ وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَزُولُ بِاللِّقَاءِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَزُولُ بِاللِّقَاءِ. لِأَنَّ الشَّوْقَ هُوَ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَى مَحْبُوبِهِ. فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ، صَارَ مَكَانَ الشَّوْقِ قُرَّةُ عَيْنِهِ بِهِ. وَهَذِهِ الْقُرَّةُ تُجَامِعُ الْمَحَبَّةَ وَلَا تُنَافِيهَا. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْقَلْبِ مُشَاهَدَةَ الْمَحْبُوبِ، لَمْ يَطْرُقْهُ الشَّوْقُ. وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: هَلْ تَشْتَاقُ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا. إِنَّمَا الشَّوْقُ إِلَى غَائِبٍ، وَهُوَ حَاضِرٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يَزِيدُ الشَّوْقُ بِالْقُرْبِ وَالْوُصُولِ، وَلَا يَزُولُ. لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْوُصُولِ عَلَى الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ، وَبَعْدَهُ: قَدْ صَارَ عَلَى الْعِيَانِ وَالشُّهُودِ. وَلِهَذَا قِيلَ: وَأَبْرَحُ مَا يَكُونُ الشَّوْقُ يَوْمًا ... إِذَا دَنَتِ الْخِيَامُ مِنَ الْخِيَامِ. قَالَ الْجُنَيْدُ: سَمِعْتُ السَّرِيَّ يَقُولُ: الشَّوْقُ أَجَلُّ مَقَامٍ لِلْعَارِفِ إِذَا تَحَقَّقَ فِيهِ. وَإِذَا تَحَقَّقَ فِي الشَّوْقِ لَهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يَشْغَلُهُ عَمَّنْ يَشْتَاقُ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا: فَأَهْلُ الْجَنَّةِ دَائِمًا فِي شَوْقٍ إِلَى اللَّهِ، مَعَ قُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُ. قَالُوا: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الشَّوْقَ يَكُونُ حَالَ اللِّقَاءِ أَعْظَمَ: أَنَّا نَرَى الْمُحِبَّ يَبْكِي عِنْدَ لِقَاءِ مَحْبُوبِهِ. وَذَلِكَ الْبُكَاءُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ شِدَّةِ شَوْقِهِ إِلَيْهِ، وَوَجْدِهِ بِهِ، وَلِذَلِكَ يَجِدُ عِنْدَ لِقَائِهِ نَوْعًا مِنَ الشَّوْقِ لَمْ يَجِدْهُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ عَنْهُ. [فَصْلٌ الشَّوْقُ يُرَادُ بِهِ حَرَكَةُ الْقَلْبِ وَاهْتِيَاجُه لِلِقَاءِ الْمَحْبُوبِ] فَصْلٌ النِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الشَّوْقَ يُرَادُ بِهِ: حَرَكَةُ الْقَلْبِ وَاهْتِيَاجُهُ لِلِقَاءِ الْمَحْبُوبِ. فَهَذَا يَزُولُ بِاللِّقَاءِ. وَلَكِنْ يَعْقُبُهُ شَوْقٌ آخَرُ أَعْظَمُ مِنْهُ، تُثِيرُهُ حَلَاوَةُ الْوَصْلِ وَمُشَاهَدَةُ جَمَالِ الْمَحْبُوبِ. فَهَذَا يَزِيدُ بِاللِّقَاءِ وَالْقُرْبِ وَلَا يَزُولُ. وَالْعِبَارَةُ عَنْ هَذَا: وُجُودُهُ. وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ: حُصُولُهُ. وَبَعْضُهُمْ سَمَّى النَّوْعَ الْأَوَّلَ: شَوْقًا. وَالثَّانِيَ: اشْتِيَاقًا.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: سَمِعْتُ الْأُسْتَاذَ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّوْقِ وَالِاشْتِيَاقِ. وَيَقُولُ: الشَّوْقُ يَسْكُنُ بِاللِّقَاءِ. وَالِاشْتِيَاقُ لَا يَزُولُ بِاللِّقَاءِ. قَالَ: وَفِي مَعْنَاهُ أَنْشَدُوا: مَا يَرْجِعُالطَّرْفُ عَنْهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ... حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِالطَّرْفُ مُشْتَاقَا وَقَالَ النَّصْرَابَاذِيُّ: لِلْخَلْقِكُلِّهِمْ مَقَامُ الشَّوْقِ. وَلَيْسَ لَهُمْ مَقَامُ الِاشْتِيَاقِ. وَمَنْ دَخَلَ فِي حَالِ الِاشْتِيَاقِ هَامَ فِيهِ حَتَّى لَا يُرَى لَهُ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا قَرَارٌ. قَالَ الدَّقَّاقُ - فِي قَوْلِ مُوسَى {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] قَالَ: مَعْنَاهُ شَوْقًا إِلَيْكَ. فَسَتَرَهُ بِلَفْظِ الرِّضَا. وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الشَّوْقِ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ يَتَحَسَّوْنَ حَلَاوَةَ الْقُرْبِ عِنْدَ وُرُودِهِ - لِمَا قَدْ كُشِفَ لَهُمْ مِنْ رُوحِ الْوُصُولِ - أَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ. فَهُمْ فِي سَكَرَاتِهِ فِي أَعْظَمِ لَذَّةٍ وَحَلَاوَةٍ. وَقِيلَ: مَنِ اشْتَاقَ إِلَى اللَّهِ اشْتَاقَ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ. كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا أَدْخُلُ فِي الشَّوْقِ وَالْأَشْيَاءُ تَشْتَاقُ إِلَيَّ. وَأَتَأَخَّرُ عَنْ جَمِيعِهَا. وَفِي مِثْلِ هَذَا قِيلَ: إِذَا اشْتَاقَتِ الْخَيْلُ الْمَنَاهِلَ أَعْرَضَتْ ... عَنِ الْمَاءِ فَاشْتَاقَتْ إِلَيْهَا الْمَنَاهِلُ وَكَانَتْ عَجُوزٌ مُغَيَّبَةٌ. فَقَدِمَ غَائِبُهَا مِنَ السَّفَرِ. فَفَرِحَ بِهِ أَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ، وَقَعَدَتْ هِيَ تَبْكِي. فَقِيلَ لَهَا: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَتْ: ذَكَّرَنِي قُدُومُ هَذَا الْفَتَى يَوْمَ الْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. يَا مَنْ شَكَا شَوْقُهُ مِنْ طُولِ فُرْقَتِهِ ... اصْبِرْ لَعَلَّكَ تَلْقَى مَنْ تُحِبُّ غَدَا وَقِيلَ: خَرَجَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمًا إِلَى الصَّحْرَاءِ مُنْفَرِدًا. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: مَا لِي أَرَاكَ مُنْفَرِدًا؟ فَقَالَ: إِلَهِي اسْتَأْثَرَ شَوْقِي إِلَى لِقَائِكَ عَلَى قَلْبِي. فَحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ

فصل الشوق هبوب القلب إلى غائب

صُحْبَةِ الْخَلْقِ. فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ. فَإِنَّكَ إِنْ أَتَيْتَنِي بِعَبْدٍ آبِقٍأُثْبِتْكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ جَهْبَذًا. [فَصْلٌ الشَّوْقُ هُبُوبُ الْقَلْبِ إِلَى غَائِبٍ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ رَحِمَهُ اللَّهُ: الشَّوْقُ: هُبُوبُ الْقَلْبِ إِلَى غَائِبٍ. وَفِي مَذْهَبِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ: عِلَّةُ الشَّوْقِ عَظِيمَةٌ. فَإِنَّ الشَّوْقَ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى الْغَائِبِ. وَمَذْهَبُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ: إِنَّمَا قَامَ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ. وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ يَنْطِقِ الْقُرْآنُ بِاسْمِهِ. قُلْتُ: هُوَصَدَّرَ الْبَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5] فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الرَّجَاءَ شَوْقًا بِلِسَانِ الِاعْتِبَارِ لَا بِلِسَانِ التَّفْسِيرِ. أَوْ أَنَّ دَلَالَةَ الرَّجَاءِ عَلَى الشَّوْقِ بِاللُّزُومِ، لَا بِالتَّضَمُّنِ وَلَا بِالْمُطَابَقَةِ. قَوْلُهُ " هُبُوبُ الْقَلْبِ إِلَى غَائِبٍ " يَعْنِي: سَفَرَهُ إِلَيْهِ، وَهُوِيَّهُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الشَّوْقِ: فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ الشَّوْقَ فِي حَالِ اللِّقَاءِ أَكْمَلَ مِنْهُ فِي حَالِ الْمَغِيبِ. فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ: لَا عِلَّةَ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ سَفَرَ الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ عَنْهُ، فَعَلَى قَوْلِهِ: يَجِيءُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ. وَوَجْهُهُ مَفْهُومٌ. وَقَوْلُهُ " فَإِنَّ مَذْهَبَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ " - الَّذِي هُوَ الْفَنَاءُ - يُرِيدُ: أَنَّ الْفَنَاءَ إِنَّمَا قَامَ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ. فَإِنَّ بِدَايَتَهُ - كَمَا قَرَّرَهُ هُوَ - الْمَحَبَّةُ الَّتِي هِيَ نِهَايَةُ مَقَامَاتِ الْمُرِيدِينَ. وَالْفَنَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ. وَمَعَ الْمُشَاهَدَةِ لَا عَمَلَ لِلشَّوْقِ. فَيُقَالُ: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ لَا تُزِيلُ الشَّوْقَ بَلْ تَزِيدُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا مُشَاهَدَةَ أَكْمَلُ مِنْ مُشَاهَدَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْمَزِيدِ - وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ - أَشْوَقُ شَيْءٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ هُمْ أَشْوَقُ شَيْءٍ إِلَى رُؤْيَةِ

رَبِّهِمْ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ تَعَالَى وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ «إِنَّ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً: مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» . وَمَعْلُومٌ قَطْعًا: أَنَّ شَوْقَ هَذَا إِلَى الرُّؤْيَةِ قَبْلَ حُصُولِهَا أَعْظَمُ شَوْقٍ يُقَدَّرُ، وَحُصُولُ الْمُشَاهَدَةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ أَتَمُّ مِنْهَا لِأَهْلِ الدُّنْيَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا سَبِيلَ فِي الدُّنْيَا إِلَى مُشَاهَدَةٍ تُزِيلُ الشَّوْقَ أَلْبَتَّةَ. وَمَنِ ادَّعَى هَذَا فَقَدَ كَذَبَ وَافْتَرَى. فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ. كَلِيمِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُ. فَمَا هَذِهِ الْمُشَاهَدَةُ الَّتِي مَبْنَى مَذْهَبِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ عَلَيْهَا. بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مَعَهَا شَوْقٌ؟ أَهِيَ كَمَالُ الْمُشَاهَدَةِ عِيَانًا وَجَهْرَةً؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. أَمْ نَوْعٌ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْقَلْبِ لِمَعْرُوفِهِ، مَعَ اقْتِرَانِهَا بِالْحُجُبِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ؟ فَهَلْ تَمْنَعُ هَذِهِ الْمُشَاهَدَةُ الشَّوْقَ إِلَى كَمَالِهَا وَتَمَامِهَا؟ وَهَلِ الْأَمْرُ إِلَّا بِالْعَكْسِ فِي الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَالْحَقِيقَةِ. لِأَنَّ مَنْ شَاهَدَ مَحْبُوبَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. كَانَ شَوْقُهُ إِلَى كَمَالِ مُشَاهَدَتِهِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ. وَتَكُونُ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةُ الْجُزْئِيَّةُ سَبَبًا لِاشْتِيَاقِهِ إِلَى كَمَالِهَا وَتَمَامِهَا. فَأَيْنَ الْعِلَّةُ فِي الشَّوْقِ؟ وَأَيْنَ الْمُشَاهَدَةُ الْمَانِعَةُ مِنَ الشَّوْقِ؟ وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ ظَاهِرٌ. وَمَنْ نَازَعَ فِيهِ كَانَ مُكَابِرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل درجات الشوق

[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الشَّوْقِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى شَوْقُ الْعَابِدِ إِلَى الْجَنَّةِ] فَصْلٌ قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: شَوْقُ الْعَابِدِ إِلَى الْجَنَّةِ، لِيَأْمَنَ الْخَائِفُ وَيَفْرَحَ الْحَزِينُ. وَيَظْفَرَ الْآمِلُ. يَعْنِي: شَوْقَ الْعَابِدِ إِلَى الْجَنَّةِ فِيهِ هَذِهِ الْحِكَمُ الثَّلَاثُ. أَحَدُهَا: حُصُولُ الْأَمْنِ الْبَاعِثِ عَلَى الْأَمَلِ. فَإِنَّ الْخَوْفَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الْأَمْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَنْبَعِثُ صَاحِبُهُ لِعَمَلٍ أَلْبَتَّةَ إِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ أَمَلٌ. فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْهُ قُطِعَ وَصَارَ قَنُوطًا. الثَّانِي: فَرَحُ الْحَزِينِ. فَإِنَّ الْحُزْنَ الْمُجَرَّدَ أَيْضًا إِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الْفَرَحُ قَتَلَ صَاحِبَهُ. فَلَوْلَا رُوحُ الْفَرَحِ لَتَعَطَّلَتْ قُوَى الْحَزِينِ وَقَعَدَ حُزْنُهُ بِهِ، وَلَكِنْ إِذَا قَعَدَ بِهِ الْحُزْنُ قَامَ بِهِ رُوحُ الْفَرَحِ. الثَّالِثُ: رُوحُ الظَّفَرِ. فَإِنَّ الْآمِلَ إِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ رُوحُ الظَّفَرِ مَاتَ أَمَلُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ شَوْقٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: شَوْقٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ زَرَعَهُ الْحُبُّ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَى حَافَّاتِ الْمِنَنِ فَعَلِقَ قَلْبُهُ بِصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ فَاشْتَاقَ إِلَى مُعَايَنَةِ لِطَائِفِ كَرَمِهِ وَآيَاتِ بِرِّهِ وَأَعْلَامِ فَضْلِهِ. وَهَذَا شَوْقٌ تَغْشَاهُ الْمَبَارُّ، وَتُخَالِجُهُ الْمَسَارُّ، وَيُقَاوِمُهُ الِاصْطِبَارُ. الشَّوْقُ إِلَى اللَّهِ لَا يُنَافِي الشَّوْقَ إِلَى الْجَنَّةِ. فَإِنَّ أَطْيَبَ مَا فِي الْجَنَّةِ: قُرْبُهُ تَعَالَى، وَرُؤْيَتُهُ، وَسَمَاعُ كَلَامِهِ وَرِضَاهُ. نَعَمْ. الشَّوْقُ إِلَى مُجَرَّدِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْحُورِ الْعِينِ فِي الْجَنَّةِ نَاقِصٌ جِدًّا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَوْقِ الْمُحِبِّينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. بَلْ لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ. وَهَذَا الشَّوْقُ دَرَجَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: شَوْقٌ زَرَعَهُ الْحُبُّ الَّذِي سَبَبُهُ الْإِحْسَانُ وَالْمِنَّةُ. وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: يَنْبُتُ عَلَى حَافَّاتِ الْمِنَنِ. فَسَبَبُهُ مُطَالَعَةُ مِنَّةِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَنْزِلَةِ الْمَحَبَّةِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ

فصل الدرجة الثالثة الشوق الخالص

أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ مَحَبَّةِ الْإِحْسَانِ وَالْآلَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ " تَنْبُتُ عَلَى حَافَّاتِ الْمِنَنِ " أَيْ جَوَانِبِهِ: إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ تَمَكُّنِهَا وَقُوَّتِهَا، وَأَنَّهَا مِنْ نَبَاتِ الْحَافَّاتِ الَّتِي هِيَ جَوَانِبُ الْمِنَنِ. لَا مِنْ نَبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَقَوْلُهُ " فَعَلِقَ قَلْبُهُ بِصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ " يَعْنِي الصِّفَاتِ الْمُخْتَصَّةَ بِالْمِنَنِ وَالْإِحْسَانِ. كَالْبَرِّ وَالْمَنَّانِ، وَالْمُحْسِنِ، وَالْجَوَادِ، وَالْمُعْطِي، وَالْغَفُورِ، وَنَحْوِهَا. وَقَوْلُهُ " الْمُقَدَّسَةُ " يَعْنِي الْمُطَهَّرَةَ الْمُنَزَّهَةَ عَنْ تَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ وَتَشْبِيهِ الْمُمَثِّلِينَ وَتَعَطُّلِ الْمُعَطِّلِينَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ مُرَادَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْخَاصَّةُ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالصِّفَاتِ الْعَامَّةِ: إِنَّمَا يَكُونُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ ثَمَرَةَ هَذَا التَّعَلُّقِ شَوْقَ الْعَبْدِ إِلَى مُعَايَنَةِ لَطَائِفِ كَرَمِ الرَّبِّ وَمِنَنِهِ وَإِحْسَانِهِ وَآيَاتِ بِرِّهِ. وَهِيَ عَلَامَاتُ بِرِّهِ بِالْعَبْدِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ (أَعْلَامُ فَضْلِهِ) وَهُوَ مَا يُفْضِلُ عَلَيْهِ بِهِ، وَيُفَضِّلُهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. قَوْلُهُ " وَهَذَا شَوْقٌ تَغْشَاهُ الْمَبَارُّ " يَعْنِي: أَنَّهُ شَوْقٌ مَعْلُولٌ. لَيْسَ خَالِصًا لِذَاتِ الْمَحْبُوبِ. بَلْ لِمَا يَنَالُ مِنْهُ مِنَ الْمَبَارِّ " فَقَدْ غَشِيَتْهُ " أَيْ أَدْرَكَتْهُ الْمَبَارُّ. قَوْلُهُ " وَتُخَالِجُهُ الْمَسَارُّ " أَيْ تَجَاذَبُهُ. فَإِنَّ الْمُخَالَجَةَ هِيَ الْمُجَاذَبَةُ. فَإِذَا خَالَطَ هَذَا الشَّوْقَ الْفَرَحُ: كَانَ مَمْزُوجًا بِنَوْعٍ مِنَ الْحَظِّ. وَقَوْلُهُ " وَيُقَاوِمُهُ الِاصْطِبَارُ " أَيْ أَنَّ صَاحِبَهُ يَقْوَى عَلَى الصَّبْرِ، فَيُقَاوِمُ صَبْرُهُ شَوْقَهُ وَلَا يَغْلِبُهُ، بِخِلَافِ الشَّوْقِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الشَّوْقُ الْخَالِصُ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: نَارٌ أَضْرَمَهَا صَفْوُ الْمَحَبَّةِ، فَنَغَّصَتِ الْعَيْشَ. وَسَلَبَتِ السَّلْوَةُ. وَلَمْ يُنَهْنِهْهَا مَعْزًى دُونَ اللِّقَاءِ. يُرِيدُ: أَنَّ الشَّوْقَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ: شَبِيهٌ بِالنَّارِ الَّتِي أَضْرَمَهَا صَفْوُ الْمَحَبَّةِ. وَهُوَ خَالِصُهَا. وَشَبَّهَهُ بِالنَّارِ لِالْتِهَابِهِ فِي الْأَحْشَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ " صَفْوُ الْمَحَبَّةِ " إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مَحَبَّةٌ لَمْ تَكُنْ لِأَجْلِ الْمِنَّةِ وَالنِّعَمِ. وَلَكِنْ مَحَبَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ.

فصل القلق

قَوْلُهُ " فَنَغَّصَتِ الْعَيْشَ " أَيْ مَنَعَتْ صَاحِبَهَا السُّكُونَ إِلَى لَذِيذِ الْعَيْشِ. وَ " التَّنْغِيصُ " قَرِيبٌ مِنَ التَّكْدِيرِ. قَوْلُهُ " وَسَلَبَتِ السَّلْوَةَ " أَيْ نَهَبَتِ السُّلُوَّ وَأَخَذَتْهُ قَهْرًا. وَ " السَّلْوَةُ " هِيَ الْخَلَاصُ مِنْ كَرْبِ الْمَحَبَّةِ وَإِلْقَاءُ حِمْلِهَا عَنِ الظَّهْرِ. وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْمَحْبُوبِ تَنَاسِيًا. وَقَوْلُهُ " لَمْ يُنَهْنِهْهَا مَعْزًى دُونَ اللِّقَاءِ " أَيْ لَمْ يَكْفِهَا وَيَرُدَّهَا قَرَارٌ دُونَ لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ. وَهَذِهِ لَا يُقَاوِمُهَا الِاصْطِبَارُ. لِأَنَّهُ لَا يَكُفُّهَا دُونَ لِقَاءِ مَنْ يُحِبُّ قَرَارٌ. [فَصْلٌ الْقَلَقُ] [حَقِيقَةُ الْقَلَقِ] فَصْلٌ الْقَلَقُ وَقَدْ يَقْوَى هَذَا الشَّوْقُ، وَيَتَجَرَّدُ عَنِ الصَّبْرِ. فَيُسَمَّى قَلَقًا وَبِذَلِكَ سَمَّاهُ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى - حَاكِيًا عَنْ كَلِيمِهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] فَكَأَنَّهُ فَهِمَ: أَنَّ عَجَلَتَهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَيْهَا الْقَلَقُ. وَهُوَ تَجْرِيدُ الشَّوْقِ لِلِقَائِهِ وَمِيعَادِهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الْحَامِلَ لِمُوسَى عَلَى الْعَجَلَةِ: هُوَ طَلَبُ رِضَا رَبِّهِ، وَأَنَّ رِضَاهُ فِي الْمُبَادَرَةِ إِلَى أَوَامِرِهِ، وَالْعَجَلَةِ إِلَيْهَا. وَلِهَذَا احْتَجَّ السَّلَفُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ. سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ يَذْكُرُ ذَلِكَ. قَالَ: إِنَّ رِضَا الرَّبِّ فِي الْعَجَلَةِ إِلَى أَوَامِرِهِ. ثُمَّ حَدَّهُ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ بِأَنَّهُ تَجْرِيدُ الشَّوْقِ بِإِسْقَاطِ الصَّبْرِ أَيْ تَخَلُّصِهِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ بِحَيْثُ يَسْقُطُ مَعَهُ الصَّبْرُ، فَإِنْ قَارَنَهُ اصْطِبَارٌ فَهُوَ شَوْقٌ. [دَرَجَاتُ الْقَلَقِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى قَلَقٌ يُضَيِّقُ الْخُلُقَ وَيُبَغِّضُ الْخَلْقَ وَيُلَذِّذُ الْمَوْتَ] ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى: قَلَقٌ يُضَيِّقُ الْخُلُقَ، وَيُبَغِّضُ الْخَلْقَ. وَيُلَذِّذُ الْمَوْتَ. يَعْنِي: يَضِيقُ خُلُقُ صَاحِبِهِ عَنِ احْتِمَالِ الْأَغْيَارِ. فَلَا يُبْقِي فِيهِ اتِّسَاعًا لِحَمْلِهِمْ، فَضْلًا عَنْ تَقْيِيدِهِمْ لَهُ، وَتَعُوقَهُ بِأَنْفَاسِهِمْ. وَ " يُبْغِضُ الْخَلْقَ " يَعْنِي: لَا شَيْءَ أَبْغَضَ إِلَى صَاحِبِهِ مِنِ اجْتِمَاعِهِ بِالْخَلْقِ. لِمَا

فصل الدرجة الثانية قلق يغالب العقل ويخلي السمع ويطاول الطاقة

فِي ذَلِكَ مِنَ التَّنَافُرِ بَيْنَ حَالِهِ وَبَيْنَ خُلْطَتِهِمْ. وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَقَارِبِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: كَانَ فِي بِدَايَةِ أَمْرِهِ يَخْرُجُ أَحْيَانًا إِلَى الصَّحْرَاءِ يَخْلُو عَنِ النَّاسِ، لِقُوَّةِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ. فَتَبِعْتُهُ يَوْمًا فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ. ثُمَّ جَعَلَ يَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ - وَهُوَ لِمَجْنُونِ لَيْلَى مِنْ قَصِيدَتِهِ الطَّوِيلَةِ -: وَأَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْبُيُوتِ لَعَلَّنِي ... أُحَدِّثُ عَنْكَ النَّفْسَ بِالسِّرِّ خَالِيًا وَصَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ: إِنْ لَمْ يَرُدَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى الْخَلْقِ بِتَثْبِيتٍ وَقُوَّةٍ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى مُخَالَطَتِهِمْ. قَوْلُهُ " وَيُلَذِّذُ الْمَوْتَ " فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَرْجُو فِيهِ لِقَاءَ مَحْبُوبِهِ. فَإِذَا ذَكَرَ الْمَوْتَ الْتَذَّ بِهِ، كَمَا يَلْتَذُّ الْمُسَافِرُ بِتَذَكُّرِ قُدُومِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَأَحْبَابِهِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ قَلَقٌ يُغَالِبُ الْعَقْلَ وَيُخَلِّي السَّمْعَ وَيُطَاوِلُ الطَّاقَةَ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: قَلَقٌ يُغَالِبُ الْعَقْلَ، وَيُخَلِّي السَّمْعَ، وَيُطَاوِلُ الطَّاقَةَ. أَيْ يَكَادُ يَقْهَرُ الْعَقْلَ وَيَغْلِبُهُ. فَهُوَ وَالْعَقْلُ تَارَةً وَتَارَةً. وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ الشُّهُودِ لَمْ يَصْطَلِمْهُ. فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَصْطَلِمُهُ إِلَّا الشُّهُودُ. وَلِذَلِكَ قَالَ: يُغَالِبُ، وَلَمْ يَقُلْ يَغْلِبُ. وَأَمَّا " إِخْلَاؤُهُ السَّمْعَ " فَهُوَ يَتَضَمَّنُ إِخْلَاءَهُ مِنْ شَيْءٍ، وَإِخْلَاءَهُ لِشَيْءٍ. فَيُخْلِّيهِ مِنِ اسْتِمَاعِهِ ذِكْرَ الْغَيْرِ، وَيُخَلِّيهِ لِاسْتِمَاعِهِ أَوْصَافَ الْمَحْبُوبِ وَذِكْرَهُ وَحَدِيثَهُ. وَقَدْ يَقْوَى إِلَى أَنْ يُبْعِدَ بَيْنَ قَلْبِ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ إِدْرَاكِ الْحَوَاسِّ؛ لِانْقِهَارِ الْحِسِّ لِسُلْطَانِ الْقَلَقِ. قَوْلُهُ " وَيُطَاوِلُ الطَّاقَةَ " يَعْنِي: يُصَابِرُهَا وَيُقَاوِمُهَا. فَلَا تَقْدِرُ طَاقَةُ الِاصْطِبَارِ عَلَى دَفْعِهِ وَرَدِّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل الدرجة الثالثة قلق لا يرحم أبدا ولا يقبل أمدا ولا يبقي أحدا

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ قَلَقٌ لَا يَرْحَمُ أَبَدًا وَلَا يَقْبَلُ أَمَدًا وَلَا يُبْقِي أَحَدًا] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: قَلَقٌ لَا يَرْحَمُ أَبَدًا. وَلَا يَقْبَلُ أَمَدًا، وَلَا يُبْقِي أَحَدًا. يُرِيدُ: أَنَّ هَذَا الْقَلَقَ لَهُ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ. لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ عَنْ شُهُودٍ. فَإِذَا عَلِقَ بِالْقَلْبِ لَمْ يُبْقِ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ فِي فَنَاءِ الشُّهُودِ. " وَلَا يَقْبَلُ أَمَدًا " أَيْ لَا يَقْبَلُ حَدًّا وَمِقْدَارًا يَقِفُ عِنْدَهُ. وَيَنْقَضِي بِهِ، كَمَا يَنْقَضِي ذُو الْأَمَدِ. فَإِنَّهُ حَاكِمٌ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ، مَالِكٌ لِلْقَلْبِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ. " وَلَا يُبْقِي أَحَدًا " أَيْ يُلْقِي صَاحِبَهُ فِي الشُّهُودِ الَّذِي تَفْنَى فِيهِ الرُّسُومُ وَتَضْمَحِلُّ. فَلَا يُبْقِي مَعَهُ عَلَى أَحَدٍ رَسْمَهُ حَتَّى يُفْنِيَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ت [فَصْلٌ الْعَطَشُ] [حَقِيقَةُ الْعَطَشِ] فَصْلٌ الْعَطَشُ ثُمَّ يَقْوَى هَذَا الْقَلَقُ وَيَتَزَايَدُ حَتَّى يُورِثَ الْقَلْبَ حَالَةً شَبِيهَةً بِشِدَّةِ ظَمَإِ الصَّادِي الْحَرَّانِ إِلَى الْمَاءِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا صَاحِبُ الْمَنَازِلِ الْعَطَشَ، وَاسْتُشْهِدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْخَلِيلِ {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] كَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ إِشَارَةِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لِشِدَّةِ عَطَشِهِ إِلَى لِقَاءِ مَحْبُوبِهِ - لَمَّا رَأَى الْكَوْكَبَ - قَالَ: هَذَا رَبِّي. فَإِنَّ الْعَطْشَانَ إِذَا رَأَى السَّرَابَ ذَكَرَ بِهِ الْمَاءَ. فَاشْتَدَّ عَطَشُهُ إِلَيْهِ. وَهَذَا لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ قَطْعًا. وَإِنَّمَا الْقَوْمُ مُولَعُونَ بِالْإِشَارَاتِ. وَإِلَّا فَالْآيَةُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ. أَيْ أَهَذَا رَبِّي؟ ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

فصل درجات العطش

وَقِيلَ: إِنَّهَا عَلَى وَجْهِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى قَوْمِهِ. فَتَصَوَّرَ بِصُورَةِ الْمُوَافِقِ، لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ. ثُمَّ تَوَسَّلَ بِصُورَةِ الْمُوَافَقَةِ إِلَى إِعْلَامِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْبُودُ نَاقِصًا آفِلًا. فَإِنَّ الْمَعْبُودَ الْحَقَّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَغِيبَ عَنْ عَابِدِيهِ وَخَلْقِهِ وَيَأْفُلُ عَنْهُمْ. فَإِنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِرُبُوبِيَّتِهِ لَهُمْ. أَوْ أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ مَرَاتِبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَعْبُودِ حَتَّى أَوْصَلَهُ الدَّلِيلُ إِلَى الَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. فَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَجْهَهُ حَنِيفًا مُوَحِّدًا، مُقْبِلًا عَلَيْهِ، مُعْرِضًا عَمَّا سِوَاهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْعَطَشِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى عَطَشُ الْمُرِيدِ إِلَى شَاهِدٍ يَرْوِيهِ] فَصْلٌ قَالَ: الْعَطَشُ: كِنَايَةٌ عَنْ غَلَبَةِ وَلُوعٍ بِمَأْمُولٍ. الْوَلُوعُ بِالشَّيْءِ: هُوَ التَّعَلُّقُ بِهِ بِصِفَةِ الْمَحَبَّةِ، مَعَ أَمَلِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ فِي حَدِّ الْوَلُوعِ: إِنَّهُ كَثْرَةُ تَرْدَادِ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ. كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ مُولَعٌ بِكَذَا، وَقَدْ أُولِعَ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ لُزُومُ الْقَلْبِ لِلشَّيْءِ. فَكَأَنَّهُ مِثْلُ: أُغْرِيَ بِهِ، فَهُوَ مُغْرًى. قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الْأُولَى: عَطَشُ الْمُرِيدِ إِلَى شَاهِدٍ يَرْوِيهِ. أَوْ إِشَارَةٍ تَشْفِيهِ. أَوْ عَطْفَةٍ تُؤْوِيهِ. وَلَمَّا كَانَ الْمُرِيدُ مَنْ أَهْلِ طَلَبِ الشَّوَاهِدِ عَلَى الِاعْتِبَارِ، وَمُثِيرِ الْعَزَمَاتِ، وَتَعَلُّقِ الْعُبَّادِ بِالْأَعْمَالِ. وَقَوْلُهُ " شَاهَدٌ يَرْوِيهِ " يَحْتَمِلُ: أَنَّهُ مِنَ الرِّوَايَةِ. أَيْ يَرْوِيهِ عَمَّنْ أَقَامَهُ لَهُ. فَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى شَوَاهِدِ الْعِلْمِ. فَهُوَ شَدِيدُ الْعَطَشِ إِلَى شَوَاهِدَ يَرْوِيهَا عَنِ الصَّادِقِينَ مِنْ أَهْلِ السُّلُوكِ، يَزْدَادُ بِهَا تَثْبِيتًا وَقُوَّةَ بَصِيرَةٍ. فَإِنَّ الْمُرِيدَ إِذَا تَجَدَّدَتْ لَهُ حَالَةٌ، أَوْ حَصَلَ لَهُ

فصل الدرجة الثانية عطش السالك إلى أجل يطويه

وَارِدٌ: اسْتَوْحَشَ مِنْ تَفَرُّدِهِ بِهَا. فَإِذَا قَامَ عِنْدَهُ بِمِثْلِهَا شَاهِدُ حَالٍ لِمُرِيدٍ آخَرَ صَادِقٍ، قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا: اسْتَأْنَسَ بِهَا أَعْظَمَ اسْتِئْنَاسٍ. وَاسْتَدَلَّ بِشَاهِدِ ذَلِكَ الْمُرِيدِ عَلَى صِحَّةِ شَاهِدِهِ. فَلِذَلِكَ يَشْتَدُّ عَطَشُهُ إِلَى شَاهِدٍ يَرْوِيهِ عَنِ الصَّادِقِينَ. وَيَحْتَمِلُ: أَنَّهُ مِنَ الرِّيِّ - فَيَكُونُ مَضْمُومَ الْيَاءِ - يَعْنِي: إِذَا حَصَلَ لَهُ الرِّيُّ بِذَلِكَ الشَّاهِدِ. وَنَزَلَ عَلَى قَلْبِهِ مَنْزِلَةَ الْمَاءِ الْبَارِدِ مِنَ الظَّمْآنِ. فَقَرَّرَ عِنْدَهُ صِحَّتَهُ، وَأَنَّهُ شَاهِدُ حَقٍّ. وَيُرَجِّحُ هَذَا: ذِكْرُ الرَّيِّ مَعَ الْعَطَشِ. وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ: ذِكْرُهُ لَفْظَةَ الرِّيِّ فِي قَوْلِهِ " أَوْ عَطْفَةٍ تَرْوِيهِ " وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ. قَوْلُهُ " أَوْ إِشَارَةٍ تَشْفِيهِ " أَيْ تَشْفِي قَلْبَهُ مِنْ عِلَّةٍ عَارِضَةٍ. فَإِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ - إِمَّا مِنْ صَادِقٍ مِثْلِهِ، أَوْ مِنْ عَالِمٍ، أَوْ مِنْ شَيْخِ مَسْلَكٍ، أَوْ مِنْ آيَةٍ فَهِمَهَا، أَوْ عِبْرَةٍ ظَفِرَ بِهَا -: اشْتَفَى بِهَا قَلْبُهُ. وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ. قَوْلُهُ " أَوْ إِلَى عَطْفَةٍ تَرْوِيهِ " أَيْ عَطْفَةٍ مِنْ جَانِبِ مَحْبُوبِهِ عَلَيْهِ، تَرْوِي لَهِيبَ عَطَشِهِ وَتُبَرِّدُهُ. وَلَا شَيْءَ أَرَوَى لِقَلْبِ الْمُحِبِّ مِنْ عَطْفِ مَحْبُوبِهِ عَلَيْهِ. وَلَا شَيْءَ أَشَدَّ لِلَهِيبِهِ وَحَرِيقِهِ مِنْ إِعْرَاضِ مَحْبُوبِهِ عَنْهُ. وَلِهَذَا كَانَ عَذَابُ أَهْلِ النَّارِ بِاحْتِجَابِ رَبِّهِمْ عَنْهُمْ: أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ. كَمَا أَنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ - بِرُؤْيَتِهِ تَعَالَى وَسَمَاعِ خِطَابِهِ وَرِضَاهُ وَإِقْبَالِهِ - أَعْظَمُ مِنْ نَعِيمِهِمُ الْجُسْمَانِيِّ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ عَطَشُ السَّالِكِ إِلَى أَجَلٍ يَطْوِيهِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: عَطَشُ السَّالِكِ إِلَى أَجَلٍ يَطْوِيهِ. وَيَوْمٍ يُرِيهِ مَا يُغْنِيهِ. وَمَنْزِلٍ يَسْتَرِيحُ فِيهِ. إِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْأَجَلِ الَّذِي يَطْوِيهِ: انْقِضَاءَ مُدَّةِ سِجْنِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ فِي الْبَدَنِ، حَتَّى تَصِلَ إِلَى رَبِّهَا وَتَلْقَاهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ. وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ: عَطَشَهُ إِلَى مَقْصُودِ السُّلُوكِ مِنْ وُصُولِهِ إِلَى مَحْبُوبِهِ وَقُرَّةِ عَيْنِهِ وَجَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ. فَهُوَ يَطْوِي مَرَاحِلَ سَيْرِهِ حَثِيثًا، لِيَصِلَ إِلَى هَذَا الْمَقْصُودِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ إِلَيْهِ سَيْرٌ آخَرُ وَرَاءَ هَذَا السَّيْرِ، مَعَ عَدَمِ مُفَارَقَتِهِ لَهُ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا وَصَلَ بِهِ إِلَيْهِ. فَلَوْ فَارَقَهُ لَانْقَطَعَ انْقِطَاعًا كُلِّيًّا. وَلَكِنْ يَبْقَى لَهُ سَيْرٌ، وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ، يَسْبِقُ بِهِ السُّعَاةَ.

فصل الدرجة الثالثة عطش المحب إلى جلوة ما دونها سحاب علة

وَيُرَجِّحُ هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ الْمُرِيدَ الصَّادِقَ لَا يُحِبُّ الْخُرُوجَ مِنَ الدُّنْيَا، حَتَّى يَقْضِيَ نَحْبَهُ، لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى انْقِضَائِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الدَّارِ. فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَضَى نَحْبَهُ: أَحَبَّ حِينَئِذٍ الْخُرُوجَ مِنْهَا. وَلَكِنْ لَا يَقْضِي نَحْبَهُ حَتَّى يُوَفِّيَ مَا عَلَيْهِ. وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: مُوفٍ قَدْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمُنْتَظِرٌ لِلْوَفَاءِ سَاعٍ فِيهِ حَرِيصٌ عَلَيْهِ، وَمُفَرِّطٌ فِي وَفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَوْلُهُ " وَيَوْمٍ يُرِيهِ مَا يُغْنِيهِ " أَيْ يَوْمٍ يَرَى فِيهِ مَا يُغْنِي قَلْبَهُ، وَيَسُدُّ فَاقَتَهُ مِنْ قُرَّةِ عَيْنِهِ بِمَطْلُوبِهِ وَمُرَادِهِ. قَوْلُهُ " وَمَنْزِلٍ يَسْتَرِيحُ فِيهِ " أَيْ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ السَّيْرِ، وَمَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الصَّادِقِينَ، يَسْتَرِيحُ فِيهِ قَلْبُهُ، وَيَسْكُنُ فِيهِ. وَيَخْلُصُ مِنْ تَلَوُّنِ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الْمَقَامَاتِ مَنَازِلُ وَالْأَحْوَالَ مَرَاحِلُ. فَصَاحِبُ الْحَالِ شَدِيدُ الْعَطَشِ إِلَى مَقَامٍ يَسْتَقِرُّ فِيهِ وَيَنْزِلُهُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ عَطَشُ الْمُحِبِّ إِلَى جَلْوَةٍ مَا دُونَهَا سَحَابُ عَلَّةٍ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: عَطَشُ الْمُحِبِّ إِلَى جَلْوَةٍ، مَا دُونَهَا سَحَابُ عَلَّةٍ. وَلَا يُغَطِّيهَا حِجَابُ تَفْرِقَةٍ. وَلَا يُعَرَّجُ دُونَهَا عَلَى انْتِظَارٍ. عَطَشُ الْمُحِبِّ فَوْقَ عَطَشِ الْمُرِيدِ وَالسَّالِكِ. وَإِنْ كَانَ كُلُّ مُحِبٍّ سَالِكًا وَكُلُّ مُرِيدٍ سَالِكًا. وَكُلُّ سَالِكٍ وَمُرِيدٍ مُحِبٌّ. لَكِنَّ خُصَّ الْمُحِبُّ بِهَذَا الِاسْمِ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْمَحَبَّةِ، وَرُسُوخِ قَلْبِهِ فِيهَا. وَالْمُرِيدُ وَالسَّالِكُ: يُشَمِّرَانِ إِلَى عِلْمِهِ الَّذِي رُفِعَ لَهُ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ. وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْأُولَى: لِأَهْلِ الْبِدَايَاتِ. وَالثَّانِيَةَ: لِلْمُتَوَسِّطِينَ. وَالثَّالِثَةَ: لِأَهْلِ النِّهَايَاتِ. وَقَوْلُهُ: عَطَشُ الْمُحِبِّ إِلَى جَلْوَةٍ، مَا دُونَهَا سَحَابٌ. يُرِيدُ بِالْجَلْوَةِ: اسْتِجْلَاءُ الْقَلْبِ لِصِفَاتِ الْمَحْبُوبِ وَمَحَاسِنِهِ، وَانْكِشَافُهَا لَهُ. وَقَوْلُهُ " مَا دُونَهَا سَحَابٌ " أَيْ لَا يَسْتُرُهَا شَيْءٌ مِنْ سُحُبِ النَّفْسِ. وَهِيَ سُحُبُ الْعِلَلِ الَّتِي هِيَ بَقَايَا فِي الْعَبْدِ، تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِجْلَائِهِ صِفَاتِ مَحْبُوبِهِ، وَتَعُوقُهُ عَنْهُ. فَمَهْمَا بَقِيَ فِي الْعَبْدِ بَقِيَّةٌ مِنْ نَفْسِهِ، فَهِيَ سَحَابٌ وَغَيْمٌ سَاتِرٌ عَلَى قَدْرِهِ. فَكَثِيفٌ وَرَقِيقٌ، وَبَيْنَ بَيْنَ.

قَوْلُهُ: " وَلَا يُغَطِّيهَا حِجَابٌ " الْحِجَابُ فِي لِسَانِ الطَّائِفَةِ: النَّفْسُ وَصِفَاتُهَا وَأَحْكَامُهَا. وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ مِنْ أَعْظَمِ الْحُجُبِ. بَلْ هِيَ الْحِجَابُ الْأَكْبَرُ، فَإِنَّ حِجَابَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَاتِهِ هُوَ " النُّورُ. لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " وَحِجَابُهُ مِنْ عَبْدِهِ: هُوَ نَفْسُهُ وَظُلْمَتُهُ، فَلَوْ كَشَفَ عَنْهُ هَذَا الْحِجَابَ لَوَصَلَ إِلَى رَبِّهِ. وَالْوُصُولُ عِنْدَ الْقَوْمِ: عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِفَاعِ هَذَا الْحِجَابِ وَزَوَالِهِ. فَالْحِجَابُ الَّذِي يَشْتَدُّ عَلَى الْمُحِبِّ، وَيَشْتَدُّ عَطَشُهُ إِلَى زَوَالِهِ: هُوَ حِجَابُ الظُّلْمَةِ وَالنَّفْسِ. وَهُوَ الْحِجَابُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ. وَأَمَّا الْحِجَابُ الَّذِي بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ - وَهُوَ حِجَابُ النُّورِ - فَلَا سَبِيلَ إِلَى كَشْفِهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَلْبَتَّةَ. وَلَا يَطْمَعُ فِي ذَلِكَ بَشَرٌ. وَلَمْ يُكَلِّمِ اللَّهُ بَشَرًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَهَذَا الْحِجَابُ كَاشِفٌ لِلْعَبْدِ، مُوصِلٌ لَهُ إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ الْقَوْمُ بِمَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ، وَالْأَوَّلُ سَاتِرٌ لِلْعَبْدِ، قَاطِعٌ لَهُ، حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِحْسَانِ وَحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ. وَالتَّفْرِقَةُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ حُجُبٌ، إِلَّا تَفْرِقَةً فِي اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَلِلَّهِ. فَإِنَّهَا لَا تَحْجُبُ الْعَبْدَ عَنْهُ. بَلْ تُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ. فَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَا يُغَطِّيهَا حِجَابُ تَفْرِقَةٍ، فَإِنَّ التَّفْرِقَةَ إِنَّمَا تَكُونُ حِجَابًا إِذَا كَانَتْ بِالنَّفْسِ وَلَهَا. قَوْلُهُ: وَلَا يُعَرَّجُ دُونَهَا عَلَى انْتِظَارٍ، يَعْنِي: لَا يُعَرِّجُ الْمُشَاهِدُ لِمَا يُشَاهِدُهُ عَلَى انْتِظَارِ أَمْرٍ آخَرَ وَرَاءَهَا. كَمَا يُعَرِّجُ الْمُحِبُّ الْمَحْجُوبَ عَلَى انْتِظَارِ زَوَالِ حِجَابِهِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مَشْهَدٌ تَامٌّ. لَا يَبْقَى لَهُ بَعْدَهُ مَا يَنْتَظِرُهُ.

وَهَذَا عِنْدِي وَهْمٌ بَيِّنٌ. فَإِنَّهُ لَا غَايَةَ لِجَمَالِ الْمَحْبُوبِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ. بِحَيْثُ يَصِلُ الْمُشَاهِدُ لَهَا إِلَى حَالَةٍ لَا يَنْتَظِرُ مَعَهَا شَيْئًا آخَرَ. هَذَا. وَسَنُبَيِّنُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا مَقَامُ الْمُشَاهَدَةِ أَبَدًا، وَأَنَّ هَذَا مِنْ أَوْهَامِ الْقَوْمِ وَتُرَّهَاتِهِمْ. وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ: الشَّوَاهِدُ. وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ قَطُّ فِي الدُّنْيَا إِلَى مُشَاهَدَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَإِنَّمَا وُصُولُهُ إِلَى شَوَاهِدِ الْحَقِّ. وَمَنْ زَعَمَ غَيْرَ هَذَا فَلِغَلَبَةِ الْوَهْمِ عَلَيْهِ، وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِتُرَّهَاتِ الْقَوْمِ وَخَيَالَاتِهِمْ. وَلِلَّهِ دَرُّ الشِّبْلِيِّ حَيْثُ سُئِلَ عَنِ الْمُشَاهَدَةِ؟ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَنَا مُشَاهَدَةُ الْحَقِّ؟ لَنَا شَاهِدُ الْحَقِّ. هَذَا، وَهُوَ صَاحِبُ الشَّطَحَاتِ الْمَعْرُوفَةِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ كَلَامِهِ وَأَبْيَنِهِ. وَأَرَادَ بِشَاهِدِ الْحَقِّ: مَا يَغْلِبُ عَلَى الْقُلُوبِ الصَّادِقَةِ الْعَارِفَةِ الصَّافِيَةِ: مِنْ ذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَإِجْلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ حَاضِرًا فِيهَا، مَشْهُودًا لَهَا، غَيْرَ غَائِبٍ عَنْهَا. وَمَنْ أَشَارَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَمَغْرُورٌ مَخْدُوعٌ. وَغَايَتُهُ: أَنْ يَكُونَ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِ، وَضَعْفِ تَمْيِيزِهِ وَعِلْمِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقُلُوبَ تُشَاهِدُ أَنْوَارًا بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا. تَقْوَى تَارَةً، وَتَضْعُفُ أُخْرَى. وَلَكِنَّ تِلْكَ أَنْوَارُ الْأَعْمَالِ وَالْإِيمَانِ وَالْمَعَارِفِ، وَصَفَاءُ الْبَوَاطِنِ وَالْأَسْرَارِ. لَا أَنَّهَا أَنْوَارُ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ. فَإِنَّ الْجَبَلَ لَمْ يَثْبُتْ لِلْيَسِيرِ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ حَتَّى تَدَكْدَكَ وَخَرَّ الْكَلِيمُ صَعِقًا، مَعَ عَدَمِ تَجَلِّيهِ لَهُ. فَمَا الظَّنُّ بِغَيْرِهِ؟ فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ وَتُرَّهَاتِ الْقَوْمِ وَخَيَالَاتِهِمْ وَأَوْهَامَهُمْ. فَإِنَّهَا عِنْدَ الْعَارِفِينَ أَعْظَمُ مِنْ حِجَابِ النَّفْسِ وَأَحْكَامِهَا. فَإِنَّ الْمَحْجُوبَ بِنَفْسِهِ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْحِجَابِ. وَصَاحِبُ هَذِهِ الْخَيَالَاتِ وَالْأَوْهَامِ يَرَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ قَدْ تَجَلَّتْ لَهُ أَنْوَارُهَا. وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ كَلِيمِ الرَّحْمَنِ. فَحِجَابُ هَؤُلَاءِ أَغْلَظُ بِلَا شَكٍّ مِنْ حِجَابِ أُولَئِكَ. وَلَا يُقِرُّ لَنَا بِهَذَا إِلَّا عَارِفٌ قَدْ أَشْرَقَ فِي بَاطِنِهِ نُورُ السُّنَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. فَرَأَى مَا النَّاسُ فِيهِ. وَمَا أَعَزَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَمَا أَغْرَبَهُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ. فَالصَّادِقُونَ فِي أَنْوَارِ مَعَارِفِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ لَيْسَ إِلَّا. وَأَنْوَارُ ذَاتِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَلِلَّهِ كَمْ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ! وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ! وَحَارَتْ فِيهِ أَوْهَامٌ! وَنَجَا مِنْهُ صَادِقُ الْبَصِيرَةِ، تَامُّ الْمَعْرِفَةِ، عِلْمُهُ مُتَّصِلٌ بِمِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

فصل منزلة الوجد

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْوَجْدِ] [حَقِيقَةُ الْوَجْدِ] وَمِنْ مَنَازِلِ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " مَنْزِلَةُ الْوَجْدِ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ - بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ - كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» . وَقَدِ اسْتَشْهَدَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكَهْفِ {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 14] وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِشْهَادِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا بَيْنَ قَوْمِهِمُ الْكُفَّارِ فِي خِدْمَةِ مَلِكِهِمُ الْكَافِرِ. فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ وَجَدُوا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ. وَذَاقُوا حَلَاوَتَهُ. وَبَاشَرَ قُلُوبَهُمْ. فَقَامُوا مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِمْ، وَقَالُوا: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف: 14] الْآيَةَ. وَالرَّبْطُ عَلَى قُلُوبِهِمْ: يَتَضَمَّنُ الشَّدَّ عَلَيْهَا بِالصَّبْرِ وَالتَّثْبِيتِ، وَتَقْوِيَتَهَا وَتَأْيِيدَهَا بِنُورِ الْإِيمَانِ، حَتَّى صَبَرُوا عَلَى هِجْرَانِ دَارِ قَوْمِهِمْ، وَمُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ خَفْضِ الْعَيْشِ. وَفَرُّوا بِدِينِهِمْ إِلَى الْكَهْفِ. وَالرَّبْطُ عَلَى الْقَلْبِ: عَكْسُ الْخِذْلَانِ. فَالْخِذْلَانُ حَلَّهُ مِنْ رِبَاطِ التَّوْفِيقِ. فَيَغْفُلُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ. وَيَتَّبِعُ هَوَاهُ، وَيَصِيرُ أَمْرُهُ فُرُطَا. وَالرَّبْطُ عَلَى الْقَلْبِ: شَدُّهُ بِرِبَاطِ التَّوْفِيقِ. فَيَتَّصِلُ بِذِكْرِ رَبِّهِ. وَيَتَّبِعُ مَرْضَاتَهُ. وَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ شَمْلُهُ. فَلِهَذَا اسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَقَامِ الْوَجْدِ. وَالشَّيْخُ جَعَلَ مَقَامَ الْوَجْدِ غَيْرَ مَقَامِ الْوُجُودِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ الْوُجُودَ عِنْدَ الْقَوْمِ هُوَ الظَّفَرُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ. وَالْوَجْدُ هُوَ مَا يُصَادِفُ الْقَلْبَ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ وَارِدَاتِ الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ، وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ. وَالْمَوَاجِيدُ

عِنْدَهُمْ فَوْقَ الْوَجْدِ. فَإِنَّ الْوَجْدَ مُصَادَفَةٌ. وَالْمَوَاجِيدَ ثَمَرَاتُ الْأَوْرَادِ. وَكُلَّمَا كَثُرَتِ الْأَوْرَادُ قَوِيَتِ الْمَوَاجِيدُ. وَ " الْوُجُودُ " عِنْدَهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ. وَهُوَ الظَّفَرُ بِحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ خُمُودِ الْبَشَرِيَّةِ. وَانْسِلَاخِ أَحْكَامِ النَّفْسِ انْسِلَاخًا كُلِّيًّا. قَالَ الْجُنَيْدُ: عِلْمُ التَّوْحِيدِ مُبَايِنٌ لِوُجُودِهِ، وَوُجُودُهُ مُبَايِنٌ لِعِلْمِهِ. وَلَا يُرِيدُ بِالْمُبَايَنَةِ: الْمُخَالَفَةَ وَالْمُنَاقَضَةَ. فَإِنَّهُ يُطَابِقُهُ مُطَابَقَةَ الْعِلْمِ لِلْمَعْلُومِ. وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِالْمُبَايَنَةِ: أَنَّ حَالَ الْمُوَحِّدِ وَذَوْقَهُ لِلتَّوْحِيدِ، وَانْصِبَاغَ قَلْبِهِ بِحَالِهِ: أَمْرٌ وَرَاءَ عِلْمِهِ بِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِهِ. وَالْمُبَايَنَةُ بَيْنَهُمَا كَالْمُبَايَنَةِ بَيْنَ عِلْمِ الشَّوْقِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَوْفِ وَنَحْوِهَا، وَبَيْنَ حَقَائِقِهَا وَمَوَاجِيدِهَا. فَالْمَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ. أَضْعَفُهَا التَّوَاجُدُ وَهُوَ نَوْعُ تَكَلُّفٍ وَتَعَمُّلٍ وَاسْتِدْعَاءٍ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ: هَلْ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: لَا يُسَلَّمُ لِصَاحِبِهِ. وَيُنْكَرُ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّصَنُّعِ الْمُبَايِنِ لِطَرِيقِ الصَّادِقِينَ. وَبِنَاءُ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى الصِّدْقِ الْمَحْضِ. وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: يُسَلَّمُ لِصَاحِبِهِ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ اسْتِدْعَاءَ الْحَقِيقَةِ، لَا التَّشَبُّهَ بِأَهْلِهَا. وَاحْتَجُّوا «بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ يَبْكِيَانِ فِي شَأْنِ أُسَارَى بَدْرٍ، وَمَا قَبِلُوا مِنْهُمْ مِنَ الْفِدَاءَ: أَخْبِرَانِي مَا يُبْكِيكُمَا؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بِكَيْتُ، وَإِلَّا تَبَاكَيْتُ» . وَرَوَوْا أَثَرًا «ابْكُوا؛ فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا» . قَالُوا: وَالتَّكَلُّفُ وَالتَّعَمُّلُ فِي أَوَائِلِ السَّيْرِ وَالسُّلُوكِ لَا بُدَّ مِنْهُ. إِذْ لَا يُطَالَبُ صَاحِبُهُ بِمَا يُطَالَبُ بِهِ صَاحِبُ الْحَالِ. وَمَنْ تَأَمَّلَهُ بِنِيَّةِ حُصُولِ الْحَقِيقَةِ لِمَنْ رَصَدَ الْوَجْدَ لَا يُذَمُّ. وَالتَّوَاجُدُ يَكُونُ بِمَا يَتَكَلَّفُهُ الْعَبْدُ مِنْ حَرَكَاتٍ ظَاهِرَةٍ " وَالْمَوَاجِيدُ " لِمَنْ يَتَأَوَّلُهُ مِنْ أَحْكَامٍ بَاطِنَةٍ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَوَاجِيدُ، وَهِيَ نَتَائِجُ الْأَوْرَادِ وَثَمَرَتُهَا.

فصل درجات الوجد

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَجْدُ وَهُوَ ثَمَرَةُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، مِنَ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ، كَمَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَرَةَ كَوْنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَثَمَرَةَ الْحُبِّ فِيهِ، وَكَرَاهَةَ عَوْدِهِ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ. فَهَذَا الْوَجْدُ ثَمَرَةُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ، الَّتِي هِيَ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ. الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: الْوُجُودُ وَهِيَ أَعْلَى ذُرْوَةِ مَقَامِ الْإِحْسَانِ. فَمِنْ مَقَامِ الْإِحْسَانِ يَرْقَى إِلَيْهِ. فَإِنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ مُشَاهَدَةُ مَعْبُودِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ - وَتَمَكَّنَ فِي ذَلِكَ - صَارَ لَهُ مَلَكَةً أَخْمَدَتْ أَحْكَامَ نَفْسِهِ، وَتَبَدَّلَ بِهَا أَحْكَامًا أُخَرَ، وَطَبِيعَةً ثَانِيَةً، حَتَّى كَأَنَّهُ أُنْشِئَ نَشْأَةً أُخْرَى غَيْرَ نَشْأَتِهِ الْأُولَى، وَوُلِدَ وِلَادًا جَدِيدًا. وَمِمَّا يُذْكَرُ عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَنْ تَلِجُوا مَلَكُوتَ السَّمَاءِ حَتَّى تُولَدُوا مَرَّتَيْنِ. سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ. وَيُفَسِّرُهُ بِأَنَّ الْوِلَادَةَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: هَذِهِ الْمَعْرُوفَةُ، وَالثَّانِيَةُ: وِلَادَةُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَخُرُوجُهُمَا مِنْ مَشِيمَةِ النَّفْسِ، وَظُلْمَةِ الطَّبْعِ. قَالَ: وَهَذِهِ الْوِلَادَةُ لَمَّا كَانَتْ بِسَبَبِ الرَّسُولِ كَانَ كَالْأَبِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ ". قَالَ: وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ وَالْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] إِذْ ثُبُوتُ أُمُومَةِ أَزْوَاجِهِ لَهُمْ: فَرْعٌ عَنْ ثُبُوتِ أُبُوَّتِهِ. قَالَ: فَالشَّيْخُ وَالْمُعَلِّمُ وَالْمُؤَدِّبُ أَبُ الرُّوحِ. وَالْوَالِدُ أَبُ الْجِسْمِ. وَيُقَالُ فِي الْحُبِّ وَجْدٌ، وَفِي الْغَضَبِ مُوْجِدَةٌ، وَفِي الظَّفَرِ وِجْدَانٌ وَوُجُودٌ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْوَجْدِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى وَجْدٌ عَارِضٌ يَسْتَفِيقُ لَهُ شَاهَدُ السَّمْعِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:

الْوَجْدُ: لَهَبٌ يَتَأَجَّجُ مِنْ شُهُودِ عَارِضِ الْقَلَقِ. لَمَّا كَانَ الْوُجُودُ أَعْلَى مِنَ الْوَجْدِ جُعِلَ سَبَبُ الْوَجْدِ شُهُودًا عَارِضًا. وَجُعِلَ الْوُجُودُ نَفْسَ الظَّفَرِ بِالشَّيْءِ، كَمَا سَيَأْتِي. وَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهَبَ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمَّا شَهِدَ مَحْبُوبَهُ: أَوْرَثَهُ ذَلِكَ لَهِيبَ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، وَلَمَّا لَمْ يَظْفَرْ بِهِ أَوْرَثَهُ الْقَلَقَ. فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ لَهِيبًا مُقْلِقًا. قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: وَجْدٌ عَارِضٌ يَسْتَفِيقُ لَهُ شَاهِدُ السَّمْعِ، أَوْ شَاهِدُ الْبَصَرِ، أَوْ شَاهِدُ الْفِكْرِ. أَبْقَى عَلَى صَاحِبِهِ أَثَرًا أَوْ لَمْ يُبْقِ. قَوْلُهُ " وَجْدٌ عَارِضٌ " أَيْ مُتَجَدِّدٌ. لَيْسَ بِلَازِمٍ " يَسْتَفِيقُ لَهُ شَاهِدُ السَّمْعِ " أَيْ يَنْتَبِهُ السَّمْعُ مِنْ سِنَتِهِ لِوُرُودِهِ عَلَيْهِ. وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُنَبِّهُ لَهُ خِطَابًا مِنْ خَارِجٍ أَوْ مِنْ نَفْسِهِ. وَأَمَّا " إِفَاقَةُ شَاهِدِ الْبَصَرِ " فَلِمَا يَرَاهُ وَيُعَايِنُهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ. فَيَنْتَقِلُ مِنْهَا إِلَى مَا نُصِبَتْ آيَةً لَهُ وَعَلَيْهِ. وَأَمَّا " إِفَاقَةُ شَاهِدِ الْفِكْرِ " فَفِيمَا يُفْتَحُ لَهُ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهَا فِكْرُهُ وَتَأَمُّلُهُ. وَهَذِهِ الشَّوَاهِدُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي دَعَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ إِلَى تَبَيُّنِهَا وَالِاسْتِشْهَادِ بِهَا وَقَبُولِ الْحَقِّ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ وَتَرْتِيبِ حُكْمِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا، مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِيمَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] وَقَالَ {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68] وَقَالَ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] وَقَالَ {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101] وَقَالَ {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم: 8] وَقَالَ {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذَا. فَإِذَا اسْتَفَاقَ شَاهِدُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفِكْرِ، وَوَجَدَ الْقَلْبُ حَلَاوَةَ الْمَعْرِفَةِ

فصل الدرجة الثانية وجد تستفيق له الروح بلمع نور أزلي

وَالْإِيمَانِ: خَرَجَ مِنْ جُمْلَةِ النِّيَامِ الْغَافِلِينَ. قَوْلُهُ " أَبْقَى عَلَى صَاحِبِهِ أَثَرًا أَوْ لَمْ يُبْقِ " يَعْنِي: أَنَّ ذَلِكَ الْوَجْدَ الْعَارِضَ قَدْ يُبْقِي عَلَى وَاجِدِهِ أَثَرًا مِنْ أَحْكَامِهِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ. وَقَدْ لَا يُبْقِي. وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُبْقِيَ أَثَرًا، لَكِنْ قَدْ يَخْفَى وَيَنْغَمِرُ بِمَا يُعْقِبُهُ بَعْدَهُ، وَيُخْلِفُهُ مِنْ أَضْدَادِهِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ وَجْدٌ تَسْتَفِيقُ لَهُ الرُّوحُ بِلَمْعِ نُورٍ أَزَلِيٍّ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: وَجْدٌ تَسْتَفِيقُ لَهُ الرُّوحُ بِلَمْعِ نُورٍ أَزَلِيٍّ. أَوْ سَمَاعِ نِدَاءٍ أَوَّلِيٍّ، أَوْ جَذْبٍ حَقِيقِيٍّ. إِنْ أَبْقَى عَلَى صَاحِبِهِ لِبَاسَهَ، وَإِلَّا أَبْقَى عَلَيْهِ نُورَهُ. إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْوَجْدُ أَعْلَى مِنَ الْوَجْدِ الْأَوَّلِ: لِأَنَّ مَحَلَّ الْيَقَظَةِ فِيهِ هُوَ الرُّوحُ، وَمَحَلُّهَا فِي الْأَوَّلِ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْفِكْرُ. وَالرُّوحُ هِيَ الْحَامِلَةُ لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفِكْرِ. وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ مِنْ صِفَاتِهَا. وَأَيْضًا فَلَعَلَّ وَجْدَ الرُّوحِ سَبَبٌ آخَرُ. وَهُوَ عُلُوُّ مُتَعَلَّقِهِ، فَإِنَّ مُتَعَلَّقَ وَجْدِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفِكْرِ: الْآيَاتُ وَالْبَصَائِرُ. وَمُتَعَلَّقَ وَجْدِ الرُّوحِ: تَعَلُّقُهَا بِالْمَحْبُوبِ لِذَاتِهِ. وَلِذَلِكَ جُعِلَ سَبَبُهُ " لَمْعَ نُورٍ أَزَلِيٍّ " يَعْنِي شُهُودَهَا لَمْعَ نُورِ الْحَقِيقَةِ الْأَزَلِيِّ. وَهَذَا الشُّهُودُ لَا حَظَّ فِيهِ لِلسَّمْعِ وَلَا لِلْبَصَرِ وَلَا لِلْفِكْرِ. بَلْ تَسْتَنِيرُ بِهِ الْأَسْمَاعُ وَالْأَبْصَارُ. لِأَنَّ الرُّوحَ لَمَّا اسْتَنَارَتْ بِهَذِهِ الْيَقَظَةِ وَالْإِفَاقَةِ. ثُمَّ اسْتَنَارَتْ بِنُورِهَا الْأَسْمَاعُ وَالْأَبْصَارُ. لَا سِيَّمَا وَصَاحِبُهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ إِنَّمَا يَسْمَعُ بِاللَّهِ وَيُبْصِرُ بِهِ. وَإِذَا كَانَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَبَطْشُهُ بِاللَّهِ، فَمَا الظَّنُّ بِحَرَكَةِ رُوحِهِ وَقَلْبِهِ وَأَحْكَامِهَا؟ وَقَوْلُهُ " أَوْ سَمَاعِ نِدَاءٍ أَوَّلِيٍّ " إِنْ أَرَادَ بِهِ: تَعَرُّفَ الْحَقِّ تَعَالَى إِلَى عِبَادِهِ بِوَاسِطَةِ الْخِطَابِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ - وَهَذَا هُوَ الْخِطَابُ الْأَزَلِيُّ - فَصَحِيحٌ. وَإِنْ أَرَادَ بِهِ: خِطَابَ الْمَلِكِ لَهُ: فَلَيْسَ بِخِطَابٍ أَزَلِيٍّ. وَإِنْ أَرَادَ مَا سَمِعَهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْخِطَابِ: فَهُوَ خِطَابٌ وَهْمِيٌّ. وَإِنْ ظَنَّهُ أَزَلِيًّا. فَإِيَّاكَ وَالْأَوْهَامَ وَالْغُرُورَ. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْوُجُودَ، وَلَا نَدْفَعُ الشُّهُودَ. وَإِنَّمَا نَتَكَلَّمُ مَعَ الْقَوْمِ فِي رُتْبَتِهِ وَإِنْشَائِهِ، وَمِنْ أَيْنَ بَدَأَ؟ وَإِلَى أَيْنَ يَعُودُ؟ فَلَا نُنْكِرُ وَاعِظَ اللَّهِ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ. وَلَكِنْ ذَلِكَ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ جَعَلَهُ اللَّهُ وَاعِظًا لَهُ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، وَيُنَادِيهِ وَيُحَذِّرُهُ، وَيُبَشِّرُهُ وَيُنْذِرُهُ. وَهُوَ الدَّاعِي الَّذِي يَدْعُو فَوْقَ الصِّرَاطِ. وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ

فصل الدرجة الثالثة وجد يخطف العبد من يد الكونين

الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ. كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا: صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا. وَعَلَى جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ. وَفِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرَخْاةٌ، وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ، وَدَاعٍ يَدْعُو فَوْقَ الصِّرَاطِ. فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: الْإِسْلَامُ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللَّهِ. فَلَا يَقَعُ أَحَدٌ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ حَتَّى يَكْشِفَ السِّتْرَ. وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ. وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ» . فَمَا ثَمَّ خِطَابٌ قَطُّ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ: إِمَّا خِطَابُ الْقُرْآنِ، وَإِمَّا خِطَابُ هَذَا الْوَاعِظِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الرُّوحُ قَدْ تَتَجَرَّدُ وَيَقْوَى تَعَلُّقُهَا بِالْحَقِّ تَعَالَى. بَلْ قَدْ تَتَلَاشَى بِمَا سِوَاهُ. وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ نَوْعُ غَيْبَةٍ مِنْ حِسِّهِ، وَيَقْوَى دَاعِي هَذَا الْوَاعِظِ. وَيَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِهِ وَرُوحِهِ، بِحَيْثُ يَمْتَلِئُ بِهِ، فَتُؤَدِّيهِ الرُّوحُ إِلَى الْأُذُنِ، فَيَخْرُجُ عَنِ الْأُذُنِ إِلَيْهَا. إِذْ هِيَ مَبْدَؤُهُ. وَإِلَيْهَا يَعُودُ، فَيَظُنُّهُ خِطَابًا خَارِجًا. وَيَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ ضِعْفِ الْعِلْمِ وَمَعْرِفَةِ الْمَرَاتِبِ. فَيَنْشَأُ الْغَلَطُ وَالْوَهْمُ. قَوْلُهُ " أَوْ جَذْبٌ حَقِيقِيٌّ " يَعْنِي: أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ هَذَا الْوَجْدِ جَذْبَةٌ حَقِيقِيَّةٌ مِنْ جَذَبَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى لِعَبْدِهِ، اسْتَفَاقَتْ لَهَا رُوحُهُ مِنْ مَنَامِهَا. وَحَيِيَتْ بِهَا بَعْدَ مَمَاتِهَا. وَاسْتَنَارَتْ بِهَا بَعْدَ ظُلُمَاتِهَا. فَالْوَجْدُ خِلْعَةُ هَذِهِ الْجَذْبَةِ. قَوْلُهُ: إِنْ أَبْقَى عَلَى صَاحِبِهِ لِبَاسَهُ، وَإِلَّا أَبْقَى عَلَيْهِ نُورَهُ يُرِيدُ بِلِبَاسِهِ مَقَامَهُ، يَعْنِي إِنْ أَبْقَى عَلَيْهِ تَحَقُّقَ مَقَامِهِ فِيهِ، وَإِلَّا أَبْقَى عَلَيْهِ أَثَرَهُ. فَمَقَامُهُ يُورِثُهُ عِزًّا وَمَهَابَةً وَخِلَافَةَ نُبُوَّةٍ، وَمَنْشُورَ صِدِّيقِيَّةٍ. وَأَثَرُهُ يُورِثُهُ حَلَاوَةً وَسَكِينَةً، وَأُنْسًا فِي نَفْسِهِ وَأُنْسًا لِلْقُلُوبِ بِهِ، وَهَوَى الْأَفْئِدَةِ إِلَيْهِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ وَجْدٌ يَخْطِفُ الْعَبْدَ مِنْ يَدِ الْكَوْنَيْنِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: وَجْدٌ يَخْطِفُ الْعَبْدَ مِنْ يَدِ الْكَوْنَيْنِ. وَيُمَحِّصُ مَعْنَاهُ مِنْ دَرَنِ الْحَظِّ، وَيَسْلُبُهُ مِنْ رِقِّ الْمَاءِ وَالطِّينِ، إِنْ سَلَبَهُ أَنْسَاهُ اسْمَهُ. وَإِنْ لَمْ يَسْلُبْهُ أَعَارَهُ رَسْمَهُ.

فَقَوْلُهُ " يَخْطِفُ الْعَبْدَ مِنْ يَدِ الْكَوْنَيْنِ " أَيْ يُغْنِيهِ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ كَوْنَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَيَخْتَطِفُ الْقَلْبَ مِنْ شُهُودِ هَذَا وَهَذَا بِشُهُودِ الْمُكَوِّنِ. قَوْلُهُ " وَيُمَحِّصُ مَعْنَاهُ مِنْ دَرَنِ الْحَظِّ " أَيْ يُخَلِّصُ عُبُودِيَّتَهُ الَّتِي هِيَ حَقِيقَتُهُ وَسِرُّهُ مِنْ وَسَخِ حُظُوظِ نَفْسِهِ وَإِرَادَاتِهَا الْمُزَاحِمَةِ لِمُرَادِ رَبِّهِ مِنْهُ. فَإِنَّ تَحْقِيقَ الْعُبُودِيَّةِ - الَّتِي هِيَ مَعْنَى الْعَبْدِ - لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَقْدِ النَّفْسِ الْحَامِلَةِ لِلْحُظُوظِ. فَمَتَى فَقَدَتْ حُظُوظَهَا تَمَحَّصَتْ عُبُودِيَّتُهَا. وَكُلَّمَا مَاتَ مِنْهَا حَظٌّ حَيِيَ مِنْهَا عُبُودِيَّةٌ وَمَعْنًى. وَكُلَّمَا حَيِيَ فِيهَا حَظٌّ مَاتَتْ عُبُودِيَّةٌ، حَتَّى يَعُودَ الْأَمْرُ عَلَى نَفْسَيْنِ وَرُوحَيْنِ وَقَلْبَيْنِ: قَلْبٌ حَيٌّ، وَرُوحٌ حَيَّةٌ بِمَوْتِ نَفْسِهِ وَحُظُوظِهَا، وَقَلْبٌ مَيِّتٌ، وَرُوحٌ مَيِّتَةٌ بِحَيَاةِ نَفْسِهِ وَحُظُوظِهِ. وَبَيْنَ ذَلِكَ مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَبَيْنَ بَيْنَ، لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ " وَيَسْلُبُهُ مِنْ رِقِّ الْمَاءِ وَالطِّينِ " أَيْ يُعْتِقُهُ وَيُحَرِّرُهُ مِنْ رِقِّ الطَّبِيعَةِ وَالْجِسْمِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ، إِلَى رِقِّ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَخَادِمُ الْجِسْمِ الشَّقِيُّ بِخِدْمَتِهِ عَبَدَ الْمَاءَ وَالطِّينَ، كَمَا قِيلَ: يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ ... فَأَنْتَ بِالرُّوحِ لَا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ثَلَاثَةٌ: عَبْدٌ مَحْضٌ. وَحُرٌّ مَحْضٌ، وَمُكَاتِبٌ قَدْ أَدَّى بَعْضَ كِتَابَتِهِ. وَهُوَ يَسْعَى فِي بَقِيَّةِ الْأَدَاءِ. فَالْعَبْدُ الْمَحْضُ: عَبْدُ الْمَاءِ وَالطِّينِ الَّذِي قَدِ اسْتَعْبَدَتْهُ نَفْسُهُ وَشَهْوَتُهُ، وَمَلَكَتْهُ وَقَهَرَتْهُ. فَانْقَادَ لَهَا انْقِيَادَ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدِهِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ. وَالْحُرُّ الْمَحْضُ: هُوَ الَّذِي قَهَرَ شَهْوَتَهُ وَنَفْسَهُ وَمَلَكَهَا. فَانْقَادَتْ مَعَهُ، وَذَلَّتْ لَهُ وَدَخَلَتْ تَحْتَ رِقِّهِ وَحُكْمِهِ. وَالْمُكَاتِبُ: مَنْ قَدْ عُقِدَ لَهُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ. وَهُوَ يَسْعَى فِي كَمَالِهَا. فَهُوَ عَبْدٌ مِنْ وَجْهٍ حُرٌّ مِنْ وَجْهٍ. وَبِالْبَقِيَّةِ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَدَاءِ يَكُونُ عَبْدًا مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. فَهُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ حَظٌّ مِنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ. فَالْحُرُّ مَنْ تَخَلَّصَ مِنْ رِقِّ الْمَاءِ وَالطِّينِ. وَفَازَ بِعُبُودِيَّةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَاجْتَمَعَتْ لَهُ الْعُبُودِيَّةُ وَالْحُرِّيَّةُ. فَعُبُودِيَّتُهُ مِنْ كَمَالِ حُرِّيَّتِهِ، وَحُرِّيَّتُهُ مِنْ كَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ. قَوْلُهُ: إِنْ سَلَبَهُ أَنْسَاهُ اسْمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْلُبْهُ أَعَارَهُ رَسْمَهُ، أَيْ هَذَا الْوَجْدُ إِنْ سَلَبَ

فصل الدهش

صَاحِبَهُ بِالْكُلِّيَّةِ: فَأَفْنَاهُ عَنْهُ، وَأَخَذَهُ مِنْهُ: أَنْسَاهُ اسْمَهُ. لِأَنَّ الِاسْمَ تَبَعٌ لِلْحَقِيقَةِ. فَإِذَا سَلَبَ الْحَقِيقَةَ نَسِيَ اسْمَهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْلُبْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ أَبْقَى مِنْهُ رَسْمًا، فَهُوَ مُعَارٌ عِنْدَهُ بِصَدَدِ الِاسْتِرْجَاعِ. فَإِنَّ الْعَوَارِيَ يُوشِكُ أَنْ تُسْتَرَدَّ. وَيُشِيرُ بِالْأَوَّلِ: إِلَى حَالَةِ الْفَنَاءِ الْكَامِلِ. وَبِالثَّانِي: إِلَى حَالَةِ الْغَيْبَةِ الَّتِي يَؤُوبُ مِنْهَا غَائِبُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّهْشُ] [حَقِيقَةُ الدَّهْشِ] فَصْلٌ الدَّهْشُ وَقَدْ تَعْرِضُ لِلسَّالِكِ دَهْشَةٌ فِي حَالِ سُلُوكِهِ، شَبِيهَةٌ بِالْبَهْتَةِ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ رُؤْيَةِ مَحْبُوبِهِ. وَلَيْسَتْ مِنْ مَنَازِلِ السُّلُوكِ. خِلَافًا لِأَبِي إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ حَيْثُ جَعَلَهَا مِنَ الْمَنَازِلِ. بَلْ مِنْ غَايَاتِهَا. فَإِنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ لَيْسَتْ مَذْكُورَةً فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي كَلَامِ السَّالِكِينَ. وَلَا عَدَّهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمَنَازِلِ وَالْمَقَامَاتِ. وَلِهَذَا لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتَشْهِدُ بِهِ عَلَيْهَا سِوَى حَالِ النِّسْوَةِ مَعَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ. فَصَدَّرَ الْبَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] أَيْ أَعْظَمْنَهُ. فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ: مَا حَصَلَ لَهُنَّ مِنْ إِعْظَامِهِ وَإِجْلَالِهِ: فَذَلِكَ مَنْزِلَةُ التَّعْظِيمِ. وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ: مَا تَرَتَّبَ عَلَى رُؤْيَتِهِ لَهُنَّ، مِنْ غَيْبَتِهِنَّ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ وَعَنْ أَيْدِيهِنَّ، وَمَا فِيهَا حَتَّى قَطَّعْنَهَا: فَتِلْكَ مَنْزِلَةُ الْفَنَاءِ. وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ: الدَّهْشَةَ وَالْبَهْتَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُنَّ عِنْدَ مُفَاجَأَتِهِ - وَهُوَ الَّذِي قَصَدَهُ - فَذَلِكَ أَمْرٌ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ الطَّرِيقِ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ مَا يَغْلِبُ عَلَى صَبْرِ الْإِنْسَانِ وَعَقْلِهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِ الطَّرِيقِ لَيْسَ بِمَقَامٍ لِلسَّالِكِينَ، وَلَا مَنْزِلٍ مَطْلُوبٍ لَهُمْ. فَعَوَارِضُ الطَّرِيقِ شَيْءٌ. وَمَنَازِلُهَا وَمَقَامَاتُهَا شَيْءٌ. فَلِهَذَا قَالَ فِي تَعْرِيفِهِ الدَّهْشَ: بَهْتَةٌ تَأْخُذُ الْعَبْدَ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ مَا يَغْلِبُ عَلَى عَقْلِهِ، أَوْ صَبْرِهِ، أَوْ عِلْمِهِ.

درجات الدهش

يُشِيرُ إِلَى الشُّهُودِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى عَقْلِهِ، وَالْحُبِّ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى صَبْرِهِ، وَالْحَالِ الَّتِي تَغْلِبُ عَلَى عِلْمِهِ. [دَرَجَاتُ الدَّهْشِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى دَهْشَةُ الْمُرِيدِ عِنْدَ صَوْلَةِ الْحَالِ عَلَى عِلْمِهِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الْأُولَى: دَهْشَةُ الْمُرِيدِ عِنْدَ صَوْلَةِ الْحَالِ عَلَى عِلْمِهِ، وَالْوَجْدِ عَلَى طَاقَتِهِ، وَالْكَشْفِ عَلَى هِمَّتِهِ يَعْنِي: أَنَّ عِلْمَهُ يَقْتَضِي شَيْئًا، وَحَالَهُ يَصُولُ عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ. فَهَذَا غَايَتُهُ: أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُفْرِطًا. فَإِنَّ الْحَالَ لَا يَصُولُ عَلَى الْعِلْمِ إِلَّا وَأَحَدُهُمَا فَاسِدٌ. إِمَّا الصَّائِلُ، أَوِ الْمَصُولُ عَلَيْهِ. فَإِذَا اقْتَضَى الْعِلْمُ سُكُونًا، فَصَالَ عَلَيْهِ الْحَالُ بِحَرَكَتِهِ: فَهِيَ حَرَكَةٌ فَاسِدَةٌ. غَايَةُ صَاحِبِهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا لَا مَشْكُورًا. فَإِذَا اقْتَضَى الْعِلْمُ حَرَكَةً، فَصَالَ الْحَالُ عَلَيْهِ بِسُكُونِهِ: فَهُوَ سُكُونٌ فَاسِدٌ. مِثَالُ الْأَوَّلِ: اقْتِضَاءُ الْعِلْمِ لِلسُّكُونِ وَالْخُشُوعِ عِنْدَ وَارِدِ السَّمَاعِ الْقُرْآنِيِّ. وَصَوْلَةُ الْحَالِ عَلَيْهِ، حَتَّى يَزْعَقَ وَيَشُقَّ ثِيَابَهُ، أَوْ يُلْقِي نَفْسَهُ لِوُرُودِ مَا يُدْهِشُهُ مِنْ مَعَانِي الْمَسْمُوعِ عَلَى قَلْبِهِ. فَيَصُولُ حَالُهُ عَلَى عَمَلِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي صَلَاةِ فَرْضٍ، لَأَبْطَلَهَا وَقَطَعَهَا. وَمِثَالُ الثَّانِي: اقْتِضَاءُ الْعِلْمِ حَرَكَةً مُفَرَّقَةً فِي رِضَا الْمَحْبُوبِ. فَيَصُولُ الْحَالُ عَلَيْهَا بِسُكُونِهِ وَجَمْعِيَّتِهِ، حَتَّى يَقْهَرَهَا. وَهَذِهِ مِنْ مَقَاطِعِ الْقَوْمِ وَآفَاتِهِمْ. وَمَا نَجَا مِنْهَا إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ مِنْهُمْ، الْعَامِلُونَ عَلَى تَجْرِيدِ الْعُبُودِيَّةِ. وَكَثْرَةُ صُوَرِ هَذَا مُغْنِيَةُ عَنْ كَثْرَةِ الْأَمْثِلَةِ. فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يُقَدِّمُ حَالَ الْجَمْعِيَّةِ عَلَى مُلَابَسَةِ الْأَغْيَارِ وَالْأَعْدَاءِ فِي الْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَيَصُولُ حَالُ الْجَمْعِيَّةِ عِنْدَهُ عَلَى الْحَرَكَةِ الَّتِي يَأْمُرُ بِهَا الْعِلْمُ. كَمَا صَالَتْ حَرَكَةُ الْأَوَّلِ عَلَى السُّكُونِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ الْعِلْمُ. قَوْلُهُ " وَالْوَجْدُ عَلَى الطَّاقَةِ " يَعْنِي: أَنَّ وَجْدَ الْمُحِبِّ رُبَّمَا غَلَبَ صَبْرَهُ. وَصَالَ عَلَى طَاقَتِهِ. فَصَرَخَ إِلَى مَحْبُوبِهِ، وَاسْتَغَاثَ بِهِ، حَتَّى يَأْتِيَ النَّصْرُ مِنْ عِنْدِهِ. بَلْ صُرَاخُهُ بِهِ وَاسْتِغَاثَتُهُ بِهِ عَيْنُ نَصْرِهِ إِيَّاهُ، حَيْثُ حَفِظَ عَلَيْهِ وَجْدَهُ. وَلَمْ يَرُدَّهُ فِيهِ إِلَى صَبْرٍ يَسْلُو بِهِ وَيَجْفُو. فَيَكُونُ ذَلِكَ نَوْعُ طَرْدٍ. قَوْلُهُ " وَالْكَشْفِ عَلَى هِمَّتِهِ " يَعْنِي أَنَّ الْهِمَّةَ تَسْتَدْعِي صِدْقَ الطَّلَبِ وَدَوَامَهُ، وَالْكَشْفُ: هُوَ الشُّهُودُ. وَهُوَ فِي مَظِنَّةِ فَسْخِ الْهِمَّةِ وَإِبْطَالِ حُكْمِهَا. لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الطَّلَبَ. وَهُوَ يَقْتَضِي الْفُتُورَ. لِأَنَّ الطَّلَبَ لِلْغَائِبِ عَنِ الْمَطْلُوبِ، فَهِمَّتُهُ مُتَعَلِّقَةٌ

فصل الدرجة الثانية دهشة السالك عند صولة الجمع على رسمه

بِتَحْصِيلِهِ. وَصَاحِبُ الْكَشْفِ: فِي حُضُورٍ مَعَ مَطْلُوبِهِ. فَكَشْفُهُ صَائِلٌ عَلَى هِمَّتِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا بَرَقَتْ بَارِقَةٌ مِنْ بَوَارِقِ الْحَقِيقَةِ لَمْ يَبْقَ مَعَهَا حَالٌ وَلَا هِمَّةٌ. وَهَذَا أَيْضًا عَارِضٌ مَطْلُوبُ الزَّوَالِ. وَالْبَقَاءُ مَعَهُ انْقِطَاعٌ كُلِّيٌّ. فَإِنَّ السَّالِكَ فِي هِمَّةٍ، مَا دَامَتْ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ. فَإِذَا فَارَقَتْهُ الْهِمَّةُ انْقَطَعَ وَاسْتَحْسَرَ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ دَهْشَةُ السَّالِكِ عِنْدَ صَوْلَةِ الْجَمْعِ عَلَى رَسْمِهِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: دَهْشَةُ السَّالِكِ عِنْدَ صَوْلَةِ الْجَمْعِ عَلَى رَسْمِهِ، وَالسَّبْقِ عَلَى وَقْتِهِ، وَالْمُشَاهَدَةِ عَلَى رُوحِهِ الْجَمْعُ عِنْدَ الْقَوْمِ: مَا أَسْقَطَ التَّفْرِقَةَ. وَقَطَعَ الْإِشَارَةَ. وَبَايَنَ الْكَائِنَاتِ. وَ " رَسْمُ " الْعَبْدِ عِنْدَهُمْ: هُوَ صُورَتُهُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ. فَشُهُودُ الْجَمْعِ: يَقْتَضِي أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى فَنَاءِ تِلْكَ الرُّسُومِ فِيهِ. فَلِلْجَمْعِ صَوْلَةٌ عَلَى رَسْمِ السَّالِكِ، يَغْشَاهُ عِنْدَهُمْ بَهْتَةٌ، هِيَ الدَّهْشَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا. وَأَمَّا صَوْلَةُ السَّبْقِ عَلَى وَقْتِهِ فَالسَّبْقُ: هُوَ الْأَزَلُ. وَهُوَ سَابِقٌ عَلَى وَقْتِ السَّالِكِ. وَإِنَّمَا صَالَ الْأَزَلُ عَلَى وَقْتِهِ: لِأَنَّ وَقْتَهُ حَادِثٌ فَانٍ. فَهُوَ يَرَى فَنَاءَهُ فِي بَقَاءِ الْأَزَلِ وَسَبْقِهِ، فَيَغْلِبُهُ شُهُودُ السَّبْقِ، وَيَقْهَرُهُ عَلَى شُهُودِ وَقْتِهِ، فَلَا يَتَّسِعُ لَهُ. وَأَمَّا صَوْلَةُ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى رُوحِهِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمُشَاهَدَةُ تَعَلُّقُ إِدْرَاكِ الرُّوحِ بِشُهُودِ الْحَقِّ تَعَالَى، فَهِيَ شُهُودُ الْحَقِّ بِالْحَقِّ - كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ» - اقْتَضَى هَذَا الشُّهُودُ صَوْلَةً عَلَى الرُّوحِ. فَحَيْثُ صَارَ الْحُكْمُ لَهُ دُونَهَا: انْطَوَى حُكْمُ الشَّاهِدِ فِي شُهُودِهِ. وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِي ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ دَهْشَةُ الْمُحِبِّ عِنْدَ صَوْلَةِ الِاتِّصَالِ عَلَى لُطْفِ الْعَطِيَّةِ] قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: دَهْشَةُ الْمُحِبِّ عِنْدَ صَوْلَةِ الِاتِّصَالِ عَلَى لُطْفِ الْعَطِيَّةِ، وَصَوْلَةِ نُورِ الْقُرْبِ عَلَى نُورِ الْعَطْفِ، وَصَوْلَةِ شَوْقِ الْعِيَانِ عَلَى شَوْقِ الْخَبَرِ. الِاتِّصَالُ عِنْدَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ: اتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ، وَاتِّصَالُ الشُّهُودِ، وَاتِّصَالُ الْوُجُودِ، كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَبَيَانُ مَا فِيهِ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، يَجِلُّ عَنْهُ جَنَابُ الْحَقِّ تَعَالَى.

وَ " الْعَطِيَّةُ " هَاهُنَا: هِيَ الْوَارِدَاتُ الَّتِي تَرِدُ فِي لُطْفٍ وَخَفَاءٍ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ تَعَالَى. وَهِيَ أَلْطَافٌ يُعَامِلُ الْمَحْبُوبُ بِهَا مُحِبَّهُ، وَتُوجِبُ قُرْبًا خَالِصًا هُوَ الْمُسَمَّى بِالِاتِّصَالِ. فَيَصُولُ ذَلِكَ الْقُرْبُ عَلَى لُطْفِ الْعَطِيَّةِ. فَيَغِيبُ الْعَبْدُ عَنْهَا وَعَنْ شُهُودِهَا. وَيُنْسِيهِ إِيَّاهَا. لِمَا أَوْجَبَهُ لَهُ ذَلِكَ الْقُرْبُ مِنَ الدَّهْشِ. وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ: تَوَاتُرَ أَنْوَاعِ الْعَطَايَا عَلَيْهِ، حَتَّى يُدْهِشَهُ كَثْرَتُهَا وَتَنَوُّعُهَا. فَتُوجِبُ لَهُ كَثْرَتُهَا دَهْشَةً، تَمْنَعُهُ مِنْ مُطَالَعَتِهَا، مَعَ انْضِمَامِ ذَلِكَ إِلَى صَوْلَةِ الْقُرْبِ. وَهِيَ وَارِدَاتٌ وَأَنْوَارٌ يَتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. تَمْحُو ظُلَمَ نَفْسِهِ وَرَسْمَهُ. وَأَمَّا صَوْلَةُ نُورِ الْقُرْبِ عَلَى نُورِ الْعَطْفِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا. أَوْ هُوَ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا كُرِّرَ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ. فَإِنَّ لُطْفَ الْعَطِيَّةِ كُلَّهُ نُورُ عَطْفٍ، وَالِاتِّصَالُ هُوَ الْقُرْبُ نَفْسُهُ. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنِ اتِّصَالٍ يَتَوَهَّمُهُ مَلَاحِدَةُ الطَّرِيقِ وَزَنَادِقَتُهُمْ. وَأَمَّا صَوْلَةُ شَوْقِ الْعِيَانِ عَلَى شَوْقِ الْخَبَرِ. فَمُرَادُهُ بِهَا: أَنَّ الْمُرِيدَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ سَالِكٌ عَلَى شَوْقِ الْخَبَرِ فِي مَقَامِ الْإِيمَانِ. فَإِذَا تَرَقَّى عَنْهُ إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ، وَتَمَكَّنَ مِنْهُ: بَقِيَ شَوْقُهُ بِشَوْقِ الْعِيَانِ. فَصَالَ هَذَا الشَّوْقُ عَلَى الشَّوْقِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ، وَإِلَّا فَالْعِيَانُ فِي الدُّنْيَا لَا سَبِيلَ لِلْبَشَرِ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ. وَمَنْ زَعَمَ خِلَافَ ذَلِكَ فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ: أَنْ يَكُونَ مَلْبُوسًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ فَوْقَ الْإِحْسَانِ لِلصِّدِّيقِينَ مَرْتَبَةٌ إِلَّا بَقَاؤُهُمْ فِيهِ. فَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ عِيَانًا فَالتَّسْمِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُخْلَصَةُ الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا أَوْلَى وَأَحْرَى. وَأَكْثَرُ آفَاتِ النَّاسِ مِنَ الْأَلْفَاظِ. وَلَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَعِزُّ فِيهَا تَصَوُّرُ الْحَقِّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَالتَّعْبِيرُ الْمُطَابِقُ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ ضَعْفِ التَّصَوُّرِ، وَقُصُورِ التَّعْبِيرِ: نَوْعُ تَخْبِيطٍ. وَيَتَزَايَدُ عَلَى أَلْسِنَةِ السَّامِعِينَ لَهُ وَقُلُوبِهِمْ، بِحَسَبِ قُصُورِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ. فَتَفَاقَمَ الْخَطْبُ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ. وَالْتَبَسَ طَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّادِقِينَ بِطَرَائِقِ الزَّنَادِقَةِ الْمُلْحِدِينَ. وَعَزَّ الْمُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا. فَدَخَلَ عَلَى الدِّينِ مِنَ الْفَسَادِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَأُشِيرَ إِلَى أَعْظَمِ الْخَلْقِ كُفْرًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلْحَادًا فِي دِينِهِ: بِأَنَّهُ مِنْ شُيُوخِ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالسُّلُوكِ. وَلَوْلَا ضَمَانُ اللَّهِ بِحِفْظِ دِينِهِ، وَتَكَفُّلِهِ بِأَنْ يُقِيمَ لَهُ مَنْ يُجَدِّدُ أَعْلَامَهُ، وَيُحْيِي مِنْهُ مَا أَمَاتَهُ الْمُبْطِلُونَ. وَيُنْعِشُ مَا أَخْمَلَهُ الْجَاهِلُونَ: لَهُدِّمَتْ أَرْكَانُهُ، وَتَدَاعَى بُنْيَانُهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ.

فصل في منزلة الهيمان

[فَصْلٌ فِي مَنْزِلَةِ الْهَيَمَانِ] [حَقِيقَةُ الْهَيَمَانِ] وَقَدْ يَعْرِضُ لِلسَّالِكِ عِنْدَ وُرُودِ بَعْضِ الْمَعَانِي وَالْوَارِدَاتِ الْعَجِيبَةِ عَلَى قَلْبِهِ: فَرْطُ تَعَجُّبٍ، وَاسْتِحْسَانٍ وَاسْتِلْذَاذٍ، يُزِيلُ عَنْهُ تَمَاسُكَهُ، فَيُورِثُهُ ذَلِكَ الْهَيَمَانَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَقَامَاتِ السَّيْرِ، وَلَا مَنَازِلِ الطَّرِيقِ الْمَقْصُودَةِ بِالنُّزُولِ فِيهَا لِلْمُسَافِرِينَ. خِلَافًا لِصَاحِبِ الْمَنَازِلِ. حَيْثُ عَدَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْلَى الْمَنَازِلِ وَغَايَاتِهَا، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْهَيَمَانِ وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا فِي لِسَانِ سَلَفِ الْقَوْمِ. وَقَدْ تَكَلَّفَ لَهُ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ الِاسْتِشْهَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] وَمَا أَبْعَدَ الْآيَةَ مِنَ اسْتِشْهَادِهِ. وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ مُوسَى ذَهَبَ عَنْ تَمَاسُكِهِ، لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الْخِطَابِ وَالتَّكْلِيمِ الْإِلَهِيِّ فَأَوْرَثَهُ ذَلِكَ هَيَمَانًا صُعِقَ مِنْهُ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّهُ. وَإِنَّمَا صُعِقَ مُوسَى عِنْدَ تَجَلِّي الرَّبِّ تَعَالَى لِلْجَبَلِ وَاضْمِحْلَالِهِ، وَتَدَكْدُكِهِ مِنْ تَجَلِّي الرَّبِّ تَعَالَى. فَالِاسْتِشْهَادُ بِالْآيَةِ فِي مَنْزِلَةِ الْفَنَاءِ الَّتِي تَضْمَحِلُّ فِيهَا الرُّسُومُ: أَنْسَبُ وَأَظْهَرُ. لِأَنَّ تَدَكْدُكَ الْجَبَلِ: هُوَ اضْمِحْلَالُ رَسْمِهِ عِنْدَ وُرُودِ نُورِ التَّجَلِّي عَلَيْهِ. وَالصَّعْقُ فَنَاءٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِهَذَا الْوَارِدِ الْمُفْنِي لِبَشَرِيَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَدْ حَدَّهُ بِأَنَّهُ الذَّهَابُ عَنِ التَّمَاسُكِ تَعَجُّبًا أَوْ حَيْرَةً. يَعْنِي: أَنَّ الْهَائِمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِمْسَاكِ نَفْسِهِ لِلْوَارِدِ تَعَجُّبًا مِنْهُ وَحَيْرَةً. قَالَ: وَهُوَ أَثْبَتُ دَوَامًا، وَأَمْلَكُ لِلنَّعْتِ مِنَ الدَّهِشِ. يَعْنِي: أَنَّ الْهَائِمَ قَدْ يَسْتَمِرُّ هَيَمَانُهُ مُدَّةً طَوِيلَةً. بِخِلَافِ الْمَدْهُوشِ. وَصَاحِبُ الْهَيَمَانِ يَمْلِكُ عِنَانَ الْقَوْلِ. فَيُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ. وَيَتَمَكَّنُ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهُ. وَأَمَّا الدَّهِشُ: فَلِضِيقِ مَعْنَاهُ، وَقِصَرِ زَمَانِهِ: لَمْ يَمْلِكِ النَّعْتَ. فَالْهَائِمُ أَمْلَكُ بِنَعْتِ حَالِهِ وَوَارِدِهِ مِنَ الْمَدْهُوشِ. [دَرَجَاتُ الْهَيَمَانِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى هَيَمَانٌ فِي شِيَمِ أَوَائِلِ بَرْقِ اللُّطْفِ عِنْدَ قَصْدِ الطَّرِيقِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الْأُولَى: هَيَمَانٌ فِي شِيَمِ أَوَائِلِ بَرْقِ اللُّطْفِ عِنْدَ

فصل الدرجة الثانية هيمان في تلاطم أمواج التحقيق عند ظهور براهينه

قَصْدِ الطَّرِيقِ، مَعَ مُلَاحَظَةِ الْعَبْدِ خِسَّةَ قَدْرِهِ، وَسَفَالَةَ مَنْزِلَتِهِ. وَتَفَاهَةَ قِيمَتِهِ يُرِيدُ: أَنَّ الْقَاصِدَ لِلسُّلُوكِ إِذَا نَظَرَ إِلَى مَوَاقِعِ لُطْفِ رَبِّهِ بِهِ - حَيْثُ أَهَّلَهُ لِمَا لَمْ يُؤَهِّلْ لَهُ أَهْلَ الْبَلَاءِ، وَهُمْ أَهْلُ الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ - أَوْرَثَهُ ذَلِكَ النَّظَرُ تَعَجُّبًا يُوقِعُهُ فِي نَوْعٍ مِنَ الْهَيَمَانِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ فِي الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ " «إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الْبَلَاءِ فَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ» " تَدْرُونَ مَنْ هُمْ أَهْلُ الْبَلَاءِ؟ هُمْ أَهْلُ الْغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ. وَتَقْوَى هَذِهِ الْحَالُ إِذَا انْضَافَ إِلَيْهَا شُهُودُ الْعَبْدِ خِسَّةَ قَدْرِ نَفْسِهِ. فَاسْتَصْغَرَهَا أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِمَا أُهِّلَتْ لَهُ. وَكَذَلِكَ شُهُودُ سَفَالَةِ مَنْزِلَتِهِ أَيِ انْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ، وَكَذَلِكَ شُهُودُ تَفَاهَةِ قِيمَتِهِ أَيْ خِسَّتِهَا وَقِلَّتِهَا. وَحَاصِلُ ذَلِكَ كُلِّهِ: احْتِقَارُهُ لِنَفْسِهِ، وَاسْتِعْظَامُهُ لِلُطْفِ رَبِّهِ بِهِ، وَتَأْهِيلِهِ لَهُ. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ: الْهَيَمَانُ الْمَذْكُورُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ الشُّهُودَيْنِ: أُمُورٌ أُخْرَى، أَجَلُّ وَأَعْظَمُ، وَأَشْرَفُ مِنَ الْهَيَمَانِ - مِنْ مَحَبَّةٍ وَحَمْدٍ وَشُكْرٍ، وَعَزْمٍ وَإِخْلَاصٍ، وَنَصِيحَةٍ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَسُرُورٍ وَفَرَحٍ بِرَبِّهِ، وَأُنْسٍ بِهِ - هِيَ مَطْلُوبَةٌ لِذَاتِهَا. بِخِلَافِ عَارِضِ الْهَيَمَانِ. فَإِنَّهُ لَا يُطْلَبُ لِذَاتِهِ. وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ هَيَمَانٌ فِي تَلَاطُمِ أَمْوَاجِ التَّحْقِيقِ عِنْدَ ظُهُورِ بَرَاهِينِهِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: هَيَمَانٌ فِي تَلَاطُمِ أَمْوَاجِ التَّحْقِيقِ، عِنْدَ ظُهُورِ بَرَاهِينِهِ، وَتَوَاصُلِ عَجَائِبِهِ، وَلَوَامِعِ أَنْوَارِهِ. يُرِيدُ: أَنَّ السَّالِكَ وَالْمُرِيدَ إِذَا لَاحَتْ لَهُ أَنْوَارُ تَحَقُّقِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ: اهْتَدَى بِهَا إِلَى الْقَصْدِ، عَنْ بَصِيرَةٍ مُسْتَجَدَّةٍ، وَيَقَظَةٍ مُسْتَعِدَّةٍ. فَاسْتَنَارَ بِهَا قَلْبُهُ، وَأَشْرَقَ لَهَا سِرُّهُ. فَتَلَاطَمَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ التَّحْقِيقِ عِنْدَ ظُهُورِ الْبَرَاهِينِ. فَهَامَ قَلْبُهُ فِيهَا. وَهَذَا أَمْرٌ يَعْرِفُهُ بِالذَّوْقِ كُلُّ طَالِبٍ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ انْفَتَحَتْ لَهُ الطُّرُقُ وَالْأَبْوَابُ إِلَى تَحْصِيلِهِ. وَيُرِيدُ بِتَوَاصُلِ عَجَائِبِهِ: تَتَابُعُ عَجَائِبِ التَّحْقِيقِ، وَأَنَّ بَعْضَهَا لَا يُحْجَبُ عَنْ

فصل الدرجة الثالثة هيمان عند الوقوع في عين القدم ومعاينة سلطان الأزل

بَعْضٍ، وَلَا يَقِفُ فِي طَرِيقِ بَعْضٍ. وَكَذَلِكَ لَوَامِعُ أَنْوَارِهِ وَأَعْظَمُ مَا يَجِدُ هَذَا الْوَجْدَ: عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ. وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ لِلْفَهْمِ. وَنِسْبَةُ مَا دُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ: كَتَفْلَةٍ فِي بَحْرٍ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ هَيَمَانٌ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي عَيْنِ الْقِدَمِ وَمُعَايَنَةِ سُلْطَانِ الْأَزَلِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: هَيَمَانٌ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي عَيْنِ الْقِدَمِ، وَمُعَايَنَةِ سُلْطَانِ الْأَزَلِ، وَالْغَرَقِ فِي بَحْرِ الْكَشْفِ. يُرِيدُ: هَيَمَانَ الْفَنَاءِ. وَالْوُقُوعُ فِي عَيْنِ الْقِدَمِ إِنَّمَا يَكُونُ بِاضْمِحْلَالِ الرَّسْمِ وَفَنَائِهِ فِي شُهُودِ الْقِدَمِ. فَإِنَّهُ يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُودًا. وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ. وَكَذَلِكَ مُعَايَنَةُ سُلْطَانِ الْأَزَلِ لَا يَبْقَى مَعَهَا مُعَايَنَةُ رُسُومِ الْكَائِنَاتِ وَأَطْلَالِ الْحَادِثَاتِ. وَأَمَّا بَحْرُ الْكَشْفِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ: فَهُوَ انْكِشَافُ الْحَقِيقَةِ لِعَيْنِ الْقَلْبِ. وَلَا تَعْتَقِدْ أَنَّ لِلسَّالِكِ وَرَاءَ مَقَامِ الْإِحْسَانِ شَيْئًا أَعْلَى مِنْهُ. بَلِ الْإِحْسَانُ مَرَاتِبُ. وَأَمَّا الْكَشْفُ الْحَقِيقِيُّ لِلْحَقِيقَةِ: فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَلْبَتَّةَ. وَالْقَوْمُ يَلُوُحُ لِأَحَدِهِمْ أَنْوَارٌ هِيَ ثَمَرَاتُ الْإِيمَانِ وَمُعَامَلَاتُ الْقُلُوبِ، وَآثَارُ الْأَحْوَالِ الصَّادِقَةِ فَيَظُنُّونَهَا نُورَ الْحَقِيقَةِ. وَلَا يَأْخُذُهُمْ فِي ذَلِكَ لَوْمَةُ لَائِمٍ. وَإِنَّمَا هِيَ أَنْوَارٌ فِي بَوَاطِنِهِمْ لَيْسَ إِلَّا، وَبَابُ الْعِصْمَةِ مِنْ غَيْرِ الرُّسُلِ مَسْدُودٌ إِلَّا عَمَّنِ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْبَرْقُ] [حَقِيقَةُ الْبَرْقِ] فَصْلٌ الْبَرْقُ وَمِنْ أَنْوَارِ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " نُورُ الْبَرْقِ الَّذِي يَبْدُو لِلْعَبْدِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَهُوَ لَامِعٌ يَلْمَعُ لِقَلْبِهِ. يُشْبِهُ لَامِعَ الْبَرْقِ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْبَرْقُ: بَاكُورَةٌ تَلْمَعُ لِلْعَبْدِ. فَتَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ.

درجات البرق

وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى - إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه: 9 - 10] . وَوَجْهُ الِاسْتِشْهَادِ: أَنَّ النَّارَ الَّتِي رَآهَا مُوسَى كَانَتْ مَبْدَأً فِي طَرِيقِ نُبُوَّتِهِ. وَ " الْبَرْقُ " مَبْدَأٌ فِي طَرِيقِ الْوَلَايَةِ الَّتِي هِيَ وِرَاثَةُ النُّبُوَّةِ. وَقَوْلُهُ " بَاكُورَةٌ: الْبَاكُورَةُ هِيَ أَوَّلُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ بَاكُورَةُ الثِّمَارِ. وَهُوَ لِمَا سَبَقَ نَوْعَهُ فِي النُّضْجِ. وَقَوْلُهُ " يَلْمَعُ لِلْعَبْدِ " أَيْ يَبْدُو لَهُ وَيَظْهَرُ " فَتَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ " وَلَمْ يُرِدْ طَرِيقَ أَهْلِ الْبِدَايَاتِ. فَإِنَّ تِلْكَ هِيَ الْيَقَظَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: طَرِيقَ أَرْبَابِ التَّوَسُّطِ وَالنِّهَايَاتِ. وَعَلَى هَذَا: فَالْبَرْقُ - الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ - هُوَ بَرْقُ الْأَحْوَالِ، لَا بَرْقُ الْأَعْمَالِ، أَوْ بَرْقٌ لَا سَبَبَ لَهُ مِنَ السَّالِكِ. إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مَوْهِبَةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَحْصُلُ لِأَرْبَابِ التَّوَسُّطِ وَالنِّهَايَاتِ: أَنَّهُ أَخَذَ - بَعْدَ تَعْرِيفِهِ - يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَجْدِ. فَقَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَجْدِ: أَنَّ الْوَجْدَ يَقَعُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ. وَالْبَرْقُ قَبْلَهُ. فَالْوَجْدُ زَادٌ. وَالْبَرْقُ إِذْنٌ. يُرِيدُ: أَنَّ الْبَرْقَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَيُبْدِيهِ لَهُ. فَيَدْعُوهُ بِهِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الطَّرِيقِ. وَالْوَجْدُ هُوَ شِدَّةُ الطَّلَبِ، وَقُوَّتُهُ الْمُوجِبَةُ لِتَأْجِيجِ اللَّهِيبِ مِنَ الشُّهُودِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَ " الْوَجْدُ زَادٌ " يَعْنِي: أَنَّهُ يَصْحَبُ السَّالِكَ كَمَا يَصْحَبُهُ زَادُهُ. بَلْ هُوَ مِنْ نَفَائِسِ زَادِهِ وَ " الْبَرْقُ إِذْنٌ " يَعْنِي إِذْنًا فِي السُّلُوكِ، وَالْإِذْنُ إِنَّمَا يُفْسِحُ لِلسَّالِكِ فِي الْمَسِيرِ لَا غَيْرَ. [دَرَجَاتُ الْبَرْقِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ الْعِدَةِ فِي عَيْنِ الرَّجَاءِ] قَالَ: وَهُوَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ. الْأُولَى: بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ الْعِدَةِ فِي عَيْنِ الرَّجَاءِ. فَيَسْتَكْثِرُ فِيهِ الْعَبْدُ الْقَلِيلَ مِنَ الْعَطَاءِ، وَيَسْتَقِلُّ فِيهِ الْكَثِيرَ مِنَ الْإِعْيَاءِ، وَيَسْتَحْلِي فِيهِ مَرَارَةَ الْقَضَاءِ.

فصل الدرجة الثانية برق يلمع من جانب الوعيد في عين الحذر

يَعْنِي بِالْعِدَةِ: مَا وَعَدَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَعِنْدَ اللِّقَاءِ. وَقَوْلُهُ " يَلْمَعُ فِي عَيْنِ الرَّجَاءِ " أَيْ يَبْدُو فِي حَقِيقَةِ الرَّجَاءِ مِنْ أُفُقِهِ وَنَاحِيَتِهِ، فَيُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ اسْتِكْثَارَ الْقَلِيلِ - وَلَا قَلِيلَ مِنَ اللَّهِ - مِنْ عَطَائِهِ، وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الِاسْتِكْثَارِ: أَرْبَعَةُ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: نَظَرُهُ إِلَى جَلَالَةِ مُعْطِيهِ وَعَظَمَتِهِ. الثَّانِي: احْتِقَارُهُ لِنَفْسِهِ. فَإِنَّ ازْدِرَاءَهُ لَهَا: يُوجِبُ اسْتِكْثَارَ مَا يَنَالُهُ مِنْ سَيِّدِهِ. الثَّالِثُ: مَحَبَّتُهُ لَهُ. فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا تَمَكَّنَتْ مِنَ الْعَبْدِ اسْتَكْثَرَ قَلِيلَ مَا يَنَالُهُ مِنْ مَحْبُوبِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا - قَبْلَ الْعَطَاءِ - لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلْفٌ بِهِ، وَلَا اتِّصَالٌ بِالْعَطِيَّةِ. فَلَمَّا فَاجَأَتْهُ: اسْتَكْثَرَهَا. وَأَمَّا اسْتِقْلَالُهُ الْكَثِيرَ مِنَ الْإِعْيَاءِ - وَهُوَ التَّعَبُ وَالنَّصَبُ - فَلِأَنَّهُ لَمَّا بَدَا لَهُ بَرْقُ الْوُعُودِ مِنْ أُفُقِ الرَّجَاءِ: حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الْجِدِّ وَالطَّلَبِ. وَحَمَلَ عَنْهُ مَشَقَّةَ السَّيْرِ. فَلَمْ يَجِدْ لِذَلِكَ مِنْ مَسِّ الْإِعْيَاءِ وَالنَّصَبِ مَا يَجِدُهُ مَنْ لَمْ يَشُمَّ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ اسْتِحْلَاؤُهُ - فِي هَذَا الْبَرْقِ - مَرَارَةَ الْقَضَاءِ وَهُوَ الْبَلَاءُ الَّذِي يَخْتَبِرُ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ، لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَصْبَرُ وَأَصْدَقُ، وَأَعْظَمُ إِيمَانًا، وَمَحَبَّةً وَتَوَكُّلًا وَإِنَابَةً؟ فَإِذَا لَاحَ لِلسَّالِكِ هَذَا الْبَرْقُ: اسْتَحْلَى فِيهِ مَرَارَةَ الْقَضَاءِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ الْوَعِيدِ فِي عَيْنِ الْحَذَرِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ الْوَعِيدِ فِي عَيْنِ الْحَذَرِ. فَيَسْتَقْصِرُ فِيهِ الْعَبْدُ الطَّوِيلَ مِنَ الْأَمَلِ، وَيَزْهَدُ فِي الْخَلْقِ عَلَى الْقُرْبِ. وَيَرْغَبُ فِي تَطْهِيرِ السِّرِّ. هَذَا الْبَرْقُ أُفُقُهُ وَعَيْنُهُ: غَيْرُ أُفُقِ الْبَرْقِ الْأَوَّلِ. فَإِنَّ هَذَا يَلْمَعُ مِنْ أُفُقِ الْحَذَرِ، وَذَاكَ مِنْ أُفُقِ الرَّجَاءِ. فَإِذَا شَامَ هَذَا الْبَرْقَ: اسْتَقْصَرَ فِيهِ الطَّوِيلَ مِنَ الْأَمَلِ. وَتَخَيَّلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ: أَنَّ الْمَنِيَّةَ تُعَافِصَهُ وَتُفَاجِئُهُ. فَاشْتَدَّ حَذَرُهُ مِنْ هُجُومِهَا، مَخَافَةَ أَنْ تَحِلَّ بِهِ عُقُوبَةُ اللَّهِ، وَيُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِعْتَابِ وَالتَّأَهُّبِ لِللِّقَاءِ. فَيَلْقَى رَبَّهُ قَبْلَ الطُّهْرِ التَّامِّ. فَلَا يُؤْذَنُ لَهُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ. كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ لِلصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ.

فصل الدرجة الثالثة برق يلمع من جانب اللطف في عين الافتقار

وَهَذَا يُذَكِّرُ الْعِبَادَ بِالتَّطَهُّرِ لِلْمُوَافَاةِ وَالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَالدُّخُولِ وَقْتَ اللِّقَاءِ لِمَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ، وَفَهِمَ أَسْرَارَ الْعِبَادَاتِ. فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَقْبِلَ بَيْتَهُ الْمُحَرَّمَ بِوَجْهِهِ، وَيَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَيُطَهِّرَ بَدَنَهُ وَثِيَابَهُ، وَمَوْضِعَ مَقَامِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ. ثُمَّ يُخْلِصُ لَهُ النِّيَّةَ. فَهَكَذَا الدُّخُولُ عَلَيْهِ وَقْتَ اللِّقَاءِ، لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِأَنْ يَسْتَقْبِلَ رَبَّهُ بِقَلْبِهِ كُلِّهِ. وَيَسْتُرَ عَوْرَاتِهِ الْبَاطِنَةَ بِلِبَاسِ التَّقْوَى. وَيُطَهِّرَ قَلْبَهُ وَرُوحَهُ وَجَوَارِحَهُ مِنْ أَدْنَاسِهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. وَيَتَطَهَّرَ لِلَّهِ طُهْرًا كَامِلًا. وَيَتَأَهَّبَ لِلدُّخُولِ أَكْمَلَ تَأَهُّبٍ. وَأَوْقَاتُ الصَّلَاةِ نَظِيرُ وَقْتِ الْمُوَافَاةِ. فَإِذَا تَأَهَّبَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْوَقْتِ: جَاءَهُ الْوَقْتُ وَهُوَ مُتَأَهِّبٌ. فَيَدْخُلُ عَلَى اللَّهِ. وَإِذَا فَرَّطَ فِي التَّأَهُّبِ: خِيفَ عَلَيْهِ مِنْ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَبْلَ التَّأَهُّبِ. إِذْ هُجُومُ وَقْتِ الْمُوَافَاةِ مُضَيَّقٌ لَا يَقْبَلُ التَّوْسِعَةَ. فَلَا يُمَكِّنُ الْعَبْدَ مِنَ التَّطَهُّرِ وَالتَّأَهُّبِ عِنْدَ هُجُومِ الْوَقْتِ. بَلْ يُقَالُ لَهُ: هَيْهَاتَ، فَاتَ مَا فَاتَ، وَقَدْ بَعُدَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّطَهُّرِ الْمَسَافَاتُ. فَمَنْ شَامَ بَرْقَ الْوَعِيدِ بِقِصَرِ الْأَمَلِ: لَمْ يَزَلْ عَلَى طَهَارَةٍ. وَأَمَّا " تَزْهِيدُهُ فِي الْخَلْقِ عَلَى الْقُرْبِ " وَإِنْ كَانُوا أَقَارِبَهُ أَوْ مُنَاسِبِيهِ، أَوْ مُجَاوِرِيهِ وَمُلَاصِقِيهِ، أَوْ مُعَاشِرِيهِ وَمُخَالِطِيهِ: فَلِكَمَالِ حَذَرِهِ، وَاسْتِعْدَادِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِمَا أَمَامَهُ، وَمُلَاحَظَةِ الْوَعِيدِ مِنْ أُفُقِ ذَلِكَ الْبَارِقِ الَّذِي لَيْسَ بِخُلَّبٍ، بَلْ هُوَ أَصْدَقُ بَارِقٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ عَنْ قُرْبٍ أَيْ عَنْ أَقْرَبِ وَقْتٍ. فَلَا يَنْتَظِرُ بِزُهْدِهِ فِيهِمْ: أَمَلًا يُؤَمِّلُهُ. وَلَا وَقْتًا يَسْتَقْبِلُهُ. قَوْلُهُ " وَيَرْغَبُ فِي تَطْهِيرِ السِّرِّ " يَعْنِي تَطْهِيرَ سِرِّهِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ اللُّطْفِ فِي عَيْنِ الِافْتِقَارِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ جَانِبِ اللُّطْفِ فِي عَيْنِ الِافْتِقَارِ. فَيُنْشِئُ سَحَابَ السُّرُورِ. وَيُمْطِرُ مَطَرَ الطَّرَبِ. وَيَجْرِي مِنْ نَهْرِ الِافْتِخَارِ هَذَا الْبَرْقُ يَلْمَعُ مِنْ أُفُقِ مُلَاطَفَةِ الرَّبِّ تَعَالَى لِعَبْدِهِ بِأَنْوَاعِ الْمُلَاطَفَاتِ. وَمَطْلَعُ هَذَا الْبَرْقِ: فِي عَيْنِ الِافْتِخَارِ، الَّذِي هُوَ بَابُ السُّلُوكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالطَّرِيقُ الْأَعْظَمُ الَّذِي لَا يُدْخَلُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْهُ. وَكُلُّ طَرِيقٍ سِوَاهُ فَمَسْدُودٌ. وَمَعَ هَذَا فَلَا يَصِلُ الْعَبْدُ مِنْهُ إِلَّا بِالْمُتَابَعَةِ. فَلَا طَرِيقَ إِلَى اللَّهِ أَلْبَتَّةَ أَبَدًا - وَلَوْ تَعَنَّى الْمُتَعَنُّونَ، وَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ - إِلَّا

الِافْتِقَارُ، وَمُتَابَعَةُ الرَّسُولِ فَقَطْ. فَلَا يُتْعِبُ السَّالِكُ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ. فَإِنَّهُ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ. وَهُوَ صَيْدُ الْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ. قَوْلُهُ " فَيُنْشِئُ سَحَابَ السُّرُورِ " أَيْ يُنْشِئُ لِلْعَبْدِ سُرُورًا خَاصًّا وَفَرَحًا بِرَبِّهِ لَا عَهْدَ لَهُ بِمِثْلِهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَنَفْحَةً مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَنِسْمَةً مِنْ رِيحِ شَمَالِهِمْ. فَإِذَا نَشَأَ لَهُ ذَلِكَ السَّحَابُ أَمْطَرَ عَلَيْهِ صَيِّبَ الطَّرَبِ، فَطَرِبَ بَاطِنُهُ وَسِرُّهُ لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ سَيِّدِهِ وَوَلِيِّهِ. وَإِذَا اشْتَدَّ ذَلِكَ الطَّرَبُ. جَرَى بِهِ نَهْرُ الِافْتِخَارِ، يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ. وَإِمَّا أَنْ يُرِيدُ بِهِ: افْتِخَارُهُ عَلَى الشَّيْطَانِ. وَهَذِهِ مَخِيلَةٌ مَحْمُودَةٌ، طَرَبًا وَافْتِخَارًا عَلَيْهِ. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا يُحِبُّ الْمُخْتَالَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ عِنْدَ الْحَرْبِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُرَاغَمَةِ أَعْدَائِهِ، وَيُحِبُّ الْخُيَلَاءَ عِنْدَ الصَّدَقَةِ - كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْحَدِيثِ - لِسِرٍّ عَجِيبٍ، يَعْرِفُهُ أُولُو الصَّدَقَاتِ وَالْبَذْلِ مِنْ نُفُوسِهِمْ عِنْدَ ارْتِيَاحِهِمْ لِلْعَطَاءِ، وَابْتِهَاجِهِمْ بِهِ، وَاخْتِيَالِهِمْ عَلَى النَّفْسِ الشَّحِيحَةِ الْأَمَّارَةِ بِالْبُخْلِ. وَعَلَى الشَّيْطَانِ الْمُزَيِّنِ لَهَا ذَلِكَ: وَهُمْ يُنْفِذُونَ الْمَالَ فِي أَوَّلِ الْغِنَى ... وَيَسْتَأْنِفُونَ الصَّبْرَ فِي آخِرِ الصَّبْرِ مَغَاوِيرُ لِلْعَلْيَا مَغَابِيرُ لِلْحِمَى ... مَفَارِيجُ لِلْغُمَّى مَدَارِيكُ لِلْوِتْرِ وَتَأْخُذُهُمْ فِي سَاعَةِ الْجُودَ هِزَّةٌ ... كَمَا تَأْخُذُ الْمِطْرَابَ عَنْ نَزْوَةِ الْخَمْرِ فَهَذَا الِافْتِخَارُ مِنْ تَمَامِ الْعُبُودِيَّةِ. أَوْ يُرِيدُ بِهِ: أَنَّهُ حَرِيٌّ بِالِافْتِخَارِ بِمَا تَمَيَّزَ بِهِ. وَلَمْ يَفْتَخِرْ بِهِ إِبْقَاءً عَلَى عُبُودِيَّتِهِ وَافْتِقَارِهِ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسِرُّ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَاحَظَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْأَلْطَافِ، وَشَهِدَهُ مِنْ عَيْنِ الْمِنَّةِ، وَمَحْضِ الْجُودِ: شَهِدَ مَعَ ذَلِكَ فَقْرَهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَعَدَمَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الشُّكْرِ، وَأَسْبَابِ الْمَزِيدِ، وَتَوَالِي النِّعَمِ عَلَيْهِ. وَكُلَّمَا تَوَالَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ: أَنْشَأَتْ فِي قَلْبِهِ سَحَائِبَ السُّرُورِ. وَإِذَا انْبَسَطَتْ هَذِهِ السَّحَائِبُ فِي سَمَاءِ قَلْبِهِ، وَامْتَلَأَ بِهَا أُفُقُهُ: أَمْطَرَتْ عَلَيْهِ وَابِلَ الطَّرَبِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ لَذِيذِ السُّرُورِ. فَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ وَابِلٌ فَطَلٌّ. وَحِينَئِذٍ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ وَظَاهِرِهِ نَهْرُ الِافْتِخَارِ مِنْ غَيْرِ عُجْبٍ وَلَا فَخْرٍ، بَلْ فَرَحًا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] فَالِافْتِخَارُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالِافْتِقَارُ وَالِانْكِسَارُ فِي بَاطِنِهِ، وَلَا يُنَافِي أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.

فصل منزلة الذوق

وَتَأَمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» فَكَيْفَ أَخْبَرَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ افْتِخَارًا بِهِ عَلَى مَنْ دُونَهُ، وَلَكِنْ إِظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِعْلَامًا لِلْأُمَّةِ بِقَدْرِ إِمَامِهِمْ وَمَتْبُوعِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ لَدَيْهِ. لِتَعْرِفَ الْأُمَّةُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ. وَيُشْبِهُ هَذَا قَوْلَ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ لِلْعَزِيزِ {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] فَإِخْبَارُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، لَمَّا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلَى الْعَزِيزِ وَعَلَى الْأُمَّةِ، وَعَلَى نَفْسِهِ: كَانَ حَسَنًا. إِذْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْفَخْرَ عَلَيْهِمْ، فَمَصْدَرُ الْكَلِمَةِ وَالْحَامِلُ عَلَيْهَا يُحَسِّنُهَا وَيُهَجِّنُهَا. وَصُورَتُهُ وَاحِدَةٌ. [فَصْلُ مَنْزِلَةِ الذَّوْقِ] [حَقِيقَةُ الذَّوْقِ] فَصْلٌ وَمِنْهَا مَنْزِلَةُ الذَّوْقِ وَ " الذَّوْقُ " مُبَاشَرَةُ الْحَاسَّةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِلْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ. وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِحَاسَّةِ الْفَمِ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ، بَلْ وَلَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50] وَقَالَ {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106] وَقَالَ تَعَالَى {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص: 57] وَقَالَ {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] . فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ الذَّوْقِ وَاللِّبَاسِ، لِيَدُلَّ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْمَذُوقِ وَإِحَاطَتِهِ وَشُمُولِهِ. فَأَفَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِذَاقَتِهِ: أَنَّهُ وَاقِعٌ مُبَاشَرٌ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ. فَإِنَّ الْخَوْفَ قَدْ يُتَوَقَّعُ وَلَا

يُبَاشَرُ، وَأَفَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ لِبَاسِهِ: أَنَّهُ مُحِيطٌ شَامِلٌ كَاللِّبَاسِ لِلْبَدَنِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا. وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولًا» فَأَخْبَرَ: أَنَّ لِلْإِيمَانِ طَعْمًا، وَأَنَّ الْقَلْبَ يَذُوقُهُ كَمَا يَذُوقُ الْفَمُ طَعْمَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَقَدْ عَبَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ، وَالْإِحْسَانِ، وَحُصُولِهِ لِلْقَلْبِ وَمُبَاشَرَتِهِ لَهُ: بِالذَّوْقِ تَارَةً، وَبِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ تَارَةً، وَبِوُجُودِ الْحَلَاوَةِ تَارَةً، كَمَا قَالَ «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ» وَقَالَ «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ - بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ - كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» . وَلَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ الْوِصَالِ قَالُوا: «إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى» وَفِي لَفْظٍ «إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» وَفِي لَفْظٍ «إِنَّ لِي مُطْعِمًا يُطْعِمُنِي، وَسَاقِيًا يَسْقِينِي» . وَقَدْ غَلُظَ حِجَابُ مَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا طَعَامٌ وَشَرَابٌ حِسِّيٌّ لِلْفَمِ. وَلَوْ كَانَ كَمَا ظَنَّهُ هَذَا الظَّانُّ: لَمَا كَانَ صَائِمًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُوَاصِلًا. وَلَمَا صَحَّ جَوَابُهُ بِقَوْلِهِ «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ» فَأَجَابَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. وَلَوْ كَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِفِيهِ الْكَرِيمِ حِسًّا، لَكَانَ الْجَوَابُ أَنْ يَقُولَ: وَأَنَا لَسْتُ أُوَاصِلُ أَيْضًا. فَلَمَّا أَقَرَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّكَ تُوَاصِلُ عُلِمَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُمْسِكُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَيَكْتَفِي بِذَلِكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْعَالِي الرُّوحَانِيِّ، الَّذِي يُغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْمُشْتَرَكِ الْحِسِّيِّ. وَهَذَا الذَّوْقُ هُوَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ هِرَقْلُ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، حَيْثُ قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ، إِذَا خَالَطَتْ

فصل باب الذوق

حَلَاوَتُهُ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ. فَاسْتَدَلَّ بِمَا يَحْصُلُ لِأَتْبَاعِهِ مِنْ ذَوْقِ الْإِيمَانِ - الَّذِي خَالَطَتْ بِشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ: لَمْ يَسْخَطْهُ ذَلِكَ الْقَلْبُ أَبَدًا - عَلَى أَنَّهُ دَعْوَةُ نُبُوَّةٍ وَرِسَالَةٍ، لَا دَعْوَى مُلْكٍ وَرِيَاسَةٍ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ ذَوْقَ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، أَمْرٌ يَجِدُهُ الْقَلْبُ. تَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ ذَوْقِ حَلَاوَةِ الطَّعَامِ إِلَى الْفَمِ، وَذَوْقِ حَلَاوَةِ الْجِمَاعِ إِلَى إِلْفَةِ النَّفْسِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ. وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» فَلِلْإِيمَانِ طَعْمٌ وَحَلَاوَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا ذَوْقٌ وَوَجْدٌ. وَلَا تَزُولُ الشُّبَهُ وَالشُّكُوكُ عَنِ الْقَلْبِ إِلَّا إِذَا وَصَلَ الْعَبْدُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ. فَبَاشَرَ الْإِيمَانَ قَلْبُهُ حَقِيقَةَ الْمُبَاشَرَةِ. فَيَذُوقَ طَعْمَهُ وَيَجِدَ حَلَاوَتَهُ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ بَابُ الذَّوْقِ] قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: بَابُ الذَّوْقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَذَا ذِكْرُ} [الأنبياء: 24] . فِي تَنْزِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الذَّوْقِ صُعُوبَةٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الشَّيْخَ أَرَادَ: أَنَّ الذَّوْقَ مُقَدِّمَةُ الشَّرَابِ، كَمَا أَنَّ التَّذَكُّرَ مُقَدِّمَةُ الْمَعْرِفَةِ، وَمِنْهُ يَدْخُلُ إِلَى مَقَامِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ. فَإِنَّهُ إِذَا تَذَكَّرَ أَبْصَرَ الْحَقِيقَةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] فَالتَّذَكُّرُ يُوجِبُ التَّبَصُّرُ، فَيَكُونُ لَهُ الْإِيمَانُ بَعْدَ التَّبَصُّرِ ذَوْقًا وَعِيَانًا. وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ - جَنَّاتِ عَدْنٍ} [ص: 49 - 50] فَالتَّذَكُّرُ بِهَذَا الذِّكْرِ، الَّذِي قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَشْهَدُ صَاحِبُهُ الْإِيمَانَ بِالْمَعَادِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ عِنْدَ لِقَائِهِ. فَيَصِيرُ

فصل الذوق أبقى من الوجد وأجلى من البرق

إِيمَانُهُمْ بِذَلِكَ ذَوْقًا، لَا خَبَرًا مَحْضًا. لِأَنَّهُ نَشَأَ عَنْ تَذَكُّرِهِمْ بِذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَأَمُّلِهِمْ حَقَائِقَهُ وَأَسْرَارَهُ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيَانِ. فَالتَّذَكُّرُ سَبَبُ الذَّوْقِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الذَّوْقُ أَبْقَى مِنَ الْوَجْدِ وَأَجْلَى مِنَ الْبَرْقِ] فَصْلٌ قَالَ: وَالذَّوْقُ: أَبْقَى مِنَ الْوَجْدِ، وَأَجْلَى مِنَ الْبَرْقِ. يُرِيدُ بِهِ: أَنَّ مَنْزِلَةَ الذَّوْقِ أَثْبَتُ وَأَرْسَخُ مِنْ مَنْزِلَةِ الْوَجْدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَثَرَ الذَّوْقِ يَبْقَى فِي الْقَلْبِ، وَيَطُولُ بَقَاؤُهُ. كَمَا يَبْقَى أَثَرُ ذَوْقِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْقُوَّةِ الذَّائِقَةِ. وَيَبْقَى عَلَى الْبَدَنِ وَالرُّوحِ. فَإِنَّ الذَّوْقَ مُبَاشَرَةٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَالْوَجْدُ عِنْدَ الشَّيْخِ لَهِيبٌ يَتَأَجَّجُ مِنْ شُهُودِ عَارِضٍ مُقْلِقٍ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنَ الْعَوَارِضِ، كَالْهَيَمَانِ وَالْقَلَقِ. فَإِنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ مُكَاشَفَةٍ لَا تَدُومُ. فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ أَبْقَى مِنَ الْوَجْدِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ " وَأَجْلَى مِنَ الْبَرْقِ " فَإِنَّ الْبَرْقَ أَسْرَعُ انْقِضَاءً، وَكَشْفُهُ دُونَ كَشْفِ الذَّوْقِ. وَهَذَا صَحِيحٌ. وَلَكِنَّ جَعْلَهُ الذَّوْقَ أَبْقَى مِنَ الْوَجْدِ وَأَعْلَى مِنْهُ: فِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْوَجْدَ فَوْقَ الذَّوْقِ وَأَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ» الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِي الذَّوْقِ: ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ، فَوَجْدُ حَلَاوَةِ الشَّيْءِ الْمَذُوقِ: أَخَصُّ مِنْ مُجَرَّدِ ذَوْقِهِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْحَلَاوَةُ أَخَصَّ مِنَ الطَّعْمِ: قَرَنَ بِهَا الْوَجْدَ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مِنْ مُجَرَّدِ الذَّوْقِ. فَقَرَنَ الْأَخَصَّ بِالْأَخَصِّ، وَالْأَعَمَّ بِالْأَعَمِّ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِوَجْدِ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ: الْوَجْدَ الَّذِي هُوَ لَهِيبُ الْقَلْبِ. فَإِنَّ ذَلِكَ مَصْدَرُ وَجَدَ بِالشَّيْءِ وَجْدًا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ الثُّبُوتُ. فَمَصْدَرُ هَذَا الْفِعْلِ: الْوُجُودُ وَالْوِجْدَانُ، فَوَجَدَ الشَّيْءَ يَجِدُهُ وِجْدَانًا: إِذَا حَصَلَ لَهُ وَثَبَتَ. كَمَا يَجِدُ الْفَاقِدُ الشَّيْءَ الَّذِي بَعُدَ مِنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور: 39] وَقَوْلُهُ {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] وَقَوْلُهُ {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 6] وَقَوْلُهُ {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ» .

فصل درجات الذوق

فَوِجْدَانُ الشَّيْءِ: ثُبُوتُهُ وَاسْتِقْرَارُهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ وِجْدَانٌ لَهُ. إِذْ يَمْتَنِعُ حُصُولُ هَذَا الذَّوْقِ مِنْ غَيْرِ وِجْدَانٍ. وَلَكِنَّ اصْطِلَاحَ كَثِيرٍ مِنَ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ الذَّائِقَ أَخَصُّ مِنَ الْوَاجِدِ. فَكَأَنَّهُ شَارَكَ الْوَاجِدَ فِي الْحُصُولِ، وَامْتَازَ عَنْهُ بِالذَّوْقِ. فَإِنَّهُ قَدْ يَجِدُ الشَّيْءَ وَلَا يَذُوقُهُ الذَّوْقَ التَّامَّ. وَهَذَا لَيْسَ كَمَا قَالُوهُ. بَلْ وُجُودُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ لِلْقَلْبِ: ذَوْقٌ لَهَا وَزِيَادَةٌ، وَثُبُوتٌ وَاسْتِقْرَارٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الذَّوْقِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى ذَوْقُ التَّصْدِيقِ طَعْمَ الْعِدَةِ] فَصْلٌ قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: ذَوْقُ التَّصْدِيقِ طَعْمَ الْعِدَةِ. فَلَا يَعْقِلُهُ ظَنٌّ، وَلَا يَقْطَعُهُ أَمَلٌ. وَلَا تَعُوقُهُ أُمْنِيَةٌ. يُرِيدُ: أَنَّ الْعَبْدَ الْمُصَدِّقَ إِذَا ذَاقَ طَعْمَ الْوَعْدِ مِنَ اللَّهِ عَلَى إِيمَانِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَطَاعَتِهِ: ثَبَتَ عَلَى حُكْمِ الْوَعْدِ وَاسْتَقَامَ. " فَلَمْ يَعْقِلْهُ ظَنٌّ " أَيْ لَمْ يَحْبِسْهُ ظَنٌّ، تَقُولُ: عَقَلْتُ فُلَانًا عَنْ كَذَا، أَيْ مَنَعْتُهُ عَنْهُ وَصَدَدْتُهُ، وَمِنْهُ عِقَالُ الْبَعِيرِ، لِأَنَّهُ يَحْبِسُهُ عَنِ الشُّرُودِ. وَمِنْهُ: الْعَقْلُ. لِأَنَّهُ يَحْبِسُ صَاحِبَهُ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَحْسُنُ وَلَا يَجْمُلُ. وَمِنْهُ: عَقَلْتَ الْكَلَامَ، وَعَقَلْتَ مَعْنَاهُ: إِذَا حَبَسْتَهُ فِي صَدْرِكَ وَحَصَّلْتَهُ فِي قَلْبِكَ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا عِنْدَكَ. وَمِنْهُ: الْعَقْلُ لِلدِّيَةِ. لِأَنَّهَا تَمْنَعُ آخِذَهَا مِنَ الْعُدْوَانِ عَلَى الْجَانِي وَعَصَبَتِهِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ بِوَعْدِ اللَّهِ يَمْنَعُ الذَّائِقَ أَنْ يَحْبِسَهُ ظَنٌّ عَنِ الْجِدِّ فِي الطَّلَبِ، وَالسَّيْرِ إِلَى رَبِّهِ. وَالظَّنُّ هُوَ الْوُقُوفُ عَنِ الْجَزْمِ بِصِحَّةِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، بِحَيْثُ لَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ جَانِبُ التَّصْدِيقِ. وَكَأَنَّ الشَّيْخَ يَقُولُ: الذَّائِقُ بِالتَّصْدِيقِ طَعْمَ الْوَعْدِ، لَا يُعَارِضُهُ ظَنٌّ يَعْقِلُهُ عَنْ صِدْقِ الطَّلَبِ، وَيَحْبِسُ عَزِيمَتَهُ عَنِ الْجِدِّ فِيهِ. وَفِي حَدِيثِ سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ قَوْلُهُ «وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ» أَيْ مُقِيمٌ عَلَى التَّصْدِيقِ بِوَعْدِكَ، وَعَلَى الْقِيَامِ بِعَهْدِكَ، بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِي. وَالْحَامِلُ عَلَى هَذِهِ الْإِقَامَةِ وَالثَّبَاتِ: ذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ، وَمُبَاشَرَتِهِ لِلْقَلْبِ. وَلَوْ

كَانَ الْإِيمَانُ مَجَازًا - لَا حَقِيقَةً - لَمْ يَثْبُتِ الْقَلْبُ عَلَى حُكْمِ الْوَعْدِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. وَلَا يُفِيدُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا ذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ. وَثَوْبُ الْعَارِيَةِ لَا يُجَمِّلُ لَابِسَهُ. وَلَا سِيَّمَا إِذَا عَرَفَ النَّاسُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ، وَأَنَّهُ عَارِيَةٌ عَلَيْهِ، كَمَا قِيلَ: ثَوْبُ الرِّيَاءِ يَشِفُّ عَمَّا تَحْتَهُ ... فَإِذَا اشْتَمَلْتَ بِهِ فَإِنَّكَ عَارِي وَكَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ يُكْثِرُ التَّلْبِيَةَ فِي إِحْرَامِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَبَّيْكَ، لَوْ كَانَ رِيَاءً لَاضْمَحَلَّ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى الْإِيمَانَ عَمَّنِ ادَّعَاهُ. وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ ذَوْقٌ. فَقَالَ تَعَالَى {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] . فَهَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ، وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ. لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ بَاشَرَ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، فَذَاقَ حَلَاوَتَهُ وَطَعْمَهُ. وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ كُفَّارًا. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ بِقَوْلِهِ {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] وَلَمْ يُرِدْ: قُولُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ، مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ. فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِمْ آمَنَّا وَقَوْلِهِمْ أَسْلَمْنَا، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَذُوقُوا طَعْمَ الْإِيمَانِ، قَالَ: لَمْ تُؤْمِنُوا. وَوَعَدَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مَعَ ذَلِكَ - عَلَى طَاعَتِهِمْ أَنْ لَا يُنْقِصَهُمْ مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا. ثُمَّ ذَكَرَ أَهْلَ الْإِيمَانِ الَّذِينَ ذَاقُوا طَعْمَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَبِرَسُولِهِ. ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا فِي إِيمَانِهِمْ. وَإِنَّمَا انْتَفَى عَنْهُمُ الرَّيْبُ: لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ بَاشَرَ قُلُوبَهُمْ. وَخَالَطَتْهَا بَشَاشَتُهُ. فَلَمْ يَبْقَ لِلرَّيْبِ فِيهِ مَوْضِعٌ. وَصَدَّقَ ذَلِكَ الذَّوْقَ: بَذْلُهُمْ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ فِي رِضَا رَبِّهِمْ تَعَالَى. وَهُوَ أَمْوَالُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ. وَمِنَ الْمُمْتَنِعِ: حُصُولُ هَذَا الْبَذْلِ مِنْ غَيْرِ ذَوْقِ طَعْمِ الْإِيمَانِ، وَوُجُودِ حَلَاوَتِهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِصِدْقِ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ. كَمَا قَالَ الْحَسَنُ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي، وَلَا بِالتَّحَلِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ، وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ. فَالذَّوْقُ وَالْوَجْدُ: أَمْرٌ بَاطِنٌ، وَالْعَمَلُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَمُصَدِّقٌ لَهُ. كَمَا أَنَّ الرَّيْبَ

وَالشَّكَّ وَالنِّفَاقَ: أَمْرٌ بَاطِنٌ. وَالْعَمَلُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَمُصَدِّقٌ لَهُ. فَالْأَعْمَالُ ثَمَرَاتُ الْعُلُومِ وَالْعَقَائِدِ. فَالْيَقِينُ: يُثْمِرُ الْجِهَادَ، وَمَقَامَاتِ الْإِحْسَانِ. فَعَلَى حَسَبِ قُوَّتِهِ تَكُونُ ثَمَرَتُهُ وَنَتِيجَتُهُ. وَالرَّيْبُ وَالشَّكُّ: يُثْمِرُ الْأَعْمَالَ الْمُنَاسِبَةَ لَهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ " وَلَا يَقْطَعُهُ أَمَلٌ " أَيْ مِنْ عَلَامَاتِ الذَّوْقِ: أَنْ لَا يَقْطَعَ صَاحِبَهُ عَنْ طَلَبِهِ أَمْرُ دُنْيَا، وَطَمَعٌ فِي غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهَا. فَإِنَّ الْأَمَلَ وَالطَّمَعَ يَقْطَعَانِ طَرِيقَ الْقَلْبِ فِي سَيْرِهِ إِلَى مَطْلُوبِهِ. وَلَمْ يَقُلِ الشَّيْخُ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ أَمَلٌ، بَلْ قَالَ: لَا يَقْطَعُهُ أَمَلٌ. فَإِنَّ الْأَمَلَ إِذَا قَامَ بِهِ وَلَمْ يَقْطَعْهُ: لَمْ يَضُرَّهُ، وَإِنْ عَوَّقَ سَيْرَهُ بَعْضَ التَّعْوِيقِ. وَإِنَّمَا الْبَلَاءُ فِي الْأَمَلِ الْقَاطِعِ لِلْقَلْبِ عَنْ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ. وَعِنْدَ الطَّائِفَةِ: أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ، فَإِرَادَتُهُ: أَمَلٌ قَاطِعٌ، كَائِنًا مَا كَانَ. فَمَنْ كَانَ ذَلِكَ أَمَلُهُ، وَمُنْتَهَى طَلَبِهِ: فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَوْقِ الْإِيمَانِ. فَإِنَّهُ مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَالْأُنْسِ بِهِ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمَلٌ فِي غَيْرِهِ. وَإِنَّ تَعَلَّقَ أَمَلُهُ بِسِوَاهُ، فَهُوَ لِإِعَانَتِهِ عَلَى مَرْضَاتِهِ وَمَحَابِّهِ. فَهُوَ يُؤَمِّلُهُ لِأَجْلِهِ، وَلَا يُؤَمِّلُهُ مَعَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الَّذِي يَقْطَعُ بِهِ الْعَبْدُ هَذَا الْأَمَلَ؟ قُلْتُ: قُوَّةُ رَغْبَتِهِ فِي الْمَطْلَبِ الْأَعْلَى، الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْلَى مِنْهُ. وَمَعْرِفَتُهُ بِخِسَّةِ مَا يُؤَمَّلُ دُونَهُ، وَسُرْعَةِ ذَهَابِهِ. فَيُوشِكُ انْقِطَاعُهُ. وَأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ كَخَيَالِ طَيْفٍ، أَوْ سَحَابَةِ صَيْفٍ. فَهُوَ ظِلٌّ زَائِلٌ، وَنَجْمٌ قَدْ تَدَلَّى لِلْغُرُوبِ. فَهُوَ عَنْ قَرِيبٍ آفِلٌ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ إِنَّمَا أَنَا كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» وَقَالَ «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ: بِمَ تَرْجِعُ؟» فَشَبَّهَ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ الْآخِرَةِ بِمَا يَعْلَقُ عَلَى الْإِصْبَعِ مِنَ الْبَلَلِ حِينَ تُغْمَسُ فِي الْبَحْرِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا أُوتِيهَا

رَجُلٌ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَوْتُ: لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَسُرُّهُ. ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَإِذَا لَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ. وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - أَوْ غَيْرُهُ -: نَعِيمُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهِ فِي جَنْبِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ: أَقَلُّ مِنْ ذَرَّةٍ فِي جَنْبِ جِبَالِ الدُّنْيَا. وَمَنْ حَدَّقَ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ. فَكَيْفَ يَلِيقُ بِصَحِيحِ الْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ: أَنْ يَقْطَعَهُ أَمَلٌ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ الْحَقِيرِ عَنْ نَعِيمٍ لَا يَزُولُ، وَلَا يَضْمَحِلُّ؟ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقْطَعَهُ عَنْ طَلَبِ مَنْ نِسْبَةُ هَذَا النَّعِيمِ الدَّائِمِ إِلَى نَعِيمِ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالْفَرَحِ بِقُرْبِهِ، كَنِسْبَةِ نَعِيمِ الدُّنْيَا إِلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] فَيَسِيرٌ مِنْ رِضْوَانِهِ - وَلَا يُقَالُ لَهُ يَسِيرٌ - أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّاتِ وَمَا فِيهَا. وَفِي حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ «فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى شَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، حَتَّى يَتَوَارَى عَنْهُمْ» . فَمَنْ قَطَعَهُ عَنْ هَذَا أَمَلٌ، فَقَدْ فَازَ بِالْحِرْمَانِ، وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِغَايَةِ الْخُسْرَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ. قَوْلُهُ " وَلَا تَعُوقُهُ أُمْنِيَّةٌ " الْأُمْنِيَّةُ: هِيَ مَا يَتَمَنَّاهُ الْعَبْدُ مِنَ الْحُظُوظِ. وَجَمْعُهَا أَمَانِيٌّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَمَلِ أَنَّ الْأَمَلَ يَتَعَلَّقُ بِمَا يُرْجَى وُجُودُهُ. وَالْأُمْنِيَّةُ: قَدْ تَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يُرْجَى حُصُولُهُ. كَمَا يَتَمَنَّى الْعَاجِزُ الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ. وَالْأَمَانِيُّ الْبَاطِلَةُ: هِيَ رُءُوسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ. بِهَا يَقْطَعُونَ أَوْقَاتَهُمْ وَيَلْتَذُّونَ

فصل الدرجة الثانية ذوق الإرادة طعم الأنس

بِهَا، كَالْتِذَاذِ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِالْمُسْكِرِ، أَوْ بِالْخَيَالَاتِ الْبَاطِلَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ» . وَلَا يَرْضَى بِالْأَمَانِيِّ عَنِ الْحَقَائِقِ إِلَّا ذَوُو النُّفُوسِ الدَّنِيئَةِ السَّاقِطَةِ. كَمَا قِيلَ: وَاتْرُكْ مُنَى النَّفْسِ لَا تَحْسَبْهُ يُشْبِعُهَا ... إِنَّ الْمُنَى رَأْسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ. وَأُمْنِيَّةُ الرَّجُلِ تَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ هِمَّتِهِ وَخِسَّتِهَا. وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ «إِنِّي لَا أَنْظُرُ إِلَى كَلَامِ الْحَكِيمِ، وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى هِمَّتِهِ» وَالْعَامَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ. وَالْعَارِفُونَ يَقُولُونَ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يَطْلُبُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ ذَوْقُ الْإِرَادَةِ طَعْمَ الْأُنْسِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: ذَوْقُ الْإِرَادَةِ طَعْمَ الْأُنْسِ. فَلَا يَعْلَقُ بِهِ شَاغِلٌ. وَلَا يُفْسِدُهُ عَارِضٌ. وَلَا تُكَدِّرُهُ تَفْرِقَةٌ. الْإِرَادَةُ وَصْفُ الْمُرِيدِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ الْأُولَى وَصْفُ حَالِ الْعَابِدِ الَّذِي ذَاقَ بِتَصْدِيقِهِ طَعْمَ وَعْدِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، فَجَدَّ فِي الْعِبَادَةِ. وَأَعْمَالِ الْبِرِّ، لِثِقَتِهِ بِالْوَعْدِ عَلَيْهَا. وَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: ذَاقَتْ إِرَادَتُهُ طَعْمَ الْأُنْسِ. فَهِيَ حَالُ الْمُرِيدِ. وَلِهَذَا عَلِقَ حَالُ صَاحِبِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى: بِالْوَعْدِ الْجَمِيلِ. وَعَلِقَ حَالُ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: بِالْأُنْسِ بِاللَّهِ. وَالْأُنْسُ بِهِ سُبْحَانَهُ أَعْلَى مِنَ الْأُنْسِ بِمَا يَرْجُوهُ الْعَابِدُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ. فَإِذَا ذَاقَ الْمُرِيدُ طَعْمَ الْأُنْسِ جَدَّ فِي إِرَادَتِهِ، وَاجْتَهَدَ فِي حِفْظِ أُنْسِهِ، وَتَحْصِيلِ الْأَسْبَابِ الْمُقَوِّيَةِ لَهُ. فَلَا يَعْلَقُ بِهِ شَاغِلٌ: أَيْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ يَشْغَلُهُ عَنْ سُلُوكِهِ، وَسَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ،

فصل الدرجة الثالثة ذوق الانقطاع طعم الاتصال

لِشِدَّةِ طَلَبِهِ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ أُنْسُهُ، الَّذِي قَدْ ذَاقَ طَعْمَهُ، وَتَلَذَّذَ بِحَلَاوَتِهِ. وَالْأُنْسُ بِاللَّهِ: حَالَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ. وَهِيَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِحْسَانِ، تَقْوَى بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: دَوَامُ الذِّكْرِ، وَصِدْقُ الْمَحَبَّةِ، وَإِحْسَانُ الْعَمَلِ. وَقُوَّةُ الْأُنْسِ وَضَعْفُهُ: عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْقُرْبِ. فَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ مِنْ رَبِّهِ أَقْرَبَ، كَانَ أُنْسُهُ بِهِ أَقْوَى. وَكُلَّمَا كَانَ مِنْهُ أَبْعَدَ، كَانَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَشَدَّ. قَوْلُهُ " وَلَا يُفْسِدُهُ عَارِضٌ " الْعَارِضُ الْمُفْسِدُ: هُوَ الَّذِي يَعْذِلُ الْمُحِبَّ، وَيَلُومُهُ عَلَى النَّشَاطِ فِي رِضَا مَحْبُوبِهِ وَطَاعَتِهِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ، وَالْوُقُوفِ مَعَهُ دُونَ مَطْلَبِهِ الْعَالِي. فَهُوَ كَالَّذِي يَجِيءُ عَرَضًا يَمْنَعُ الْمَارَّ فِي طَرِيقِهِ عَنِ الْمُرُورِ، وَيَلْفِتُهُ عَنْ جِهَةِ مَقْصِدِهِ إِلَى غَيْرِهَا. وَهَذَا الْعَارِضُ عِنْدَ الْقَوْمِ: هُوَ إِرَادَةُ السِّوَى. فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ عَارِضٌ. وَإِرَادَةُ السِّوَى: تُوقِفُ السَّالِكَ، وَتُنَكِّسُ الطَّالِبَ، وَتَحْجُبُ الْوَاصِلَ. فَإِيَّاكَ وَإِرَادَةَ السِّوَىوَإِنْ عَلَا. فَإِنَّكَ تُحْجَبُ عَنِ اللَّهِ بِقَدْرِإِرَادَتِكَ لِغَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى - إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19 - 20] . قَوْلُهُ " وَلَا تُكَدِّرُهُ تَفْرِقَةٌ " الْكَدَرُ: ضِدُّ الصَّفَاءِ. وَالتَّفْرِقَةُ: ضِدُّ الْجَمْعِيَّةِ. وَالْجَمْعِيَّةُ: هِيَ جَمْعُ الْقَلْبِ وَالْهِمَّةِ عَلَى اللَّهِ بِالْحُضُورِ مَعَهُ بِحَالِ الْأُنْسِ، خَالِيًا مِنْ تَفْرِقَةِ الْخَوَاطِرِ. وَالتَّفْرِقَةُ مِنْ أَعْظَمِ مُكَدِّرَاتِ الْقَلْبِ. وَهِيَ تُزِيلُ الصَّفَاءَ الَّذِي أَثْمَرَهُ لَهُ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ. فَإِنَّ الْقَلْبَ يَصْفُو بِذَلِكَ. فَتَجِيءُ التَّفْرِقَةُ. فَتُكَدِّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الصَّفَاءَ، وَتُشَعِّثَ الْقَلْبَ. فَيَجِدُ الصَّادِقُ أَلَمَ ذَلِكَ الشَّعَثِ وَأَذَاهُ. فَيَجْتَهِدُ فِي لَمِّهِ، وَلَا يُلَمُّ شَعَثُ الْقُلُوبِ بِشَيْءٍ غَيْرِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ. فَهُنَاكَ يُلَمُّ شَعَثُهُ، وَيَزُولُ كَدَرُهُ، وَيَصِحُّ سَفَرُهُ. وَيَجِدُ رُوحَ الْحَيَاةِ، وَيَذُوقُ طَعْمَ الْحَيَاةِ الْمَلَكِيَّةِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ ذَوْقُ الِانْقِطَاعِ طَعْمَ الِاتِّصَالِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: ذَوْقُ الِانْقِطَاعِ طَعْمَ الِاتِّصَالِ. وَذَوْقُ الْهِمَّةِ: طَعْمَ،

الْجَمْعِ. وَذَوْقُ الْمُسَامَرَةِ: طَعْمَ الْعِيَانِ. الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ تِلْكَ بَقَاءٌ مَعَ الْأَحْوَالِ. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ: خُرُوجٌ وَفَنَاءٌ عَنِ الْأَحْوَالِ. فَإِنَّ الْمُتَمَكِّنَ فِي حَالِ فَنَائِهِ عَنِ الْأَسْبَابِ - أَعْمَالًا كَانَتْ، أَوْ أَحْوَالًا - هُوَ الَّذِي يَجِدُ طَعْمَ الِاتِّصَالِ حَقِيقَةً. فَإِنَّهُ عَلَى حَسَبِ تَجَرُّدِهِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ يَكُونُ اتِّصَالُهُ. وَعَلَى حَسَبِ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهَا يَكُونُ انْقِطَاعُهُ. وَكُلَّمَا تَمَكَّنَ فِي جَمْعِ هَمِّهِ عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَجَدَ لَذَّةَ الْجَمْعِ عَلَيْهِ، وَذَاقَ طَعْمَ الْقُرْبِ مِنْهُ، وَالْأُنْسِ بِهِ. فَالِانْقِطَاعُ عِنْدَ الْقَوْمِ: هُوَ أُنْسُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ تَعَالَى، وَالِالْتِفَاتُ إِلَى مَا سِوَاهُ. وَالِاتِّصَالُ: تَجْرِيدُ التَّعَلُّقِ بِهِ وَحْدَهُ. وَالِانْقِطَاعُ عَمَّا سِوَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا. فَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ كَلَامِهِ. فَقَوْلُهُ " ذَوْقُ الِانْقِطَاعِ طَعْمَ الِاتِّصَالِ " اسْتِعَارَةٌ، وَإِلَّا فَالذَّائِقُ هُوَ صَاحِبُ الِانْقِطَاعِ، لَا نَفْسَ الِانْقِطَاعِ. فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي ذَاقَ الِانْقِطَاعَ وَالِاتِّصَالَ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ هُوَ الْمَحْجُوبُ، وَالْمُتَّصِلَ هُوَ الْمُشَاهِدُ بِقَلْبِهِ، الْمُكَاشِفُ بِسِرِّهِ. وَأَحْسَنُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالِاتِّصَالِ: التَّعْبِيرُ بِالْقُرْبِ. فَإِنَّهَا الْعِبَارَةُ السَّدِيدَةُ الَّتِي ارْتَضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَمَّا التَّعْبِيرُ بِالْوَصْلِ وَالِاتِّصَالِ: فَعِبَارَةٌ غَيْرُ سَدِيدَةٍ. يَتَشَبَّثُ بِهَا الزِّنْدِيقُ الْمُلْحِدُ، وَالصَّدِّيقُ الْمُوَحِّدُ. فَالْمُوَحِّدُ يُرِيدُ بِالِاتِّصَالِ الْقُرْبَ. وَبِالِانْفِصَالِ وَالِانْقِطَاعِ الْبُعْدَ. وَالْمُلْحِدُ يُرِيدُ بِهِ الْحُلُولَ تَارَةً وَالِاتِّحَادَ تَارَةً. حَتَّى قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: الْمُنْقَطِعُ لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعًا. بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا، لَكِنَّهُ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْمُشَاهَدَةِ. فَلَمَّا شَاهَدَ وَجَدَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا. بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا. قَالَ: وَلَيْسَ قَوْلُنَا " لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا " بِسَدِيدٍ. فَإِنَّ الِاتِّصَالَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ. فَلَا الْمَحْجُوبُ مُنْقَطِعًا. وَلَا الْمُكَاشِفُ مُتَّصِلًا. وَإِنَّمَا هِيَ عِبَارَاتٌ لِلتَّقْرِيبِ وَالتَّفْهِيمِ. وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ: مَا بَالُ عِيسِكَ لَا يَقَرُّ قَرَارُهَا ... وَإِلَامَ ظِلُّكَ لَا يَنِي مُتَنَقِّلَا فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَكَ لَمْ يَكُنْ ... إِلَّا إِلَيْكَ إِذَا بَلَغْتَ الْمَنْزِلَا.

وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ غَلُظَ حِجَابُهُمْ، وَكَثَفَتْ أَرْوَاحُهُمْ عَنْ هَذَا الشَّأْنِ. فَزَعَمُوا: أَنَّ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ وَالْأُنْسَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْخَالِقِ سُبْحَانَهُ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ الْقُرْبُ مِنْ دَارِهِ وَجَنَّتِهِ بِالطَّاعَاتِ، وَأُنْسِ الْقَلْبِ بِمَا وَعَدَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ، وَالْبُعْدُ ضِدُّ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْرُبُ مِنْ رَبِّهِ. وَلَا يَبْعُدُ عَنْهُ. وَلَا يَأْنَسُ بِهِ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ وَلَا يُحِبُّهُ. فَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ بِهِ. فَسَارَ هَؤُلَاءِ مُغَرِّبِينَ. وَسَارَ أُولَئِكَ مُشَرِّقِينِ. كَمَا قِيلَ: سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبًا ... شَتَّانَ بَيْنِ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ. وَمِصْبَاحُ الْمُوَحِّدِ السَّالِكِ عَلَى دَرْبِ الرَّسُولِ وَطَرِيقِهِ يَتَوَقَّدُ {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} [النور: 35] . قَوْلُهُ " وَذَوْقُ الْهِمَّةِ: طَعْمَ الْجَمْعِ " جَعَلَ الْهِمَّةَ ذَائِقَةً: وَإِنَّمَا الذَّوْقُ لِصَاحِبِهَا، تَوَسُّعًا. وَ " الْهِمَّةُ " قَدْ عَبَّرَ عَنْهَا الشَّيْخُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهَا " مَا يَمْلِكُ الِانْبِعَاثَ إِلَى الْمَقْصُودِ صِرْفًا " أَيْ حَالَةً وَصْفِيَّةً لَهَا سَطْوَةٌ وَمَلَكَةٌ، تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى الْمَقْصُودِ. وَتَبْعَثُهُ عَلَيْهِ بَعْثًا لَا يُخَالِطُهُ غَيْرُهُ. فَالْهِمَّةُ عِنْدَهُمْ: طَلَبُ الْحَقِّ، مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْجَمْعُ شُهُودُ الْفَرْدَانِيَّةِ الَّتِي تَفْنَى فِيهَا رُسُومُ الْمُشَاهِدِ. وَهَذَا جَمْعٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ. وَأَعْلَى مِنْهُ: الْجَمْعُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ جَمْعُ قَلْبِهِ وَهَمِّهِ وَسِرِّهِ عَلَى مَحْبُوبِهِ وَمَرَاضِيهِ وَمُرَادِهِ مِنْهُ. فَهُوَ عُكُوفُ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. لَا يَلْتَفِتُ عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً. فَإِذَا ذَاقَتِ الْهِمَّةُ طَعْمَ هَذَا الْجَمْعِ: اتَّصَلَ اشْتِيَاقُ صَاحِبِهَا، وَتَأَجَّجَتْ نِيرَانُ الْمَحَبَّةِ وَالطَّلَبِ فِي قَلْبِهِ. وَيَجِدُ صَبْرَهُ عَنْ مَحْبُوبِهِ مِنْ أَعْظَمِ كَبَائِرِهِ. كَمَا قِيلَ: وَالصَّبْرُ يُحْمَدُ فِي الْمُوَاطِنِ كُلِّهَا ... إِلَّا عَلَيْكَ فَإِنَّهُ لَا يُحْمَدُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ «إِنِّي لَا أَنْظُرُ إِلَى كَلَامِ الْحَكِيمِ. وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى هِمَّتِهِ» . فَلِلَّهِ هِمَّةُ نَفْسٍ قَطَعَتْ جَمِيعَ الْأَكْوَانِ، وَسَارَتْ فَمَا أَلْقَتْ عَصَا السَّيْرِ إِلَّا بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ. تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَسَجَدَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ سَجْدَةَ الشُّكْرِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ. فَلَمْ

تَزَلْ سَاجِدَةً حَتَّى قِيلَ لَهَا {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27] . فَسُبْحَانَ مَنْ فَاوَتَ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي هِمَمِهِمْ، حَتَّى تَرَى بَيْنَ الْهِمَّتَيْنِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ. بَلْ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ أَسْفَلِ سَافِلِينَ وَأَعْلَى عِلِّيِّينَ. وَتِلْكَ مَوَاهِبُ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] . قَوْلُهُ " وَذَوْقُ الْمُسَامَرَةِ: طَعْمَ الْعِيَانِ " مُرَادُهُمْ بِالْمُسَامَرَةِ: مُنَاجَاةُ الْقَلْبِ رَبَّهَ، وَإِنْ سَكَتَ اللِّسَانُ، فَلَذَّةُ اسْتِيلَاءِ ذِكْرِهِ تَعَالَى، وَمَحَبَّتِهِ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ، وَحُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأُنْسِهِ بِهِ، وَقُرْبِهِ مِنْهُ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ يُخَاطِبُهُ وَيُسَامِرُهُ، وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِ تَارَةً، وَيَتَمَلَّقُهُ تَارَةً، وَيُثْنِي عَلَيْهِ تَارَةً، حَتَّى يَبْقَى الْقَلْبُ نَاطِقًا بِقَوْلِهِ: أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لَهُ بِذَلِكَ. بَلْ يَبْقَى هَذَا حَالًا لَهُ وَمَقَامًا. وَلَا يُنْكَرُ وُصُولُ الْقَوْمِ إِلَى هَذَا. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» فَإِذَا بَلَغَ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ بِحَيْثُ يَكُونُ كَأَنَّهُ يَرَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ. فَهَكَذَا مُخَاطَبَتُهُ وَمُنَاجَاتُهُ لَهُ. لَكِنَّ الْأَوْلَى الْعُدُولُ عَنْ لَفْظِ الْمُسَامَرَةِ إِلَى الْمُنَاجَاةِ فَإِنَّهُ اللَّفْظُ الَّذِي اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا. وَعَبَّرَ بِهِ عَنْ حَالِ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ. فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ» .

فصل منزلة اللحظ

فَلَا تَعْدِلْ عَنْ أَلْفَاظِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنَّهَا مَعْصُومَةٌ، وَصَادِرَةٌ عَنْ مَعْصُومٍ، وَالْإِجْمَالُ وَالْإِشْكَالُ فِي اصْطِلَاحَاتِ الْقَوْمِ وَأَوْضَاعِهِمْ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ اللَّحْظِ] [حَقِيقَةُ اللَّحْظِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ اللَّحْظِ وَمِنْ ذَلِكَ: مَنْزِلَةُ اللَّحْظِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: (بَابُ اللَّحْظِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143] . قُلْتُ: يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بِالِاسْتِشْهَادِ بِالْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يُرِيَ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَمَالِ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ مَا يَعْلَمُ بِهِ أَنَّ الْقُوَّةَ الْبَشَرِيَّةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ لَا تَثْبُتُ لِرُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ عِيَانًا. لِصَيْرُورَةِ الْجَبَلِ دَكًّا عِنْدَ تَجَلِّي رَبِّهِ سُبْحَانَهُ أَدْنَى تَجَلٍّ. كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ «عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] قَالَ حَمَّادٌ: هَكَذَا - وَوَضَعَ الْإِبْهَامَ عَلَىمَفْصِلِ الْخِنْصَرِ الْأَيْمَنِ - فَقَالَ حُمَيْدٌ لِثَابِتٍ: أَتُحَدِّثُبِمِثْلِي هَذَا؟ فَضَرَبَ ثَابِتٌ صَدْرَ حُمَيْدٍ ضَرْبَةً بِيَدِهِ. وَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ بِهِ، وَأَنَا لَا أُحَدِّثُ بِهِ» ؟ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي

درجات اللحظ

صَحِيحِهِ وَقَالَ: هُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الشَّيْخَ اسْتَشْهَدَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَابِ اللَّحْظِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْجَبَلِ حِينَ تَجَلَّى لَهُ رَبُّهُ. فَرَأَى أَثَرَ التَّجَلِّي فِي الْجَبَلِ دَكًّا. فَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا. قَالَ الشَّيْخُ: " اللَّحْظُ: لَمْحٌمُسْتَرِقٌ " الصَّوَابُ قِرَاءَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى الصِّفَةِ بِالتَّخْفِيفِ. فَوَصَفَ اللَّمْحَ بِأَنَّهُمُسْتَرِقٌ كَمَا يُقَالُ: سَارَقْتُهُ النَّظَرَ. وَهُوَ لَمْحٌ بِخُفْيَةٍ، بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْمَلْمُوحُ. وَلِهَذَاالِاسْتِرَاقِ أَسْبَابٌ. مِنْهَا: تَعْظِيمُ الْمَلْمُوحِ وَإِجْلَالُهُ. فَالنَّاظِرُيُسَارِقُهُ النَّظَرَ. وَلَا يُحِدُّ نَظَرَهُ إِلَيْهِ إِجْلَالًا لَهُ. كَمَا كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُحِدُّونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ إِجْلَالًا لَهُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ. وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ لَكُمْ لَمَا قَدَرْتُ. لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ. وَمِنْهَا: خَوْفُ اللَّامِحِ سَطْوَتَهُ. وَمِنْهَا مَحَبَّتُهُ. وَمِنْهَا الْحَيَاءُ مِنْهُ. وَمِنْهَا ضَعْفُ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ عَنِ التَّحْدِيقِ فِيهِ. وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ السَّبَبُ الْغَالِبُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ تُقْرَأَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ. أَيْ نَظَرًا يَسْتَرِقُّ صَاحِبَهُ. أَيْ يَأْسِرُ قَلْبَهُ وَيَجْعَلُهُ رَقِيقًا - أَيْ عَبْدًا مَمْلُوكًا لِلْمَنْظُورِ إِلَيْهِ - لِمَا شَاهَدَ مِنْ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، فَاسْتَرَقَّ قَلْبَهُ. فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِقِّهِ لَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ وُقُوعِ لَحْظِهِ عَلَيْهِ. فَهَكَذَا صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ إِذَا لَاحَظَ بِقَلْبِهِ جَلَالَ الرُّبُوبِيَّةِ. وَكَمَالَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَكَمَالَ نُعُوتِهِ، وَمَوَاقِعَ لُطْفِهِ وَفَضْلِهِ وَبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ: اسْتَرَقَّ قَلْبَهُ لَهُ وَصَارَتْ لَهُ عُبُودِيَّةٌ خَاصَّةٌ. [دَرَجَاتُ اللَّحْظِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى مُلَاحَظَةُ الْفَضْلِ سَبْقًا] قَالَ: وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُلَاحَظَةُ الْفَضْلِ سَبْقًا. وَهِيَ تَقْطَعُ طَرِيقَ السُّؤَالِ، إِلَّا مَا اسْتَحَقَّتْهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِنْ إِظْهَارِ التَّذَلُّلِ لَهَا. وَتُنْبِتُ السُّرُورَ، إِلَّا مَا يَشُوبُهُ مِنْ حَذَرِ الْمَكْرِ. وَتَبْعَثُ عَلَى الشُّكْرِ إِلَّا مَا قَامَ بِهِ الْحَقُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَقِّ الصِّفَةِ.

الشَّيْخُ عَادَتُهُ فِي كُلِّ بَابٍ أَنْ يَقُولَ: " وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ ". وَقَالَ هَاهُنَا: " وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ " فَعَيَّنَ " هَذَا الْبَابَ " هُنَا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَبْوَابِ. لِأَنَّ اللَّحْظَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ لِحَظِّ الْبَصَرِ، وَلَحْظِ الْبَصِيرَةِ. وَالشَّيْخُ إِنَّمَا أَرَادَ هَاهُنَا هَذَا الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ. فَإِنَّ كَلَامَهُ فِيهِ خَاصَّةً. وَهُوَ لَمَّا صَدَّرَ بِالْآيَةِ وَالْأَمْرِ بِالنَّظَرِ فِيهَا: إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الْأَمْرِ بِنَظَرِ الْعَيْنِ، اسْتَدْرَكَ كَلَامَهُ. وَقَالَ: اللَّحْظُ الَّذِي نُشِيرُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ لَحْظُ الْعَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ " مُلَاحَظَةُ الْفَضْلِ سَبْقًا " الْفَضْلُ: هُوَ الْعَطَاءُ الْإِلَهِيُّ. وَ " السَّبْقُ " هُوَ مَا سَبَقَ لَهُ بِالتَّقْدِيرِ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الدُّنْيَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] وَقَالَ {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171] وَهَذَا الْكَلَامُ يُفَسَّرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا رَأَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ قَدْ سَبَقَ بِهِ تَقْدِيرُهُ - فَهُوَ وَاصِلٌ إِلَيْهِ لَا مَحَالَةَ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ - سَكَنَ جَأْشُهُ. وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ، وَوَطَّنَ نَفْسَهُ، وَعَلِمَ «أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ. وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ» . وَأَنَّهُ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُ وَلِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا. {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] . فَإِذَا تَيَقَّنَ ذَلِكَ، وَذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ بِهِ: قَطَعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ طَرِيقَ الطَّلَبِ مِنْ رَبِّهِ. لِأَنَّ مَا سَبَقَ لَهُ بِهِ الْقَدَرُ كَائِنٌ وَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ اسْتَدْرَكَ الشَّيْخُ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سُؤَالِ رَبِّهِ، وَالطَّلَبِ مِنْهُ. فَقَالَ: " إِلَّا مَا اسْتَحَقَّتْهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِنْ إِظْهَارِ التَّذَلُّلِ لَهَا " أَيْ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ سُؤَالَهُ وَطَلَبَهُ يَجْلِبُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ. وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَا يَحْذَرُهُ. فَإِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدِ اسْتَقَرَّ بِوُصُولِ الْمَقْدُورِ إِلَيْهِ، سَأَلَهُ أَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ. وَلَكِنْ يَكُونُ سُؤَالُهُ عَلَى وَجْهِ التَّذَلُّلِ، وَإِظْهَارِ فَقْرِ الْعُبُودِيَّةِ، وَذُلِّهَا بَيْنَ يَدَيْ عِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ. فَإِنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَسْأَلَهُ وَيَرْغَبَ إِلَيْهِ. لِأَنَّ وُصُولَ بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ مَوْقُوفٌ عَلَى سُؤَالِهِ. بَلْ هُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِهِ ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا تَوَسُّطِ سُؤَالِهِ وَطَلَبِهِ. بَلْ قَدَّرَ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلَ بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِسُؤَالِهِ وَالطَّلَبِ مِنْهُ، إِظْهَارًا لِمَرْتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، وَاعْتِرَافًا بِعِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَكَمَالِ غِنَى الرَّبِّ، وَتَفَرُّدِهِ بِالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا غِنَى لَهُ عَنْ فَضْلِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَيَأْتِي بِالطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ إِتْيَانَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِطَلَبِهِ وَسُؤَالِهِ شَيْئًا. وَلَكِنَّ

رَبَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَيُرْغَبَ إِلَيْهِ، وَيُطْلَبَ مِنْهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] . وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] . وَقَالَ {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] ، وَقَالَ {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] ، وَقَالَ {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] ، وَقَالَ {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ. فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ» وَقَالَ «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ مِنْ فَضْلِهِ. وَمَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَافِيَةِ» . وَقَالَ: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ. فَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِهِ. وَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ» . وَقَالَ «مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ بِهَا أَحَدَ ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ حَاجَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَهَا، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلَهَا. قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَاللَّهُ أَكْثَرُ»

وَقَالَ «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ» . وَقَالَ تَعَالَى - فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ. فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مِنْ كَسَوْتُهُ. فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ. فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي. فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَأَمَّا السُّجُودُ: فَاجْتَهِدُوا فِيهِ فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ. وَلَكِنْ أَحْمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ. فَإِذَا أُلْهِمْتُ الدُّعَاءَ عَلِمْتُ أَنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ. وَفِي هَذَا يَقُولُ الْقَائِلُ: لَوْ لَمْ تُرِدْ بَذْلَ مَا أَرْجُو وَأَطْلُبُهُ ... مِنْ جُودِ كَفِّكَ مَا عَوَّدْتَنِي الطَّلَبَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ تَذَلُّلَ عَبِيدِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسُؤَالَهُمْ إِيَّاهُ، وَطَلَبَهُمْ حَوَائِجَهُمْ مِنْهُ، وَشَكْوَاهُمْ إِلَيْهِ، وَعِيَاذَهُمْ بِهِ مِنْهُ، وَفِرَارَهُمْ مِنْهُ إِلَيْهِ. كَمَا قِيلَ:

قَالُوا أَتَشْكُو إِلَيْهِ ... مَا لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ فَقُلْتُ رَبِّي يَرْضَى ... ذُلَّ الْعَبِيدِ لَدَيْهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: تَذَاكَرْتُ: مَا جِمَاعُ الْخَيْرِ؟ فَإِذَا الْخَيْرُ كَثِيرٌ: الصِّيَامُ، وَالصَّلَاةُ. وَإِذَا هُوَ فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا أَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَى مَا فِي يَدِ اللَّهِ إِلَّا أَنْ تَسْأَلَهُ، فَيُعْطِيَكَ. فَإِذَا جِمَاعُ الْخَيْرِ: الدُّعَاءُ. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ غَلِطَ طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاسِ: طَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ يَجْعَلُ الدُّعَاءَ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ. قَالُوا: فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُصُولِهِ، دَعَا الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَدْعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدِّرَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى حُصُولِهِ، دَعَا أَوْ لَمْ يَدْعُ. وَلَمَّا رَأَوُا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْآثَارَ قَدْ تَظَاهَرَتْ بِالدُّعَاءِ وَفَضْلِهِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَطَلَبِهِ، قَالُوا: هُوَ عُبُودِيَّةٌ مَحْضَةٌ. لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْمَطْلُوبِ أَلْبَتَّةَ. وَإِنَّمَا تَعَبَّدَنَا بِهِ اللَّهُ. وَلَهُ أَنْ يَتَعَبَّدَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ. وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: ظَنَّتْ أَنَّ بِنَفْسِ الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ يُنَالُ الْمَطْلُوبُ، وَأَنَّهُ مُوجِبٌ لِحُصُولِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ. وَرُبَّمَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ شُهُودُهُمْ: أَنَّ هَذَا السَّبَبَ مِنْهُمْ وَبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ فَعَلُوهُ، وَأَنَّ نُفُوسَهُمْ هِيَ الَّتِي فَعَلَتْهُ وَأَحْدَثَتْهُ. وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ، فَرُبَّمَا غَابَ عَنْهُمْ شُهُودُ كَوْنِ ذَلِكَ بِاللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ، لَا بِهِمْ وَلَا مِنْهُمْ. وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَرَّكَهُمْ لِلدُّعَاءِ. وَقَذَفَهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ. وَأَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ. فَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ غَالِطَتَانِ أَقْبَحَ غَلَطٍ. وَهُمَا مَحْجُوبَتَانِ عَنِ اللَّهِ. فَالْأُولَى: مَحْجُوبَةٌ عَنْ رُؤْيَةِ حِكْمَتِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَنَصْبِهَا لِإِقَامَةِ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَعَلُّقِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ بِهَا. فَحِجَابُهَا كَثِيفٌ عَنْ مَعْرِفَةِ حِكْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي شَرْعِهِ وَأَمْرِهِ وَقَدَرِهِ. وَالثَّانِيَةُ: مَحْجُوبَةٌ عَنْ رُؤْيَةِ مِنَنِهِ وَفَضْلِهِ، وَتَفَرُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ. وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَأَنَّهُ لَا حَوْلَ لِلْعَبْدِ وَلَا قُوَّةَ لَهُ - بَلْ وَلَا لِلْعَالَمِ أَجْمَعَ - إِلَّا بِهِ سُبْحَانَهُ. وَأَنَّهُ لَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَقَوْلُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى: إِنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ قُدِّرَ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهِ، وَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُقَدَّرْ فَلَا مَطْمَعَ فِي حُصُولِهِ.

جَوَابُهُ، أَنْ يُقَالَ: بَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ، لَمْ تَذْكُرُوهُ. وَهُوَ أَنَّهُ قُدِّرَ بِسَبَبِهِ. فَإِنْ وُجِدَ سَبَبُهُ وُجِدَ مَا رُتِّبَ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُهُ لَمْ يُوجَدْ. وَمِنْ أَسْبَابِ الْمَطْلُوبِ: الدُّعَاءُ وَالطَّلَبُ اللَّذَيْنِ إِذَا وُجِدَا وُجِدَ مَا رُتِّبَ عَلَيْهِمَا. كَمَا أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْوَلَدِ: الْجِمَاعُ. وَمِنْ أَسْبَابِ الزَّرْعِ: الْبَذْرُ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ هُوَ الْحَقُّ. وَيُقَالُ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ: لَا مُوجِبَ إِلَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ هَاهُنَا سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ غَيْرُهَا. فَهُوَ الَّذِي جَعَلَ السَّبَبَ سَبَبًا. وَهُوَ الَّذِي رَتَّبَ عَلَى السَّبَبِ حُصُولِ الْمُسَبَّبِ. وَلَوْ شَاءَ لِأَوْجَدَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ السَّبَبِ. وَإِذَا شَاءَ مَنْعَ سَبَبِيَّةِ السَّبَبِ، وَقَطَعَ عَنْهُ اقْتِضَاءَ أَثَرِهِ. وَإِذَا شَاءَ أَقَامَ لَهُ مَانِعًا يَمْنَعُهُ عَنِ اقْتِضَاءِ أَثَرِهِ، مَعَ بَقَاءِ قُوَّتِهِ فِيهِ. وَإِذَا شَاءَ رَتَّبَ عَلَيْهِ ضِدَّ مُقْتَضَاهُ وَمُوجِبِهِ. فَالْأَسْبَابُ طَوْعُ مَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ وَقُدْرَتِهِ، وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ. يُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءَ. فَهَذَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي كَلَامِهِ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ مَنْ لَاحَظَ بِعَيْنِ قَلْبِهِ مَا سَبَقَ لَهُ مِنْ رَبِّهِ مِنْ جَزِيلِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَضَةٍ، وَلَا سَبَبَ مِنَ الْعَبْدِ أَصْلًا. فَإِنَّهُ سَبَقَتْ لَهُ تِلْكَ السَّابِقَةُ وَهُوَ فِي الْعَدَمِ. لَمْ يَكُنْ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ - شَغَلَتْهُ تِلْكَ الْمُلَاحَظَةُ بِطَلَبِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ عَنِ الطَّلَبِ مِنْهُ. وَقَطَعَتْ عَلَيْهِ طَرِيقَ السُّؤَالِ، اشْتِغَالًا بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَمُطَالَعَةِ مِنَّتِهِ عَنْ مَسْأَلَتِهِ. لَا لِأَنَّ مَسْأَلَتَهُ وَالطَّلَبَ مِنْهُ نَقْصٌ. بَلْ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَتَّسِعُ لِلْأَمْرَيْنِ، بَلِ اسْتِغْرَاقُهُ فِي شُهُودِ الْمِنَّةِ وَسَبْقِ الْفَضْلِ قَطَعَ عَلَيْهِ طَرِيقَ الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ. وَهَذَا لَا يَكُونُ مَقَامًا لَازِمًا لَهُ لَا يُفَارِقُهُ. بَلْ هَذَا حُكْمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ قَوْلُهُ: وَيُنْبِتُ السُّرُورَ، إِلَّا مَا يَشُوبُهُ مِنْ حَذَرِ الْمَكْرِ. يَعْنِي: أَنَّ هَذَا اللَّحْظَ مِنَ الْعَبْدِ يُنْبِتُ لَهُ السُّرُورَ، إِذَا عَلِمَ أَنَّ فَضْلَ رَبِّهِ قَدْ سَبَقَ لَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وَبِأَحْوَالِهِ وَتَقْصِيرِهِ، عَلَى التَّفْصِيلِ. وَلَمْ يَمْنَعْهُ عِلْمُهُ بِهِ: أَنْ يُقَدِّرَ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ. فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ إِذْ أَنْشَأَهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ هُوَ جَنِينٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدَّرَ لَهُ مِنَ الْفَضْلِ وَالْجُودِ مَا قَدَّرَهُ بِدُونِ سَبَبٍ مِنْهُ. بَلْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَأْتِي مِنَ الْأَسْبَابِ مَا يَقْتَضِي قَطْعَ ذَلِكَ وَمَنْعَهُ عَنْهُ. فَإِذَا شَاهَدَ الْعَبْدُ ذَلِكَ: اشْتَدَّ سُرُورُهُ بِرَبِّهِ، وَبِمَوَاقِعِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ. وَهَذَا فَرَحٌ مَحْمُودٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]

فَفَضْلُهُ: الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ، وَرَحْمَتُهُ: الْعِلْمُ وَالْقُرْآنُ. وَهُوَ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ: أَنْ يَفْرَحَ بِذَلِكَ وَيُسَرَّ بِهِ. بَلْ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ: أَنْ يَفْرَحَ بِالْحَسَنَةِ إِذَا عَمِلَهَا وَأَنَّ يُسَرَّ بِهَا. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ فَرَحٌ بِفَضْلِ اللَّهِ، حَيْثُ وَفَّقَهُ اللَّهُ لَهَا، وَأَعَانَهُ عَلَيْهَا وَيَسَّرَهَا لَهُ. فَفِي الْحَقِيقَةِ: إِنَّمَا يَفْرَحُ الْعَبْدُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ. وَمِنْ أَعْظَمِ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ: الْفَرَحُ بِاللَّهِ، وَالسُّرُورُ بِهِ. فَيَفْرَحُ بِهِ إِذْ هُوَ عَبْدُهُ وَمُحِبُّهُ. وَيَفْرَحُ بِهِ سُبْحَانَهُ رَبًّا وَإِلَهًا، وَمُنْعِمًا وَمُرَبِّيًا، أَشَدَّ مِنْ فَرَحِ الْعَبْدِ بِسَيِّدِهِ الْمَخْلُوقِ الْمُشْفِقِ عَلَيْهِ، الْقَادِرِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ وَيَطْلُبُهُ مِنْهُ. الْمُتَنَوِّعُ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَالذَّبِّ عَنْهُ. وَسَيَأْتِي عَنْ قَرِيبٍ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَمَامُ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَابِ السُّرُورِ. قَوْلُهُ " إِلَّا مَا يَشُوبُهُ مِنْ حَذَرِ الْمَكْرِ " أَيْ يُمَازِجُهُ. فَإِنَّ السُّرُورَ وَالْفَرَحَ يَبْسُطُ النَّفْسَ وَيُنَمِّيهَا. وَيُنْسِيهَا عُيُوبَهَا وَآفَاتِهَا وَنَقَائِصَهَا. إِذْ لَوْ شَهِدَتْ ذَلِكَ وَأَبْصَرَتْهُ لَشَغَلَهَا ذَلِكَ عَنِ الْفَرَحِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرَحَ بِالنِّعْمَةِ قَدْ يُنْسِيهِ الْمُنْعِمَ. فَيَشْتَغِلُ بِالْخِلْعَةِ الَّتِي خَلَعَهَا عَلَيْهِ عَنْهُ. فَيَطْفَحُ عَلَيْهِ السُّرُورُ، حَتَّى يَغِيبَ بِنِعْمَتِهِ عَنْهُ. وَهُنَا يَكُونُ الْمَكْرُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ مِنَ الْيَدِ لِلْفَمِ. وَلِلَّهِ كَمْ هَاهُنَا مِنْ مُسْتَرِدٍّ مِنْهُ مَا وَهَبَ لَهُ عَزَّةً وَحِكْمَةً! وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ رَحْمَةً بِهِ. إِذْ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى تِلْكَ الْوِلَايَةِ لَخِيفَ عَلَيْهِ مِنَ الطُّغْيَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى - أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7] فَإِذَا كَانَ هَذَا غِنًى بِالْحُطَامِ الْفَانِي، فَكَيْفَ بِالْغِنَى بِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ؟ فَصَاحِبُ هَذَا إِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ حَذَرُ الْمَكْرِ: خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يُسْلَبَهُ وَيَنْحَطَّ عَنْهُ. وَ " الْمَكْرُ " الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْهُ: أَنْ يُغَيِّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ شُهُودَ أَوَّلِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ وَمِنَّتِهِ وَفَضْلِهِ، وَأَنَّهُ مَحْضُ مِنَّتِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ بِهِ وَحْدَهُ، وَمِنْهُ وَحْدَهُ. فَيَغِيبُ عَنْ شُهُودِ حَقِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] وَقَوْلِهِ {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154] وَقَوْلِهِ {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]

وَقَوْلِهِ {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86] وَقَوْلِهِ {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَيُغَيِّبُهُ عَنْ شُهُودِ ذَلِكَ. وَيُحِيلُهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فِي كَسْبِهِ وَطَلَبِهِ. فَيُحِيلُهُ عَلَى نَفْسِهِ الَّتِي لَهَا الْفَقْرُ بِالذَّاتِ، وَيَحْجُبُهُ عَنِ الْحِوَالَةِ عَلَى الْمَلِيءِ الْوَفِيِّ الَّذِي لَهُ الْغِنَى التَّامُّ كُلُّهُ بِالذَّاتِ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْمَكْرِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَلَوْ بَلَغَ الْعَبْدُ مِنَ الطَّاعَةِ مَا بَلَغَ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ هَذَا الْحَذَرُ. وَقَدْ خَافَهُ خِيَارُ خَلْقِهِ، وَصَفْوَتِهِ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ شُعَيْبٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ {لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 88]- إِلَى قَوْلِهِ - {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 89] فَرَدَّ الْأَمْرَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ، أَدَبًا مَعَ اللَّهِ، وَمَعْرِفَةً بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وُوُقُوفًا مَعَ حَدِّ الْعُبُودِيَّةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْمِهِ - وَقَدْ خَوَّفُوهُ بِآلِهَتِهِمْ - فَقَالَ {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80] فَرَدَّ الْأَمْرَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] . وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ: هَلْ يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ لَا تُؤَمِّنِّي مَكْرَكَ؟ فَكَانَ بَعْضُ السَّلَفُ يَدْعُو بِذَلِكَ. وَمُرَادُهُ: لَا تَخْذُلْنِي، حَتَّى آمَنَ مَكْرَكَ وَلَا أَخَافَهُ، وَكَرِهَهُ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ مُطَرِّفٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ لَا تُنْسِنِي ذِكْرَكَ، وَلَا تُؤَمِّنِّي مَكْرَكَ. وَلَكِنْ أَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تُنْسِنِي ذِكْرَكَ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ آمَنَ مَكْرَكَ، حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ تُؤَمِّنُنِي.

وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَنْ أُحِيلَ عَلَى نَفْسِهِ، فَقَدْ مُكِرَ بِهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ - مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ - حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ طَرِيفٍ الْمِعْوَلِيِّ حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: وَجَدْتُ هَذَا الْإِنْسَانَ مُلْقًى بَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ. فَإِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ خَيْرًا: جَبَذَهُ إِلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ خَيْرًا: وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ. وَمَنْ وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ فَقَدْ هَلَكَ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: لَوْ أُخْرِجَ قَلْبِي فَجُعِلَ فِي يَدِي هَذِهِ فِي الْيَسَارِ. وَجِيءَ بِالْخَيْرِ فَجُعِلَ فِي هَذِهِ الْيُمْنَى. ثُمَّ قُرِّبْتُ مِنَ الْأُخْرَى مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أُولِجَ فِي قَلْبِي شَيْئًا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَضَعُهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرَحَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَكْرِ، مَا لَمْ يُقَارِنْهُ خَوْفٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] . وَقَالَ قَوْمُ قَارُونَ لَهُ {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] فَالْفَرَحُ مَتَى كَانَ بِاللَّهِ، وَبِمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ، مُقَارِنًا لِلْخَوْفِ وَالْحَذَرِ: لَمْ يَضُرَّ صَاحِبَهُ، وَمَتَى خَلَا عَنْ ذَلِكَ: ضَرَّهُ وَلَا بُدَّ. قَوْلُهُ: وَيَبْعَثُ عَلَى الشُّكْرِ إِلَّا مَا قَامَ بِهِ الْحَقُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَقِّ الصِّفَةِ. هَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ أَنَّ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةَ تَبْعَثُهُ عَلَى الشُّكْرِ لِلَّهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فِي كُلِّ حِينٍ، إِلَّا مَا عَجَزَتْ قُدْرَتُهُ عَنْ شُكْرِهِ. فَإِنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ لِنَفْسِهِ بِحَقِّ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ، وَكَمَالِ صِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ. فَتِلْكَ الْمُلَاحَظَةُ تَبْسُطُ لِلْعَبْدِ الشُّكْرَ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَقُومَ بِهِ. فَإِنَّ شُكْرَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ: نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ. فَهِيَ تَسْتَدْعِي شُكْرًا آخَرَ عَلَيْهَا. وَذَلِكَ الشُّكْرُ نِعْمَةٌ أَيْضًا. فَيَسْتَدْعِي شُكْرًا ثَالِثًا. وَهَلُمَّ جَرًّا. فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقِيَامِ بِشُكْرِ الرَّبِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَلَا يَشْكُرُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ سِوَاهُ. فَإِنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ بِالنِّعْمَةِ وَبِشُكْرِهَا. فَهُوَ الشَّكُورُ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ سَمَّى عَبْدَهُ شَكُورًا. فَمِدْحَةُ الشُّكْرِ فِي الْحَقِيقَةِ: رَاجِعَةٌ إِلَيْهِ، وَمَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ. فَهُوَ الشَّاكِرُ لِنَفْسِهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدِهِ. فَمَا شَكَرَهُ فِي الْحَقِيقَةِ سِوَاهُ، مَعَ كَوْنِ الْعَبْدِ عَبْدًا وَالرَّبِّ رَبًّا. فَهَذَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي كَلَامِهِ.

فصل الدرجة الثانية ملاحظة نور الكشف

الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ هَذَا اللَّحْظَ يَبْسُطُهُ لِلشُّكْرِ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ وَفِعْلُهُ. لَا الشُّكْرُ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَفِعْلُهُ. فَإِنَّهُ سَمَّى نَفْسَهُ بِالشَّكُورِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147] وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] فَهَذَا الشُّكْرُ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقُومُ إِلَّا بِهِ. وَلَا يَبْعَثُ الْعَبْدَ عَلَى الْمُلَاحَظَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ أَنَّهُ: إِذَا لَاحَظَ سَبْقَ الْفَضْلِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، عَلِمَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَحَبَّتِهِ لِلشُّكْرِ. فَإِنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُشْكَرَ. كَمَا قَالَ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا رَبِّ، هَلَّا سَاوَيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُشْكَرَ» . وَإِذَا كَانَ يُحِبُّ الشُّكْرَ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وِتْرٌ، يُحِبُّ الْوِتْرَ، جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، مُحْسِنٌ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، صَبُورٌ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ، قَوِيٌّ، وَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ. فَكَذَلِكَ هُوَ شَكُورٌ يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ. فَمُلَاحَظَةُ الْعَبْدِ سَبْقَ الْفَضْلِ تُشْهِدُهُ صِفَةَ الشُّكْرِ. وَتَبْعَثُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِفِعْلِ الشُّكْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مُلَاحَظَةُ نُورِ الْكَشْفِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مُلَاحَظَةُ نُورِ الْكَشْفِ. وَهِيَ تُسْبِلُ لِبَاسَ التَّوَلِّي وَتُذِيقُ طَعْمَ التَّجَلِّي. وَتَعْصِمُ مِنْ عُوَارِ التَّسَلِّي. هَذِهِ الدَّرَجَةُ: أَتَمُّ مِمَّا قَبْلَهَا. فَإِنَّ تِلْكَ الدَّرَجَةَ: مُلَاحَظَةُ مَا سَبَقَ بِنُورِ الْعِلْمِ. وَهَذِهِ مُلَاحَظَةُ كَشْفٍ بِحَالٍ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى قَلْبِهِ، حَتَّى شَغَلَهُ عَنِ الْخَلْقِ. فَأَسْبَلَ عَلَيْهِ لِبَاسَ تَوَلِّيهِ اللَّهَ وَحْدَهُ وَتَوَلِّيهِ عَمَّا سِوَاهُ. وَنُورُ الْكَشْفِ عِنْدَهُمْ: هُوَ مَبْدَأُ الشُّهُودِ. وَهُوَ نُورُ تَجَلِّي مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى عَلَى الْقَلْبِ. فَتُضِيءُ بِهِ ظُلْمَةُ الْقَلْبِ. وَيَرْتَفِعُ بِهِ حِجَابُ الْكَشْفِ. وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِ هَذَا، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا. فَإِنَّكَ تَجِدُ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ: تَجَلِّي الذَّاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الصِّفَاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الْأَفْعَالِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا. وَالْقَوْمُ عِنَايَتُهُمْ بِالْأَلْفَاظِ. فَيَتَوَهَّمُ الْمُتَوَهِّمُ: أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَجَلِّي حَقِيقَةَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ لِلْعِيَانِ، فَيَقَعُ مَنْ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الشَّطَحَاتِ وَالطَّامَّاتِ.

وَالصَّادِقُونَ الْعَارِفُونَ بَرَآءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا يُشِيرُونَ إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ، وَارْتِفَاعِ حُجُبِ الْغَفْلَةِ وَالشَّكِّ وَالْإِعْرَاضِ، وَاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى الْقَلْبِ بِمَحْوِ شُهُودِ السِّوَى بِالْكُلِّيَّةِ. فَلَا يَشْهَدُ الْقَلْبُ سِوَى مَعْرُوفِهِ. وَيُنَظِّرُونَ هَذَا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ. فَإِنَّهَا إِذَا طَلَعَتِ انْطَمَسَ نُورُ الْكَوَاكِبِ. وَلَمْ تُعْدَمِ الْكَوَاكِبُ. وَإِنَّمَا غَطَّى عَلَيْهَا نُورُ الشَّمْسِ. فَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا وُجُودٌ. وَهِيَ فِي الْوَاقِعِ مَوْجُودَةٌ فِي أَمَاكِنِهَا. وَهَكَذَا نُورُ الْمَعْرِفَةِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ، قَوِيَ سُلْطَانُهَا، وَزَالَتِ الْمَوَانِعُ وَالْحُجُبِ عَنِ الْقَلْبِ. وَلَا يُنْكِرُ هَذَا إِلَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الذَّاتَ الْمُقَدَّسَةَ وَالْأَوْصَافَ: بَرَزَتْ وَتَجَلَّتْ لِلْعَبْدِ - كَمَا تَجَلَّى سُبْحَانَهُ لِلطُّورِ، وَكَمَا يَتَجَلَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّاسِ - إِلَّا غَالِطٌ فَاقِدٌ لِلْعِلْمِ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْغَلَطُ مِنَ التَّجَاوُزِ مِنْ نُورِ الْعِبَادَاتِ وَالرِّيَاضَةِ وَالذِّكْرِ إِلَى نُورِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ. فَإِنَّ الْعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ، وَالرِّيَاضَةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَالذِّكْرَ الْمُتَوَاطِئَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ: يُوجِبُ نُورًا عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ. وَرُبَّمَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ حَتَّى يُشَاهَدَ بِالْعِيَانِ. فَيَظُنُّهُ فِيهِ ضَعِيفُ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْعُبُودِيَّةِ. فَيَظُنُّهُ نُورَ الذَّاتِ، وَهَيْهَاتَ! ثُمَّ هَيْهَاتَ! نُورُ الذَّاتِ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَشَفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحِجَابَ عَنْهُ لَتَدَكْدَكَ الْعَالَمُ كُلُّهُ، كَمَا تَدَكْدَكَ الْجَبَلُ وَسَاخَ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ الْقَدْرُ الْيَسِيرُ مِنَ التَّجَلِّي. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنَامُ. وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ. يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ. حِجَابُهُ النُّورُ. لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» . فَالْإِسْلَامُ لَهُ نُورٌ. وَالْإِيمَانُ لَهُ نُورٌ أَقْوَى مِنْهُ. وَالْإِحْسَانُ لَهُ نُورٌ أَقْوَى مِنْهُمَا. فَإِذَا اجْتَمَعَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ، وَزَالَتِ الْحُجُبُ الشَّاغِلَةُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: امْتَلَأَ الْقَلْبُ وَالْجَوَارِحُ بِذَلِكَ النُّورِ. لَا بِالنُّورِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ تَعَالَى. فَإِنَّ صِفَاتِهِ لَا تَحِلُّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. كَمَا أَنَّ مَخْلُوقَاتِهِ لَا تَحِلُّ فِيهِ. فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ عَنْ

فصل الدرجة الثالثة ملاحظة عين الجمع

الْمَخْلُوقِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. فَلَا اتِّحَادَ، وَلَا حُلُولَ، وَلَا مُمَازَجَةَ. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا. قَوْلُهُ " وَيَعْصِمُ مِنْ عُوَارِ التَّسَلِّي " الْعُوَارُ: الْعَيْبُ. وَالتَّسَلِّي السَّلْوَةُ عَنِ الْمَحْبُوبِ الَّذِي لَا حَيَاةَ لِلْقَلْبِ وَلَا نَعِيمَ إِلَّا بِحُبِّهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَالْأُنْسِ بِذِكْرِهِ. فَإِنَّ سُلُوَّ الْقَلْبِ وَغَفْلَتَهُ عَنْ ذِكْرِهِ: هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعُيُوبِ. فَهَذِهِ الْمُلَاحَظَةُ إِذَا صَدَقَتْ عَصَمَتْ صَاحِبَهَا عَنْ عَيْبِ سَلْوَتِهِ عَنْ مَطْلُوبِهِ وَمُرَادِهِ. فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ مُسْتَغْرِقٌ فِي شُهُودِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَى قَلْبِهِ نُورُ الْإِيمَانِ بِهَا وَمَعْرِفَتُهَا، وَدَوَامُ ذِكْرِهَا. وَمَعَ هَذَا: فَبَابُ السَّلْوَةِ عَلَيْهِ مَسْدُودٌ، وَطَرِيقُهَا عَلَيْهِ مَقْطُوعٌ. وَالْمُحِبُّ يُمْكِنُهُ التَّسَلِّي قَبْلَ أَنْ يُشَاهِدَ جَمَالَ مَحْبُوبِهِ، وَيَسْتَغْرِقَ فِي شُهُودِ كَمَالِهِ، وَيَغِيبَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ كَانَ كَمَا قِيلَ: مَرَّتْ بِأَرْجَاءِ الْخَيَالِ طُيُوفُهُ ... فَبَكَتْ عَلَى رَسْمِ السُّلُوِّ الدَّارِسِ [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ. وَهِيَ تُوقِظُ لِاسْتِهَانَةِ الْمُجَاهَدَاتِ. وَتُخَلِّصُ مِنْ رُعُونَةِ الْمُعَارَضَاتِ. وَتُفِيدُ مُطَالَعَةَ الْبِدَايَاتِ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ عِنْدَهُ: أَرْفَعُ مِمَّا قَبْلَهَا. فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا - مُطَالَعَةُ كَشْفِ الْأَنْوَارِ - تُشِيرُ إِلَى نَوْعِ كَسْبٍ وَاخْتِيَارٍ. وَهَذِهِ مُطَالَعَةٌ تَجْذِبُ الْقَلْبَ مِنَ التَّفَرُّقِ فِي أَوْدِيَةِ الْإِرَادَاتِ، وَشِعَابِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ، إِلَى مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنْ عَيْنِ الْجَمْعِ، النَّاظِرِ إِلَى الْوَاحِدِ الْفَرْدِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، الْآخِرِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، الظَّاهِرِ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، الْبَاطِنِ الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ. سَبَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِأَوَّلِيَّتِهِ. وَبَقِيَ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ بِآخِرِيَّتِهِ. وَعَلَا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ بِظُهُورِهِ. وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ بِبُطُونِهِ. فَالنَّظَرُ بِهَذِهِ الْعَيْنِ: يُوقِظُ قَلْبَهُ لِاسْتِهَانَتِهِ بِالْمُجَاهَدَاتِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ السَّالِكَ فِي مَبْدَأِ أَمْرِهِ لَهُ شِرَّةٌ، وَفِي طَلَبِهِ حِدَّةٌ، تَحْمِلُهُ عَلَى أَنْوَاعِ الْمُجَاهَدَاتِ، وَتَرْمِيهِ عَلَيْهَا لِشِدَّةِ طَلَبِهِ. فَفُتُورُهُ نَائِمٌ، وَاجْتِهَادُهُ يَقْظَانُ. فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ: اسْتَهَانَ بِالْمُجَاهَدَاتِ الشَّاقَّةِ فِي جَنْبِ مَا حَصَلَ لَهُ

مِنْ مَقَامِ الْجَمْعِ عَلَى اللَّهِ. وَاسْتَرَاحَ مِنْ كَدِّهَا. فَإِنَّ سَاعَةً مِنْ سَاعَاتِ الْجَمْعِ عَلَى اللَّهِ: أَنْفَعُ وَأَجْدَى عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمُجَاهَدَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، الَّتِي لَمْ يَفْرِضْهَا اللَّهُ عَلَيْهِ. فَإِذَا جَمَعَ هَمَّهُ وَقَلْبَهُ كُلَّهُ عَلَى اللَّهِ، وَزَالَ كُلُّ مُفَرِّقٍ وَمُشَتِّتٍ: كَانَتْ هَذِهِ هِيَ سَاعَاتُ عُمْرِهِ فِي الْحَقِيقَةِ. فَتَعَوَّضَ بِهَا عَمَّا كَانَ يُقَاسِيهِ مِنْ كَدِّ الْمُجَاهَدَاتِ وَتَعَبِهَا. وَهَذَا مَوْضِعٌ غَلِطَ فِيهِ طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاسِ. إِحْدَاهُمَا: غَلَتْ فِيهِ، حَتَّى قَدَّمَتْهُ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ. وَرَأَتْ نُزُولَهَا عَنْهُ إِلَى الْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ انْحِطَاطًا مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى. حَتَّى قِيلَ لِبَعْضِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ذَاقَ ذَلِكَ: قُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ: يُطَالَبُ بِالْأَوْرَادِ مَنْ كَانَ غَافِلًا ... فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أَوْقَاتِهِ وِرْدُ وَقَالَ آخَرُ: لَا تُسَيِّبْ وَارِدَكَ لِوِرْدِكَ. وَهَؤُلَاءِ بَيْنَ كَافِرٍ وَنَاقِصٍ. فَمَنْ لَمْ يَرَ الْقِيَامَ بِالْفَرَائِضِ - إِذَا حَصَلَتْ لَهُ الْجَمْعِيَّةُ - فَهُوَ كَافِرٌ، مُنْسَلِخٌ مِنَ الدِّينِ. وَمِنْ عَطَّلَ لَهَا مَصْلَحَةً رَاجِحَةً - كَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالنَّفْعِ الْعَظِيمِ الْمُتَعَدِّي - فَهُوَ نَاقِصٌ. وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: لَا تَعْبَأُ بِالْجَمْعِيَّةِ، وَلَا تَعْمَلُ عَلَيْهَا. وَلَعَلَّهَا لَا تَدْرِي مَا مُسَمَّاهَا وَلَا حَقِيقَتُهَا. وَطَرِيقَةُ الْأَقْوِيَاءِ، أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ: الْقِيَامُ بِالْجَمْعِيَّةِ فِي التَّفْرِقَةِ مَا أَمْكَنَ. فَيَقُومُ أَحَدُهُمْ بِالْعِبَادَاتِ، وَنَفْعِ الْخَلْقِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، مَعَ جَمْعِيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ. فَإِنْ ضَعُفَ عَنِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ، وَضَاقَ عَنْ ذَلِكَ: قَامَ بِالْفَرَائِضِ. وَنَزَلَ عَنِ الْجَمْعِيَّةِ. وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، إِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهَا إِلَّا بِتَعْطِيلِ الْفَرْضِ. فَإِنَّ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ مِنْهُ أَدَاءَ فَرَائِضِهِ. وَنَفْسَهُ تُرِيدُ الْجَمْعِيَّةَ، لِمَا فِيهَا مِنَ الرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ أَلَمِ التَّفْرِقَةِ وَشَعْثِهَا. فَالْفَرَائِضُ حَقُّ رَبِّهِ. وَالْجَمْعِيَّةُ حَظُّهُ هُوَ. فَالْعُبُودِيَّةُ الصَّحِيحَةُ: تُوجِبُ عَلَيْهِ تَقْدِيمَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. فَإِذَا جَاءَ إِلَى النَّوَافِلِ، وَتَعَارَضَ عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ الْجَمْعِيَّةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ النَّوَافِلَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ هَذَا فِي وَقْتٍ وَهَذَا فِي وَقْتٍ. وَالتَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ تِلْكَ النَّوَافِلَ إِنْ كَانَتْ مَصْلَحَتُهَا أَرْجَحَ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ،

وَلَا تُعَوِّضُهُ الْجَمْعِيَّةُ عَنْهَا: اشْتَغَلَ بِهَا، وَلَوْ فَاتَتِ الْجَمْعِيَّةُ، كَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَقِيَامِ وَسَطِ اللَّيْلِ، وَالذِّكْرِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَآخِرَهُ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ. وَنَفْلِ الْجِهَادِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُضْطَرِّ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا كُلُّهُ مَصْلَحَتُهُ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْجَمْعِيَّةِ. وَإِنْ كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ دُونَ الْجَمْعِيَّةِ - كَصَلَاةِ الضُّحَى، وَزِيَارَةِ الْإِخْوَانِ، وَالْغُسْلِ لِحُضُورِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، وَزِيَارَةِ الْقُدْسِ، وَضِيَافَةِ الْإِخْوَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ. فَإِنْ قَوِيَتْ جَمْعِيَّتُهُ فَظَهَرَ تَأْثِيرُهَا فِيهِ: فَهِيَ أَوْلَى لَهُ، وَأَنْفَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ ضَعُفَتِ الْجَمْعِيَّةُ، وَقَوِيَ إِخْلَاصُهُ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ: فَهِيَ أَنْفَعُ لَهُ، وَأَفْضَلُ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ. وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: إِيثَارُ أَحَبِّ الْأَمْرَيْنِ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى. وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِنَفْعِ الْعَمَلِ وَثَمَرَتِهِ، مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَتَرَتُّبِ الْغَايَاتِ الْحَمِيدَةِ عَلَيْهِ، وَكَثْرَةِ مُوَاظَبَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ، وَشِدَّةِ اعْتِنَائِهِ بِهِ، وَكَثْرَةِ الْوَصِيَّةِ بِهِ، وَإِخْبَارِهِ: أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فَاعِلَهُ. وَيُبَاهِي بِهِ الْمَلَائِكَةَ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ وَحَرْفُهَا: أَنَّ الصَّادِقَ فِي طَلَبِهِ يُؤْثِرُ مَرْضَاةَ رَبِّهِ عَلَى حَظِّهِ. فَإِنْ كَانَ رِضَا اللَّهِ فِي الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ، وَحَظُّهُ فِي الْجَمْعِيَّةِ: خَلَّى الْجَمْعِيَّةَ تَذْهَبُ. وَقَامَ بِمَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ. وَمَتَّى عَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ: أَنَّ تَرَدُّدَهُ وَتَوَقُّفَهُ - لِيَعْلَمَ: أَيَّ الْأَمْرَيْنِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ وَأَرْضَى لَهُ - أَنْشَأَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ التَّوَقُّفِ وَالتَّرَدُّدِ حَالَةً شَرِيفَةً فَاضِلَةً، حَتَّى لَوْ قَدَّمَ الْمَفْضُولَ - لِظَنِّهِ أَنَّهُ الْأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ -: رَدَّتْ تِلْكَ النِّيَّةُ وَالْإِرَادَةُ عَلَيْهِ مَا ذَهَبَ عَلَيْهِ وَفَاتَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْعَمَلِ الْآخَرِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَفِي كَلَامِهِ مَعْنًى آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْمُجَاهَدَاتِ مُسَافِرٌ بِعَزْمِهِ وَهِمَّتِهِ إِلَى اللَّهِ. فَإِذَا لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ، وَهِيَ الْوَحْدَانِيَّةُ - الَّتِي شُهُودُ عَيْنِهَا: هُوَ انْكِشَافُ حَقِيقَتِهَا لِلْقَلْبِ - كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُسَافِرٍ جَادٍّ فِي سَيْرِهِ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَى الْمَنْزِلِ. وَقَرَّتْ عَيْنُهُ بِالْوُصُولِ. وَسَكَنَتْ نَفْسُهُ، كَمَا قِيلَ: فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ وَلَكِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ: مَوْرِدُ الصِّدِّيقِ الْمُوَحِّدِ. وَالزِّنْدِيقِ الْمُلْحِدِ. فَالزِّنْدِيقُ يَقُولُ: الِاشْتِغَالُ بِالسَّيْرِ بَعْدَ الْوُصُولِ عَيْبٌ. لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَالْوُصُولُ عِنْدَهُ: هُوَ مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ. فَإِذَا اسْتَغْرَقَ فِي هَذَا الشُّهُودِ، وَفَنِيَ بِهِ عَنْ كُلِّ

مَا سِوَاهُ: ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ بِالْأَوْرَادِ وَالْعِبَادَاتِ. وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ الْغَايَةُ. فَرَأَى قِيَامَهُ بِهَا أَوْلَى بِهِ. وَأَنْفَعَ لَهُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْوَسِيلَةِ. فَالْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ عِنْدَهُ: وَسِيلَةٌ لِغَايَةٍ، وَقَدْ حَصَلَتْ. فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِالْوَسِيلَةِ بَعْدَهَا، كَمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّ الْعِلْمَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْعَمَلِ. فَإِذَا اشْتَغَلْتَ بِالْغَايَةِ لَمْ تَحْتَجْ إِلَى الْوَسِيلَةِ. وَقَدِ اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ - مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنَ الشُّيُوخِ - عَلَى هَذِهِ الْفِرْقَةِ. وَحَذَّرُوا مِنْهُمْ. وَجَعَلُوا أَهْلَ الْكَبَائِرِ وَأَصْحَابَ الشَّهَوَاتِ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَأَرْجَى عَاقِبَةً. وَأَمَّا الصِّدِّيقُ الْمُوَحِّدُ: فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هُنَاكَ، صَارَتْ أَعْمَالُهُ الْقَلْبِيَّةُ وَالرُّوحِيَّةُ أَعْظَمَ مِنْ أَعْمَالِهِ الْبَدَنِيَّةِ، وَلَمْ يُسْقِطْ مِنْ أَعْمَالِهِ شَيْئًا. وَلَكِنَّهُ اسْتَرَاحَ مِنْ كَدِّ الْمُجَاهَدَاتِ بِمُلَاحَظَةِ عَيْنِ الْجَمْعِ. وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مُسَافِرٍ طَلَبَ مَلِكًا عَظِيمًا رَحِيمًا جَوَادًا، فَجَدَّ فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَقْتَطِعَ دُونَهُ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ وَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ: بَقِيَ لَهُ سَيْرٌ آخَرُ فِي مَرْضَاتِهِ وَمَحَابِّهِ. فَالْأَوَّلُ: كَانَ سَيْرًا إِلَيْهِ. وَهَذَا سَيْرٌ فِي مَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ. فَهَذَا أَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ وَأَمْثَالِهِ فِي ذَلِكَ. وَبَعْدُ، فَالْعَبْدُ - وَإِنْ لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهَا - فَهُوَ سَائِرٌ إِلَى اللَّهِ وَلَا يَنْقَطِعُ سَيْرُهُ إِلَيْهِ مَا دَامَ فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ. وَلَا يَصِلُ الْعَبْدُ مَا دَامَ حَيًّا إِلَى اللَّهِ وُصُولًا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنِ السَّيْرِ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ. بَلْ يَشْتَدُّ سَيْرُهُ إِلَى اللَّهِ كُلَّمَا زَادَتْ مُلَاحَظَتُهُ لِتَوْحِيدِهِ، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْظَمَ الْخَلْقِ اجْتِهَادًا، وَقِيَامًا بِالْأَعْمَالِ، وَمُحَافَظَةً عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ. وَهُوَ أَعْظَمُ مَا كَانَ اجْتِهَادًا وَقِيَامًا بِوَظَائِفِ الْعُبُودِيَّةِ. فَلَوْ أَتَى الْعَبْدُ بِأَعْمَالِ الثَّقَلَيْنِ جَمِيعِهَا لَمْ تُفَارِقْهُ حَقِيقَةُ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَكَانَ بَعْدُ فِي طَرِيقِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ. وَتَقْسِيمُ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّهِ: إِلَى طَالِبٍ، وَسَائِرٍ، وَوَاصِلٍ. أَوْ إِلَى مُرِيدٍ، وَمُرَادٍ: تَقْسِيمٌ فِيهِ مُسَاهَلَةٌ لَا تَقْسِيمٌ حَقِيقِيٌّ، فَإِنَّ الطَّلَبَ وَالسُّلُوكَ وَالْإِرَادَةَ لَوْ فَارَقَ الْعَبْدَ: لَانْقَطَعَ عَنِ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَلَكِنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بِاعْتِبَارِ تَنَقُّلِ الْعَبْدِ فِي أَحْوَالِ سَيْرِهِ وَإِلَّا فَإِرَادَةُ الْعَبْدِ الْمُرَادَ، وَطَلَبُهُ وَسَيْرُهُ: أَشَدُّ مِنْ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، وَطَلَبِهِ وَسَيْرِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُرَادٌ أَوَّلًا، حَيْثُ أُقِيمَ فِي مَقَامِ الطَّلَبِ، وَجُذِبَ إِلَى السَّيْرِ. فَكُلِّ مُرِيدٍ مُرَادٌ. وَكُلٌّ وَاصِلٌ وَسَالِكٌ وَطَالِبٌ لَا يُفَارِقُهُ طَلَبُهُ وَلَا سَيْرُهُ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ طُرُقُ السَّيْرِ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الْعَبْدِ.

فَمِنَ السَّالِكِينَ: مَنْ يَكُونُ سَيْرُهُ بِبَدَنِهِ وَجَوَارِحِهِ أَغْلَبَ عَلَيْهِ مِنْ سَيْرِهِ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ. وَمِنْهُمْ: مَنْ سَيْرُهُ بِقَلْبِهِ أَغْلَبُ عَلَيْهِ، أَعْنِي قُوَّةَ سَيْرِهِ وَحِدَّتَهُ. وَمِنْهُمْ - وَهُمُ الْكُمَّلُ الْأَقْوِيَاءُ - مَنْ يُعْطِي كُلَّ مَرْتَبَةٍ حَقَّهَا. فَيَسِيرُ إِلَى اللَّهِ بِبَدَنِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَقَلْبِهِ وَرُوحِهِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ صَفْوَةِ أَوْلِيَائِهِ بِأَنَّهُمْ دَائِمًا فِي مَقَامِ الْإِرَادَةِ لَهُ. فَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 19] فَالْعَبْدُ أَخَصُّ أَوْصَافِهِ، وَأَعْلَى مَقَامَاتِهِ: أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا صَادِقَ الْإِرَادَةِ، عَبْدًا فِي إِرَادَتِهِ. بِحَيْثُ يَكُونُ مُرَادُهُ تَبَعًا لِمُرَادِ رَبِّهِ الدِّينِيِّ مِنْهُ. لَيْسَ لَهُ إِرَادَةٌ فِي سِوَاهُ. وَقَدْ يُحْمَلُ كَلَامُ الشَّيْخِ عَلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ " إِنَّ مُلَاحَظَةَ عَيْنِ الْجَمْعِ تُوقِظُ الِاسْتِهَانَةَ بِالْمُجَاهَدَاتِ " أَنَّهُ يُوقِظُهُ مِنْ نَوْمِ الِاسْتِهَانَةِ بِالْمُجَاهَدَاتِ، وَتَكُونُ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. أَيْ يُوقِظُهُ مِنْ سِنَةِ التَّقْصِيرِ. لِاسْتِهَانَتِهِ بِالْمُجَاهَدَاتِ. وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا كَانَ إِلَى اللَّهِ أَقْرَبَ كَانَ جِهَادُهُ فِي اللَّهِ أَعْظَمَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] . وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ. فَإِنَّهُمْ كَانُوا كُلَّمَا تَرَقَّوْا مِنَ الْقُرْبِ فِي مَقَامٍ: عَظُمَ جِهَادُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ: لَا كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الطَّرِيقِ، حَيْثُ قَالَ: الْقُرْبُ الْحَقِيقِيُّ تَنَقُّلُ الْعَبْدِ مِنَ الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ. وَيُرِيحُ الْجَسَدَ وَالْجَوَارِحَ مِنْ كَدِّ الْعَمَلِ. وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ كُفْرًا وَإِلْحَادًا. حَيْثُ عَطَّلُوا الْعُبُودِيَّةَ. وَظَنُّوا أَنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا عَنْهَا بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْخَيَالَاتِ الْبَاطِلَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَمَانِيِّ النَّفْسِ، وَخِدَعِ الشَّيْطَانِ. وَكَأَنَّ قَائِلَهُمْ إِنَّمَا عَنَى نَفْسَهُ، وَذَوِي مَذْهَبِهِ بِقَوْلِهِ: رَضُوا بِالْأَمَانِيِّ وَابْتَلُوا بِحُظُوظِهِمْ ... وَخَاضُوا بِحَارَ الْحُبِّ دَعْوَى فَمَا ابْتَلُّوا فَهُمْ فِي السُّرَى لَمْ يَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ... وَمَا ظَعَنُوا فِي السَّيْرِ عَنْهُ وَقَدْ كَلُّوا

وَقَدْ صَرَّحَ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ، وَأَئِمَّةُ الطَّرِيقِ: بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ. فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَقَالُوا: لَوْ وَصَلَ الْعَبْدُ مِنَ الْقُرْبِ إِلَى أَعْلَى مَقَامٍ يَنَالُهُ الْعَبْدُ لَمَا سَقَطَ عَنْهُ مِنَ التَّكْلِيفِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ. أَيْ مَا دَامَ قَادِرًا عَلَيْهِ. وَهَؤُلَاءِ يَظُنُّونَ: أَنَّهُمْ يَسْتَغْنُونَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ عَنْ ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ. وَأَجْمَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا كُفْرٌ وَإِلْحَادٌ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّ كُلَّ حَقِيقَةٍ لَا تَتْبَعُهَا شَرِيعَةٌ فَهِيَ كُفْرٌ. قَالَ سَرِيٌّ السَّقَطِيُّ: مَنِ ادَّعَى بَاطِنَ الْحَقِيقَةِ يَنْقُضُهَا ظَاهِرُ حُكْمٍ: فَهُوَ غَالِطٌ. وَقَالَ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: عِلْمُنَا هَذَا مُتَشَبِّكٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّصْرَابَادِيُّ: أَصْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ: مُلَازَمَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَرْكُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ. وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَئِمَّةِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالسَّلَفِ، وَتَرْكُ مَا أَحْدَثَهُ الْآخِرُونَ، وَالْمُقَامُ عَلَى مَا سَلَكَ الْأَوَّلُونَ. . وَسُئِلَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ: مَا الَّذِي لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْهُ؟ فَقَالَ: مُلَازَمَةُ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى السُّنَّةِ، وَدَوَامُ الْمُرَاقَبَةِ. وَسُئِلَ: مَا التَّصَوُّفُ؟ فَقَالَ: الصَّبْرُ تَحْتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: مَنْ عَمِلَ بِلَا اتِّبَاعِ سُنَّةٍ فَبَاطِلٌ عَمَلُهُ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ يَوْمًا - وَمَدَّ يَدَهُ إِلَى ثَوْبِهِ - لَوْلَا أَنَّهُ عَارِيَةٌ لَمَزَّقْتُهُ. فَقِيلَ لَهُ: رُؤْيَتُكَ فِي تِلْكَ الْغَلَبَةِ ثِيَابَكَ، وَأَنَّهَا عَارِيَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ أَرْبَابُ الْحَقَائِقِ مَحْفُوظٌ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ الشَّرِيعَةُ. . وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ: لَوْ نَظَرْتُمْ إِلَى رَجُلٍ أُعْطِيَ مِنَ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَرْتَفِعَ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ، حَتَّى تَنْظُرُوا: كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَحِفْظِ الْحُدُودِ وَالشَّرِيعَةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ الْخَيَّاطُ: النَّاسُ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا مَعَ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ. فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَرَدَّهُمْ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ. وَلَمَّا حَضَرَتْ أَبَا عُثْمَانَ الْحِيرِيَّ الْوَفَاةُ: مَزَّقَ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ قَمِيصَهُ. فَفَتَحَ أَبُو عُثْمَانَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ خِلَافُ السُّنَّةِ فِي الظَّاهِرِ مِنْ رِيَاءِ الْبَاطِنِ فِي الْقَلْبِ. وَمِنْ كَلَامِ ابْنِ عُثْمَانَ هَذَا: أَسْلَمُ الطُّرُقِ مِنَ الِاغْتِرَارِ: طَرِيقُ السَّلَفِ، وَلُزُومُ الشَّرِيعَةِ. . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُبَارَكٍ: لَا يَظْهَرُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ إِلَّا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَمُجَانَبَةِ الْبِدْعَةِ. وَكُلُّ

مَوْضِعٍ تَرَى فِيهِ اجْتِهَادًا ظَاهِرًا بِلَا نُورٍ. فَاعْلَمْ أَنَّ ثَمَّ بِدْعَةً خَفِيَّةً. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْزَمِ السَّوَادَ عَلَى الْبَيَاضِ - حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا - إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَفْلَحَ. وَلَقَدْ كَانَ سَادَاتُ الطَّائِفَةِ أَشَدَّ مَا كَانُوا اجْتِهَادًا فِي آخِرِ أَعْمَارِهِمْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ يَقُولُ: رُئِيَ فِي يَدِ الْجُنَيْدِ سُبْحَةٌ. فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ مَعَ شَرَفِكَ تَأْخُذُ بِيَدِكَ سُبْحَةً؟ فَقَالَ: طَرِيقٌ وَصَلْتُ بِهِ إِلَى رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا. . وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ: كَانَ الْجُنَيْدُ يَجِيءُ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى السُّوقِ، فَيَفْتَحُ بَابَ حَانُوتِهِ. فَيَدْخُلُهُ وَيُسْبِلُ السِّتْرَ، وَيُصَلِّي أَرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطَاءٍ - وَهُوَ فِي النَّزْعِ - فَسَلَّمَ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ سَاعَةٍ. فَقَالَ: اعْذِرْنِي. فَإِنِّي كُنْتُ فِي وِرْدِي. ثُمَّ حَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. وَكَبَّرَ، وَمَاتَ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْعَطَّارَ يَقُولُ: حَضَرْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْجُنَيْدَ - أَنَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا - فَكَانَ قَاعِدًا يُصَلِّي، وَيَثْنِي رِجْلَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ رِجْلَيْهِ. فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ حَرَكَتُهَا، وَكَانَتَا قَدْ تَوَرَّمَتَا. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: مَا هَذَا يَا أَبَا الْقَاسِمِ؟ فَقَالَ: هَذِهِ نِعَمُ اللَّهِ. اللَّهُ أَكْبَرُ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ لَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، لَوِ اضْطَجَعْتَ. فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، هَذَا وَقْتٌ يُؤْخَذُ فِيهِ؟ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ حَالُهُ حَتَّى مَاتَ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ شَابٌّ - وَهُوَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. وَقَدْ تَوَرَّمَ وَجْهُهُ. وَبَيْنَ يَدَيْهِ مِخَدَّةٌ يُصَلِّي إِلَيْهَا - فَقَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ؟ فَلَمَّا سَلَّمَ دَعَاهُ، وَقَالَ: شَيْءٌ وَصَلْتُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، فَلَا أَدَعُهُ. وَمَاتَ بَعْدَ سَاعَةٍ. رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ: كُنْتُ وَاقِفًا عَلَى رَأْسِ الْجُنَيْدِ فِي وَقْتِ وَفَاتِهِ. وَكَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَيَوْمَ نَيْرُوزٍ. وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ارْفُقْ بِنَفْسِكَ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَرَأَيْتَ أَحَدًا أَحْوَجَ إِلَيْهِ مِنِّي، فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ ذَا تُطْوَى صَحِيفَتِي؟ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْعَطَوِيُّ: كُنْتُ عِنْدَ الْجُنَيْدِ حِينَ مَاتَ. فَخَتَمَ الْقُرْآنَ. ثُمَّ ابْتَدَأَ فِي خَتْمَةٍ أُخْرَى. فَقَرَأَ مِنَ الْبَقَرَةِ سَبْعِينَ آيَةً. ثُمَّ مَاتَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: رَأَيْتُ الْجُنَيْدَ فِي النَّوْمِ. فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: طَاحَتْ تِلْكَ الْإِشَارَاتُ، وَغَابَتْ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ، وَفَنِيَتْ تِلْكَ الْعُلُومُ، وَنَفِدَتْ تِلْكَ الرُّسُومُ. وَمَا نَفَعَنَا إِلَّا رَكَعَاتٌ كُنَّا نَرْكَعُهَا فِي الْأَسْحَارِ. وَتَذَاكَرُوا بَيْنَ يَدَيْهِ أَهْلَ

الْمَعْرِفَةِ، وَمَا اسْتَهَانُوا بِهِ مِنَ الْأَوْرَادِ وَالْعِبَادَاتِ بَعْدَمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ؟ فَقَالَ الْجُنَيْدُ: الْعِبَادَةُ عَلَى الْعَارِفِينَ أَحْسَنُ مِنَ التِّيجَانِ عَلَى رُءُوسِ الْمُلُوكِ. وَقَالَ: الطُّرقُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ، إِلَّا مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاتَّبَعَ سُنَّتَهُ، وَلَزِمَ طَرِيقَتَهُ. فَإِنَّ طُرُقَ الْخَيْرَاتِ كُلَّهَا مَفْتُوحَةٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَصِلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ فَمُتَعَنٍّ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَصِلُ بِغَيْرِ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فَمُتَمَنٍّ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ هَانِئٍ يَقُولُ: سَأَلْتُ الْجُنَيْدَ، مَا عَلَامَةُ الْإِيمَانِ؟ فَقَالَ: عَلَامَتُهُ طَاعَةُ مَنْ آمَنَتْ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَتَرْكُ التَّشَاغُلِ عَنْهُ بِمَا يَنْقَضِي وَيَزُولُ. فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. مَا أَتْبَعُهُ لِسُنَّةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَا أَقْفَاهُ لِطَرِيقَةِ أَصْحَابِهِ. وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ جِدًّا. يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الِاسْتِقَامَةِ فِي نِهَايَاتِهِمْ: أَشَدُّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ فِي بِدَايَاتِهِمْ، بَلْ كَانَ اجْتِهَادُهُمْ فِي الْبِدَايَةِ فِي عَمَلٍ مَخْصُوصٍ. فَصَارَ اجْتِهَادُهُمْ فِي النِّهَايَةِ: الطَّاعَةَ الْمُطْلَقَةَ. وَصَارَتْ إِرَادَتُهُمْ دَائِرَةً مَعَهَا. فَتُضْعِفُ الِاجْتِهَادَ فِي الْمَعْنَى الْمُعَيَّنِ. لِأَنَّهُ كَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَلَا تَضَعُ إِلَى قَوْلِ مُلْحِدٍ قَاطِعٍ لِلطَّرِيقِ فِي قَالَبِ عَارِفٍ، يَقُولُ: إِنَّ مَنْزِلَةَ الْقُرْبِ تَنْقِلُ الْعَبْدَ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ. وَتَحْمِلُ عَلَى الِاسْتِهَانَةِ بِالطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَتُرِيحُهُ مِنْ كَدِّ الْقِيَامِ بِهَا. فَصْلٌ قَوْلُهُ: وَتُخَلِّصُ مِنْ رُعُونَةِ الْمُعَارَضَاتِ. يُرِيدُ: أَنَّ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةَ تُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ رُعُونَةِ مُعَارَضَةِ حُكْمِ اللَّهِ الدِّينِيِّ وَالْكَوْنِيِّ، الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ بِمُعَارَضَتِهِ. فَيَسْتَسْلِمُ لِلْحُكْمَيْنِ. فَإِنَّ مُلَاحَظَةَ عَيْنِ الْجَمْعِ تُشْهِدُهُ: أَنَّ الْحُكْمَيْنِ صَدَرَا عَنْ عَزِيزٍ حَكِيمٍ. فَلَا يُعَارِضُ حُكْمَهُ بِرَأْيٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا ذَوْقٍ وَلَا خَاطِرٍ. وَأَيْضًا فَتُخَلِّصُ قَلْبَهُ مِنْ مُعَارَضَاتِ السِّوَى لِلْأَمْرِ. فَإِنَّ الْأَمْرَ يُعَارَضُ بِالشَّهْوَةِ. وَالْخَبَرَ يُعَارَضُ بِالشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ. فَمُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ: تُخَلِّصُ قَلْبَهُ مِنْ هَاتَيْنِ

الْمُعَارَضَتَيْنِ. وَهَذَا هُوَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الَّذِي لَا يُفْلِحُ إِلَّا مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِهِ. هَذَا تَفْسِيرُ أَهْلِ الْحَقِّ وَالِاسْتِقَامَةِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْإِلْحَادِ، فَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالْمُعَارَضَاتِ هَاهُنَا: الْإِنْكَارُ عَلَى الْخَلْقِ فِيمَا يَبْدُو مِنْهُمْ مِنْ أَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ. لِأَنَّ الْمُشَاهِدَ لِعَيْنِ الْجَمْعِ يَعْلَمُ: أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنَ الْخَلْقِ مَا هُمْ عَلَيْهِ. فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ الشُّهُودِ: كَانَتِ الْمُعَارَضَاتُ وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مِنْ رَعُونَاتِ الْأَنْفُسِ الْمَحْجُوبَةِ. وَقَالَ قُدْوَتُهُمْ فِي ذَلِكَ: الْعَارِفُ لَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، لِاسْتِبْصَارِهِ بِسِرِّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ. وَهَذَا عَيْنُ الِاتِّحَادِ وَالْإِلْحَادِ وَالِانْسِلَاخِ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ أَعَاذَ اللَّهُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ الْمُلْحِدُ يُحَمِّلُ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ. فَمَا الظَّنُّ بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ؟ فَيُقَالُ: إِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ بِالْإِنْكَارِ عَلَى الْخَلْقِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ وَغَيْرِهَا. فَبِهَذَا أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَانْقَسَمَتِ الدَّارُ إِلَى دَارِ سَعَادَةٍ لِلْمُنْكِرِينَ، وَدَارِ شَقَاوَةٍ لِلْمُنْكَرِ عَلَيْهِمْ. فَالطَّعْنُ فِي ذَلِكَ: طَعْنٌ فِي الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ. وَالتَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ: انْحِلَالٌ مِنْ رِبْقَةِ الدِّينِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الرُّسُلِ مَعَ أُمَمِهِمْ: وَجَدَهُمْ كَانُوا قَائِمِينَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْقِيَامِ. حَتَّى لَقُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَأَوْصَوْا مَنْ آمَنَ بِهِمْ بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ الْمُتَخَلِّصَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِنْكَارِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ. وَبَالَغَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَشَدَّ الْمُبَالَغَةِ، حَتَّى قَالَ «إِنَّ النَّاسَ إِذَا تَرَكُوهُ: أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ» . وَأَخْبَرَ أَنَّ تَرْكَهُ: يُوقِعُ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَالْوُجُوهِ. وَيُحِلُّ لَعْنَةَ اللَّهِ. كَمَا لَعَنَ

اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى تَرْكِهِ. فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِنْكَارُ مِنْ رَعُونَاتِ النُّفُوسِ، وَهُوَ مَقْصُودُ الشَّرِيعَةِ؟ وَهَلِ الْجِهَادُ إِلَّا عَلَى أَنْوَاعِ الْإِنْكَارِ. وَهُوَ جِهَادٌ بِالْيَدِ، وَجِهَادُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنْكَارٌ بِاللِّسَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُشَاهِدَ: أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنَ الْخَلَائِقِ: مَا هُمْ عَلَيْهِ. فَيُقَالُ لَهُ: الرَّبُّ تَعَالَى لَهُ مَرَادَانِ: كَوْنِيٌّ، وَدِينِيٌّ. فَهَبْ أَنَّ مُرَادَهُ الْكَوْنِيَّ مِنْهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ. فَمُرَادُهُ الدِّينِيُّ الْأَمْرِيُّ الشَّرْعِيُّ: هُوَ الْإِنْكَارُ عَلَى أَصْحَابِ الْمُرَادِ الْكَوْنِيِّ. فَإِذَا عَطَّلْتَ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ: لَمْ تَكُنْ وَاقِفًا مَعَ مُرَادِهِ الدِّينِيِّ، الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَلَا يَنْفَعُكَ وُقُوفُكَ مَعَ مُرَادِهِ الْكَوْنِيِّ الَّذِي قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ. إِذْ لَوْ نَفَعَكَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّرَائِعِ مَعْنًى أَلْبَتَّةَ. وَلَا لِلْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ، وَلَا لِلْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَا لِلْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي الظَّلَمَةِ وَالْفُجَّارِ، وَكَفِّ عُدْوَانِهِمْ وَفُجُورِهِمْ. فَإِنَّ الْعَارِفَ عِنْدَكَ: يَشْهَدُ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهُمْ: هُوَ ذَلِكَ. وَفِي هَذَا فَسَادُ الدُّنْيَا قَبْلَ الْأَدْيَانِ. فَهَذَا الْمَذْهَبُ الْخَبِيثُ لَا يُصْلُحُ عَلَيْهِ دُنْيَا وَلَا دِينٌ، وَلَكِنَّهُ رُعُونَةُ نَفْسٍ قَدْ أَخْلَدَتْ إِلَى الْإِلْحَادِ، وَكَفَرَتْ بِدِينِ رَبِّ الْعِبَادِ. وَاتَّخَذَتْ تَعْطِيلَ الشَّرَائِعِ دِينًا وَمَقَامًا، وَوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ مُسَامَرَةً وَإِلْهَامًا. وَجَعَلَتْ أَقْدَارَ الرَّبِّ تَعَالَى مُبْطِلَةً لِمَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ. وَمُعَطِّلَةً لِمَا أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ. وَجَعَلُوا هَذَا الْإِلْحَادَ غَايَةَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَشْرَفَ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ. وَدَعَوْا إِلَى ذَلِكَ النُّفُوسَ الْمُبَطِلَةِ الْجَاهِلَةِ بِاللَّهِ وَدِينِهِ. فَلَبَّوْا دَعْوَتَهُمْ مُسْرِعِينَ، وَاسْتَخَفَّ الدَّاعِي مِنْهُمْ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ. إِنَّهُمْ كَانُوا قُوْمًا فَاسِقِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْإِنْكَارَ: مِنْ مُعَارَضَاتِ النُّفُوسِ الْمَحْجُوبَةِ. فَلَعَمْرُ اللَّهِ: إِنَّهُمْ لَفِي حِجَابٍ مَنِيعٍ مِنْ هَذَا الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ. وَلَكِنَّهُمْ يُشْرِفُونَ عَلَى أَهْلِهِ وَهُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي كُفْرِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، وَلِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ يُحَارِبُونَ، وَإِلَى خِلَافِ طَرِيقِهِمْ يَدْعُونَ. وَبِغَيْرِ هُدَاهُمْ يَهْتَدُونَ. وَعَنْ صِرَاطِهِمُ الْمُسْتَقِيمِ نَاكِبُونَ. وَلِمَا جَاءَا بِهِ يُعَارِضُونَ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ - فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ - أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ - وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ - اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ - أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 9 - 16] . فَصْلٌ

قَوْلُهُ: " وَتُفِيدُ مُطَالَعَةُ الْبِدَايَاتِ " يَحْتَمِلُ كَلَامُهُ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُلَاحَظَةَ عَيْنِ الْجَمْعِ: تُفِيدُ صَاحِبَهَا مُطَالَعَةَ السَّوَابِقِ الَّتِي ابْتَدَأَهُ اللَّهُ بِهَا. فَتُفِيدُهُ مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ نَظْرَةً إِلَى أَوَّلِيَّةِ الرَّبِّ تَعَالَى فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْبِدَايَاتِ: بِدَايَاتِ سُلُوكِهِ، وَحِدَّةَ طَلَبِهِ. فَإِنَّهُ فِي حَالِ سُلُوكِهِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا وَرَاءَهُ، لِشِدَّةِ شُغْلِهِ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. وَغَلَبَةِ أَحْكَامِ الْهِمَّةِ عَلَيْهِ. فَلَا يَتَفَرَّغُ لِمُطَالَعَةِ بِدَايَاتِهِ. فَإِذَا لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ: قَطَعَ السُّلُوكَ الْأَوَّلَ. وَبَقِيَ لَهُ سُلُوكٌ ثَانٍ. فَتَفَرَّغَ حِينَئِذٍ إِلَى مُطَالَعَةِ بِدَايَاتِهِ. وَوَجَدَ اشْتِيَاقًا مِنْهُ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ الْجُنَيْدُ: وَاشَوْقَاهُ إِلَى أَوْقَاتِ الْبِدَايَةِ. يَعْنِي: لَذَّةَ أَوْقَاتِ الْبِدَايَةِ، وَجَمْعِ الْهِمَّةِ عَلَى الطَّلَبِ، وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. فَإِنَّهُ كَانَ مَجْمُوعَ الْهِمَّةِ عَلَى السَّيْرِ وَالطَّلَبِ. فَلَمَّا لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ فَنِيَتْ رُسُومُهُ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ الْفَنَاءُ عَنْ بَشَرِيَّتِهِ، وَأَحْكَامِ طَبِيعَتِهِ. فَتَقَاضَتْ طِبَاعُهُ مَا فِيهَا. فَلَزِمَتْهُ الْكُلَفُ. فَارْتَاحَ إِلَى أَوْقَاتِ الْبِدَايَاتِ، لِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ لَذَّةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْخَلْقِ، وَاجْتِمَاعِ الْهِمَّةِ. وَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. فَقَالَ: هَكَذَا كُنَّا حَتَّى قَسَتْ قُلُوبُنَا. وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةً. وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ» . فَالطَّالِبُ الْجَادُّ: لَا بُدَّ أَنْ تَعْرِضَ لَهُ فَتْرَةٌ. فَيَشْتَاقُ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ إِلَى حَالِهِ وَقْتَ الطَّلَبِ وَالِاجْتِهَادِ. «وَلَمَّا فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْدُو إِلَى شَوَاهِقِ الْجِبَالِ لِيُلْقِيَ نَفْسَهُ. فَيَبْدُوَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَقُولَ لَهُ: إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَطْمَئِنُّ نَفْسُهُ» .

فصل منزلة الوقت

فَتَخَلُّلُ الْفَتَرَاتِ لِلسَّالِكِينَ: أَمْرٌ لَازِمٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى مُقَارَبَةٍ وَتَسْدِيدٍ، وَلَمْ تُخْرِجْهُ مِنْ فَرْضٍ، وَلَمْ تُدْخِلْهُ فِي مُحَرَّمٍ: رَجَا لَهُ أَنْ يَعُودَ خَيْرًا مِمَّا كَانَ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: إِنَّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا. فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَخُذُوهَا بِالنَّوَافِلِ. وَإِنْ أَدْبَرَتْ فَأَلْزِمُوهَا الْفَرَائِضَ. وَفِي هَذِهِ الْفَتَرَاتِ وَالْغُيُومِ وَالْحُجُبِ، الَّتِي تَعْرِضُ لِلسَّالِكِينَ: مِنَ الْحِكَمِ مَا لَا يَعْلَمُ تَفْصِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. وَبِهَا يَتَبَيَّنُ الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ. فَالْكَاذِبُ: يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ. وَيَعُودُ إِلَى رُسُومِ طَبِيعَتِهِ وَهَوَاهُ. وَالصَّادِقُ: يَنْتَظِرُ الْفَرَجَ. وَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ. وَيُلْقِي نَفْسَهُ بِالْبَابِ طَرِيحًا ذَلِيلًا مِسْكِينًا مُسْتَكِينًا، كَالْإِنَاءِ الْفَارِغِ الَّذِي لَا شَيْءَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، يَنْتَظِرُ أَنْ يَضَعَ فِيهِ مَالِكُ الْإِنَاءِ وَصَانِعُهُ مَا يَصْلُحُ لَهُ، لَا بِسَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ - وَإِنْ كَانَ هَذَا الِافْتِقَارُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ - لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مِنْكَ. بَلْ هُوَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْكَ بِهِ. وَجَرَّدَكَ مِنْكَ. وَأَخْلَاكَ عَنْكَ. وَهُوَ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ. فَإِذَا رَأَيْتَهُ قَدْ أَقَامَكَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَرْحَمَكَ وَيَمْلَأَ إِنَاءَكَ، فَإِنْ وَضَعْتَ الْقَلْبَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَلْبٌ مُضَيِّعٌ. فَسَلْ رَبَّهُ وَمَنْ هُوَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ: أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْكَ وَيَجْمَعَ شَمْلَكَ بِهِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ: إِذَا مَا وَضَعْتَ الْقَلْبَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ... بِغَيْرِ إِنَاءٍ فَهُوَ قَلْبٌ مُضَيِّعُ [فَصْلُ مَنْزِلَةِ الْوَقْتِ] [حَقِيقَةُ الْوَقْتِ] فَصْلٌ وَمِنْهَا الْوَقْتُ، قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: بَابُ الْوَقْتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى} [طه: 40] الْوَقْتُ اسْمٌ لِظَرْفِ الْكَوْنِ. وَهُوَ اسْمٌ فِي هَذَا الْبَابِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ، عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: حِينَ وَجْدٍ صَادِقٍ، لِإِينَاسِ ضِيَاءِ فَضْلٍ جَذَبَهُ صَفَاءُ رَجَاءٍ، أَوْ لِعِصْمَةٍ جَذَبَهَا

صِدْقُ خَوْفٍ. أَوْ لِتَلَهُّبِ شَوْقٍ جَذَبَهُ اشْتِعَالُ مَحَبَّةٍ. وَجْهُ اسْتِشْهَادِهِ بِالْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ مَجِيءَ مُوسَى أَحْوَجَ مَا كَانَ الْوَقْتُ إِلَيْهِ. فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: جَاءَ فُلَانٌ عَلَى قَدَرٍ. إِذَا جَاءَ وَقْتُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. قَالَ جَرِيرٌ: نَالَ الْخِلَافَةَ إِذْ كَانَتْ عَلَى قَدَرٍ ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى مَوْعِدٍ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ مُوسَى مَوْعِدٌ لِلْمَجِيءِ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ أَتَى عَلَى ذَلِكَ الْمَوْعِدِ. وَلَكِنْ وَجْهُ هَذَا: أَنَّ الْمَعْنَى: جِئْتَ عَلَى الْمَوْعِدِ الَّذِي وَعَدْنَا أَنْ نُنْجِزَهُ، وَالْقَدَرِ الَّذِي قَدَّرْنَا أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا - وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 107 - 108] لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعَدَ بِإِرْسَالِ نَبِيٍّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَمْلَأُ الْأَرْضَ نُورًا وَهُدًى. فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ: عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ أَنْجَزَ ذَلِكَ الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدَ بِهِ. وَاسْتِشْهَادُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّهِ مِنَ الْعِلْمِ. لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا وَقَعَ فِي وَقْتِهِ الَّذِي هُوَ أَلْيَقُ الْأَوْقَاتِ بِوُقُوعِهِ فِيهِ: كَانَ أَحْسَنَ وَأَنْفَعَ وَأَجْدَى. كَمَا إِذَا وَقَعَ الْغَيْثُ فِي أَحْوَجِ الْأَوْقَاتِ إِلَيْهِ. وَكَمَا إِذَا وَقَعَ الْفَرَجُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ أَقْدَارَ الرَّبِّ تَعَالَى، وَجَرَيَانَهَا فِي الْخَلْقِ: عَلِمَ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي أَلْيَقِ الْأَوْقَاتِ بِهَا. فَبَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُوسَى: أَحْوَجَ مَا كَانَ النَّاسُ إِلَى بِعْثَتِهِ. وَبَعَثَ عِيسَى كَذَلِكَ. وَبَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ: أَحْوَجَ مَا كَانَ أَهْلُ الْأَرْضِ إِلَى إِرْسَالِهِ. فَهَكَذَا وَقْتُ الْعَبْدِ مَعَ اللَّهِ يُعَمِّرُهُ بِأَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ لَهُ: أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَى عِمَارَتِهِ. قَوْلُهُ " الْوَقْتُ: ظَرْفُ الْكَوْنِ " الْوَقْتُ: عِبَارَةٌ عَنْ مُقَارَبَةِ حَادِثٍ لِحَادِثٍ عِنْدَ

الْمُتَكَلِّمِينَ، فَهُوَ نِسْبَةٌ بَيْنَ حَادِثَيْنِ. فَقَوْلُهُ " ظَرْفُ الْكَوْنِ " أَيْ وِعَاءُ التَّكْوِينِ. فَهُوَ الْوِعَاءُ الزَّمَانِيُّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ التَّكْوِينُ. كَمَا أَنَّ ظَرْفَ الْمَكَانِ: هُوَ الْوِعَاءُ الْمَكَانِيُّ، الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْجِسْمُ. وَلَكِنَّ الْوَقْتَ فِي اصْطِلَاحِ الْقَوْمِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: الْوَقْتُ مَا أَنْتَ فِيهِ. فَإِنْ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا فَوَقْتُكَ الدُّنْيَا وَإِنْ كُنْتَ بِالْعُقْبَى فَوَقْتُكَ الْعُقْبَى. وَإِنْ كُنْتَ بِالسُّرُورِ فَوَقْتُكَ السُّرُورُ. وَإِنْ كُنْتَ بِالْحُزْنِ فَوَقْتُكَ الْحُزْنُ. يُرِيدُ: أَنَّ الْوَقْتَ مَا كَانَ الْغَالِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَالِهِ. وَقَدْ يُرِيدُ: أَنَّ الْوَقْتَ مَا بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ. وَهُوَ اصْطِلَاحُ أَكْثَرِ الطَّائِفَةِ. وَلِهَذَا يَقُولُونَ: الصُّوفِيُّ وَالْفَقِيرُ ابْنُ وَقْتِهِ. يُرِيدُونَ: أَنَّ هِمَّتَهُ لَا تَتَعَدَّى وَظِيفَةَ عِمَارَتِهِ بِمَا هُوَ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِهِ، وَأَنْفَعُهَا لَهُ. فَهُوَ قَائِمٌ بِمَا هُوَ مُطَالَبٌ بِهِ فِي الْحِينِ وَالسَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ. فَهُوَ لَا يَهْتَمُّ بِمَاضِي وَقْتِهِ وَآتِيهِ، بَلْ يَهْتَمُّ بِوَقْتِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْوَقْتِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ يُضَيِّعُ الْوَقْتَ الْحَاضِرَ، وَكُلَّمَا حَضَرَ وَقْتٌ اشْتَغَلَ عَنْهُ بِالطَّرَفَيْنِ. فَتَصِيرُ أَوْقَاتُهُ كُلُّهَا فَوَاتًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: صَحِبْتُ الصُّوفِيَّةَ. فَمَا انْتَفَعْتُ مِنْهُمْ إِلَّا بِكَلِمَتَيْنِ،

سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: الْوَقْتُ سَيْفٌ. فَإِنْ قَطَعْتَهُ وَإِلَّا قَطَعَكَ. وَنَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ، وَإِلَّا شَغَلَتْكَ بِالْبَاطِلِ. قُلْتُ: يَا لَهُمَا مِنْ كَلِمَتَيْنِ، مَا أَنْفَعَهُمَا وَأَجْمَعَهُمَا، وَأَدَلَّهُمَا عَلَى عُلُوِّ هِمَّةِ قَائِلِهِمَا، وَيَقَظَتِهِ. وَيَكْفِي فِي هَذَا ثَنَاءُ الشَّافِعِيِّ عَلَى طَائِفَةِ هَذَا قَدْرَ كَلِمَاتِهِمْ. وَقَدْ يُرِيدُونَ بِالْوَقْتِ: مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. وَهُوَ مَا يُصَادِفُهُمْ فِي تَصْرِيفِ الْحَقِّ لَهُمْ. دُونَ مَا يَخْتَارُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ. وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ بِحُكْمِ الْوَقْتِ. أَيْ مُسْتَسْلِمٌ لِمَا يَأْتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَهَذَا يَحْسُنُ فِي حَالٍ، وَيَحْرُمُ فِي حَالٍ. وَيُنْقِصُ صَاحِبَهُ فِي حَالٍ. فَيَحْسُنُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَيْسَ لِلَّهِ عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ. بَلْ فِي مَوْضِعِ جَرَيَانِ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، كَالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ، وَالْغُرْبَةِ وَالْجُوعِ، وَالْأَلَمِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَحْرُمُ فِي الْحَالِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ. فَإِنَّ التَّضْيِيعَ لِذَلِكَ وَالِاسْتِسْلَامَ، وَالِاسْتِرْسَالَ مَعَ الْقَدَرِ: انْسِلَاخٌ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَيُنْقِصُ صَاحِبَهُ فِي حَالٍ تَقْتَضِي قِيَامًا بِالنَّوَافِلِ، وَأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْعَبْدِ خَيْرًا: أَعَانَهُ بِالْوَقْتِ. وَجَعَلَ وَقْتَهَ مُسَاعِدًا لَهُ. وَإِذَا أَرَادَ بِهِ شَرًّا: جَعَلَ وَقْتَهُ عَلَيْهِ، وَنَاكَدَهُ وَقْتَهُ. فَكُلَّمَا أَرَادَ التَّأَهُّبَ لِلْمَسِيرِ: لَمْ يُسَاعِدْهُ الْوَقْتُ. وَالْأَوَّلُ: كُلَّمَا هَمَّتْ نَفْسُهُ بِالْقُعُودِ أَقَامَهُ الْوَقْتُ وَسَاعَدَهُ. وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُهُمُ الصُّوفِيَّةَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَصْحَابُ السَّوَابِقِ، وَأَصْحَابُ الْعَوَاقِبِ، وَأَصْحَابُ الْوَقْتِ، وَأَصْحَابُ الْحَقِّ. قَالَ: فَأَمَّا أَصْحَابُ السَّوَابِقِ: فَقُلُوبُهُمْ أَبَدًا فِيمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ. لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَزَلِيَّ لَا يَتَغَيَّرُ بِاكْتِسَابِ الْعَبْدِ. وَيَقُولُونَ: مَنْ أَقْصَتْهُ السَّوَابِقُ لَمْ تُدْنِهِ الْوَسَائِلُ. فَفِكْرُهُمْ فِي هَذَا أَبَدًا. وَمَعَ ذَلِكَ: فَهُمْ يَجِدُّونَ فِي الْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الْقُرَبِ، غَيْرَ وَاثِقِينَ بِهَا، وَلَا مُلْتَفِتِينَ إِلَيْهَا، وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: مِنْ أَيْنَ أُرْضِيكَ إِلَّا أَنْ تُوَفِّقَنِي ... هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مَا التَّوْفِيقُ مِنْ قِبَلِي إِنْ لَمْ يَكُنْ لِي فِي الْمَقْدُورِ سَابِقَةٌ ... فَلَيْسَ يَنْفَعُ مَا قَدَّمْتُ مِنْ عَمَلِي. وَأَمَّا أَصْحَابُ الْعَوَاقِبِ: فَهُمْ مُتَفَكِّرُونَ فِيمَا يُخْتَمُ بِهِ أَمْرُهُمْ. فَإِنَّ الْأُمُورَ

بِأَوَاخِرِهَا. وَالْأَعْمَالَ بِخَوَاتِيمِهَا، وَالْعَاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ. كَمَا قِيلَ: لَا يَغُرَّنَّكَ صَفَا الْأَوْقَاتِ ... فَإِنَّ تَحْتَهَا غَوَامِضَ الْآفَاتِ فَكَمْ مِنْ رَبِيعٍ نَوَّرَتْ أَشْجَارُهُ، وَتَفَتَّحَتْ أَزْهَارُهُ، وَزَهَتْ ثِمَارُهُ، لَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ سَمَاوِيَّةٌ. فَصَارَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس: 24]- إِلَى قَوْلِهِ - {يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] . فَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ كَبَا بِهِ جَوَادُ عَزْمِهِ ... فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ - وَقَدْ شُوهِدَ مِنْهُ خِلَافُ مَا كَانَ يُعْهَدُ عَلَيْهِ -: مَا الَّذِي أَصَابَكَ؟ فَقَالَ: حِجَابٌ وَقَعَ، وَأَنْشَدَ: أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ ... وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ وَسَالَمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا ... وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ لَيْسَ الْعَجَبُ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ؟ إِنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ نَجَا كَيْفَ نَجَا؟ تَعْجَبِينَ مِنْ سَقَمِي ... صِحَّتِي هِيَ الْعَجَبُ النَّاكِصُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَنِ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ: خُذْ مِنَ الْأَلْفِ وَاحِدًا ... وَاطَّرِحِ الْكُلَّ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الْوَقْتِ: فَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِالسَّوَابِقِ، وَلَا بِالْعَوَاقِبِ. بَلِ اشْتَغَلُوا بِمُرَاعَاةِ الْوَقْتِ، وَمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ. وَقَالُوا: الْعَارِفُ ابْنُ وَقْتِهِ. لَا مَاضِيَ لَهُ وَلَا مُسْتَقْبَلَ. وَرَأَى بَعْضُهُمُ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَنَامِهِ. فَقَالَ لَهُ: أَوْصِنِي. فَقَالَ لَهُ: كُنِ ابْنَ وَقْتِكَ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الْحَقِّ: فَهُمْ مَعَ صَاحِبِ الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ، وَمَالِكِهِمَا وَمُدَبِّرِهِمَا. مَأْخُوذُونَ بِشُهُودِهِ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْأَوْقَاتِ. لَا يَتَفَرَّغُونَ لِمُرَاعَاةِ وَقْتٍ وَلَا زَمَانٍ. كَمَا قِيلَ: لَسْتُ أَدْرِي أَطَالَ لَيْلِي أَمْ لَا ... كَيْفَ يَدْرِي بِذَاكَ مَنْ يَتَقَلَّى لَوْ تَفَرَّغْتُ لِاسْتِطَالَةِ لَيْلِي ... وَلِرَعْيِ النُّجُومِ كُنْتُ مُخَلَّى

فصل معاني الوقت

إِنَّ لِلْعَاشِقِينَ عَنْ قِصَرِ اللَّيْ لِ، وَعَنْ طُولِهِ مِنَ الْعِشْقِ شُغْلَا قَالَ الْجُنَيْدُ: دَخَلْتُ عَلَى السَّرِيِّ يَوْمًا. فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ: مَا فِي النَّهَارِ وَلَا فِي اللَّيْلِ لِي فَرَجٌ ... فَلَا أُبَالِي أَطَالَ اللَّيْلُ أَمْ قَصُرَا ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ عِنْدَ رَبِّكُمْ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ. يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَطَلِّعٍ إِلَى الْأَوْقَاتِ. بَلْ هُوَ مَعَ الَّذِي قَدَّرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارِ. [فَصْلٌ مَعَانِي الْوَقْتِ] [الْمَعْنَى الْأَوَّلُ وَقْتُ وَجْدٍ صَادِقٍ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْوَقْتُ: اسْمٌ فِي هَذَا الْبَابِ لِثَلَاثِ مَعَانٍ. الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: حِينَ وَجْدٍ صَادِقٍ. أَيْ وَقْتُ وَجْدٍ صَادِقٍ، أَيْ زَمَنُ مَنْ وَجَدَ يَقُومُ بِقَلْبِهِ، وَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ، غَيْرُ مُتَكَلِّفٍ لَهُ، وَلَا مُتَعَمِّلٍ فِي تَحْصِيلِهِ. " يَكُونُ مُتَعَلَّقَهُ إِينَاسُ ضِيَاءِ فَضْلٍ " أَيْ رُؤْيَةُ ذَلِكَ، وَالْإِينَاسُ الرُّؤْيَةُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [القصص: 29] وَلَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ. بَلْ رُؤْيَةُ مَا يَأْنَسُ بِهِ الْقَلْبُ، وَيَسْكُنُ إِلَيْهِ. وَلَا يُقَالُ لِمَنْ رَأَى عَدُوَّهُ أَوْ مُخَوِّفًا آنَسَهُ. وَمَقْصُودُهُ: أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ وَقْتُ وَجْدٍ، صَاحِبُهُ صَادِقٌ فِيهِ لِرُؤْيَتِهِ ضِيَاءَ فَضْلِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِ. وَالْفَضْلُ هُوَ الْعَطَاءُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُعْطَى، أَوْ يُعْطَى فَوْقَ اسْتِحْقَاقِهِ. فَإِذَا آنَسَ هَذَا الْفَضْلَ، وَطَالَعَهُ بِقَلْبِهِ: أَثَارَ ذَلِكَ فِيهِ وَجْدًا آخَرَ، بَاعِثًا عَلَى مَحَبَّةِ صَاحِبِ الْفَضْلِ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا. وَدَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ وَجْدٌ أَبْكَاهُ. فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ؟ فَقَالَ: ذَكَرْتُ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيَّ مِنَ السُّنَّةِ وَمَعْرِفَتِهَا، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ شُبَهِ الْقَوْمِ وَقَوَاعِدِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَمُوَافَقَةِ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ، وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَسَرَّنِي ذَلِكَ حَتَّى أَبْكَانِي. فَهَذَا الْوَجْدُ أَثَارَهُ إِينَاسُ فَضْلِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ. قَوْلُهُ " جَذَبَهُ صَفَاءُ رَجَاءٍ " أَيْ جَذَبَ ذَلِكَ الْوَجْدَ - أَوِ الْإِينَاسَ، أَوِ الْفَضْلَ - رَجَاءٌ

فصل المعنى الثاني اسم لطريق سالك

صَافٍ غَيْرُ مُكَدَّرٍ. وَالرَّجَاءُ الصَّافِي هُوَ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ كَدَرُ تَوَهُّمِ مُعَاوَضَةٍ مِنْكَ، وَأَنَّ عَمَلَكَ هُوَ الَّذِي بَعَثَكَ عَلَى الرَّجَاءِ. فَصَفَاءُ الرَّجَاءِ يُخْرِجُهُ عَنْ ذَلِكَ. بَلْ يَكُونُ رَجَاءً مَحْضًا لِمَنْ هُوَ مُبْتَدِئُكَ بِالنِّعَمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقِكَ. وَالْفَضْلُ كُلُّهُ لَهُ وَمِنْهُ، وَفِي يَدِهِ - أَسْبَابُهُ وَغَايَاتُهُ، وَوَسَائِلُهُ، وَشُرُوطُهُ، وَصَرْفُ مَوَانِعِهِ - كُلِّهَا بِيَدِ اللَّهِ. لَا يَسْتَطِيعُ الْعَبْدُ أَنْ يَنَالَ مِنْهُ شَيْئًا بِدُونِ تَوْفِيقِهِ، وَإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ: أَنَّ الْوَقْتَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى: عِبَارَةٌ عَنْ وَجْدٍ صَادِقٍ، سَبَبُهُ رُؤْيَةُ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ. لِأَنَّ رَجَاءَهُ كَانَ صَافِيًا مِنَ الْأَكْدَارِ. قَوْلُهُ " أَوْ لِعِصْمَةٍ جَذَبَهَا صِدْقُ خَوْفٍ " اللَّامُ فِي قَوْلِهِ " أَوْ لِعِصْمَةٍ " مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ " أَوْ لِإِينَاسِ ضِيَاءِ فَضْلٍ " أَيْ وَجْدٍ لِعِصْمَةٍ جَذَبَهَا صِدْقُ خَوْفٍ. فَاللَّامُ لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ. بَلْ هِيَ عَلَى حَدِّهَا فِي قَوْلِكَ: ذَوْقٌ لِكَذَا، وَرُؤْيَةٌ لِكَذَا. فَمُتَعَلَّقُ الْوَجْدِ عِصْمَةٌ وَهِيَ مَنَعَةٌ وَحِفْظٌ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ. جَذَبَهَا صِدْقُ خَوْفٍ مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْدِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ الْوَجْدَ فِي الْأُولَى: جَذَبَهُ صِدْقُ الرَّجَاءِ. وَفِي الثَّانِيَةِ: جَذَبَهُ صِدْقُ الْخَوْفِ. وَفِي الثَّالِثَةِ - الَّتِي سَتُذْكَرُ - جَذَبَهُ صِدْقُ الْحُبِّ. فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَوْ لِتَلَهُّبِ شَوْقٍ جَذَبَهُ اشْتِعَالُ مَحَبَّةٍ. وَخَدَمَتْهُ التَّوْرِيَةُ فِي اللَّهِيبِ وَالِاشْتِعَالِ. وَالْمَحَبَّةُ مَتَى قَوِيَتِ اشْتَعَلَتْ نَارُهَا فِي الْقَلْبِ. فَحَدَثَ عَنْهَا لَهِيبُ الِاشْتِيَاقِ إِلَى لِقَاءِ الْحَبِيبِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ، الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الدَّرَجَةُ - وَهِيَ: الْحُبُّ وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ - هِيَ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى عِمَارَةِ الْوَقْتِ بِمَا هُوَ الْأَوْلَى لِصَاحِبِهِ وَالْأَنْفَعُ لَهُ، وَهِيَ أَسَاسُ السُّلُوكِ، وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الثَّلَاثَةَ فِي قَوْلِهِ {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ قُطْبُ رَحَى الْعُبُودِيَّةِ. وَعَلَيْهَا دَارَتْ رَحَى الْأَعْمَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْمَعْنَى الثَّانِي اسْمٌ لِطَرِيقِ سَالِكٍ] فَصْلٌ قَالَ: وَالْمَعْنَى الثَّانِي: اسْمٌ لِطَرِيقِ سَالِكٍ. يَسِيرُ بَيْنَ تَمَكُّنٍ وَتَلَوُّنٍ، لَكِنَّهُ إِلَى التَّمَكُّنِ مَا هُوَ. يَسْلُكُ الْحَالَ، وَيَلْتَفِتُ إِلَى الْعِلْمِ. فَالْعِلْمُ يَشْغَلُهُ فِي حِينٍ، وَالْحَالُ

يَحْمِلُهُ فِي حِينٍ. فَبَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا: يُذِيقُهُ شُهُودًا طَوْرًا. وَيَكْسُوهُ عِبْرَةً طَوْرًا، وَيُرِيهِ غَيْرَةَ تَفَرُّقٍ طَوْرًا. هَذَا الْمَعْنَى: هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي مِنَ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ مِنْ مَعَانِي الْوَقْتِ عِنْدَهُ. قَوْلُهُ " اسْمٌ لِطَرِيقِ سَالِكٍ " هُوَ عَلَى الْإِضَافَةِ. أَيْ لِطَرِيقِ عَبْدٍ سَالِكٍ. قَوْلُهُ " يَسِيرُ بَيْنَ تَمَكُّنٍ وَتَلَوُّنٍ " أَيْ ذَلِكَ الْعَبْدُ يَسِيرُ بَيْنَ تَمَكُّنٍ وَتَلَوُّنٍ. وَالتَّمَكُّنُ هُوَ الِانْقِيَادُ إِلَى أَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ بِالشُّهُودِ وَالْحَالِ، وَالتَّلَوُّنُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَاصَّةً: هُوَ الِانْقِيَادُ إِلَى أَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ بِالْعِلْمِ. فَالْحَالُ يَجْمَعُهُ بِقُوَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ. فَيُعْطِيهِ تَمْكِينًا. وَالْعِلْمُ بِلَوْنِهِ بِحَسَبِ مُتَعَلَّقَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ. قَوْلُهُ: لَكِنَّهُ إِلَى التَّمَكُّنِ مَا هُوَ؟ يَسْلُكُ الْحَالَ. وَيَلْتَفِتُ إِلَى الْعِلْمِ. يَعْنِي: أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ هُوَ سَالِكٌ إِلَى التَّمَكُّنِ مَا دَامَ يَسْلُكُ الْحَالَ وَيَلْتَفِتُ إِلَى الْعِلْمِ. فَأَمَّا إِنْ سَلَكَ الْعِلْمَ، وَالْتَفَتَ إِلَى الْحَالِ: لَمْ يَكُنْ سَالِكًا إِلَى التَّمَكُّنِ. فَالسَّالِكُونَ ضَرْبَانِ: سَالِكُونَ عَلَى الْحَالِ، مُلْتَفِتُونَ إِلَى الْعِلْمِ. وَهُمْ إِلَى التَّمَكُّنِ أَقْرَبُ، وَسَالِكُونَ عَلَى الْعِلْمِ. مُلْتَفِتُونَ إِلَى الْحَالِ. وَهُمْ إِلَى التَّلَوُّنِ أَقْرَبُ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ: هِيَ الْمُفَرِّقَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْحَالِ، حَتَّى كَأَنَّهُمَا غَيْرَانِ وَحِزْبَانِ، وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمَا لَا تَأْنَسُ بِالْأُخْرَى، وَلَا تُعَاشِرُهَا إِلَّا عَلَى إِغْمَاضٍ وَنَوْعِ اسْتِكْرَاهٍ. وَهَذَا مِنْ تَقْصِيرِ الْفَرِيقَيْنِ، حَيْثُ ضَعُفَ أَحَدُهُمَا عَنِ السَّيْرِ فِي الْعِلْمِ. وَضَعُفَ الْآخَرُ عَنِ الْحَالِ فِي الْعِلْمِ. فَلَمْ يَتَمَكَّنْ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَالِ وَالْعِلْمِ. فَأَخَذَ هَؤُلَاءِ الْعِلْمَ، وَسَعَتَهُ وَنُورَهُ. وَرَجَّحُوهُ. وَأَخَذَ هَؤُلَاءِ الْحَالَ وَسُلْطَانَهُ وَتَمْكِينَهُ وَرَجَّحُوهُ. وَصَارَ الصَّادِقُ الضَّعِيفُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ: يَسِيرُ بِأَحَدِهِمَا مُلْتَفِتًا إِلَى الْآخَرِ. فَهَذَا مُطِيعٌ لِلْحَالِ. وَهَذَا مُطِيعٌ لِلْعِلْمِ. لَكِنَّ الْمُطِيعَ لِلْحَالِ مَتَى عَصَى بِهِالْعَلَمَ: كَانَ مُنْقَطِعًا مَحْجُوبًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنَ الْحَالِ مَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ. وَالْمُطِيعُ لِلْعِلْمِ مَتَى أَعْرَضَ بِهِ عَنِ الْحَالِ كَانَ مُضَيِّعًا مَنْقُوصًا، مُشْتَغِلًا بِالْوَسِيلَةِ عَنِ الْغَايَةِ. وَصَاحِبُ التَّمْكِينِ: يَتَصَرَّفُعِلْمُهُ فِي حَالِهِ. وَيَحْكُمُ عَلَيْهِ فَيَنْقَادُ لِحُكْمِهِ،

وَيَتَصَرَّفُ حَالُهُ فِي عِلْمِهِ. فَلَا يَدَعُهُ أَنْ يَقِفَ مَعَهُ. بَلْ يَدْعُوهُ إِلَى غَايَةِ الْعِلْمِ. فَيُجِيبُهُ وَيُلَبِّي دَعْوَتَهُ. فَهَذِهِ حَالُ الْكُمَّلِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَمَنِ اسْتَقْرَأَ أَحْوَالَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَجَدَهَا كَذَلِكَ. فَلَمَّا فَرَّقَ الْمُتَأَخِّرُونَ بَيْنَ الْحَالِ وَالْعِلْمِ: دَخَلَ عَلَيْهِمُ النَّقْصُ وَالْخَلَلُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ - أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50] فَكَذَلِكَ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ عِلْمًا. وَلِمَنْ يَشَاءُ حَالًا. وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِمَنْ يَشَاءُ. وَيُخْلِي مِنْهُمَا مَنْ يَشَاءُ. قَوْلُهُ " فَالْعِلْمُ يَشْغَلُهُ فِي حِينٍ " أَيْ يَشْغَلُهُ عَنِ السُّلُوكِ إِلَى تَمَكُّنِ الْحَالِ. لِأَنَّ الْعَلَمَ مُتَنَوِّعُ التَّعَلُّقَاتِ فَهُوَ يُفَرِّقُ. وَالْحَالُ يَجْمَعُ. لِأَنَّهُ يَدْعُوهُ إِلَى الْفَنَاءِ. وَهُنَاكَ سُلْطَانُ الْحَالِ. قَوْلُهُ " وَالْحَالُ يَحْمِلُهُ فِي حِينٍ " أَيْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْحَالُ تَارَةً. فَيَصِيرُ مَحْمُولًا بِقُوَّةِ الْحَالِ وَسُلْطَانِهِ عَلَى السُّلُوكِ. فَيَشْتَدُّ بِحُكْمِ الْحَالِ، يَعْنِي: وَإِذَا غَلَبَهُ الْعِلْمُ شَغَلَهُ عَنِ السُّلُوكِ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ طَرِيقَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّ الْعِلْمَ عِنْدَهُمْ يَشْغَلُ عَنِ السُّلُوكِ. وَلِهَذَا يَعُدُّونَ السَّالِكَ مَنْ سَلَكَ عَلَى الْحَالِ مُلْتَفِتًا عَنِ الْعِلْمِ. وَأَمَّا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ - مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ يُعِينُ عَلَى السُّلُوكِ، وَيَحْمِلُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ صَاحِبُهُ سَالِكًا بِهِ وَفِيهِ - فَلَا يَشْغَلُهُ الْعِلْمُ عَنْ سُلُوكِهِ. وَإِنْ أَضْعَفَ سَيْرَهُ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ. فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يُجَامِعُ الْفَنَاءَ. فَالْفَنَاءُ لَيْسَ هُوَ غَايَةَ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ. بَلْ وَلَا هُوَ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ عَارِضًا مِنْ عَوَارِضِهَا. يَعْرِضُ لِغَيْرِ الْكُمَّلِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ. فَبَيَّنَّا أَنَّ الْفَنَاءَ الْكَامِلَ، الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ: هُوَ الْفَنَاءُ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَى اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ. فَيَفْنَى بِمَحَبَّةِ اللَّهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ. وَبِإِرَادَتِهِ وَرَجَائِهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ: عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَاهُ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْفَنَاءُ لَا يُنَافِي الْعِلْمَ بِحَالٍ. وَلَا يَحُولُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَهُ. بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ مِنْ أَعْظَمِ أَعْوَانِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ غَفَلَ عَنْهُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ، بِحَيْثُ لَمْ يَعْرِفُوهُ وَلَمْ يَسْلُكُوهُ. وَلَكِنْ لَمْ يُخْلِ اللَّهُ الْأَرْضَ مِنْ قَائِمٍ بِهِ، دَاعٍ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ " فَبَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا " أَيْ عَذَابُهُ وَأَلَمُهُ: بَيْنَ دَاعِي الْحَالِ وَدَاعِي الْعِلْمِ. فَإِيمَانُهُ

يَحْمِلُهُ عَلَى إِجَابَةِ دَاعِي الْعِلْمِ، وَوَارِدُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى إِجَابَةِ دَاعِي الْحَالِ. فَيَصِيرُ كَالْغَرِيمِ بَيْنَ مُطَالِبَيْنِ. كُلٌّ مِنْهُمَا يُطَالِبُهُ بِحَقِّهِ. وَلَيْسَ بِيَدِهِ إِلَّا مَا يَقْضِي أَحَدَهُمَا. وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا مِنَ الضِّيقِ. وَإِلَّا فَمَعَ السَّعَةِ: يُوَفِّي كُلًّا مِنْهُمَا حَقَّهُ. قَوْلُهُ " يُذِيقُهُ شُهُودًا طَوْرًا " أَيْ ذَلِكَ الْبَلَاءُ الْحَاصِلُ بَيْنَ الدَّاعِيَيْنِ يُذِيقُهُ شُهُودًا طَوْرًا، وَهُوَ الطَّوْرُ الَّذِي يَكُونُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِيهِ: هُوَ الْعِلْمَ. قَوْلُهُ " وَيَكْسُوهُ عِبْرَةً طَوْرًا " الظَّاهِرُ: أَنَّهُ عِبْرَةٌ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْعَيْنِ، أَيِ اعْتِبَارًا بِأَفْعَالِهِ، وَاسْتِدْلَالًا عَلَيْهِ بِهَا. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَلَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَفْعَالِهِ. فَالْعِلْمُ يَكْسُو صَاحِبَهُ اعْتِبَارًا وَاسْتِدْلَالًا عَلَى الرَّبِّ بِأَفْعَالِهِ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَةً، بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْعِلْمَ يَكْسُوهُ غَيْرَةً مِنْ حِجَابِهِ عَنْ مَقَامِ صَاحِبِ الْحَالِ. فَيَغَارُ مِنِ احْتِجَاجِهِ عَنِ الْحَالِ بِالْعِلْمِ، وَعَنِ الْعِيَانِ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَعَنِ الشُّهُودِ - الَّذِي هُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ - بِالْإِيمَانِ، الَّذِي هُوَ إِيمَانٌ بِالْغَيْبِ. قَوْلُهُ " وَيُرِيهِ غَيْرَةَ تَفَرُّقٍ طَوْرًا " هَذَا بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ لَيْسَ إِلَّا، أَيْ وَيُرِيهِ الْعِلْمُ غَيْرَةَ تَفْرِقَةٍ فِي أَوْدِيَتِهِ. فَيُفَرِّقُ بَيْنَ أَحْكَامِ الْحَالِ وَأَحْكَامِ الْعِلْمِ. وَهُوَ حَالُ صَحْوٍ وَتَمْيِيزٍ. وَكَأَنَّ الشَّيْخَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَقَامِ تَغَارُ تَفْرِقَتُهُ مِنْ جَمْعِيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ. فَنَفْسُهُ تَفِرُّ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ عَلَى اللَّهِ إِلَى تَفَرُّقِ الْعِلْمِ. فَإِنَّهُ لَاأَشَقَّ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ جَمْعِيَّتِهَا عَلَى اللَّهِ. فَهِيَ تَهْرُبُ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْحَالِ تَارَةً، وَإِلَى الْعَمَلِ تَارَةً، وَإِلَى الْعِلْمِ تَارَةً، هَذِهِ نُفُوسُ السَّالِكِينَ الصَّادِقِينَ. وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ: فَنُفُوسُهُمْ تَفِرُّ مِنَ اللَّهِ إِلَى الشَّهَوَاتِ وَالرَّاحَاتِ. فَأَشَقُّ مَا عَلَى النُّفُوسِ: جَمْعِيَّتُهَا عَلَى اللَّهِ. وَهِيَ تُنَاشِدُ صَاحِبَهَا: أَنْ لَا يُوَصِّلَهَا إِلَيْهِ، وَأَنْ يَشْغَلَهَا بِمَا دُونَهُ. فَإِنَّ حَبْسَ النَّفْسِ عَلَى اللَّهِ شَدِيدٌ. وَأَشَدُّ مِنْهُ: حَبْسُهَا عَلَى أَوَامِرِهِ. وَحَبْسُهَا عَنْ نَوَاهِيهِ. فَهِيَ دَائِمًا تُرْضِيكَ بِالْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، وَبِالْعَمَلِ عَنِ الْحَالِ، وَبِالْحَالِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ شَدَّ مِئْزَرَ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ. وَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ قَاطِعٌ عَنْهُ. وَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ - كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ -: دَرَجَةُ الْحَالِ. وَدَرَجَةُ الْعِلْمِ، وَدَرَجَةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَالِ وَالْعِلْمِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثُ الدَّرَجَاتِ: هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعَانِي الْوَقْتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل المعنى الثالث: الوقت الحق

[فَصْلٌ الْمَعْنَى الثَّالِثِ: الْوَقْتُ الْحَقُّ] قَالَ: وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ، قَالُوا: الْوَقْتُ الْحَقُّ. أَرَادُوا بِهِ: اسْتِغْرَاقَ رَسْمِ الْوَقْتِ فِي وُجُودِ الْحَقِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْبِقُ عَلَى هَذَا الِاسْمِ عِنْدِي. لَكِنَّهُ هُوَ اسْمٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثِ، لِحِينِ تَتَلَاشَى فِيهِ الرُّسُومُ كَشْفًا. لَا وُجُودًا مَحْضًا. وَهُوَ فَوْقُ الْبَرْقِ وَالْوَجْدِ. وَهُوَ يُشَارِفُ مَقَامَ الْجَمْعِ، لَوْ دَامَ وَبَقِيَ. وَلَا يَبْلُغُ وَادِيَ الْوُجُودِ، لَكِنَّهُ يَكْفِي مَؤُنَةَ الْمُعَامَلَةِ، وَيُصَفِّي عَيْنَ الْمُسَامَرَةِ. وَيَشُمُّ رَوَائِحَ الْوُجُودِ. هَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثُ مِنْ مَعَانِي الْوَقْتِ أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ. وَأَصْعَبُ تَصَوُّرًا وَحُصُولًا. فَإِنَّ الْأَوَّلَ: وَقْتُ سُلُوكٍ يَتَلَوَّنُ. وَهَذَا وَقْتُ كَشْفٍ يَتَمَكَّنُ. وَلِذَلِكَ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ اسْمَ الْحَقِّ لِغَلَبَةِ حُكْمِهِ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِهِ. فَلَا يُحِسُّ بِرَسْمِ الْوَقْتِ، بَلْ يَتَلَاشَى ذِكْرُ وَقْتِهِ مِنْ قَلْبِهِ، لِمَا قَهَرَهُ مِنْ نُورِ الْكَشْفِ. فَقَوْلُهُ: قَالُوا: الْوَقْتُ هُوَ الْحَقُّ. يَعْنِي: أَنَّ بَعْضَهُمْ أَطْلَقَ اسْمَ الْحَقِّ عَلَى الْوَقْتِ، ثُمَّ فَسَّرَ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ. وَأَنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ اسْتِغْرَاقَ رَسْمِ الْوَقْتِ فِي وُجُودِ الْحَقِّ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ السَّالِكَ بِهَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثِ لِلْحَقِّ: إِذَا اشْتَدَّ اسْتِغْرَاقُهُ فِي وَقْتٍ يَتَلَاشَى عَنْهُ وَقْتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَتَقْرِيبُ هَذَا إِلَى الْفَهْمِ: أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ اسْتِغْرَاقَ وَقْتِهِ الْحَاضِرِ فِي مَاهِيَّةِ الزَّمَانِ. فَقَدِ اسْتَغْرَقَ الزَّمَانُ رَسْمَ الْوَقْتِ إِلَى مَا هُوَ جُزْءٌ يَسِيرٌ جِدًّا مِنْ أَجْزَائِهِ، وَانْغَمَرَ فِيهِ. كَمَا تَنْغَمِرُ الْقَطْرَةُ فِي الْبَحْرِ. ثُمَّ إِنَّ الزَّمَانَ - الْمَحْدُودَ الطَّرَفَيْنِ - يَسْتَغْرِقُ رَسْمُهُ فِي وُجُودِ الدَّهْرِ. وَهُوَ مَا بَيْنَ الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ. ثُمَّ إِنَّ الدَّهْرَ يَسْتَغْرِقُ رَسْمَهُ فِي دَوَامِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَذَلِكَ الدَّوَامُ: هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ. فَهُنَاكَ يَضْمَحِلُّ الدَّهْرُ وَالزَّمَانُ وَالْوَقْتُ. وَلَا يَبْقَى لَهُ نِسْبَةٌ إِلَى دَوَامِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ أَلْبَتَّةَ. فَاضْمَحَلَّ الزَّمَانُ وَالدَّهْرُ وَالْوَقْتُ فِي الدَّوَامِ الْإِلَهِيِّ، كَمَا تَضْمَحِلُّ الْأَنْوَارُ الْمَخْلُوقَةُ فِي نُورِهِ، وَكَمَا يَضْمَحِلُّ عِلْمُ الْخَلْقِ فِي عِلْمِهِ، وَقُدْرَتُهُمْ فِي قُدْرَتِهِ، وَجَمَالُهُمْ فِي جَمَالِهِ، وَكَلَامُهُمْ فِي كَلَامِهِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْمَخْلُوقِ نِسْبَةٌ مَا إِلَى صِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَالْقَوْمُ إِذَا أَطْلَقَ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ مِنْهُمْ " مَا فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ " أَوْ " مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ " أَوْ " هُنَاكَ: يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ. وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ " وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، فَهَذَا مُرَادُهُمْ. لَا سِيَّمَا إِذَا حَصَلَ هَذَا الِاسْتِغْرَاقُ فِي الشُّهُودِ كَمَا هُوَ فِي

الْوُجُودِ. وَغَلَبَ سُلْطَانُهُ عَلَى سُلْطَانِ الْعِلْمِ. وَكَانَ الْعِلْمُ مَغْمُورًا بِوَارِدِهِ. وَفِي قُوَّةِ التَّمْيِيزِ ضَعْفٌ. وَقَدْ تَوَارَى الْعِلْمُ بِالشُّهُودِ وَحَكَمَ الْحَالُ. فَهُنَاكَ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] وَتَزِلُّ أَقْدَامٌ كَثِيرَةٌ إِلَى الْحَضِيضِ الْأَدْنَى. وَلَا رَيْبَ أَنَّ وُجُودَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَدَوَامَهُ يَسْتَغْرِقُ وُجُودَ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَوَقْتَهُ وَزَمَانَهُ. بِحَيْثُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ. وَمِنْ هُنَا غَلِطَ الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ. وَظَنُّوا أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ وُجُودٌ أَلْبَتَّةَ. وَغَرَّهُمْ كَلِمَاتٌ مُشْتَبِهَاتٌ جَرَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنَ الطَّائِفَةِ. فَجَعَلُوهَا عُمْدَةً لِكُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ. وَظَنُّوا أَنَّ السَّالِكِينَ سَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ، وَتَصِيرُ طَرِيقَةُ النَّاسِ وَاحِدَةً {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] . قَوْلُهُ: وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْبِقُ عَلَى هَذَا الِاسْمِ عِنْدِي. يُرِيدُ: أَنَّ " الْحَقَّ " سَابِقٌ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي هُوَ " الْوَقْتُ " أَيْ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِالْوَقْتِ. فَلَا يَنْبَغِي إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الْأَوْقَاتَ حَادِثَةٌ. قَوْلُهُ: لَكِنَّهُ اسْمٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثِ، لِحِينِ تَتَلَاشَى فِيهِ الرُّسُومُ كَشْفًا لَا وُجُودًا مَحْضًا. تَلَاشِي الرُّسُومِ اضْمِحْلَالُهَا وَفَنَاؤُهَا. وَالرُّسُومُ عِنْدَهُمْ: مَا سِوَى اللَّهِ. وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ: أَنَّهَا إِنَّمَا تَتَلَاشَى فِي وُجُودِ الْعَبْدِ الْكَشْفِيِّ. بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ سَعَةٌ لِلْإِحْسَاسِ بِهَا، لِمَا اسْتَغْرَقَهُ مِنَ الْكَشْفِ. فَهَذِهِ عَقِيدَةُ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنَ الْقَوْمِ. وَأَمَّا الْمَلَاحِدَةُ، أَهْلُ وَحْدَةِ الْوُجُودِ، فَعِنْدَهُمْ: أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُتَلَاشِيَةً فِي عَيْنِ وُجُودِ الْحَقِّ، بَلْ وُجُودُهَا هُوَ نَفْسُ وُجُودِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ الْحِسُّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوُجُودَيْنِ. فَلَمَّا غَابَ عَنْ حِسِّهِ بِكَشْفِهِ، تَبَيَّنَ أَنَّ وُجُودَهَا هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ. وَلَكِنَّ الشَّيْخَ كَأَنَّهُ عَبَّرَ بِالْكَشْفِ وَالْوُجُودِ عَنِ الْمَقَامَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي كِتَابِهِ. وَالْكَشْفُ هُوَ دُونَ الْوُجُودِ عِنْدَهُ. فَإِنَّ الْكَشْفَ يَكُونُ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِ رُسُومِ صَاحِبِهِ. فَلَيْسَ مَعَهُ اسْتِغْرَاقٌ فِي الْفَنَاءِ. وَالْوُجُودُ لَا يَكُونُ مَعَهُ رَسْمٌ بَاقٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ: لَا وُجُودًا مَحْضًا، فَإِنَّ الْوُجُودَ الْمَحْضَ عِنْدَهُ: يُفْنِي الرُّسُومَ. وَبِكُلِّ حَالٍ: فَهُوَ يُفْنِيهَا مِنْ وُجُودِ الْوَاجِدِ، لَا يُفْنِيهَا فِي الْخَارِجِ.

وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْوَاصِلَ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ يَصِيرُ لَهُ وُجُودٌ آخَرُ، غَيْرُ وُجُودِهِ الطَّبِيعِيِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ. وَيَصِيرُ لَهُ نَشْأَةٌ أُخْرَى لِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ، نِسْبَةُ النَّشْأَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَيْهَا كَنِسْبَةِ النَّشْأَةِ فِي بَطْنِ الْأُمِّ إِلَى هَذِهِ النَّشْأَةِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الْعَالَمِ، وَكَنِسْبَةِ هَذِهِ النَّشْأَةِ إِلَى النَّشْأَةِ الْأُخْرَى. فَلِلْعَبْدِ أَرْبَعُ نَشْآتٍ: نَشْأَةٌ فِي الرَّحِمِ، حَيْثُ لَا بَصَرَ يُدْرِكُهُ. وَلَا يَدَ تَنَالُهُ. وَنَشْأَةٌ فِي الدُّنْيَا. وَنَشْأَةٌ فِي الْبَرْزَخِ. وَنَشْأَةٌ فِي الْمَعَادِ الثَّانِي. وَكُلُّ نَشْأَةٍ أَعْظَمُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَهَذِهِ النَّشْأَةُ لِلرُّوحِ وَالْقَلْبِ أَصْلًا، وَلِلْبَدَنِ تَبَعًا. فَلِلرُّوحِ فِي هَذَا الْعَالَمِ نَشْأَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: النَّشْأَةُ الطَّبِيعِيَّةُ الْمُشْتَرَكَةُ. وَالثَّانِيَةُ: نَشْأَةٌ قَلْبِيَّةٌ رُوحَانِيَّةٌ، يُولَدُ بِهَا قَلْبُهُ، وَيَنْفَصِلُ عَنْ مَشِيمَةِ طَبْعِهِ، كَمَا وُلِدَ بَدَنُهُ وَانْفَصَلَ عَنْ مَشِيمَةِ الْبَطْنِ. وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِهَذَا فَلْيَضْرِبْ عَنْ هَذَا صَفْحًا، وَلْيَشْتَغِلْ بِغَيْرِهِ. وَفِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ: إِنَّكُمْ لَنْ تَلِجُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ حَتَّى تُولَدُوا مَرَّتَيْنِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هِيَ وِلَادَةُ الْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ مِنَ الْأَبْدَانِ، وَخُرُوجُهَا مِنْ عَالِمِ الطَّبِيعَةِ، كَمَا وُلِدَتِ الْأَبْدَانُ مِنَ الْبَدَنِ وَخَرَجَتْ مِنْهُ. وَالْوِلَادَةُ الْأُخْرَى: هِيَ الْوِلَادَةُ الْمَعْرُوفَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ: وَهُوَ فَوْقَ الْبَرْقِ وَالْوَجْدِ. يَعْنِي: أَنَّ هَذَا الْكَشْفَ الَّذِي تَلَاشَتْ فِيهِ الرُّسُومُ: فَوْقَ مَنْزِلَتَيِ الْبَرْقِ وَالْوَجْدِ، فَإِنَّهُ أَثْبَتُ وَأَدْوَمُ، وَالْوُجُودُ فَوْقَهُ. لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِالدَّوَامِ. قَوْلُهُ: وَهُوَ يُشَارِفُ مَقَامَ الْجَمْعِ لَوْ دَامَ. أَيْ لَوْ دَامَ هَذَا الْوَقْتُ لَشَارَفَ مَقَامَ الْجَمْعِ وَهُوَ ذَهَابُ شُعُورِ الْقَلْبِ بِغَيْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، شُغْلًا بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. فَهُوَ جَمْعٌ فِي الشُّهُودِ. وَعِنْدَ الْمَلَاحِدَةِ: هُوَ جَمْعٌ فِي الْوُجُودِ. وَمَقْصُودُهُ: أَنَّهُ لَوْ دَاوَمَ الْوَقْتُ بِهَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثِ: لَشَارَفَ حَضْرَةَ الْجَمْعِ. لَكِنَّهُ لَا يَدُومُ.

فصل منزلة الصفاء

قَوْلُهُ: وَلَا يَبْلُغُ وَادِيَ الْوُجُودِ يَعْنِي: أَنَّ الْوَقْتَ الْمَذْكُورَ لَا يَبْلُغُ السَّالِكُ فِيهِ وَادِيَ الْوُجُودِ حَتَّى يَقْطَعَهُ. وَوَادِي الْوُجُودِ: هُوَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ. قَوْلُهُ: لَكِنَّهُ يَلْقَى مُؤْنَةَ الْمُعَامَلَةِ. يَعْنِي: أَنَّ الْوَقْتَ الْمَذْكُورَ - وَهُوَ الْكَشْفُ الْمُشَارِفُ لِحَضْرَةِ الْجَمْعِ - يُخَفِّفُ عَنِ الْعَامِلِ أَثْقَالَ الْمُعَامَلَةِ، مَعَ قِيَامِهِ بِهَا أَتَمَّ الْقِيَامِ، بِحَيْثُ تَصِيرُ هِيَ الْحَامِلَةَ لَهُ. فَإِنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ عَلَى الْخَبَرِ. فَصَارَ يَعْمَلُ عَلَى الْعِيَانِ. هَذَا مُرَادُ الشَّيْخِ. وَعِنْدَ الْمُلْحِدِ: أَنَّهُ يَفْنَى عَنِ الْمُعَامَلَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَيُرَدُّ صَاحِبُهُ إِلَى الْمُعَامَلَاتِ الْقَلْبِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ إِشْبَاعُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. قَوْلُهُ " وَيُصَفِّي عَنِ الْمُسَامَرَةِ " الْمُسَامَرَةُ: عِنْدَ الْقَوْمِ هِيَ الْخِطَابُ الْقَلْبِيُّ الرُّوحِيُّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ: أَنَّ تَسْمِيَتَهَا بِالْمُنَاجَاةِ أَوْلَى. فَهَذَا الْكَشْفُ يَخْلُصُ عَنِ الْمُسَامَرَةِ مِنْ ذِكْرِ غَيْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَمُنَاجَاتِهِ. قَوْلُهُ: وَيَشُمُّ رَوَائِحَ الْوُجُودِ أَيْ صَاحِبُ مَقَامِ هَذَا الْوَقْتِ الْخَاصِّ: يَشُمُّ رَوَائِحَ الْوُجُودِ. وَهُوَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ. فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا بِالْجَمْعِ وَالْوُجُودِ. وَيَعْنُونَ بِذَلِكَ: ظُهُورَ وُجُودِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَفَنَاءَ وُجُودِ مَا سِوَاهُ. وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ فَنَاءَ وُجُودِ مَا سِوَاهُ بِأَحَدِ اعْتَبَارَيْنِ: إِمَّا فَنَاؤُهُ مِنْ شُهُودِ الْعَبْدِ فَلَا يَشْهَدُهُ، وَإِمَّا اضْمِحْلَالُهُ وَتَلَاشِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُجُودِ الرَّبِّ. وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ. فَهُوَ إِلْحَادٌ وَكُفْرٌ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الصَّفَاءِ] [حَدُّ الصَّفَاءِ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الصَّفَاءِ وَمِنْهَا مَنْزِلَةُ الصَّفَاءِ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: بَابُ الصَّفَاءِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 47] الصَّفَاءُ اسْمٌ لِلْبَرَاءَةِ مِنَ الْكَدَرِ. وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ سُقُوطُ التَّلْوِينِ. أَمَّا الِاسْتِشْهَادُ بِالْآيَةِ: فَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُصْطَفَى مُفْتَعَلٌ مِنَ الصَّفْوَةِ. وَهِيَ خُلَاصَةُ

درجات الصفاء

الشَّيْءِ، وَتَصْفِيَتُهُ مِمَّا يَشُوبُهُ. وَمِنْهُ: اصْطَفَى الشَّيْءَ لِنَفْسِهِ. أَيْ خَلَّصَهُ مِنْ شَوْبِ شَرِكَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِيهِ. وَمِنْهُ الصَّفِيُّ وَهُوَ السَّهْمُ الَّذِي كَانَ يَصْطَفِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ. وَمِنْهُ: الشَّيْءُ الصَّافِي. وَهُوَ الْخَالِصُ مِنْ كَدَرِ غَيْرِهِ. قَوْلُهُ: الصَّفَاءُ: اسْمٌ لِلْبَرَاءَةِ مِنَ الْكَدَرِ. الْبَرَاءَةُ: هِيَ الْخَلَاصُ. وَالْكَدَرُ امْتِزَاجُ الطَّيِّبِ بِالْخَبِيثِ. قَوْلُهُ: وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ: سُقُوطُ التَّلْوِينِ. التَّلْوِينُ هُوَ التَّرَدُّدُ وَالتَّذَبْذُبُ، كَمَا قِيلَ: كُلَّ يَوْمٍ تَتَلَوَّنُ ... تَرْكُ هَذَا بِكَ أَجْمَلُ [دَرَجَاتُ الصَّفَاءِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى صَفَاءُ عِلْمٍ يُهَذِّبُ لِسُلُوكِ الطَّرِيقِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: صَفَاءُ عِلْمٍ يُهَذِّبُ لِسُلُوكِ الطَّرِيقِ. وَيُبَصِّرُ غَايَةَ الْجِدِّ. وَيُصَحِّحُ هِمَّةَ الْقَاصِدِ. ذَكَرَ الشَّيْخُ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَ فَوَائِدَ. الْفَائِدَةُ الْأُولَى: عِلْمٌ يُهَذِّبُ لِسُلُوكِ الطَّرِيقِ، وَهَذَا الْعِلْمُ الصَّافِي - الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ - هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ الْجُنَيْدُ يَقُولُ دَائِمًا: عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَمَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ، وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَتَفَقَّهْ: لَا يُقْتَدَى بِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْعَارِفِينَ: كُلُّ حَقِيقَةٍ لَا تَتْبَعُهَا شَرِيعَةٌ فَهِيَ كُفْرٌ.

وَقَالَ الْجُنَيْدُ: عِلْمُنَا هَذَا مُتَشَبِّكٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: إِنَّهُ لَتَمُرُّ بِقَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ. فَلَا أَقْبَلُهَا إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ، مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ النَّصْرَابَادِيُّ: أَصْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ: مُلَازَمَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَتَرْكُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالسَّلَفِ، وَتَرْكُ مَا أَحْدَثَهُ الْآخَرُونَ. وَالْإِقَامَةُ عَلَى مَا سَلَكَهُ الْأَوَّلُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِ ذَلِكَ. فَهَذَا الْعِلْمُ الصَّافِي، الْمُتَلَقَّى مِنْ مِشْكَاةِ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ: يُهَذِّبُ صَاحِبَهُ لِسُلُوكِ طَرِيقِ الْعُبُودِيَّةِ. وَحَقِيقَتُهَا: التَّأَدُّبُ بِآدَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَتَحْكِيمُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَالْوُقُوفُ مَعَهُ حَيْثُ وَقَفَ بِكَ. وَالْمَسِيرُ مَعَهُ حَيْثُ سَارَ بِكَ. بِحَيْثُ تَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ شَيْخِكَ الَّذِي قَدْ أَلْقَيْتَ إِلَيْهِ أَمْرَكَ كُلَّهُ سِرَّهُ وَظَاهِرَهُ، وَاقْتَدَيْتَ بِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكَ. وَوَقَفْتَ مَعَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ. فَلَا تُخَالِفُهُ أَلْبَتَّةَ. فَتَجْعَلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَ شَيْخًا، وَإِمَامًا وَقُدْوَةً وَحَاكِمًا، وَتُعَلِّقُ قَلْبَكَ بِقَلْبِهِ الْكَرِيمِ، وَرُوحَانِيَّتَكَ بِرُوحَانِيَّتِهِ، كَمَا يُعَلِّقُ الْمُرِيدُ رُوحَانِيَّتَهُ بِرُوحَانِيَّةِ شَيْخِهِ. فَتُجِيبُهُ إِذَا دَعَاكَ. وَتَقِفُ مَعَهُ إِذَا اسْتَوْقَفَكَ. وَتَسِيرُ إِذَا سَارَ بِكَ. وَتُقِيلُ إِذَا قَالَ، وَتَنْزِلُ إِذَا نَزَلَ. وَتَغْضَبُ لِغَضَبِهِ. وَتَرْضَى لِرِضَاهُ. وَإِذَا أَخْبَرَكَ عَنْ شَيْءٍ أَنْزَلْتَهُ مَنْزِلَةَ مَا تَرَاهُ بِعَيْنِكَ. وَإِذَا أَخْبَرَكَ عَنِ اللَّهِ بِخَبَرٍ أَنْزَلْتَهُ مَنْزِلَةَ مَا تَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ بِأُذُنِكَ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَتَجْعَلُ الرَّسُولَ شَيْخَكَ وَأُسْتَاذَكَ، وَمُعَلِّمَكَ وَمُرَبِّيكَ وَمُؤَدِّبَكَ. وَتَسْقُطُ الْوَسَائِطَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ إِلَّا فِي التَّبْلِيغِ. كَمَا تَسْقُطُ الْوَسَائِلُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمُرْسَلِ فِي الْعُبُودِيَّةِ. وَلَا تَثْبُتُ وَسَاطَةٌ إِلَّا فِي وُصُولِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَرِسَالَتِهِ إِلَيْكَ. وَهَذَانَ التَّجْرِيدَانِ: هُمَا حَقِيقَةُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَاللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ الْمَأْلُوهُ، الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، وَرَسُولُهُ: الْمُطَاعُ الْمُتَّبَعُ، الْمُهْتَدَى بِهِ، الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الطَّاعَةَ سِوَاهُ. وَمَنْ سِوَاهُ: فَإِنَّمَا يُطَاعُ إِذَا أَمَرَ الرَّسُولُ بِطَاعَتِهِ. فَيُطَاعُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالطَّرِيقُ مَسْدُودَةٌ إِلَّا عَلَى مَنِ اقْتَفَى آثَارَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاقْتَدَى بِهِ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ. فَلَا يَتَعَنَّى السَّالِكُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ. فَلَيْسَ حَظُّهُ مِنْ سُلُوكِهِ إِلَّا التَّعَبَ، وَأَعْمَالُهُ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] .

وَلَا يَتَعَنَّى السَّالِكُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ. فَإِنَّهُ وَاصِلٌ وَلَوْ زَحَفَ زَحْفًا. فَأَتْبَاعُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا قَعَدَتْ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، قَامَتْ بِهِمْ عَزَائِمُهُمْ وَهِمَمُهُمْ وَمُتَابَعَتُهُمْ لِنَبِيِّهِمْ. كَمَا قِيلَ: مَنْ لِي بِمِثْلِ سَيْرِكَ الْمُدَلَّلِ ... تَمْشِي رُوَيْدًا وَتَجِي فِي الْأَوَّلِ وَالْمُنْحَرِفُونَ عَنْ طَرِيقِهِ، إِذَا قَامَتْ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَاجْتِهَادَاتُهُمْ: قَعَدَ بِهِمْ عُدُولُهُمْ عَنْ طَرِيقِهِ. فَهُمْ فِي السُّرَى لَمْ يَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ... وَمَا ظَعَنُوا فِي السَّيْرِ عَنْهُ وَقَدْ كَلُّوا قَوْلُهُ " وَيُبَصِّرُ غَايَةَ الْجِدِّ " الْجِدُّ: الِاجْتِهَادُ وَالتَّشْمِيرُ، وَالْغَايَةُ: النِّهَايَةُ. يُرِيدُ: أَنَّ صَفَاءَ الْعِلْمِ يَهْدِي صَاحِبَهُ إِلَى الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّشْمِيرِ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّالِكِينَ - بَلْ أَكْثَرَهُمْ - سَالِكٌ بِجِدِّهِ وَاجْتِهَادِهِ، غَيْرُ مُنْتَبِهٍ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَأَضْرِبُ لَكَ فِي هَذَا مَثَلًا حَسَنًا جِدًّا، وَهُوَ: أَنَّ قَوْمًا قَدِمُوا مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ عَلَيْهِمْ أَثَرُ النَّعِيمِ وَالْبَهْجَةِ، وَالْمَلَابِسُ السَّنِيَّةُ، وَالْهَيْئَةُ الْعَجِيبَةُ. فَعَجِبَ النَّاسُ لَهُمْ. فَسَأَلُوهُمْ عَنْ حَالِهِمْ؟ فَقَالُوا: بِلَادُنَا مِنْ أَحْسَنِ الْبِلَادِ. وَأَجْمَعِهَا لِسَائِرِ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ. وَأَرْخَاهَا، وَأَكْثَرِهَا مِيَاهًا، وَأَصَحِّهَا هَوَاءً، وَأَكْثَرِهَا فَاكِهَةً، وَأَعْظَمِهَا اعْتِدَالًا، وَأَهْلُهَا كَذَلِكَ أَحْسَنُ النَّاسِ صُوَرًا وَأَبْشَارًا. وَمَعَ هَذَا، فَمَلِكُهَا لَا يَنَالُهُ الْوَصْفُ جَمَالًا وَكَمَالًا، وَإِحْسَانًا، وَعِلْمًا وَحِلْمًا، وَجُودًا، وَرَحْمَةً لِلرَّعِيَّةِ، وَقُرْبًا مِنْهُمْ. وَلَهُ الْهَيْبَةُ وَالسَّطْوَةُ عَلَى سَائِرِ مُلُوكِ الْأَطْرَافِ. فَلَا يَطْمَعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مُقَاوَمَتِهِ وَمُحَارَبَتِهِ. فَأَهْلُ بَلَدِهِ فِي أَمَانٍ مِنْ عَدُوِّهِمْ. لَا يَحِلُّ الْخَوْفُ بِسَاحَتِهِمْ. وَمَعَ هَذَا: فَلَهُ أَوْقَاتٌ يَبْرُزُ فِيهَا لِرَعِيَّتِهِ، وَيُسَهِّلُ لَهُمُ الدُّخُولَ عَلَيْهِ، وَيَرْفَعُ الْحِجَابَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. فَإِذَا وَقَعَتْ أَبْصَارُهُمْ عَلَيْهِ: تَلَاشَى عِنْدَهُمْ كُلُّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَاضْمَحَلَّ، حَتَّى لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ. فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَقْبَلَ عَلَيْهِ سَائِرُ أَهْلِ الْمَمْلَكَةِ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ. وَنَحْنُ رُسُلُهُ إِلَى أَهْلِ الْبِلَادِ، نَدْعُوهُمْ إِلَى حَضْرَتِهِ. وَهَذِهِ كُتُبُهُ إِلَى النَّاسِ. وَمَعَنَا مِنَ الشُّهُودِ مَا يُزِيلُ سُوءَ الظَّنِّ بِنَا. وَيَدْفَعُ اتِّهَامَنَا بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ. فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَشَاهَدُوا أَحْوَالَ الرُّسُلِ: انْقَسَمُوا أَقْسَامًا. فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: لَا نُفَارِقُ أَوْطَانَنَا، وَلَا نَخْرُجُ مِنْ دِيَارِنَا، وَلَا نَتَجَشَّمُ مَشَقَّةَ السَّفَرِ

الْبَعِيدِ، وَنَتْرُكُ مَا أَلِفْنَاهُ مِنْ عَيْشِنَا وَمَنَازِلِنَا، وَمُفَارَقَةِ آبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا، وَإِخْوَانِنَا لِأَمْرٍ وُعِدْنَا بِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَنَحْنُ لَا نَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ مَا نَحْنُ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ الْجَهْدِ وَالْمَشَقَّةِ. فَكَيْفَ نَنْتَقِلُ عَنْهُ؟ وَرَأَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ مُفَارَقَتَهَا لِأَوْطَانِهَا وَبِلَادِهَا: كَمُفَارَقَةِ أَنْفُسِهَا لِأَبْدَانِهَا. فَإِنَّ النَّفْسَ - لِشِدَّةِ إِلْفِهَا لِلْبَدَنِ - أَكْرَهُ مَا إِلَيْهَا مُفَارَقَتُهُ. وَلَوْ فَارَقَتْهُ إِلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ. فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ غَلَبَ عَلَيْهَا دَاعِي الْحِسِّ وَالطَّبْعِ عَلَى دَاعِي الْعَقْلِ وَالرُّشْدِ. وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا رَأَتْ حَالَ الرُّسُلِ، وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَهْجَةِوَحُسْنِ الْحَالِ، وَعَلِمُوا صِدْقَهُمْ: تَأَهَّبُوا لِلسَّيْرِ إِلَى بِلَادِ الْمَلِكِ. فَأَخَذُوا فِي الْمَسِيرِ. فَعَارَضَهُمْ أَهْلُوهُمْ، وَأَصْحَابُهُمْ، وَعَشَائِرُهُمْ مِنَ الْقَاعِدِينَ. وَعَارَضَهُمْ إِلْفُهُمْ مَسَاكِنَهُمْ وَدُورَهُمْ وَبَسَاتِينَهُمْ. فَجَعَلُوا يُقَدِّمُونَ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُونَ أُخْرَى. فَإِذَا تَذَكَّرُوا طِيبَ بِلَادِ الْمَلِكِ وَمَا فِيهَا مِنْ سَلْوَةِ الْعَيْشِ: تَقَدَّمُوا نَحْوَهَا. وَإِذَا عَارَضَهُمْ مَا أَلِفُوهُ وَاعْتَادُوهُ مِنْ ظِلَالِ بِلَادِهِمْ وَعَيْشِهَا، وَصُحْبَةِ أَهْلِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ: تَأَخَّرُوا عَنِ الْمَسِيرِ، وَالْتَفَتُوا إِلَيْهِمْ. فَهُمْ دَائِمًا بَيْنَ الدَّاعِيَيْنِ وَالْجَاذِبَيْنِ، إِلَى أَنْ يَغْلِبَ أَحَدُهُمَا وَيَقْوَى عَلَى الْآخَرِ. فَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ. وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: رَكِبَتْ ظُهُورَ عَزَائِمِهَا، وَرَأَتْ أَنَّ بِلَادَ الْمَلِكِ أَوْلَى بِهَا. فَوَطَّنَتْ أَنْفُسَهَا عَلَى قَصْدِهَا. وَلَمْ يَثْنِهَا لَوْمُ اللُّوَّامِ. لَكِنْ فِي سَيْرِهَا بُطْءٌ بِحَسَبِ ضَعْفِ مَا كُشِفَ لَهَا مِنْ أَحْوَالِ تِلْكَ الْبِلَادِ وَحَالِ الْمَلِكِ. وَالطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ: جَدَّتْ فِي السَّيْرِ وَوَاصَلَتْهُ. فَسَارَتْ سَيْرًا حَثِيثًا. فَهُمْ كَمَا قِيلَ: وَرَكْبٍ سَرَوْا وَاللَّيْلُ مُرْخٍ سُدُولَهُ ... عَلَى كُلِّ مُغْبَرِّ الْمَطَالِعِ قَاتِمِ حَدَوْا عَزَمَاتٍ ضَاعَتِ الْأَرْضُ بَيْنَهَا ... فَصَارَ سُرَاهُمْ فِي ظُهُورِ الْعَزَائِمِ تُرِيهِمْ نُجُومُ اللَّيْلِ مَا يَطْلُبُونَهُ ... عَلَى عَاتِقِ الشِّعْرَى وَهَامِ النَّعَائِمِ فَهَؤُلَاءِ هِمَمُهُمْ مَصْرُوفَةٌ إِلَى السَّيْرِ. وَقُوَاهُمْ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَثْنِيَةٍ مِنْهُمْ إِلَى الْمَقْصُودِ الْأَعْظَمِ، وَالْغَايَةِ الْعُلْيَا. وَالطَّائِفَةُ الْخَامِسَةُ: أَخَذُوا فِي الْجِدِّ فِي الْمَسِيرِ. وَهِمَّتُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْغَايَةِ، فَهُمْ فِي سَيْرِهِمْ نَاظِرُونَ إِلَى الْمَقْصُودِ بِالْمَسِيرِ. فَكَأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَهُ مِنْ بُعْدٍ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِهِ وَإِلَى بِلَادِهِ. فَهُمْ عَامِلُونَ عَلَى هَذَا الشَّاهِدِ الَّذِي قَامَ بِقُلُوبِهِمْ. وَعَمَلُ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ شَاهِدِهِ. فَمَنْ شَاهَدَ الْمَقْصُودَ بِالْعَمَلِ فِي عِلْمِهِ

كَانَ نُصْحُهُ فِيهِ، وَإِخْلَاصُهُ وَتَحْسِينُهُ، وَبَذْلُ الْجُهْدِ فِيهِ أَتَمَّ مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ وَلَمْ يُلَاحِظْهُ. وَلَمْ يَجِدْ مِنْ مَسِّ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ مَا يَجِدُهُ الْغَائِبُ، وَالْوُجُودُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ. فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِمَلِكٍ بِحَضْرَتِهِ، وَهُوَ يُشَاهِدُهُ: لَيْسَ حَالُهُ كَحَالِ مَنْ عَمِلَ فِي غَيْبَتِهِ وَبُعْدِهِ عَنْهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ وُصُولَهُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ " وَيُصَحِّحُ هِمَّةَ الْقَاصِدِ " أَيْ وَيُصَحِّحُ لَهُ صَفَاءُ هَذَا الْعِلْمِ هِمَّتَهُ، وَمَتَى صَحَّتِ الْهِمَّةُ عَلَتْ وَارْتَفَعَتْ. فَإِنَّ سُقُوطَهَا وَدَنَاءَتَهَا مِنْ عِلَّتِهَا وَسَقَمِهَا، وَإِلَّا فَهِيَ كَالنَّارِ تَطْلُبُ الصُّعُودَ وَالِارْتِفَاعَ مَا لَمْ تُمْنَعْ. وَأَعْلَى الْهِمَمِ: هِمَّةٌ اتَّصَلَتْ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ طَلَبًا وَقَصْدًا. وَأَوْصَلَتِ الْخَلْقَ إِلَيْهِ دَعْوَةً وَنُصْحًا. وَهَذِهِ هِمَّةُ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَصِحَّتُهَا: بِتَمْيِيزِهَا مِنِ انْقِسَامِ طَلَبِهَا وَانْقِسَامِ مَطْلُوبِهَا وَانْقِسَامِ طَرِيقِهَا. بَلْ تَوَحَّدَ مَطْلُوبُهَا بِالْإِخْلَاصِ، وَطَلَبُهَا بِالصِّدْقِ، وَطَرِيقُهَا بِالسُّلُوكِ خَلْفَ الدَّلِيلِ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ دَلِيلًا. لَا مَنْ نَصَبَهُ هُوَ دَلِيلًا لِنَفْسِهِ. وَلِلَّهِ الْهِمَمُ! مَا أَعْجَبَ شَأْنَهَا، وَأَشَدَّ تَفَاوُتَهَا. فَهِمَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَنْ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَهِمَّةٌ حَائِمَةٌ حَوْلَ الْأَنْتَانِ وَالْحُشِّ. وَالْعَامَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ. وَالْخَاصَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ الْمَرْءِ مَا يَطْلُبُهُ. وَخَاصَّةُ الْخَاصَّةِ تَقُولُ: هِمَّةُ الْمَرْءِ إِلَى مَطْلُوبِهِ. وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَرَاتِبَ الْهِمَمِ، فَانْظُرْ إِلَى هِمَّةِ «رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلْنِي - فَقَالَ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ» . وَكَانَ غَيْرُهُ يَسْأَلُهُ مَا يَمْلَأُ بَطْنَهُ، أَوْ يُوَارِي جِلْدَهُ. وَانْظُرْ إِلَى هِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ مَفَاتِيحُ كُنُوزِ الْأَرْضِ - فَأَبَاهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا لِأَنْفَقَهَا فِي طَاعَةِ رَبِّهِ تَعَالَى. فَأَبَتْ لَهُ تِلْكَ الْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ: أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنْهَا بِشَيْءٍ مِمَّا سِوَى اللَّهِ وَمَحَابِّهِ. وَعُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِالْمُلْكِ، فَأَبَاهُ. وَاخْتَارَ التَّصَرُّفَ بِالْعُبُودِيَّةِ الْمَحْضَةِ. فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِقُ هَذِهِ الْهِمَّةِ، وَخَالِقُ نَفْسٍ تَحْمِلُهَا، وَخَالِقُ هِمَمٍ لَا تَعْدُو هِمَمَ أَخَسِّ الْحَيَوَانَاتِ.

فصل الدرجة الثانية صفاء حال يشاهد به شواهد التحقيق

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ صَفَاءُ حَالٍ يُشَاهَدُ بِهِ شَوَاهِدُ التَّحْقِيقِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: صَفَاءُ حَالٍ، يُشَاهَدُ بِهِ شَوَاهِدُ التَّحْقِيقِ. وَيُذَاقُ بِهِ حَلَاوَةُ الْمُنَاجَاةِ. وَيُنْسَى بِهِ الْكَوْنُ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ إِنَّمَا كَانَتْ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا هِمَّةُ حَالٍ. وَالْحَالُ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ، وَلَا يَصْفُو حَالٌ إِلَّا بِصَفَاءِ الْعِلْمِ الْمُثْمِرِ لَهُ. وَعَلَى حَسَبِ شَوْبِ الْعِلْمِ يَكُونُ شَوْبُ الْحَالِ. وَإِذَا صَفَا الْحَالُ: شَاهَدَ الْعَبْدُ - بِصَفَائِهِ - آثَارَ الْحَقَائِقِ. وَهِيَ الشَّوَاهِدُ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ، وَعَلَى غَيْرِهِ. وَوَجَدَ حَلَاوَةَ الْمُنَاجَاةِ. وَإِذَا تَمَكَّنَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: نَسِيَ الْكَوْنَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمُكَوِّنَاتِ. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ تَخْتَصُّ بِصَفَاءِ الْحَالِ كَمَا اخْتَصَّتِ الْأُولَى بِصَفَاءِ الْعِلْمِ. وَالْحَالُ هُوَ تَكَيُّفُ الْقَلْبِ وَانْصِبَاغُهُ بِحُكْمِ الْوَارِدَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَالْحَالُ يَدْعُو صَاحِبَهُ إِلَى الْمَقَامِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ الْوَارِدُ، كَمَا تَدْعُوهُ رَائِحَةُ الْبُسْتَانِ الطَّيِّبَةُ إِلَى دُخُولِهِ وَالْمَقَامِ فِيهِ. فَإِذَا كَانَ الْوَارِدُ مِنْ حَضْرَةٍ صَحِيحَةٍ - وَهِيَ حَضْرَةُ الْحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، لَا الْحَقِيقَةِ الْخَيَالِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ - شَاهَدَ السَّالِكُ بِصَفَائِهِ شَوَاهِدَ التَّحْقِيقِ، وَهِيَ عَلَامَاتُهُ: وَالتَّحْقِيقُ هُوَ حُكْمُ الْحَقِيقَةِ، وَتَأَثُّرُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ بِهَا، وَالْحَقِيقَةُ مَا تَعَلَّقَ بِالْحَقِّ الْمُبِينِ سُبْحَانَهُ. فَاللَّهُ هُوَ الْحَقُّ. وَالْحَقِيقَةُ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ وَتَعَلَّقَ بِهِ. وَالتَّحْقِيقُ تَأَثُّرُ الْقَلْبِ بِآثَارِ الْحَقِيقَةِ. وَلِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةٌ، وَلِكُلِّ حَقِيقَةٍ تَحْقِيقٌ يَقُومُ بِمُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ. قَوْلُهُ " وَيُذَاقُ بِهِ حَلَاوَةُ الْمُنَاجَاةِ " الْمُنَاجَاةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ النَّجْوَى. وَهُوَ الْخِطَابُ فِي سِرِّ الْعَبْدِ وَبَاطِنِهِ. وَالشَّيْخُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: مُشَاهَدَةُ شَوَاهِدِ التَّحْقِيقِ. الثَّانِي: ذَوْقُ حَلَاوَةَ الْمُنَاجَاةِ. فَإِنَّهُ مَتَى صَفَا لَهُ حَالُهُ مِنَ الشَّوَائِبِ، خَلُصَتْ لَهُ حَلَاوَتُهُ مِنْ مَرَارَةِ الْأَكْدَارِ. فَذَاقَ تِلْكَ الْحَلَاوَةَ فِي حَالِ مُنَاجَاتِهِ. فَلَوْ كَانَ الْحَالُ مَشُوبًا مُكَدَّرًا لَمْ يَجِدْ حَلَاوَةَ الْمُنَاجَاةِ. وَالْحَالُ الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى وَارِدٍ تُذَاقُ بِهِ حَلَاوَةُ الْمُنَاجَاةِ: هُوَ مِنْ حَضْرَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، بِحَسَبِ مَا يُصَادِفُ الْقَلْبَ مِنْ ظُهُورِهَا وَكَشْفِ مَعَانِيهَا. فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ اسْمُ الْوَدُودِ - مَثَلًا - وَكُشِفَ لَهُ عَنْ مَعَانِي هَذَا الِاسْمِ، وَلُطْفِهِ، وَتَعَلُّقِهِ بِظَاهِرِ الْعَبْدِ وَبَاطِنِهِ: كَانَ الْحَالُ الْحَاصِلُ لَهُ مِنْ حَضْرَةِ هَذَا الِاسْمِ مُنَاسِبًا لَهُ.

فصل الدرجة الثالثة صفاء اتصال

فَكَانَ حَالَ اشْتِغَالِ حُبٍّ وَشَوْقٍ، وَلَذَّةِ مُنَاجَاةٍ، لَا أَحْلَى مِنْهَا وَلَا أَطْيَبَ، بِحَسَبِ اسْتِغْرَاقِهِ فِي شُهُودِ مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ. وَحَظِّهِ مِنْ أَثَرِهِ. فَإِنَّ الْوَدُودَ - وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمَوْدُودِ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: الْوَدُودُ الْحَبِيبُ - وَاسْتِغْرَاقُ الْعَبْدِ فِي مُطَالَعَةِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي تَدْعُو الْعَبْدَ إِلَى حُبِّ الْمَوْصُوفِ بِهَا: أَثْمَرَ لَهُ صَفَاءَ عِلْمِهِ بِهَا، وَصَفَاءَ حَالِهِ فِي تَعَبُّدِهِ بِمُقْتَضَاهَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الْوَادِّ وَهُوَ الْمُحِبُّ: أَثْمَرَتْ لَهُ مُطَالَعَةُ ذَلِكَ حَالًا تُنَاسِبُهُ. فَإِنَّهُ إِذَا شَاهَدَ بِقَلْبِهِ غَنِيًّا كَرِيمًا جَوَادًا، عَزِيزًا قَادِرًا، كُلُّ أَحَدٍ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ. وَهُوَ غَنِيٌّ بِالذَّاتِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَهُوَ - مَعَ ذَلِكَ - يَوَدُّ عِبَادَهُ وَيُحِبُّهُمْ، وَيَتَوَدَّدُ إِلَيْهِمْ بِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَتَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمْ -: كَانَ لَهُ مِنْ هَذَا الشُّهُودِ حَالَةٌ صَافِيَةٌ خَالِصَةٌ مِنَ الشَّوَائِبِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. فَصَفَاءُ الْحَالِ بِحَسَبِ صَفَاءِ الْمَعْرِفَةِ بِهَا وَخُلُوصِهَا مِنْ دَمِ التَّعْطِيلِ وَفَرْثِ التَّمْثِيلِ. فَتَخْرُجُ الْمَعْرِفَةُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ فِطْرَةً خَالِصَةً سَائِغَةً لِلْعَارِفِينَ. كَمَا يَخْرُجُ اللَّبَنُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ. وَالْأَمْرُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ " وَيُنْسَى بِهِ الْكَوْنُ " أَيْ يُنْسَى الْكَوْنُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى قَلْبِهِ مِنِ اشْتِغَالِهِ بِهَذِهِ الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْكَوْنِ: الْمَخْلُوقَاتُ. أَيْ يَشْتَغِلُ بِالْحَقِّ عَنِ الْخَلْقِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ صَفَاءُ اتِّصَالٍ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: صَفَاءُ اتِّصَالٍ. يُدْرِجُ حَظَّ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَيُغْرِقُ نِهَايَاتِ الْخَبَرِ فِي بِدَايَاتِ الْعِيَانِ، وَيَطْوِي خِسَّةَ التَّكَالِيفِ فِي عَيْنِ الْأَزَلِ. فِي هَذَا اللَّفْظِ قَلَقٌ وَسُوءُ تَعْبِيرٍ. يَجْبُرُهُ حُسْنُ حَالِ صَاحِبِهِ وَصِدْقِهِ، وَتَعْظِيمِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَلَكِنْ أَبَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ الْكَمَالُ إِلَّا لَهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ بَيْنَ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ وَبَيْنَ أَصْحَابِ التَّمَكُّنِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا. وَانْظُرْ إِلَى غَلَبَةِ الْحَالِ عَلَى الْكَلِيمِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا شَاهَدَ آثَارَ التَّجَلِّي الْإِلَهِيِّ عَلَى الْجَبَلِ، كَيْفَ خَرَّ صَعِقًا؟ وَصَاحِبُ التَّمَكُّنِ - صَلَوَاتُ

اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ وَرَأَى مَا رَأَى: لَمْ يُصْعَقْ وَلَمْ يَخِرَّ، بَلْ ثَبَتَ فُؤَادُهُ وَبَصَرُهُ. وَمُرَادُ الْقَوْمِ بِالِاتِّصَالِ وَالْوُصُولِ: اتِّصَالُ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ، وَوُصُولُهُ إِلَيْهِ. لَا بِمَعْنَى اتِّصَالِ ذَاتِ الْعَبْدِ بِذَاتِ الرَّبِّ، كَمَا تَتَّصِلُ الذَّاتَانِ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى. وَلَا بِمَعْنَى انْضِمَامِ إِحْدَى الذَّاتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَالْتِصَاقِهَا بِهَا. وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِالِاتِّصَالِ وَالْوُصُولِ: إِزَالَةُ النَّفْسِ وَالْخَلْقِ مِنْ طَرِيقِ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَلَا تَتَوَهَّمْ سِوَى ذَلِكَ. فَإِنَّهُ عَيْنُ الْمُحَالِ. فَإِنَّ السَّالِكَ لَا يَزَالُ سَائِرًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَمُوتَ. فَلَا يَنْقَطِعُ سَيْرُهُ إِلَّا بِالْمَوْتِ. فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وُصُولٌ يَفْرَغُ مَعَهُ السِّرُّ وَيَنْتَهِي. وَلَيْسَ ثَمَّ اتِّصَالٌ حِسِّيٌّ بَيْنَ ذَاتِ الْعَبْدِ وَذَاتِ الرَّبِّ. فَالْأَوَّلُ: تَعْطِيلٌ وَإِلْحَادٌ. وَالثَّانِي: حُلُولٌ وَاتِّحَادٌ. وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْأَمْرِ: تَنْحِيَةُ النَّفْسِ وَالْخَلْقِ عَنِ الطَّرِيقِ. فَإِنَّ الْوُقُوفَ مَعَهُمَا: هُوَ الِانْقِطَاعُ. وَتَنْحِيَتَهُمَا هُوَ الِاتِّصَالُ. وَأَمَّا الْمَلَاحِدَةُ الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْعَبْدُ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ، وَأَفْعَالُهُ مِنْ صِفَاتِهِ. وَصِفَاتُهُ مِنْ ذَاتِهِ. فَأَنْتَجَ لَهُمْ هَذَا التَّرْكِيبُ: أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ ذَاتِ الرَّبِّ. تَعَالَى اللَّهُ وَتَقَدَّسَ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَمَوْضِعُ الْغَلَطِ: أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ مَفْعُولَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، لَا مِنْ أَفْعَالِهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ. وَمَفْعُولَاتُهُ آثَارُ أَفْعَالِهِ. وَأَفْعَالُهُ مِنْ صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ، فَذَاتُهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَمَفْعُولَاتُهُ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ، تِلْكَ مَخْلُوقَةٌ مُحْدَثَةٌ. وَالرَّبُّ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ وَالْأَلْفَاظَ الْمُجْمَلَةَ الْمُشْتَبِهَةَ الَّتِي وَقَعَ اصْطِلَاحُ الْقَوْمِ عَلَيْهَا. فَإِنَّهَا أَصْلُ الْبَلَاءِ. وَهِيَ مَوْرِدُ الصِّدِّيقِ وَالزِّنْدِيقِ. فَإِذَا سَمِعَ الضَّعِيفُ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ بِاللَّهِ تَعَالَى لَفْظَ " اتِّصَالٍ وَانْفِصَالٍ، وَمُسَامَرَةٍ، وَمُكَالَمَةٍ، وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا وُجُودُ اللَّهِ، وَأَنَّ وُجُودَ الْكَائِنَاتِ خَيَالٌ وَوَهْمٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ الظِّلِّ الْقَائِمِ بِغَيْرِهِ " فَاسْمَعْ مِنْهُ مَا يَمْلَأُ الْآذَانَ مِنْ حُلُولٍ وَاتِّحَادٍ وَشَطَحَاتٍ. وَالْعَارِفُونَ مِنَ الْقَوْمِ أَطْلَقُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَنَحْوَهَا، وَأَرَادُوا بِهَا مَعَانِيَ صَحِيحَةً فِي أَنْفُسِهَا. فَغَلِطَ الْغَالِطُونَ فِي فَهْمِ مَا أَرَادُوهُ. وَنَسَبُوهُمْ إِلَى إِلْحَادِهِمْ وَكُفْرِهِمْ. وَاتَّخَذُوا كَلِمَاتِهِمُ الْمُتَشَابِهَةَ تُرْسًا لَهُ وَجُنَّةً، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ:

وَمِنْكَ بَدَا حُبٌّ بِعِزٍّ تَمَازَجَا ... بِنَا وَوِصَالًا كُنْتَ أَنْتَ وَصَلْتَهُ ظَهَرْتَ لِمَنْ أَبْقَيْتَ بَعْدَ فَنَائِهِ ... وَكَانَ بِلَا كَوْنٍ لِأَنَّكَ كُنْتَهُ فَيَسْمَعُ الْغِرُّ " التَّمَازُجَ وَالْوِصَالَ " فَيَظُنُّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَفْسُ كَوْنِ الْعَبْدِ. فَلَا يَشُكُّ أَنَّ هَذَا هُوَ غَايَةُ التَّحْقِيقِ، وَنِهَايَةُ الطَّرِيقِ. ثُمَّ لِنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. قَوْلُهُ: يُدْرِجُ حَظَّ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. الْمَعْنَى الصَّحِيحُ، الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ: أَنَّ مَنْ تَمَكَّنَ فِي قَلْبِهِ شُهُودُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَصَفَا لَهُ عِلْمُهُ وَحَالُهُ: انْدَرَجَ عَمَلُهُ جَمِيعُهُ وَأَضْعَافُهُ وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهِ فِي حَقِّ رَبِّهِ تَعَالَى وَرَآهُ فِي جَنْبِ حَقِّهِ أَقَلَّ مِنْ خَرْدَلَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جِبَالِ الدُّنْيَا. فَسَقَطَ مِنْ قَلْبِهِ اقْتِضَاءُ حَظِّهِ مِنَ الْمُجَازَاةِ عَلَيْهِ. لِاحْتِقَارِهِ لَهُ، وَقِلَّتِهِ عِنْدَهُ، وَصِغَرِهِ فِي عَيْنِهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا صَالِحٌ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَبِي الْجِلْدِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ: يَا دَاوُدَ، أَنْذِرْ عِبَادِيَ الصَّادِقِينَ. فَلَا يُعْجِبُنَّ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَتَّكِلُنَّ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِي أَنْصِبُهُ لِلْحِسَابِ، وَأُقِيمُ عَلَيْهِ عَدْلِي إِلَّا عَذَّبْتَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ أَظْلِمَهُ. وَبَشِّرْ عِبَادِيَ الْخَطَّائِينَ: أَنَّهُ لَا يَتَعَاظَمُنِي ذَنْبٌ أَنْ أَغْفِرَهُ وَأَتَجَاوَزَ عَنْهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا سَيَّارٌ حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ قَالَ: تَعَبَّدَ رَجُلٌ سَبْعِينَ سَنَةً. وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: رَبِّ اجْزِنِي بِعَمَلِي. فَمَاتَ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ. فَكَانَ فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا. فَلَمَّا فَرَغَ وَقْتُهُ، قِيلَ لَهُ: اخْرُجْ، فَقَدِ اسْتَوْفَيْتَ عَمَلَكَ، فَقَلَّبَ أَمْرَهُ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَوْثَقَ فِي نَفْسِهِ؟ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَوْثَقَ فِي نَفْسِهِ مِنْ دُعَاءِ اللَّهِ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ. فَأَقْبَلَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: رَبِّ سَمِعْتُكَ - وَأَنَا فِي الدُّنْيَا - وَأَنْتَ تُقِيلُ الْعَثَرَاتِ. فَأَقِلِ الْيَوْمَ عَثْرَتِي. فَتُرِكَ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ حَدَّثَنَا صَالِحٌ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَبِي الْجِلْدِ قَالَ: قَالَ مُوسَى: إِلَهِي، كَيْفَ أَشْكُرُكَ، وَأَصْغَرُ نِعْمَةٍ وَضَعْتَهَا عِنْدِي مِنْ نِعْمَتِكَ لَا يُجَازِيهَا عَمَلِي كُلُّهُ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: يَا مُوسَى، الْآنَ شَكَرْتَنِي.

فَهَذَا الْمَعْنَى الصَّحِيحُ مِنِ انْدِرَاجِ حَظِّ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَلَهُ مَحْمَلٌ آخَرُ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ ذَاتَ الْعَبْدِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ وَقُوَاهُ وَحَرَكَاتِهِ: كُلَّهَا مَفْعُولَةٌ لِلرَّبِّ، مَمْلُوكَةٌ لَهُ، لَيْسَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ مِنْهَا شَيْئًا. بَلْ هُوَ مَحْضُ مُلْكِ اللَّهِ. فَهُوَ الْمَالِكُ لَهَا، الْمُنْعِمُ عَلَى عَبْدِهِ بِإِعْطَائِهِ إِيَّاهَا. فَالْمَالُ مَالُهُ. وَالْعَبْدُ عَبْدُهُ. وَالْخِدْمَةُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَهِيَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَالْفَضْلُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَمِنَ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ. قَوْلُهُ " وَيَعْرِفُ نِهَايَاتِ الْخَبَرِ فِي بِدَايَاتِ الْعِيَانِ " الْخَبَرُ: مُتَعَلَّقُ الْغَيْبِ. وَالْعِيَانُ مُتَعَلَّقُ الشَّهَادَةِ. وَهُوَ إِدْرَاكُ عَيْنِ الْبَصِيرَةِ لِصِحَّةِ الْخَبَرِ، وَثُبُوتِ مَخْبَرِهِ. وَمُرَادُهُ بِ " بِدَايَاتِ الْعِيَانِ " أَوَائِلُ الْكَشْفِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ. وَمَقْصُودُهُ: أَنْ يَرَى الشَّاهِدُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ بِقَلْبِهِ عِيَانًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] وَقَالَ تَعَالَى {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19] فَقَدْ قَالَ: أَفَمَنْ رَأَى بِعَيْنِ قَلْبِهِ أَنَّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ هُوَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُ ذَلِكَ؟ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَصْدِيقَ الْخَبَرِ وَالْيَقِينَ بِهِ يُقَوِّي الْقَلْبَ، حَتَّى يَصِيرَ الْغَيْبُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاهَدِ بِالْعَيْنِ. فَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ: كَأَنَّهُ يَرَى رَبَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، مُطَّلِعًا عَلَى عِبَادِهِ نَاظِرًا إِلَيْهِمْ، يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ. وَيَرَى ظَوَاهِرَهُمْ وَبَوَاطِنَهُمْ. وَكَأَنَّهُ يَسْمَعُهُ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ. وَيُكَلِّمُ بِهِ عَبْدَهُ جِبْرِيلَ، وَيَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ بِمَا يُرِيدُ، وَيُدَبِّرُ أَمْرَ الْمَمْلَكَةِ. وَأَمْلَاكُهُ صَاعِدَةٌ إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِهِ بِهِ. وَكَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ، وَهُوَ يَرْضَى وَيَغْضَبُ، وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَضْحَكُ وَيَفْرَحُ، وَيُثْنِي عَلَى أَوْلِيَائِهِ بَيْنَ مَلَائِكَتِهِ، وَيَذُمُّ أَعْدَاءَهُ. وَكَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ وَيُشَاهِدُ يَدَيْهِ الْكَرِيمَتَيْنِ، وَقَدْ قَبَضَتْ إِحْدَاهُمَا السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ، وَالْأُخْرَى الْأَرَضِينَ السَّبْعَ. وَقَدْ طَوَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ بِيَمِينِهِ، كَمَا يُطْوَى السِّجِلُّ عَلَى أَسْطُرِ الْكِتَابِ. وَكَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ، وَقَدْ جَاءَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ. فَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِ.

وَنَادَى - وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ - بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ " وَعِزَّتِي وَجَلَالِي: " «لَا يُجَاوِزُنِي الْيَوْمَ ظُلْمُ ظَالِمٍ» ". وَكَأَنَّهُ يُسْمِعُ نِدَاءَهُ لِآدَمَ " «يَا آدَمُ، قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ» " بِإِذْنِهِ الْآنَ، وَكَذَلِكَ نِدَاؤُهُ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65] وَمَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ وَبِالْجُمْلَةِ: فَيُشَاهِدُ بِقَلْبِهِ رَبًّا عَرَّفَتْ بِهِ الرُّسُلُ، كَمَا عَرَّفَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَدِينًا دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ. وَحَقَائِقَ أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ. فَقَامَ شَاهِدُ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ كَمَا قَامَ شَاهِدُ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَهْلُ التَّوَاتُرِ - وَإِنْ لَمْ يَرَهُ - مِنَ الْبِلَادِ وَالْوَقَائِعِ. فَهَذَا إِيمَانُهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعِيَانِ، وَإِيمَانُ غَيْرِهِ فَمَحْضُ تَقْلِيدِ الْعُمْيَانِ. قَوْلُهُ " وَيَطْوِي خِسَّةَ التَّكَالِيفِ " لَيْتَ الشَّيْخَ عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِغَيْرِهَا. فَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَأَقْبَحُ مِنْ شَوْكَةٍ فِي الْعَيْنِ، وَشَجًى فِي الْحَلْقِ. وَحَاشَا التَّكَالِيفَ أَنْ تُوصَفَ بِخِسَّةٍ، أَوْ تَلْحَقَهَا خِسَّةٌ. وَإِنَّمَا هِيَ قُرَّةُ عَيْنٍ، وَسُرُورُ قَلْبٍ، وَحَيَاةُ رُوحٍ. صَدَرَ التَّكْلِيفُ بِهَا عَنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. فَهِيَ أَشْرَفُ مَا وَصَلَ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَثَوَابُهُ عَلَيْهَا أَشْرَفُ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ لِلْعَبْدِ.

نَعَمْ لَوْ قَالَ: يَطْوِي ثِقَلَ التَّكَالِيفِ وَيُخَفِّفُ أَعْبَاءَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَلَعَلَّهُ كَانَ أَوْلَى، وَلَوْلَا مَقَامُهُ فِي الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ لَكُنَّا نُسِيءُ بِهِ الظَّنَّ. وَالَّذِي يَحْتَمِلُ أَنْ يُصَرَّفَ كَلَامُهُ إِلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّفَاءَ - الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ - لَمَّا انْطَوَتْ فِي حُكْمِهِ الْوَسَائِطُ وَالْأَسْبَابُ. وَانْدَرَجَ فِيهِ حَظُّ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ: انْطَوَتْ فِيهِ رُؤْيَةُ كَوْنِ الْعِبَادَةِ تَكْلِيفًا. فَإِنَّ رُؤْيَتَهَا تَكْلِيفًا خِسَّةٌ مِنَ الرَّائِي. لِأَنَّهُ رَآهَا بِعَيْنِ أَنَفَتِهِ وَقِيَامِهِ بِهَا. وَلَمْ يَرَهَا بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَقَامِ " فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي " وَلَوْ وَصَلَ إِلَى ذَلِكَ لَرَآهَا بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ، وَلَا خِسَّةَ فِيهَا هُنَاكَ أَلْبَتَّةَ. فَإِنَّ نَظَرَهُ قَدْ تَعَدَّى مِنْ قِيَامِهِ بِهَا إِلَى قِيَامِهَا بِالْقَيُّومِ الَّذِي قَامَ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ. فَكَانَ لَهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: هِيَ بِهِ خَسِيسَةٌ. وَهُوَ وَجْهُ قِيَامِهَا بِالْعَبْدِ، وَصُدُورِهَا مِنْهُ. وَالثَّانِي: هِيَ بِهِ شَرِيفَةٌ. وَهُوَ وَجْهُ كَوْنِهَا بِالرَّبِّ تَعَالَى وَأَوَّلِيَّتِهِ، أَمْرًا وَتَكْوِينًا وَإِعَانَةً. فَالصَّفَاءُ يَطْوِيهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ خَاصَّةً. وَالْمَعْنَى الثَّانِي، الَّذِي يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ: أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: أَنَّ الصَّفَاءَ يَشْهَدُهُ عَيْنُ الْأَزَلِ، وَسَبْقُ الرَّبِّ تَعَالَى، وَأَوَّلِيَّتُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ. فَتَنْطَوِي فِي هَذَا الْمَشْهَدِ أَعْمَالُهُ الَّتِي عَمِلَهَا. وَيَرَاهَا خَسِيسَةً جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَيْنِ الْأَزَلِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَنْطَوِي أَعْمَالُهُ، وَتَصِيرُ - بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْعَيْنِ - خَسِيسَةً جِدًّا لَا تُذْكَرُ. بَلْ تَكُونُ فِي عَيْنِ الْأَزَلِ هَبَاءً مَنْثُورًا، لَا حَاصِلَ لَهَا. فَإِنَّ الْوَقْتَ الَّذِي هُوَ ظَرْفُ التَّكْلِيفِ يَتَلَاشَى جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَزَلِ. وَهُوَ وَقْتٌ خَسِيسٌ حَقِيرٌ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَا حَاصِلَ لَهُ. وَلَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ فِي مِقْدَارِ الْأَعْمَالِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ. وَهِيَ يَسِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ يَسِيرٌ جِدًّا. بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ يَسِيرٌ جِدًّا. بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَيْنِ الْأَزَلِ. فَهَذَا أَقْرَبُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ مَعَ قَلَقِهِ. وَقَدِ اعْتَرَاهُ فِيهِ سُوءُ تَعْبِيرٍ. وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهَا الْخِسَّةَ لِقِلَّتِهَا وَخِفَّتِهَا. بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ الْمُكَلِّفِ بِهَا سُبْحَانَهُ. وَمَا يَسْتَحِقُّهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

فصل منزلة السرور

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ السُّرُورِ] [فَصْلٌ ذِكْرُ السُّرُورِ فِي الْقُرْآنِ] فَصْلٌ وَمِنْهَا السُّرُورُ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: بَابُ السُّرُورِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] . تَصْدِيرُ الْبَابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِالْفَرَحِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَذَلِكَ تَبَعٌ لِلْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِصَاحِبِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ. فَإِنَّ مَنْ فَرِحَ بِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ جَوَادٍ كَرِيمٍ، مُحْسِنٍ، بَرٍّ. يَكُونُ فَرَحُهُ بِمَنْ أَوْصَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ: أَوْلَى وَأَحْرَى. وَنَذْكُرُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمَعْنَى. ثُمَّ نَشْرَحُ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُهُمْ: فَضْلُ اللَّهِ: الْإِسْلَامُ. وَرَحْمَتُهُ: الْقُرْآنُ. فَجَعَلُوا رَحْمَتَهُ أَخَصَّ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ فَضْلَهُ الْخَاصَّ عَامٌّ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَرَحْمَتَهُ بِتَعْلِيمِ كِتَابِهِ لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ. فَجَعَلَهُمْ مُسْلِمِينَ بِفَضْلِهِ. وَأَنْزَلَ إِلَيْهِمْ كِتَابَهُ بِرَحْمَتِهِ. قَالَ تَعَالَى {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86] وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَضْلُ اللَّهِ: الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتُهُ: أَنْ جَعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ. قُلْتُ: يُرِيدُ بِذَلِكَ. أَنَّ هَاهُنَا أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الْفَضْلُ فِي نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: اسْتِعْدَادُ الْمَحَلِّ لِقَبُولِهِ، كَالْغَيْثِ يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ الْقَابِلَةِ لِلنَّبَاتِ. فَيَتِمُّ الْمَقْصُودُ بِالْفَضْلِ، وَقَبُولُ الْمَحَلِّ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْفَرَحُ لَذَّةٌ تَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِإِدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ وَنَيْلِ الْمُشْتَهَى. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ إِدْرَاكِهِ حَالَةٌ تُسَمَّى الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ. كَمَا أَنَّ الْحُزْنَ وَالْغَمَّ مِنْ فَقْدِ الْمَحْبُوبِ. فَإِذَا فَقَدَهُ: تَوَلَّدَ مِنْ فَقْدِهِ حَالَةٌ تُسَمَّى الْحُزْنَ وَالْغَمَّ. وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْأَمْرَ بِالْفَرَحِ بِفَضْلِهِ وَبِرَحْمَتِهِ عَقِيبَ قَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]

وَلَا شَيْءَ أَحَقُّ أَنْ يَفْرَحَ الْعَبْدُ بِهِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْمَوْعِظَةَ وَشِفَاءَ الصُّدُورِ مِنْ أَدْوَائِهَا بِالْهُدَى وَالرَّحْمَةِ. فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّ مَا آتَى عِبَادَهُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ - الَّتِي هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، الْمَقْرُونُ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَشِفَاءَ الصُّدُورِ الْمُتَضَمِّنَ لِعَافِيَتِهَا مِنْ دَاءِ الْجَهْلِ، وَالظُّلْمَةِ، وَالْغَيِّ، وَالسَّفَهِ - وَهُوَ أَشَدُّ أَلَمًا لَهَا مِنْ أَدْوَاءِ الْبَدَنِ، وَلَكِنَّهَا لَمَّا أَلِفَتْ هَذِهِ الْأَدْوَاءَ لَمْ تُحِسَّ بِأَلَمِهَا. وَإِنَّمَا يَقْوَى إِحْسَاسُهَا بِهَا عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ لِلدُّنْيَا. فَهُنَاكَ يَحْضُرُهَا كُلُّ مُؤْلِمٍ مُحْزِنٍ. وَمَا آتَاهَا مِنْ رَبِّهَا الْهُدَى الَّذِي يَتَضَمَّنُ ثَلْجَ الصُّدُورِ بِالْيَقِينِ، وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ بِهِ، وَسُكُونَ النَّفْسِ إِلَيْهِ، وَحَيَاةَ الرُّوحِ بِهِ. وَالرَّحْمَةَ الَّتِي تَجْلِبُ لَهَا كُلَّ خَيْرٍ وَلَذَّةٍ. وَتَدْفَعُ عَنْهَا كُلَّ شَرٍّ وَمُؤْلِمٍ. فَذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَا يَجْمَعُ النَّاسُ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا. أَيْ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفْرَحَ بِهِ. وَمَنْ فَرِحَ بِهِ فَقَدْ فَرِحَ بِأَجَلِّ مَفْرُوحٍ بِهِ. لَا مَا يَجْمَعُ أَهْلُ الدُّنْيَا مِنْهَا. فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلْفَرَحِ. لِأَنَّهُ عُرْضَةٌ لِلْآفَاتِ. وَوَشِيكُ الزَّوَالِ، وَوَخِيمُ الْعَاقِبَةِ، وَهُوَ طَيْفُ خَيَالٍ زَارَ الصَّبَّ فِي الْمَنَامِ. ثُمَّ انْقَضَى الْمَنَامُ. وَوَلَّى الطَّيْفُ. وَأَعْقَبَ مَزَارَهُ الْهِجْرَانَ. وَقَدْ جَاءَ الْفَرَحُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى نَوْعَيْنِ. مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ. فَالْمُطْلَقُ: جَاءَ فِي الذَّمِّ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] . وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10] . وَالْمُقَيَّدُ: نَوْعَانِ أَيْضًا. مُقَيَّدٌ بِالدُّنْيَا. يُنْسِي صَاحِبَهُ فَضْلَ اللَّهِ وَمِنَّتَهُ. فَهُوَ مَذْمُومٌ. كَقَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] . وَالثَّانِي: مُقَيَّدٌ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ. وَهُوَ نَوْعَانِ أَيْضًا. فَضْلٌ وَرَحْمَةٌ بِالسَّبَبِ. وَفَضْلٌ بِالْمُسَبَّبِ، فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] .

فصل حد السرور

فَالْفَرَحُ بِاللَّهِ، وَبِرَسُولِهِ، وَبِالْإِيمَانِ، وَبِالسُّنَّةِ، وَبِالْعِلْمِ، وَبِالْقُرْآنِ: مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] . وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 36] . فَالْفَرَحُ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ: دَلِيلٌ عَلَى تَعْظِيمِهِ عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَمَحَبَّتِهِ لَهُ، وَإِيثَارِهِ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ فَرَحَ الْعَبْدِ بِالشَّيْءِ عِنْدَ حُصُولِهِ لَهُ: عَلَى قَدْرِ مَحَبَّتِهِ لَهُ، وَرَغْبَتِهِ فِيهِ. فَمَنْ لَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الشَّيْءِ لَا يُفْرِحُهُ حُصُولُهُ لَهُ، وَلَا يُحْزِنُهُ فَوَاتُهُ. فَالْفَرَحُ تَابِعٌ لِلْمَحَبَّةِ وَالرَّغْبَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِبْشَارِ: أَنَّ الْفَرَحَ بِالْمَحْبُوبِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَالِاسْتِبْشَارُ يَكُونُ بِهِ قَبْلَ حُصُولِهِ إِذَا كَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ حُصُولِهِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: 170] . وَالْفَرَحُ صِفَةُ كَمَالٍ وَلِهَذَا يُوصَفُ الرَّبُّ تَعَالَى بِأَعْلَى أَنْوَاعِهِ وَأَكْمَلِهَا، كَفَرَحِهِ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ أَعْظَمُ مِنْ فَرْحَةِ الْوَاجِدِ لِرَاحِلَتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ بَعْدَ فَقْدِهِ لَهَا، وَالْيَأْسِ مِنْ حُصُولِهَا. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْفَرَحَ أَعْلَى أَنْوَاعِ نَعِيمِ الْقَلْبِ، وَلَذَّتِهِ وَبَهْجَتِهِ. وَالْفَرَحُ وَالسُّرُورُ نَعِيمُهُ. وَالْهَمُّ وَالْحُزْنُ عَذَابُهُ. وَالْفَرَحُ بِالشَّيْءِ فَوْقَ الرِّضَا بِهِ. فَإِنَّ الرِّضَا طُمَأْنِينَةٌ وَسُكُونٌ وَانْشِرَاحٌ. وَالْفَرَحُ لَذَّةٌ وَبَهْجَةٌ وَسُرُورٌ. فَكُلُّ فَرِحٍ رَاضٍ. وَلَيْسَ كُلُّ رَاضٍ فَرِحًا. وَلِهَذَا كَانَ الْفَرَحُ ضِدَّ الْحُزْنِ، وَالرِّضَا ضِدَّ السُّخْطِ. وَالْحُزْنُ يُؤْلِمُ صَاحِبَهُ، وَالسُّخْطُ لَا يُؤْلِمُهُ، إِلَّا إِنْ كَانَ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الِانْتِقَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حَدُّ السُّرُورِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: السُّرُورُ: اسْمٌ لِاسْتِبْشَارٍ جَامِعٍ. وَهُوَ أَصْفَى مِنَ الْفَرَحِ. لِأَنَّ الْأَفْرَاحَ رُبَّمَا شَابَهَا الْأَحْزَانُ. وَلِذَلِكَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِاسْمِهِ فِي أَفْرَاحِ الدُّنْيَا فِي مَوَاضِعَ. وَوَرَدَ السُّرُورُ

فِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي حَالِ الْآخِرَةِ. السُّرُورُ وَالْمَسَرَّةُ: مَصْدَرُ سَرَّهُ سُرُورًا وَمَسَرَّةً. وَكَأَنَّ مَعْنَى سَرَّهُ: أَثَّرَ فِي أَسَارِيرِ وَجْهِهِ. فَإِنَّهُ تَبْرُقُ مِنْهُ أَسَارِيرُ الْوَجْهِ. كَمَا قَالَ شَاعِرُ الْعَرَبِ: وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ ... بَرَقَتْ كَبَرْقِ الْعَارِضِ الْمُتَهَلِّلِ وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: رَأَسَهُ; إِذَا أَصَابَ رَأْسَهُ، وَبَطَنَهُ وَظَهَرَهُ; إِذَا أَصَابَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ، وَأَمَّهُ; إِذَا أَصَابَ أُمَّ رَأْسِهِ. وَأَمَّا الِاسْتِبْشَارُ: فَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْبُشْرَى. وَالْبِشَارَةُ: هِيَ أَوَّلُ خَبَرٍ صَادِقٍ سَارٍّ. وَ " الْبُشْرَى " يُرَادُ بِهَا أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: بِشَارَةُ الْمُخْبِرِ. وَالثَّانِي: سُرُورُ الْمُخْبَرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64] . فُسِّرَتِ الْبُشْرَى بِهَذَا وَهَذَا. فَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بُشْرَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: هِيَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَأْتِيهِمْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِالْبُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَفِي الْآخِرَةِ: عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ إِذَا خَرَجَتْ يَعْرُجُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ، تُزَفُّ كَمَا تُزَفُّ الْعَرُوسُ، تُبَشَّرُ بِرِضْوَانِ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْجَنَّةُ. وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ. وَفُسِّرَتْ بُشْرَى الدُّنْيَا بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، يَجْرِي لَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ. وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ. فَالثَّنَاءُ: مِنَ الْبُشْرَى، وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ الْبُشْرَى، وَتَبْشِيرُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ عِنْدَ

الْمَوْتِ مِنَ الْبُشْرَى. وَالْجَنَّةُ مِنْ أَعْظَمِ الْبُشْرَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] . قِيلَ: وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي بَشَرَةِ الْوَجْهِ. وَلِذَلِكَ كَانَتْ نَوْعَيْنِ: بُشْرَى سَارَّةٌ تُؤَثِّرُ فِيهِ نَضَارَةً وَبَهْجَةً، وَبُشْرَى مُحْزِنَةٌ تُؤَثِّرُ فِيهِ بُسُورًا وُعُبُوسًا. وَلَكِنْ إِذَا أُطْلِقَتْ كَانَتْ لِلسُّرُورِ. وَإِذَا قُيِّدَتْ كَانَتْ بِحَسَبِ مَا تُقَيَّدُ بِهِ. قَوْلُهُ " وَهُوَ أَصْفَى مِنَ الْفَرَحِ " وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَفْرَاحَ رُبَّمَا شَابَهَا أَحْزَانٌ، أَيْ رُبَّمَا مَازَجَهَا ضِدُّهَا. بِخِلَافِ السُّرُورِ. فَيُقَالُ: وَالْمَسَرَّاتُ رُبَّمَا شَابَهَا أَنْكَادٌ وَأَحْزَانٌ فَلَا فَرْقَ. قَوْلُهُ: وَلِذَلِكَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِاسْمِهِ فِي أَفْرَاحِ الدُّنْيَا فِي مَوَاضِعَ يُرِيدُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَبَ الْفَرَحَ إِلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10] . فَإِنَّ الدُّنْيَا لَا تَتَخَلَّصُ أَفْرَاحُهَا مِنْ أَحْزَانِهَا وَأَتْرَاحِهَا أَلْبَتَّةَ. بَلْ مَا مِنْ فَرْحَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا تَرْحَةٌ سَابِقَةٌ، أَوْ مُقَارِنَةٌ، أَوْ لَاحِقَةٌ. وَلَا تَتَجَرَّدُ الْفَرْحَةُ. بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَرْحَةٍ تُقَارِنُهَا. وَلَكِنْ قَدْ تَقْوَى الْفَرْحَةُ عَلَى الْحُزْنِ فَيَنْغَمِرُ حُكْمُهُ وَأَلَمُهُ مَعَ وُجُودِهَا. وَبِالْعَكْسِ. فَيُقَالُ: وَلَقَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ أَيْضًا بِالْفَرَحِ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ فِي مَوَاضِعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ. قَوْلُهُ: وَوَرَدَ اسْمُ السُّرُورِ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي حَالِ الْآخِرَةِ. يُرِيدُ بِهِمَا: قَوْلَهُ تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 7]

درجات السرور

وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] . فَيُقَالُ: وَوَرَدَ السُّرُورُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا فِي مَوْضِعٍ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 10] . فَقَدْ رَأَيْتَ وُرُودَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ فِي الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ. فَلَا يَظْهَرُ مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّرْجِيحِ. بَلْ قَدْ يُقَالُ: التَّرْجِيحُ لِلْفَرَحِ: لِأَنَّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُوصَفُ بِهِ. وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُهُ دُونَ السُّرُورِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَكْمَلُ مِنْ مَعْنَى السُّرُورِ، وَأَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] وَأَثْنَى عَلَى السُّعَدَاءِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] وَقَوْلُهُ {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 9] فَعَدَلَ إِلَى لَفْظِ السُّرُورِ لِاتِّفَاقِ رُءُوسِ الْآيِ. وَلَوْ أَنَّهُ تَرْجَمَ الْبَابَ بِبَابِ الْفَرَحِ، لَكَانَ أَشَدَّ مُطَابَقَةً لِلْآيَةِ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بِهَا. وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ. فَالْمَقْصُودُ أَمْرٌ وَرَاءَ ذَلِكَ. [دَرَجَاتُ السُّرُورِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى سُرُورُ ذَوْقٍ] قَالَ: وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ: عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: سُرُورُ ذَوْقٍ. ذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَحْزَانٍ: حُزْنٌ أَوْرَثَهُ خَوْفُ الِانْقِطَاعِ. وَحُزْنٌ هَاجَمَتْهُ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ. وَحُزْنٌ بَعَثَتْهُ وَحْشَةُ التَّفَرُّقِ. السُّرُورُ ضِدُّ الْحُزْنِ. وَالْحُزْنُ لَا يُجَامِعُهُ: كَانَ مُذْهِبًا لَهُ. وَلَمَّا كَانَ سَبَبُهُ: ذَوْقَ الشَّيْءِ السَّارِّ. فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الذَّوْقُ أَتَمَّ: كَانَ السُّرُورُ بِهِ أَكْمَلَ. وَهَذَا السُّرُورُ يُذْهِبُ ثَلَاثَةَ أَحْزَانٍ. الْحُزْنُ الْأَوَّلُ: حُزْنٌ أَوْرَثَهُ خَوْفُ الِانْقِطَاعِ. وَهَذَا حُزْنُ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رَكْبِ الْمُحِبِّينَ، وَوَفْدِ الْمَحَبَّةِ، فَأَهْلُ الِانْقِطَاعِ هُمُ الْمُتَخَلِّفُونَ عَنْ صُحْبَةِ هَذَا الرَّكْبِ وَهَذَا

الْوَفْدِ. وَهُمُ الَّذِينَ {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] فَثَبَّطَ عَزَائِمَهُمْ وَهِمَمَهُمْ: أَنْ تَسِيرَ إِلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ. وَأَمَرَ قُلُوبَهُمْ أَمْرًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا: أَنْ تَقْعُدَ مَعَ الْقَاعِدِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ السَّعْيِ إِلَى مَحَابِّهِ. فَلَوْ عَايَنْتَ قُلُوبَهُمْ - حِينَ أُمِرَتْ بِالْقُعُودِ عَنْ مُرَافَقَةِ الْوَفْدِ، وَقَدْ غَمَرَتْهَا الْهُمُومُ، وَعَقَدَتْ عَلَيْهَا سَحَائِبُ الْبَلَاءِ، فَأَحْضَرَتْ كُلَّ حُزْنٍ وَغَمٍّ، وَأَمْوَاجُ الْقَلَقِ وَالْحَسَرَاتِ تَتَقَاذَفُ بِهَا، وَقَدْ غَابَتْ عَنْهَا الْمَسَرَّاتُ. وَنَابَتْ عَنْهَا الْأَحْزَانُ - لَعَلِمْتَ أَنَّ الْأَبْرَارَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فِي نَعِيمٍ. وَأَنَّ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رُفْقَتِهِمْ فِي جَحِيمٍ. وَهَذَا الْحُزْنُ يَذْهَبُ بِهِ ذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ. فَيُذِيقُ الصِّدِّيقَ طَعْمَ الْوَعْدِ الَّذِي وُعِدَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ. فَلَا يَعْقِلُهُ ظَنٌّ. وَلَا يَقْطَعُهُ أَمَلٌ. وَلَا تَعُوقُهُ أُمْنِيَّةٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَيُبَاشِرُ قَلْبُهُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص: 61] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ - وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ - وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223] . وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ: وَحُزْنٌ هَاجَتْهُ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ. وَهَذَا الْحُزْنُ الثَّانِي: الَّذِي يُذْهِبُ سُرُورَ الذَّوْقِ، هُوَ حَزْنُ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ. وَالْجَهْلُ نَوْعَانِ: جَهْلُ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ. وَهُوَ مُرَادُ الشَّيْخِ هَاهُنَا، وَجَهْلُ عَمَلٍ وَغَيٍّ. وَكِلَاهُمَا لَهُ ظُلْمَةٌ وَوَحْشَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَكَمَا أَنَّ الْعِلْمَ يُوجِبُ نُورًا وَأُنْسًا. فَضِدُّهُ يُوجِبُ ظُلْمَةً وَيُوقِعُ وَحْشَةً. وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعِلْمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ نُورًا وَهُدًى وَحَيَاةً. وَسَمَّى ضِدَّهُ: ظُلْمَةً وَمَوْتًا وَضَلَالًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ - وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]

وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174] وَقَالَ تَعَالَى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] . فَجَعَلَهُ رُوحًا لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ. وَنُورًا لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ. وَمَثَّلَ هَذَا النُّورَ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ - الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ - الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ - نُورٌ عَلَى نُورٍ - يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35] وَمَثَّلَ حَالَ مَنْ فَقَدَ هَذَا النُّورِ: بِمَنْ هُوَ فِي {ظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] . الْحُزْنُ الثَّالِثُ: حُزْنٌ بَعَثَتْهُ وَحْشَةُ التَّفَرُّقِ. وَهُوَ تَفَرُّقُ الْهَمِّ وَالْقَلْبِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلِهَذَا التَّفَرُّقِ حُزْنٌ مُمِضٌّ عَلَى فَوَاتِ جَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَلَذَّاتِهَا وَنَعِيمِهَا، فَلَوْ فُرِضَتْ لَذَّاتُ أَهْلِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا حَاصِلَةً لِرَجُلٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا نِسْبَةٌ إِلَى لَذَّةِ جَمْعِيَّةِ قَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ، وَفَرَحِهِ بِهِ، وَأُنْسِهِ بِقُرْبِهِ، وَشَوْقِهِ إِلَى لِقَائِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُصَدِّقُ بِهِ إِلَّا مَنْ ذَاقَهُ. فَإِنَّمَا يُصَدِّقُكَ مَنْ أَشْرَقَ فِيهِ مَا أَشْرَقَ فِيكَ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلُ: أَيَا صَاحِبِي أَمَا تَرَى نَارَهُمْ ... فَقَالَ: تُرِينِي مَا لَا أَرَى سَقَاكَ الْغَرَامُ وَلَمْ يَسْقِنِي ... فَأَبْصَرْتَ مَا لَمْ أَكُنْ مُبْصِرًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّفَرُّقِ الْمَذْكُورِ إِلَّا أَلَمُ الْوَحْشَةِ، وَنَكَدُ التَّشَتُّتِ، وَغُبَارُ الشَّعَثِ

فصل الدرجة الثانية سرور شهود

لَكَفَى بِهِ عُقُوبَةً، فَكَيْفَ؟ وَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ: أَنْ يُبْتَلَى بِصُحْبَةِ الْمُنْقَطِعِينَ وَمُعَاشَرَتِهِمْ وَخِدْمَتِهِمْ. فَتَصِيرُ أَوْقَاتُهُ - الَّتِي هِيَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ - وَلَا قِيمَةَ لَهَا، مُسْتَغْرَقَةً فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَنَيْلِ أَغْرَاضِهِمْ. وَهَذِهِ عُقُوبَةُ قَلْبٍ ذَاقَ حَلَاوَةَ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ وَالْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ وَالْأُنْسِ بِهِ. ثُمَّ آثَرَ عَلَى ذَلِكَ سِوَاهُ. وَرَضِيَ بِطَرِيقَةِ بَنِي جِنْسِهِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ. وَمَنْ لَهُ أَدْنَى حَيَاةٍ فِي قَلْبِهِ وَنُورٍ فَإِنَّهُ يَسْتَغِيثُ قَلْبُهُ مِنْ وَحْشَةِ هَذَا التَّفَرُّقِ. كَمَا تَسْتَغِيثُ الْحَامِلُ عِنْدَ وِلَادَتِهَا. فَفِي الْقَلْبِ شَعَثٌ، لَا يَلُمُّهُ إِلَّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ. وَفِيهِ وَحْشَةٌ، لَا يُزِيلُهَا إِلَّا الْأُنْسُ بِهِ فِي خَلْوَتِهِ. وَفِيهِ حُزْنٌ لَا يُذْهِبُهُ إِلَّا السُّرُورُ بِمَعْرِفَتِهِ وَصِدْقِ مُعَامَلَتِهِ. وَفِيهِ قَلَقٌ لَا يُسَكِّنُهُ إِلَّا الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ، وَالْفِرَارُ مِنْهُ إِلَيْهِ. وَفِيهِ نِيرَانُ حَسَرَاتٍ: لَا يُطْفِئُهَا إِلَّا الرِّضَا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَقَضَائِهِ، وَمُعَانَقَةُ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ لِقَائِهِ. وَفِيهِ طَلَبٌ شَدِيدٌ: لَا يَقِفُ دُونَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَحْدَهُ مَطْلُوبَهُ. وَفِيهِ فَاقَةٌ: لَا يَسُدُّهَا إِلَّا مَحَبَّتُهُ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَدَوَامُ ذِكْرِهِ، وَصِدْقُ الْإِخْلَاصِ لَهُ. وَلَوْ أُعْطِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَمْ تَسُدَّ تِلْكَ الْفَاقَةَ مِنْهُ أَبَدًا. فَالتَّفَرُّقُ يُوقِعُ وَحْشَةَ الْحِجَابِ. وَأَلَمُهُ أَشَدُّ مِنْ أَلَمِ الْعَذَابِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15] . فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ عَذَابُ الْحِجَابِ وَعَذَابُ الْجَحِيمِ. وَ " الذَّوْقُ " الَّذِي يُذْهِبُ وَحْشَةَ هَذَا التَّفَرُّقِ: هُوَ الذَّوْقُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي قَوْلِهِ: ذَوْقُ الْإِرَادَةِ طَعْمَ الْأُنْسِ. فَلَا يَعْلَقُ بِهِ شَاغِلٌ. وَلَا يُفْسِدُهُ عَارِضٌ. وَلَا تُكَدِّرُهُ تَفْرِقَةٌ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ سُرُورُ شُهُودٍ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: سُرُورُ شُهُودٍ. كَشَفَ حِجَابَ الْعِلْمِ، وَفَكَّ رِقَّ التَّكْلِيفِ. وَنَفَى صَغَارَ الِاخْتِيَارِ. يُرِيدُ: أَنَّ الْعِلْمَ حِجَابٌ عَلَى الْمَعْرِفَةِ. فَشُهُودُ كَشْفِ ذَلِكَ الْحِجَابِ، حَتَّى

يُفْضِيَ الْقَلْبُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ: يُوجِبُ سُرُورًا. وَ " الْعِلْمُ " عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ: اسْتِدْلَالٌ. وَالْمَعْرِفَةُ ضَرُورِيَّةٌ. فَالْعِلْمُ: لَهُ الْخَبَرُ. وَالْمَعْرِفَةُ: لَهَا الْعِيَانُ، فَالْعِلْمُ عِنْدَهُمْ حِجَابٌ عَلَى الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْعِلْمِ. وَالْعِلْمُ لَهَا كَالصِّوَانِ لِمَا تَحْتَهُ، فَهُوَ حِجَابٌ عَلَيْهِ. وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْهُ. وَمِثَالُ هَذَا: أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ فِي حَوْمَةِ ثَلْجٍ ثُقْبًا خَالِيًا: اسْتَدْلَلْتَ بِهِ عَلَى أَنَّ تَحْتَهُ حَيَوَانًا يَتَنَفَّسُ، فَهَذَا عِلْمٌ. فَإِذَا حَفَرْتَهُ، وَشَاهَدْتَ الْحَيَوَانَ. فَهَذِهِ مَعْرِفَةٌ. قَوْلُهُ " وَفَكَّ رِقَّ التَّكْلِيفِ " عِبَارَةٌ قَلِقَةٌ، غَيْرُ سَدِيدَةٍ. وَ " رِقُّ التَّكْلِيفِ " لَا يُفَكُّ إِلَى الْمَمَاتِ. وَكُلَّمَا تَقَدَّمَ الْعَبْدُ مَنْزِلًا شَاهَدَ مِنْ رَقِّ تَكْلِيفِهِ مَا لَمْ يَكُنْ شَاهَدَهُ مِنْ قَبْلُ، فَرِقُّ التَّكْلِيفِ: أَمْرٌ لَازِمٌ لِلْمُكَلَّفِ مَا بَقِيَ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَالَّذِي يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ: أَنَّ السُّرُورَ بِالذَّوْقِ - الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ - يُعْتِقُ الْعَبْدَ مِنْ رِقِّ التَّكْلِيفِ، بِحَيْثُ لَا يَعُدُّهُ تَكْلِيفًا. بَلْ تَبْقَى الطَّاعَاتُ غِذَاءً لِقَلْبِهِ، وَسُرُورًا لَهُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ فِي حَقِّهِ، وَنَعِيمًا لِرُوحِهِ. يَتَلَذَّذُ بِهَا، وَيَتَنَعَّمُ بِمُلَابَسَتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَعَّمُ بِمُلَابَسَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ. فَإِنَّ اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةَ الْقَلْبِيَّةَ أَقْوَى وَأَتَمُّ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ. فَلَا يَجِدُ فِي أَوْرَادِ الْعِبَادَةِ كُلْفَةً. وَلَا تَصِيرُ تَكْلِيفًا فِي حَقِّهِ. فَإِنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْمُحِبُّ الصَّادِقُ، وَيَأْتِي بِهِ فِي خِدْمَةِ مَحْبُوبِهِ: هُوَ أَسَرُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ. وَأَلَذُّهُ عِنْدَهُ. وَلَا يَرَى ذَلِكَ تَكْلِيفًا، لِمَا فِي التَّكْلِيفِ: مِنْ إِلْزَامِ الْمُكَلَّفِ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا سَمَّى أَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ: وَصِيَّةً، وَعَهْدًا، وَمَوْعِظَةً، وَرَحْمَةً وَلَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهَا اسْمَ التَّكْلِيفِ إِلَّا فِي جَانِبِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وَوُقُوعُ الْوُسْعِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ التَّكْلِيفِ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الِاسْمِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا. فَهَذَا أَقْرَبُ مَا يُؤَوَّلُ بِهِ كَلَامُهُ. عَلَى أَنَّ لِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالًا. وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَ: إِنَّمَا هِيَ لِأَقْوَامٍ انْتَقَلَتْ عِبَادَاتُهُمْ مِنْ ظَوَاهِرِهِمْ إِلَى بَوَاطِنِهِمْ. فَانْتَقَلَ حُكْمُ أَوْرَادِهِمْ إِلَى وَارِدَاتِهِمْ. فَاسْتَغْنَوْا بِالْوَارِدَاتِ عَنِ الْأَوْرَادِ، وَبِالْحَقَائِقِ عَنِ الرُّسُومِ، وَبِالْمَعَانِي عَنِ الصُّوَرِ. فَخَلَصُوا مِنْ رِقِّ التَّكْلِيفِ الْمُخْتَصِّ بِالْعِلْمِ، وَقَامُوا بِالْحَقِيقَةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْحُكْمُ. وَهَكَذَا الْأَلْفَاظُ الْمُجْمَلَةُ عُرْضَةٌ لِلْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ. قَوْلُهُ: " وَنَفْى صَغَارَ الِاخْتِيَارِ " يُرِيدُ بِهِ: أَنَّ الْعَبْدَ مَتَى كَانَ مَرْبُوطًا بِاخْتِيَارَاتِهِ،

مَحْبُوسًا فِي سِجْنِ إِرَادَاتِهِ، فَهُوَ فِي ذُلٍّ وَصَغَارٍ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ: انْتَفَى عَنْهُ صَغَارُ الِاخْتِيَارِ. وَبَقِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْرَارِ. فَيَا لَهَا مِنْ عُبُودِيَّةٍ أَوْجَبَتْ حُرِّيَّةً، وَحُرِّيَّةٍ كَمَّلَتْ عُبُودِيَّةً. فَيَصِيرُ وَاقِفًا مَعَ مَا يَخْتَارُ اللَّهُ لَهُ، لَا مَعَ مَا يَخْتَارُهُ هُوَ لِنَفْسِهِ. بَلْ يَصِيرُ مَعَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ أَلْبَتَّةَ. فَمَنْ كَانَ مَحْجُوبًا بِالْعِلْمِ عَنِ الْمَعْرِفَةِ: نَازَعَتْهُ اخْتِيَارَاتُهُ، وَنَازَعَهَا، فَهُوَ مَعَهَا فِي ذُلٍّ وَصَغَارٍ. وَمَتَى أَفْضَى إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَكُشِفَ لَهُ عَنْ حِجَابِهَا: شَاهَدَ الْبَلَاءَ نَعِيمًا، وَالْمَنْعَ عَطَاءً، وَالذُّلَّ عِزًّا، وَالْفَقْرَ غِنًى. فَانْقَادَ بَاطِنُهُ لِأَحْكَامِ الْمَعْرِفَةِ، وَظَاهِرُهُ لِأَحْكَامِ الْعِلْمِ. عَلَى أَنَّ لِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالًا، قَدْ جَالَ فِيهِ هُوَ وَطَائِفَتُهُ. فَقَالَ: هَذَا يُوجِبُ الِانْقِيَادَ لِأَحْكَامِ الْمَعْرِفَةِ، وَالتَّخَلُّصَ وَالرَّاحَةَ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْعَالِمَ يُسْعِطُكَ الْخَلَّ وَالْخَرْدَلَ. وَالْعَارِفَ يُنْشِقُكَ الْمِسْكَ وَالْعَنْبَرَ. قَالَ: وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّكَ مَعَ الْعَالِمِ فِي تَعَبٍ. وَمَعَ الْعَارِفِ فِي رَاحَةٍ. لِأَنَّ الْعَارِفَ يَبْسُطُ عُذْرَ الْعَوَالِمِ وَالْخَلَائِقِ. وَالْعَالِمَ يَلُومُ. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى النَّاسِ بِعَيْنِ الْعِلْمِ مَقَتَهُمْ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ عَذَرَهُمْ. فَانْظُرْ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي مَلْمَسُهُ نَاعِمٌ. وَسُمُّهُ زُعَافٌ قَاتِلٌ، مِنَ الِانْحِلَالِ عَنِ الدِّينِ وَدَعْوَى الرَّاحَةِ مِنْ حُكْمِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْتِمَاسِ الْأَعْذَارِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَعُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَالظَّلَمَةِ وَالْفَجَرَةِ، وَأَنَّ أَحْكَامَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ - الْوَارِدَيْنِ عَلَى أَلْسُنِ الرُّسُلِ - لِلْقُلُوبِ بِمَنْزِلَةِ سَعْطِ الْخَلِّ وَالْخَرْدَلِ، وَأَنَّ شُهُودَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الشَّامِلَةِ لِلْخَلَائِقِ، وَالْوُقُوفَ مَعَهَا، وَالِانْقِيَادَ لِحُكْمِهَا: بِمَنْزِلَةِ تَنْشِيقِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ. فَلْيَهْنِ الْكُفَّارَ وَالْفُجَّارَ وَالْفُسَّاقَ: انْتِشَاقُ هَذَا الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ، إِذَا شَهِدُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَانْقَادُوا لِحُكْمِهَا. وَيَا رَحْمَةً لِلْأَبْرَارِ الْمُحَكِّمِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَثْرَةِ سُعُوطِهِمْ بِالْخَلِّ وَالْخَرْدَلِ. فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا يَجُوزُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَهَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ. وَهَذَا يُرْضِي اللَّهَ وَهَذَا يُسْخِطُهُ: خَلٌّ وَخَرْدَلٌ، عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ. وَإِلَّا فَالْحَقِيقَةُ تُشْهِدُكَ الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ إِذَا نَظَرْتَ - عِنْدَهُمْ - إِلَى الْخَلْقِ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ: عَذَرْتَ الْجَمِيعَ. فَتَعْذِرُ مَنْ تَوَعَّدَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْظَمَ الْوَعِيدِ. وَتَهَدَّدَهُ أَعْظَمَ التَّهْدِيدِ.

فصل الدرجة الثالثة سرور سماع الإجابة

وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ! إِذَا كَانُوا مَعْذُورِينَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَكَيْفَ يُعَذِّبُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَعْذُورَ. وَيُذِيقُهُ أَشَدَّ الْعَذَابِ؟ وَهَلَّا كَانَ الْغَنِيُّ الرَّحِيمُ أَوْلَى بِعُذْرِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ؟ نَعَمْ. الْعَالِمُ النَّاصِحُ يَلُومُ بِأَمْرِ اللَّهِ. وَالْعَارِفُ الصَّادِقُ يَرْحَمُ بِقَدَرِ اللَّهِ. وَلَا يَتَنَافَى عِنْدَهُ اللَّوْمُ وَالرَّحْمَةُ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ: عُقُوبَةُ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِعُقُوبَتِهِ. فَذَلِكَ رَحْمَةٌ لَهُ وَلِلْأُمَّةِ. وَتَرْكُ عُقُوبَتِهِ زِيَادَةٌ فِي أَذَاهُ وَأَذَى غَيْرِهِ. وَأَنْتَ مَعَ الْعَالِمِ فِي تَعَبٍ يُعْقِبُ كُلَّ الرَّاحَةِ، وَمَعَ عَارِفِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ: فِي رَاحَةٍ وَهْمِيَّةٍ: تُعْقِبُ كُلَّ تَعَبٍ وَخَيْبَةٍ وَأَلَمٍ، كَمَا ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ: أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ: عَلَى قَدْرِ مَا تَتْعَبُونَ هَاهُنَا تَسْتَرِيحُونَ هُنَالِكَ. وَعَلَى قَدْرِ مَا تَسْتَرِيحُونَ هَاهُنَا تَتْعَبُونَ هُنَالِكَ. فَالْعِلْمُ يُحَذِّرُكَ، وَيَمْنَعُكَ الْوُقُوفَ حَتَّى تَبْلُغَ الْمَأْمَنَ. وَعَارِفُ الْمَلَاحِدَةِ يُوهِمُكَ الرَّاحَةَ مِنْ كَدِّ الْمَسِيرِ وَمُؤْنَةِ السَّفَرِ، حَتَّى تُؤْخَذَ فِي الطَّرِيقِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ سُرُورُ سَمَاعِ الْإِجَابَةِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: سُرُورُ سَمَاعِ الْإِجَابَةِ. وَهُوَ سُرُورٌ يَمْحُو آثَارَ الْوَحْشَةِ. وَيَقْرَعُ بَابَ الْمُشَاهَدَةِ. وَيُضْحِكُ الرُّوحَ. قَيَّدَ الشَّيْخُ السَّمَاعَ: بِكَوْنِهِ سَمَاعَ إِجَابَةٍ فَإِنَّهُ السَّمَاعُ الْمُنْتَفَعُ بِهِ، لَا مُجَرَّدَ سَمَاعِ الْإِدْرَاكِ. فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُجِيبِ وَالْمُعْرِضِ. وَبِهِ تَقُومُ الْحُجَّةُ وَيَنْقَطِعُ الْعُذْرُ. وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93] «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْيَهُودِيِّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ أُمُورِ الْغَيْبِ -: يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟ قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنِي.» وَأَمَّا سَمَاعُ الْإِجَابَةِ: فَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] أَيْ مُسْتَجِيبُونَ لَهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41] أَيْ: مُسْتَجِيبُونَ لَهُ. وَهُوَ الْمُرَادُ. وَهَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَلِّي: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَيْ أَجَابَ اللَّهُ حَمْدَ مَنْ حَمِدَهُ. وَهُوَ

السَّمْعُ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْرًا. فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] أَيْ لَجَعَلَهُمْ يَسْمَعُونَ سَمْعَ إِجَابَةٍ وَانْقِيَادٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَأَفْهَمَهُمْ. وَعَلَى هَذَا: يَكُونُ الْمَعْنَى لَأَسْمَعَ قُلُوبَهُمْ. فَإِنَّ سَمَاعَ الْقَلْبِ يَتَضَمَّنُ الْفَهْمَ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُرَادٌ. فَلَوْ عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَفْهَمَهُمْ، وَلَجَعَلَهُمْ يَسْتَجِيبُونَ لِمَا سَمِعُوهُ وَفَهِمُوهُ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ سَمَاعَ الْإِجَابَةِ هُوَ سَمَاعُ انْقِيَادِ الْقَلْبِ، وَالرُّوحِ، وَالْجَوَارِحِ، لِمَا سَمِعَتْهُ الْأُذُنَانِ. قَوْلُهُ: وَيَمْحُو آثَارَ الْوَحْشَةِ، يَعْنِي: يُزِيلُ بَقَايَا الْوَحْشَةِ الَّتِي سَبَّبَهَا تَرْكُ الِانْقِيَادِ التَّامِّ. فَإِنَّهُ عَلَى قَدْرِ فَقْدِ ذَلِكَ: تَكُونُ الْوَحْشَةُ. وَزَوَالُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالِانْقِيَادِ التَّامِّ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ يَبْقَى عَلَى أَهْلِ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ آثَارٌ. وَهُمْ أَهْلُ كَشْفِ حِجَابِ الْعِلْمِ. فَإِنَّهُمْ إِذَا انْكَشَفَ عَنْهُمْ حِجَابُ الْعِلْمِ، وَأَفْضَوْا إِلَى الْمَعْرِفَةِ: بَقِيَتْ عَلَيْهِمْ بَقَايَا مِنْ آثَارِ الْحِجَابِ. فَإِذَا حَصَلُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: زَالَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الْبَقَايَا. وَقَدْ يُوَجَّهُ كَلَامُهُ عَلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّهُ إِذَا دَعَا رَبَّهُ سُبْحَانَهُ. فَسَمِعَ رَبُّهُ دُعَاءَهُ سَمَاعَ إِجَابَةٍ، وَأَعْطَاهُ مَا سَأَلَهُ، عَلَى حَسَبِ مُرَادِهِ وَمَطْلَبِهِ، أَوْ أَعْطَاهُ خَيْرًا مِنْهُ: حَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ سُرُورٌ يَمْحُو مِنْ قَلْبِهِ آثَارَ مَا كَانَ يَجِدُهُ مِنْ وَحْشَةِ الْبُعْدِ. فَإِنَّ لِلْعَطَاءِ وَالْإِجَابَةِ سُرُورًا وَأُنْسًا وَحَلَاوَةً. وَلِلْمَنْعِ وَحْشَةً وَمَرَارَةً. فَإِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الدُّعَاءُ، وَتَكَرَّرَ مِنْ رَبِّهِ سَمَاعٌ وَإِجَابَةٌ لِدُعَائِهِ: مَحَا عَنْهُ آثَارَ الْوَحْشَةِ. وَأَبْدَلَهُ بِهَا أُنْسًا وَحَلَاوَةً. قَوْلُهُ: وَيَقْرَعُ بَابَ الْمُشَاهَدَةِ. يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مُشَاهَدَةَ حَضْرَةِ الْجَمْعِ الَّتِي يُشَمِّرُ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ عِنْدَهُ. وَإِلَّا فَمُشَاهَدَةُ الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ: قَدْ سَبَقَتْ فِي الدَّرَجَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ. وَانْتَقَلَ الْمُشَاهِدُ لِذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ. وَهُوَ مُشَاهَدَةُ الْحَضْرَةِ الْمَذْكُورَةِ. قَوْلُهُ " وَيُضْحِكُ الرُّوحَ " يَعْنِي: أَنَّ سَمَاعَ الْإِجَابَةِ يُضْحِكُ الرُّوحَ، لِسُرُورِهَا بِمَا حَصَلَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ السَّمَاعِ. وَإِنَّمَا خَصَّ الرُّوحَ بِالضَّحِكِ: لِيُخْرِجَ بِهِ سُرُورًا يُضْحِكُ النَّفْسَ وَالْعَقْلَ وَالْقَلْبَ. فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَبْلَ رَفْعِ الْحِجَابِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ، إِذْ مَحَلُّهُ النَّفْسُ. فَإِذَا ارْتَفَعَ وَمَحَا الشُّهُودُ رَسْمَ النَّفْسِ بِالْكُلِّيَّةِ: كَانَ الْإِدْرَاكُ حِينَئِذٍ بِالرُّوحِ. فَيُضْحِكُهَا بِالسُّرُورِ.

فصل منزلة السر

وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوَاعِدِ الْقَوْمِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَحْكَامِ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ وَالرُّوحِ. وَ " الْفَتْحُ " عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ: فَتْحٌ قَلْبِيٌّ، وَفَتْحٌ رُوحِيٌّ. فَالْفَتْحُ الْقَلْبِيُّ: يَجْمَعُهُ عَلَى اللَّهِ وَيَلُمُّ شَعَثَهُ، وَالْفَتْحُ الرُّوحِيُّ: يُغْنِيهِ عَنْهُ، وَيُجَرِّدُهُ مِنْهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ السِّرِّ] [حَقِيقَةُ السِّرِّ] فَصْلٌ وَمِنْهَا مَنْزِلَةُ السِّرِّ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: بَابُ السِّرِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} [هود: 31] أَصْحَابُ السِّرِّ: هُمُ الْأَخْفِيَاءُ الَّذِينَ وَرَدَ فِيهِمُ الْخَبَرُ. أَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِالْآيَةِ، فَوَجْهُهُ: أَنَّ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ الَّذِينَ صَدَّقُوهُمْ، وَآثَرُوا اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ عَلَى قَوْمِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ قَدْ أَوْدَعَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ سِرًّا مِنْ أَسْرَارِ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، خَفِيَ عَلَى أَعْدَاءِ الرُّسُلِ، فَنَظَرُوا إِلَى ظَوَاهِرِهِمْ، وَعَمُوا عَنْ بَوَاطِنِهِمْ فَازْدَرَوْهُمْ وَاحْتَقَرُوهُمْ، وَقَالُوا لِلرَّسُولِ: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ عَنْكَ، حَتَّى نَأْتِيَكَ وَنَسْمَعَ مِنْكَ، وَقَالُوا: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] فَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31] قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّبَعُونِي فِي بَادِي الرَّأْيِ وَظَاهِرِهِ، فَلَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أَطَّلِعَ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا رَأَيْتُ مَنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ عَمِلْتُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَرَدَدْتُ عِلْمَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ، إِذْ أَهَّلَهُمْ لِقَبُولِ دِينِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِيمٌ حَكِيمٌ، يَضَعُ الْعَطَاءَ فِي مَوَاضِعِهِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]

فصل أصحاب السر ثلاث طبقات

فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهَّلَهُمْ لِلْهُدَى وَالْحَقِّ، وَحَرَمَهُ رُؤَسَاءَ الْكُفَّارِ وَأَهْلَ الْعِزَّةِ وَالثَّرْوَةِ مِنْهُمْ، كَأَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِعَطَاءِ الدُّنْيَا عَلَى عَطَاءِ الْآخِرَةِ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُؤَهِّلُهُ لِذَلِكَ لِسِرٍّ عِنْدَهُ: مِنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ النِّعْمَةِ، وَرُؤْيَتِهَا مِنْ مُجَرَّدِ فَضْلِ الْمُنْعِمِ، وَمَحَبَّتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَيْهَا. وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ عِنْدَهُ هَذَا السِّرُّ. فَلَا يُؤَهَّلُ كُلُّ أَحَدٍ لِهَذَا الْعَطَاءِ. قَوْلُهُ: أَصْحَابُ السِّرِّ: هُمُ الْأَخْفِيَاءُ الَّذِينَ وَرَدَ فِيهِمُ الْخَبَرُ قَدْ يُرِيدُ بِهِ: حَدِيثَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. حَيْثُ قَالَ لَهُ ابْنُهُ: أَنْتَ هَاهُنَا وَالنَّاسُ يَتَنَازَعُونَ فِي الْإِمَارَةِ؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ» . وَقَدْ يُرِيدُ بِهِ: قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ، وَقَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَقَدْ «مَرَّ بِهِ رَجُلٌ: فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا حَرِيٌّ، إِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ. ثُمَّ مَرَّ بِهِ آخَرُ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا حَرِيٌّ إِنْ شَفَعَ أَلَّا يُشَفَّعَ، وَإِنْ خَطَبَ: أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ قَالَ: أَلَّا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ مِثْلِ هَذَا» . [فَصْلٌ أَصْحَابُ السِّرِّ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ] [الْأُولَى طَائِفَةٌ عَلَتْ هِمَمُهُمْ وَصَفَتْ قُصُودُهُمْ] فَصْلٌ قَالَ: وَهُمْ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ الطَّبَقَةُ الْأُولَى: طَائِفَةٌ عَلَتْ هِمَمُهُمْ، وَصَفَتْ

قُصُودُهُمْ. وَصَحَّ سُلُوكُهُمْ. وَلَنْ يُوقَفَ لَهُمْ عَلَى رَسْمٍ. وَلَمْ يُنْسَبُوا إِلَى اسْمٍ. وَلَمْ يُشَرْ إِلَيْهِمْ بِالْأَصَابِعِ. أُولَئِكَ ذَخَائِرُ اللَّهِ حَيْثُ كَانُوا. ذَكَرَ لَهُمْ ثَلَاثَ صِفَاتٍ ثُبُوتِيَّةٍ، وَثَلَاثًا سَلْبِيَّةً. الْأُولَى: عُلُوُّ هِمَمِهِمْ. وَعُلُوُّ الْهِمَّةِ: أَنْ لَا تَقِفَ دُونَ اللَّهِ، وَلَا تَتَعَوَّضَ عَنْهُ بِشَيْءٍ سِوَاهُ. وَلَا تَرْضَى بِغَيْرِهِ بَدَلًا مِنْهُ. وَلَا تَبِيعَ حَظَّهَا مِنَ اللَّهِ وَقُرْبِهِ وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالِابْتِهَاجِ لَهُ، بِشَيْءٍ مِنَ الْحُظُوظِ الْخَسِيسَةِ الْفَانِيَةِ. فَالْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ عَلَى الْهِمَمِ: كَالطَّائِرِ الْعَالِي عَلَى الطُّيُورِ. لَا يَرْضَى بِمَسَاقِطِهِمْ، وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْآفَاتُ الَّتِي تَصِلُ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْهِمَّةَ كُلَّمَا عَلَتْ بَعُدَتْ عَنْ وُصُولِ الْآفَاتِ إِلَيْهَا. وَكُلَّمَا نَزَلَتْ قَصَدَتْهَا الْآفَاتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَإِنَّ الْآفَاتِ قَوَاطِعُ وَجَوَاذِبُ، وَهِيَ لَا تَعْلُو إِلَى الْمَكَانِ الْعَالِي فَتَجْتَذِبُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا تَجْتَذِبُ مِنَ الْمَكَانِ السَّافِلِ، فَعُلُوُّ هِمَّةِ الْمَرْءِ: عُنْوَانُ فَلَاحِهِ، وَسُفُولُ هِمَّتِهِ: عُنْوَانُ حِرْمَانِهِ. الْعَلَامَةُ الثَّانِيَةُ: صَفَاءُ الْقَصْدِ، وَهُوَ خَلَاصُهُ مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَعُوقُهُ عَنْ مَقْصُودِهِ، فَصَفَاءُ الْقَصْدِ: تَجْرِيدُهُ لِطَلَبِ الْمَقْصُودِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، فَهَاتَانِ آفَتَانِ فِي الْقَصْدِ؛ إِحْدَاهُمَا: أَنْ لَا يَتَجَرَّدَ لِمَطْلُوبِهِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَطْلُبَهُ لِغَيْرِهِ لَا لَذَاتِهِ. وَصَفَاءُ الْقَصْدِ: يُرَادُ بِهِ الْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى اقْتِحَامِ بَحْرِ الْفَنَاءِ عِنْدَ الشَّيْخِ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى أَنَّ الْفَنَاءَ غَايَةٌ. وَيُرَادُ بِهِ: خُلُوصُ الْقَصْدِ مِنْ كُلِّ إِرَادَةٍ تُزَاحِمُ مُرَادَ الرَّبِّ تَعَالَى، بَلْ يَصِيرُ الْقَصْدُ مُجَرَّدًا لِمُرَادِهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ يَجْعَلُ الْغَايَةَ: هِيَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى، وَعَلَامَتُهُ: انْدِرَاجُ حَظِّ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الرَّبِّ تَعَالَى، بِحَيْثُ يَصِيرُ حَظُّهُ هُوَ نَفْسُ حَقِّ رَبِّهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْبَصِيرِ الصَّادِقِ عُلُوُّ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَفَضْلُهَا عَلَى مَنْزِلَةِ الْفَنَاءِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْعَلَامَةُ الثَّالِثَةُ صِحَّةُ السُّلُوكِ وَهُوَ سَلَامَتُهُ مِنَ الْآفَاتِ وَالْعَوَائِقِ وَالْقَوَاطِعِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى الدَّرْبِ الْأَعْظَمِ، الدَّرْبِ النَّبَوِيِّ الْمُحَمَّدِيِّ، لَا عَلَى الْجَوَادِّ الْوَضْعِيَّةِ، وَالرُّسُومِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ، وَإِنْ زَخْرَفُوا لَهَا الْقَوْلَ وَدَقَّقُوا لَهَا الْإِشَارَةَ،

وَحَسَّنُوا لَهَا الْعِبَارَةَ، فَتِلْكَ مِنْ بَقَايَا النُّفُوسِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. الثَّانِي: أَنْ لَا يُجِيبَ عَلَى الطَّرِيقِ دَاعِيَ الْبَطَالَةِ وَالْوُقُوفِ وَالدَّعَةِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي سُلُوكِهِ نَاظِرًا إِلَى الْمَقْصُودِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. فَبِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَصِحُّ السُّلُوكُ، وَالْعِبَارَةُ الْجَامِعَةُ لَهَا: أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا لِوَاحِدٍ، فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَنْقَسِمُ طَلَبُهُ وَلَا مَطْلُوبُهُ، وَلَا يَتْلَوَّنُ مَطْلُوبُهُ. وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ السَّلْبِيَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا. فَأَوُّلُهَا: قَوْلُهُ: وَلَمْ يُوقَفْ لَهُمْ عَلَى رَسْمٍ. يُرِيدُ: أَنَّهُمُ انْمَحَتْ رُسُومُهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا مَا يَقِفُ عَلَيْهِ وَاقِفٌ. وَهَذَا كَلَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ، فَإِنَّ الرَّسْمَ الظَّاهِرَ الْمُعَايَنَ لَا يُمْحَى مَا دَامَ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَا يَرَوْنَ مَحْوَ هَذَا الرَّسْمِ وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيمَا يُعَبَّرُ بِالرَّسْمِ عَنْهُ. فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: الرَّسْمُ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَمَحْوُهُ هُوَ ذَهَابُ الْوُقُوفِ مَعَهُ وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ وَالرِّضَا بِهِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِ. وَمِنْهُمْ: مَنْ يُرِيدُ بِالرَّسْمِ: الظَّوَاهِرَ وَالْعَلَامَاتِ. وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى وَضْعِ اللُّغَةِ، فَإِنَّ رَسْمَ الدَّارِ هُوَ الْأَثَرُ الْبَاقِي مِنْهَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا يُسَمُّونَ الْفُقَهَاءَ وَأَهْلَ الْأَثَرِ وَنَحْوَهُمْ عُلَمَاءُ الرُّسُومِ؛ لِأَنَّهُمْ عِنْدَهُمْ لَمْ يَصِلُوا إِلَى الْحَقَائِقِ، اشْتَغَلُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا بِالظَّوَاهِرِ وَالْأَدِلَّةِ. فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا لَا رَسْمَ لَهُمْ يَقِفُونَ عِنْدَهُ، بَلِ اشْتَغَلُوا بِالْحَقَائِقِ وَالْمَعَانِي عَنِ الرُّسُومِ وَالظَّوَاهِرِ. وَلِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالٌ؛ إِذْ عِنْدَهُ أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَالْأَوَامِرَ وَالْأَوْرَادَ كُلَّهَا رُسُومٌ، وَأَنَّ الْعِبَادَ وَقَفُوا عَلَى الرُّسُومِ، وَوَقَفُوا هُمْ عَلَى الْحَقَائِقِ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّهَا لَرُسُومٌ إِلَهِيَّةٌ أَتَتْ عَلَى أَيْدِي رُسُلِهِ، وَرَسَمَ لَهُمْ أَنْ لَا يَتَعَدَّوْهَا، وَلَا يُقَصِّرُوا عَنْهَا، فَالرُّسُلُ قَعَدُوا عَلَى هَذِهِ الرُّسُومِ يَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَيْهَا، وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنْ تَجَاوُزِهَا، لِيَصِلُوا إِلَى حَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا، فَعَطَّلَ الْمَلَاحِدَةُ تِلْكَ الرُّسُومَ، وَقَالُوا إِنَّمَا الْمُرَادُ الْحَقَائِقُ، فَفَاتَتْهُمُ الرُّسُومُ وَالْحَقَائِقُ مَعًا. وَوَصَلُوا؛ وَلَكِنْ إِلَى الْحَقَائِقِ الْإِلْحَادِيَّةِ الْكُفْرِيَّةِ {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24] . {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43] .

فَأَحْسَنُ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّيْخِ " وَلَمْ يَقِفُوا مَعَ رَسْمٍ ": أَنَّهُمْ لَمْ يَنْقَطِعُوا بِشَيْءٍ سِوَى اللَّهِ عَنْهُ، فَكُلُّ مَا قُطِعَ عَنِ اللَّهِ لَمْ يَقِفُوا مَعَهُ، وَمَا أَوْصَلَهُمْ إِلَى اللَّهِ لَمْ يُفَارِقُوهُ، وَكَانَ وُقُوفُهُمْ مَعَهُ. وَقَدْ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: " لَمْ يُوقَفْ لَهُمْ عَلَى رَسْمٍ " أَنَّهُمْ لِعُلُوِّ هِمَمِهِمْ سَبَقُوا النَّاسَ فِي السَّيْرِ، فَلَمْ يَقِفُوا مَعَهُمْ، فَهُمُ الْمُفَرِّدُونَ السَّابِقُونَ، فَلِسَبْقِهِمْ لَمْ يُوقَفْ لَهُمْ عَلَى أَثَرٍ فِي الطَّرِيقِ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُتَأَخِّرُ عَنْهُمْ أَيْنَ سَلَكُوا؟ وَالْمُشَمِّرُ بَعْدَهُمْ: قَدْ يَرَى آثَارَ نِيرَانِهِمْ عَلَى بُعْدٍ عَظِيمٍ، كَمَا يَرَى الْكَوْكَبَ، وَيَسْتَخْبِرُ مِمَّنْ رَآهُمْ: أَيْنَ رَآهُمْ؟ فَحَالُهُ كَمَا قِيلَ: أُسَائِلُ عَنْكُمْ كُلَّ غَادٍ وَرَائِحٍ ... وَأُومِي إِلَى أَوْطَانِكُمْ وَأُسَلِّمُ الْعَلَامَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ " وَلَمْ يُنْسَبُوا إِلَى اسْمٍ " أَيْ: لَمْ يَشْتَهِرُوا بِاسْمٍ يُعْرَفُونَ بِهِ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي صَارَتْ أَعْلَامًا لِأَهْلِ الطَّرِيقِ. وَأَيْضًا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَقَيَّدُوا بِعَمَلٍ وَاحِدٍ يَجْرِي عَلَيْهِمُ اسْمُهُ، فَيُعْرَفُونَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ. فَإِنَّ هَذَا آفَةٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ. وَهِيَ عُبُودِيَّةٌ مُقَيَّدَةٌ، وَأَمَّا الْعُبُودِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ: فَلَا يُعْرَفُ صَاحِبُهَا بَاسِمٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَعَانِي أَسْمَائِهَا، فَإِنَّهُ مُجِيبٌ لِدَاعِيهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، فَلَهُ مَعَ كُلِّ أَهْلِ عُبُودِيَّةٍ نَصِيبٌ يَضْرِبُ مَعَهُمْ بِسَهْمٍ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِرَسْمٍ وَلَا إِشَارَةٍ، وَلَا اسْمٍ وَلَا بِزِيٍّ، وَلَا طَرِيقٍ وَضْعِيٍّ اصْطِلَاحِيٍّ، بَلْ إِنْ سُئِلَ عَنْ شَيْخِهِ؟ قَالَ: الرَّسُولُ. وَعَنْ طَرِيقِهِ؟ قَالَ: الِاتِّبَاعُ. وَعَنْ خِرْقَتِهِ؟ قَالَ: لِبَاسُ التَّقْوَى. وَعَنْ مَذْهَبِهِ؟ قَالَ: تَحْكِيمُ السُّنَّةِ. وَعَنْ مَقْصُودِهِ وَمَطْلَبِهِ؟ قَالَ: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] وَعَنْ رِبَاطِهِ وَعَنْ خَانَكَاهْ؟ قَالَ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 36] . وَعَنْ نَسَبِهِ؟ قَالَ: أَبِي الْإِسْلَامُ لَا أَبَ لِي سِوَاهُ ... إِذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيمِ وَعَنْ مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ؟ قَالَ: " «مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى

الشَّجَرَ حَتَّى تَلْقَى رَبَّهَا» ". وَاحَسْرَتَاهْ تَقَضَّى الْعُمُرُ وَانْصَرَمَتْ ... سَاعَاتُهُ بَيْنَ ذُلِّ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْقَوْمُ قَدْ أَخَذُوا دَرْبَ النَّجَاةِ وَقَدْ ... سَارُوا إِلَى الْمَطْلَبِ الْأَعْلَى عَلَى مَهْلِ وَالْعَلَامَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: " وَلَمْ يُشَرْ إِلَيْهِمْ بِالْأَصَابِعِ " يُرِيدُ: أَنَّهُمْ لِخَفَائِهِمْ عَنِ النَّاسِ لَمْ يُعَرَفُوا بَيْنَهُمْ، حَتَّى يُشِيرُوا إِلَيْهِمْ بِالْأَصَابِعِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةٌ وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ. فَإِنْ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوا لَهُ. وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ شَيْئًا» . فَسُئِلَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنْ مَعْنَى: " أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ " فَقَالَ: هُوَ الْمُبْتَدِعُ فِي دِينِهِ، الْفَاجِرُ فِي دُنْيَاهُ. وَهَذَا مَوْضِعٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ، فَإِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يُشِيرُونَ بِالْأَصَابِعِ إِلَى مَنْ يَأْتِيهِمْ بِشَيْءٍ، فَبَعْضُهُمْ يَعْرِفُهُ وَبَعْضُهُمْ لَا يَعْرِفُهُ، فَإِذَا مَرَّ: أَشَارَ مَنْ يَعْرِفُهُ إِلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ: هَذَا فُلَانٌ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ ذَمًّا لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَدْحًا، فَمَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِاجْتِهَادٍ وَعِبَادَةٍ وَزُهْدٍ وَانْقِطَاعٍ عَنِ الْخَلْقِ، ثُمَّ انْحَطَّ عَنْ ذَلِكَ، وَعَادَ إِلَى حَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ: فَإِذَا مَرَّ بِالنَّاسِ أَشَارُوا إِلَيْهِ، وَقَالُوا: هَذَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ فُتِنَ وَانْقَلَبَ، فَهَذَا الَّذِي قَالَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ: " فَلَا تَعُدُّوهُ شَيْئًا " لِأَنَّهُ انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَرَجَعَ بَعْدَ الشِّرَّةِ إِلَى أَسْوَأِ فَتْرَةٍ. وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُنْهَمِكًا فِي الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، ثُمَّ يُوقِظُهُ اللَّهُ لِآخِرَتِهِ، فَيَتْرُكُ مَا هُوَ فِيهِ، وَيُقْبِلُ عَلَى شَأْنِهِ. فَإِذَا مَرَّ أَشَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَقَالُوا: هَذَا كَانَ مَفْتُونًا. ثُمَّ تَدَارَكَهُ اللَّهُ. فَهَذَا كَانَتْ شِرَّتُهُ فِي الْمَعَاصِي. ثُمَّ صَارَتْ فِي الطَّاعَاتِ. وَالْأَوَّلُ: كَانَتْ شِرَّتُهُ فِي الطَّاعَاتِ. ثُمَّ فَتَرَتْ وَعَادَتْ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالْفُجُورِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ إِلَى الرَّجُلِ: عَلَامَةُ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمَوْرِدُ هَلَاكِهِ وَنَجَاتِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ.

فصل الثانية طائفة أشاروا عن منزل وهم في غيره ووروا بأمر وهم لغيره

قَوْلُهُ " أُولَئِكَ ذَخَائِرُ اللَّهِ حَيْثُ كَانُوا " ذَخَائِرُ الْمَلِكِ: مَا يُخَبَّأُ عِنْدَهُ، وَيَذْخُرُهُ لِمُهِمَّاتِهِ، وَلَا يَبْذُلُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَكَذَلِكَ ذَخِيرَةُ الرَّجُلِ: مَا يَذْخُرُهُ لِحَوَائِجِهِ وَمُهِمَّاتِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَمَّا كَانُوا مَسْتُورِينَ عَنِ النَّاسِ بِأَسْبَابِهِمْ، غَيْرَ مُشَارٍ إِلَيْهِمْ وَلَا مُتَمَيِّزِينَ بِرَسْمٍ دُونَ النَّاسِ، وَلَا مُنْتَسِبِينَ إِلَى اسْمِ طَرِيقٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ شَيْخٍ أَوْ زِيٍّ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ الذَّخَائِرِ الْمَخْبُوءَةِ، وَهَؤُلَاءِ أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنِ الْآفَاتِ، فَإِنَّ الْآفَاتِ كُلَّهَا تَحْتَ الرُّسُومِ وَالتَّقَيُّدِ بِهَا، وَلُزُومِ الطُّرُقِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ، وَالْأَوْضَاعِ الْمُتَدَاوَلَةِ الْحَادِثَةِ؛ هَذِهِ هِيَ الَّتِي قَطَعْتَ أَكْثَرَ الْخَلْقِ عَنِ اللَّهِ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَالْعَجَبُ أَنَّ أَهْلَهَا: هُمُ الْمَعْرُوفُونَ بِالطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ، وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَهُمْ إِلَّا الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ الْمَقْطُوعُونَ عَنِ اللَّهِ بِتِلْكَ الرُّسُومِ وَالْقُيُودِ. وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ عَنِ السُّنَّةِ؟ فَقَالَ: مَا لَا اسْمَ لَهُ سِوَى السُّنَّةِ يَعْنِي: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَيْسَ لَهُمُ اسْمٌ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ سِوَاهَا. فَمِنَ النَّاسِ: مَنْ يَتَقَيَّدُ بِلِبَاسٍ لَا يَلْبِسُ غَيْرَهُ، أَوْ بِالْجُلُوسِ فِي مَكَانٍ لَا يَجْلِسُ فِي غَيْرِهِ، أَوْ مِشْيَةٍ لَا يَمْشِي غَيْرَهَا، أَوْ بِزِيٍّ وَهَيْئَةٍ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، أَوْ عِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَتَعَبَّدُ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَعْلَى مِنْهَا، أَوْ شَيْخٍ مُعَيَّنٍ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنِ الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ الْأَعْلَى مَصْدُودُونَ عَنْهُ، قَدْ قَيَّدَتْهُمُ الْعَوَائِدُ وَالرُّسُومُ وَالْأَوْضَاعُ وَالِاصْطِلَاحَاتُ عَنْ تَجْرِيدِ الْمُتَابَعَةِ. فَأَضْحَوْا عَنْهُمَا بِمَعْزِلٍ، وَمَنْزِلَتُهُمْ مِنْهَا أَبْعَدَ مَنْزِلٍ، فَتَرَى أَحَدَهُمْ يَتَعَبَّدُ بِالرِّيَاضَةِ وَالْخُلْوَةِ، وَتَفْرِيغِ الْقَلْبِ، وَيَعُدُّ الْعِلْمَ قَاطِعًا لَهُ عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِذَا ذُكِرَ لَهُ الْمُوَالَاةُ فِي اللَّهِ وَالْمُعَادَاةُ فِيهِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ عَدَّ ذَلِكَ فُضُولًا وَشَرًّا، وَإِذَا رَأَوْا بَيْنَهُمْ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ أَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَعَدُّوهُ غَيْرًا عَلَيْهِمْ، فَهَؤُلَاءِ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ إِشَارَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الثَّانِيَةُ طَائِفَةٌ أَشَارُوا عَنْ مَنْزِلٍ وَهُمْ فِي غَيْرِهِ وَوَرُّوا بِأَمْرٍ وَهُمْ لِغَيْرِهِ] فَصْلٌ قَالَ: الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ: طَائِفَةٌ أَشَارُوا عَنْ مَنْزِلٍ وَهُمْ فِي غَيْرِهِ، وَوَرُّوا بِأَمْرٍ وَهُمْ لِغَيْرِهِ، وَنَادَوْا عَلَى شَأْنٍ وَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ فَهُمْ بَيْنَ غَيْرَةٍ عَلَيْهِمْ تَسْتُرُهُمْ وَأَدَبٍ فِيهِمْ يَصُونُهُمْ وَظَرْفٍ يُهَذِّبُهُمْ. أَهْلُ هَذِهِ الطَّبَقَةِ اسْتَسَرُّوا اخْتِيَارًا وَإِرَادَةً لِذَلِكَ، صِيَانَةً لِأَحْوَالِهِمْ، وَكَمَالًا فِي

تَمَكُّنِهِمْ، فَمَقَامَاتُهُمْ عَالِيَةٌ لَا تَرْمُقُهَا الْعُيُونُ وَلَا تُخَالِطُهَا الظُّنُونُ، يُشِيرُونَ إِلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُ مِنْ مَقَامَاتِ الْمُرِيدِينَ السَّالِكِينَ، وَبِدَايَاتِ السُّلُوكِ، وَيُخْفُونَ مَا مَكَّنَهُمْ فِيهِ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ أَحْوَالِ الْمَحَبَّةِ وَمَوَاجِيدِهَا، وَآثَارِ الْمَعْرِفَةِ وَتَوْحِيدِهَا، فَهَذِهِ هِيَ التَّوْرِيَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا. فَكَأَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ لِلْمُخَاطَبِ: أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَايَاتِ، وَهُمْ فِي أَعْلَى الْمَقَامَاتِ، يَتَكَلَّمُونَ مَعَهُمْ فِي الْبِدَايَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسُّلُوكِ، وَمَقَامُهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ، وَهُمْ مُحِقُّونَ فِي الْحَالَتَيْنِ، لَكِنَّهُمْ يَسْتُرُونَ أَشْرَفَ أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ عَنِ النَّاسِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَهُمْ مَعَ النَّاسِ بِظَوَاهِرِهِمْ، يُخَاطِبُونَهُمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ، وَلَا يُخَاطِبُونَهُمْ بِمَا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ، فَيُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ فَيَحْسَبُهُمُ الْمُخَاطَبُ مِثْلَهُ، فَالنَّاسُ عِنْدَهُمْ وَلَيْسُوا هُمْ عِنْدَ أَحَدٍ. قَوْلُهُ: " أَشَارُوا إِلَى مَنْزِلٍ، وَهُمْ فِي غَيْرِهِ " يَعْنِي: يُشِيرُونَ إِلَى مَنْزِلِ التَّوْبَةِ، وَالْمُحَاسَبَةِ وَهُمْ فِي مَنْزِلِ الْمَحَبَّةِ، وَالْوَجْدِ، وَالذَّوْقِ وَنَحْوِهَا. وَقَدْ يُرِيدُ: أَنَّهُمْ يُشِيرُونَ إِلَى أَنَّهُمْ عَامَّةٌ، وَهُمْ خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ، وَإِلَى أَنَّهُمْ جُهَّالٌ، وَهُمُ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ، وَأَنَّهُمْ مُسِيئُونَ، وَهُمْ مُحْسِنُونَ. وَعَلَى هَذَا: فَيَكُونُونَ مِنَ الطَّائِفَةِ الْمَلَامَتِيَّةِ، الَّذِينَ يُظْهِرُونَ مَا لَا يُمْدَحُونَ عَلَيْهِ، وَيُسِرُّونَ مَا يَحْمَدُهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، عَكْسُ الْمُرَائِينَ الْمُنَافِقِينَ، وَهَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مَعْرُوفَةٌ. لَهُمْ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ، تُسَمَّى طَرِيقَةَ أَهْلِ الْمَلَامَةِ وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَلَامَتِيَّةُ يَزْعُمُونَ: أَنَّهُمْ يَحْتَمِلُونَ مَلَامَ النَّاسِ لَهُمْ عَلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ. لِيَخْلُصَ لَهُمْ مَا يُبْطِنُونَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]

فَهُمْ عَامِلُونَ عَلَى إِسْقَاطِ جَاهِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ فِي قُلُوبِ النَّاسِ. لَمَّا رَأَوُا الْمُغْتَرِّينَ - الْمُغْتَرَّ بِهِمْ - مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّلُوكِ يَعْمَلُونَ عَلَى تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَتَوْفِيرِ جَاهِهِمْ فِي قُلُوبِ النَّاسِ. فَعَاكَسَهُمْ هَؤُلَاءِ وَأَظْهَرُوا بَطَالَةً وَأَبْطَنُوا أَعْمَالًا. وَكَتَمُوا أَحْوَالَهُمْ جُهْدَهُمْ. وَيَنْشُدُونَ فِي هَذِهِ الْحَالِ: فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةُ ... وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ غِضَابُ وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ ... وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ يَا غَايَةَ الْمُنَى ... فَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلْيَدْهِنْ لِحْيَتَهُ وَيَمْسَحْ شَفَتَيْهِ، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ، فَيَقُولُونَ: لَيْسَ بِصَائِمٍ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: التَّصَوُّفُ تَرْكُ الدَّعَاوَى، وَكِتْمَانُ الْمَعَانِي، وَسُئِلَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ عَنْ عَلَامَاتِ الصَّادِقِ؟ فَقَالَ: أَنْ لَا يُبَالِيَ أَنْ يُخْرِجَ كُلَّ قَدْرٍ لَهُ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِ صَلَاحِ قَلْبِهِ، وَلَا يُحِبُّ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى الْيَسِيرِ مِنْ عَمَلِهِ. وَهَذَا يُحْمَدُ فِي حَالٍ، وَيُذَمُّ فِي حَالٍ، وَيَحْسُنُ مِنْ رَجُلٍ وَيَقْبُحُ مِنْ آخَرَ، فَيُحْمَدُ إِذَا أَظْهَرَ مَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، وَلَا نَقْصَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا ذَمَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لِيَكْتُمَ بِهِ حَالَهُ وَعَمَلَهُ، كَمَا إِذَا أَظْهَرَ الْغِنَى وَكَتَمَ الْفَقْرَ وَالْفَاقَةَ، وَأَظْهَرَ الصِّحَّةَ وَكَتَمَ الْمَرَضَ، وَأَظْهَرَ النِّعْمَةَ وَكَتَمَ الْبَلِيَّةَ. فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كُنُوزِ السِّتْرِ، وَلَهُ فِي الْقَلْبِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ يَعْرِفُهُ مَنْ ذَاقَهُ، وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ شَكَاةً فَقَالَ: يَا ابْنِ أَخِي قَدْ ذَهَبَ ضَوْءُ بَصَرِي مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحْدًا. وَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي يُذَمُّ فِيهَا: فَأَنْ يُظْهِرَ مَا لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، لِيُسِيءَ بِهِ النَّاسُ الظَّنَّ، فَلَا يُعَظِّمُوهُ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ دَخَلَ الْحَمَّامَ، ثُمَّ خَرَجَ وَسَرَقَ ثِيَابَ رَجُلٍ، وَمَشَى رُوَيْدًا حَتَّى أَدْرَكُوهُ، فَأَخَذُوهَا مِنْهُ وَسَبُّوهُ فَهَذَا حَرَامٌ لَا يَحِلُّ تَعَاطِيهِ، وَيَقْبُحُ أَيْضًا مِنَ الْمَتْبُوعِ الْمُقْتَدَى بِهِ ذَلِكَ، بَلْ وَمَا هُوَ دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ يُغِرُّ النَّاسَ، وَيُوقِعُهُمْ فِي التَّأَسِّي بِمَا يُظْهِرُهُ مِنْ سُوءٍ.

فَالْمَلَامَتِيَّةُ نَوْعَانِ: مَمْدُوحُونَ أَبْرَارٌ، وَمَذْمُومُونَ جُهَّالٌ. وَإِنْ كَانُوا فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِمْ. فَالْأَوَّلُونَ: الَّذِينَ لَا يُبَالُونَ بِلَوْمِ اللَّوْمِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54] فَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ: مَنْ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ.. وَالنَّوْعُ الثَّانِي الْمَذْمُومُ: هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ شَرْعًا مِنْ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ. لِيَكْتُمَ بِذَلِكَ حَالَهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» . فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِ الشَّيْخِ. قَوْلُهُ: أَشَارُوا إِلَى مَنْزِلٍ. وَهُمْ فِي غَيْرِهِ. مِثَالُهُ: أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي التَّوْبَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ وَهُمْ فِي مَنْزِلِ الْمَحَبَّةِ وَالْفَنَاءِ. قَوْلُهُ " وَوَرُّوا بِأَمْرٍ. وَهُمْ لِغَيْرِهِ " التَّوْرِيَةُ: أَنْ يَذْكُرَ لَفْظًا يَفْهَمُ بِهِ الْمُخَاطَبُ مَعْنًى، وَهُوَ يُرِيدُ غَيْرَهُ، مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: أَنَا غَنِيٌّ. فَيُوهِمُ الْمُخَاطَبَ لَهُ أَنَّهُ غَنِيٌّ بِالشَّيْءِ. وَمُرَادُهُ: غَنِيٌّ بِاللَّهِ عَنْهُ. كَمَا قِيلَ: غَنِيتُ بِلَا مَالٍ عَنِ النَّاسِ كُلِّهِمْ ... وَإِنَّ الْغِنَى الْعَالِي عَنِ الشَّيْءِ لَا بِهِ وَأَنْ يَقُولَ: مَا صَحَّ لِي مَقَامُ التَّوْبَةِ بَعْدُ. وَيُرِيدُ: مَا صَحَّتْ لِيَ التَّوْبَةُ عَنْ رُؤْيَةِ التَّوْبَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ " وَنَادَوْا عَلَى شَأْنٍ. وَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ " أَيْ: عَظَّمُوا شَأْنًا مِنْ شِئُونِ الْقَوْمِ، وَدَعُوا النَّاسَ إِلَيْهِ، وَهُمْ فِي أَعْلَى مِنْهُ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ. قَوْلُهُ: " فَهُمْ بَيْنَ غَيْرَةٍ عَلَيْهِمْ تَسْتُرُهُمْ " أَيْ: يَغَارُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ، فَيَسْتُرُهُمْ عَنِ الْخَلْقِ، وَيَغَارُونَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ، فَيَسْتُرُونَ أَحْوَالَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ لَهَا، كَمَا قِيلَ:

أَلِفَ الْخُمُولَ صِيَانَةً وَتَسَتُّرًا ... فَكَأَنَّمَا تَعْرِيفَهُ أَنْ يُنْكَرَا وَكَأَنَّهُ كَلِفُ الْفُؤَادِ بِنَفْسِهِ ... فَحَمَتْهُ غَيْرَتُهُ عَلَيْهَا أَنْ تَرَى قَوْلُهُ: وَأَدَبٌ فِيهِمْ يَصُونُهُمْ، بِهَذَا يَتِمُّ أَمْرُهُمْ، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ بِهِمْ أَدَبٌ يَصُونُهُمْ عَنْ ظَنِّ السَّوْءِ بِهِمْ، وَيَصُونُهُمْ عَنْ دَنَاءَةِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، فَأَدَبُهُمْ صِوَانٌ عَلَى أَحْوَالِهِمْ، فَهِمَّتُهُ الْعَلِيَّةُ تَرْتَفِعُ بِهِ، وَأَدَبُهُ يَرْسُو بِهِ إِلَى التُّرَابِ، كَمَا قِيلَ: أَبْلَجُ سَهْلُ الْأَخْلَاقِ مُمْتَنِعٌ ... يُبْرِزُهُ الدَّهْرُ وَهْوَ يَحْتَجِبُ إِذَا تَرَقَّتْ بِهِ عَزَائِمُهُ ... إِلَى الثُّرَيَّا رَسَا بِهِ الْأَدَبُ فَأَدَبُ الْمُرِيدِ وَالسَّالِكِ: صِوَانٌ لَهُ، وَتَاجٌ عَلَى رَأْسِهِ. قَوْلُهُ: " وَظَرْفٌ يُهَذِّبُهُمْ " التَّهْذِيبُ: هُوَ التَّأْدِيبُ وَالتَّصْفِيَةُ. وَ " الظَّرْفُ " فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ: أَحْلَى مِنْ كُلِّ حُلْوٍ. وَأَزْيَنُ مِنْ كُلِّ زَيْنٍ. فَمَا قُرِنَ شَيْءٌ إِلَى شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ ظَرْفٍ إِلَى صِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ، وَسِرٍّ مَعَ اللَّهِ وَجَمْعِيَّةٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ عُنِيَ بِهَذَا الشَّأْنِ تَضِيقُ نَفْسُهُ وَأَخْلَاقُهُ عَنْ سِوَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ، فَتَثْقُلُ وَطْأَتُهُ عَلَى أَهْلِهِ وَجَلِيسِهِ، وَيَضْمَنُ عَلَيْهِ بِبِشْرِهِ، وَالتَّبَسُّطِ إِلَيْهِ، وَلِينِ الْجَانِبِ لَهُ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّهُ لَمَعْذُورٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ بِمَشْكُورٍ، فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ أَغْيَارٌ، إِلَّا مَنْ أَعَانَكَ عَلَى شَأْنِكَ وَسَاعَدَكَ عَلَى مَطْلُوبِكَ. فَإِذَا تَمَكَّنَ الْعَبْدُ فِي حَالِهِ وَصَارَ لَهُ إِقْبَالٌ عَلَى اللَّهِ وَجَمْعِيَّةٌ عَلَيْهِ مَلَكَةً وَمَقَامًا رَاسِخًا أَنِسَ بِالْخَلْقِ وَأَنِسُوا بِهِ، وَانْبَسَطَ إِلَيْهِمْ وَحَمَلَهُمْ عَلَى ضَلَعِهِمْ وَبُطْءِ سَيْرِهِمْ، فَعَكَفَتِ الْقُلُوبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ لِلُطْفِهِ وَظَرْفِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَنْفِرُونَ مِنَ الْكَثِيفِ وَلَوْ بَلَغَ فِي الدِّينِ مَا بَلَغَ، وَلِلَّهِ مَا يَجْلِبُ اللُّطْفُ وَالظَّرْفُ مِنَ الْقُلُوبِ، وَيَدْفَعُ عَنْ صَاحِبِهِ مِنَ الشَّرِّ، وَيُسَهِّلُ لَهُ مَا تَوَعَّرَ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَيْسَ الثُّقَلَاءُ بِخَوَاصِّ الْأَوْلِيَاءِ، وَمَا ثَقُلَ أَحَدٌ عَلَى قُلُوبِ الصَّادِقِينَ الْمُخْلِصِينَ إِلَّا مِنْ آفَةٍ هُنَاكَ، وَإِلَّا فَهَذِهِ الطَّرِيقُ تَكْسُو الْعَبْدَ حَلَاوَةً وَلَطَافَةً وَظَرْفًا، فَتَرَى الصَّادِقَ فِيهَا مِنْ أَحْلَى النَّاسِ وَأَلْطَفِهِمْ وَأَظْرَفِهِمْ، قَدْ زَالَتْ عَنْهُ ثَقَالَةُ النَّفْسِ وَكُدُورَةُ الطَّبْعِ، وَصَارَ رُوحَانِيًّا سَمَائِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ حَيَوَانِيًّا أَرْضِيًّا، فَتَرَاهُ أَكْرَمَ النَّاسِ عِشْرَةً، وَأَلْيَنَهُمْ عَرِيكَةً، وَأَلْطَفَهُمْ قَلْبًا وَرُوحًا، وَهَذِهِ خَاصَّةُ الْمَحَبَّةِ، فَإِنَّهَا تَلْطُفُ وَتَظْرُفُ وَتَنْظُفُ. وَمِنْ ظَرْفِ أَهْلِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ: أَنْ لَا يَظْهَرَ أَحَدُهُمْ عَلَى جَلِيسِهِ بِحَالٍ وَلَا مَقَامٍ.

فصل الثالثة طائفة أسرهم الحق عنهم فألاح لهم لائحا أذهلهم عن إدراك ما هم فيه

وَلَا يُوَاجِهَهُ إِذَا لَقِيَهُ بِالْحَالِ، بَلْ بِلِينِ الْجَانِبِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ، فَيَفْرِشُ لَهُ بِسَاطَ الْأُنْسِ وَيُجْلِسُهُ عَلَيْهِ. فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْفُرُشِ الْوَثِيرَةِ. وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَصَّابُ أُسْتَاذُ الْجُنَيْدِ عَنِ التَّصَوُّفِ؟ فَقَالَ: أَخْلَاقٌ كَرِيمَةٌ ظَهَرَتْ فِي زَمَانٍ كَرِيمٍ مَعَ قَوْمٍ كِرَامٍ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَهَذِهِ الطَّرِيقُ لَا تُنَافِي اللُّطْفَ وَالظَّرْفَ. وَالصَّلَفُ بَلْ هِيَ أَصْلَفُ شَيْءٍ لَكِنْ هَاهُنَا دَقِيقَةٌ قَاطِعَةٌ وَهِيَ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِنَّهَا أَقْطَعُ شَيْءٍ لِلْمُرِيدِ وَالسَّالِكِ، فَمَنِ اسْتَرْسَلَ مَعَهَا قَطَعَتْهُ، وَمَنْ عَادَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَعُرَتْ عَلَيْهِ طَرِيقُ سُلُوكِهِ، وَمَنِ اسْتَعَانَ بِهَا أَرَاحَتْهُ فِي طَرِيقِهِ، أَوْ أَرَاحَتْ غَيْرَهُ بِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ وَأَهْلُ هَذِهِ الطَّبَقَةِ، أَثْقَلُ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ: الْبَحْثُ عَمَّا جَرَيَاتِ النَّاسِ، وَطَلَبُ تَعَرُّفِ أَحْوَالِهِمْ، وَأَثْقَلُ مَا عَلَى قُلُوبِهِمْ سَمَاعُهَا، فَهُمْ مَشْغُولُونَ عَنْهَا بِشَأْنِهِمْ، فَإِذَا اشْتَغَلُوا بِمَا لَا يَعْنِيهِمْ مِنْهَا فَاتَهُمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ عِنَايَةً لَهُمْ، وَإِذَا عَدَّ غَيْرُهُمْ الِاشْتِغَالَ بِذَلِكَ وَسَمَاعَهُ مِنْ بَابِ الظَّرْفِ وَالْأَدَبِ، وَسَتْرِ الْأَحْوَالِ كَانَ هَذَا مِنْ خِدَعِ النُّفُوسِ وَتَلْبِيسِهَا، فَإِنَّهُ يَحُطُّ الْهِمَمَ الْعَالِيَةِ مِنْ أَوْجِهَا إِلَى حَضِيضِهَا، وَرُبَّمَا يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يُحَصِّلَ هِمَّةً أُخْرَى يَصْعَدُ بِهَا إِلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، فَأَهْلُ الْهِمَمِ وَالْفِطَنِ الثَّاقِبَةِ لَا يَفْتَحُونَ مِنْ آذَانِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ طَرِيقًا إِلَى ذَلِكَ، إِلَّا مَا تَقَاضَاهُ الْأَمْرُ، وَكَانَتْ مَصْلَحَتُهُ أَرْجَحَ، وَمَا عَدَاهُ فَبَطَالَةٌ وَحَطُّ مَرْتَبَةٍ. [فَصْلٌ الثَّالِثَةُ طَائِفَةٌ أَسَرَهُمُ الْحَقُّ عَنْهُمْ فَأَلَاحَ لَهُمْ لَائِحًا أَذْهَلَهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ مَا هُمْ فِيهِ] فَصْلٌ قَالَ: الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ: طَائِفَةٌ أَسَرَهُمُ الْحَقُّ عَنْهُمْ، فَأَلَاحَ لَهُمْ لَائِحًا أَذْهَلَهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ مَا هُمْ فِيهِ وَهَيَّمَهُمْ عَنْ شُهُودِ مَا هُمْ لَهُ، وَضَنَّ بِحَالِهِمْ عَنْ عِلْمِهِمْ مَا هُمْ بِهِ، فَاسْتَسَرُّوا عَنْهُمْ مَعَ شَوَاهِدَ تَشْهَدُ لَهُمْ بِصِحَّةِ مَقَامِهِمْ، عَنْ قَصْدٍ صَادِقٍ يُهَيِّجُهُ غَيْبٌ وَحُبٌّ صَادِقٌ يَخْفَى عَلَيْهِ عِلْمُهُ، وَوَجْدٌ غَرِيبٌ لَا يَنْكَشِفُ لَهُ مُوقِدُهُ، وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْوِلَايَةِ.

أَهْلُ هَذِهِ الطَّبَقَةِ: أَحَقُّ بِاسْمِ السِّرِّ مِنَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتْ أَحْوَالُ الْقَلْبِ، وَمَوَاهِبُ الرَّبِّ الَّتِي وَضَعَهَا فِيهِ سِرًّا عَنْ صَاحِبِهِ، بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ هُوَ بِهَا، شُغْلًا عَنْهَا بِالْعَزِيزِ الْوَهَّابِ سُبْحَانَهُ، فَلَا يَتَّسِعُ قَلْبُهُ لِاشْتِغَالِهِ بِهِ وَبِغَيْرِهِ، بَلْ يَشْتَغِلُ بِمُجْرِيهَا وَمُنْشِئِهَا وَوَاهِبِهَا عَنْهَا فَهَذَا أَقْوَى وُجُوهِ السِّرِّ، بَلْ ذَلِكَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ، وَمِنْ أَعْظَمِ السِّتْرِ وَالْإِخْفَاءِ أَنْ يَسْتُرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَالَ عَبْدِهِ وَيُخْفِيهِ عَنْهُ، رَحْمَةً بِهِ وَلُطْفًا، لِئَلَّا يُسَاكِنَهُ وَيَنْقَطِعَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ خِلْعَةٌ مِنْ خِلَعِ الْحَقِّ تَعَالَى، فَإِذَا سَتَرَهَا صَاحِبُهَا وَمُلْبِسُهَا عَنْ عَبْدِهِ، فَقَدْ أَرَادَ بِهِ أَنْ لَا يَقِفَ مَعَ شَيْءٍ دُونَهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ السِّتْرُ مِمَّا يَشْتَغِلُ بِهِ الْعَبْدُ عَنْ مُشَاهَدَةِ جَلَالِ الرَّبِّ تَعَالَى وَكَمَالِهِ وَجَمَالِهِ، أَعْنِي مُشَاهَدَةَ الْقَلْبِ لِمَعَانِي تِلْكَ الصِّفَاتِ وَاسْتِغْرَاقِهِ فِيهَا. وَعَلَامَةُ هَذَا الشُّهُودِ الصَّحِيحِ: أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ مَعْمُورًا بِالْإِحْسَانِ، وَظَاهِرُهُ مَغْمُورًا بِالْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ ظَاهِرُهُ عُنْوَانًا لِبَاطِنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا اتَّصَفَ بِهِ، وَبَاطِنُهُ مُصَحِّحًا لِظَاهِرِهِ، هَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْفَنَاءِ. وَأَكْمَلُ مِنْهُ: أَنْ يَشْهَدَ مَا وَهَبَهُ اللَّهُ لَهُ وَيُلَاحِظُهُ وَيَرَاهُ مِنْ مَحْضِ الْمِنَّةِ وَعَيْنِ الْجُودِ، فَلَا يَفْنَى بِالْمُعْطَى عَنْ رُؤْيَةِ عَطِيَّتِهِ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِالْعَطِيَّةِ عَنْ مُعْطِيهَا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْفَرَحِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِرُؤْيَةِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَمُلَاحَظَتِهِمَا، وَأَمَرَ بِذِكْرِ نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [فاطر: 3] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] . فَلَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْفَنَاءِ عَنْ شُهُودِ نِعْمَتِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقَامُ الْفَنَاءِ أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِ شُهُودِهَا مِنْ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ. وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تَأْخُذُنَا فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا تَأْخُذُ أَرْبَابَ الْفَنَاءِ فِي تَرْجِيحِ الْفَنَاءِ عَلَيْهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. فَقَوْلُهُ: " أَسَرَهُمُ الْحَقُّ عَنْهُمْ " أَيْ: شَغَلَهُمْ بِهِ عَنْ ذِكْرِ أَنْفُسِهِمْ، فَأَنْسَاهُمْ بِذِكْرِهِ ذِكْرَ نُفُوسِهِمْ، وَهَذَا ضِدَّ حَالِ الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمَّا نَسُوهُ أَنْسَاهُمْ مَصَالِحَ أَنْفُسِهِمُ الَّتِي لَا صَلَاحَ لَهُمْ إِلَّا بِهَا، فَلَا يَطْلُبُونَهَا، وَأَنْسَاهُمْ عُيُوبَهُمْ،

فَلَا يُصْلِحُونَهَا، وَهَؤُلَاءِ أَنْسَاهُمْ حُظُوظَهُمْ بِحُقُوقِهِ، وَذِكْرَ مَا سِوَاهُ بِذِكْرِهِ، وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخَذَهُمْ إِلَيْهِ وَشَغَلَهُمْ بِهِ عَنْهُمْ. قَوْلُهُ: وَأَلَاحَ لَهُمْ لَائِحًا أَذْهَلَهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ مَا هُمْ فِيهِ. أَلَاحَ؛ أَيْ: أَظْهَرَ، وَالْمَعْنَى: أَظْهَرَ لَهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ جَمَالِهِ وَجَلَالِهِ لَائِحًا مَا لَمْ تَتَّسِعْ قُلُوبُهُمْ بَعْدَهُ لِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ، وَهَذَا رَقِيقَةٌ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِذَا تَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ وَأَرَاهُمْ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى سِوَاهُ أَلْبَتَّةَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ: «فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ» . وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا اللَّائِحَ الَّذِي أَلَاحَهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ أَذْهَلَهُمْ عَنِ الشُّعُورِ بِغَيْرِهِ. قَوْلُهُ: " هَيَّمَهُمْ عَنْ شُهُودِ مَا هُمْ لَهُ " يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: أَنَّ هَذَا اللَّائِحَ هَيَّمَهُمْ عَنْ شُهُودِ مَا خُلِقُوا لَهُ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهِمُ اتِّسَاعٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لِقُوَّةِ الْوَارِدِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ الْمَحَلِّ، حَيْثُ لَمْ يَتَّسِعِ الْقَلْبُ مَعَهُ لِذِكْرِ مَا خُلِقَ لَهُ، وَالْكَمَالُ: أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ الْأَمْرَانِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: أَنَّ هَذَا اللَّائِحَ غَيَّبَهُمْ عَنْ شُهُودِ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي هُمْ لَهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَغَابُوا بِمَشْهُودِهِمْ عَنْ شُهُودِهِمْ، وَبِمَعْرُوفِهِمْ عَنْ مَعْرِفَتِهِمْ، وَبِمَعْبُودِهِمْ عَنْ عِبَادَتِهِمْ، فَإِنَّ الْهَائِمَ لَا يَشْعُرُ بِمَا هُوَ فِيهِ وَلَا بِحَالِ نَفْسِهِ، وَفِي الصِّحَاحِ: الْهُيَامُ كَالْجُنُونِ مِنَ الْعِشْقِ. قَوْلُهُ: " وَضَنَّ بِحَالِهِمْ عَنْ عِلْمِهِمْ " أَيْ: بَخِلَ بِهِ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ عِلْمُهُمْ أَنْ يُدْرِكَ حَالَهُمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، قَوْلُهُ: " فَاسْتَسَرُّوا عَنْهُمْ " أَيِ: اخْتَفُوا حَتَّى عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ تَعْلَمْ نُفُوسُهُمْ كَيْفَ هُمْ؟ وَلَا تُبَادِرُ بِإِنْكَارِ هَذَا، تَكُنْ مِمَّنْ لَا يَصِلُ إِلَى الْعُنْقُودِ، فَيَقُولُ: هُوَ حَامِضٌ. قَوْلُهُ: مَعَ شَوَاهِدَ تَشْهَدُ لَهُمْ بِصِحَّةِ مَقَامِهِمْ. يُرِيدُ: أَنَّهُمْ لَمْ يُعَطِّلُوا أَحْكَامَ الْعُبُودِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ بِفَسَادِ أَحْوَالِهِمْ، بَلْ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ شَوَاهِدُ صَحِيحَةٌ، تَشْهَدُ لَهُمْ بِصِحَّةِ مَقَامَاتِهِمْ، وَتِلْكَ الشَّوَاهِدُ: هِيَ الْقِيَامُ بِالْأَمْرِ وَآدَابِ الشَّرِيعَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. قَوْلُهُ: عَنْ قَصْدٍ سَابِقٍ، يُهَيِّجُهُ غَيْبٌ

فصل منزلة النفس

يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ هَذَا الْحَرْفُ وَمَا بَعْدَهُ بِمَحْذُوفٍ، دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ؛ أَيْ: حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ عَنْ قَصْدٍ صَادِقٍ؛ أَيْ: لَازِمٍ ثَابِتٍ، لَا يَلْحَقُهُ تَلَوُّنٌ " يُهَيِّجُهُ غَيْبٌ " أَيْ: أَمْرٌ غَائِبٌ عَنْ إِدْرَاكِهِمْ هَيَّجَ لَهُمْ ذَلِكَ الْقَصْدَ الصَّادِقَ. قَوْلُهُ: وَحُبٌّ صَادِقٌ يَخْفَى عَلَيْهِ مَبْدَأُ عِلْمِهِ، أَيْ: هُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَبْدَأَ مَا بِهِمْ، وَلَا يَصِلُ عِلْمُهُمْ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَاحَ لَهُمْ ذَلِكَ اللَّائِحُ اسْتَغْرَقَ قُلُوبَهُمْ، وَشَغَلَ عُقُولَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، فَهُمْ مَأْخُوذُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَقْهُورُونَ بِوَارِدِهِمْ. قَوْلُهُ: وَوَجْدٌ غَرِيبٌ لَا يَنْكَشِفُ لِصَاحِبِهِ مُوقِدُهُ أَيْ: لَا يَنْكَشِفُ لِصَاحِبِ هَذَا الْوَجْدِ السَّبَبُ الَّذِي أَهَاجَهُ لَهُ، وَأَوْقَدَهُ فِي قَلْبِهِ، فَهُوَ لَا يَعْرِفُ السَّبَبَ الَّذِي أَوْجَدَ نَارَ وَجْدِهِ. قَوْلُهُ: " وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْوِلَايَةِ " جَعَلَهُ دَقِيقًا لِكَوْنِ الْحِسِّ مَقْهُورًا مَغْلُوبًا عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَالْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ لَا يَحْكُمَانِ عَلَيْهِ، فَضْلًا عَنِ الْحِسِّ وَالْعَادَةِ. وَحَاصِلُ هَذَا الْمَقَامِ: الِاسْتِغْرَاقُ فِي الْفَنَاءِ، وَهُوَ الْغَايَةُ عِنْدَ الشَّيْخِ وَالصَّحِيحُ: أَنَّ أَهْلَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ أَعْلَى مِنْ هَؤُلَاءِ، وَأَرْفَعُ مَقَامًا، وَهُمُ الْكُمَّلُ؛ وَهُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ، كَمَا كَانَ مَقَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ التَّجَلِّي، وَلَمْ يَحْصُلْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفَنَاءِ مَا حَصَلَ لِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ حُبُّ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْظَمَ مِنْ حُبِّ النِّسْوَةِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهَا مِنْ تَقْطِيعِ الْأَيْدِي وَنَحْوِهِ مَا حَصَلَ لَهُنَّ، وَكَانَ حُبُّ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِنْ حُبِّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالْغَشْيِ وَالْإِقْعَادِ مَا حَصَلَ لِغَيْرِهِ. فَأَهْلُ الْبَقَاءِ وَالتَّمَكُّنِ: أَقْوَى حَالًا، وَأَرْفَعُ مَقَامًا مِنْ أَهْلِ الْفَنَاءِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ مَنْزِلَةُ النَّفَسِ] [فَصْلٌ حَقِيقَةُ النَّفَسِ] فَصْلٌ وَمِنْهَا النَّفَسُ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ النَّفَسِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] .

وَجْهُ إِشَارَتِهِ بِالْآيَةِ: أَنَّ النَّفَسَ يَكُونُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْحَالِ، وَانْفِصَالِهِ عَنْ صَاحِبِهِ، فَشَبَّهَ الْحَالَ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَأْخُذُ صَاحِبَهُ فَيَغُتُّهُ وَيَغُطُّهُ، حَتَّى إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ تَنَفَّسَ نَفَسًا يَسْتَرِيحُ بِهِ وَيَسْتَرْوِحُ. قَالَ: وَيُسَمَّى النَّفَسُ: نَفَسًا، لِتَرَوُّحِ الْمُتَنَفِّسِ بِهِ " التَّنْفِيسُ " هُوَ التَّرْوِيحُ، يُقَالُ: نَفَّسَ اللَّهُ عَنْكَ الْكَرْبَ؛ أَيْ: أَرَاحَكَ مِنْهُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَهَذِهِ الْأَحْرُفُ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ النُّونُ وَالْفَاءُ وَمَا يُثَلِّثُهُمَا تَدُلُّ حَيْثُ وُجِدَتْ عَلَى الْخُرُوجِ وَالِانْفِصَالِ، فَمِنْهُ النَّفَلُ؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْأَصْلِ خَارِجٌ عَنْهُ، وَمِنْهُ: النَّفَرُ، وَالنَّفْيُ، وَالنَّفَسُ، وَنَفَقَتِ الدَّابَّةُ، وَنُفِسَتِ الْمَرْأَةُ وَنَفَسَتْ: إِذَا حَاضَتْ أَوْ وَلَدَتْ، فَالنَّفَسُ: خُرُوجٌ وَانْفِصَالٌ يَسْتَرِيحُ بِهِ الْمُتَنَفِّسُ. قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، وَهِيَ تُشَابِهُ دَرَجَاتِ الْوَقْتِ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْأَوْقَاتَ تُعَدُّ بِالْأَنْفَاسِ كَدَرَجَاتِهَا. وَأَيْضًا فَالْوَقْتُ، كَمَا قَالَ هُوَ: " حِينُ وَجْدٍ صَادِقٍ " فَقَيَّدَ الْحِينَ بِالْوَجْدِ، وَالْوَجْدُ بِالصِّدْقِ، وَقَالَ فِي هَذَا الْبَابِ: هُوَ نَفَسٌ فِي حِينِ اسْتِتَارٍ، فَقَيَّدَ النَّفَسَ بِالْحِينِ وَبِالْوَجْدِ،

فصل الأنفاس ثلاثة

وَقَيَّدَ بِهِ الْوَقْتَ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِهِمَا. وَأَيْضًا فَالْوَقْتُ وَالنَّفَسُ لَهُمَا أَسْبَابٌ تَعْرِضُ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ حَجْبِهِ عَنْ مَطْلُوبِهِ، أَوْ مُفَارَقَةِ حَالٍ كَانَ فِيهَا فَاسْتَتَرَتْ عَنْهُ، فَبَيْنَهُمَا تَشَابُهٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا. [فَصْلٌ الْأَنْفَاسُ ثَلَاثَةٌ] [الْأَوَّلُ نَفَسٌ فِي حِينِ اسْتِتَارٍ] فَصْلٌ قَالَ: وَالْأَنْفَاسُ ثَلَاثَةٌ: نَفَسٌ فِي حِينِ اسْتِتَارٍ مَمْلُوءٍ مِنَ الْكَظْمِ، مُتَعَلِّقٍ بِالْعِلْمِ، إِنْ تَنَفَّسَ تَنَفَّسَ بِالْأَسَفِ، وَإِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِالْحُزْنِ، وَعِنْدِي: هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ وَحْشَةِ الِاسْتِتَارِ، وَهِيَ الظُّلْمَةُ الَّتِي قَالُوا: إِنَّهَا مَقَامٌ. فَقَوْلُهُ: نَفَسٌ فِي حِينِ اسْتِتَارٍ؛ أَيْ: يَكُونُ لَهُ حَالٌ صَادِقٌ، وَكَشْفٌ صَحِيحٌ، فَيَسْتَتِرُ عَنْهُ بِحُكْمِ الطَّبِيعَةِ وَالْبَشَرِيَّةِ وَلَا بُدَّ، فَيَضِيقُ بِذَلِكَ صَدْرُهُ، وَيَمْتَلِئُ كَظْمًا بِحَجْبِ مَا كَانَ فِيهِ وَاسْتِتَارِهِ لِأَسْبَابٍ فَاعِلِيَّةٍ وَغَائِيَّةٍ، سَتَرِدُ عَلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا تَنَفَّسَ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَتَنَفُّسُهُ تَنَفُّسُ الْحَزِينِ الْمَكْرُوبِ. قَوْلُهُ: " مَمْلُوءٌ مِنَ الْكَظْمِ " الْكَظْمُ: هُوَ الْإِمْسَاكُ، وَمِنْهُ: كَظَمَ غَيْظَهُ، إِذَا تَجَرَّعَهُ وَحَبَسَهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ. قَوْلُهُ: " مُتَعَلِّقٍ بِالْعِلْمِ " يُرِيدُ: أَنَّ ذَلِكَ النَّفَسَ مُتَعَلِّقٌ بِأَحْكَامِ الظَّاهِرِ لَا بِأَحْكَامِ الْحَالِ، وَذَلِكَ هُوَ الْبَلَاءُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُ الشَّيْخِ لَهُ، وَهُوَ بَلَاءُ الْعَبْدِ بَيْنَ الِاسْتِجَابَةِ لِدَاعِي الْعِلْمِ وَدَاعِي الْحَالِ. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ نَفَسٌ مَكْظُومٌ: لِخُلُوِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ أَحْكَامِ الْمَحَبَّةِ الَّتِي تُهَوِّنُ الشَّدَائِدَ، وَتُسَهِّلُ الصَّعْبَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ وَتَعَلُّقِهِ بِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ دَاعِي التَّفَرُّقِ فَإِنَّ كَرْبَ الْمَحَبَّةِ مَمْزُوجٌ بِالْحَلَاوَةِ، فَإِذَا خَلَا مِنْ أَحْكَامِهَا إِلَى أَحْكَامِ الْعِلْمِ فَقَدَ تِلْكَ الْحَلَاوَةَ، وَاشْتَاقَ إِلَى ذَلِكَ الْكَرْبِ، كَمَا قِيلَ: وَيَشْكُو الْمُحِبُّونَ الصَّبَابَةَ لَيْتَنِي ... تَحَمَّلْتُ مَا يَلْقُونَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَحْدِي فَكَانَ لِقَلْبِي لَذَّةُ الْحُبِّ كُلُّهَا ... فَلَمْ يَلْقَهَا قَبْلِي مُحِبٌّ وَلَا بَعْدِي قَوْلُهُ: إِنْ تَنَفَّسَ تَنَفَّسَ بِالْأَسَفِ.

الْأَسَفُ: الْحُزْنُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ يَعْقُوبَ: {يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] وَالْأَسَفُ: الْغَضَبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْحُزْنُ عَلَى مَا تَوَارَى عَنْهُ مِنْ مَطْلُوبِهِ، أَوْ مِنْ صِدْقِ حَالِهِ. قَوْلُهُ: " وَإِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِالْحُزْنِ " يَعْنِي: أَنَّ هَذَا الْمُتَنَفِّسَ إِنْ نَطَقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُزْنِ عَلَى مَا تَوَارَى عَنْهُ، فَمَصْدَرُ تَنَفُّسِهِ وَنُطْقِهِ حُزْنُهُ عَلَى مَا حُجِبَ عَنْهُ. قَوْلُهُ:: وَعِنْدِي: أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ وَحْشَةِ الِاسْتِتَارِ وَالْحَجْبِ. وَكَأَنَّ الِاسْتِتَارَ السَّبَبُ فَيَتَوَلَّدُ السَّبَبُ. يُرِيدُ: أَنَّ هَذَا الْأَسَفَ وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الِاسْتِتَارِ وَالْحِجَابِ فَتَوَلُّدُهُ: إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْوَحْشَةِ الَّتِي سَبَبُهَا الِاسْتِتَارُ مِنْ تِلْكَ الْوَحْشَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الِاسْتِتَارِ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَطْلُوبُهُ مُشَاهَدًا لَهُ، وَحَالُ مَحَبَّتِهِ وَأَحْكَامِهَا قَائِمًا بِهِ، كَانَ نَصِيبُهُ مِنَ الْأُنْسِ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَوَارَى عَنْهُ مَطْلُوبُهُ وَأَحْكَامُ مَحَبَّتِهِ اسْتَوْحَشَ لِذَلِكَ، فَتَوَلَّدَ الْحُزْنُ مِنْ تِلْكَ الْوَحْشَةِ. وَبَعْدُ، فَالْحُزْنُ يَتَوَلَّدُ مِنْ مُفَارَقَةِ الْمَحْبُوبِ، لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ سِوَاهُ، وَإِنْ تَوَلَّدَ مِنْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ، فَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ: إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا فَاتَ بِهِ مِنَ الْمَحْبُوبِ، فَلَا حُزْنَ إِذًا وَلَا هَمَّ وَلَا غَمَّ، وَلَا أَذًى وَلَا كَرْبَ إِلَّا فِي مُفَارَقَةِ الْمَحْبُوبِ، وَلِهَذَا كَانَ حُزْنُ الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالْأَلَمِ وَالْجَهْلِ وَالْخُمُولِ وَالضِّيقِ وَسُوءِ الْحَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: عَلَى فِرَاقِ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْمَالِ وَالْوَجْدِ وَالْعَافِيَةِ، وَالْعِلْمِ وَالسِّعَةِ وَحُسْنِ الْحَالِ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُفَارَقَةَ الْمُشْتَهَيَاتِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ - كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ: 54] فَالْفَرَحُ وَالسُّرُورُ بِالظَّفَرِ بِالْمَحْبُوبِ، وَالْهَمُّ وَالْغَمُّ وَالْحُزْنُ وَالْأَسَفُ بِفَوَاتِ الْمَحْبُوبِ، فَأَطْيَبُ الْعَيْشِ عَيْشُ الْمُحِبِّ الْوَاصِلِ إِلَى مَحْبُوبِهِ، وَأَمَرُّ الْعَيْشِ عَيْشُ مَنْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحْبُوبِهِ. وَالِاسْتِتَارُ الْمَذْكُورُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ كَشْفٍ وَعِيَانٍ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يَسْتُرُ عَنْهُمْ مَا يَسْتُرُهُ رَحْمَةً بِهِمْ، وَلُطْفًا بِضَعِيفِهِمْ، إِذْ لَوْ دَامَ لَهُ حَالُ الْكَشْفِ لَمَحَقَهُ، بَلْ رَحْمَةٌ بِهِ مِنْ رَبِّهِ أَنْ رَدَّهُ إِلَى أَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ، وَمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ.

وَأَيْضًا لِيَتَزَايَدَ طَلَبُهُ، وَيَقْوَى شَوْقُهُ، فَإِنَّهُ لَوْ دَامَتْ لَهُ تِلْكَ الْحَالُ لَأَلِفَهَا وَاعْتَادَهَا، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ مَوْقِعَ الْمَاءِ مِنْ ذِي الْغُلَّةِ الصَّادِي، وَلَا مَوْقِعَ الْأَمْنِ مِنَ الْخَائِفِ، وَلَا مَوْقِعَ الْوِصَالِ مِنَ الْمَهْجُورِ، فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَارَاهَا عَنْهُ لِيُكْمِلَ فَرَحَهُ وَلَذَّتَهُ وَسُرُورَهُ بِهَا. وَأَيْضًا فَلْيُعَرِّفْهُ سُبْحَانَهُ قَدْرَ نِعْمَتِهِ بِمَا أَعْطَاهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَاقَ مَرَارَةَ الْفَقْدِ عَرَفَ حَلَاوَةَ الْوُجُودِ، فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ تَتَبَيَّنُ بِأَضْدَادِهَا. وَأَيْضًا فَلْيُعَرِّفْهُ فَقْرَهُ وَحَاجَتَهُ وَضَرُورَتَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَغْنٍ عَنْ فَضْلِهِ وَبِرِّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَنَّهُ إِنِ انْقَطَعَ عَنْهُ إِمْدَادُهُ فَسَدَ بِالْكُلِّيَّةِ. وَأَيْضًا فَلْيُعَرِّفْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْفَضْلَ وَالْعَطَاءَ لَيْسَ لِسَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَحْصِيلِهَا بِكَسْبٍ وَاخْتِيَارٍ، وَأَنَّهَا مُجَرَّدُ مَوْهِبَةٍ وَصَدَقَةٍ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ لَا يَبْلُغُهَا عَمَلُهُ وَلَا يَنَالُهَا سَعْيُهُ. وَأَيْضًا فَلْيُعَرِّفْهُ عِزَّهُ فِي مَنْعِهِ، وَبِرَّهُ فِي عَطَائِهِ، وَكَرَمَهُ وَجُودَهُ فِي عَوْدِهِ عَلَيْهِ بِمَا حَجَبَ عَنْهُ، فَيَنْفَتِحُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِسَبَبِ هَذَا الِاسْتِتَارِ وَالْكَشْفِ بَعْدَهُ أُمُورٌ غَرِيبَةٌ عَجِيبَةٌ، يَعْرِفُهَا الذَّائِقُ لَهَا، وَيُنْكِرُهَا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ وَالنَّفَسَ لَمْ يَمُوتَا، وَلَمْ يُعْدَمَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَامَ سُوقُ الِامْتِحَانِ وَالتَّكْلِيفِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، بَلْ قَهْرًا بِسُلْطَانِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْمَقْهُورُ الْمَغْلُوبُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَحَرَّكَ أَحْيَانًا وَإِنْ قَلَّتْ وَلَكِنْ حَرَكَةَ أَسِيرٍ مَقْهُورٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ حَرَكَتُهُ حَرَكَةَ أَمِيرٍ مُسَلَّطٍ. فَمِنْ تَمَامِ إِحْسَانِ الرَّبِّ إِلَى عَبْدِهِ، وَتَعْرِيفِهِ قَدْرَ نِعْمَتِهِ أَنْ أَرَاهُ فِي الْأَعْيَانِ مَا كَانَ حَاكِمًا عَلَيْهِ قَاهِرًا لَهُ، وَقَدْ تَقَاضَى مَا كَانَ يَتَقَاضَاهُ مِنْهُ أَوَّلًا، فَحِينَئِذٍ يَسْتَغِيثُ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ وَوَلِيِّهِ وَمَالِكِ أَمْرِهِ كُلِّهِ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قَلْبِي عَلَى طَاعَتِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُزِيلُ مِنْ قَلْبِهِ آفَةَ الرُّكُونِ إِلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَمَلِهِ أَوْ حَالِهِ، كَمَا قِيلَ: إِنْ رَكَنْتَ إِلَى الْعِلْمِ أَنْسَيْنَاكَهُ، وَإِنْ رَكَنْتَ إِلَى الْحَالِ: سَلَبْنَاكَ إِيَّاهُ، وَإِنْ رَكَنْتَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ: حَجَبْنَاهَا عَنْكَ، وَإِنْ رَكَنْتَ إِلَى قَلْبِكَ: أَفْسَدْنَاهُ عَلَيْكَ، فَلَا يَرْكَنُ الْعَبْدُ إِلَى شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ أَلْبَتَّةَ، وَمَتَى وَجَدَ قَلْبَهُ رُكُونًا إِلَى غَيْرِهِ: فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أُحِيلَ عَلَى مُفْلِسٍ، بَلْ مُعْدَمٍ، وَأَنَّهُ قَدْ فُتِحَ لَهُ الْبَابُ مَكْرًا، فَلْيَحْذَرْ وُلُوجَهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

فصل الثاني نفس في حين التجلي

قَوْلُهُ: وَهِيَ الظُّلْمَةُ الَّتِي قَالُوا: إِنَّهَا مَقَامٌ. يَعْنِي: أَنَّ وَحْشَةَ الِاسْتِتَارِ ظُلْمَةٌ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا مَقَامٌ. وَوَجْهُهُ: أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ يُقِيمُ عَبْدَهُ بِحِكْمَتِهِ فِيهَا، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ. فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَكُونُ مَقَامًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَقَامِ: أَنْفَاسُهُ أَنْفَاسُ حُزْنٍ وَأَسَفٍ، وَهَلَاكٍ وَتَلَفٍ، لِمَا حُجِبَ عَنْهُ مِنَ الْمَقَامِ الَّذِي كَانَ فِيهِ. وَالشَّيْخُ كَأَنَّهُ لَا يَرَى ذَلِكَ مَقَامًا، فَإِنَّ الْمَقَامَاتِ هِيَ مَنَازِلُ فِي طَرِيقِ الْمَطْلُوبِ فَكُلُّ أَمْرٍ أُقِيمَ فِيهِ السَّالِكُ مِنْ حَالِهِ الَّذِي يُقَدِّمُهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ: فَهُوَ مَقَامٌ، وَأَمَّا وَحْشَةُ الِاسْتِتَارِ: فَهِيَ تَأَخُّرٌ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَقَدُّمٌ، فَكَيْفَ تُسَمَّى مَقَامًا؟ بَلْ هِيَ ضِدُّ الْمَقَامِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَحْشَةَ الِاسْتِتَارِ لَيْسَتْ مَقَامًا: أَنَّ كُلَّ مَقَامٍ فَهُوَ تَعَلُّقٌ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ عَلَى وَجْهِ الثُّبُوتِ، وَحَقِيقَتُهُ: بِأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ بِالْمُقِيمِ لَا بِالْمَقَامِ. وَأَمَّا حَالُ الِاسْتِتَارِ: فَهُوَ حَالُ انْقِطَاعٍ عَنْ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ الْمَذْكُورِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ لَهُ وَجْهَيْنِ؛ هُوَ مِنْ أَحَدِهِمَا: ظُلْمَةٌ وَوَحْشَةٌ. وَمِنَ الثَّانِي: مَقَامٌ، فَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ وَبِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ لَيْسَ مَقَامًا، وَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَمَا فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ الْمَذْكُورَةِ: فَهُوَ مَقَامٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ الثَّانِي نَفَسٌ فِي حِينِ التَّجَلِّي] فَصْلٌ قَالَ: وَالنَّفَسُ الثَّانِي: نَفَسٌ فِي حِينِ التَّجَلِّي، وَهُوَ نَفَسٌ شَاخِصٌ عَنْ مَقَامِ السُّرُورِ إِلَى رَوْحِ الْمُعَايَنَةِ، مَمْلُوءٌ مِنْ نُورِ الْوُجُودِ، شَاخِصٌ إِلَى مُنْقَطَعِ الْإِشَارَةِ. هَذَا النَّفَسُ أَعْلَى مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ فِي حِينِ اسْتِتَارٍ وَظُلْمَةٍ، وَهَذَا نَفَسٌ فِي حَالِ تَجَلٍّ وَنُورِهِ، وَحِينَ التَّجَلِّي: هُوَ زَمَانُ حُصُولِ الْكَشْفِ، وَالتَّجَلِّي مُشْتَقٌّ مِنَ الْجِلْوَةِ، قِيلَ: وَحَقِيقَتُهُ إِشْرَاقُ نُورِ الْحَقِّ عَلَى قُلُوبِ الْمُرِيدِينَ. فَإِنْ أَرَادُوا إِشْرَاقَ نُورِ الذَّاتِ فَغَلَطٌ شَنِيعٌ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: احْتَرِزْ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ " إِشْرَاقُ نُورِ الصِّفَاتِ ". فَإِنْ أَرَادُوا أَيْضًا إِشْرَاقَ نَفْسِ الصِّفَةِ فَغَلَطٌ كَذَلِكَ، فَإِنَّ التَّجَلِّيَ الذَّاتِيَّ

وَالصِّفَاتِيَّ لَا يَقَعُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَا تَثْبُتُ لَهُ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ إِشْرَاقُ نُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ، وَاسْتِغْرَاقُ الْقَلْبِ فِي شُهُودِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ وَصِفَاتِهَا اسْتِغْرَاقًا عِلْمِيًّا، نَعَمْ هُوَ أَرْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ الْمُجَرَّدِ لِأَسْبَابٍ. مِنْهَا: قُوَّتُهُ، فَإِنَّ الْمَعَارِفَ وَالْعُلُومَ تَتَفَاوَتُ. وَمِنْهَا: صَفَاءُ الْمَحَلِّ وَنَقَاؤُهُ مِنَ الْكَدَرِ الْمَانِعِ مِنْ ظُهُورِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فِيهِ. وَمِنْهَا: التَّجَرُّدُ عَنِ الْمَوَانِعِ وَالشَّوَاغِلِ. وَمِنْهَا: كَمَالُ الِالْتِفَاتِ وَالتَّحْدِيقِ نَحْوَ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُودِ. وَمِنْهَا: كَمَالُ الْأُنْسِ بِهِ وَالْقُرْبُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوجِبُ لِلْقَلْبِ شُهُودًا وَكَشْفًا وَرَاءَ مُجَرَّدِ الْعِلْمِ. قَوْلُهُ: وَهُوَ نَفَسٌ شَاخِصٌ عَنْ مَقَامِ السُّرُورِ؛ أَيْ: صَادِرٌ عَنْ مَقَامِ السُّرُورِ، وَ " الشُّخُوصُ " الْخُرُوجُ، يُقَالُ: شَخَصَ فُلَانٌ إِلَى بَلَدِ كَذَا؛ إِذَا خَرَجَ إِلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا النَّفَسَ صَدَرَ عَنْ سُرُورٍ وَفَرَحٍ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ صَدَرَ عَنْ ظُلْمَةٍ وَوَحْشَةٍ أَثَارَتْ حُزْنًا، فَهَذَا النَّفْسُ صَدَرَ عَنْ سَمَاعِ الْإِجَابَةِ الَّذِي يَمْحُو آثَارَ الْوَحْشَةِ. قَوْلُهُ: " إِلَى رَوْحِ الْمُعَايَنَةِ " هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَهُوَ النَّعِيمُ وَالرَّاحَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِالْمُعَايَنَةِ ضِدَّ الْأَلَمِ وَالْوَحْشَةِ الْحَاصِلَيْنِ فِي حِينِ الِاسْتِتَارِ، فَهَذَا النَّفَسُ مَصْدَرُهُ السُّرُورُ، وَنِهَايَتُهُ رَوْحُ الْمُعَايَنَةِ صَادِرًا عَنْ مَسَرَّةٍ، طَالِبًا الْمُعَايَنَةَ. وَأَصَحُّ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّيْخِ، وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ فِي الْمُعَايَنَةِ أَنَّهَا تَزَايُدُ الْعِلْمِ حَتَّى يَصِيرَ يَقِينًا، وَلَا يَصِلُ أَحَدٌ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ فِي هَذِهِ الدَّارِ. وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مَنْ خَالَفَ، فَالْغَلَطُ مِنْ لَوَازِمِ الطَّبِيعَةِ، وَالْعِلْمُ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْغَلَطِ وَالصَّوَابِ. وَقَدْ أَشْعَرَ كَلَامُ الشَّيْخِ هَاهُنَا بِأَنَّ التَّجَلِّيَ دُونَ الْمُعَايَنَةِ، فَإِنَّ التَّجَلِّيَ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ وَحَاجِزٍ لَطِيفٍ، وَالْكَشْفُ وَالْعِيَانُ هُوَ الظُّهُورُ مِنْ غَيْرِ سِتْرٍ، فَإِذَا كَانَ مَسْرُورًا بِحَالِ التَّجَلِّي كَانَتْ أَنْفَاسُهُ مُتَعَلِّقَةً بِمَقَامِ الْمُعَايَنَةِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ مَقَامِ التَّجَلِّي، وَلِهَذَا جَعَلَهُ شَاخِصًا إِلَيْهَا. قَوْلُهُ: " مَمْلُوءٌ مِنْ نُورِ الْوُجُودِ " يُرِيدُ: أَنَّ هَذَا النَّفَسَ مَمْلُوءٌ مِنْ نُورِ الْوُجُودِ، وَ " الْوُجُودُ " عِنْدَهُ: هُوَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا النَّفَسُ مُنْصَبِغٌ مُكْتَسٍ بِنُورِ الْوُجُودِ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ لَمَّا تَنَفَّسَ بِهِ كَانَ فِي مَقَامِ الْجَمْعِ وَالْوُجُودِ.

فصل الثالث نفس مطهر بماء القدس

قَوْلُهُ: " شَاخِصٌ إِلَى مُنْقَطَعِ الْإِشَارَةِ " لَمَّا كَانَ قَلْبُهُ مَمْلُوءًا مِنْ نُورِ الْوُجُودِ وَكَانَ شَاخِصًا إِلَى الْمُعَايَنَةِ مُسْتَفْرِغًا بِكُلِّيَّتِهِ فِي طَلَبِهَا، كَانَ شَاخِصًا إِلَى حَضْرَةِ الْجَمْعِ، الَّتِي هِيَ مُنْقَطَعُ الْإِشَارَةِ عِنْدَهُمْ، فَضْلًا عَنِ الْعِبَارَةِ، فَلَا إِشَارَةَ هُنَاكَ وَلَا عِبَارَةَ وَلَا رَسْمَ، بَلْ تَفْنَى الْإِشَارَاتُ وَتَعْجَزُ الْعِبَارَاتُ، وَتَضْمَحِلُّ الرُّسُومُ. [فَصْلٌ الثَّالِثُ نَفَسٌ مُطَهَّرٌ بِمَاءِ الْقُدْسِ] فَصْلٌ قَوْلُهُ: وَالنَّفَسُ الثَّالِثُ: نَفَسٌ مُطَهَّرٌ بِمَاءِ الْقُدْسِ، قَائِمٌ بِإِشَارَاتِ الْأَزَلِ، وَهُوَ النَّفَسُ الَّذِي يُسَمَّى بِصِدْقِ النُّورِ. الْقُدْسُ: الطَّهَارَةُ، وَالتَّقْدِيسُ: التَّطْهِيرُ وَالتَّنْزِيهُ، وَمُرَادُهُ بِالْقُدْسِ هَاهُنَا: الشُّهُودُ الَّذِي يَفْنَى الْحَادِثُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ، وَيَبْقَى الْقَدِيمُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ، فَكَأَنَّ صِفَاتِ الْحُدُوثِ عِنْدَهُمْ: مِمَّا يُتَطَهَّرُ مِنْهَا بِالتَّجَلِّي الْمَذْكُورِ، فَالتَّجَلِّي يُطَهِّرُ الْعَبْدَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ مَا دَامَ فِي الْحِجَابِ فَهُوَ بَاقٍ مَعَ إِنِّيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِذَا أَشْرَقَ عَلَيْهِ نُورُ التَّجَلِّي طَهَّرَهُ مِنْ صِفَاتِهِ وَشُهُودِهَا وَتَوْسِيطِهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَشْهُودِهِ الْحَقُّ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ: أَنَّ هَذَا النَّفَسَ صَادِرٌ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْأَزَلِ الْمَاحِي لِلْحَوَادِثِ الْمُفْنِي لَهَا، فَهَذَا النَّفَسُ مُطَهَّرٌ بِالطُّهْرِ الْمُقَدَّسِ عَنْ كُلِّ غَيْرٍ، وَعَنْ مُلَاحَظَةِ كُلِّ مَقَامٍ، بَلْ هُوَ مُسْتَغْرِقٌ بِنُورِ الْحَقِّ، وَآثَارِ الْحَقِّ تَنْطِقُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا كُنَّا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ. وَهَذَا نُطْقٌ غَيْرُ النُّطْقِ النَّفْسَانِيِّ الطَّبِيعِيِّ، وَلِهَذَا سُمِّيَ هَذَا النَّفَسُ

بِصِدْقِ النُّورِ لِصِدْقِ شِدَّةِ تَعَلُّقِهِ بِالنُّورِ، وَمُلَازَمَتِهِ لَهُ. قَوْلُهُ: " قَائِمٌ بِإِشَارَاتِ الْأَزَلِ " أَيْ: هَذَا النَّفَسُ مُنَزَّهٌ مُطَهَّرٌ عَنْ إِشَارَاتِ الْحُدُوثِ، فَقَدْ تَرَحَّلَ عَنْهَا وَفَارَقَهَا إِلَى إِشَارَاتِ الْأَزَلِ، وَيَعْنِي بِإِشَارَاتِ الْأَزَلِ أَنَّهُ قَدْ فَنِيَ فِي عِيَانِهِ الَّذِي شَخَصَ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَزَلْ، فَصَارَتْ أَنْفَاسُهُ مِنْ جُمْلَةِ إِشَارَاتِ الْأَزَلِ. وَلَمْ يُرِدِ الشَّيْخُ: أَنَّ أَنْفَاسَهُ تَنْقَلِبُ أَزَلِيَّةً، فَمَنْ هُوَ دُونَ الشَّيْخِ لَا يَتَوَهَّمُ هَذَا بَلْ أَنْفَاسُ الْخَلْقِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهَذَا نَفَسُهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَنْ لَمْ يَزَلْ. وَبَعْدُ، فَلِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالٌ، لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَهْمٌ بَاطِلٌ وَخَيَالٌ. وَفِي قَوْلِهِ: " يُسَمَّى بِصِدْقِ النُّورِ " لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ السَّالِكَ يَلُوحُ لَهُ فِي سُلُوكِهِ النُّورُ مِرَارًا، ثُمَّ يَخْتَفِي عَنْهُ كَالْبَرْقِ يَلْمَعُ ثُمَّ يَخْتَفِي، فَإِذَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ وَدَامَ ظُهُورُهُ، صَارَ نُورًا صَادِقًا. قَوْلُهُ: فَالنَّفَسُ الْأَوَّلُ: لِلْعُيُونِ سِرَاجٌ. وَالثَّانِي: لِلْقَاصِدِ مِعْرَاجٌ. وَالثَّالِثُ: لِلْمُحَقِّقِ تَاجٌ. أَيِ: النَّفَسُ الْأَوَّلُ: سِرَاجٌ فِي ظُلْمَةِ السُّلُوكِ، لِتَعَلُّقِهِ بِالْعِلْمِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْعِلْمُ سِرَاجٌ يُهْتَدَى بِهِ فِي طُرُقَاتِ الْقَصْدِ، وَيُوَضِّحُ مَسَالِكَهَا، وَيُبَيِّنُ مَرَاتِبَهَا، فَهُوَ سِرَاجٌ لِلْعُيُونِ. وَالنَّفَسُ الثَّانِي: لِلْقَاصِدِ مِعْرَاجٌ، فَإِنَّهُ أَعْلَى مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نُورِ الْمَعْرِفَةِ الرَّافِعَةِ لِلْحِجَابِ. وَالنَّفَسُ الثَّالِثُ لِلْمُحَقِّقِ تَاجٌ؛ لِأَنَّهُ نَفَسٌ مُطَهَّرٌ مِنْ أَدْنَاسِ الْأَكْوَانِ، وَمُتَّصِلٌ بِالْكَائِنِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمُكَوِّنِ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَالْكَائِنِ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، فَهَذَا تَاجٌ لِقَلْبِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّاجِ عَلَى رَأْسِ الْمَلِكِ. وَالنَّفَسُ الْأَوَّلُ يُؤَمِّنُ السَّالِكَ مِنْ عَثْرَتِهِ، وَالثَّانِي يُوصِلُهُ إِلَى طِلْبَتِهِ، وَالثَّالِثُ: يَدُلُّهُ عَلَى عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

فصل الغربة

[فَصْلُ الْغُرْبَةِ] [حَقِيقَةُ الْغُرْبَةِ] فَصْلُ الْغُرْبَةِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: بَابُ الْغُرْبَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116] . اسْتِشْهَادُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى رُسُوخِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَفَهْمِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْغُرَبَاءَ فِي الْعَالَمِ هُمْ أَهْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ» . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قَالُوا:

يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَزِيدُونَ إِذَا نَقَصَ النَّاسُ» . فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَحْفُوظًا لَمْ يَنْقَلِبْ عَلَى الرَّاوِي لَفْظُهُ وَهُوَ: الَّذِينَ يَنْقُصُونَ إِذَا زَادَ النَّاسُ فَمَعْنَاهُ: الَّذِينَ يَزِيدُونَ خَيْرًا وَإِيمَانًا وَتُقًى إِذَا نَقَصَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ» . وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ عِنْدَهُ طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَاسٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي نَاسٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ» . وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: «إِنَّ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَى اللَّهِ الْغُرَبَاءُ، قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: الْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ، يَجْتَمِعُونَ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي وَيُعَلِّمُونَهَا النَّاسَ» . وَقَالَ نَافِعٌ، عَنْ مَالِكٍ: دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْمَسْجِدَ، فَوَجَدَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ جَالِسًا إِلَى بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ هَلَكَ أَخُوكَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ حَبِيبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَخْفِياءَ الْأَحْفِيَاءَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَبْرِيَاءَ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ

أنواع الغربة

يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ عَمْيَاءَ مُظْلِمَةٍ» . فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْغُرَبَاءُ الْمَمْدُوحُونَ الْمَغْبُوطُونَ، وَلِقِلَّتِهِمْ فِي النَّاسِ جِدًّا؛ سُمُّوا غُرَبَاءَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَأَهْلُ الْإِسْلَامِ فِي النَّاسِ غُرَبَاءُ، وَالْمُؤْمِنُونَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ غُرَبَاءُ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُؤْمِنِينَ غُرَبَاءُ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُمَيِّزُونَهَا مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ فَهُمْ غُرَبَاءُ، وَالدَّاعُونَ إِلَيْهَا الصَّابِرُونَ عَلَى أَذَى الْمُخَالِفِينَ هُمْ أَشَدُّ هَؤُلَاءِ غُرْبَةً، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ حَقًّا، فَلَا غُرْبَةَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا غُرْبَتُهُمْ بَيْنَ الْأَكْثَرِينَ، الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْغُرَبَاءُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ، وَغُرْبَتُهُمْ هِيَ الْغُرْبَةُ الْمُوحِشَةُ، وَإِنْ كَانُوا هُمُ الْمَعْرُوفِينَ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ، كَمَا قِيلَ: فَلَيْسَ غَرِيبًا مَنْ تَنَاءَتْ دِيَارُهُ ... وَلَكِنَّ مَنْ تَنْأَيْنَ عَنْهُ غَرِيبُ وَلَمَّا خَرَجَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَارِبًا مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ انْتَهَى إِلَى مَدْيَنَ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ، وَهُوَ وَحِيدٌ غَرِيبٌ خَائِفٌ جَائِعٌ، فَقَالَ: يَا رَبِّ وَحِيدٌ مَرِيضٌ غَرِيبٌ، فَقِيلَ لَهُ: يَا مُوسَى الْوَحِيدُ: مَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْلِي أَنِيسٌ، وَالْمَرِيضُ: مَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْلِي طَبِيبٌ، وَالْغَرِيبُ: مَنْ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مُعَامَلَةٌ. [أَنْوَاعُ الْغُرْبَةِ] [الْأَوَّلُ غُرْبَةُ أَهْلِ اللَّهِ وَأَهْلِ سُنَةِ رَسُولِهِ بَيْنَ هَذَا الْخَلْقِ] فَالْغُرْبَةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: غُرْبَةُ أَهْلِ اللَّهِ وَأَهْلِ سُنَّةِ رَسُولِهِ بَيْنَ هَذَا الْخَلْقِ، وَهِيَ الْغُرْبَةُ الَّتِي مَدَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَهَا، وَأَخْبَرَ عَنِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ: أَنَّهُ بَدَأَ غَرِيبًا وَأَنَّهُ سَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَأَنَّ أَهْلَهُ يَصِيرُونَ غُرَبَاءَ. وَهَذِهِ الْغُرْبَةُ قَدْ تَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَبَيْنَ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، وَلَكِنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْغُرْبَةِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ حَقًّا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَأْوُوا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْتَسِبُوا إِلَى غَيْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَدْعُوا إِلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ فَارَقُوا النَّاسَ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ، فَإِذَا انْطَلَقَ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ آلِهَتِهِمْ بَقُوا فِي مَكَانِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَا تَنْطَلِقُونَ حَيْثُ انْطَلَقَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَا النَّاسَ وَنَحْنُ أَحْوَجُ إِلَيْهِمْ مِنَّا

الْيَوْمَ، وَإِنَّا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا الَّذِي كُنَّا نَعْبُدُهُ. فَهَذِهِ الْغُرْبَةُ لَا وَحْشَةَ عَلَى صَاحِبِهَا، بَلْ وَآنَسُ مَا يَكُونُ إِذَا اسْتَوْحَشَ النَّاسُ، وَأَشَدُّ مَا تَكُونُ وَحْشَتُهُ إِذَا اسْتَأْنَسُوا، فَوَلِيُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَإِنْ عَادَاهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَجَفَوْهُ. وَفِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عَنِ اللَّهِ تَعَالَى «إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي: لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِّ ذُو حَظٍّ مِنْ صَلَاتِهِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ غَامِضًا فِي النَّاسِ، لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ، ثُمَّ حَلَّتْ مَنِيَّتُهُ، وَقَلَّ تُرَاثُهُ، وَقَلَّتْ بَوَاكِيهِ» . وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءِ: مَنْ ذَكَرَهُمْ أَنَسٌ فِي حَدِيثِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ مُلُوكِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: كُلُّ ضَعِيفٍ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْغَرِيبِ لَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا، وَلَا يُنَافِسُ فِي عَزْلِهَا، لِلنَّاسِ حَالٌ وَلَهُ حَالٌ، النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ فِي تَعَبٍ. وَمِنْ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءِ الَّذِينَ غَبَطَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّمَسُّكُ بِالسُّنَّةِ، إِذَا

رَغِبَ عَنْهَا النَّاسُ، وَتَرْكُ مَا أَحْدَثُوهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ وَتَجْرِيدُ التَّوْحِيدِ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَتَرْكُ الِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَا شَيْخَ وَلَا طَرِيقَةَ وَلَا مَذْهَبَ وَلَا طَائِفَةَ، بَلْ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءُ مُنْتَسِبُونَ إِلَى اللَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَحْدَهُ، وَإِلَى رَسُولِهِ بِالِاتِّبَاعِ لِمَا جَاءَ بِهِ وَحْدَهُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْقَابِضُونَ عَلَى الْجَمْرِ حَقًّا، وَأَكْثَرُ النَّاسِ بَلْ كُلُّهُمْ لَائِمٌ لَهُمْ. فَلِغُرْبَتِهِمْ بَيْنَ هَذَا الْخَلْقِ: يَعُدُّونَهُمْ أَهْلَ شُذُوذٍ وَبِدْعَةٍ، وَمُفَارَقَةٍ لِلسَّوَادِ الْأَعْظَمِ. وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمُ النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ» أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ رَسُولَهُ وَأَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى أَدْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَهُمْ بَيْنَ عُبَّادِ أَوْثَانٍ وَنِيرَانٍ، وَعُبَّادِ صُوَرٍ وَصُلْبَانٍ، وَيَهُودٍ وَصَابِئَةٍ وَفَلَاسِفَةٍ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ غَرِيبًا، وَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَاسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ غَرِيبًا فِي حَيِّهِ وَقَبِيلَتِهِ وَأَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ. فَكَانَ الْمُسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ نُزَّاعًا مِنَ الْقَبَائِلِ، بَلْ آحَادًا مِنْهُمْ تَغَرَّبُوا عَنْ قَبَائِلِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ، وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانُوا هُمُ الْغُرَبَاءُ حَقًّا، حَتَّى ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَانْتَشَرَتْ دَعْوَتُهُ وَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ أَفْوَاجًا، فَزَالَتْ تِلْكَ الْغُرْبَةُ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَخَذَ فِي الِاغْتِرَابِ وَالتَّرَحُّلِ، حَتَّى عَادَ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، بَلِ الْإِسْلَامُ الْحَقُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ هُوَ الْيَوْمَ أَشَدُّ غُرْبَةً مِنْهُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْلَامُهُ وَرُسُومُهُ الظَّاهِرَةُ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ، فَالْإِسْلَامُ الْحَقِيقِيُّ غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَهْلُهُ غُرَبَاءُ أَشَدُّ الْغُرْبَةِ بَيْنَ النَّاسِ. وَكَيْفَ لَا تَكُونُ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا غَرِيبَةً بَيْنَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، ذَاتَ أَتْبَاعٍ وَرِئَاسَاتٍ وَمَنَاصِبَ وَوِلَايَاتٍ، وَلَا يَقُومُ لَهَا سُوقٌ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَإِنَّ نَفْسَ مَا جَاءَ بِهِ يُضَادُّ أَهْوَاءَهُمْ وَلَذَّاتِهِمْ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبْهَاتِ وَالْبِدَعِ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى فَضِيلَتِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي هِيَ غَايَاتُ مَقَاصِدِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ؟ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ السَّائِرُ إِلَى اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ غَرِيبًا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدِ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَأَطَاعُوا شُحَّهُمْ، وَأُعْجِبَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِرَأْيِهِ؟ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا يَدَ لَكَ بِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهُمْ، فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ أَيَّامًا صَبْرُ الصَّابِرِ فِيهِنَّ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ» . وَلِهَذَا جُعِلَ لِلْمُسْلِمِ الصَّادِقِ فِي هَذَا الْوَقْتِ إِذَا تَمَسَّكَ بِدِينِهِ: أَجْرُ

خَمْسِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فَقَالَ: بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحَّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكِ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ؛ الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» . وَهَذَا الْأَجْرُ الْعَظِيمُ إِنَّمَا هُوَ لِغُرْبَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ بَيْنَ ظُلُمَاتِ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ. فَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ بَصِيرَةً فِي دِينِهِ، وَفِقْهًا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَفَهْمًا فِي كِتَابِهِ، وَأَرَاهُ مَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَتَنَكُّبِهِمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَ هَذَا الصِّرَاطَ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى قَدْحِ الْجُهَّالِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ فِيهِ، وَطَعْنِهِمْ عَلَيْهِ، وَإِزْرَائِهِمْ بِهِ وَتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْهُ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْهُ، كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ يَفْعَلُونَ مَعَ مَتْبُوعِهِ وَإِمَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا إِنْ دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدَحَ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ: فَهُنَالِكَ تَقُومُ قِيَامَتُهُمْ وَيَبْغُونَ لَهُ الْغَوَائِلَ وَيَنْصِبُونَ لَهُ الْحَبَائِلَ وَيَجْلِبُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلِ كَبِيرِهِمْ وَرِجْلِهِ. فَهُوَ غَرِيبٌ فِي دِينِهِ لِفَسَادِ أَدْيَانِهِمْ، غَرِيبٌ فِي تَمَسُّكِهِ بِالسُّنَّةِ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالْبِدَعِ، غَرِيبٌ فِي اعْتِقَادِهِ لِفَسَادِ عَقَائِدِهِمْ، غَرِيبٌ فِي صِلَاتِهِ لِسُوءِ صِلَاتِهِمْ، غَرِيبٌ فِي طَرِيقِهِ لِضَلَالِ وَفَسَادِ طُرُقِهِمْ، غَرِيبٌ فِي نِسْبَتِهِ لِمُخَالَفَةِ نَسَبِهِمْ، غَرِيبٌ فِي مُعَاشَرَتِهِ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُعَاشِرُهُمْ عَلَى مَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَهُوَ غَرِيبٌ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ لَا يَجِدُ مِنَ الْعَامَّةِ مُسَاعِدًا وَلَا مُعِينًا فَهُوَ عَالِمٌ بَيْنَ جُهَّالٍ، صَاحِبُ سُنَّةٍ بَيْنَ أَهْلِ بِدَعٍ، دَاعٍ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَيْنَ دُعَاةٍ إِلَى الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، آمِرٌ بِالْمَعْرُوفِ نَاهٍ عَنِ الْمُنْكَرِ بَيْنَ قَوْمٍ الْمَعْرُوفُ لَدَيْهِمْ مُنْكَرٌ وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفٌ.

فصل الثاني غربة أهل الباطل

[فَصْلٌ الثَّانِي غُرْبَةُ أَهْلِ الْبَاطِلِ] فَصْلٌ النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْغُرْبَةِ غُرْبَةٌ مَذْمُومَةٌ وَهِيَ غُرْبَةُ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَأَهْلِ الْفُجُورِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ، فَهِيَ غُرْبَةٌ بَيْنَ حِزْبِ اللَّهِ الْمُفْلِحِينَ وَإِنْ كَثُرَ أَهْلُهَا فَهُمْ غُرَبَاءُ عَلَى كَثْرَةِ أَصْحَابِهِمْ وَأَشْيَاعِهِمْ، أَهْلُ وَحْشَةٍ عَلَى كَثْرَةِ مُؤْنِسِهِمْ، يُعْرَفُونَ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ، وَيَخْفَوْنَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ. [فَصْلٌ الثَّالِثُ غُرْبَةٌ مُشْتَرَكَةٌ لَا تُحْمَدُ وَلَا تُذَمُّ] فَصْلٌ النَّوْعُ الثَّالِثُ: غُرْبَةٌ مُشْتَرَكَةٌ لَا تُحْمَدُ وَلَا تُذَمُّ وَهِيَ الْغُرْبَةُ عَنِ الْوَطَنِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ غُرَبَاءُ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارِ مَقَامٍ، وَلَا هِيَ الدَّارُ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» . وَهَكَذَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يُطَالِعَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَيَعْرِفَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ، وَلِي مِنْ أَبْيَاتٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى: وَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا ... مَنَازِلُكَ الْأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى ... نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنَا الَّتِي ... لَهَا أَضْحَتِ الْأَعَدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا نَأَى ... وَشَطَّتْ بِهِ أَوْطَانُهُ لَيْسَ يَنْعَمُ فَمِنْ أَجْلِ ذَا لَا يَنْعَمُ الْعَبْدُ سَاعَةً ... مِنَ الْعُمْرِ إِلَّا بَعْدَ مَا يَتَأَلَّمُ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الدَّارِ غَرِيبًا، وَهُوَ عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ، لَا يَحِلُّ عَنْ رَاحِلَتِهِ إِلَّا بَيْنَ أَهْلِ الْقُبُورِ؟ فَهُوَ مُسَافِرٌ فِي صُورَةِ قَاعِدٍ، وَقَدْ قِيلَ: وَمَا هَذِهِ الْأَيَّامُ إِلَّا مَرَاحِلُ ... يَحُثُّ بِهَا دَاعٍ إِلَى الْمَوْتِ قَاصِدُ وَأَعْجَبُ شَيْءٍ لَوْ تَأَمَّلْتَ أَنَّهَا ... مَنَازِلُ تُطْوَى وَالْمُسَافِرُ قَاعِدُ

فصل درجات الاغتراب

[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الِاغْتِرَابِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى الْغُرْبَةُ عَنِ الْأَوْطَانِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الِاغْتِرَابُ: أَمْرٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى الِانْفِرَادِ عَنِ الْأَكْفَاءِ. يُرِيدُ: أَنَّ كُلَّ مَنِ انْفَرَدَ بِوَصْفٍ شَرِيفٍ دُونَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، فَإِنَّهُ غَرِيبٌ بَيْنَهُمْ؛ لِعَدَمِ مُشَارِكِهِ أَوْ لِقِلَّتِهِ. قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ؛ الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الْغُرْبَةُ عَنِ الْأَوْطَانِ، وَهَذَا الْغَرِيبُ مَوْتُهُ شَهَادَةٌ، وَيُقَاسُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مِنْ مَدْفَنِهِ إِلَى وَطَنِهِ، وَيُجْمَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. لَمَّا كَانَتِ الْغُرْبَةُ هِيَ انْفِرَادٌ، وَالِانْفِرَادُ إِمَّا بِالْجِسْمِ وَإِمَّا بِالْقَصْدِ وَالْحَالِ وَإِمَّا بِهِمَا كَانَ الْغَرِيبُ غَرِيبَ جِسْمٍ، أَوْ غَرِيبَ قَلْبٍ وَإِرَادَةٍ وَحَالٍ، أَوْ غَرِيبًا بِالِاعْتِبَارَيْنِ. قَوْلُهُ: " وَهَذَا الْغَرِيبُ مَوْتُهُ شَهَادَةٌ " يُشِيرُ بِهِ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي يُرْوَى عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَوْتُ الْغَرِيبِ شَهَادَةٌ» وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَثْبُتُ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ، قَالَ

فصل الدرجة الثانية غربة الحال

الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَيُقَاسُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مِنْ مَدْفَنِهِ إِلَى وَطَنِهِ " فَيُشِيرُ بِهِ إِلَى مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَجَلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «تُوفِّيَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ مِمَّنْ وُلِدَ بِالْمَدِينَةِ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: لَيْتَهُ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْلِدِهِ فَقَالَ رَجُلٌ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ» رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ حُيَيٍّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: «وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: يَا لَهُ لَوْ مَاتَ غَرِيبًا، فَقِيلَ: وَمَا لِلْغَرِيبِ يَمُوتُ بِغَيْرِ أَرْضِهِ؟ فَقَالَ: مَا مِنْ غَرِيبٍ يَمُوتُ بِغَيْرِ أَرْضِهِ، إِلَّا قِيسَ لَهُ مِنْ تُرْبَتِهِ إِلَى مَوْلِدِهِ فِي الْجَنَّةِ» . قَوْلُهُ: وَيُجْمَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، يُشِيرُ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى اللَّهِ الْغُرَبَاءُ. قِيلَ: وَمَا الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ يَجْتَمِعُونَ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ غُرْبَةُ الْحَالِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: غُرْبَةُ الْحَالِ، وَهَذَا مِنْ الْغُرَبَاءِ الَّذِينَ طُوبَى لَهُمْ، وَهُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ فِي زَمَانٍ فَاسِدٍ بَيْنَ قَوْمٍ فَاسِدِينَ، أَوْ عَالِمٌ بَيْنَ قَوْمٍ جَاهِلِينَ، أَوْ صِدِّيقٌ بَيْنَ قَوْمٍ مُنَافِقِينَ. يُرِيدُ بِالْحَالِ هَاهُنَا: الْوَصْفَ الَّذِي قَامَ بِهِ مِنَ الدِّينِ وَالْتَمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ، وَلَا يُرِيدُ بِهِ الْحَالَ الِاصْطِلَاحِيَّ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ: الْعَالِمُ بِالْحَقِّ، الْعَامِلُ بِهِ، الدَّاعِي إِلَيْهِ. وَجَعَلَ الشَّيْخُ الْغُرَبَاءَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: صَاحِبَ صَلَاحٍ وَدِينٍ بَيْنَ قَوْمٍ فَاسِدِينَ، وَصَاحِبَ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ بَيْنَ قَوْمٍ جُهَّالٍ، وَصَاحِبَ صِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ بَيْنَ أَهْلِ

فصل الدرجة الثالثة غربة الهمة

كَذِبٍ وَنِفَاقٍ، فَإِنَّ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ وَأَحْوَالَهُمْ تُنَافِي صِفَاتِ مَنْ هُمْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَمَثَلُ هَؤُلَاءِ بَيْنَ أُولَئِكَ كَمَثَلِ الطَّيْرِ الْغَرِيبِ بَيْنَ الطُّيُورِ، وَالْكَلْبِ الْغَرِيبِ بَيْنَ الْكِلَابِ. وَالصِّدِّيقُ هُوَ الَّذِي صَدَقَ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَصَدَّقَ الْحَقَّ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، فَقَدِ انْجَذَبَتْ قُوَاهُ كُلُّهَا لِلِانْقِيَادِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، عَكْسُ الْمُنَافِقِ الَّذِي ظَاهِرُهُ خِلَافُ بَاطِنِهِ وَقَوْلُهُ خِلَافُ عَمَلِهِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ غُرْبَةُ الْهِمَّةِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: غُرْبَةُ الْهِمَّةِ، وَهِيَ غُرْبَةُ طَلَبِ الْحَقِّ، وَهِيَ غُرْبَةُ الْعَارِفِ؛ لِأَنَّ الْعَارِفَ فِي شَاهِدِهِ غَرِيبٌ، وَمَصْحُوبَهُ فِي شَاهِدِهِ غَرِيبٌ، وَمَوْجُودَهُ لَا يَحْمِلُهُ عِلْمٌ أَوْ يُظْهِرُهُ وَجْدٌ، أَوْ يَقُومُ بِهِ رَسْمٌ، أَوْ تُطِيقُهُ إِشَارَةٌ، أَوْ يَشْمَلُهُ اسْمُ غَرِيبٍ، فَغُرْبَةُ الْعَارِفِ غُرْبَةُ الْغُرْبَةِ؛ لِأَنَّهُ غَرِيبُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الْغُرْبَةَ الْأُولَى غُرْبَةٌ بِالْأَبْدَانِ. وَالثَّانِيَةَ: غُرْبَةٌ بِالْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ. وَهَذِهِ الثَّالِثَةَ: غُرْبَةٌ بِالْهِمَمِ. فَإِنَّ هِمَّةَ الْعَارِفِ حَائِمَةٌ حَوْلَ مَعْرُوفِهِ، فَهُوَ غَرِيبٌ فِي أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، فَضْلًا عَنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ طَالِبَ الْآخِرَةِ غَرِيبٌ فِي أَبْنَاءِ الدُّنْيَا. قَوْلُهُ: " لِأَنَّ الْعَارِفَ فِي شَاهِدِهِ غَرِيبٌ " شَاهِدُ الْعَارِفِ: هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ عِنْدَهُ وَلَهُ بِصِحَّةِ مَا وَجَدَ وَأَنَّهُ كَمَا وَجَدَ، وَبِثُبُوتِ مَا عَرَفَ وَأَنَّهُ كَمَا عَرَفَ. وَهَذَا الشَّاهِدُ: أَمْرٌ يَجِدُهُ مِنْ قَلْبِهِ، وَهُوَ قُرْبُهُ مِنَ اللَّهِ، وَأُنْسُهُ بِهِ، وَشِدَّةُ شَوْقِهِ إِلَى لِقَائِهِ وَفَرَحِهِ بِهِ، فَهَذَا شَاهِدُهُ فِي سِرِّهِ وَقَلْبِهِ. وَلَهُ شَاهِدٌ فِي حَالِهِ وَعَمَلِهِ، يُصَدِّقُ هَذَا الشَّاهِدَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ. وَلَهُ شَاهِدٌ فِي قُلُوبِ الصَّادِقِينَ، يُصَدِّقُ هَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ، فَإِنَّ قُلُوبَ الصَّادِقِينَ لَا تَشْهَدُ بِالزُّورِ أَلْبَتَّةَ، فَإِذَا أُخْفِيَ عَلَيْكَ شَأْنُكُ وَحَالُكُ، فَاسْأَلْ عَنْكَ قُلُوبَ الصَّادِقِينَ؛ فَإِنَّهَا تُخْبِرُكَ عَنْ حَالِكَ. قَوْلُهُ: " وَمَصْحُوبَهُ فِي شَاهِدِهِ غَرِيبٌ " مَصْحُوبُهُ فِي شَاهِدِهِ؛ هُوَ الَّذِي يَصْحَبُهُ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْحَالِ، وَهُوَ غَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَطِقْ طَعْمَ هَذَا الشَّأْنِ، بَلْ هُوَ فِي وَادٍ وَأَهْلُهُ فِي وَادٍ.

وَقَوْلُهُ: وَمَوْجُودَهُ لَا يَحْمِلُهُ عِلْمٌ إِلَى آخِرِهِ. يُرِيدُ بِمَوْجُودِهِ: مَا يَجِدُهُ فِي شُهُودِهِ وِجْدَانًا ذَاتِيًّا حَقِيقِيًّا فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ يَشْمَلُهَا كُلُّهَا حَالَةَ الْمُشَاهَدَةِ. فَأَمَّا مَا يَحْمِلُهُ الْعِلْمُ: فَهُوَ أَحْكَامُ الْعِلْمِ الَّتِي مَتَى انْسَلَخَ مِنْهَا انْسَلَخَ مِنَ الْإِيمَانِ. وَمَوْجُودُهُ فِي هَذِهِ الْمُشَاهَدَةِ فِي هَذَا الْحَالِ، هُوَ إِصَابَتُهُ وَجْهَ الصَّوَابِ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِشَرْعِهِ وَأَمْرِهِ، وَهَذِهِ الْإِصَابَةُ غَرِيبَةٌ جِدًّا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ هِيَ مَتْرُوكَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، فَلَيْسَ الْحَلَالُ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ مَنْ قَلَّدُوهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ، وَالدِّينُ مَا أَفْتَى بِهِ، يُقَدَّمُ عَلَى النُّصُوصِ، وَتُتْرَكُ لَهُ أَقْوَالُ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَوْلُهُ: " أَوْ يُظْهِرُهُ وَجْدٌ " الْوَجْدُ: يُظْهِرُ أُمُورًا يُنْكِرُهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ الْوَجْدُ، وَيَعْرِفُهَا مَنْ كَانَ لَهُ، وَهَذَا الْوَجْدُ إِنْ شَهِدَ لَهُ الْعِلْمُ بِالْقَبُولِ وَزَكَّاهُ، فَهُوَ وَجْدٌ صَحِيحٌ، وَإِلَّا فَهُوَ وَجْدٌ فَاسِدٌ وَفِيهِ انْحِرَافٌ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مَا يُظْهِرُهُ وَجْدُ هَذَا الْعَارِفِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ غَرِيبٌ عَلَى غَيْرِهِ، بِحَسَبِ هِمَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَطَلَبِهِ. قَوْلُهُ: " أَوْ يَقُومُ بِهِ رَسْمٌ " الرَّسْمُ: هُوَ الصُّورَةُ الْخَلْقِيَّةُ وَصِفَاتُهَا وَأَفْعَالُهَا عِنْدَهُمْ، وَالَّذِي يَقُومُ بِهِ هَذَا الرَّسْمُ هُوَ الَّذِي يُقِيمُهُ مَنْ تَعَلَّقَ اسْمُ الْقَيُّومِ بِهِ، فَإِنَّ الْقَيُّومَ هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الَّذِي قِيَامُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ؛ أَيْ: هُوَ الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ، فَلَا قِيَامَ لِغَيْرِهِ بِدُونِ إِقَامَتِهِ لَهُ، وَقِيَامُهُ هُوَ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ مَا يَقْوَى رَسْمُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، فَإِنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ مَا لَا يَقْوَى رَسْمُ الْعَبْدِ عَلَى إِظْهَارِهِ وَلَا الْقِيَامِ بِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ كَلَامِهِ، وَسِيَاقُهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: أَوْ تُطِيقُهُ إِشَارَةٌ؛ أَيْ: لَا تَقْدِرُ عَلَى إِفْهَامِهِ وَإِظْهَارِهِ إِشَارَةٌ، فَتَنْهَضُ الْإِشَارَةُ بِكَشْفِهِ. ثُمَّ قَالَ: أَوْ يَشْمَلُهُ رَسْمٌ، يَعْنِي: أَوْ تَنَالُهُ عِبَارَةٌ. فَذَكَرَ الشَّيْخُ خَمْسَ مَرَاتِبَ؛ الْأُولَى: مَرْتَبَةُ حَمْلِ الْعِلْمِ لَهُ. الثَّانِيَةُ: مَرْتَبَةُ إِظْهَارِ الْوَجْدِ لَهُ. الثَّالِثَةُ: مَرْتَبَةُ قِيَامِ الرَّسْمِ بِهِ. الرَّابِعَةُ: مَرْتَبَةُ إِطَاقَةِ الْإِشَارَةِ لَهُ. الْخَامِسَةُ: مَرْتَبَةُ شُمُولِ الْعِبَارَةِ لَهُ. وَمَقْصُودُهُ: أَنَّ مَوْجُودَ الْعَارِفِ أَخْفَى وَأَدَقُّ مِنْ مَوْجُودِ غَيْرِهِ، فَهُوَ غَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ

فصل الغرق

إِلَى مَوْجُودٍ سِوَاهُ، وَأَخْبَرَ: أَنَّ مَوْجُودَهُ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ غَرِيبٌ، فَكَيْفَ بِمَوْجُودِهِ الَّذِي لَا يَحْمِلُهُ عِلْمٌ، وَلَا يُظْهِرُهُ وَجْدٌ، وَلَا يَقُومُ بِهِ رَسْمٌ، وَلَا تُطِيقُهُ إِشَارَةٌ، وَلَا تَشْمَلُهُ عِبَارَةٌ؟ فَهَذَا أَشَدُّ غُرْبَةً. قَوْلُهُ: " فَغُرْبَةُ الْعَارِفِ: غُرْبَةُ الْغُرْبَةِ " وَ " الْغُرْبَةُ " أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ بَيْنَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ غَرِيبًا، مَعَ أَنَّ لَهُ نَسَبًا فِيهِمْ. وَأَمَّا غُرْبَةُ الْمَعْرِفَةِ: فَلَا يَبْقَى مَعَهَا نِسْبَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ إِلَّا بِوَجْهٍ بَعِيدٍ؛ لِأَنَّهُ فِي شَأْنٍ وَالنَّاسُ فِي شَأْنٍ آخَرَ، فَغُرْبَتُهُ غُرْبَةُ الْغُرْبَةِ. وَأَيْضًا فَالصَّالِحُونَ غُرَبَاءُ فِي النَّاسِ، وَالزَّاهِدُونَ غُرَبَاءُ فِي الصَّالِحِينَ، وَالْعَارِفُونَ غُرَبَاءُ فِي الزَّاهِدِينَ. قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ غَرِيبُ الدُّنْيَا وَغَرِيبُ الْآخِرَةِ. يَعْنِي: أَنَّ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا لَا يَعْرِفُونَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَأَهْلَ الْآخِرَةِ الْعُبَّادَ الزُّهَّادَ لَا يَعْرِفُونَهُ؛ لِأَنَّ شَأْنَهُ وَرَاءَ شَأْنِهِمْ، هِمَّتُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعِبَادَةِ، وَهِمَّتُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَعْبُودِ مَعَ قِيَامِهِ بِالْعِبَادَةِ، فَهُوَ يَرَى النَّاسَ وَالنَّاسُ لَا يَرَوْنَهُ، كَمَا قِيلَ: تَسَتَّرْتُ مِنْ دَهْرِي بِظِلِّ جَنَاحِهِ ... فَعَيْنِي تَرَى دَهْرِي وَلَيْسَ يَرَانِي فَلَوْ تَسْأَلِ الْأَيَّامَ مَا اسْمِي لَمَا دَرَتْ ... وَأَيْنَ مَكَانِي مَا عَرَفْنَ مَكَانِيَ [فَصْلُ الْغَرَقِ] [حَقِيقَةُ الْغَرَقِ] فَصْلُ الْغَرَقِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: (بَابُ الْغَرَقِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] هَذَا اسْمٌ يُشَارُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى مَنْ تَوَسَّطَ الْمَقَامَ، وَجَاوَزَ حَدَّ التَّفَرُّقِ. وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَ مَا بَلَغَ هُوَ وَوَلَدُهُ فِي الْمُبَادَرَةِ إِلَى الِامْتِثَالِ، وَالْعَزْمِ عَلَى إِيقَاعِ الذَّبْحِ الْمَأْمُورِ بِهِ: أَلْقَاهُ الْوَالِدُ عَلَى جَبِينِهِ فِي الْحَالِ وَأَخَذَ الشَّفْرَةَ وَأَهْوَى إِلَى حَلْقِهِ، أَعْرَضَ فِي تِلْكَ الْحَالِ عَنْ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ،

درجات الغرق

وَفَنِيَ بِأَمْرِ اللَّهِ عَنْهُمَا، فَتَوَسَّطَ بَحْرَ جَمْعِ السِّرِّ وَالْقَلْبِ وَالْهَمِّ عَلَى اللَّهِ، وَجَاوَزَ حَدَّ التَّفْرِقَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ امْتِثَالِ هَذَا الْأَمْرِ. قَوْلُهُ: " {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات: 103] " اسْتَسْلَمَا وَانْقَادَا لِأَمْرِ اللَّهِ، فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ مُنَازَعَةٌ لَا مِنَ الْوَالِدِ وَلَا مِنَ الْوَلَدِ، بَلِ اسْتِسْلَامٌ صِرْفٌ وَتَسْلِيمٌ مَحْضٌ. قَوْلُهُ: " {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الفاتحة: 103 - 31870] " أَيْ: صَرَعَهُ عَلَى جَبِينِهِ، وَهُوَ جَانِبُ الْجَبْهَةِ الَّذِي يَلِي الْأَرْضَ عِنْدَ النَّوْمِ، وَتِلْكَ هِيَ هَيْئَةُ مَا يُرَادُ ذَبْحُهُ. قَوْلُهُ: " تَوَسَّطَ الْمَقَامَ " لَا يُرِيدُ بِهِ مَقَامًا مُعَيَّنًا، وَلِذَلِكَ أَبْهَمَهُ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ وَ " الْمَقَامُ " عِنْدَهُمْ: مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِ، وَلَهُ بِدَايَةٌ وَتَوَسُّطٌ وَنِهَايَةٌ، فَ " الْغَرَقُ " الْمُشَارُ إِلَيْهِ: أَنْ يَصِيرَ فِي وَسَطِ الْمَقَامِ. فَإِنْ قِيلَ: الْغَرَقُ أَخَصُّ بِنِهَايَةِ الْمَقَامِ مِنْ تَوَسُّطِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِغْرَاقٌ فِيهِ بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ قَلْبَهُ وَهَمَّهُ، فَكَيْفَ جَعَلَهُ الشَّيْخُ تَوَسُّطًا فِيهِ؟ قُلْتُ: لَمَّا كَانَتْ هِمَّةُ الطَّالِبِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَجْمُوعَةٌ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ مُعْرِضٌ عَمَّا سِوَاهُ، قَدْ فَارَقَ مَقَامَ التَّفْرِقَةِ، وَجَاوَزَ حَدَّهَا إِلَى مَقَامِ الْجَمْعِ، فَابْتَدَأَ فِي الْمَقَامِ وَأَوَّلُ كُلِّ مَقَامٍ يُشْبِهُ آخِرَ الَّذِي قَبْلَهُ فَلَمَّا تَوَسَّطَ فِيهِ اسْتَغْرَقَ قَلْبَهُ وَهَمَّهُ وَإِرَادَتَهُ، كَمَا يَغْرَقُ مَنْ تَوَسَّطَ اللُّجَّةَ فِيهَا قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى آخِرِهَا. [دَرَجَاتُ الْغَرَقِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى اسْتِغْرَاقُ الْعِلْمِ فِي عَيْنِ الْحَالِ] قَوْلُهُ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ؛ الدَّرَجَةُ الْأُولَى: اسْتِغْرَاقُ الْعِلْمِ فِي عَيْنِ الْحَالِ، وَهَذَا رَجُلٌ قَدْ ظَفِرَ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَتَحَقَّقَ فِي الْإِشَارَةِ، فَاسْتَحَقَّ صِحَّةَ النِّسْبَةِ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ الَّتِي بَدَأَ بِهَا هِيَ أَوَّلُ دَرَجَاتِهِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِالشَّيْءِ وَلَا يَكُونُ مُتَّصِفًّا بِالتَّخَلُّقِ بِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ، فَالْعِلْمُ شَيْءٌ وَالْحَالُ شَيْءٌ آخَرٌ. فَعِلْمُ الْعِشْقِ وَالصِّحَّةِ وَالشُّكْرِ وَالْعَافِيَةِ غَيْرُ حُصُولِهَا وَالِاتِّصَافِ بِهَا، فَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ صَارَ عِلْمُهُ بِهَا كَالْمَغْفُولِ عَنْهُ، وَلَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ، بَلْ صَارَ الْحُكْمُ لِلْحَالِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ يَعْرِفُ الْخَوْفَ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ، وَلَكِنْ إِذَا اتَّصَفَ بِالْخَوْفِ وَبَاشَرَ الْخَوْفُ قَلْبَهُ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الْخَوْفِ وَالِانْزِعَاجِ، وَاسْتَغْرَقَ عِلْمُهُ فِي حَالِهِ، فَلَمْ يَذْكُرْ عِلْمَهُ لِغَلَبَةِ حَالِهِ عَلَيْهِ.

فصل الدرجة الثانية استغراق الإشارة في الكشف

وَمَنْ هَذِهِ حَالُهُ فَقَدْ ظَفِرَ بِالِاسْتِقَامَةِ؛ لِأَنَّ الْعُلُومَ إِذَا أَثْمَرَتِ الْأَحْوَالَ؛ كَانَتْ عَنْهَا الِاسْتِقَامَةُ فِي الْأَعْمَالِ وَوُقُوعُهَا عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ، وَتَحَقُّقُ صَاحِبِهَا فِي الْإِشَارَةِ إِلَى مَا وَجَدَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ تَكُنْ إِشَارَتُهُ عَنْ تَخْمِينٍ وَظَنٍّ وَحُسْبَانٍ. وَاسْتَحَقَّ اسْمَ النِّسْبَةِ فِي صِحَّةِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَى الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِقَوْلِهِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] ، وَقَوْلِهِ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] ، وَقَوْلِهِ: {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68] . وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا انْتَقَلَ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ وَحْدَهُ إِلَى أَحْكَامِ الْعَمَلِ بِالْحَالِ الْمُصَاحِبِ لِلْعِلْمِ، فَهُوَ عَامِلٌ بِالْمَوَاجِيدِ الْحَالِيَّةِ الْمَصْحُوبَةِ بِالْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ، فَإِنَّ انْفِرَادَ الْعِلْمِ عَنِ الْحَالِ تَعْطِيلٌ وَبَطَالَةٌ، وَانْفِرَادُ الْحَالِ عَنِ الْعِلْمِ كُفْرٌ وَإِلْحَادٌ، وَالْأَكْمَلُ: أَنْ لَا يَغِيبَ عَنْ شُهُودِ الْعِلْمِ بِالْحَالِ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَهُ الْحَالُ عَنْ شُهُودِ الْعِلْمِ مَعَ قِيَامِهِ بِأَحْكَامِهِ؛ لَمْ يَضُرَّهُ. قَوْلُهُ: " وَهَذَا رَجُلٌ قَدْ ظَفِرَ بِالِاسْتِقَامَةِ " أَيْ: هُوَ عَلَى مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ الْقَاصِدِ إِلَى اللَّهِ، الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَ " الظَّفَرُ " هُوَ حُصُولُ الْإِنْسَانِ عَلَى مَطْلُوبِهِ. قَوْلُهُ: " وَتَحَقَّقَ فِي الْإِشَارَةِ " أَيْ: إِشَارَتُهُ إِشَارَةُ تَحْقِيقٍ، لَيْسَتْ كَإِشَارَةِ صَاحِبِ الْبَرْقِ الَّذِي يَلُوحُ ثُمَّ يَذْهَبُ. قَوْلُهُ: " فَاسْتَحَقَّ صِحَّةَ النِّسْبَةِ " لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَامَ، وَصَحَّ حَالُهُ بِعَمَلِهِ، وَأَثْمَرَ عِلْمُهُ حَالَهُ: صَحَّتْ نِسْبَةُ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا نِسْبَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ إِلَّا نِسْبَةَ الْعُبُودِيَّةِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ اسْتِغْرَاقُ الْإِشَارَةِ فِي الْكَشْفِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتِغْرَاقُ الْإِشَارَةِ فِي الْكَشْفِ، وَهَذَا رَجُلٌ يَنْطِقُ عَنْ مَوْجُودِهِ، وَيَسِيرُ مَعَ مَشْهُودِهِ، وَلَا يُحِسُّ بِرُعُونَةِ رَسْمِهِ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَرْفَعُ مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّرَجَةِ الْأُولَى غَايَتُهُ أَنْ

فصل الدرجة الثالثة استغراق الشواهد في الجمع

يُشِيرَ إِلَى مَا تُحَقِّقُهُ وَإِنْ فَارَقَهُ، وَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ قَدْ فَنِيَ عَنِ الْإِشَارَةِ، لِغَلَبَةِ تَوَالِي نُورِ الْكَشْفِ عَلَيْهِ، فَاسْتِغْرَاقُ الْإِشَارَةِ فِي الْكَشْفِ هُوَ ارْتِفَاعُ حُكْمِهَا فِيهِ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ عِنْدَهُمْ نِدَاءٌ عَلَى رَأْسِ الْعَبْدِ، وَبَوْحٌ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ، وَقَدِ ارْتَفَعَتِ الْعِلَلُ عَنْ صَاحِبِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ، فَاسْتَغْرَقَتْ إِشَارَتُهُ فِي كَشْفِهِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِشَارَةٌ فِي الْكَشْفِ، وَإِنَّمَا تَرْتَفِعُ الْإِشَارَةُ لِاسْتِغْرَاقِ الْكَشْفِ لَهَا، إِلَّا أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ رُعُونَةِ رَسْمِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَا يُحِسُّ بِرُعُونَةِ رَسْمِهِ، وَرُعُونَةُ الرَّسْمِ: هِيَ الْتِفَاتُهُ إِلَى إِنِّيَّتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَهَذَا رَجُلٌ يَنْطِقُ عَنْ مَوْجُودِهِ. أَيْ: لَا يَسْتَعِيرُ مَا يَذْكُرُهُ مِنَ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَكُونُ لِسَانُهُ نَاطِقًا بِهِ عَلَى حَالِ غَيْرِهِ وَمَوْجُودِهِ، فَهُوَ يَنْطِقُ عَنْ أَمْرٍ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ لَا وَصَّافٌ لَهُ. قَوْلُهُ: " وَيَسِيرُ مَعَ مَشْهُودِهِ " هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ؛ أَيْ: يَسِيرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ شُهُودٍ وَكَشْفٍ، لَا مَعَ حِجَابٍ وَغَفْلَةٍ، فَهُوَ سَائِرٌ إِلَى اللَّهِ بِاللَّهِ مَعَ اللَّهِ. قَوْلُهُ: " وَلَا يُحِسُّ بِرُعُونَةِ رَسْمِهِ " الرَّسْمُ عِنْدَهُمْ هُوَ ذَاتُ الْعَبْدِ الَّتِي تَفْنَى عِنْدَ الشُّهُودِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِفَنَائِهَا عَدَمَهَا مِنَ الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ، بَلْ عَدَمَهَا مِنَ الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ الْعِلْمِيِّ، هَذَا مُرَادُهُمْ بِقَوْلِهِمْ: فَنِيَ مَنْ لَمْ يَكُنْ، وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَزَلْ. وَقَدْ يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ: اضْمِحْلَالُ الْوُجُودِ الْمُحْدَثِ الْحَاصِلِ بَيْنَ عَدَمَيْنِ، وَتَلَاشِيهِ فِي الْوُجُودِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. وَلِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالٌ يَجُولُ فِيهِ، وَيَقُولُ: إِنَّ الْوُجُودَ الْمُحْدَثَ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَإِنَّ الْوُجُودَ الْقَدِيمَ الدَّائِمَ وَحْدَهُ هُوَ الثَّابِتُ لَا وُجُودَ لِغَيْرِهِ، لَا فِي ذِهْنٍ وَلَا فِي خَارِجٍ، وَإِنَّمَا هُوَ وُجُودٌ فَائِضٌ عَلَى الدَّوَامِ عَلَى مَاهِيَّاتٍ مَعْدُومَةٍ، فَتَكْتَسِي بِعَيْنِ وَجُودِهِ بِحَسْبِ اسْتِعْدَادَاتِهَا، وَالْمَقْصُودُ: شَرْحُ كَلَامِ الشَّيْخِ. وَالْمُرَادُ بِرُعُونَةِ الرَّسْمِ هَاهُنَا: بَقِيَّةٌ تَبْقَى مِنْ صَاحِبِ الشُّهُودِ، لَا يُدْرِكُهَا لِضَعْفِهَا وَقِلَّتِهَا، وَاشْتِغَالِهِ بِنُورِ الْكَشْفِ عَنْ ظُلْمَتِهَا، فَهُوَ لَا يُحِسُّ بِهَا. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ اسْتِغْرَاقُ الشَّوَاهِدِ فِي الْجَمْعِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتِغْرَاقُ الشَّوَاهِدِ فِي الْجَمْعِ، وَهَذَا رَجُلٌ شَمَلَتْهُ أَنْوَارُ

فصل الغيبة

الْأَوَّلِيَّةِ، فَفَتَحَ عَيْنَهُ فِي مُطَالَعَةِ الْأَزَلِيَّةِ، فَتَخَلَّصَ مِنَ الْهِمَمِ الدَّنِيَّةِ. إِنَّمَا كَانَ هَذَا الِاسْتِغْرَاقُ عِنْدَهُ أَكْمَلَ مِمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِغْرَاقٌ كَاشِفٌ فِي كَشْفٍ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِتَفْرِقَةٍ، وَهَذَا اسْتِغْرَاقٌ عَنْ شُهُودِ كَشْفِهِ فِي الْجَمْعِ، فَتَمَكَّنَ هَذَا فِي حَالِ جَمْعِ هِمَّتِهِ مَعَ الْحَقِّ حَتَّى غَابَ عَنْ إِدْرَاكِ شُهُودِهِ، وَذَكَرَ رُسُومَهُ، لَمَّا تَوَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَنْوَارِ الَّتِي خَصَّهُ الْحَقُّ بِهَا فِي الْأَزَلِ، وَهِيَ أَنْوَارُ كَشْفِ اسْمِهِ الْأَوَّلِ فَفَتَحَ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ فِي مُطَالَعَةِ الِاخْتِصَاصَاتِ الْأَزَلِيَّةِ، فَتَخَلَّصَ بِذَلِكَ مِنَ الْهِمَمِ الدَّنِيَّةِ الْمُنْقَسِمَةِ بَيْنَ تَغْيِيرِ مَقْسُومٍ، أَوْ تَفْوِيتِ مَضْمُونٍ، أَوْ تَعْجِيلِ مُؤَخَّرٍ، أَوْ تَأْخِيرِ سَابِقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ يُرَادُ بِالْهِمَمِ الدَّنِيَّةِ تَعَلُّقُهَا بِمَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَمَا كَانَ لَهُ، وَعَلَى هَذَا فَاسْتِغْرَاقُ شَوَاهِدِهِ فِي جَمْعِ الْحِكَمِ وَشُمُولِهِ. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ اسْتِغْرَاقُ شَوَاهِدِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِي الذَّاتِ الْجَامِعَةِ لَهَا، فَإِنَّ الذَّاتَ جَامِعَةٌ لِأَسْمَائِهَا وَصِفَاتِهَا، فَإِذَا اسْتَغْرَقَ الْعَبْدُ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ غَابَتِ الشَّوَاهِدُ فِي تِلْكَ الْحَضْرَةِ. وَأَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَشْهَدَ كَثْرَةً فِي وَحْدَةٍ، وَوَحْدَةً فِي كَثْرَةٍ، بِمَعْنَى: أَنْ يَشْهَدَ كَثْرَةَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِي الذَّاتِ الْوَاحِدَةِ، وَوَحْدَةَ الذَّاتِ مَعَ كَثْرَةِ أَسْمَائِهَا وَصِفَاتِهَا. وَقَوْلُهُ: " فَفَتَحَ عَيْنَهُ فِي مُطَالَعَةِ الْأَزَلِيَّةِ " نَظَرَ بِاللَّهِ لَا بِنَفْسِهِ، وَاسْتَمَدَّ مِنْ فَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ لَا مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَتَحْقِيقِهِ، فَشَاهَدَ سَبْقَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ وَأَوَّلِيَّتَهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، فَتَخَلَّصَ مِنْ هِمَمِ الْمَخْلُوقِينَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَدْنَى، وَصَارَتْ لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَبِّهِ الْأَعْلَى تَسْرَحُ فِي رِيَاضِ الْأُنْسِ بِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى مَقَامَاتِهَا تَحْتَ عَرْشِهِ سَاجِدَةً لَهُ، خَاضِعَةً لِعَظَمَتِهِ، مُتَذَلِّلَةً لِعِزَّتِهِ، لَا تَبْغِي عَنْهُ حَوْلًا وَلَا تَرُومُ بِهِ بَدَلًا. [فَصْلُ الْغَيْبَةِ] [حَقِيقَةُ الْغَيْبَةِ] فَصْلُ الْغَيْبَةِ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ الْغَيْبَةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] .

درجات الغيبة

وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ أَنَّ يَعْقُوبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِحُبِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَذِكْرِهِ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ أَخِيهِ، مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِ بِمُصِيبَةِ فِرَاقِهِ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ مَعَ ذَلِكَ وَلَمْ يَتَأَسَّفْ عَلَيْهِ غَيْبَةً عَنْهُ بِمَحَبَّةِ يُوسُفَ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 31] لَكَانَ دَلِيلًا أَيْضًا، فَإِنَّ مُشَاهَدَتَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ غَيَّبَ عَنِ النِّسْوَةِ السَّكَاكِينَ وَمَا يَقْطَعْنَ بِهِنَّ، حَتَّى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَلَا يَشْعُرْنَ، وَذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ الْغَيْبَةِ. [دَرَجَاتُ الْغَيْبَةِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى غَيْبَةُ الْمُرِيدِ فِي تَخَلُّصِ الْقَصْدِ عَنْ أَيْدِي الْعَلَائِقِ] قَالَ الشَّيْخُ: الْغَيْبَةُ الَّتِي يُشَارُ إِلَيْهَا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ؛ الْأُولَى: غَيْبَةُ الْمُرِيدِ فِي تَخَلُّصِ الْقَصْدِ عَنْ أَيْدِي الْعَلَائِقِ، وَدَرْكِ الْعَوَائِقِ لِالْتِمَاسِ الْحَقَائِقِ. يُرِيدُ غَيْبَةَ الْمُرِيدِ عَنْ بَلَدِهِ وَوَطَنِهِ وَعَادَاتِهِ، فِي مَحَلِّ تَخْلِيصِ الْقَصْدِ وَتَصْحِيحِهِ لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ الْعَلَائِقَ، وَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِقَلْبِهِ وَقَالِبِهِ وَحِسِّهِ مِنَ الْمَأْلُوفَاتِ، وَيَسْبِقُ الْعَوَائِقَ حَتَّى لَا تَلْحَقَهُ وَلَا تُدْرِكَهُ. قَوْلُهُ: " لِالْتِمَاسِ الْحَقَائِقِ " مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: " غَيْبَةُ الْمُرِيدِ " أَيْ: هَذِهِ الْغَيْبَةُ لِالْتِمَاسِ الْحَقَائِقِ، فَإِنَّ الْعَوَائِقَ وَالْعَلَائِقَ تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَلَبِهَا وَحُصُولِهَا لِمُضَادَّتِهَا لَهَا. وَالْحَقَائِقُ جَمْعُ حَقِيقَةٍ، وَيُرَادُ بِهَا الْحَقُّ تَعَالَى وَمَا نُسِبَ إِلَيْهِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ، وَوَعْدُهُ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُهُ الْحَقُّ، وَرَسُولُهُ حَقٌّ، وَعُبُودِيَّتُهُ وَحْدَهُ حَقٌّ، وَعُبُودِيَّةُ مَا سِوَاهُ الْبَاطِلُ، فَكُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْمُرِيدَ إِنْ لَمْ يَتَخَلَّصْ قَصْدُهُ فِي مَطْلُوبِهِ عَمَّا يَعُوقُهُ مِنَ الشَّوَاغِلِ أَوْ مَا يُدْرِكُهُ مِنَ الْمُعَوِّقَاتِ؛ لَمْ يَبْلُغْ مَقْصُودَهُ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، وَإِنْ وَصَلَ إِلَيْهِ فَبَعْدَ جُهْدٍ شَدِيدٍ وَمَشَقَّةٍ، بِسَبَبِ تِلْكَ الشَّوَاغِلِ، وَلَمْ يَصِلِ الْقَوْمُ إِلَى مَطْلَبِهِمْ إِلَّا بِقَطْعِ الْعَلَائِقِ وَرَفْضِ الشَّوَاغِلِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ غَيْبَةُ السَّالِكِ عَنْ رُسُومِ الْعِلْمِ وَعِلَلِ السَّعْيِ وَرُخَصِ الْفُتُورِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: غَيْبَةُ السَّالِكِ عَنْ رُسُومِ الْعِلْمِ، وَعِلَلِ السَّعْيِ، وَرُخَصِ الْفُتُورِ.

فصل الدرجة الثالثة غيبة العارف عن عيون الأحوال والشواهد والدرجات في عين الجمع

يُرِيدُ: أَنَّهُ يَنْتَقِلُ عَنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ إِلَى الْحَالِ، وَهَذَا كَلَامٌ فِيهِ إِجْمَالٌ، فَالْمُلْحِدُ يَفْهَمُ مِنْهُ: أَنَّهُ يُفَارِقُ أَحْكَامَ الْعِلْمِ، وَيَقِفُ مَعَ أَحْكَامِ الْحَالِ، وَهَذَا زَنْدَقَةٌ وَإِلْحَادٌ. وَالْمُوَحِّدُ يَفْهَمُ مِنْهُ: أَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ وَحْدَهُ إِلَى أَحْكَامِ الْحَالِ الْمُصَاحِبِ لِلْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ الْخَالِيَ عَنِ الْحَالِ ضَعْفٌ فِي الطَّرِيقِ، وَالْحَالَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الْعِلْمِ ضَلَالٌ عَنِ الطَّرِيقِ، وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِحَالٍ مُجَرَّدٍ عَنْ عِلْمٍ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا. قَوْلُهُ: " وَعِلَلُ السَّعْيِ " يَعْنِي: أَنَّ السَّالِكَ يَغِيبُ عَنْ عِلَلِ سَعْيِهِ وَعَمَلِهِ. وَهَذِهِ الْعِلَلُ عِنْدَهُمْ: هِيَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ يَصِلُ بِهَا إِلَى اللَّهِ، وَسُكُونُهُ إِلَيْهَا، وَفَرَحُهُ بِهَا وَرُؤْيَتُهَا، فَيَغِيبُ عَنْ هَذِهِ الْعِلَلِ. وَمَرَادُهُ بِغَيْبَتِهِ عَنْهَا: إِعْدَامُهَا حَتَّى لَا تَحْضُرَهُ، لَا أَنَّهُ يَغِيبُ عَنْهَا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ قَائِمَةٌ، نَعَمْ؛ إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ يُوصِلُهُ إِلَيْهِ بِهَا، وَيَفْرَحُ بِهَا مِنْ جِهَةِ الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ وَسَبْقِ الْأَوَّلِيَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ الِاكْتِسَابِ وَالْفِعْلِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ، بَلْ هَذَا أَكْمَلُ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ سُكُونٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفَرَحٌ بِهِ، وَاعْتِقَادٌ أَنَّهُ هُوَ الْمُوَصِّلُ لِعَبْدِهِ إِلَيْهِ بِمَا مِنْهُ وَحْدَهُ، لَا بِحَوْلِ الْعَبْدِ وَقُوَّتِهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَهَذَا لَوْنٌ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ إِذَا انْتَقَلَ عَنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ الْمُجَرَّدِ إِلَى أَحْكَامِ الْحَالِ الْمُصَاحِبِ لِلْعِلْمِ غَابَتْ عَنْهُ عِلَلُ السَّعْيِ. وَكَذَلِكَ تَغِيبُ عَنْهُ رُخَصُ الْفُتُورِ فَلَا يَنْظُرُ إِلَى عَزِيمَةِ السَّعْيِ، وَلَا يَقِفُ مَعَ رُخَصِ الْفُتُورِ، فَهُمَا آفَتَانِ لِلسَّالِكِ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُجَرِّدَ عَزْمَهُ وَهِمَّتَهُ، فَيَنْظُرُ إِلَى مَا مِنْهُ، وَأَنَّ هِمَّتَهُ وَعَزِيمَتَهُ تَحْمِلُهُ وَتَقُومُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَرَخَّصَ بِرُخَصٍ تُفَتِّرُ عَزْمَهُ وَهِمَّتَهُ، فَكَمَالُ جَدِّهِ وَصِدْقِهِ وَصِحَّةِ طَلَبِهِ يُخَلِّصُهُ مِنْ رُخَصِ الْفُتُورِ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ وَنَفْسِهِ يُخَلِّصُهُ مِنْ عِلَلِ السَّعْيِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ غَيْبَةُ الْعَارِفِ عَنْ عُيُونِ الْأَحْوَالِ وَالشَّوَاهِدِ وَالدَّرَجَاتِ فِي عَيْنِ الْجَمْعِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: غَيْبَةُ الْعَارِفِ عَنْ عُيُونِ الْأَحْوَالِ وَالشَّوَاهِدِ وَالدَّرَجَاتِ فِي عَيْنِ الْجَمْعِ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ عِنْدَهُ أَعْلَى عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي كَوْنِ الْفَنَاءِ غَايَةَ الطَّالِبِ.

وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ هِيَ غَيْبَتُهُ عَنْ خَيْرَاتٍ وَمَقَامَاتٍ بِمَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْهَا وَأَشْرَفُ عِنْدَهُ، وَهُوَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ. وَمَعْنَى غَيْبَتِهِ عَنْ عُيُونِ الْأَحْوَالِ هُوَ أَنْ لَا يَرَى الْأَحْوَالَ وَلَا تَرَاهُ، فَلِذَلِكَ اسْتَعَارَ لَهَا عُيُونًا؛ لِأَنَّ الْأَحْوَالَ تَقْتَضِي وَجْدًا وَمَوْجُودًا وَوِجْدَانًا، وَهَذَا يُنَافِي الْفَنَاءَ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ يَمْحُو أَثَرَ الرُّسُومِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِرَارًا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَمَالٍ، وَلَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ، وَغَيْرُهُ أَكْمَلُ مِنْهُ. وَأَمَّا " غَيْبَتُهُ عَنِ الشَّوَاهِدِ " فَقَدْ يُرِيدُ بِهَا شَوَاهِدَ الْمَعْرِفَةِ وَأَدِلَّتَهَا، فَيَغِيبُ بِمَعْرُوفِهِ عَنِ الشَّوَاهِدِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فِي الْخَارِجِ وَفِي نَفْسِهِ. وَقَدْ يُرِيدُ بِالشَّوَاهِدِ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ، وَالْغَيْبَةُ عَنْهَا بِشُهُودِ الذَّاتِ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَمَالٍ، وَلَا هُوَ أَعْلَى مِنْ شُهُودِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، بَلْ هَذَا الشُّهُودُ هُوَ شُهُودُ الْمُعَطِّلَةِ الْمُنْكِرِينَ لِحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنَّهُمْ يَنْتَهُونَ فِي فَنَائِهِمْ إِلَى شُهُودِ ذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ. وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ الْمَلَاحِدَةُ الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَجَعَلُوا شُهُودَ نَفْسِ الْوُجُودِ الْمُجَرَّدِ عَنِ التَّقْيِيدَاتِ، وَعَنْ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ شُهُودُ الْحَقِيقَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ كُفْرِهِمْ وَإِلْحَادِهِمْ عُلُّوًا كَبِيرًا، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ بَرَاءٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ شُهُودِهِمْ. وَمُرَادُ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ بِذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ الذَّاتَ الْجَامِعَةَ لِجَمِيعِ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، فَيُغَيِّبُهُ شُهُودُهُ لِهَذِهِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ عَنْ شُهُودِ صِفَةٍ وَاسْمٍ. فَالشَّوَاهِدُ هِيَ الْأَفْعَالُ الدَّالَّةُ عَلَى الصِّفَاتِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلَذَّاتِ، وَشَوَاهِدُ الْمَعْرِفَةِ هِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي حَصَلَتْ عَنْهَا الْمَعْرِفَةُ، فَإِذَا طَوَاهَا الشَّاهِدُ مِنْ وُجُودِهِ، وَشَهِدَ أَنَّهُ مَا عَرَفَ اللَّهَ إِلَّا بِهِ، وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ إِلَّا هُوَ غَابَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُهُ فِي مَشْهُودِهِ، كَمَا تَغِيبُ مَعَارِفُهُ فِي مَعْرُوفِهِ. وَبِكُلِّ حَالٍ فَمَا عُرِفَ اللَّهُ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا دَلَّ عَلَى اللَّهِ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا أَوْصَلَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا اللَّهُ، فَهُوَ الدَّالُّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا نَصَبَهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ الذَّاكِرُ لِنَفْسِهِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» وَهُوَ الْمُحِبُّ

لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَبِمَا خَلَقَ مِنْ عَبِيدِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ، وَالشَّاكِرُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَبِمَا أَجْرَاهُ عَلَى أَلْسِنَةِ عَبِيدِهِ وَقُلُوبِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، فَمِنْهُ السَّبَبُ وَهُوَ الْغَايَةُ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] . وَلِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالٌ، حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ الذَاكِرَ وَالْمَذْكُورَ وَالذِّكْرَ، وَالْعَارِفَ وَالْمَعْرُوفَ وَالْمَعْرِفَةَ، وَالْمُحِبَّ وَالْمَحْبُوبَ وَالْمَحَبَّةَ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، لَا بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ، وَأَنَّ الَّذِي عَرَفَ اللَّهَ وَأَحَبَّهُ هُوَ اللَّهُ نَفْسُهُ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ مَظَاهِرُهُ، فَالظَّاهِرُ فِيهَا وَاحِدٌ، ظَهَرَ بِوُجُودِهِ الْعَيْنِيِّ فِيهَا، فَوُجُودُهَا عَيْنُ وُجُودِهِ، وَوُجُودُهُ فَاضَ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَكْفَرُ مِنْ كُلِّ كُفْرٍ، وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ إِلْحَادٍ. وَالْمُوَحِّدُونَ يَقُولُونَ: إِنَّمَا فَاضَ عَلَيْهَا إِيجَادُهُ لَا وُجُودُهُ، فَظَهَرَ فِيهَا فِعْلُهُ، بَلْ أَثَرُ فِعْلِهِ لَا ذَاتِهِ وَلَا صِفَاتِهِ، فَقَامَتْ بِهِ فَقْرًا إِلَيْهِ وَاحْتِياجًا لَا وُجُودًا وَذَاتًا، وَأَقَامَهَا بِمَشِيئَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ لَا بِظُهُورِهِ فِيهَا. وَلَقَدْ لَحَظَ مَلَاحِدَةُ الِاتِّحَادِيَّةِ أَمْرًا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ فِي وَحْدَةِ الْمُوجِدِ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَتَوْحِيدِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ بِتَوْحِيدِ الْوُجُودِ، وَفَيَضَانِ جُودِهِ بِفَيَضَانِ وَجُودِهِ، فَوَحَّدُوا الْوُجُودَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، فَصَارُوا عَبِيدَ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ فِي غَيْرِ الْأَذْهَانِ، وَعَبِيدُ الْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجَةِ فِي الْأَعْيَانِ، فَإِنَّ وُجُودَهَا عِنْدَهُمْ: هُوَ الْمُسَمَّى بِاللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذَا الْإِلْحَادِ الَّذِي {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90] وَسُبْحَانَ مَنْ هُوَ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ بِذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. أَيْنَ حَقِيقَةُ الْمَخْلُوقِ مِنَ الْمَاءِ الْمَهِينِ مِنْ ذَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ أَيْنَ الْمُكَوَّنُ مِنْ تُرَابٍ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ؟ أَيْنَ الْفَقِيرُ بِالذَّاتِ إِلَى الْغَنِيِّ بِالذَّاتِ؟ أَيْنَ وُجُودُ مَنْ يَضْمَحِلُّ وَجُودُهُ وَيَفُوتُ إِلَى حَقِيقَةِ وُجُودِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ؟ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ - هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22 - 24] .

فصل التمكن

[فَصْلُ التَّمَكُّنِ] [حَقِيقَةُ التَّمَكُّنِ] قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ التَّمَكُّنِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] . وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِالْآيَةِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتَمَكِّنَ لَا يُبَالِي بِكَثْرَةِ الشَّوَاغِلِ، وَلَا بِمُخَالَطَةِ أَصْحَابِ الْغَفَلَاتِ، وَلَا بِمُعَاشَرَةِ أَهْلِ الْبَطَالَاتِ، بَلْ قَدْ تَمَكَّنَ بِصَبْرِهِ وَيَقِينِهِ عَنِ اسْتِفْزَازِهِمْ إِيَّاهُ، وَاسْتِخْفَافِهِمْ لَهُ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم: 60] فَمَنْ وَفَّى الصَّبْرَ حَقَّهُ، وَتَيَقَّنَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ لَمْ يَسْتَفِزَّهُ الْمُبْطِلُونَ، وَلَمْ يَسْتَخِفَّهُ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ وَمَتَى ضَعُفَ صَبْرُهُ وَيَقِينُهُ أَوْ كِلَاهُمَا اسْتَفَزَّهُ هَؤُلَاءِ وَاسْتَخَفَّهُ هَؤُلَاءِ، فَجَذَبُوهُ إِلَيْهِمْ بِحَسَبِ ضَعْفِ قُوَّةِ صَبْرِهِ وَيَقِينِهِ، فَكُلَّمَا ضَعُفَ ذَلِكَ مِنْهُ قَوِيَ جَذْبُهُمْ لَهُ، وَكُلَّمَا قَوِيَ صَبْرُهُ وَيَقِينُهُ قَوِيَ انْجِذَابُهُ مِنْهُمْ وَجَذْبُهُ لَهُمْ. فَصْلٌ. قَالَ الشَّيْخُ: التَّمَكُّنُ: فَوْقَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى غَايَةِ الِاسْتِقْرَارِ. التَّمَكُّنُ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَيُسَمَّى مَكَانَةً أَيْضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} [الأنعام: 135] الْآيَةَ.

درجات التمكن

وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ فِي اصْطِلَاحِ الْقَوْمِ: عَلَى مَنِ انْتَقَلَ إِلَى مَقَامِ الْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ وَهُوَ الْوُصُولُ عِنْدَهُمْ، وَحَقِيقَتُهُ: ظَفَرُ الْعَبْدِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَنْ تَتَوَارَى عَنْهُ أَحْكَامُ الْبَشَرِيَّةِ بِطُلُوعِ شَمْسِ الْحَقِيقَةِ وَاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِهَا، فَإِذَا دَامَتْ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ أَوْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ فَهُوَ صَاحِبُ تَمْكِينٍ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: التَّمَكُّنُ: فَوْقَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى غَايَةِ الِاسْتِقْرَارِ إِنَّمَا كَانَ فَوْقَ الطُّمَأْنِينَةِ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعَ نَوْعٍ مِنَ الْمُنَازَعَةِ، فَيَطْمَئِنُّ الْقَلْبُ إِلَى مَا يَسْكُنُهُ، وَقَدْ يَتَمَكَّنُ فِيهِ وَقَدْ لَا يَتَمَكَّنُ، وَلِذَلِكَ كَانَ التَّمَكُّنُ هُوَ غَايَةُ الِاسْتِقْرَارِ، وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ الْمَكَانِ، فَكَأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَقَامُهُ مَكَانًا لِقَلْبِهِ قَدْ تَبَوَّأَهُ مَنْزِلًا وَمُسْتَقَرًّا. [دَرَجَاتُ التَّمَكُّنِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى تَمَكُّنُ الْمُرِيدِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَمَكُّنُ الْمُرِيدِ؛ وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ صِحَّةُ قَصْدٍ يُسَيِّرُهُ، وَلَمْعُ شُهُودِهِ يَحْمِلُهُ، وَسِعَةُ طَرِيقٍ تُرَوِّحُهُ. الْمُرِيدُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ: هُوَ الَّذِي قَدْ شَرَعَ فِي السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ فَوْقَ الْعَابِدِ وَدُونَ الْوَاصِلِ، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ بِحَسْبِ حَالِ السَّالِكِينَ، وَإِلَّا فَالْعَابِدُ مُرِيدٌ، وَالسَّالِكُ مُرِيدٌ، وَالْوَاصِلُ مُرِيدٌ، فَالْإِرَادَةُ لَا تُفَارِقُ الْعَبْدَ مَا دَامَ تَحْتَ حُكْمِ الْعُبُودِيَّةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ لِلتَّمَكُّنِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: صِحَّةُ قَصْدٍ، وَصِحَّةُ عِلْمٍ، وَسِعَةُ طَرِيقٍ، فَبِصِحَّةِ الْقَصْدِ يَصِحُّ سَيْرُهُ، وَبِصِحَّةِ الْعِلْمِ تَنْكَشِفُ لَهُ الطَّرِيقُ، وَبِسِعَةِ الطَّرِيقِ يَهُونُ عَلَيْهِ السَّيْرُ، وَكُلُّ طَالِبِ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَعَيُّنِ مَطْلُوبِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَمَعْرِفَةُ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَالْأَخْذُ فِي السُّلُوكِ، فَمَتَى فَاتَهُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ: لَمْ يَصِحَّ طَلَبُهُ وَلَا سَيْرُهُ، فَالْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ مَطْلُوبٍ يَتَعَيَّنُ إِيثَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَطَلَبٍ يَقُومُ بِقَصْدِ مَنْ يَقْصِدُهُ، وَطَرِيقٍ تُوَصِّلُ إِلَيْهِ. فَإِذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ بِطَلَبِ رَبِّهِ وَحْدَهُ: تَعَيَّنَ مَطْلُوبُهُ، فَإِذَا بَذَلَ جُهْدَهُ فِي طَلَبِهِ صَحَّ لَهُ طَلَبُهُ، فَإِذَا تَحَقَّقَ بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ صَحَّ لَهُ طَرِيقُهُ، وَصِحَّةُ الْقَصْدِ وَالطَّرِيقِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْمَطْلُوبِ وَتَعَيُّنِهِ. فَحُكْمُ الْقَصْدِ يُتَلَقَّى مِنْ حُكْمِ الْمَقْصُودِ، فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ أَهْلًا لِلْإِيثَارِ كَانَ الْقَصْدُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ كَذَلِكَ، فَالْقَصْدُ وَالطَّرِيقُ تَابِعَانِ لِلْمَقْصُودِ. وَتَمَامُ الْعُبُودِيَّةِ: أَنْ يُوَافِقَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقْصُودِهِ وَقَصْدِهِ وَطَرِيقِهِ، فَمَقْصُودُهُ:

فصل الدرجة الثانية تمكن السالك

اللَّهُ وَحْدَهُ، وَقَصْدُهُ: تَنْفِيذُ أَوَامِرِهِ فِي نَفْسِهِ وَفِي خَلْقِهِ، وَطَرِيقُهُ: اتِّبَاعُ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَصَحِبَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَحِقُوا بِهِ، ثُمَّ جَاءَ التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَمَضَوْا عَلَى آثَارِهِمْ. ثُمَّ تَفَرَّقَتِ الطُّرُقُ بِالنَّاسِ، فَخِيَارُ النَّاسِ مَنْ وَافَقَهُ فِي الْمَقْصُودِ وَالطَّرِيقِ، وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَنْ خَالَفَهُ فِي الْمَقْصُودِ وَالطَّرِيقِ؛ وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ بِالْمَعْبُودِ، وَالْبِدْعَةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَهُ فِي الْمَقْصُودِ وَخَالَفَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَهُ فِي الطَّرِيقِ وَخَالَفَهُ فِي الْمَقْصُودِ. فَمَنْ كَانَ مُرَادُهُ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَقَدْ وَافَقَهُ فِي الْمَقْصُودِ، فَإِنْ عَبَدَ اللَّهَ بِمَا بِهِ أَمَرَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ وَافَقَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَإِنْ عَبَدَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَهُ فِي الطَّرِيقِ. وَمَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْعِبَادَةِ، وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا الرِّيَاسَةَ، فَقَدْ خَالَفَهُ فِي الْمَقْصُودِ، وَإِنْ تَقَيَّدَ بِالْأَمْرِ. فَإِنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِ، فَقَدْ خَالَفَهُ فِي الْمَقْصُودِ وَالطَّرِيقِ. فَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَقَوْلُ الشَّيْخِ " تَمَكُّنُ الْمُرِيدِ: أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ صِحَّةُ قَصْدٍ يُسَيِّرُهُ " إِشَارَةً إِلَى صِحَّةِ الْقَصْدِ. وَقَوْلُهُ: " وَلَمْعُ شُهُودٍ يَحْمِلُهُ " إِشَارَةً إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَقْصُودِ، وَقُوَّةِ الْيَقِينِ، فَيَحْصُلُ لِقَلْبِهِ كَشْفٌ يَحْمِلُهُ عَلَى سُلُوكِهِ، فَإِنَّ السَّالِكَ إِذَا كُشِفَ لَهُ عَنْ مَقْصُودِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يُعَايِنُهُ جَدَّ فِي طَلَبِهِ، وَذَهَبَتْ عَنْهُ رُخَصُ الْفُتُورِ. وَقَوْلُهُ: " وَسِعَةُ طَرِيقٍ تُرَوِّحُهُ " إِشَارَةً إِلَى صِحَّةِ طَرِيقِهِ، وَذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: بِسِعَتِهَا حَتَّى لَا تَضِيقَ عَلَيْهِ، فَيَعْجَزُ عَنْ سُلُوكِهَا، وَبِاسْتِقَامَتِهَا حَتَّى لَا يَزِيغَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَإِنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاسِعَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ، وَطُرُقَ الْبَاطِلِ ضَيِّقَةٌ مُعْوَجَّةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُسُوخِ الشَّيْخِ فِي الْعِلْمِ، وَوُقُوفِهِ مَعَ السُّنَّةِ، وَفِقْهِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تَمَكُّنُ السَّالِكِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَكُّنُ السَّالِكِ، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ صِحَّةُ انْقِطَاعٍ، وَبَرْقُ كَشْفٍ، وَضِيَاءُ حَالٍ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَتَمُّ مِمَّا قَبْلَهَا، فَإِنَّ تِلْكَ تَمَكُّنٌ فِي تَصْحِيحِ قَصْدِ الْأَعْمَالِ، وَهَذِهِ

فصل الدرجة الثالثة تمكن العارف

تَمَكُّنٌ فِي حَالِ التَّمَكُّنِ، وَالتَّمَكُّنُ فِي الْحَالِ أَبْلَغُ مِنَ التَّمَكُّنِ فِي الْقَصْدِ. وَيُرِيدُ بِصِحَّةِ الِانْقِطَاعِ: انْقِطَاعَ قَلْبِهِ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَتَعَلُّقَهُ بِالشَّوَاغِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَكْدَارِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ لِقَلْبِهِ " بَرْقُ كَشْفٍ " يَجْعَلُ الْإِيمَانَ لَهُ كَالْعِيَانِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَحَالُهُ مَعَ اللَّهِ صَافٍ مِنْ مُعَارَضَاتِ السِّوَى، فَلَا يُعَارِضُ كَشْفُهُ شُبْهَةً، وَلَا هِمَّتُهُ إِرَادَةً، بَلْ هُوَ مُتَمَكِّنٌ فِي انْقِطَاعِهِ وَشُهُودِهِ وَحَالِهِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَمَكُّنُ الْعَارِفِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَكُّنُ الْعَارِفِ، وَهُوَ أَنْ يَحْصُلَ فِي الْحَضْرَةِ فَوْقَ حَجْبِ الطَّلَبِ لَابِسًا نُورَ الْوُجُودِ. الْعَارِفُ فَوْقَ السَّالِكِ، وَلَا يُفَارِقُهُ السُّلُوكُ، لَكِنَّهُ مَعَ السُّلُوكِ قَدْ ظَفِرَ بِالْمَعْرِفَةِ، فَأَخَذَ مِنْهَا اسْمًا أَخَصَّ مِنَ اسْمِ السَّالِكِ، وَهَكَذَا الشَّأْنُ فِي سَائِرِ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِنَّهَا لَا تُفَارِقُ مَنْ تَرَقَّى فِيهَا، وَلَكِنْ إِذَا تَرَقَّى فِي مَقَامٍ أَخَذَ اسْمَهُ، وَكَانَ أَحَقَّ بِهِ مَعَ ثُبُوتِ الْأَوَّلِ لَهُ. وَالْحَضْرَةُ يُرَادُ بِهَا حَضْرَةُ الْجَمْعِ، وَعِنْدِي: أَنَّهَا حَضْرَةُ دَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ مَقَامِ الْإِحْسَانِ، هَذِهِ حَضْرَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعَارِفِينَ. وَأَمَّا حَضْرَةُ الْجَمْعِ الَّتِي يُشِيرُونَ إِلَيْهَا فَكُلُّ فِرْقَةٍ تُشِيرُ إِلَى شَيْءٍ، فَأَهْلُ الْفَنَاءِ يُرِيدُونَ حَضْرَةَ جَمْعِ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَهْلُ الْإِلْحَادِ: يُرِيدُونَ حَضْرَةَ جَمْعِ الْوُجُودِ فِي وُجُودٍ وَاحِدٍ، وَطَائِفَةٌ مِنَ السَّالِكِينَ يُرِيدُونَ حَضْرَةَ جَمْعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِي ذَاتٍ وَاحِدَةٍ.

وَإِذَا فُسِّرَتْ بِحَضْرَةِ دَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَالتَّمَكُّنِ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ كَانَ ذَلِكَ أَحْسَنَ وَأَصَحَّ، وَصَاحِبُ هَذِهِ الْحَضْرَةِ لِدَوَامِ مُرَاقَبَتِهِ قَدِ انْقَشَعَتْ عَنْهُ سُحُبُ الْغَفَلَاتِ، وَلَمْ تَشْغَلْهُ عَنْ تِلْكَ الْحَضْرَةِ الشَّوَاغِلُ الْمُلْهِيَاتُ. قَوْلُهُ: " فَوْقَ حُجُبِ الطَّلَبِ " يَعْنِي أَنَّ الْعَارِفَ قَدِ ارْتَفَعَ عَنْ مَقَامِ الطَّلَبِ لِلْمَعْرِفَةِ إِلَى مَقَامِ حُصُولِهَا، وَالطَّالِبُ لِلْأَمْرِ دُونَ الْوَاصِلِ إِلَيْهِ، فَالطَّالِبُ بَعُدَ فِي حِجَابِ طَلَبِهِ، وَالْعَارِفُ قَدِ ارْتَفَعَ فَوْقَ حِجَابِ الطَّلَبِ بِمَا شَاهَدَهُ مِنَ الْحَقِيقَةِ، فَالطَّالِبُ شَيْءٌ، وَالْوَاجِدُ شَيْءٌ. وَهَذَا كَلَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ وَبَيَانٍ، فَإِنَّ الطَّلَبَ لَا يُفَارِقُ الْعَبْدَ، مَا دَامَتْ أَحْكَامُ الْعُبُودِيَّةِ تَجْرِي عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ مُتَنَقِّلٌ فِي مَنَازِلِ الطَّلَبِ، يَنْتَقِلُ مِنْ عُبُودِيَّةٍ إِلَى عُبُودِيَّةٍ، وَالْمَعْبُودُ وَاحِدٌ جَلَّ وَعَلَا، لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَجَرُّدُ الْمَعْرِفَةِ عَنِ الطَّلَبِ؟ هَذَا مَوْضِعٌ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ، وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ، وَظَنَّ الْمَخْدُوعُونَ الْمَغْرُورُونَ أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَغْنَوْا بِالْمَعْرِفَةِ عَنِ الطَّلَبِ، وَأَنَّ الطَّلَبَ وَسِيلَةٌ وَالْمَعْرِفَةَ غَايَةٌ، وَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِالْوَسِيلَةِ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى الْغَايَةِ. فَهَؤُلَاءِ خَرَجُوا عَنِ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَعْدَ أَنْ شَمَّرُوا فِي السَّيْرِ فِيهَا، فَرُدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ، وَنَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَلَمْ يَفْهَمُوا مُرَادَ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ بِذِكْرِ حَجْبِ الطَّلَبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا مِنْكَ حِجَابٌ عَلَى مَطْلُوبِكَ، فَإِنْ وَقَفْتَ مَعَهُ فَأَنْتَ دُونَ الْحِجَابِ، وَإِنْ قَطَعْتَهُ إِلَى تَجْرِيدِ الْمَطْلُوبِ صِرْتَ فَوْقَ الْحِجَابِ، فَطَلَبُكَ وَإِرَادَتُكَ وَتَوَكُّلُكَ، وَحَالُكُ وَعَمَلُكَ كُلُّهُ حِجَابٌ، إِنْ وَقَفْتَ مَعَهُ أَوْ رَكَنْتَ إِلَيْهِ، وَإِنْ جَاوَزْتَهُ إِلَى الَّذِي أَنْتَ بِهِ وَلَهُ وَفِي يَدَيْهِ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَيْسَ لَكَ ذَرَّةٌ وَاحِدَةٌ إِلَّا بِهِ وَمِنْهُ، وَلَمْ تَقِفْ مَعَ طَلَبِكَ فِي إِرَادَتِكَ فَقَدْ صِرْتَ فَوْقَ حِجَابِ الطَّلَبِ. فَفِي الْحَقِيقَةِ: أَنْتَ حِجَابُ قَلْبِكَ عَنْ رَبِّكِ، فَإِذَا كَشَفْتَ الْحِجَابَ عَنِ الْقَلْبِ أَفْضَى إِلَى الرَّبِّ، وَوَصَلَ إِلَى الْحَضْرَةِ الْمُقَدَّسَةِ. وَقَوْلُنَا: " إِذَا كَشَفْتَ الْحِجَابَ " إِخْبَارٌ عَنْ مَحَلِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِلَّا فَكَشْفُهُ لَيْسَ بِيَدِكَ، وَلَا أَنْتَ الْكَاشِفُ لَهُ، فَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ. وَمِنْ أَعْظَمِ الضُّرِّ: حِجَابُ الْقَلْبِ عَنِ الرَّبِّ، وَهُوَ أَعْظَمُ عَذَابًا مِنَ الْجَحِيمِ، قَالَ

فصل المكاشفة

تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ - ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15 - 16] . قَوْلُهُ: " لَابِسًا نُورَ الْوُجُودِ " الْمَعْنَى الصَّحِيحُ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ: أَنَّ نُورَ الْوُجُودِ نُورُ ظَفَرِهِ بِإِقْبَالِ قَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَمْعِ هَمِّهِ عَلَيْهِ، وَفَنَائِهِ بِمُرَادِهِ عَنْ مُرَادِ نَفْسِهِ، فَصَارَ وَاجِدًا لِمَا أَكْثَرُ الْخَلْقِ فَاقِدٌ لَهُ، قَدْ لَبِسَ قَلْبَهُ نُورُ ذَلِكَ الْوُجُودِ، حَتَّى فَاضَ عَلَى لِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَحَرَكَاتِهِ وَسَكْنَاتِهِ، فَإِنْ نَطَقَ عَلَاهُ النُّورُ وَإِنْ سَكَتَ عَلَاهُ النُّورُ. وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا: أَنَّهُ قَدْ فَاضَ عَلَى قَلْبِهِ نُورُ الْيَقِينِ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَصَارَ لِقَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهَا وَالْإِيمَانِ بِهَا، وَذَوْقِ حَلَاوَةِ ذَلِكَ نُورٌ خَاصٌّ غَيْرُ مُجَرَّدِ نُورِ الْعِبَادَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسُّلُوكِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَلْتَفِتَ إِلَى غَيْرِ هَذَا {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل: 94] . وَلَيْسَ مُرَادُ الشَّيْخِ بِالْوُجُودِ مَا يُرِيدُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْفَلَاسِفَةُ، وَلَا مَا يُرِيدُهُ الِاتِّحَادِيَّةُ الْمَلَاحِدَةُ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِهِ الْوِجْدَانُ بَعْدَ الْفَقْدِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ وَاجِدٌ، وَفُلَانٌ فَاقِدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلُ الْمُكَاشَفَةِ] قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ الْمُكَاشَفَةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] . وَجْهُ احْتِجَاجِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَشَفَ لِعَبْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَكْشِفْهُ لِغَيْرِهِ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى مَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَحَصَلَ لِقَلْبِهِ الْكَرِيمِ مِنَ انْكِشَافِ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا تَخْطُرُ بِبَالِ غَيْرِهِ مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ، وَالْإِيحَاءُ هُوَ الْإِعْلَامُ السَّرِيعُ الْخَفِيُّ، وَمِنْهُ الْوَحَا الْوَحَا؛ أَيِ: الْإِسْرَاعُ الْإِسْرَاعُ. قَوْلُهُ: " مَا أَوْحَى " أَبْهَمَهُ لِعِظَمِهِ، فَإِنَّ الْإِبْهَامَ قَدْ يَقَعُ لِلتَّعْظِيمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] أَيْ: أَمْرٌ عَظِيمٌ فَوْقَ الصِّفَةِ.

قَالَ الشَّيْخُ: الْمُكَاشَفَةُ: مُهَادَاةُ السِّرِّ بَيْنَ مُتَبَاطِنَيْنِ، يُرِيدُ أَنَّ الْمُكَاشَفَةَ إِطْلَاعُ أَحَدِ الْمُتَحَابَّيْنِ الْمُتَصَافِيَيْنِ صَاحِبَهُ عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِ وَسِرِّهِ. قَوْلُهُ: " مُهَادَاةُ السِّرِّ " أَيْ: تَرَدُّدُ السِّرِّ عَلَى وَجْهِ الْإِلْطَافِ وَالْمَوَدَّةِ. قَوْلُهُ: " بَيْنَ مُتَبَاطِنَيْنِ " يَعْنِي بِالْمُتَبَاطِنَيْنِ: بَاطِنُ الْمُكَاشِفِ وَالْمُكَاشَفِ، فَيُحْمَلُ سِرُّ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ، كَمَا يُحْمَلُ إِلَيْهِ هَدِيَّتُهُ، فَيَسْرِي سِرُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ، وَإِذَا بَلَغَ الْعَبْدُ فِي مَقَامِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى حَدٍّ كَأَنَّهُ يُطَالِعُ مَا اتَّصَفَ بِهِ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَنُعُوتِ الْجَلَالِ، وَأَحَسَّتْ رُوحُهُ بِالْقُرْبِ الْخَاصِّ الَّذِي لَيْسَ هُوَ كَقُرْبِ الْمَحْسُوسِ مِنَ الْمَحْسُوسِ، حَتَّى يُشَاهِدَ رَفْعَ الْحِجَابِ بَيْنَ رُوحِهِ وَقَلْبِهِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَإِنَّ حِجَابَهُ هُوَ نَفْسُهُ، وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ ذَلِكَ الْحِجَابَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَفْضَى الْقَلْبُ وَالرُّوحُ حِينَئِذٍ إِلَى الرَّبِّ، فَصَارَ يَعْبُدُهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِذَا تَحَقَّقَ بِذَلِكَ، وَارْتَفَعَ عَنْهُ حِجَابُ النَّفْسِ، وَانْقَشَعَ عَنْهُ ضَبَابُهَا وَدُخَانُهَا وَكُشِطَتْ عَنْهُ سُحُبُهَا وَغُيُومُهَا، فَهُنَاكَ يُقَالُ لَهُ: بِذَلِكَ سِرٌّ طَالَ عَنْكَ اكْتَتَامُهُ ... وَلَاحَ صَبَاحٌ كُنْتَ أَنْتَ ظَلَامُهُ فَأَنْتَ حِجَابُ الْقَلْبِ عَنْ سِرِّ غَيْبِهِ ... وَلَوْلَاكَ لَمْ يُطَبَعْ عَلَيْهِ خِتَامُهُ فَإِنْ غِبْتَ عَنْهُ حَلَّ فِيهِ وَطَنَّبَتْ ... عَلَى مَنْكِبِ الْكَشْفِ الْمَصُونِ خِيَامُهُ وَجَاءَ حَدِيثٌ لَا يُمَلُّ سَمَاعُهُ ... شَهِيٌّ إِلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ إِذَا ذَكَرَتْهُ النَّفْسُ زَالَ عَنَاؤُهَا ... وَزَالَ عَنِ الْقَلْبِ الْكَئِيبِ قَتَامُهُ فَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ: وَهِيَ فِي هَذَا الْبَابِ: بُلُوغُ مَا وَرَاءَ الْحِجَابِ وُجُودًا. قَوْلُهُ: " وُجُودًا " احْتِرَازٌ مِنْ بُلُوغِهِ سَمَاعًا وَعِلْمًا، وَكَثِيرًا مَا يَلْتَبِسُ عَلَى الْعَبْدِ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَأَيْنَ وُجُودُ الْحَقِيقَةِ مِنَ الْعِلْمِ بِهَا وَمَعْرِفَتِهَا؟ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَتَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالْقَلْبِ شَيْءٌ، وَاتِّصَافُهُ بِالْمَعْلُومِ شَيْءٌ آخَرُ. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ سَمَاعُ ذَلِكَ دُونَ فَهْمِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَهْمُهُ دُونَ حَقِيقَتِهِ، وَالتَّعَلُّقُ الْكَامِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُودُهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: بُلُوغُ مَا وَرَاءَ الْحِجَابِ وُجُودًا. قَالَ الشَّيْخُ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ؛ الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُكَاشَفَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّحْقِيقِ الصَّحِيحِ، وَهِيَ لَا تَكُونُ مُسْتَدَامَةً، فَإِذَا كَانَتْ حِينًا دُونَ حِينٍ، وَلَمْ يُعَارِضْهَا

تَفَرُّقٌ، غَيْرَ أَنَّ الْغَيْنَ رُبَّمَا شَابَ مَقَامَهُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا لَا يَلْفِتُهُ قَاطِعٌ، وَلَا يَلْوِيهِ سَبَبٌ، وَلَا يَقْتَطِعُهُ حَظٌّ، وَهِيَ دَرَجَةُ الْقَاصِدِ، فَإِذَا اسْتَدَامَتْ فَهِيَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ. الْمُكَاشَفَةُ الصَّحِيحَةُ: عُلُومٌ يُحْدِثُهَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَيُطْلِعُهُ بِهَا عَلَى أُمُورٍ تَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ يُوَالِيهَا وَقَدْ يُمْسِكُهَا عَنْهُ بِالْغَفْلَةِ عَنْهَا، وَيُوَارِيهَا عَنْهُ بِالْغَيْنِ الَّذِي يَغْشَى قَلْبَهُ، وَهُوَ أَرَقُّ الْحُجُبِ، أَوْ بِالْغَيْمِ، وَهُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ أَوْ بِالرَّانِ، وَهُوَ أَشَدُّهَا. فَالْأَوَّلُ: يَقَعُ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» . وَالثَّانِي: يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالثَّالِثُ: لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هُوَ الذَّنْبُ بَعْدَ الذَّنْبِ يُغَطِّي الْقَلْبَ حَتَّى يَصِيرَ كَالرَّانِ عَلَيْهِ. وَالْحُجُبُ عَشَرَةُ الْأَوَّلُ: حِجَابُ التَّعْطِيلِ، وَنَفْيُ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ أَغْلَظُهَا، فَلَا يَتَهَيَّأُ لِصَاحِبِ هَذَا الْحِجَابِ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ، وَلَا يَصِلَ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ إِلَّا كَمَا يَتَهَيَّأُ لِلْحَجَرِ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى فَوْقَ. الثَّانِي: حِجَابُ الشِّرْكِ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَبَّدَ قَلْبُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ. الثَّالِثُ: حِجَابُ الْبِدْعَةِ الْقَوْلِيَّةِ، كَحِجَابِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَالْمَقَالَاتِ الْفَاسِدَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا. الرَّابِعُ: حِجَابُ الْبِدْعَةِ الْعَمَلِيَّةِ، كَحِجَابِ أَهْلِ السُّلُوكِ الْمُبْتَدِعِينَ فِي طَرِيقِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ. الْخَامِسُ: حِجَابُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْبَاطِنَةِ، كَحِجَابِ أَهْلِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالرِّيَاءِ وَالْحَسَدِ، وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَنَحْوِهَا. السَّادِسُ: حِجَابُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الظَّاهِرَةِ، وَحِجَابُهُمْ أَرَقُّ مِنْ حِجَابِ إِخْوَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْبَاطِنَةِ، مَعَ كَثْرَةِ عِبَادَاتِهِمْ وَزَهَادَاتِهِمْ وَاجْتِهَادَاتِهِمْ، فَكَبَائِرُ هَؤُلَاءِ أَقْرَبُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ كَبَائِرِ أُولَئِكَ، فَإِنَّهَا قَدْ صَارَتْ مَقَامَاتٍ لَهُمْ لَا يَتَحَاشَوْنَ مِنْ إِظْهَارِهَا وَإِخْرَاجِهَا فِي قَوَالِبَ عِبَادَةٍ وَمَعْرِفَةٍ، فَأَهْلُ الْكَبَائِرِ الظَّاهِرَةِ أَدْنَى إِلَى السَّلَامَةِ مِنْهُمْ.

وَقُلُوبُهُمْ خَيْرٌ مِنْ قُلُوبِهِمْ. السَّابِعُ: حِجَابُ أَهْلِ الصَّغَائِرِ. الثَّامِنُ: حِجَابُ أَهْلِ الْفَضَلَاتِ، وَالتَّوَسُّعِ فِي الْمُبَاحَاتِ. التَّاسِعُ: حِجَابُ أَهْلِ الْغَفْلَةِ عَنِ اسْتِحْضَارِ مَا خُلِقُوا لَهُ وَأُرِيدَ مِنْهُمْ، وَمَا لِلَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ دَوَامِ ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ. الْعَاشِرُ: حِجَابُ الْمُجْتَهِدِينَ السَّالِكِينَ، الْمُشَمِّرِينَ فِي السَّيْرِ عَنِ الْمَقْصُودِ. فَهَذِهِ عَشْرُ حُجُبٍ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الشَّأْنِ، وَهَذِهِ الْحُجُبُ تَنْشَأُ مِنْ أَرْبَعَةِ عَنَاصِرَ: عُنْصُرُ النَّفْسِ، وَعُنْصُرُ الشَّيْطَانِ، وَعُنْصُرُ الدُّنْيَا، وَعُنْصُرُ الْهَوَى، فَلَا يُمْكِنُ كَشْفُ هَذِهِ الْحُجُبِ مَعَ بَقَاءِ أُصُولِهَا وَعَنَاصِرِهَا فِي الْقَلْبِ أَلْبَتَّةَ. وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْعَنَاصِرُ: تُفْسِدُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ وَالْقَصْدَ وَالطَّرِيقَ بِحَسْبِ غَلَبَتِهَا وَقِلَّتِهَا، فَتَقْطَعُ طَرِيقَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْقَصْدِ: أَنْ يَصِلَ إِلَى الْقَلْبِ، وَمَا وَصَلَ مِنْهُ إِلَى الْقَلْبِ قَطَعَتْ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ: أَنْ يَصِلَ إِلَى الرَّبِّ، فَبَيْنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَبَيْنَ الْقَلْبِ مَسَافَةٌ يُسَافِرُ فِيهَا الْعَبْدُ إِلَى قَلْبِهِ لِيَرَى عَجَائِبَ مَا هُنَالِكَ، وَفِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ الْمَذْكُورُونَ، فَإِنْ حَارَبَهُمْ وَخَلَصَ الْعَمَلُ إِلَى قَلْبِهِ دَارَ فِيهِ، وَطَلَبَ النُّفُوذَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ دُونَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42] فَإِذَا وَصَلَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَثَابَهُ عَلَيْهِ مَزِيدًا فِي إِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ وَعَقْلِهِ، وَجَمَّلَ بِهِ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ، فَهَدَاهُ بِهِ لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَصَرَفَ عَنْهُ بِهِ سَيِّئَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَقَامَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ لِلْقَلْبِ جُنْدًا يُحَارِبُ بِهِ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَيُحَارِبُ الدُّنْيَا بِالزُّهْدِ فِيهَا وَإِخْرَاجِهَا مِنْ قَلْبِهِ، وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ وَبَيْتِهِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ يَقِينِهِ بِالْآخِرَةِ، يُحَارِبُ الشَّيْطَانَ بِتَرْكِ الِاسْتِجَابَةِ لِدَاعِي الْهَوَى، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْهَوَى لَا يُفَارِقُهُ، وَيُحَارِبُ الْهَوَى بِتَحْكِيمِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ وَالْوُقُوفِ مَعَهُ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهُ هَوًى فِيمَا يَفْعَلُهُ وَيَتْرُكُهُ، وَيُحَارِبُ النَّفْسَ بِقُوَّةِ الْإِخْلَاصِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا وَجَدَ الْعَمَلُ مَنْفَذًا مِنَ الْقَلْبِ إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِنْ دَارَ فِيهِ وَلَمْ يَجِدْ مَنْفَذًا وَثَبَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ، فَأَخَذَتْهُ وَصَيَّرَتْهُ جُنْدًا لَهَا، فَصَالَتْ بِهِ وَعَلَتْ

وَطَغَتْ، فَتَرَاهُ أَزْهَدُ مَا يَكُونُ، وَأَعْبَدُ مَا يَكُونُ، وَأَشَدُّ اجْتِهَادًا، وَهُوَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنِ اللَّهِ، وَأَصْحَابُ الْكَبَائِرِ أَقْرَبُ قُلُوبًا إِلَى اللَّهِ مِنْهُ، وَأَدْنَى مِنْهُ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَالْخَلَاصِ. فَانْظُرْ إِلَى السَّجَّادِ الْعَبَّادِ الزَّاهِدِ الَّذِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ، كَيْفَ أَ‍وْرَثَهُ طُغْيَانُ عَمَلِهِ أَنْ أَنْكَرَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوْرَثَ أَصْحَابَهُ احْتِقَارَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى سَلَّوْا عَلَيْهِمْ سُيُوفَهُمْ، وَاسْتَبَاحُوا دِمَاءَهُمْ. وَانْظُرْ إِلَى الشِّرِّيبِ السِّكِّيرِ الَّذِي كَانَ كَثِيرًا مَا يُؤْتَى بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَحُدُّهُ عَلَى الشَّرَابِ، كَيْفَ قَامَتْ بِهِ قُوَّةُ إِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ، وَمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَوَاضُعِهِ وَانْكِسَارِهِ لِلَّهِ حَتَّى نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَعْنِهِ. فَظَهَرَ بِهَذَا: أَنَّ طُغْيَانَ الْمَعَاصِي أَسْلَمُ عَاقِبَةً مِنْ طُغْيَانِ الطَّاعَاتِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْحَى إِلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُوسَى، أَنْذِرِ الصِّدِّيقِينَ، فَإِنِّي لَا أَضَعُ عَدْلِي عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَذَّبْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَظْلِمَهُ، وَبَشِّرِ الْخَطَّائِينَ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَاظَمُنِي ذَنْبٌ أَنْ أَغْفِرَهُ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. قَوْلُهُ: " مُكَاشَفَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّحْقِيقِ الصَّحِيحِ " كُلٌّ يَدَّعِي أَنَّ التَّحْقِيقَ الصَّحِيحَ مَعَهُ. وَكُلٌّ يَدَّعُونَ وِصَالَ لَيْلَى ... وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بِذَاكَ

إِذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى فَلَيْسَ التَّحْقِيقُ الصَّحِيحُ: إِلَّا الْمُطَابِقُ لِمَا عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ فِي الْعِلْمِ الْكَشْفُ الْمُطَابِقُ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرُّسُلُ، وَفِي الْإِرَادَةِ: الْكَشْفُ الْمُطَابِقُ لِمُرَادِ الرَّبِّ الدِّينِيِّ مِنْ عَبْدِهِ، وَقَوْلُنَا " الدِّينِيُّ " احْتِرَازٌ مِنْ مُرَادِهِ الْكَوْنِيِّ، فَإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْكَوْنِ مُوجِبُ هَذِهِ الْإِرَادَةِ. فَالْكَشْفُ الصَّحِيحُ: أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ مُعَايَنَةً لِقَلْبِهِ، وَيُجَرِّدَ إِرَادَةَ الْقَلْبِ لَهُ، فَيَدُورُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ الصَّحِيحُ، وَمَا خَالَفَهُ فَغُرُورٌ قَبِيحٌ. قَوْلُهُ: " وَهِيَ لَا تَكُونُ مُسْتَدَامَةً " هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي نُسَخٍ وَفِي أُخْرَى " وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَدِيمَةً " وَكَأَنَّ هَذَا الثَّانِيَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَدَامَةٍ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى، فَإِذَا اسْتَدَامَتْ صَارَتْ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتْ مُسْتَدَامَةً فِيهِمَا لَكَانَتِ الدَّرَجَتَانِ وَاحِدَةً. قَوْلُهُ: فَإِذَا كَانَتْ حِينًا دُونَ حِينٍ، وَلَمْ يُعَارِضْهَا تَفَرُّقٌ. يَعْنِي: فَهِيَ الدَّرَجَةُ الْأَوْلَى، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقْطَعَ حُكْمَهَا تَفَرُّقٌ، وَلِهَذَا قَالَ: لَمْ يُعَارِضْهَا، وَلَمْ يَقُلْ: لَمْ يَعْرِضْ لَهَا، فَإِنَّ التَّفَرُّقَ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِضَ، لَكِنْ لَا يُعَارِضُهَا وَيُقَاوِمُهَا بِحَيْثُ يُزِيلُهَا، فَإِنَّ الْعَارِضَ إِذَا عَرَضَ لِلْقَلْبِ كَرِهَهُ وَمَحَاهُ وَأَزَالَهُ بِسُرْعَةٍ. وَأَمَّا الْمُعَارِضُ: فَإِنَّهُ يُزِيلُ الْحَاصِلَ وَيَخْلُفُهُ، فَيَصِيرُ الْحُكْمُ لَهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: غَيْرَ أَنَّ الْغَيْنَ رُبَّمَا شَابَ مَقَامَهُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا، إِلَى آخِرِهِ. يَعْنِي: أَنَّ لَوَازِمَ الْبَشَرِيَّةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَخَفَّهَا، وَهُوَ الْحِجَابُ الرَّقِيقُ الَّذِي يَعْرِضُ لِقَلْبِهِ، وَهُوَ الْغَيْنُ لَكِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا لَا يَلْفِتُهُ قَاطِعٌ أَيْ: لَا تُوجِبُ لَهُ الْقَوَاطِعُ الْتِفَاتَ قَلْبِهِ عَنْ مَقَامِهِ إِلَيْهَا، بَلْ إِذَا لَحَظَهَا بِقَلْبِهِ فَرَّ مِنْهَا، كَمَا يَفِرُّ الظَّبْيُ مِنَ الْكَلْبِ الصَّائِدِ إِذَا أَحَسَّ بِهِ وَلَا يَلْوِيهِ سَبَبٌ؛ أَيْ: لَا يُعَوِّجُ قَصْدَهُ لِلْحَقِّ سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَلَا يَرُدُّهُ عَنْهُ. قَوْلُهُ: " وَلَا يَقْطَعُهُ حَظٌّ " أَيْ: لَا يَقْطَعُهُ عَنْ بُلُوغِ مَقْصُودِهِ حَظٌّ مِنَ الْحُظُوظِ النَّفْسِيَّةِ، وَ " الْقَاصِدُ " فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: هُوَ الَّذِي قَدْ ظَفِرَ بِالْقَصْدِ الَّذِي لَا يَلْقَى سَبَبًا إِلَّا قَطَعَهُ، وَلَا حَائِلًا إِلَّا مَنَعَهُ، وَلَا تَحَامُلًا إِلَّا سَهَّلَهُ. فَهَذِهِ دَرَجَةُ الْقَاصِدِ، فَإِذَا اسْتَدَامَتْ وَتَمَكَّنَ فِيهَا السَّالِكُ فَهِيَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ.

قَالَ الشَّيْخُ: وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: فَمُكَاشَفَةُ عَيْنٍ، لَا مُكَاشَفَةُ عِلْمٍ، وَهِيَ مُكَاشَفَةٌ لَا تَذَرُ سِمَةً تُشِيرُ إِلَى الْتِذَاذٍ، أَوْ تُلْجِئُ إِلَى تَوَقُّفٍ، أَوْ تَنْزِلُ إِلَى رَسْمٍ، وَغَايَةُ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةِ الْمُشَاهَدَةُ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ مُكَاشَفَةُ عَيْنٍ لِغَلَبَةِ نُورِ الْكَشْفِ عَلَى الْقَلْبِ، فَتَنَزَّلَتْ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةُ مِنَ الْقَلْبِ، وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلَّ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ وَلَا تَكْذِيبُهُ، بَلْ صَارَتْ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْئِيِّ لِلْبَصَرِ، وَالْمَسْمُوعِ لِلْأُذُنِ وَالْوِجْدَانِيَّاتِ لِلنَّفْسِ، وَكَمَا أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ بِالْبَصَرِ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعَ صِحَّةِ الْقُوَّةِ الْمُدْرَكَةِ، وَعَدَمِ الْحَائِلِ مِنْ جِسْمٍ أَوْ ظُلْمَةٍ، وَانْتِفَاءِ الْبُعْدِ الْمُفْرِطِ فَكَذَلِكَ الْمُكَاشَفَةُ بِالْبَصِيرَةِ تَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الْقَلْبِ، وَعَدَمَ الْحَائِلِ وَالشَّاغِلِ، وَقُرْبَ الْقَلْبِ مِمَّنْ يُكَاشِفُهُ بِأَسْرَارِهِ. وَلَيْسَ مُرَادُ الشَّيْخِ فِي هَذَا الْبَابِ: الْكَشْفَ الْجُزْئِيَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، كَالْكَشْفِ عَمَّا فِي دَارِ إِنْسَانٍ، أَوْ عَمَّا فِي يَدِهِ، أَوْ تَحْتَ ثِيَابِهِ، أَوْ مَا حَمَلَتْ بِهِ امْرَأَتُهُ بَعْدَ انْعِقَادِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَمَا غَابَ عَنِ الْعِيَانِ مِنْ أَحْوَالِ الْبُعْدِ الشَّاسِعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ تَارَةً، وَمِنَ النَّفْسِ تَارَةً، وَلِذَلِكَ يَقَعُ مِنَ الْكُفَّارِ، كَالنَّصَارَى، وَعَابِدِي النِّيرَانِ وَالصُّلْبَانِ، فَقَدْ كَاشَفَ ابْنُ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أَضْمَرَهُ لَهُ وَخَبَّأَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ» فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْكَشْفَ مِنْ جِنْسِ كَشْفِ الْكُهَّانِ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْرُهُ، وَكَذَلِكَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابِ مَعَ فَرْطِ كُفْرِهِ كَانَ يُكَاشِفُ أَصْحَابَهُ بِمَا فَعَلَهُ أَحَدُهُمْ فِي بَيْتِهِ وَمَا قَالَهُ لِأَهْلِهِ، يُخْبِرُهُ بِهِ شَيْطَانُهُ، لِيَغْوِيَ النَّاسَ، وَكَذَلِكَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، وَالْحَارِثُ الْمُتَنَبِّي الدِّمَشْقِيُّ الَّذِي خَرَجَ فِي دَوْلَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ، وَقَدْ رَأَيْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَشَاهَدَ النَّاسُ مِنْ كَشْفِ الرُّهْبَانِ عُبَّادِ الصَّلِيبِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَالْكَشْفُ الرَّحْمَانِيُّ مِنْ هَذَا النَّوْعِ: هُوَ مِثْلُ كَشْفِ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ امْرَأَتَهُ حَامِلٌ بِأُنْثَى، وَكَشْفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَالَ: يَا سَارِيَةَ الْجَبَلِ، وَأَضْعَافُ هَذَا مِنْ كَشْفِ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مُرَادَ الْقَوْمِ بِالْكَشْفِ فِي هَذَا الْبَابِ أَمْرٌ وَرَاءَ ذَلِكَ، وَأَفْضَلُهُ

وَأَجَلُّهُ أَنْ يَكْشِفَ لِلسَّالِكِ عَنْ طَرِيقِ سُلُوكِهِ لِيَسْتَقِيمَ عَلَيْهَا، وَعَنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ لِيُصْلِحَهَا، وَعَنْ ذُنُوبِهِ لِيَتُوبَ مِنْهَا. فَمَا أَكْرَمَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِكَرَامَةٍ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْكَشْفِ، وَجَعَلَهُمْ مُنْقَادِينَ لَهُ عَامِلِينَ بِمُقْتَضَاهُ، فَإِذَا انْضَمَّ هَذَا الْكَشْفُ إِلَى كَشْفِ تِلْكَ الْحُجُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ قُلُوبِهِمْ، سَارَتِ الْقُلُوبُ إِلَى رَبِّهَا سَيْرَ الْغَيْثِ إِذَا اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ. فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. فَقَوْلُهُ: " الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مُكَاشَفَةُ عَيْنٍ، لَا مُكَاشَفَةُ عِلْمٍ " أَيْ: مُتَعَلِّقُ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةِ عَيْنُ الْحَقِيقَةِ، بِخِلَافِ مُكَاشَفَةِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ مُتَعَلِّقَهَا الصُّورَةُ الذِّهْنِيَّةُ الْمُطَابِقَةُ لِلْحَقِيقَةِ الْخَارِجِيَّةِ، فَكَشْفُ الْعِلْمِ: أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِمَعْلُومِهِ، وَكَشْفُ الْعِيَانِ: أَنْ يَصِيرَ الْمَعْلُومُ مُشَاهَدًا لِلْقَلْبِ، كَمَا تُشَاهِدُ الْعَيْنُ الْمَرْئِيَّ. وَمَنْ ظَنَّ مِنَ الْقَوْمِ أَنَّ كَشْفَ الْعَيْنِ ظُهُورُ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ لِعِيَانِهِ حَقِيقَةً فَقَدْ غَلَطَ أَقْبَحَ الْغَلَطِ، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ: أَنْ يَكُونَ صَادِقًا مَلْبُوسًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ فِي الدُّنْيَا لِبَشَرٍ قَطُّ، وَقَدْ مُنِعَ مِنْهُ كَلِيمُ الرَّحْمَنِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ: هَلْ حَصَلَ هَذَا لِسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؟ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَحَكَاهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ إِجْمَاعًا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنِ ادَّعَى كَشْفَ الْعِيَانِ الْبَصْرِيِّ عَنِ الْحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَقَدْ وَهِمَ وَأَخْطَأَ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ كَشْفُ الْعِيَانِ الْقَلْبِيِّ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ كَأَنَّهُ مَرْئِيٌّ لِلْعَبْدِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» فَهَذَا حَقٌّ، وَهُوَ قُوَّةُ يَقِينٍ، وَمَزِيدُ عِلْمٍ فَقَطْ. نَعَمْ؛ قَدْ يَظْهَرُ لَهُ نُورٌ عَظِيمٌ، فَيَتَوَهَّمُ أَنَّ ذَلِكَ نُورُ الْحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّهَا قَدْ تَجَلَّتْ لَهُ، وَذَلِكَ غَلَطٌ أَيْضًا، فَإِنَّ نُورَ الرَّبِّ تَعَالَى لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَلَمَّا ظَهَرَ لِلْجَبَلِ مِنْهُ أَدْنَى

شَيْءٍ سَاخَ الْجَبَلُ وَتَدَكْدَكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] قَالَ: ذَاكَ نُورُهُ الَّذِي هُوَ نُورُهُ إِذَا تَجَلَّى بِهِ لَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ. وَهَذَا النُّورُ الَّذِي يَظْهَرُ لِلصَّادِقِ: هُوَ نُورُ الْإِيمَانِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَهَذَا نُورٌ يُضَافُ إِلَى الرَّبِّ، وَيُقَالُ: هُوَ نُورُ اللَّهِ، كَمَا أَضَافَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ: نُورُ الْإِيمَانِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ خَلْقًا وَتَكْوِينًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] فَهَذَا النُّورُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْقَلْبِ، وَأَشْرَقَ فِيهِ فَاضَ عَلَى الْجَوَارِحِ، فَيُرَى أَثَرُهُ فِي الْوَجْهِ وَالْعَيْنِ، وَيَظْهَرُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَقَدْ يَقْوَى حَتَّى يُشَاهِدَهُ صَاحِبُهُ عِيَانًا، وَذَلِكَ لِاسْتِيلَاءِ أَحْكَامِ الْقَلْبِ عَلَيْهِ، وَغَيْبَةِ أَحْكَامِ النَّفْسِ. وَالْعَيْنُ شَدِيدَةُ الِارْتِبَاطِ بِالْقَلْبِ تُظْهِرُ مَا فِيهِ، فَتَقْوَى مَادَّةُ النُّورِ فِي الْقَلْبِ وَيَغِيبُ صَاحِبُهُ بِمَا فِي قَلْبِهِ عَنْ أَحْكَامِ حِسِّهِ، بَلْ وَعَنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ، فَيَنْتَقِلُ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ إِلَى أَحْكَامِ الْعِيَانِ. وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ أَحْكَامَ الطَّبِيعَةِ وَالنَّفْسِ شَيْءٌ، وَأَحْكَامَ الْقَلْبِ شَيْءٌ، وَأَحْكَامَ الرُّوحِ شَيْءٌ، وَأَنْوَارَ الْعِبَادَاتِ شَيْءٌ، وَأَنْوَارَ اسْتِيلَاءِ مَعَانِي الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ عَلَى الْقَلْبِ شَيْءٌ، وَأَنْوَارَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ شَيْءٌ وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ. فَهَذَا الْبَابُ يَغْلَطُ فِيهِ رَجُلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: غَلِيظُ الْحِجَابِ، كَثِيفُ الطَّبْعِ، وَالْآخَرُ: قَلِيلُ الْعِلْمِ، يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ مَا فِي الذِّهْنِ بِمَا فِي الْخَارِجِ، وَنُورُ الْمُعَامَلَاتِ بِنُورِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] . قَوْلُهُ: " وَلَا مُكَاشَفَةُ الْحَالِ " مُكَاشَفَةُ الْحَالِ: هِيَ الْمَوَاجِيدُ الَّتِي يَجِدُهَا السَّالِكُ بِوَارِدَاتِهِ، حَتَّى يَبْقَى الْحُكْمُ لِقَلْبِهِ وَحَالِهِ. قَوْلُهُ: " وَهِيَ مُكَاشَفَةٌ لَا تَذَرُ سِمَةً تُشِيرُ إِلَى الِالْتِذَاذِ " يُرِيدُ: أَنَّ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةَ تَمْحُو رُسُومَ الْمُكَاشِفِ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُ مَا يُحِسُّ بِلَذَّةٍ، فَإِنَّ الْأَحْوَالَ وَالْمَوَاجِيدَ لَهَا لَذَّةٌ

فصل المشاهدة

عَظِيمَةٌ، أَضْعَافُ اللَّذَّةِ الْحِسِّيَّةِ، فَإِنَّ لَذَّتَهَا رُوحَانِيَّةٌ قَلْبِيَّةٌ، وَالْمُكَاشَفَةُ الْعَيْنِيَّةُ تُغَيِّبُ الْمُكَاشِفَ عَنْ إِدْرَاكِ تِلْكَ اللَّذَّةِ، وَالسِّمَةُ هِيَ الْعَلَامَةُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةَ لَا تَذَرُ لَهُ عَلَامَةً تَدُلُّ عَلَى لَذَّةٍ. قَوْلُهُ: " أَوْ تُلْجِئُ إِلَى تَوَقُّفٍ " يَعْنِي: لَا تَذَرُ لَهُ بَقِيَّةً تُلْجِئُهُ إِلَى وَقْفَةٍ، فَإِنَّ الْبَقِيَّةَ الَّتِي تَبْقَى عَلَى السَّالِكِ مِنْ نَفْسِهِ: هِيَ الَّتِي تُلْجِئُهُ إِلَى التَّوَقُّفِ فِي سَيْرِهِ. قَوْلُهُ: " وَلَا تَنْزِلُ عَلَى رَسْمٍ " أَيْ: لَا تَنْزِلُ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةُ عَلَى مَنْ بَقِيَ فِيهِ رَسْمٌ حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةِ، فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ نُورِ الشَّمْسِ، فَلَا تَنْزِلُ فِي بَيْتٍ عَلَيْهِ سَقْفٌ حَائِلٌ، فَإِنَّ الرَّسْمَ عِنْدَ الْقَوْمِ هُوَ الْحِجَابُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَطْلُوبِهِمْ، وَالرَّسْمُ هُوَ النَّفْسُ وَأَحْكَامُهَا وَصِفَاتُهَا، وَهَذِهِ الْمُكَاشَفَةُ إِذَا قَوِيَتْ وَاسْتَحْكَمَتْ صَارَتْ مُشَاهَدَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَغَايَةُ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةِ هُوَ مَقَامُ الْمُشَاهَدَةِ. [فَصْلُ الْمُشَاهَدَةِ] [مَنْ يَنْتَفِعُ بِكَلَامِ اللَّهِ] فَصْلُ الْمُشَاهَدَةِ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ الْمُشَاهَدَةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] . قُلْتُ: جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَلَامَهُ ذِكْرَى، لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَة‍َ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ وَاعٍ، فَإِذَا فَقَدَ هَذَا الْقَلْبَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالذِّكْرَى، الثَّانِي: أَنْ يُصْغِيَ بِسَمْعِهِ كُلِّهِ نَحْوَ الْمُخَاطَبِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِكَلَامِهِ، الثَّالِثُ: أَنْ يُحْضِرَ قَلْبَهُ وَذِهْنَهُ عِنْدَ الْمُكَلِّمِ لَهُ، وَهُوَ الشَّهِيدُ؛ أَيِ: الْحَاضِرُ غَيْرُ الْغَائِبِ، فَإِنْ غَابَ قَلْبُهُ وَسَافَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْخِطَابِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمُبْصِرَ لَا يُدْرِكُ حَقِيقَةَ الْمَرْئِيِّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ لَهُ قُوَّةٌ مُبْصِرَةٌ، وَحَدَّقَ بِهَا نَحْوَ الْمَرْئِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ مَشْغُولًا بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ فَقَدَ الْقُوَّةَ الْمُبْصِرَةَ، أَوْ لَمْ

حقيقة المشاهدة

يُحَدِّقْ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ، أَوْ حَدَّقَ نَحْوَهُ وَلَكِنَّ قَلْبَهُ كُلَّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَمْ يُدْرِكْهُ، فَكَثِيرًا مَا يَمُرُّ بِكَ إِنْسَانٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَقَلْبُكَ مَشْغُولٌ بِغَيْرِهِ، فَلَا تَشْعُرُ بِمُرُورِهِ، فَهَذَا الشَّأْنُ يَسْتَدْعِي صِحَّةَ الْقَلْبِ وَحُضُورَهُ، وَكَمَالَ الْإِصْغَاءِ. [حَقِيقَةُ الْمُشَاهَدَةِ] قَالَ الشَّيْخُ: " الْمُشَاهَدَةُ: سُقُوطُ الْحِجَابِ بَتًّا " أَيْ: قَطْعًا، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْمُشَاهَدَةُ هِيَ الْمُسْقِطَةُ لِلْحِجَابِ، وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ سُقُوطِ الْحِجَابِ، وَلَيْسَتْ هِيَ نَفْسُ سُقُوطِ الْحِجَابِ، لَكِنْ عَبَّرَ عَنِ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ، فَإِنَّ سُقُوطَ الْحِجَابِ يُلَازِمُ حُصُولَ الْمُشَاهَدَةِ. قَوْلُهُ: " وَهِيَ فَوْقَ الْمُكَاشَفَةِ " هَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ بِالْمُكَاشَفَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ قُوَّةُ الْيَقِينِ، وَمَزِيدُ الْعِلْمِ، وَارْتِفَاعُ الْحُجُبِ الْمَانِعَةِ مِنْ ذَلِكَ، لَا نَفْسُ مُعَايَنَةِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْمُكَاشَفَةَ لَوْ كَانَتْ هِيَ مُعَايَنَةُ الْحَقِيقَةِ، لَمَا كَانَ فَوْقَهَا مَرْتَبَةٌ أُخْرَى، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُشَاهَدَةُ عِنْدَهُ فَوْقَ الْمُكَاشَفَةِ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاشَفَةَ وِلَايَةُ النَّعْتِ، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ بَقَايَا الرَّسْمِ، وَالْمُشَاهَدَةَ وِلَايَةُ الْعَيْنِ وَالذَّاتِ. يُرِيدُ: أَنَّ الْمُكَاشَفَةَ تَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، فَوِلَايَتُهَا وِلَايَةُ النُّعُوتِ وَالْأَوْصَافِ؛ أَيْ: سُلْطَانِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، هُوَ النُّعُوتُ وَالصِّفَاتُ وَسُلْطَانُ الْمُشَاهَدَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، هُوَ نَفْسُ الذَّاتِ الْجَامِعَةِ لِلنُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ فَوْقَهَا، وَأَكْمَلَ مِنْهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ وِلَايَةِ النَّعْتِ وَوِلَايَةِ الْعَيْنِ وَالذَّاتِ أَنَّ النَّعْتَ صِفَةٌ، وَمَنْ شَاهَدَ الصِّفَةَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُشَاهِدَ مُتَعَلِّقَاتِهَا، فَإِنَّ النَّظَرَ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا يُكْسِبُهُ التَّعْظِيمَ لِلْمُتَّصِفِ بِهَا، فَإِنَّ مَنْ شَاهَدَ الْعِلْمَ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ مُتَعَلِّقًا بِسَائِرِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى مِنْ وَاجِبٍ، وَمُمْكِنٍ، وَمُسْتَحِيلٍ وَمَنْ شَاهَدَ الْإِرَادَةَ الْمُوجِبَةَ لِسَائِرِ الْإِرَادَاتِ عَلَى تَنَوُّعِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَعْيَانِ وَالْحَرَكَاتِ وَالْأَوْصَافِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى وَشَاهَدَ الْقُدْرَةَ الَّتِي هِيَ كَذَلِكَ، وَشَاهَدَ صِفَةَ الْكَلَامِ، الَّذِي لَوْ أَنَّ الْبَحْرَ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، وَأَشْجَارُ الْعَالَمِ كُلُّهَا أَقْلَامٌ يُكْتَبُ بِهَا كَلَامُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، لَفَنِيَتِ الْبِحَارُ، وَنَفِدَتِ

الْأَقْلَامُ، وَكَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنْفَدُ وَلَا يَفْنَى. فَمَنْ شَاهَدَ الصِّفَاتَ كَذَلِكَ، وَجَالَ قَلْبُهُ فِي عَظَمَتِهَا فَهُوَ مَشْغُولٌ بِالصِّفَاتِ، وَمُتَفَرِّقُ قَلْبُهُ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا فِي أَنْفُسِهَا، بِخِلَافِ مَنْ قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَى نَفْسِ الذَّاتِ، وَشَاهَدَ قِدَمَهَا وَبَقَاءَهَا، وَاسْتَغْرَقَ قَلْبُهُ فِي عَظَمَةِ تِلْكَ الذَّاتِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صِفَاتِهَا، فَهُوَ مُشَاهِدٌ لِلْعَيْنِ، وَالْأَوَّلُ مُشَاهِدٌ لِلصِّفَاتِ، فَالْأَوَّلُ فِي فَرْقٍ، وَهَذَا فِي جَمْعٍ، فَمَنِ اسْتَغْرَقَ قَلْبُهُ فِي هَذَا الْمَشْهَدِ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْمُشَاهِدِ، وَوَصْفُ الْمُشَاهَدَةِ عِنْدَ الْقَوْمِ إِذَا غَابَ عَنْ إِدْرَاكِ رَسْمِهِ، وَكُلِّ مَا فِيهِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ حَالٍ، هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِهِ. وَبَعْدُ، فَإِنَّ وِلَايَةَ! النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا دُونَ وِلَايَةِ الْعَيْنِ وَالذَّاتِ لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهَا كَمَا زَعَمَ، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دَعَا عِبَادَهُ فِي كُتُبِهِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَبِذَلِكَ نَطَقَتْ كُتُبُهُ وَرُسُلُهُ، فَهَذَا الْقُرْآنُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ إِنَّمَا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى النَّظَرِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ، دُونَ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ، فَإِنَّ الذَّاتَ الْمُجَرَّدَةِ لَا يُلْحَظُ مَعَهَا وَصْفٌ، وَلَا يُشْهَدُ فِيهَا نَعْتٌ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى كَمَالٍ وَلَا جَلَالٍ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْ شُهُودِهَا إِيمَانٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ. وَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ! أَيْنَ يَقَعُ شُهُودُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَتَنَوُّعِهَا وَكَثْرَتِهَا، وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ عَظَمَةِ الْمَوْصُوفِ بِهَا وَجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي كَمَالِهِ؛ لِكَثْرَةِ أَوْصَافِهِ وَنُعُوتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَامْتِنَاعِ أَضْدَادِهَا عَلَيْهِ، وَثُبُوتِهَا لَهُ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مَا مِنْ شُهُودِ ذَاتٍ قَدْ غَابَ مُشَاهِدُهَا عَنْ كُلِّ صِفَةٍ وَنَعْتٍ وَاسْمٍ؟ ! فَبَيْنَ هَذَيْنِ الْمَشْهَدَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ مَا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا هُوَ مَشْهَدُ مَنْ تَأَلَّهَ وَفَنِيَ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ صَرَّحُوا بِذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ كَمَالَ هَذَا الْمَشْهَدِ هُوَ قَصْرُ النَّظَرِ الْقَلْبِيِّ عَلَى عَيْنِ الذَّاتِ، وَتَنْزِيهِهَا عَنِ الْأَعْرَاضِ وَالْأَبْعَاضِ وَالْأَغْرَاضِ وَالْحُدُودِ وَالْجِهَاتِ. وَمُرَادُهُمْ بِالْأَعْرَاضِ: الصِّفَاتُ الَّتِي تَقُومُ بِالْحَيِّ، كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَالْكَلَامِ، فَلَا سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ، وَلَا إِرَادَةَ، وَلَا حَيَاةَ وَلَا عِلْمَ، وَلَا قُدْرَةَ. وَمُرَادُهُمْ بِالْأَبْعَاضِ: أَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ وَلَا يَدَانِ، وَلَمْ يَخْلُقْ آدَمَ بِيَدِهِ، وَلَا يَطْوِي سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ، وَلَا يَقْبِضُ الْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، وَلَا يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَلَا الْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَلَا الشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ رَسُولُهُ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَمُرَادُهُمْ بِالْأَغْرَاضِ: أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةٍ، وَلَا لِعِلَّةٍ غَائِيَّةٍ، وَلَا سَبَبَ لِفِعْلِهِ، وَلَا غَايَةَ مَقْصُودَةٌ. وَمُرَادُهُمْ بِالْحُدُودِ وَالْجِهَاتِ: مَسْأَلَةُ الْمُبَايَنَةِ وَالْعُلُوِّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ بَائِنٍ عَنْ خَلْقِهِ، وَلَا مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَلَا تُرْفَعُ إِلَيْهِ الْأَيْدِي، وَلَا تَصْعَدُ إِلَيْهِ الْأَعْمَالُ، وَلَا يَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ إِلَهٌ يُعْبَدُ، وَلَا رَبٌّ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ، بَلْ لَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ الَّذِي هُوَ لَا شَيْءَ! فَكَمَالُ الشُّهُودِ عِنْدَهُمْ: أَنْ يَشْهَدَ الْعَبْدُ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ كُلِّ اسْمٍ وَوَصْفٍ وَنَعْتٍ. وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ عَدُوُّ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ بَرَاءَةَ الرُّسُلِ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِثْلَ هَذِهِ الْبَقِيَّةِ، وَهِيَ جَعْلُ مَشْهَدِ الْعَيْنِ وَالذَّاتِ فَوْقَ مَشْهَدِ الصِّفَاتِ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْقُوَى الْبَشَرِيَّةِ إِلَى شُهُودِ الذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَقَعُ الشُّهُودُ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، وَلَا جَعْلَ ذَلِكَ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا إِلَيْهَا شُهُودُ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَأَمَّا حَقِيقَةُ الذَّاتِ وَالْعَيْنِ: فَغَيْرُ مَعْلُومَةٍ لِلْبَشَرِيَّةِ، وَلَمَّا سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَقِيقَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَلِذَلِكَ لَمَّا سَأَلَ فِرْعَوْنُ مُوسَى عَنْ حَقِيقَةِ رَبِّهِ، بِقَوْلِهِ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] أَجَابَهُ مُوسَى بِقَوْلِهِ: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم: 65] إِذْ لَا وُصُولَ لِلْبَشَرِ إِلَى حَقِيقَةِ ذَاتِهِ، فَدَلَّهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِصِفَاتِهِ الثُّبُوتِيَّةِ؛ مِنْ كَوْنِهِ صَمَدًا، وَصِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلثُّبُوتِ؛ مِنْ كَوْنِهِ " لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ سَبِيلًا إِلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ وَالْكُنْهِ. فَمَا هَذَا الشُّهُودُ الْعَيْنِيُّ الذَّاتِيُّ الَّذِي جَعَلْتُمُوهُ لِلْمُشَاهِدِ، وَجَعَلْتُمُوهُ فَوْقَ

الْمُكَاشَفَةِ، وَجَعَلْتُمْ وِلَايَةَ الْمُكَاشَفَةِ النَّعْتَ وَوِلَايَةَ الْمُشَاهَدَةِ الْعَيْنَ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ وَأَمْثَالِهِ مِنَ الْعَارِفِينَ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ: أَنْ لَا يَقْصِرَ نَظَرَ الْقَلْبِ عَلَى صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ، بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ فِيهَا وَحْدَهَا، بَلْ يَكُونُ الْتِفَاتُهُ وَشُهُودُهُ وَاقِعًا عَلَى الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الْمَنْعُوتَةِ بِنُعُوتِ الْجَلَالِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ شُهُودُهُ وَاقِعًا عَلَى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ جَمِيعًا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا فَوْقَ مَشْهَدِ الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ أَوِالصِّفَاتِ. وَلَكِنْ يُقَالُ: الشُّهُودُ لَا يَقَعُ عَلَى الصِّفَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَلَا يَصِحُّ تَجَرُّدُهَا فِي الْخَارِجِ وَلَا فِي الذِّهْنِ، بَلْ مَتَى شَهِدَ الصِّفَةَ شَهِدَ قِيَامَهَا بِالْمَوْصُوفِ وَلَا بُدَّ، فَمَا هَذَا الشُّهُودُ الذَّاتِيُّ الَّذِي هُوَ فَوْقَ الشُّهُودِ الْوَصْفِيِّ؟ وَالْأَمْرُ يَرْجِعُ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ بِصِفَاتِ اللَّهِ أَعْرَفَ وَلَهَا أَثْبَتَ، وَمَعَارِضُ الْإِثْبَاتِ مُنْتَفٍ عِنْدَهُ كَانَ أَكْمَلَ شُهُودًا، وَلِهَذَا كَانَ أَكْمَلَ الْخَلْقِ شُهُودًا مَنْ قَالَ: لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، وَلِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: اسْتَدَلَّ بِمَا عَرَفَهُ مِنْهَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فَوْقَ مَا أَحْصَاهُ وَعَلِمَهُ. فَمَشْهَدُ الصِّفَاتِ: مَشْهَدُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ بِهَا أَعْرَفَ كَانَ بِاللَّهِ أَعْلَمَ، وَكَانَ مَشْهَدُهُ بِحَسَبِ مَا عَرَفَ مِنْهَا، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي الْحَقِيقَةِ مُشَاهَدَةٌ وَلَا مُكَاشَفَةٌ، لَا لِلذَّاتِ وَلَا لِلصِّفَاتِ، أَعْنِي مُشَاهَدَةَ عِيَانٍ وَكَشْفَ عِيَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَزِيدُ إِيمَانٍ وَإِيقَانٍ. وَيَجِبُ التَّنَبُّهُ هَاهُنَا عَلَى أَمْرٍ، وَهُوَ: أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ نَتَائِجُ الْعَقَائِدِ، فَمَنْ كَانَ مُعْتَقَدُهُ ثَابِتًا فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَإِنَّهُ إِذَا صَفَتْ نَفْسُهُ وَارْتَاضَتْ، وَفَارَقَتِ الشَّهَوَاتِ وَالرَّذَائِلَ، وَصَارَتْ رُوحَانِيَّةً تَجَلَّتْ لَهَا صُورَةُ مُعْتَقَدِهَا كَمَا اعْتَقَدَتْهُ، وَرُبَّمَا قَوِيَ ذَلِكَ التَّجَلِّي حَتَّى يَصِيرَ كَالْعِيَانِ، وَلَيْسَ بِهِ، فَيَقَعُ الْغَلَطُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: ظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الذِّهْنِ، وَلَكِنْ لَمَّا صَفَا الِارْتِيَاضُ وَانْجَلَتْ عَنْهُ ظُلُمَاتُ الطَّبْعِ، وَغَابَ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْقَلْبِ، بَلْ أَحْكَامُ الرُّوحِ ظَنَّ أَنَّهُ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، وَلَا تَأْخُذُهُ فِي ذَلِكَ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَوْ جَاءَتْهُ كُلُّ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَايَنَ الْهِلَالَ بِبَصَرِهِ جَهْرَةً، فَلَوْ قَالَ لَهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: لَمْ تَرَهُ، لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ.

درجات المشاهدة

وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّا لَا نُكَذِّبُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ رُؤْيَتِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا نُوقِنُ أَنَّهُ إِنَّمَا رَأَى صُورَةَ مُعْتَقَدِهِ فِي ذَاتِهِ وَنَفْسِهِ، لَا الْحَقِيقَةَ فِي الْخَارِجِ، فَهَذَا أَحَدُ الْغَلَطَيْنِ. وَسَبَبُهُ: قُوَّةُ ارْتِبَاطِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ بِالْقَلْبِ، فَالْعَيْنُ مِرْآةُ الْقَلْبِ شَدِيدَةُ الِاتِّصَالِ بِهِ، وَتَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ قُوَّةُ الِاعْتِقَادِ، وَضَعْفُ التَّمْيِيزِ، وَغَلَبَةُ حُكْمِ الْهَوَى وَالْحَالِ عَلَى الْعِلْمِ، وَسَمَاعُهُ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَّ الْعِلْمَ حِجَابٌ. وَالْغَلَطُ الثَّانِي: ظَنُّ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا اعْتَقَدَهُ، وَأَنَّ مَا فِي الْخَارِجِ مُطَابِقٌ لِاعْتِقَادِهِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ هَذَيْنِ الْغَلَطَيْنِ مِثْلُ هَذَا الْكَشْفِ وَالشُّهُودِ. وَلَقَدْ أَخْبَرَ صَادِقُ الْمَلَاحِدَةِ، الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ: أَنَّهُمْ كُشِفَ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالُوهُ، وَشَهِدُوهُ فِي الْخَارِجِ كَذَلِكَ عِيَانًا، وَهَذَا الْكَشْفُ وَالشُّهُودُ: ثَمَرَةُ اعْتِقَادِهِمْ وَنَتِيجَتُهُ، فَهَذِهِ إِشَارَةٌ مَا إِلَى الْفُرْقَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [دَرَجَاتُ الْمُشَاهَدَةِ] [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الْأُولَى مُشَاهَدَةُ مَعْرِفَةٍ] فَصْلٌ قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُشَاهَدَةُ مِعْرِفَةٍ، تَجْرِي فَوْقَ حُدُودِ الْعِلْمِ، فِي لَوَائِحِ نُورِ الْوُجُودِ، مُنِيخَةً بِفِنَاءِ الْجَمْعِ. هَذَا بِنَاءً عَلَى أُصُولِ الْقَوْمِ، وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فَوْقَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ عِنْدَهُمْ هُوَ إِدْرَاكُ الْمَعْلُومِ، وَلَوْ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ وَلَوَازِمِهِ، وَالْمَعْرِفَةُ عِنْدَهُمْ إِحَاطَةٌ بِعَيْنِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ كَمَا حَدَّهَا الشَّيْخُ وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَوْقَ الْعِلْمِ، لَكِنْ عَلَى هَذَا الْحَدِّ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ أَلْبَتَّةَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَتِ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَ الْقَوْمِ مَشْرُوطَةً بِمَا ذَكَرُوا، وَسَنَذْكُرُ كَلَامَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ أَعْمَالَ الْأَبْرَارِ بِالْعِلْمِ، وَأَعْمَالَ الْمُقَرَّبِينَ بِالْمَعْرِفَةِ. وَهَذَا كَلَامٌ يَصِحُّ مِنْ وَجْهٍ، وَيَبْطُلُ مِنْ وَجْهٍ، فَالْأَبْرَارُ وَالْمُقَرَّبُونَ عَامِلُونَ بِالْعِلْمِ، وَاقِفُونَ مَعَ أَحْكَامِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْرِفَةُ الْمُقَرَّبِينَ أَكْمَلُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَبْرَارِ، فَكِلَاهُمَا أَهْلُ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ، فَلَا يُسْلَبُ الْأَبْرَارُ الْمَعْرِفَةَ، وَلَا يَسْتَغْنِي الْمُقَرَّبُونَ عَنِ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا هُمْ عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ

عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» فَجَعَلَهُمْ عَارِفِينَ بِاللَّهِ قَبْلَ إِتْيَانِهِمْ بِفَرْضِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، بَلْ جَعَلَهُمْ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ عَارِفِينَ بِاللَّهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ لَيْسَتْ كَمَعْرِفَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي دَرَجَاتِ الْمَعْرِفَةِ تَفَاوُتًا بَعِيدًا. قَوْلُهُ: " فِي لَوَائِحِ نُورِ الْوُجُودِ " يَعْنِي: أَنَّ شَوَاهِدَ الْمَعْرِفَةِ بَوَارِقٌ تَلُوحُ مِنْ نُورِ الْوُجُودِ، وَالْوُجُودُ عِنْدَ الشَّيْخِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: وُجُودُ عِلْمٍ، وَوُجُودُ عَيْنٍ، وَوُجُودُ مَقَامٍ، كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذِهِ اللَّوَائِحُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا: تَلُوحُ فِي الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ، وَقَدْ ذَكَرُوا عَنِ الْجُنَيْدِ، أَنَّهُ قَالَ: عِلْمُ التَّوْحِيدِ مُبَايِنٌ لِوُجُودِهِ، وَوُجُودُهُ مُبَايِنٌ لِعِلْمِهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَصِحُّ لَهُ الْعِلْمُ بِانْفِرَادِ الْحَقِّ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عِلْمًا جَازِمًا، لَا يَشُكُّ وَلَا يَرْتَابُ فِيهِ، وَلَكِنْ إِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ الْأَسْبَابُ، وَتَقَاذَفَتْ بِهِ أَمْوَاجُهَا لَمْ يَثْبُتْ قَلْبُهُ فِي أَوَائِلِ الصَّدَمَاتِ، وَلَمْ يُبَادِرْ إِذْ ذَاكَ إِلَى رُؤْيَةِ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا مِنَ الْأَوَّلِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَأَوَّلِيَّتِهِ؛ الْبَرَاهِينُ الْقَطْعِيَّةُ وَالْمُشَاهَدَةُ الْإِيمَانِيَّةُ، فَهَذَا عَالِمٌ بِالتَّوْحِيدِ غَيْرُ وَاجِدٍ لِمَقَامِهِ، وَلَا مُتَّصِفٍ بِحَالٍ أَكْسَبَهُ إِيَّاهَا التَّوْحِيدُ، فَإِذَا وَجَدَ قَلْبَهُ وَقْتَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَتَبَايُنِ الْأَسْبَابِ وَاثِقًا بِرَبِّهِ، مُقْبِلًا عَلَيْهِ، مُسْتَغْرِقًا فِي شُهُودِ وَحْدَانِيَّتِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِتَدْبِيرِ عِبَادِهِ فَقَدْ وَجَدَ مَقَامَ التَّوْحِيدِ حَالَهُ. وَأَهْلُ هَذَا الْمَقَامِ مُتَفَاوِتُونَ فِي شُهُودِهِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا: مِنْ مُدْرِكٍ لِمَا هُوَ فِيهِ مُتَنَعِّمٍ مُتَلَذِّذٍ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَمِنْ غَالِبٍ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحَالُ، وَمِنْ مُسْتَغْرِقٍ غَائِبٍ عَنْ حَظِّهِ وَلَذَّتِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ وُجُودِهِ، فَنُورُ الْوُجُودِ قَدْ غَشِيَ مُشَاهَدَتَهُ لِحَالِهِ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَى مَقَامِ الْجَمْعِ، بَلْ قَدْ أَنَاخَ بِفِنَائِهِ، وَالْوُجُودُ عِنْدَهُ هُوَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ، وَيُسَمَّى حَضْرَةَ الْوُجُودِ.

فصل الدرجة الثانية مشاهدة معاينة

قَوْلُهُ: " مُنِيخَةً بِفِنَاءِ الْجَمْعِ " يَعْنِي: قَدْ شَارَفَتْ مُشَاهَدَتُهُ لِحَالِهِ مَنْزِلَ الْجَمْعِ، وَأَنَاخَتْ بِهِ، وَتَهَيَّأَ لِدُخُولِهِ، وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ، فَكَأَنَّهُ مَثَّلَ الْمُشَاهِدَ بِالْمُسَافِرِ، وَمَثَّلَ مُشَاهَدَتَهُ بِنَاقَتِهِ الَّتِي يُسَافِرُ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا الْحَامِلَةُ لَهُ، وَشَبَّهَ حَضْرَةَ الْجَمْعِ بِالْمَنْزِلِ وَالدَّارِ، وَقَدْ أَنَاخَ الْمُسَافِرُ بِفِنَائِهَا، وَهَذَا إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى إِشْرَافِهِ عَلَيْهَا، وَأَنَّ نُورَ الْوُجُودِ لَا يَلُوحُ إِلَّا مِنْهَا. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مُشَاهَدَةُ مُعَايَنَةٍ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مُشَاهَدَةُ مُعَايَنَةٍ، تَقْطَعُ حِبَالَ الشَّوَاهِدِ، وَتَلْبَسُ نُعُوتَ الْقُدْسِ، وَتُخْرِسُ أَلْسِنَةَ الْإِشَارَاتِ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا، لِأَنَّ تِلْكَ الدَّرَجَةَ مُشَاهَدَةُ بَرْقٍ عَنِ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ بِالتَّوْحِيدِ، وَتَمَكَّنَتْ فِي وُجُودِ التَّوْحِيدِ، حَتَّى صَارَ صَاحِبُهَا يَرَى الْأَسْبَابَ كُلَّهَا عَنْ وَاحِدٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهَا، لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ حَالًا وَذَوْقًا، وَأَنَاخَ بِفِنَاءِ الْجَمْعِ لِيَتَبَوَّأَهُ مَنْزِلًا لِتَوْحِيدِهِ، وَلَكِنَّهُ بَعْدُ لَمْ يُكْمِلِ اسْتِغْرَاقَهُ عَنْ شُهُودِ رَسْمِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَشَوَاهِدُ الرُّسُومِ بَعْدُ مَعَهُ، وَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ حِبَالُ الشَّوَاهِدِ، وَتَمَكَّنَ فِي مَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ، وَتَطَهَّرَ مِنْ نُعُوتِ النَّفْسِ وَلَبِسَ نُعُوتَ الْقُدْسِ، فَتَطَهَّرَ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ مَشْهُودِهِ، فَحَرَسَ لِذَلِكَ لِسَانَهُ عَنِ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ، فَهَذِهِ الْمُشَاهَدَةُ عِنْدَهُ فَوْقَ مُشَاهَدَةِ الْمَعْرَفَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ مِنْ لَوَائِحِ نُورِ الْوُجُودِ، وَهَذِهِ مُشَاهَدَةُ الْوُجُودِ نَفْسِهِ، لَا بَوَارِقَ نُورِهِ، فَهِيَ أَعْلَى؛ لِأَنَّهَا مُشَاهَدَةُ عِيَانٍ، وَالْعِيَانُ وَالْمُعَايَنَةُ: أَنْ تَقَعَ الْعَيْنُ فِي الْعَيْنِ. وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ جَوَّزَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ أَقْبَحَ الْخَطَأِ، وَتَعَدَّى مَقَامَ الرُّسُلِ، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَارِفُ: مَزِيدُ إِيمَانٍ وَيَقِينٍ، بِحَيْثُ يَعْبُدُ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ؛ لِقُوَّةِ يَقِينِهِ وَإِيمَانِهِ بِوُجُودِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّ الْأَنْوَارَ وَاللَّوَامِعَ وَالْبَوَارِقَ إِنَّمَا هِيَ أَنْوَارُ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ مِنَ الذِّكْرِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا، أَوْ هِيَ أَنْوَارُ اسْتِغْرَاقِهِ فِي مُطَالَعَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَإِثْبَاتِهَا وَالْإِيمَانِ بِهَا، بِحَيْثُ يَبْقَى

كَالْمُعَايِنِ لَهَا، فَيُشْرِقُ عَلَى قَلْبِهِ نُورُ الْمَعْرِفَةِ، فَيَظُنُّهُ نُورَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ السَّبَبِ الْمُوقِعِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ رُجُوعُهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَحْجُوبِينَ الَّذِينَ غَلُظَ فِي هَذَا الْبَابِ حِجَابُهُمْ، وَكَثُفَتْ عَنْ إِدْرَاكِهِ أَرْوَاحُهُمْ، وَقَصُرَتْ عَنْهُ عُلُومُهُمْ وَمَعَارِفُهُمْ، وَلَمْ يَكَادُوا يَظْفَرُونَ بِذَائِقٍ صَحِيحِ الذَّوْقِ يُفَصِّلُ لَهُمْ أَحْكَامَ أَذْوَاقِهِمْ وَمُشَاهَدَتِهِمْ، وَيُنْزِلُهَا مَنَازِلَهَا، وَيُبَيِّنُ أَسْبَابَهَا وَعِلَلَهَا، فَوُجُودُ هَذَا أَعَزُّ شَيْءٍ، وَالْقَوْمُ لَهُمْ طَلَبٌ شَدِيدٌ وَهِمَمٌ عَالِيَةٌ، وَمَطْلَبُهُمْ وَهِمَمُهُمْ عِنْدَهُمْ فَوْقَ مَطَالِبِ النَّاسِ وَهِمَمِهِمْ، فَتَشْهَدُ أَرْوَاحُهُمْ مَقَامَاتِ الْمُنْكِرِ عَلَيْهِمْ وَسُفُولِهَا، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي حُظُوظِهِ وَأَحْكَامِ نَفْسِهِ وَطَبِيعَتِهِ، فَلَا تَسْمَحُ نُفُوسُهُمْ بِقَبُولِ قَوْلِهِ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، فَلَوْ وَجَدُوا عَارِفًا ذَا قُرْآنٍ وَإِيمَانٍ يُنَادِي الْقُرْآنُ وَالْإِيمَانُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَتَدُلُّ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، مُحَكِّمًا لِلْوَحْيِ عَلَى الذَّوْقِ، مُسْتَخْرِجًا أَحْكَامَ الذَّوْقِ مِنَ الْوَحْيِ، لَيْسَ فَظًّا وَلَا غَلِيظًا، وَلَا مُدَّعِيًا وَلَا مَحْجُوبًا بِالْوَسَائِلِ عَنِ الْغَايَاتِ، إِشَارَتُهُ دُونَ مَقَامِهِ، وَمَقَامُهُ فَوْقَ إِشَارَتِهِ، إِنْ أَشَارَ أَشَارَ بِاللَّهِ مُسْتَشْهِدًا بِشَوَاهِدِ اللَّهِ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ بِاللَّهِ، عَاكِفًا بِسِرِّهِ وَقَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ فَلَوْ وَجَدُوا مِثْلَ هَذَا لَكَانَ الصَّادِقُونَ أَسْرَعَ إِلَيْهِ مِنَ النَّارِ فِي يَابِسِ الْحَطَبِ وَالْوَقُودِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَوْلُهُ: " وَقَطْعُ حِبَالِ الشَّوَاهِدِ " شَبَّهَ الشَّوَاهِدَ بِالْحِبَالِ الَّتِي تَجْذِبُ الْعَبْدَ إِلَى مَطْلُوبِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْغَيْبَةِ عَنْهُ، فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَى الْعِيَانِ: انْقَطَعَتْ حِينَئِذٍ حِبَالُ الشَّوَاهِدِ بِحُكْمِ الْمُعَايَنَةِ. قَوْلُهُ: " وَتَلْبَسُ نُعُوتَ الْقُدْسِ " الْقُدْسُ: هُوَ النَّزَاهَةُ وَالطَّهَارَةُ، وَ " نُعُوتُ الْقُدْسِ " هِيَ صِفَاتُهُ، فَيُلْبِسُهُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ النُّعُوتِ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَاسْتَعَارَ لِذَلِكَ لَفْظَةَ اللُّبْسِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ خِلَعٌ، وَخِلَعُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُلْبِسُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ يَتَوَارَدُ عَلَيْهِ الْمُوَحِّدُونَ وَالْمُلْحِدُونَ، فَالْمُوَحِّدُ يَعْتَقِدُ: أَنَّ الَّذِي أَلْبَسَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ هُوَ صِفَاتٌ جَمَّلَ اللَّهُ بِهَا ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ، وَهِيَ صِفَاتٌ مَخْلُوقَةٌ أُلْبِسَتْ عَبْدًا مَخْلُوقًا، فَكَسَا عَبْدَهُ حُلَّةً مِنْ حُلَلِ فَضْلِهِ وَعَطَائِهِ. وَالْمُلْحِدُ يَقُولُ: كَسَاهُ نَفْسَ صِفَاتِهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، حَتَّى صَارَ شَبِيهًا بِهِ، بَلْ هُوَ هُوَ، وَيَقُولُونَ: الْوُصُولُ هُوَ التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، وَبَعْضُهُمْ يُلَطِّفُ هَذَا الْمَعْنَى، وَيَقُولُ: بَلْ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ الرَّبِّ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَثَرًا

فصل الدرجة الثالثة مشاهدة جمع

بَاطِلًا " تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ ". وَلَيْسَ هَاهُنَا غَيْرَ التَّعَبُّدِ بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ، وَيَخْلُقُهَا لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَالْعَبْدُ مَخْلُوقٌ، وَخِلْعَتُهُ مَخْلُوقَةٌ، وَصِفَاتُهُ مَخْلُوقَةٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَائِنٌ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَنْ خَلْقِهِ، لَا يُمَازِجُهُمْ وَلَا يُمَازِجُونَهُ، وَلَا يَحِلُّ فِيهِمْ وَلَا يَحِلُّونَ فِيهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مُشَاهَدَةُ جَمْعٍ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مُشَاهَدَةُ جَمْعٍ. تَجْذِبُ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ، مَالِكَةً لِصِحَّةِ الْوُرُودِ، رَاكِبَةً بَحْرَ الْوُجُودِ. صَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: أَثْبَتُ عِنْدَ الشَّيْخِ فِي مَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ، وَأَمْكَنُ فِي مَقَامِ الْجَمْعِ، الَّذِي هُوَ حَضْرَةُ الْوُجُودِ، وَأَمْلَكُ لِحَمْلِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ فِي مَقَامِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُشُوفَاتِ وَالْمَعَارِفِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ مُشَاهَدَتُهُ مَالِكَةً لِصِحَّةِ الْوُرُودِ؛ أَيْ: تَشْهَدُ لِنَفْسِهَا بِصِحَّةِ وُرُودِهَا إِلَى حَضْرَةِ الْجَمْعِ، وَتَشْهَدُ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا لَهَا بِالصِّدْقِ، وَيَشْهَدُ الْمَشْهُودُ أَيْضًا لَهَا بِذَلِكَ، فَلَا يَبْقَى عِنْدَهَا احْتِمَالُ شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ. وَهَذَا أَيْضًا مَوْرِدٌ لِلْمُلْحِدِ وَالْمُوَحِّدِ. فَالْمُلْحِدُ يَقُولُ: مُشَاهَدَةُ الْجَمْعِ هِيَ مُشَاهَدَةُ الْوُجُودِ الْوَاحِدِ، الْجَامِعِ لِجَمِيعِ الْمَعَانِي وَالصُّوَرِ وَالْقُوَى وَالْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ، وَ " حَضْرَةُ الْجَمْعِ " عِنْدَهُ: هِيَ حَضْرَةُ هَذَا الْوُجُودِ، وَمُشَاهَدَةُ هَذَا الْجَذْبِ تُجْذَبُ إِلَى عَيْنِهِ. قَالَ: وَصِفَةُ هَذَا الْجَذْبِ: أَنْ يُحِلَّ الْحَقُّ تَعَالَى عَقْدَ خَلِيقَتِهِ بِيَدِ حَقِيقَتِهِ، فَيَرْجِعُ النُّورُ الْفَائِضُ عَلَى صُورَةِ خَلِيقَتِهِ إِلَى أَصْلِهِ، وَيَرْجِعُ الْعَبْدُ إِلَى عَدَمِيَّتِهِ، فَيَبْقَى الْوُجُودُ لِلْحَقِّ، وَالْفَنَاءُ لِلْخَلْقِ، وَيُقِيمُ الْحَقُّ تَعَالَى وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهِ، نَائِبًا عَنْهُ فِي اسْتِجْلَاءِ ذَاتِهِ، فَيَكُونُ الْحَقُّ هُوَ الْمُشَاهِدُ ذَاتَهُ بِذَاتِهِ، فِي طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ ظُهُورِهِ، وَهِيَ مَرْتَبَةُ عَبْدِهِ، فَإِذَا ثَبَّتَ الْحَقُّ تَعَالَى عَبْدَهُ بَعْدَ نَفْيِهِ وَمَحْوِهِ، وَأَبْقَاهُ بَعْدَ فَنَائِهِ، فَعَادَ كَمَا يَعُودُ السَّكْرَانُ إِلَى صَحْوِهِ وَجَدَ فِي ذَاتِهِ أَسْرَارَ رَبِّهِ، وَطَوْرَ صِفَاتِهِ، وَحَقَائِقَ ذَاتِهِ، وَمَعَالِمَ وُجُودِهِ، وَمَطَارِحَ أَشِعَّةِ نُورِهِ، وَوَجَدَ خَلِيقَتَهُ أَسْمَاءَ مُسَمَّى ذَاتِهِ، وَعَوْدِهِ إِلَيْهِ، فَيَرَى الْعَبْدُ ثُبُوتَ ذَلِكَ الِاسْمِ فِي حَضْرَةِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُشِيرَةِ بِدَلَالَتِهَا إِلَى الْوُجُودِ الْمُنَزَّهِ الْأَصْلِ، الْمُوهِمِ الْفَرْعَ، فَيُؤَدِّي اسْتِصْحَابُ النَّظَرِ إِلَى أَصْلِهِ: أَنَّ الْفَرْعَ لَمْ يُفَارِقْهُ هُوَ إِلَّا بِشَكْلِهِ.

وَالشَّكْلُ عَلَى اخْتِلَافِ ضُرُوبِهِ فَمَعْنًى عَدَمِيٌّ لِتَعَيُّنِ إِمْكَانِهِ فِي وُجُوبِهِ. فَانْظُرْ مَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ الصَّرَاحِ، وَجَعْلِ عَيْنِ الْمَخْلُوقِ نَفْسَ عَيْنِ الْخَالِقِ، وَأَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ أَقَامَ نَفْسَ أَوْصَافِهِ نَائِبَةً عَنْهُ فِي اسْتِجْلَاءِ ذَاتِهِ، وَأَنَّهُ شَاهَدَ ذَاتَهُ بِذَاتِهِ فِي مَرَاتِبِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَحَا مِنْ سُكْرِهِ وَجَدَ فِي ذَاتِهِ حَقَائِقَ ذَاتِ الرَّبِّ، وَوَجَدَ خَلِيقَتَهُ أَسْمَاءَ مُسَمَّى ذَاتِهِ، فَيَرَى ثُبُوتَ ذَلِكَ الِاسْمِ فِي حَضْرَةِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُشِيرَةِ بِدَلَالَتِهَا إِلَى الْوُجُودِ الْمُنَزَّهِ الْأَصْلِ، يَعْنِي عَنْ الِانْقِسَامِ وَالتَّكَثُّرِ " الْمُوهِمِ الْفَرْعَ " يَعْنِي الَّذِي يُوهِمُ فُرُوعُهُ وَتَكْثُرُ مَظَاهِرُهُ، وَاخْتِلَافُ أَشْكَالِهِ أَنَّهُ مُتَعَدِّدٌ، وَإِنَّمَا هُوَ وُجُودٌ وَاحِدٌ، وَالْأَشْكَالُ عَلَى اخْتِلَافِ ضُرُوبِهَا أُمُورٌ عَدَمِيَّةٌ، لِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ وَإِمْكَانُهَا يَفْنَى فِي وُجُوبِهَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا وُجُوبُ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَهُوَ وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَشْكَالُ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا، وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ. فَالِاتِّحَادِيُّ يُشَاهِدُ وُجُودًا وَاحِدًا، جَامِعًا لِجَمِيعِ الصُّوَرِ وَالْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ، فَاضَ عَلَيْهَا كُلُّهَا، فَظَهَرَ فِيهَا بِحَسَبِ قَوَابِلِهَا وَاسْتِعْدَادَاتِهَا. وَذَلِكَ الشُّهُودُ يَجْذِبُهُ إِلَى انْحِلَالِ عَزْمِهِ عَنِ التَّقَيُّدِ بِمَعْبُودٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ عِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ يَبْقَى مَعْبُودُهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ السَّارِي فِي الْمَوْجُودَاتِ بِأَيِّ مَعْنًى ظَهَرَ، وَفِي أَيِّ مَاهِيَّةٍ تَحَقَّقَ، فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَغَيْرِهَا، كَمَا قَالَ شَاعِرُ الْقَوْمِ: وَإِنْ خَرَّ لِلْأَحْجَارِ فِي الْبِيدِ عَاكِفٌ ... فَلَا تَعْدُ بِالْإِنْكَارِ بِالْعَصَبِيَّةِ وَإِنْ عَبَدَ النَّارَ الْمَجُوسُ وَمَا انْطَفَتْ ... كَمَا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ مُذْ أَلْفِ حَجَّةِ فَمَا عَبَدُوا غَيْرِي وَمَا كَانَ قَصْدُهُمْ ... سِوَايَ وَإِنْ لَمْ يُظْهِرُوا عَقْدَ نِيَّةِ وَمَا عَقَدَ الزُّنَّارُ حُكْمًا سِوَى يَدِي ... وَإِنْ حَلَّ بِالْإِقْرَارِ لِي فَهْيَ بَيْعَتِي وَكَمَا قَالَ عَارِفُهُمْ: وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْحَقِّ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ وَجْهًا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَهُ، وَيَجْهَلُهُ مَنْ جَهِلَهُ، فَالْعَارِفُ يَعْرِفُ مَنْ عَبَدَ، وَفِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَ، قَالَ اللَّهُ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] قَالَ: وَمَا قَضَى اللَّهُ شَيْئًا إِلَّا وَقَعَ، وَمَا عُبِدَ غَيْرٌ لِلَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ، فَهَذَا مَشْهَدُ الْمُلْحِدِ.

وَالْمُوَحِّدُ يُشَاهِدُ بِإِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ ذَاتًا جَامِعَةً لِلْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، لَهَا كُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَكُلُّ اسْمٍ حَسَنٍ، وَذَلِكَ يَجْذِبُهُ إِلَى نَفْسِ اجْتِمَاعِ هَمِّهِ عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى الْقِيَامِ بِفَرَائِضِهِ. وَالطَّرِيقُ بِمَجْمُوعِهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ، وَإِنْ طَوَّلُوا الْعِبَارَاتِ، وَدَقَّقُوا الْإِشَارَاتِ، فَالْأَمْرُ كُلُّهُ دَائِرٌ عَلَى جَمْعِ الْهِمَّةِ عَلَى اللَّهِ، وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ بِغَايَةِ النَّصِيحَةِ فِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ، بَعْدَ تَكْمِيلِ الْفَرَائِضِ، فَلَا تُطَوِّلُ وَلَا يُطَوَّلُ عَلَيْكَ. وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ مُرَادُهُ بِالْجَمْعِ الْجَاذِبِ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ أَمْرٌ آخَرُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَمْعِ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَعَيْنِ جَمْعِهِمْ، لَا هُوَ هَذَا وَلَا هُوَ هَذَا، فَهُوَ دَائِرٌ عَلَى الْفَنَاءِ لَا تَأْخُذُهُ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَهُوَ الْجَمْعُ الَّذِي يُدَنْدِنُ حَوْلَهُ، وَعَيْنُ الْجَمْعِ عِنْدَهُ هُوَ تَفَرُّدُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْأَزَلِيَّةِ وَبِالدَّوَامِ، وَبِالْخَلْقِ وَالْفِعْلِ، فَكَانَ وَلَا شَيْءَ، وَيَعُودُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْمُكَوِّنُ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَلَا وُجُودَ فِي الْحَقِيقَةِ لِغَيْرِهِ، وَلَا فِعْلَ لِغَيْرِهِ، بَلْ وُجُودُ غَيْرِهِ كَالْخَيَالِ وَالظِّلَالِ، وَفِعْلُ غَيْرِهِ فِي الْحَقِيقَةِ كَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ، وَهَذَا تَحْقِيقُ الْفَنَاءِ فِي شُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَزَلِيَّةِ وَالْأَبَدِيَّةِ، وَطَيِّ بِسَاطِ شُهُودِ الْأَكْوَانِ، فَإِذَا ظَهَرَ هَذَا الْحُكْمُ انْمَحَقَ وُجُودُ الْعَبْدِ فِي وُجُودِ الْحَقِّ، وَتَدْبِيرُهُ فِي تَدْبِيرِ الْحَقِّ، فَصَارَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَشْهُودُ بِوُجُودِ الْعَبْدِ، مُتَلَاشٍ مُضْمَحِلٍّ كَالْخَيَالِ وَالظِّلَالِ. وَلَا يَسْتَعِدُّ لِهَذَا عِنْدَهُمْ إِلَّا مَنِ اجْتَمَعَتْ إِرَادَتُهُ عَلَى الْمُرَادِ وَحْدَهُ، حَالًا لَا تَكَلُّفًا، وَطَبْعًا لَا تَطَبُّعًا، فَقَدْ تَنْبَعِثُ الْهِمَّةُ إِلَى أَمْرٍ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ، وَصَاحِبُهَا مُعْرِضٌ عَنْ غَيْرِ مَطْلَبِهِ، مُتَحَلٍّ بِهِ، وَلَكِنَّ إِرَادَةَ السِّوَى كَامِنَةٌ فِيهِ، قَدْ تَوَارَى حُكْمُهَا وَاسْتَتَرَ، وَلَمَّا يَزُلْ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ اشْتِغَالًا تَامًّا تَوَارَثَ عَنْهُ إِرَادَتَهُ لِغَيْرِهِ، وَالْتِفَاتَهُ إِلَى مَا سِوَاهُ مَعَ كَوْنِهِ كَامِنًا فِي نَفْسِهِ، مَادَّتُهُ حَاضِرَةٌ عِنْدَهُ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً وَأَدْنَى تَخَلٍّ مِنْ شَاغِلِهِ، ظَهَرَ حُكْمُ تِلْكَ الْإِرَادَاتِ الَّتِي كَانَ سُلْطَانُ شُهُودِهِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَإِذًا الْجَمْعُ وَعَيْنُ الْجَمْعِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ. أَعْلَاهَا: جَمْعٌ لِهَمٍّ عَلَى اللَّهِ: إِرَادَةً وَمَحَبَّةً وَإِنَابَةً، وَجَمْعُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْجَوَارِحِ عَلَى اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، دُونَ رُسُومِ النَّاسِ وَعَوَائِدِهِمْ، فَهَذَا جَمْعُ خَوَاصِّ الْمُقَرَّبِينَ وَسَادَاتِهِمْ. وَالثَّانِي: الِاسْتِغْرَاقُ فِي الْفَنَاءِ فِي شُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَفَرُّدُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْأَزَلِيَّةِ وَالدَّوَامِ، وَأَنَّ الْوُجُودَ الْحَقِيقِيَّ لَهُ وَحْدَهُ، وَهَذَا الْجَمْعُ دُونَ الْجَمْعِ الْأَوَّلِ بِمَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ.

فصل المعاينة

وَالثَّالِثُ: جَمْعُ الْمَلَاحِدَةِ الِاتِّحَادِيَّةِ، وَعَيْنُ جَمْعِهِمْ؛ وَهُوَ جَمْعُ الشُّهُودِ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ، فَعَلَيْكَ بِتَمْيِيزِ الْمَرَاتِبِ؛ لِتَسْلَمَ مِنَ الْمَعَاطِبِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَرَاتِبِ الْجَمْعِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَفَاسِدِهَا، فِي آخِرِ بَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَوْلُهُ: " مَالِكَةً لِصِحَّةِ الْوُرُودِ " أَيْ: ضَامِنَةً لِصِحَّةِ وُرُودِهَا، شَاهِدَةً بِذَلِكَ مَشْهُودًا لَهَا بِهِ، لِأَنَّهَا فَوْقَ مُشَاهَدَةِ الْمَعْرِفَةِ، وَفَوْقَ مُشَاهَدَةِ الْمُعَايَنَةِ. قَوْلُهُ: " رَاكِبَةً بَحْرَ الْوُجُودِ " يَعْنِي: تِلْكَ الْمُشَاهَدَةَ رَاكِبَةٌ بَحْرَ الْوُجُودِ، فَهِيَ فِي لُجَّةِ بَحْرِهِ لَا فِي أَنْوَارِهِ، وَلَا فِي بَوَارِقِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مُرَادِهِ بِالْوُجُودِ وَأَنَّهُ وُجُودُ عِلْمٍ، وَوُجُودُ عَيْنٍ، وَوُجُودُ مَقَامٍ، وَسَيَأْتِي تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلُ الْمُعَايَنَةِ] [حَقِيقَةُ الْمُعَايَنَةِ] فَصْلُ الْمُعَايَنَةِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: (بَابُ الْمُعَايَنَةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45] . قُلْتُ: الْمُعَايَنَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْعِيَانِ، وَأَصْلُهَا مِنَ الرُّؤْيَةِ بِالْعَيْنِ، يُقَالُ: عَايَنَهُ إِذَا وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ: شَافَهَهُ إِذَا كَلَّمَهُ شِفَاهًا، وَوَاجَهَهُ إِذَا قَابَلَهُ بِوَجْهِهِ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ أَنْ يَظْفَرَ بِهِ بَشَرٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45] فَالرُّؤْيَةُ وَاقِعَةٌ عَلَى نَفْسِ مَدِّ الظِّلِّ، لَا عَلَى الَّذِي مَدَّهُ سُبْحَانَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح: 15] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] فَهَاهُنَا أَوْقَعَ الرُّؤْيَةَ عَلَى نَفْسِ الْفِعْلِ، وَفِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45] أَوْقَعَهَا فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمُرَادُ: فِعْلُهُ مِنْ مَدِّ الظِّلِّ، هَذَا كَلَامٌ عَرَبِيٌّ بَيِّنٌ مَعْنَاهُ، غَيْرُ مُحْتَمَلٍ وَلَا مُجْمَلٍ، كَمَا قِيلَ فِي الْعُزَّى: كُفْرَانَكَ الْيَوْمَ لَا سُبْحَانَكَ ... إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكَ

فصل أنواع المعاينة

وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، يَقُولُونَ: رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، وَالْمُرَادُ رَأَيْتُ فِعْلَهُ، فَالْعِيَانُ وَالرُّؤْيَةُ: وَاقِعٌ عَلَى الْمَفْعُولِ لَا عَلَى ذَاتِ الْفَاعِلِ وَصِفَتِهِ وَلَا فِعْلِهِ الْقَائِمِ بِهِ. [فَصْلٌ أَنْوَاعُ الْمُعَايَنَةِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْمُعَايَنَةُ ثَلَاثٌ. إِحْدَاهَا: مُعَايَنَةُ الْأَبْصَارِ. الثَّانِيَةُ: مُعَايَنَةُ عَيْنِ الْقَلْبِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ عَيْنِ الشَّيْءِ عَلَى نَعْتِهِ، عِلْمًا يَقْطَعُ الرَّيْبَةَ، وَلَا تَشُوبُهُ حَيْرَةٌ. الثَّالِثَةُ: مُعَايَنَةُ عَيْنِ الرُّوحِ، وَهِيَ الَّتِي تُعَايِنُ الْحَقَّ عِيَانًا مَحْضًا، وَالْأَرْوَاحُ إِنَّمَا طَهُرَتْ وَأُكْرِمَتْ بِالْبَقَاءِ لِتُعَايِنَ سَنَا الْحَضْرَةِ، وَتُشَاهِدَ بَهَاءَ الْعِزَّةِ، وَتَجْذِبَ الْقُلُوبَ إِلَى فِنَاءِ الْحَضْرَةِ. جَعَلَ الشَّيْخُ الْمُعَايَنَةَ لِلْعَيْنِ وَالْقَلْبِ وَالرُّوحِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ مُعَايَنَةٍ مِنْهَا حُكْمًا. فَمُعَايَنَةُ الْعَيْنِ: هِيَ رُؤْيَةُ الشَّيْءِ عِيَانًا، إِمَّا بِانْطِبَاعِ صُورَةِ الْمَرْئِيِّ فِي الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ، عِنْدَ أَصْحَابِ الِانْطِبَاعِ، وَإِمَّا بِاتِّصَالِ الشُّعَاعِ الْمُنْبَسِطِ مِنَ الْعَيْنِ الْمُتَّصِلِ بِالْمَرْئِيِّ، عِنْدَ أَصْحَابِ الشُّعَاعِ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ الْخَاصَّةِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَبَيْنَ الْمَرْئِيِّ، عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ لَا تَخْلُو عَنْ خَطَأٍ وَصَوَابٍ، وَالْحَقُّ شَيْءٌ غَيْرُهَا، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ فِي الْعَيْنِ قُوَّةً بَاصِرَةً، كَمَا جَعَلَ فِي الْأُذُنِ قُوَّةً سَامِعَةً، وَفِي الْأَنْفِ قُوَّةً شَامَّةً، وَفِي اللِّسَانِ قُوَّةً نَاطِقَةً وَقُوَّةً ذَائِقَةً، فَهَذِهِ قُوًى أَوْدَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَجَعَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا رَابِطَةً، وَجَعَلَ لَهَا أَسْبَابًا مِنْ خَارِجٍ، وَمَوَانِعَ تَمْنَعُ حُكْمَهَا، وَكُلُّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ انْطِبَاعٍ، وَمُقَابَلَةٍ، وَشُعَاعٍ، وَنِسْبَةٍ، وَإِضَافَةٍ: فَهُوَ سَبَبٌ وَشَرْطٌ، وَالْمُقْتَضَى هُوَ الْقُوَّةُ الْقَائِمَةُ بِالْمَحَلِّ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ ذِكْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالْمَقْصُودُ أَمْرٌ آخَرُ. وَأَمَّا مُعَايَنَةُ الْقَلْبِ: فَهِيَ انْكِشَافُ صُورَةِ الْمَعْلُومِ لَهُ، بِحَيْثُ تَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَلْبَ يُبْصِرُ وَيَعْمَى، كَمَا تُبْصِرُ الْعَيْنُ وَكَمَا تَعْمَى، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]

فَالْقَلْبُ يَرَى وَيَسْمَعُ، وَيَعْمَى وَيَصِمُّ، وَعَمَاهُ وَصَمَمُهُ أَبْلَغُ مِنْ عَمَى الْبَصَرِ وَصَمَمِهِ. وَأَمَّا مَا يُثْبِتُهُ مُتَأَخِّرُو الْقَوْمِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ رُؤْيَةُ الرُّوحِ، وَسَمْعُهَا وَإِرَادَتُهَا، وَأَحْكَامُهَا، الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنْ أَحْكَامِ الْقَلْبِ فَهَؤُلَاءِ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الرُّوحَ غَيْرُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَاهُنَا أُمُورًا مَعْلُومَةً، وَهِيَ: الْبَدَنُ، وَرُوحُهُ الْقَائِمُ بِهِ، وَالْقَلْبُ الْمُشَاهَدُ فِيهِ، وَفِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالْغَرِيزَةِ، وَهِيَ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ الَّتِي مَحَلُّهَا الْقَلْبُ، وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْقَلْبِ كَنِسْبَةِ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ إِلَى الْعَيْنِ، وَالْقُوَّةِ السَّامِعَةِ إِلَى الْأُذُنِ، وَلِهَذَا تُسَمَّى تِلْكَ الْقُوَّةُ قَلْبًا، كَمَا تُسَمَّى الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ بَصَرًا، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] وَلَمْ يُرِدْ شَكْلَ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْقُوَّةَ وَالْغَرِيزَةَ الْمُودَعَةَ فِيهِ. وَالرُّوحُ: هِيَ الْحَامِلَةُ لِلْبَدَنِ، وَلِهَذِهِ الْقُوَى كُلِّهَا، فَلَا قِوَامَ لِلْبَدَنِ وَلَا لِقُوَاهُ إِلَّا بِهَا، وَلَهَا بِاعْتِبَارِ إِضَافَتِهَا إِلَى كُلِّ مَحَلٍّ حُكْمٌ وَاسْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، فَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَحَلِّ الْبَصَرِ سُمِّيَتْ بَصَرًا، وَكَانَ لَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَحَلِّ السَّمْعِ سُمِّيَتْ سَمْعًا، وَكَانَ لَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَحَلِّ الْعَقْلِ وَهُوَ الْقَلْبُ سُمِّيَتْ قَلْبًا، وَلَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا هُنَاكَ، هِيَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ رُوحٌ. فَالْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ وَالْعَاقِلَةُ وَالسَّامِعَةُ وَالنَّاطِقَةُ رُوحٌ بَاصِرَةٌ وَسَامِعَةٌ وَعَاقِلَةٌ وَنَاطِقَةٌ، فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ هَذَا الْعَاقِلُ، الْفَاهِمُ الْمُدْرِكُ، الْمُحِبُّ الْعَارِفُ، الْمُحَرِّكُ لِلْبَدَنِ الَّذِي هُوَ مَحِلُّ الْخِطَابِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَهُ صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً وَنَفْسًا لَوَّامَةً، وَنَفْسًا أَمَّارَةً، وَلَيْسَ هُوَ ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ بِالذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ هُوَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ لَهَا صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ. وَهُمْ يُشِيرُونَ بِالنَّفْسِ إِلَى الْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ لَهُ نَفْسٌ، وَفُلَانٌ لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ فَارَقَتْهُ نَفْسُهُ لَمَاتَ، وَلَكِنْ يُرِيدُونَ تَجَرُّدَهُ عَنْ صِفَاتِ النَّفْسِ الْمَذْمُومَةِ. وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ النَّفْسَ إِذَا تَلَطَّفَتْ وَفَارَقَتِ الرَّذَائِلَ صَارَتْ رُوحًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تُعْدَمْ، وَيُخْلَقُ لَهُ مَكَانَهَا رُوحٌ لَمْ تَكُنْ، وَلَكِنْ عُدِمَتْ مِنْهَا الصِّفَاتُ

الْمَذْمُومَةُ، وَصَارَتْ مَكَانَهَا الصِّفَاتُ الْمَحْمُودَةُ، فَسُمِّيَتْ رُوحًا. وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مُجَرَّدٌ، وَإِلَّا فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّاهَا نَفْسًا فِي الْقُرْآنِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا أَمَّارَةً، وَلَوَّامَةً، وَمُطْمَئِنَّةً قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] وَيَدْخُلُ فِي هَذَا جَمِيعُ أَنْفُسِ الْعِبَادِ حَتَّى الْأَنْبِيَاءِ، وَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُوحًا عَلَى الْإِطْلَاقِ مُؤْمِنَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً، بَرَّةً أَوْ فَاجِرَةً كَقَوْلِهِ: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ» ، وَقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا حَيْثُ شَاءَ، وَرَدَّهَا حَيْثُ شَاءَ» ، وَقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ قَبْضِ الرُّوحِ وَصِفَتِهِ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا كَانَ كَذَا وَكَذَا فَسَمَّى الْمَقْبُوضَ رُوحًا كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ نَفْسًا وَهَذَا الْمَقْبُوضُ وَالْمُتَوَفَّى شَيْءٌ وَاحِدٌ، لَا ثَلَاثَةٌ وَلَا اثْنَانِ، وَإِذَا قُبِضَ تَبِعَتْهُ الْقُوَى كُلُّهَا الْعَقْلُ، وَمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَامِلَ الْجَمِيعِ وَمَرْكَبِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَالْمُعَايَنَةُ نَوْعَانِ: مُعَايَنَةُ بَصَرٍ، وَمُعَايَنَةُ بَصِيرَةٍ، فَمُعَايَنَةُ الْبَصَرِ: وُقُوعُهُ عَلَى نَفْسِ الْمَرْئِيِّ، أَوْ مِثَالِهِ الْخَارِجِيِّ، كَرُؤْيَةِ مِثَالِ الصُّورَةِ فِي الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ، وَمُعَايَنَةُ الْبَصِيرَةِ: وُقُوعُ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ عَلَى الْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ الْمُطَابِقِ لِلْخَارِجِيِّ، فَيَكُونُ إِدْرَاكُهُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ إِدْرَاكِ الْعَيْنِ لِلصُّورَةِ الْخَارِجِيَّةِ، وَقَدْ يَقْوَى سُلْطَانُ هَذَا الْإِدْرَاكِ الْبَاطِنِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْحُكْمُ لَهُ، وَيَقْوَى اسْتِحْضَارُ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ لِمُدْرِكِهَا، بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ فِيهِ، فَيَغْلِبُ حُكْمُ الْقَلْبِ عَلَى حُكْمِ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ، فَيَسْتَوْلِي عَلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، بِحَيْثُ يَرَاهُ، وَيَسْمَعُ خِطَابَهُ فِي الْخَارِجِ، وَهُوَ فِي النَّفْسِ وَالذِّهْنِ، لَكِنْ لِغَلَبَةِ الشُّهُودِ، وَقُوَّةِ الِاسْتِحْضَارِ، وَتَمَكُّنِ حُكْمِ الْقَلْبِ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى الْقُوَى، صَارَ كَأَنَّهُ مَرْئِيٌّ

بِالْعَيْنِ، مَسْمُوعٌ بِالْأُذُنِ، بِحَيْثُ لَا يَشُكُّ الْمُدْرِكُ وَلَا يَرْتَابُ فِي ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَقْبَلُ عَذْلًا. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ شَوَاهِدُ وَأَمْثِلَةٌ عِلْمِيَّةٌ تَابِعَةٌ لِلْمُعْتَقِدِ، فَذَلِكَ الَّذِي أَدْرَكَ بِعَيْنِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ، إِنَّمَا هُوَ شَاهِدٌ دَالٌّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ شَاهِدَ نُورِ جَلَالِ الذَّاتِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ نُورِ الذَّاتِ الَّذِي لَا تَقُومُ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَإِنَّهُ لَوْ ظَهَرَ لَهَا لَتَدَكْدَكَتْ، وَلَأَصَابَهَا مَا أَصَابَ الْجَبَلَ، وَكَذَلِكَ شَاهِدُ نُورِ الْعَظَمَةِ فِي الْقَلْبِ، إِنَّمَا هُوَ نُورُ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، لَا نُورُ نَفْسِ الْمُعَظَّمِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَلَيْسَ مَعَ الْقَوْمِ إِلَّا الشَّوَاهِدُ، وَالْأَمْثِلَةُ الْعِلْمِيَّةُ، وَالرَّقَائِقُ الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ قُرْبِ الْقَلْبِ مِنَ الرَّبِّ، وَأُنْسِهِ بِهِ، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي مَحَبَّتِهِ وَذِكْرِهِ، وَاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ مَعْرِفَتِهِ عَلَيْهِ، وَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ، مُنَزَّهٌ مُقَدَّسٌ عَنِ اطِّلَاعِ الْبَشَرِ عَلَى ذَاتِهِ، أَوْ أَنْوَارِ ذَاتِهِ، أَوْ صِفَاتِهِ، أَوْ أَنْوَارِ صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ الشَّوَاهِدُ الَّتِي تَقُومُ بِقَلْبِ الْعَبْدِ، كَمَا يَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنَ الْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهِمَا. وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَجَدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ أُحُدٍ، لَمَّا قَالَ: وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ! إِنِّي أَجِدُ وَاللَّهِ رِيحَهَا دُونَ أُحُدٍ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ» ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» فَهُوَ رَوْضَةٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، لِمَا يَقُومُ بِقُلُوبِهِمْ مِنْ

شَوَاهِدِ الْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّهَا لَهُمْ رَأْيُ عَيْنٍ، وَإِذَا قَعَدَ الْمُنَافِقُ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَكَانُ فِي حَقِّهِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» . فَالْعَمَلُ: إِنَّمَا هُوَ عَلَى الشَّوَاهِدِ، وَعَلَى حَسَبِ شَاهِدِ الْعَبْدِ يَكُونُ عَمَلُهُ. وَنَحْنُ نُشِيرُ بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ إِلَى الشَّوَاهِدِ، إِشَارَةً يُعْلَمُ بِهَا حَقِيقَةُ الْأَمْرِ. فَأَوَّلُ شَوَاهِدِ السَّائِرِ إِلَى اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ: أَنْ يَقُومَ بِهِ شَاهِدٌ مِنَ الدُّنْيَا وَحَقَارَتِهَا، وَقِلَّةِ وَفَائِهَا، وَكَثْرَةِ جَفَائِهَا، وَخِسَّةِ شُرَكَائِهَا، وَسُرْعَةِ انْقِضَائِهَا، وَيَرَى أَهْلَهَا وَعُشَّاقَهَا صَرْعَى حَوْلَهَا، قَدْ بَدَعَتْ بِهِمْ، وَعَذَّبَتْهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَأَذَاقَتْهُمْ أَمَرَّ الشَّرَابِ، أَضْحَكَتْهُمْ قَلِيلًا، وَأَبْكَتْهُمْ طَوِيلًا، سَقَتْهُمْ كُؤُوسَ سُمِّهَا، بَعْدَ كُؤُوسِ خَمْرِهَا، فَسَكِرُوا بِحُبِّهَا، وَمَاتُوا بِهَجْرِهَا. فَإِذَا قَامَ بِالْعَبْدِ هَذَا الشَّاهِدُ مِنْهَا: تَرَحَّلَ قَلْبُهُ عَنْهَا، وَسَافَرَ فِي طَلَبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَحِينَئِذٍ يَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنَ الْآخِرَةِ وَدَوَامِهَا، وَأَنَّهَا هِيَ الْحَيَوَانُ حَقًّا، فَأَهْلُهَا لَا يَرْتَحِلُونَ مِنْهَا، وَلَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا، بَلْ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، وَمَحَطُّ الرِّجَالِ، وَمُنْتَهَى السَّيْرِ، وَأَنَّ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟» وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا أَقَلُّ مِنْ ذَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي جِبَالِ الدُّنْيَا. ثُمَّ يَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنْ النَّارِ، وَتَوَقُّدِهَا وَاضْطِرَامِهَا، وَبُعْدِ قَعْرِهَا، وَشِدَّةِ حَرِّهَا، وَعَظِيمِ عَذَابِ أَهْلِهَا، فَيُشَاهِدُهُمْ وَقَدْ سِيقُوا إِلَيْهَا سُودَ الْوُجُوهِ، زُرْقَ الْعُيُونِ، وَالسَّلَاسِلُ وَالْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهَا فُتِحَتْ فِي وُجُوهِهِمْ أَبْوَابُهَا، فَشَاهَدُوا ذَلِكَ الْمَنْظَرَ الْفَظِيعَ، وَقَدْ تَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ حَسْرَةً وَأَسَفًا {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53]

فَأَرَاهُمْ شَاهِدُ الْإِيمَانِ، وَهُمْ إِلَيْهَا يُدْفَعُونَ، وَأَتَى النِّدَاءُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ - أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ - اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 14 - 16] فَيَرَاهُمْ شَاهِدُ الْإِيمَانِ، وَهُمْ فِي الْحَمِيمِ عَلَى وُجُوهِهِمْ يُسْحَبُونَ، وَفِي النَّارِ كَالْحَطَبِ يُسْجَرُونَ {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] فَبِئْسَ اللِّحَافُ وَبِئْسَ الْفِرَاشُ، وَإِنِ اسْتَغَاثُوا مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] فَإِذَا شَرِبُوهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ فِي أَجْوَافِهِمْ، وَصَهَرَ مَا فِي بُطُونِهِمْ، شَرَابُهُمُ الْحَمِيمُ، وَطَعَامُهُمُ الزَّقُّومُ {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ - وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 36 - 37] . فَإِذَا قَامَ بِقَلْبِ الْعَبْدِ هَذَا الشَّاهِدُ: انْخَلَعَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، وَلَبِسَ ثِيَابَ الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ، وَأَخْصَبَ قَلْبَهُ مِنْ مَطَرِ أَجْفَانِهِ، وَهَانَ عَلَيْهِ كُلُّ مُصِيبَةٍ تُصِيبُهُ فِي غَيْرِ دِينِهِ وَقَلْبِهِ. وَعَلَى حَسْبِ قُوَّةِ هَذَا الشَّاهِدِ يَكُونُ بَعْدَهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ، فَيُذِيبُ هَذَا الشَّاهِدُ مِنْ قَلْبِهِ الْفَضَلَاتِ، وَالْمَوَادَّ الْمُهْلِكَةَ، وَيُنْضِجُهَا ثُمَّ يُخْرِجُهَا، فَيَجِدُ الْقَلْبُ لَذَّةَ الْعَافِيَةِ وَسُرُورِهَا. فَيَقُومُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: شَاهِدٌ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَضْلًا عَمَّا وَصَفَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُفَصَّلِ، الْكَفِيلِ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ اللَّذَّةِ، مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ، وَالْمَلَابِسِ وَالصُّوَرِ، وَالْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ، فَيَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدُ دَارٍ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الدَّائِمَ بِحَذَافِيرِهِ فِيهَا، تُرْبَتُهَا الْمِسْكُ، وَحَصْبَاؤُهَا الدُّرُّ، وَبِنَاؤُهَا لَبِنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقَصَبُ اللُّؤْلُؤِ، وَشَرَابُهَا أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ، وَأَبْرَدُ

مِنَ الْكَافُورِ، وَأَلَذُّ مِنَ الزَّنْجَبِيلِ، وَنِسَاؤُهَا لَوْ بَرَزَ وَجْهُ إِحْدَاهُنَّ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَغَلَبَ عَلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ، وَلِبَاسُهُمُ الْحَرِيرُ مِنَ السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ، وَخَدَمُهُمْ وِلْدَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ الْمَنْثُورِ، وَفَاكِهَتُهُمْ دَائِمَةٌ، لَا مَقْطُوعَةٌ وَلَا مَمْنُوعَةٌ، وَفُرُشٌ مَرْفُوعَةٌ، وَغِذَاؤُهُمْ لَحْمُ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَشَرَابُهُمْ عَلَيْهِ خَمْرَةٌ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزِفُونَ، وَخُضْرَتُهُمْ فَاكِهَةٌ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَشَاهِدُهُمْ حُورُ عِينٍ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، فَهُمْ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ، وَفِي تِلْكَ الرِّيَاضِ يُحْبَرُونَ، وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى هَذَا الشَّاهِدِ: شَاهِدُ يَوْمِ الْمَزِيدِ، وَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَيْنَمَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ، إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ، فَإِذَا الرَّبُّ تَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] ثُمَّ يَتَوَارَى عَنْهُمْ، وَتَبْقَى رَحْمَتُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ» . فَإِذَا انْضَمَّ هَذَا الشَّاهِدُ إِلَى الشَّوَاهِدِ الَّتِي قَبْلَهُ: فَهُنَاكَ يَسِيرُ الْقَلْبُ إِلَى رَبِّهِ أَسْرَعَ مِنْ سَيْرِ الرِّيَاحِ فِي مَهَابِّهَا، فَلَا يَلْتَفِتُ فِي طَرِيقِهِ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا. هَذَا وَفَوْقَ ذَلِكَ: شَاهِدٌ آخَرُ تَضْمَحِلُّ فِيهِ هَذِهِ الشَّوَاهِدُ، وَيَغِيبُ بِهِ الْعَبْدُ عَنْهَا كُلِّهَا، وَهُوَ شَاهِدُ جَلَالِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَعِزِّهِ وَسُلْطَانِهِ، وَقَيُّومِيَّتِهِ وَعُلُوِّهِ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَتَكَلُّمِهِ بِكُتُبِهِ وَكَلِمَاتِ تَكْوِينِهِ، وَخِطَابِهِ لِمَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ. فَإِذَا شَاهَدَهُ شَاهَدَ بِقَلْبِهِ قَيُّومًا قَاهِرًا فَوْقَ عِبَادِهِ، مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، مُنْفَرِدًا بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ، آمِرًا نَاهِيًا، مُرْسِلًا رُسُلَهُ، وَمُنْزِلًا كُتُبَهُ، يَرْضَى وَيَغْضَبُ، وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ، وَيَرْحَمُ إِذَا اسْتُرْحِمَ، وَيَغْفِرُ إِذَا اسْتُغْفِرَ، وَيُعْطِي إِذَا سُئِلَ، وَيُجِيبُ إِذَا دُعِيَ، وَيُقِيلُ إِذَا اسْتُقِيلَ، أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعَزُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَقْدَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعْلَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَوْ كَانَتْ قُوَى الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانُوا كُلُّهُمْ عَلَى تِلْكَ الْقُوَّةِ، ثُمَّ نُسِبَتْ تِلْكَ الْقُوَى إِلَى قُوَّةِ الْبَعُوضَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُوَّةِ الْأَسَدِ، وَلَوْ قُدِّرَ جَمَالُ الْخَلْقِ كُلُّهُمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانُوا كُلُّهُمْ بِذَلِكَ الْجَمَالِ، ثُمَّ نُسِبَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ تَعَالَى لَكَانَ دُونَ سِرَاجٍ ضَعِيفٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَيْنِ الشَّمْسِ، وَلَوْ كَانَ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانَ كُلُّ الْخَلْقِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، ثُمَّ نُسِبَ

إِلَى عِلْمِ الرَّبِّ تَعَالَى لَكَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الرَّبِّ كَنَقْرَةِ عُصْفُورٍ فِي بَحْرٍ، وَهَكَذَا سَائِرُ صِفَاتِهِ، كَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَسَائِرُ نُعُوتِ كَمَالِهِ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ، فَلَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَلَا تُغْلِطُهُ الْمَسَائِلُ، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ، سَوَاءٌ عِنْدَهُ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، فَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، وَالْغَيْبُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَيَرَى نِيَاطَ عُرُوقِهَا وَمَجَارِيَ الْقُوتِ فِي أَعْضَائِهَا، يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ يَدِهِ، وَالْأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَيَقْبِضُ سَمَاوَاتِهِ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، وَالْأَرَضِينَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، فَالسَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي كَفِّهِ كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ الْعَبْدِ، وَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ قَامُوا صَفًّا وَاحِدًا مَا أَحَاطُوا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَوْ كَشَفَ الْحِجَابَ عَنْ وَجْهِهِ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُهُ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ. فَإِذَا قَامَ بِقَلْبِ الْعَبْدِ هَذَا الشَّاهِدُ: اضْمَحَلَّتْ فِيهِ الشَّوَاهِدُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُعْدَمَ، بَلْ تَصِيرُ الْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ لِهَذَا الشَّاهِدِ، وَتَنْدَرِجُ فِيهِ الشَّوَاهِدُ كُلُّهَا، وَمِنْ هَذَا شَاهِدُهُ فَلَهُ سُلُوكٌ وَسَيْرٌ خَاصٌّ، لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ عَنْ هَذَا فِي غَفْلَةٍ، أَوْ مَعْرِفَةٍ مُجْمَلَةٍ. فَصَاحِبُ هَذَا الشَّاهِدِ سَائِرٌ إِلَى اللَّهِ فِي يَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ، وَحَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ وَفِطْرِهِ وَصِيَامِهِ، لَهُ شَأْنٌ وَلِلنَّاسِ شَأْنٌ، هُوَ فِي وَادٍ وَالنَّاسُ فِي وَادٍ. خَلِيلَيَّ لَا وَاللَّهِ مَا أَنَا مِنْكُمَا ... إِذَا عَلِمَ مِنْ آلِ لَيْلَى بَدَا لِيَا وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْعِيَانَ وَالْكَشْفَ وَالْمُشَاهَدَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ إِنَّمَا تَقَعُ عَلَى الشَّوَاهِدِ وَالْأَمْثِلَةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَهُوَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى الَّذِي ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَسُورَةِ الرُّومِ وَسُورَةِ الشُّورَى، وَهُوَ مَا يَقُومُ بِقُلُوبِ عَابِدِيهِ وَمُحِبِّيهِ، وَالْمُنِيبِينَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الشَّاهِدِ، وَهُوَ الْبَاعِثُ لَهُمْ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَتَفَاوُتُهُمْ فِيهِ لَا يَنْحَصِرُ طَرَفَاهُ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ لَا يَتَعَدَّاهُ، وَأَعْظَمُ النَّاسِ حَظًّا فِي ذَلِكَ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ لَا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ فَوْقَ مَا يُثْنِي

عَلَيْهِ الْمُثْنُونَ، وَفَوْقَ مَا يَحْمَدُهُ الْحَامِدُونَ، كَمَا قِيلَ: وَمَا بَلَغَ الْمُهْدُونَ نَحْوَكَ مِدْحَةً ... وَإِنْ أَطْنَبُوا إِنَّ الَّذِي فِيكَ أَعْظَمُ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّ الْحَمْدِ لَا مَبْدَأَ لَهُ ... وَلَا مُنْتَهَى وَاللَّهُ بِالْحَمْدِ أَعْلَمُ وَطَهَارَةُ الْقَلْبِ، وَنَزَاهَتُهُ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ، وَالْإِرَادَاتِ السُّفْلِيَّةِ، وَخُلُوِّهِ وَتَفْرِيغِهِ مِنَ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، هُوَ كُرْسِيُّ هَذَا الشَّاهِدِ، الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَمَقْعَدُهُ الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِيهِ، فَحَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ مُتَلَوِّثٍ بِالْخَبَائِثِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ وَالصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، مُتَعَلِّقٌ بِالْمُرَادَاتِ السَّافِلَةِ أَنْ يَقُومَ بِهِ هَذَا الشَّاهِدُ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ. نَزِّهْ فُؤَادَكَ عَنْ سِوَانَا وَائْتِنَا ... فَجَنَابُنَا حِلٌّ لِكُلِّ مُنَزِّهِ وَالصَّبْرُ طِلَّسْمٌ لِكَنْزِ لِقَائِنَا ... مَنْ حَلَّ ذَا الطِّلَّسْمِ فَازَ بِكَنْزِهِ إِذَا طَلَعَتْ شَمْسُ التَّوْحِيدِ، وَبَاشَرَتْ جَوَانِبُهَا الْأَرْوَاحَ، وَنُورُهَا الْبَصَائِرَ، تَجَلَّتْ بِهَا ظُلُمَاتُ النَّفْسِ وَالطَّبْعِ، وَتَحَرَّكَتْ بِهَا الْأَرْوَاحُ فِي طَلَبِ مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فَسَافَرَ الْقَلْبُ فِي بَيْدَاءِ الْأَمْرِ، وَنَزَلَ مَنَازِلَ الْعُبُودِيَّةِ، مَنْزِلًا مَنْزِلًا، فَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ، مُقِيمٌ عَلَى مَعْبُودٍ وَاحِدٍ، فَلَا تَزَالُ شَوَاهِدُ الصِّفَاتِ قَائِمَةً بِقَلْبِهِ، تُوقِظُهُ إِذَا رَقَدَ، وَتُذَكِّرُهُ إِذَا غَفَلَ، وَتَحْدُو بِهِ إِذَا سَارَ، وَتُقِيمُهُ إِذَا قَعَدَ، إِنْ قَامَ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ رَأَى أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ - وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ - قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ - قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 2 - 89] .

إِنْ قَامَ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ: رَأَى فِي ذَلِكَ الشَّاهِدِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَالنُّبُوَّاتِ، وَالْكُتُبَ وَالشَّرَائِعَ، وَالْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا، وَالْكَرَاهَةَ وَالْبُغْضَ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَشَاهَدَ الْأَمْرَ نَازِلًا مِمَّنْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَأَعْمَالُ الْعِبَادِ صَاعِدَةٌ إِلَيْهِ، وَمَعْرُوضَةٌ عَلَيْهِ، يَجْزِي بِالْإِحْسَانِ مِنْهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ وَفِي الْعُقْبَى نَضْرَةً وَسُرُورًا، وَيَقْدَمُ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرِهِ وَشَرْعِهِ مِنْهَا فَيَجْعَلُهُ هَبَاءً مَنْثُورًا. وَإِنْ قَامَ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنَ الرَّحْمَةِ: رَأَى الْوُجُودَ كُلَّهُ قَائِمًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ قَدْ وَسِعَ مَنْ هِيَ صِفَتُهُ كُلُّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَانْتَهَتْ رَحْمَتُهُ إِلَى حَيْثُ انْتَهَى عِلْمُهُ، فَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِرَحْمَتِهِ؛ لِتَسَعَ كُلَّ شَيْءٍ، كَمَا وَسِعَ عَرْشُهُ كُلَّ شَيْءٍ. وَإِنْ قَامَ بِقَلْبِهِ شَاهِدُ الْعِزَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْعَظَمَةِ وَالْجَبَرُوتِ: فَلَهُ شَأْنٌ آخَرُ. وَهَكَذَا جَمِيعُ شَوَاهِدِ الصِّفَاتِ، فَمَا ذَكَرْنَاهُ إِنَّمَا هُوَ أَدْنَى تَنْبِيهٍ عَلَيْهَا، فَالْكَشْفُ وَالْعِيَانُ وَالْمُشَاهَدَةُ لَا تَتَجَاوَزُ الشَّوَاهِدَ أَلْبَتَّةَ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. فَقَوْلُهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّهَا مُعَايَنَةُ عَيْنِ الْقَلْبِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ عَلَى نَعْتِهِ، يُرِيدُ بِهِ مَعْرِفَتَهُ عَلَى نَعْتِهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فِي الْخَارِجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الْأَسْمَاءُ، فَكَيْفَ بِمَعْرِفَةِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ؟ وَإِنَّ غَايَةَ الْمَعْرِفَةِ: أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ عَلَى نَعْتِهِ عَلَى وَجْهٍ مُجْمَلٍ أَوْ مُفَصَّلٍ تَفْصِيلًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. قَوْلُهُ: " عِلْمًا يَقْطَعُ الرِّيبَةَ، وَلَا يَشُوبُهُ حَيْرَةٌ " هَذَا حَقٌّ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ مَتَى شَابَهَا رِيبَةٌ أَوْ حَيْرَةٌ: لَمْ تَكُنْ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً، كَمَا أَنَّ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ لَوْ شَابَهَا ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ رُؤْيَةً تَامَّةً، فَالْمَعْرِفَةُ: مَا قَطَعَ الشَّكَّ وَالرِّيبَةَ وَالْوَسْوَاسَ. قَوْلُهُ: وَالْمُعَايَنَةُ الثَّالِثَةُ: عَيْنُ الرُّوحِ، وَهِيَ الَّتِي تُعَايِنُ الْحَقَّ عِيَانًا مَحْضًا. إِنْ أَرَادَ بِالْحَقِّ ضِدَّ الْبَاطِلِ أَيْ: تُعَايِنُ مَا هُوَ حَقٌّ، بِحَيْثُ يَنْكَشِفُ لَهَا كَمَا يَنْكَشِفُ الْمَرْئِيُّ لِلْبَصَرِ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْحَقِّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ كَلَامَهُ عَلَى قُوَّةِ الْيَقِينِ، وَمَزِيدِ الْإِيمَانِ، وَنُزُولِ الرُّوحِ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ، وَإِلَّا

فَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُعَايِنُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ بَصَرٌ وَلَا رُوحٌ، بَلِ الْمِثَالُ الْعِلْمِيُّ: حَظُّ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ: وَالْأَرْوَاحُ إِنَّمَا طُهِّرَتْ وَأُكْرِمَتْ بِالْبَقَاءِ، لِتُعَايِنَ سَنَا الْحَضْرَةِ، وَتُشَاهِدَ بَهَاءَ الْعِزَّةِ، وَتَجْذِبَ الْقُلُوبَ إِلَى فِنَاءِ الْحَضْرَةِ. يَعْنِي: أَنَّ الْأَرْوَاحَ خُلِقَتْ لِلْبَقَاءِ لَا لِلْفَنَاءِ، هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَمَا خَالَفَ فِيهِ إِلَّا شِرْذِمَةٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْإِلْحَادِ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ تَفْنَى بِفَنَاءِ الْأَبْدَانِ، لِكَوْنِهَا قُوَّةً مِنْ قُوَاهَا، وَعَرَضًا مِنْ أَعْرَاضِهَا. وَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مُنْكِرٌ لِمَعَادِ الْأَبْدَانِ، وَالثَّانِي: مَنْ يُقِرُّ بِمَعَادِ الْأَبْدَانِ، وَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعِيدُ قُوَى الْبَدَنِ وَأَعْرَاضَهُ، وَمِنْهَا: الرُّوحُ فَتَفْنَى بِفَنَاءِ الْأَبْدَانِ، فَلَيْسَ عِنْدَ الطَّائِفَتَيْنِ رُوحٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، تُسَاكِنُ الْبَدَنَ وَتُفَارِقُهُ، وَتَتَّصِلُ بِهِ وَتَنْفَصِلُ عَنْهُ. وَأَمَّا الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ: فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مُفَارَقَةِ أَبْدَانِهَا، لَا تَفْنَى وَلَا تُعْدَمُ، وَأَنَّهَا مُنَعَّمَةٌ أَوْ مُعَذَّبَةٌ فِي الْبَرْزَخِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْمَعَادِ رُدَّتْ إِلَى أَبْدَانِهَا، فَتُنَعَّمُ مَعَهَا أَوْ تُعَذَّبُ، وَلَا تُعْدَمُ وَلَا تَفْنَى. فَقَوْلُهُ: وَالْأَرْوَاحُ إِذَا طُهِّرَتْ وَأُكْرِمَتْ بِالْبَقَاءِ لِتُعَايِنَ سَنَا الْحَضْرَةِ، يُرِيدُ: الْأَرْوَاحَ الطَّاهِرَةَ الزَّكِيَّةَ، وَفِي نُسْخَةٍ: لِتُنَاغِيَ سَنَا الْحَضْرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَلْصَقُ بِالْبَابِ الَّذِي تَرْجَمَهُ بِبَابِ الْمُعَايَنَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَضْرَةِ: الْحَضْرَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَبِ " السَّنَا " النُّورُ الَّذِي يَلْمَعُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43] وَمُعَايَنَةُ ذَلِكَ: إِنَّمَا هُوَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْمُعَايِنُ هَاهُنَا: هُوَ نُورُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ. قَوْلُهُ: " وَيُشَاهِدَ بَهَاءَ الْعِزَّةِ " الْبَهَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْحُسْنُ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، يُقَالُ مِنْهُ: بَهِيَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ وَبَهُوَ أَيْضًا. فَهُوَ بَهِيٌّ. وَالْعِزَّةُ يُرَادُ بِهَا ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: عِزَّةُ الْقُوَّةِ، وَعِزَّةُ الِامْتِنَاعِ، وَعِزَّةُ الْقَهْرِ، وَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ الْعِزَّةُ التَّامَّةُ بِالِاعْتِبَارَاتِ الثَّلَاثِ، وَيُقَالُ مِنَ الْأَوَّلِ: عَزَّ يَعَزُّ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمِنَ الثَّانِي: عَزَّ يَعِزُّ بِكَسْرِهَا وَمِنَ الثَّالِثِ: عَزَّ يَعُزُّ بِضَمِّهَا

فصل الحياة

أَعْطُوا أَقْوَى الْحَرَكَاتِ لِأَقْوَى الْمَعَانِي، وَأَخَفَّهَا لِأَخَفِّهَا، وَأَوْسَطَهَا لِأَوْسَطِهَا، وَهَذِهِ الْعِزَّةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ، إِذِ الشَّرِكَةُ تُنْقِصُ الْعِزَّةَ، وَمُسْتَلْزِمَةٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تُنَافِي كَمَالَ الْعِزَّةِ، وَمُسْتَلْزِمَةٌ لِنَفْيِ أَضْدَادِهَا، وَمُسْتَلْزِمَةٌ لِنَفْيِ مُمَاثَلَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. فَالرُّوحُ تُعَايِنُ بِقُوَّةِ مَعْرِفَتِهَا وَإِيمَانِهَا بَهَاءَ الْعِزَّةِ وَجَلَالَهَا وَعَظَمَتَهَا، وَهَذِهِ الْمُعَايَنَةُ هِيَ نَتِيجَةُ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ الْمُطَابِقَةِ لِلْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، الْمُتَلَقَّاةِ مِنْ مِشْكَاةِ الْوَحْيِ، فَلَا يَطْمَعُ فِيهَا وَاقِفٌ مَعَ أَقْيِسَةِ الْمُتَفَلْسِفِينَ، وَجَدَلِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَخَيَالَاتِ الْمُتَصَوِّفِينَ. قَوْلُهُ: وَتَجْذِبَ الْقُلُوبَ إِلَى فِنَاءِ الْحَضْرَةِ، هُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ؛ أَيْ: جَانِبِ الْحَضْرَةِ، يَعْنِي: أَنَّ الْأَرْوَاحَ لِقُوَّةِ طَلَبِهَا، وَشِدَّةِ شَوْقِهَا تَسُوقُ الْقُلُوبَ وَتَجْذِبُهَا إِلَى هُنَاكَ، فَإِنَّ طَلَبَ الرُّوحِ وَسَيْرَهَا أَقْوَى مِنْ طَلَبِ الْقَلْبِ وَسَيْرِهِ، كَمَا كَانَتْ مُعَايَنَتُهَا أَتَمَّ مِنْ مُعَايَنَتِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَأَحْكَامُ الرُّوحِ عِنْدَهُمْ فَوْقَ أَحْكَامِ الْقَلْبِ، وَأَخَصُّ مِنْهَا. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الرُّوحَ مَتَى عَايَنَتِ الْحَقَّ جَذَبَتِ الْقُوَى كُلَّهَا وَالْقَلْبُ إِلَى حَضْرَتِهِ، فَيَنْقَادُ مَعَهَا انْقِيادًا بِلَا اسْتِعْصَاءٍ، بِخِلَافِ جَذْبِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْجَوَارِحَ قَدْ تَسْتَعْصِي عَلَيْهِ بَعْضَ الِاسْتِعْصَاءِ، وَتَأْبَى شَيْئًا مِنَ الْإِبَاءِ، وَأَمَّا جَذْبُ الرُّوحِ: فَلَا اسْتِعْصَاءَ مَعَهُ وَلَا إِبَاءَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلُ الْحَيَاةِ] [حَقِيقَةُ الْحَيَاةِ] فَصْلُ الْحَيَاةِ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ الْحَيَاةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] . اسْتِشْهَادُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ ظَاهِرٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا: مَنْ كَانَ مَيِّتَ الْقَلْبِ بِعَدَمِ رُوحِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْإِيمَانِ، فَأَحْيَاهُ الرَّبُّ تَعَالَى بِرُوحٍ أُخْرَى غَيْرِ الرُّوحِ الَّتِي أَحْيَا بِهَا بَدَنَهُ، وَهِيَ رُوحُ مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ إِذْ لَا حَيَاةَ لِلرُّوحِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَهِيَ فِي جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ، وَلِهَذَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عُدِمَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ، فَقَالَ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل: 80]

وَسُمِّيَ وَحْيُهُ رُوحًا، لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رُوحٌ تَحْصُلُ بِهِ الْحَيَاةُ، وَأَنَّهُ نُورٌ تَحْصُلُ بِهِ الْإِضَاءَةُ، وَقَالَ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2] ، وَقَالَ تَعَالَى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15] فَالْوَحْيُ حَيَاةُ الرُّوحِ، كَمَا أَنَّ الرُّوحَ حَيَاةُ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا مَنْ فَقَدَ هَذِهِ الرُّوحَ فَقَدْ فَقَدَ الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَحَيَاتُهُ حَيَاةُ الْبَهَائِمِ، وَلَهُ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَهُ جَهَنَّمُ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ لِأَهْلِ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] وَقَدْ فُسِّرَتِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ بِالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا، وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهَا حَيَاةُ الْقَلْبِ وَنَعِيمُهُ، وَبَهْجَتُهُ وَسُرُورُهُ بِالْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةُ اللَّهِ، وَمَحَبَّتُهُ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا حَيَاةَ أَطْيَبُ مِنْ حَيَاةِ صَاحِبِهَا، وَلَا نَعِيمَ فَوْقَ نَعِيمِهِ إِلَّا نَعِيمَ الْجَنَّةِ، كَمَا كَانَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ لَيَمُرُّ بِالْقَلْبِ أَوْقَاتٌ يَرْقُصُ فِيهَا طَرَبًا. وَإِذَا كَانَتْ حَيَاةُ الْقَلْبِ حَيَاةً طَيِّبَةً تَبِعَتْهُ حَيَاةُ الْجَوَارِحِ، فَإِنَّهُ مَلَكَهَا، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَهِيَ عَكْسُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ. وَهَذِهِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَكُونُ فِي الدُّورِ الثَّلَاثِ، أَعْنِي: دَارَ الدُّنْيَا، وَدَارَ الْبَرْزَخِ، وَدَارَ الْقَرَارِ، وَالْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ أَيْضًا تَكُونُ فِي الدُّورِ الثَّلَاثِ، فَالْأَبْرَارُ فِي النَّعِيمِ هُنَا وَهُنَالِكَ، وَالْفُجَّارُ فِي الْجَحِيمِ هُنَا وَهُنَالِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} [النحل: 30] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3]

الحياة المقصودة هنا ثلاثة أشياء

فَذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَحَبَّتُهُ وَطَاعَتُهُ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ ضَامِنٌ لِأَطْيَبِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَالْغَفْلَةُ وَمَعْصِيَتُهُ كَفِيلٌ بِالْحَيَاةِ الْمُنَغَّصَةِ، وَالْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. [الْحَيَاةُ الْمَقْصُودَةُ هُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ] [فَصْلٌ الْحَيَاةُ الْأُولَى حَيَاةُ الْعِلْمِ مِنْ مَوْتِ الْجَهْلِ وَهِيَ عَشْرُ مَرَاتِبَ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْحَيَاةُ فِي هَذَا الْبَابِ: يُشَارُ بِهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، الْحَيَاةُ الْأُولَى: حَيَاةُ الْعِلْمِ مِنْ مَوْتِ الْجَهْلِ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَنْفَاسٍ: نَفْسُ الْخَوْفِ، وَنَفْسُ الرَّجَاءِ، وَنَفْسُ الْمَحَبَّةِ. قَوْلُهُ " الْحَيَاةُ فِي هَذَا الْبَابِ " يُرِيدُ: الْحَيَاةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا الْقَوْمُ دُونَ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ، بَلْ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَلِلْحَيَاةِ مَرَاتِبُ وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْهَا. الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: حَيَاةُ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل: 65] ، وَقَالَ فِي الْمَاءِ: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 11] ، وَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان: 48] وَجَعَلَ هَذِهِ الْحَيَاةَ دَلِيلًا عَلَى الْحَيَاةِ يَوْمَ الْمَعَادِ، وَهَذِهِ حَيَاةٌ حَقِيقَةٌ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، مُسْتَعْمَلَةٌ فِي كُلِّ لُغَةٍ، جَارِيَةً عَلَى أَلْسُنِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، قَالَ الشَّاعِرُ يَمْدَحُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ: بِشَيْبَةِ الْحَمْدِ أَحْيَا اللَّهُ بَلْدَتَنَا ... لَمَّا فَقَدْنَا الْحَيَا وَاجْلَوَّزَ الْمَطَرُ وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ نَذْكُرَ شَوَاهِدَهُ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: حَيَاةُ النُّمُوِّ وَالِاغْتِذَاءِ. وَهَذِهِ الْحَيَاةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ الَّذِي يَعِيشُ بِالْغِذَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] .

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشُّعُورِ: هَلْ تُحِلُّهَا الْحَيَاةُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالصَّوَابُ: أَنَّهَا تُحِلُّهَا حَيَاةُ النُّمُوِّ وَالْغِذَاءِ، دُونَ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ، وَلِهَذَا لَا تُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ، إِذْ لَوْ أَوْجَبَ لَهَا فِرَاقُ النُّمُوِّ وَالِاغْتِذَاءِ النَّجَاسَةَ، لَنَجَسَ الزَّرْعُ وَالشَّجَرُ لِمُفَارَقَتِهِ هَذِهِ الْحَيَاةُ لَهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الشُّعُورَ لَا تَنْجُسُ بِالْمَوْتِ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: حَيَاةُ الْحَيَوَانِ الْمُتَغَذِّي بِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى نُمُوِّهِ وَاغْتِذَائِهِ، وَهِيَ إِحْسَاسُهُ وَحَرَكَتُهُ، وَلِهَذَا يَأْلَمُ بِوُرُودِ الْكَيْفِيَّاتِ الْمُؤْلِمَةِ عَلَيْهِ، وَبِتَفَرُّقِ الِاتِّصَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْحَيَاةُ فَوْقَ حَيَاةِ النَّبَاتِ، وَهَذِهِ الْحَيَاةُ تَقْوَى وَتَضْعُفُ فِي الْحَيَوَانِ الْوَاحِدِ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِ، فَحَيَاتُهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ: أَكْمَلُ مِنْهَا وَهُوَ جَنِينٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَحَيَاتُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُعَافَى أَكْمَلُ مِنْهَا وَهُوَ سَقِيمٌ عَلِيلٌ. فَنَفْسُ هَذِهِ الْحَيَاةِ تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا عَظِيمًا فِي مَحَالِّهَا، فَحَيَاةُ الْحَيَّةِ أَكْمَلُ مِنْ حَيَاةِ الْبَعُوضَةِ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَقَدَ كَابَرَ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ. الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: حَيَاةُ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَتَغَذَّى بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، كَحَيَاةِ الْمَلَائِكَةِ، وَحَيَاةِ الْأَرْوَاحِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا لِأَبْدَانِهَا، فَإِنَّ حَيَاتَهَا أَكْمَلُ مِنْ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الْمُتَغَذِّي، وَلِهَذَا لَا يَلْحَقُهَا كَلَالٌ وَلَا فُتُورٌ، وَلَا نَوْمٌ وَلَا إِعْيَاءٌ، قَالَ تَعَالَى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] وَكَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ إِذَا تَخَلَّصَتْ مِنْ هَذِهِ الْأَبْدَانِ، وَتَجَرَّدَتْ: صَارَ لَهَا حَيَاةٌ أُخْرَى أَكْمَلُ مِنْ هَذِهِ إِنْ كَانَتْ سَعِيدَةً، وَإِنْ كَانَتْ شَقِيَّةً كَانَتْ عَامِلَةً نَاصِبَةً فِي الْعَذَابِ. الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: الْحَيَاةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْمُصَنِّفُ، وَهِيَ حَيَاةُ الْعِلْمِ مِنْ مَوْتِ الْجَهْلِ، فَإِنَّ الْجَهْلَ مَوْتٌ لِأَصْحَابِهِ، كَمَا قِيلَ: وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ ... وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ وَأَرْوَاحُهُمْ فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِهِمْ ... فَلَيْسَ لَهُمْ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ فَإِنَّ الْجَاهِلَ مَيِّتُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ، وَإِنْ كَانَ حَيَّ الْبَدَنِ فَجَسَدُهُ قَبْرٌ يَمْشِي بِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ - لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69 - 70] ، وَقَالَ تَعَالَى::

{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل: 80] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] وَشَبَّهَهُمْ فِي مَوْتِ قُلُوبِهِمْ بِأَهْلِ الْقُبُورِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ مَاتَتْ أَرْوَاحُهُمْ، وَصَارَتْ أَجْسَامُهُمْ قُبُورًا لَهَا، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ أَصْحَابُ الْقُبُورِ، كَذَلِكَ لَا يَسْمَعُ هَؤُلَاءِ، وَإِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ هِيَ الْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ وَمَلْزُومُهُمَا، فَهَذِهِ الْقُلُوبُ لَمَّا لَمْ تُحِسَّ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَلَمْ تَتَحَرَّكْ لَهُ: كَانَتْ مَيْتَةً حَقِيقِةً، وَلَيْسَ هَذَا تَشْبِيهًا لِمَوْتِهَا بِمَوْتِ الْبَدَنِ، بَلْ ذَلِكَ مَوْتُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ، أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ، وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْقُلُوبَ بِنُورِ الْحِكْمَةِ، كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْقَطْرِ، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهٌ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ سُبُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ الْأَنِيسُ فِي الْوَحْشَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ، وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلَاحُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالزَّيْنُ عِنْدَ الْأَخِلَّاءِ، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا، فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً، وَأَئِمَّةً تُقْتَصُّ آثَارُهُمْ، وَيُقْتَدَى بِأَفْعَالِهِمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ، تَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خُلَّتِهِمْ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَحِيتَانُ الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ، وَسِبَاعُ الْبَرِّ وَأَنْعَامُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْجَهْلِ، وَمَصَابِيحُ الْأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ، يَبْلُغُ الْعَبْدُ بِالْعِلْمِ مَنَازِلَ الْأَخْيَارِ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، التَّفَكُّرُ فِيهِ يَعْدِلُ الصِّيَامَ، وَمُدَارَسَتُهُ تَعْدِلُ الْقِيَامَ، بِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ، وَبِهِ يُعْرَفُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ، وَهُوَ إِمَامُ الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ تَابِعٌ لَهُ يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ، وَيُحْرَمُهُ الْأَشْقِيَاءَ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْوَقْفُ أَصَحُّ.

وَالْمَقْصُودُ: قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْجَهْلِ فَالْقَلْبُ مَيِّتٌ، وَحَيَاتُهُ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: حَيَاةُ الْإِرَادَةِ وَالْهِمَّةِ. وَضَعْفُ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ: مِنْ ضَعْفِ حَيَاةِ الْقَلْبِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ أَتَمَّ حَيَاةٍ، كَانَتْ هِمَّتُهُ أَعْلَى وَإِرَادَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ أَقْوَى، فَإِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَحَبَّةَ تَتْبَعُ الشُّعُورَ بِالْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ، وَسَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنَ الْآفَةِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَلَبِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَضَعْفُ الطَّلَبِ، وَفُتُورُ الْهِمَّةِ إِمَّا مِنْ نُقْصَانِ الشُّعُورِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِمَّا مِنْ وُجُودِ الْآفَةِ الْمُضْعِفَةِ لِلْحَيَاةِ، فَقُوَّةُ الشُّعُورِ، وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْحَيَاةِ، وَضَعْفُهَا دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِهَا، وَكَمَا أَنَّ عُلُوَّ الْهِمَّةِ، وَصِدْقَ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ مِنْ كَمَالِ الْحَيَاةِ: فَهُوَ سَبَبٌ إِلَى حُصُولِ أَكْمَلِ الْحَيَاةِ وَأَطْيَبِهَا، فَإِنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ إِنَّمَا تُنَالُ بِالْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ، وَالْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ، وَالْإِرَادَةِ الْخَالِصَةِ، فَعَلَى قَدْرِ ذَلِكَ تَكُونُ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ، وَأَخَسُّ النَّاسِ حَيَاةً أَخَسُّهُمْ هِمَّةً، وَأَضْعَفُهُمْ مَحَبَّةً وَطَلَبًا، وَحَيَاةُ الْبَهَائِمِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ. كَمَا قِيلَ: نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... وَلَيْلُكُ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازِمُ وَتَكْدَحُ فِيمَا سَوْفَ تُنْكِرُ غِبَّهُ ... كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ الْبَهَائِمُ تُسَرُّ بِمَا يَفْنَى وَتَفْرَحُ بِالْمُنَى ... كَمَا غُرَّ بِاللَّذَّاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ حَيَاةَ الْقَلْبِ بِالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْهِمَّةِ، وَالنَّاسُ إِذَا شَاهَدُوا ذَلِكَ مِنَ الرَّجُلِ قَالُوا: هُوَ حَيُّ الْقَلْبِ، وَحَيَاةُ الْقَلْبِ بِدَوَامِ الذِّكْرِ، وَتَرْكِ الذُّنُوبِ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ. رَحِمَهُ اللَّهُ: رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ ... وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهُا

وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُو كُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا ... وَبَاعُوا النُّفُوسَ وَلَمْ يَرْبَحُوا وَلَمْ يَغْلُ فِي الْبَيْعِ أَثْمَانُهَا ... فَقَدْ رَتَعَ الْقَوْمُ فِي جِيفَةٍ يَبِينُ لِذِي اللُّبِّ خُسْرَانُهَا وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: مَنْ وَاظَبَ عَلَى " يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ. لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ " كَلَّ يَوْمٍ بَيْنَ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً أَحْيَى اللَّهُ بِهَا قَلْبَهُ. وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَيَاةَ الْبَدَنِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَحَيَاةُ الْقَلْبِ بِدَوَامِ الذِّكْرِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ، وَتَرْكِ الذُّنُوبِ، وَالْغَفْلَةِ الْجَاثِمَةِ عَلَى الْقَلْبِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالرَّذَائِلِ وَالشَّهَوَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْ قَرِيبٍ يُضْعِفُ هَذِهِ الْحَيَاةَ، وَلَا يَزَالُ الضَّعْفُ يَتَوَالَى عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ، وَعَلَامَةُ مَوْتِهِ: أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَتَدْرُونَ مَنْ مَيِّتُ الْقَلْبِ الَّذِي قِيلَ فِيهِ: لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ ... إِنَّمَا الْمَيِّتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا. وَالرَّجُلُ: هُوَ الَّذِي يَخَافُ مَوْتَ قَلْبِهِ، لَا مَوْتَ بَدَنِهِ، إِذْ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْخَلْقِ يَخَافُونَ مَوْتَ أَبْدَانِهِمْ، وَلَا يُبَالُونَ بِمَوْتِ قُلُوبِهِمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْحَيَاةِ إِلَّا الْحَيَاةَ الطَّبِيعِيَّةَ، وَذَلِكَ مِنْ مَوْتِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الطَّبِيعِيَّةَ شَبِيهَةٌ بِالظِّلِّ الزَّائِلِ، وَالنَّبَاتِ السَّرِيعِ الْجَفَافِ، وَالْمَنَامِ الَّذِي يُخَيَّلُ كَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ عَرَفَ أَنَّهُ كَانَ خَيَالًا، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا أُوتِيَهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَوْتُ: لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَسُرُّهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَإِذَا لَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَوْتَ مَوْتَانِ: مَوْتٌ إِرَادِيٌّ، وَمَوْتٌ طَبِيعِيٌّ، فَمَنْ أَمَاتَ نَفْسَهُ مَوْتًا إِرَادِيًّا كَانَ مَوْتُهُ الطَّبِيعِيُّ حَيَاةً لَهُ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَوْتَ الْإِرَادِيَّ: هُوَ قَمْعُ الشَّهَوَاتِ الْمُرْدِيَةِ، وَإِخْمَادُ نِيرَانِهَا الْمُحْرِقَةِ، وَتَسْكِينُ هَوَائِجِهَا الْمُتْلِفَةِ، فَحِينَئِذٍ يَتَفَرَّغُ الْقَلْبُ وَالرُّوحُ لِلتَّفَكُّرِ فِيمَا فِيهِ كَمَالُ الْعَبْدِ، وَمَعْرِفَتِهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِهِ. وَيَرَى حِينَئِذٍ أَنَّ إِيثَارَ الظِّلِّ الزَّائِلِ عَنْ قَرِيبٍ عَلَى الْعَيْشِ اللَّذِيذِ الدَّائِمِ أَخْسَرُ الْخُسْرَانِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الشَّهَوَاتُ وَافِدَةً، وَاللَّذَّاتُ مُؤْثَرَةً، وَالْعَوَائِدُ غَالِبَةً، وَالطَّبِيعَةُ حَاكِمَةً، فَالْقَلْبُ حِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَسِيرًا ذَلِيلًا، أَوْ مَهْزُومًا مُخْرَجًا عَنْ وَطَنِهِ وَمُسْتَقَرِّهِ الَّذِي لَا قَرَارَ لَهُ إِلَّا فِيهِ أَوْ قَتِيلًا مَيِّتًا، وَمَا لِجُرْحٍ بِهِ إِيلَامٌ، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ: أَنْ يَكُونَ فِي

حَرْبٍ، يُدَالُ لَهُ فِيهَا مَرَّةً، وَيُدَالُ عَلَيْهِ مَرَّةً، فَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ مَوْتَهُ الطَّبِيعِيَّ، كَانَتْ بَعْدَهُ حَيَاةُ رُوحِهِ بِتِلْكَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْأَحْوَالِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِإِمَاتَةِ نَفْسِهِ، فَتَكُونُ حَيَاتُهُ هَاهُنَا عَلَى حَسَبِ مَوْتِهِ الْإِرَادِيِّ فِي هَذِهِ الدَّارِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ لَا يَفْهَمُهُ إِلَّا أَلِبَّاءُ النَّاسِ وَعُقَلَاؤُهُمْ، وَلَا يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ إِلَّا أَهْلُ الْهِمَمِ الْعَلِيَّةِ، وَالنُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ الْأَبِيَّةِ. فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ: حَيَاةُ الْأَخْلَاقِ، وَالصِّفَاتُ الْمَحْمُودَةُ، الَّتِي هِيَ حَيَاةٌ رَاسِخَةٌ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا، فَهُوَ لَا يَتَكَلَّفُ التَّرَقِّيَ فِي دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، لِاقْتِضَاءِ أَخْلَاقِهِ وَصِفَاتِهِ لِذَلِكَ، بِحَيْثُ لَوْ فَارَقَهُ ذَلِكَ لَفَارَقَ مَا هُوَ مِنْ طَبِيعَتِهِ وَسَجِيَّتِهِ، فَحَيَاةُ مَنْ قَدْ طُبِعَ عَلَى الْحَيَاءِ وَالْعِفَّةِ وَالْجُودِ وَالسَّخَاءِ، وَالْمُرُوءَةِ وَالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ وَنَحْوِهَا أَتَمُّ مِنْ حَيَاةِ مَنْ يَقْهَرُ نَفْسَهُ، وَيُغَالِبُ طَبْعَهُ، حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ تُعَارِضُهُ أَسْبَابُ الدَّاءِ وَهُوَ يُعَالِجُهَا وَيَقْهَرُهَا بِأَضْدَادِهَا، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ. وَكُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ فِي صَاحِبِهَا أَكْمَلَ كَانَتْ حَيَاتُهُ أَقْوَى وَأَتَمَّ، وَلِهَذَا كَانَ خَلْقُ الْحَيَاءِ مُشْتَقًّا مِنَ الْحَيَاةِ اسْمًا وَحَقِيقَةً، فَأَكْمَلُ النَّاسِ حَيَاةً: أَكْمَلُهُمْ حَيَاءً، وَنُقْصَانُ حَيَاءِ الْمَرْءِ مِنْ نُقْصَانِ حَيَاتِهِ، فَإِنَّ الرُّوحَ إِذَا مَاتَتْ لَمْ تُحِسَّ بِمَا يُؤْلِمُهَا مِنَ الْقَبَائِحِ، فَلَا تَسْتَحِي مِنْهَا، فَإِذَا كَانَتْ صَحِيحَةَ الْحَيَاةِ أَحَسَّتْ بِذَلِكَ، فَاسْتَحْيَتْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَالصِّفَاتِ الْمَمْدُوحَةِ تَابِعَةٌ لِقُوَّةِ الْحَيَاةِ، وَضِدِّهَا مِنْ نُقْصَانِ الْحَيَاةِ، وَلِهَذَا كَانَتْ حَيَاةُ الشُّجَاعِ أَكْمَلَ مِنْ حَيَاةِ الْجَبَانِ، وَحَيَاةُ السَّخِيِّ أَكْمَلَ مِنْ حَيَاةِ الْبَخِيلِ، وَحَيَاةُ الْفَطِنِ الذَّكِيِّ أَكْمَلَ مِنْ حَيَاةِ الْفَدْمِ الْبَلِيدِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَكْمَلَ النَّاسِ حَيَاةً حَتَّى إِنَّ قُوَّةَ حَيَاتِهِمْ تَمْنَعُ الْأَرْضَ أَنْ تُبْلِيَ أَجْسَامَهُمْ كَانُوا أَكْمَلَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَخْلَاقِ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ. فَانْظُرِ الْآنَ إِلَى حَيَاةِ {حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 10] ، {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 12] ، {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] ، وَحَيَاةُ جَوَّادٍ شُجَاعٍ، بَرٍّ عَادِلٍ عَفِيفٍ مُحْسِنٍ تَجِدُ الْأَوَّلَ مَيِّتًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّانِي، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: وَمَا لِلْمَرْءِ خَيْرٌ فِي حَيَاةٍ ... إِذَا مَا عُدَّ مَنْ سَقْطِ الْمَتَاعِ

فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الثَّامِنَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ: حَيَاةُ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَقُرَّةُ الْعَيْنِ بِاللَّهِ، وَهَذِهِ الْحَيَاةُ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ، الَّذِي تَقَرُّ بِهِ عَيْنُ طَالِبِهِ، فَلَا حَيَاةَ نَافِعَةً لَهُ بِدُونِهِ، وَحَوْلَ هَذِهِ الْحَيَاةِ يُدَنْدِنُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَكُلُّهُمْ قَدْ أَخْطَأَ طَرِيقَهَا، وَسَلَكَ طُرُقًا لَا تُفْضِي إِلَيْهَا، بَلْ تَقْطَعُهُ عَنْهَا، إِلَّا أَقَلَّ الْقَلِيلِ. فَدَارَ طَلَبُ الْكُلِّ حَوْلَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَحُرِمَهَا أَكْثَرُهُمْ. وَسَبَبُ حِرْمَانِهِمْ إِيَّاهَا: ضَعْفُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَالْبَصِيرَةِ، وَضَعْفُ الْهِمَّةِ وَالْإِرَادَةِ، فَإِنَّ مَادَّتَهَا بَصِيرَةٌ وَقَادَةٌ، وَهِمَّةٌ نَقَّادَةٌ، وَالْبَصِيرَةُ كَالْبَصَرِ تَكُونُ عَمًى وَعَوَرًا وَعَمَشًا وَرَمَدًا، وَتَامَّةَ النُّورِ وَالضِّيَاءِ، وَهَذِهِ الْآفَاتُ قَدْ تَكُونُ لَهَا بِالْخِلْقَةِ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ تَحْدُثُ فِيهَا بِالْعَوَارِضِ الْكَسْبِيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ مِنْ مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِهَا، وَلَكِنْ كَيْفَ يَصِلُ إِلَيْهَا مَنْ عَقْلُهُ مَسْبِيٌّ فِي بِلَادِ الشَّهَوَاتِ، وَأَمَلُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِنَاءِ اللَّذَّاتِ، وَسِيرَتُهُ جَارِيَةٌ عَلَى أَسْوَأِ الْعَادَاتِ، وَدِينُهُ مُسْتَهْلَكٌ بِالْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ، وَهِمَّتُهُ وَاقِفَةٌ مَعَ السُّفْلِيَّاتِ، وَعَقِيدَتُهُ غَيْرُ مُتَلَقَّاةٍ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّاتِ؟ ! فَهُوَ فِي الشَّهَوَاتِ مُنْغَمِسٌ، وَفِي الشُّبْهَاتِ مُنْتَكِسٌ، وَعَنِ النَّاصِحِ مُعْرِضٌ، وَعَلَى الْمُرْشِدِ مُعْتَرِضٌ، وَعَنِ السَّرَّاءِ نَائِمٌ، وَقَلْبُهُ فِي كُلِّ وَادٍ هَائِمٌ، فَلَوْ أَنَّهُ تَجَرَّدَ مِنْ نَفْسِهِ، وَرَغِبَ عَنْ مُشَارَكَةِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَخَرَجَ مِنْ ضِيقِ الْجَهْلِ إِلَى فَضَاءِ الْعِلْمِ، وَمِنْ سِجْنِ الْهَوَى إِلَى سَاحَةِ الْهُدَى، وَمِنْ نَجَاسَةِ النَّفْسِ، إِلَى طَهَارَةِ الْقُدْسِ لَرَأَى الْإِلْفَ الَّذِي نَشَأَ بِنَشْأَتِهِ، وَزَادَ بِزِيَادَتِهِ، وَقَوِيَ بِقُوَّتِهِ، وَشَرُفَ عِنْدَ نَفْسِهِ وَأَبْنَاءِ جِنْسِهِ بِحُصُولِهِ، وَسَدِّ قَذًى فِي عَيْنِ بَصِيرَتِهِ، وَشَجَا فِي حَلْقِ إِيمَانِهِ، وَمَرَضًا مُتَرَامِيًا إِلَى هَلَاكِهِ، فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ أَشَرْتَ إِلَى حَيَاةٍ غَيْرِ مَعْهُودَةٍ بَيْنَ أَمْوَاتِ الْأَحْيَاءِ، فَهَلْ يُمْكِنُكَ وَصْفُ طَرِيقِهَا، لِأَصِلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَذْوَاقِهَا، فَقَدْ بَانَ لِيَ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ حَيَاةٌ بَهِيمِيَّةٌ، رُبَّمَا زَادَتْ عَلَيْنَا فِيهِ الْبَهَائِمُ بِخُلُوِّهَا عَنِ الْمُنْكَرَاتِ وَالْمُنَغِّصَاتِ وَسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ؟ قُلْتُ: لَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ اشْتِيَاقَكَ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَطَلَبَ عِلْمِهَا وَمَعْرِفَتِهَا: لَدَلِيلٌ

عَلَى حَيَاتِكَ، وَأَنَّكَ لَسْتَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ. فَأَوَّلُ طَرِيقِهَا: أَنْ تَعْرِفَ اللَّهَ، وَتَهْتَدِيَ إِلَيْهِ طَرِيقًا يُوَصِّلُكَ إِلَيْهِ، وَيُحْرِقُ ظُلُمَاتِ الطَّبْعِ بِأَشِعَّةِ الْبَصِيرَةِ، فَيَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنْ شَوَاهِدِ الْآخِرَةِ، فَيَنْجَذِبُ إِلَيْهَا بِكُلِّيَّتِهِ، وَيَزْهَدُ فِي التَّعَلُّقَاتِ الْفَانِيَةِ، وَيَدْأَبُ فِي تَصْحِيحِ التَّوْبَةِ، وَالْقِيَامِ بِالْمَأْمُورَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، ثُمَّ يَقُومُ حَارِسًا عَلَى قَلْبِهِ، فَلَا يُسَامِحُهُ بِخَطْرَةٍ يَكْرَهُهَا اللَّهُ، وَلَا بِخَطْرَةِ فُضُولٍ لَا تَنْفَعُهُ، فَيَصْفُو بِذَلِكَ قَلْبُهُ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَوَسْوَاسِهَا، فَيُفْدَى مِنْ أَسْرِهَا، وَيَصِيرُ طَلِيقًا، فَحِينَئِذٍ يَخْلُو قَلْبُهُ بِذِكْرِ رَبِّهِ، وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ بُيُوتِ طَبْعِهِ وَنَفْسِهِ، إِلَى فَضَاءِ الْخُلْوَةِ بِرَبِّهِ وَذِكْرِهِ، كَمَا قِيلَ: وَأَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْبُيُوتِ لَعَلَّنِي ... أُحَدِّثُ عَنْكَ النَّفْسَ فِي السِّرِّ خَالِيًا فَحِينَئِذٍ يَجْتَمِعُ قَلْبُهُ وَخَوَاطِرُهُ وَحَدِيثُ نَفْسِهِ عَلَى إِرَادَةِ رَبِّهِ، وَطَلَبِهِ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ. فَإِذَا صَدَقَ فِي ذَلِكَ رُزِقَ مَحَبَّةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَوْلَتْ رُوحَانِيَّتُهُ عَلَى قَلْبِهِ، فَجَعَلَهُ إِمَامَهُ وَمُعَلِّمَهُ، وَأُسْتَاذَهُ وَشَيْخَهُ وَقُدْوَتَهُ، كَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَرَسُولَهُ وَهَادِيًا إِلَيْهِ، فَيُطَالِعُ سِيرَتَهُ وَمَبَادِئَ أَمْرِهِ، وَكَيْفِيَّةَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ، وَيَعْرِفُ صِفَاتِهُ وَأَخْلَاقَهُ، وَآدَابَهُ فِي حَرَكَاتِهِ وَسُكُونِهِ وَيَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ، وَعِبَادَتِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ لِأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ مَعَهُ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ. فَإِذَا رَسَخَ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ: فَتَحَ عَلَيْهِ بِفَهْمِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، بِحَيْثُ لَوْ قَرَأَ السُّورَةَ شَاهَدَ قَلْبُهُ مَا أُنْزِلَتْ فِيهِ، وَمَا أُرِيدَ بِهَا، وَحَظَّهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ مِنْهَا مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ، فَيَجْتَهِدُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْهَا كَمَا يَجْتَهِدُ فِي الشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ، وَشَاهَدَ حَظَّهُ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمَمْدُوحَةِ، فَيَجْتَهِدُ فِي تَكْمِيلِهَا وَإِتْمَامِهَا. فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ انْفَتَحَ فِي قَلْبِهِ عَيْنٌ أُخْرَى، يُشَاهِدُ بِهَا صِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، حَتَّى تَصِيرَ لِقَلْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْئِيِّ لِعَيْنِهِ، فَيَشْهَدُ عُلُوَّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فَوْقَ خَلْقِهِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ، وَنُزُولَ الْأَمْرِ مِنْ عِنْدِهِ بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ، وَتَكْلِيمَهُ بِالْوَحْيِ، وَتَكْلِيمَهُ لِعَبْدِهِ جِبْرِيلَ بِهِ، وَإِرْسَالَهُ إِلَى مَنْ يَشَاءُ بِمَا يَشَاءُ، وَصُعُودَ الْأُمُورِ إِلَيْهِ، وَعَرْضَهَا عَلَيْهِ. فَيُشَاهِدُ قَلْبُهُ رَبًّا قَاهِرًا فَوْقَ عِبَادِهِ، آمِرًا نَاهِيًا، بَاعِثًا لِرُسُلِهِ، مُنْزِلًا لِكُتُبِهِ، مَعْبُودًا

مُطَاعًا، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا مَثِيلَ، وَلَا عَدْلَ لَهُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلِ الْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ، فَيَشْهَدُ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ قَائِمًا بِالْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ، فَلَا حَرَكَةَ وَلَا سُكُونَ، وَلَا نَفْعَ وَلَا ضَرَّ، وَلَا عَطَاءَ وَلَا مَنْعَ، وَلَا قَبْضَ وَلَا بَسْطَ إِلَّا بِقُدْرَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَيَشْهَدُ قِيَامَ الْكَوْنِ كُلِّهِ بِهِ، وَقِيَامَهُ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ، الْمُقِيمُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ. فَإِذَا رَسَخَ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ شَهِدَ الصِّفَةَ الْمُصَحِّحَةَ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهِيَ الْحَيَاةُ الَّتِي كَمَالُهَا يَسْتَلْزِمُ كَمَالَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ وَسَائِرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَصِفَةَ الْقَيُّومِيَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُصَحِّحَةِ لِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ، فَالْحَيُّ الْقَيُّومُ: مَنْ لَهُ كُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ. فَإِذَا رَسَخَ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ: فَتَحَ لَهُ مَشْهَدَ الْقُرْبِ وَالْمَعِيَّةِ فَيَشْهَدُهُ سُبْحَانَهُ مَعَهُ، غَيْرَ غَائِبٍ عَنْهُ، قَرِيبًا غَيْرَ بَعِيدٍ، مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ، قَائِمًا بِالصُّنْعِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ الْأُنْسُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَيَأْنَسُ بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْتَوْحِشًا، وَيَقْوَى بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ ضَعِيفًا، وَيَفْرَحُ بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَزِينًا، وَيَجِدُ بَعْدَ أَنْ كَانَ فَاقِدًا، فَحِينَئِذٍ يَجِدُ طَعْمَ قَوْلِهِ: " «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» . فَأَطْيَبُ الْحَيَاةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَيَاةُ هَذَا الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ مُحِبٌّ مَحْبُوبٌ، مُتَقَرِّبٌ إِلَى رَبِّهِ، وَرَبُّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ، قَدْ صَارَ لَهُ حَبِيبُهُ لِفَرْطِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ وَلَهَجِهِ بِذِكْرِهِ وَعُكُوفِ هِمَّتِهِ عَلَى مَرْضَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ وَرِجْلِهِ، وَهَذِهِ آلَاتُ إِدْرَاكِهِ وَعَمَلِهِ وَسَعْيِهِ، فَإِنْ سَمِعَ سَمِعَ بِحَبِيبِهِ، وَإِنْ أَبْصَرَ أَبْصَرَ بِهِ، وَإِنْ بَطَشَ بَطَشَ بِهِ، وَإِنْ مَشَى مَشَى بِهِ. فَإِنْ صَعُبَ عَلَيْكَ فَهْمُ هَذَا الْمَعْنَى، وَكَوْنُ الْمُحِبِّ الْكَامِلِ الْمَحَبَّةِ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَبْطِشُ وَيَمْشِي بِمَحْبُوبِهِ، وَذَاتُهُ غَائِبَةٌ عَنْهُ، فَاضْرِبْ عَنْهُ صَفْحًا، وَخَلِّ هَذَا الشَّأْنَ لِأَهْلِهِ. خَلِّ الْهَوَى لِأُنَاسٍ يُعْرَفُونَ بِهِ ... قَدْ كَابَدُوا الْحُبَّ حَتَّى لَانَ أَصْعَبُهُ فَإِنَّ السَّالِكَ إِلَى رَبِّهِ لَا تَزَالُ هِمَّتُهُ عَاكِفَةً عَلَى أَمْرَيْنِ؛ اسْتِفْرَاغُ الْقَلْبِ فِي صِدْقِ

الْحُبِّ، وَبَذْلُ الْجُهْدِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْدُوَ عَلَى سِرِّهِ شَوَاهِدُ مَعْرِفَتِهِ، وَآثَارُ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَلَكِنْ يَتَوَارَى عَنْهُ ذَلِكَ أَحْيَانًا، وَيَبْدُو أَحْيَانًا، يَبْدُو مِنْ عَيْنِ الْجُودِ، وَيَتَوَارَى بِحُكْمِ الْفَتْرَةِ، وَالْفَتَرَاتُ أَمْرٌ لَازِمٌ لِلْعَبْدِ، فَكُلُّ عَامِلٍ لَهُ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٌ فَتْرَةٌ، فَأَعْلَاهَا فَتْرَةُ الْوَحْيِ؛ وَهِيَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَفَتْرَةُ الْحَالِ الْخَاصِّ لِلْعَارِفِينَ، وَفَتْرَةُ الْهِمَّةِ لِلْمُرِيدِينَ، وَفَتْرَةُ الْعَمَلِ لِلْعَابِدِينَ، وَفِي هَذِهِ الْفَتَرَاتِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّعَرُّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَعْرِيفِ قَدْرِ النِّعْمَةِ، وَتَجْدِيدِ الشَّوْقِ إِلَيْهَا، وَمَحْضِ التَّوَاجُدِ إِلَيْهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَا تَزَالُ تِلْكَ الشَّوَاهِدُ تَتَكَرَّرُ وَتَتَزَايَدُ، حَتَّى تَسْتَقِرَّ، وَيَنْصَبِغَ بِهَا قَلْبُهُ، وَتَصِيرُ الْفَتْرَةُ غَيْرَ قَاطِعَةٍ لَهُ، بَلْ تَكُونُ نِعْمَةً عَلَيْهِ، وَرَاحَةً لَهُ، وَتَرْوِيحًا وَتَنْفِيسًا عَنْهُ. فَهِمَّةُ الْمُحِبِّ إِذَا تَعَلَّقَتْ رُوحُهُ بِحَبِيبِهِ، عَاكِفًا عَلَى مَزِيدِ مَحَبَّتِهِ، وَأَسْبَابِ قُوَّتِهَا، فَهُوَ يَعْمَلُ عَلَى هَذَا، ثُمَّ يَتَرَقَّى مِنْهُ إِلَى طَلَبِ مَحَبَّةِ حَبِيبِهِ لَهُ، فَيَعْمَلُ عَلَى حُصُولِ ذَلِكَ، وَلَا يُعْدَمُ الطَّلَبَ الْأَوَّلَ، وَلَا يُفَارِقُهُ أَلْبَتَّةَ، بَلْ يَنْدَرِجُ فِي هَذَا الطَّلَبِ الثَّانِي، فَتَتَعَلَّقُ هِمَّتُهُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ مَنْزِلَةُ " كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ " بِهَذَا الْأَمْرِ الثَّانِي، وَهُوَ كَوْنُهُ مَحْبُوبًا لِحَبِيبِهِ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ» إِلَخْ، فَهُوَ يَتَقَرَّبُ إِلَى رَبِّهِ حِفْظًا لِمَحَبَّتِهِ لَهُ، وَاسْتِدْعَاءً لِمَحَبَّةِ رَبِّهِ لَهُ. فَحِينَئِذٍ يَشُدُّ مِئْزَرَ الْجِدِّ فِي طَلَبِ مَحَبَّةِ حَبِيبِهِ لَهُ بِأَنْوَاعِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، فَقَلْبُهُ؛ لِلْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَلِسَانُهُ؛ لِلذِّكْرِ وَتِلَاوَةِ كَلَامِ حَبِيبِهِ، وَجَوَارِحُهُ: لِلطَّاعَاتِ، فَهُوَ لَا يَفْتُرُ عَنِ التَّقَرُّبِ مِنْ حَبِيبِهِ. وَهَذَا هُوَ السَّيْرُ الْمُفْضِي إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ الَّتِي لَا تُنَالُ إِلَّا بِهِ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقِ، وَحِينَئِذٍ تُجْمَعُ لَهُ فِي سَيْرِهِ جَمِيعُ مُتَفَرِّقَاتِ السُّلُوكِ مِنَ الْحُضُورِ وَالْهَيْبَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَنَفْيِ الْخَوَاطِرِ وَتَخْلِيَةِ الْبَاطِنِ. فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَشْرَعُ أَوَّلًا فِي التَّقَرُّبَاتِ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَهِيَ ظَاهِرُ التَّقَرُّبِ، ثُمَّ يَتَرَقَّى مِنْ ذَلِكَ إِلَى حَالِ التَّقَرُّبِ، وَهُوَ الِانْجِذَابُ إِلَى حَبِيبِهِ بِكُلِّيَّتِهِ بِرُوحِهِ وَقَلْبِهِ، وَعَقْلِهِ وَبَدَنِهِ، ثُمَّ يَتَرَقَّى مِنْ ذَلِكَ إِلَى حَالِ الْإِحْسَانِ، فَيَعْبُدُ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ مِنْ بَاطِنِهِ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ؛ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْخَشْيَةِ، فَيَنْبَعِثُ حِينَئِذٍ مِنْ بَاطِنِهِ الْجُودُ بِبَذْلِ الرُّوحِ وَالْجُودُ فِي مَحَبَّةِ حَبِيبِهِ بِلَا تَكَلُّفٍ، فَيَجُودُ بِرُوحِهِ وَنَفْسِهِ، وَأَنْفَاسِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَأَعْمَالِهِ لِحَبِيبِهِ حَالًا لَا تَكَلُّفًا، فَإِذَا وَجَدَ الْمُحِبُّ

ذَلِكَ فَقَدْ ظَفِرَ بِحَالِ التَّقَرُّبِ وَسِرِّهِ وَبَاطِنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَهُوَ يَتَقَرَّبُ بِلِسَانِهِ وَبَدَنِهِ وَظَاهِرِهِ فَقَطْ، فَلْيَدُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلْيَتَكَلَّفِ التَّقَرُّبَ بِالْأَذْكَارِ وَالْأَعْمَالِ عَلَى الدَّوَامِ، فَعَسَاهُ أَنْ يَحْظَى بِحَالِ الْقُرْبِ. وَوَرَاءَ هَذَا الْقُرْبِ الْبَاطِنِ أَمْرٌ آخَرُ أَيْضًا، وَهُوَ شَيْءٌ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَحْسَنِ مِنْ عِبَارَةِ أَقْرَبِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، حَيْثُ يَقُولُ حَاكِيًا عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» فَيَجِدُ هَذَا الْمُحِبُّ فِي بَاطِنِهِ ذَوْقَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ ذَوْقًا حَقِيقِيًّا. فَذَكَرَ مِنْ مَرَاتِبِ الْقُرْبِ ثَلَاثَةً، وَنَبَّهَ بِهَا عَلَى مَا دُونَهَا وَمَا فَوْقَهَا. فَذَكَرَ تَقَرُّبَ الْعَبْدِ إِلَيْهِ بِالْبِرِّ، وَتَقَرُّبَهُ سُبْحَانَهُ إِلَى الْعَبْدِ ذِرَاعًا، فَإِذَا ذَاقَ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ هَذَا التَّقَرُّبِ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى تَقَرُّبِ الذِّرَاعِ، فَيَجِدُ ذَوْقَ تَقَرُّبِ الرَّبِّ إِلَيْهِ بَاعًا. فَإِذَا ذَاقَ حَلَاوَةَ هَذَا الْقُرْبِ الثَّانِي أَسْرَعَ الْمَشْيَ حِينَئِذٍ إِلَى رَبِّهِ، فَيَذُوقُ حَلَاوَةَ إِتْيَانِهِ إِلَيْهِ هَرْوَلَةً، وَهَاهُنَا مُنْتَهَى الْحَدِيثِ، مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا هَرْوَلَ عَبْدُهُ إِلَيْهِ كَانَ قُرْبُ حَبِيبِهِ مِنْهُ فَوْقَ هَرْوَلَةِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ لِعَظِيمِ شَاهِدِ الْجَزَاءِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْجَزَاءِ الَّذِي لَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، أَوْ إِحَالَةً لَهُ عَلَى الْمَرَاتِبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ وَقِسْ عَلَى هَذَا، فَعَلَى قَدْرِ مَا تَبْذُلُ مِنْكَ مُتَقَرِّبًا إِلَى رَبِّكَ يَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَازِمُ هَذَا التَّقَرُّبِ الْمَذْكُورِ فِي مَرَاتِبِهِ؛ أَيْ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَى حَبِيبِهِ بِرُوحِهِ وَجَمِيعِ قُوَاهُ، وَإِرَادَتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ تَقَرَّبَ الرَّبُّ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ فِي مُقَابَلَةِ تَقَرُّبِ عَبْدِهِ إِلَيْهِ.

وَلَيْسَ الْقُرْبُ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ كُلِّهَا قُرْبَ مَسَافَةٍ حِسِّيَّةٍ وَلَا مُمَاسَّةٍ، بَلْ هُوَ قُرْبٌ حَقِيقِيٌّ، وَالرَّبُّ تَعَالَى فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَالْعَبْدُ فِي الْأَرْضِ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ هُوَ سِرُّ السُّلُوكِ، وَحَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ مَعْنَى الْوُصُولِ الَّذِي يُدَنْدِنُ حَوْلَهُ الْقَوْمُ. وَمَلَاكُ هَذَا الْأَمْرِ هُوَ قَصْدُ التَّقَرُّبِ أَوَّلًا، ثُمَّ التَّقَرُّبُ ثَانِيًا، ثُمَّ حَالُ الْقُرْبِ ثَالِثًا، وَهُوَ الِانْبِعَاثُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْحَبِيبِ. وَحَقِيقَةُ هَذَا الِانْبِعَاثِ: أَنْ تَفْنَى بِمُرَادِهِ عَنْ هَوَاكَ، وَبِمَا مِنْهُ عَنْ حَظِّكَ، بَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ هُوَ مَجْمُوعُ حَظِّكَ وَمُرَادِكَ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَى حَبِيبِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ جُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ بِقُرْبٍ هُوَ أَضْعَافُهُ، وَعَرَفْتَ أَنَّ أَعْلَى أَنْوَاعِ التَّقَرُّبِ تَقَرُّبُ الْعَبْدِ بِجُمْلَتِهِ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَبِوُجُودِهِ إِلَى حَبِيبِهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَقَرَّبَ بِكُلِّهِ، وَلَمْ تَبْقَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ لِغَيْرِ حَبِيبِهِ، كَمَا قِيلَ: لَا كَانَ مَنْ لِسِوَاكَ فِيهِ بَقِيَّةٌ ... يَجِدُ السَّبِيلَ بِهَا إِلَيْهِ الْعُذَّلُ وَإِذَا كَانَ الْمُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ يُعْطِي أَضْعَافَ أَضْعَافَ مَا تُقُرِّبَ بِهِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ أُعْطِيَ حَالَ التَّقَرُّبِ وَذَوْقَهُ وَوَجْدَهُ؟ فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِرُوحِهِ، وَجَمِيعِ إِرَادَتِهِ وَهِمَّتِهِ، وَأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ؟ وَعَلَى هَذَا فَكَمَا جَادَ لِحَبِيبِهِ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُجَادَ عَلَيْهِ، بِأَنْ يَكُونَ رَبُّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ حَظُّهُ وَنَصِيبُهُ، عِوَضًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، جَزَاءً وِفَاقًا، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ. مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَزَاءَيْنِ كَمَا تَرَى، وَجَعَلَ جَزَاءَ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ حَسْبَهُ وَكَافِيهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّهِيدَ لَمَّا بَذَلَ حَيَاتَهُ لِلَّهِ أَعَاضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَيَاةً أَكْمَلَ مِنْهَا عِنْدَهُ فِي مَحَلِّ قُرْبِهِ وَكَرَامَتِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ بَذَلَ لِلَّهِ شَيْئًا أَعَاضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ.

وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] . وَمِنْهَا: قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ» . وَمِنْهَا: قَوْلُهُ «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا» الْحَدِيثَ. فَالْعَبْدُ لَا يَزَالُ رَابِحًا عَلَى رَبِّهِ أَفْضَلَ مِمَّا قَدَّمَ لَهُ، وَهَذَا الْمُتَقَرِّبُ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَعَمَلِهِ يَفْتَحُ عَلَيْهِ رَبُّهُ بِحَيَاةٍ لَا تُشْبِهُ مَا النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَاةِ، بَلْ حَيَاةُ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَيَاتِهِ، كَحَيَاةِ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَيَاةِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَلَذَّتِهِمْ فِيهَا، بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. فَهَذَا نَمُوذَجُ مَنْ بَايَنَ شَرَفَ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَفَضْلَهَا، وَإِنْ كَانَ عِلْمُ هَذَا يُوجِبُ لِصَاحِبِهِ حَيَاةً طَيِّبَةً، فَكَيْفَ إِنِ انْصَبَغَ الْقَلْبُ بِهِ، وَصَارَ حَالًا مُلَازِمًا لِذَاتِهِ؟ فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَهَذِهِ الْحَيَاةُ: هِيَ حَيَاةُ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا فِي الْحَقِيقَةِ، فَمَنْ فَقَدَهَا فَفَقْدُهُ لِحَيَاتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ أَوْلَى بِهِ. هَذِي حَيَاةُ الْفَتَى فَإِنْ فُقِدَتْ ... فَفَقْدُهُ لِلْحَيَاةِ أَلْيَقُ بِهِ فَلَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشَ الْمُحِبِّينَ، الَّذِينَ قَرَّتْ أَعْيُنُهُمْ بِحَبِيبِهِمْ، وَسَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهِ، وَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ بِهِ، وَاسْتَأْنَسُوا بِقُرْبِهِ، وَتَنَعَّمُوا بِحُبِّهِ، فَفِي الْقَلْبِ فَاقَةٌ لَا يَسُدُّهَا إِلَّا مَحَبَّةُ اللَّهِ وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَلَا يُلَمُّ شَعَثُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَظْفَرْ بِذَلِكَ: فَحَيَاتُهُ كُلُّهَا هُمُومٌ وَغُمُومٌ، وَآلَامٌ وَحَسَرَاتٌ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ ذَا هِمَّةٍ عَالِيَةٍ تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَاتٍ، فَإِنَّ هِمَّتَهُ لَا تَرْضَى فِيهَا بِالدُّونِ وَإِنْ كَانَ مَهِينًا خَسِيسًا، فَعَيْشُهُ كَعَيْشِ أَخَسِّ الْحَيَوَانَاتِ، فَلَا تَقَرُّ الْعُيُونُ إِلَّا بِمَحَبَّةِ الْحَبِيبِ الْأَوَّلِ. نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى ... مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ كَمْ مَنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى ... وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ التَّاسِعَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ: حَيَاةُ الْأَرْوَاحِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا الْأَبْدَانَ وَخَلَاصِهَا

مِنْ هَذَا السِّجْنِ وَضِيقِهِ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ فَضَاءً وَرَوْحًا وَرَيْحَانًا وَرَاحَةً، نِسْبَةُ هَذِهِ الدَّارِ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ بَطْنِ الْأُمِّ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لِتَكُنْ مُبَادَرَتُكَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا كَمُبَادَرَتِكَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ الضَّيِّقِ إِلَى أَحِبَّتِكَ، وَالِاجْتِمَاعِ بِهِمْ فِي الْبَسَاتِينِ الْمُونِقَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 88] . وَيَكْفِي فِي طِيبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ: مُرَافَقَةُ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَمُفَارَقَةُ الرَّفِيقِ الْمُؤْذِي الْمُنَكِّدِ، الَّذِي تُنَغِّصُ رُؤْيَتُهُ وَمُشَاهَدَتُهُ الْحَيَاةَ، فَضْلًا عَنْ مُخَالَطَتِهِ وَعِشْرَتِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، فِي جِوَارِ الرَّبِّ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَدْ قُلْتُ إِذْ مَدَحُوا الْحَيَاةَ فَأَسْرَفُوا ... فِي الْمَوْتِ أَلْفُ فَضِيلَةٍ لَا تُعْرَفُ مِنْهَا أَمَانُ لِقَائِهِ بِلِقَائِهِ ... وَفِرَاقُ كُلِّ مُعَاشِرٍ لَا يُنْصِفُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْتِ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا أَنَّهُ بَابُ الدُّخُولِ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَجِسْرٌ يُعْبَرُ مِنْهُ إِلَيْهَا: لَكَفَى بِهِ تُحْفَةً لِلْمُؤْمِنِ. جَزَى اللَّهُ عَنَّا الْمَوْتَ خَيْرًا فَإِنَّهُ ... أَبَرُّ بِنَا مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَأَلْطَفُ يُعَجِّلُ تَخْلِيصَ النُّفُوسِ مِنَ الْأَذَى ... وَيُدْنِي إِلَى الدَّارِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ فَالِاجْتِهَادُ فِي هَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ، وَالْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ، وَالسَّعْيِ وَالْكَدْحِ، وَتَحَمُّلِ الْأَثْقَالِ، وَالتَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِهَذِهِ الْحَيَاةِ، وَالْعُلُومُ وَالْأَعْمَالُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا، وَهِيَ يَقَظَةٌ، وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْحَيَاةِ نَوْمٌ، وَهِيَ عَيْنٌ، وَمَا قَبْلَهَا أَثَرٌ، وَهِيَ حَيَاةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ فَقْدِ الْمَكْرُوهِ، وَحُصُولِ الْمَحْبُوبِ فِي مَقَامِ الْأُنْسِ، وَحَضْرَةِ الْقُدْسِ، حَيْثُ لَا يَتَعَذَّرُ مَطْلُوبٌ، وَلَا يُفْقَدُ مَحْبُوبٌ؛ حَيْثُ الطُّمَأْنِينَةُ وَالرَّاحَةُ، وَالْبَهْجَةُ وَالسُّرُورُ، حَيْثُ لَا عِبَارَةَ لِلْعَبْدِ عَنْ حَقِيقَةِ كُنْهِهَا؛ لِأَنَّهَا فِي بَلَدٍ لَا عَهْدَ لَنَا بِهِ، وَلَا إِلْفَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَاكِنِهِ، فَالنَّفْسُ لِإِلْفِهَا لِهَذَا السِّجْنِ الضَّيِّقِ النَّكِدِ زَمَانًا طَوِيلًا تَكْرَهُ الِانْتِقَالَ مِنْهُ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَتَسْتَوْحِشُ إِذَا اسْتَشْعَرَتْ مُفَارَقَتَهُ. وَحُصُولُ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ إِنَّمَا وَصَلَ إِلَيْنَا بِخَبَرٍ إِلَهِيٍّ عَلَى يَدِ أَكْمَلِ الْخَلْقِ وَأَعْلَمِهِمْ وَأَنْصَحِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَتْ شَوَاهِدُهَا فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، حَتَّى صَارَتْ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ، فَفَرَّتْ نُفُوسُهُمْ مِنْ هَذَا الظِّلِّ الزَّائِلِ، وَالْخَيَالِ الْمُضْمَحِلِّ، وَالْعَيْشِ

الْفَانِي الْمَشُوبِ بِالتَّنْغِيصِ وَأَنْوَاعِ الْغَصَصِ، رَغْبَةً عَنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَشَوْقًا إِلَى ذَلِكَ الْمَلَكُوتِ، وَوَجْدًا بِهَذَا السُّرُورِ، وَطَرَبًا عَلَى هَذَا الْحَدِّ، وَاشْتِيَاقًا لِهَذَا النَّسِيمِ الْوَارِدِ مِنْ مَحَلِّ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ مَنْ سَافَرَ إِلَى بَلَدِ الْعَدْلِ وَالْخِصْبِ وَالْأَمْنِ وَالسُّرُورِ صَبَرَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى كُلِّ مَشَقَّةٍ وَإِعْوَازٍ وَجَدْبٍ، وَفَارَقَ الْمُتَخَلِّفِينَ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِمْ، وَأَجَابَ الْمُنَادِي إِذَا نَادَى بِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، وَبَذَلَ نَفْسَهُ فِي الْوُصُولِ بَذْلَ الْمُحِبِّ بِالرِّضَا وَالسَّمَاحِ، وَوَاصَلَ السَّيْرَ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ، فَحَمِدَ عِنْدَ الْوُصُولِ مَسْرَاهُ، وَإِنَّمَا يَحْمَدُ الْمُسَافِرُ السُّرَى عِنْدَ الصَّبَاحِ. عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى ... وَفِي الْمَمَاتِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ اللِّقَا وَمَا هَذَا وَاللَّهِ بِالصَّعْبِ وَلَا بِالشَّدِيدِ، مَعَ هَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ، الَّذِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الدَّارِ كَسَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35] ، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45] ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] ، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] ، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ - قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ - قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 112 - 114] فَلَوْ أَنَّ أَحَدَنَا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ يَتَّقِي بِهِ الشَّوْكَ وَالْحِجَارَةَ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا وَلَا غَبْنًا فِي جَنْبِ مَا يُوَقَّاهُ. فَوَاحَسْرَتَاهُ عَلَى بَصِيرَةٍ شَاهَدَتْ هَاتَيْنِ الْحَيَاتَيْنِ عَلَى مَا هُمَا عَلَيْهِ، وَعَلَى هِمَّةٍ تُؤْثِرُ الْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِتَوْفِيقِ مَنْ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ بِيَدَيْهِ، وَمِنْهُ ابْتِدَاءُ كُلِّ شَيْءٍ وَانْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِ، أَقْعَدَ نُفُوسَ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشَّقَاوَةُ عَنِ السَّفَرِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ، وَجَذَبَ قُلُوبَ مَنْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْهُ الْحُسْنَى، وَأَقَامَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِمْ رُكُوبَ الْأَخْطَارِ، فَأَضَاعَ أُولَئِكَ مَرَاحِلَ أَعْمَارِهِمْ مَعَ الْمُتَخَلِّفِينَ وَقَطَعَ هَؤُلَاءِ مَرَاحِلَ أَعْمَارِهِمْ مَعَ السَّائِرِينَ، وَعُقِدَتِ الْغَبَرَةُ وَثَارَ الْعَجَاجُ، فَتَوَارَى عَنْهُ السَّائِرُونَ وَالْمُتَخَلِّفُونَ.

وَسَيَنْجَلِي عَنْ قَرِيبٍ، فَيَفُوزُ الْعَامِلُونَ، وَيَخْسِرُ الْمُبْطِلُونَ. وَمِنْ طِيبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ وَلَذَّتِهَا: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلَّا الشَّهِيدُ، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا، لِمَا يَرَى مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لَهُ» يَعْنِي لِيُقْتَلَ فِيهِ مَرَّةً أُخْرَى. وَسَمِعَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ مُنْشِدًا يُنْشِدُ: إِنَّمَا الْعَيْشُ فِي بَهِيمِيَّةِ اللَّ ... ذَةِ وَهُوَ مَا يَقُولُهُ الْفَلْسَفِيُّ حُكْمُ كَأْسِ الْمَنُونِ أَنْ يَتَسَاوَى ... فِي حِسَاهَا الْبَلِيدُ وَالْأَلْمَعِيُّ وَيَصِيرُ الْغَبِيُّ تَحْتَ ثَرَى الْأَرْ ... ضِ كَمَا صَارَ تَحْتَهَا اللَّوْذَعِيُّ فَسَلِ الْأَرْضَ عَنْهُمَا إِنْ أَزَالَ الشَّ ... كَّ وَالشُّبْهَةَ السُّؤَالُ الْجَلِيُّ فَقَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، مَا أَشَدَّ مُعَانَدَتَهُ لِلدِّينِ وَالْعَقْلِ! هَذَا نَفْسُ عَدُوِّ الْفِطْرَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَالْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ، يَا مِسْكِينُ أَمِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمَوْتَ تَسَاوَى فِيهِ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ، وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَصَارُوا جَمِيعًا تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى، أَيَجِبُ أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الْعَاقِبَةِ؟ أَمَا تَسَاوَى قَوْمٌ سَافَرُوا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ فِي الطَّرِيقِ؟ فَلَمَّا بَلَغُوا الْقَصْدَ نَزَلَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَكَانٍ كَانَ مُعَدًّا لَهُ، وَتُلُقِّي بِغَيْرِ مَا تُلُقِّيَ بِهِ رَفِيقُهُ فِي الطَّرِيقِ؟ أَمَا لِكُلِّ قَوْمٍ دَارٌ فَأُجْلِسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَيْثُ يَلِيقُ بِهِ؟ وَقُوبِلَ هَذَا بِشَيْءٍ، وَهَذَا بِضِدِّهِ؟ أَمَا قَدِمَ عَلَى الْمَلِكِ مَنْ جَاءَهُ بِمَا يُحِبُّهُ فَأَكْرَمَهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ جَاءَهُ بِمَا يُسْخِطُهُ فَعَاقَبَهُ عَلَيْهِ؟ أَمَا قَدِمَ رَكْبُ الْمَدِينَةِ فَنَزَلَ بَعْضُهُمْ فِي قُصُورِهَا وَبَسَاتِينِهَا وَأَمَاكِنِهَا الْفَاضِلَةِ، وَنَزَلَ قَوْمٌ عَلَى قَوَارِعِ الطَّرِيقِ بَيْنَ الْكِلَابِ؟ أَمَا قَدِمَ اثْنَانِ مِنْ بَطْنِ الْأُمِّ الْوَاحِدَةِ، فَصَارَ هَذَا إِلَى الْمُلْكِ، وَهَذَا إِلَى الْأَسْرِ وَالْعَنَاءِ؟ وَقَوْلُكَ " سَلِ الْأَرْضَ عَنْهُمَا " أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَاهَا، فَأَخْبَرَتْنَا أَنَّهَا قَدْ ضَمَّتْ

أَجْسَادَهُمْ وَجُثَثَهُمْ وَأَوْصَالَهُمْ، لَا كُفْرَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ، وَلَا أَنْسَابَهُمْ وَأَحْسَابَهُمْ، وَلَا حِلْمَهُمْ وَسَفَهَهُمْ، وَلَا طَاعَتَهُمْ وَمَعْصِيَتَهُمْ، وَلَا يَقِينَهُمْ وَشَكَّهُمْ، وَلَا تَوْحِيدَهُمْ وَشِرْكَهُمْ، وَلَا جَوْرَهُمْ وَعَدْلَهُمْ، وَلَا عِلْمَهُمْ وَجَهْلَهُمْ، فَأَخْبَرَتْنَا عَنْ هَذِهِ الْجُثَثِ الْبَالِيَةِ وَالْأَبْدَانِ الْمُتَلَاشِيَةِ، وَالْأَوْصَالِ الْمُتَمَزِّقَةِ، وَقَالَتْ هَذَا خَبْرُ مَا عِنْدِي. وَأَمَّا خَبْرُ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ، فَسَلُوا عَنْهَا كُتُبَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَرُسُلَهُ الصَّادِقِينَ، وَخُلَفَاءَهُمُ الْوَارِثِينَ، سَلُوا الْقُرْآنَ فَعِنْدَهُ الْخَبَرُ الْيَقِينُ، وَسَلُوا مَنْ جَاءَ بِهِ فَهُوَ بِذَلِكَ أَعْرَفُ الْعَارِفِينَ، وَسَلُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ فَهُمَا الشَّاهِدَانِ الْمَقْبُولَانِ، وَسَلُوا الْعُقُولَ وَالْفِطَرَ فَعِنْدَهَا حَقِيقَةُ الْخَبَرِ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] تَعَالَى اللَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ عَنْ هَذَا الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، الَّذِي لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ. ثُمَّ قَالَ: النَّاظِرُ فِي هَذَا الْبَابِ رَجُلَانِ، رَجُلٌ يَنْظُرُ إِلَى الْأَشْيَاءِ، وَرَجُلٌ يَنْظُرُ فِي الْأَشْيَاءِ، فَالْأَوَّلُ: يَحَارُ فِيهَا، فَإِنَّ صُوَرَهَا وَأَشْكَالَهَا وَتَخَاطِيطَهَا تَسْتَفْرِغُ ذِهْنَهُ وَحِسَّهُ، وَتُبَدِّدُ فِكْرَهُ وَقَلْبَهُ، فَنَظَرُهُ إِلَيْهَا بِعَيْنِ حِسِّهِ، لَا يُفِيدُهُ مِنْهَا ثَمَرَةَ الِاعْتِبَارِ، وَلَا زُبْدَةَ الِاخْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَقَدَ الِاعْتِبَارَ أَوَّلًا، فَإِنَّهُ فَقَدَ الِاخْتِيَارَ ثَانِيًا. وَأَمَّا النَّاظِرُ فِي الْأَشْيَاءِ: فَإِنَّ نَظَرَهُ يَبْعَثُهُ عَلَى الْعُبُورِ مِنْ صُوَرِهَا إِلَى حَقَائِقِهَا وَالْمُرَادِ بِهَا، وَمَا اقْتَضَى وُجُودُهَا مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْعِلْمِ التَّامِّ، فَيُفِيدُهُ هَذَا النَّظَرُ تَمْيِيزَ مَرَاتِبِهَا، وَمَعْرِفَةَ نَافِعِهَا مِنْ ضَارِّهَا، وَصَحِيحِهَا مِنْ سَقِيمِهَا، وَبَاقِيهَا مِنْ فَانِيهَا، وَقِشْرِهَا مِنْ لُبِّهَا، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْوَسِيلَةِ وَالْغَايَةِ، وَبَيْنَ وَسِيلَةِ الشَّيْءِ وَوَسِيلَةِ ضِدِّهِ، فَيَعْرِفُ حِينَئِذٍ أَنَّ الدُّنْيَا قِشْرُهُ وَالْآخِرَةَ لُبُّهُ، وَأَنَّ الدُّنْيَا مَحَلُّ الزَّرْعِ، وَالْآخِرَةَ وَقْتُ الْحَصَادِ، وَأَنَّ الدُّنْيَا مَعْبَرٌ وَمَمَرٌّ، وَالْآخِرَةَ دَارُ مُسْتَقَرٍّ. وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ الدُّنْيَا طَرِيقٌ وَمَمَرٌّ كَانَ حَرِيًّا بِتَهْيِئَةِ الزَّادِ لِقَرَارِهِ، وَيَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَمْ يَنْشَأْ فِي هَذِهِ الدَّارِ لِلِاسْتِيطَانِ وَالْخُلُودِ، وَلَكِنْ لِلْجَوَازِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، هُوَ الْمَنْزِلُ وَالْمُتَبَوَّأُ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ دُعِيَ إِلَى ذَلِكَ بِكُلِّ شَرِيعَةٍ، وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ، وَبِكُلِّ إِشَارَةٍ وَدَلِيلٍ، وَنُصِبَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ عِلْمٌ، وَضُرِبَ لِأَجَلِهِ كُلُّ مَثَلٍ، وَنُبِّهَ عَلَيْهِ بِنَشْأَتِهِ الْأُولَى وَمَبَادِئِهِ، وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ، وَأَحْوَالِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَأَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، بِحَيْثُ أُزِيلَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ، وَأُوْضِحَتْ لَهُ الْمَحَجَّةُ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَأُعْذِرَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِعْذَارِ،

وَأُمْهِلَ أَتَمَّ الْإِمْهَالِ، فَاسْتَبَانَ لِذِي الْعَقْلِ الصَّحِيحِ وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ أَنَّ الظَّعْنَ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ ضَرُورِيٌّ، وَالِانْتِقَالَ عَنْهُ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَأَنَّ لَهُ مَحَلًّا آخَرَ لَهُ قَدْ أُنْشِئَ وَلِأَجْلِهِ قَدْ خُلِقَ وَلَهُ هُيِّئَ، فَمَصِيرُهُ إِلَيْهِ وَقُدُومُهُ بِلَا رَيْبٍ عَلَيْهِ، وَأَنَّ دَارَهُ هَذِهِ مَنْزِلُ عُبُورٍ، لَا مَنْزِلُ قَرَارٍ. وَبِالْجُمْلَةِ: مَنْ نَظَرَ فِي الْمَوْجُودَاتِ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَحْدَهَا: وَجَدَهَا دَالَّةً عَلَى أَنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةً أُخْرَى أَكْمَلَ مِنْهَا، وَأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا كَالْمَنَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَقَظَةِ، وَكَالظِّلِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّخْصِ، وَسَمِعَهَا كُلَّهَا تُنَادِي بِمَا نَادَى بِهِ رَبُّهَا وَخَالِقُهَا وَفَاطِرُهَا {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5] وَتُنَادِي بِلِسَانِ الْحَالِ، بِمَا نَادَى بِهِ رَبُّهَا بِصَرِيحِ الْمَقَالِ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] وَقَالَ تَعَالَى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] ثُمَّ نَدَبَهُمْ إِلَى الْمُسَابَقَةِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ الَّتِي لَا زَوَالَ لَهَا.: فَقَالَ {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] . وَسَمِعَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ مُنْشِدًا يُنْشِدُ عَنْ بَعْضِ الزَّنَادِقَةِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُتَطَبِّبُ:

لَعَمْرِيَ مَا أَدْرِي وَقَدْ أَذِنَ الْبِلَى ... بِعَاجِلِ تِرْحَالِي إِلَى أَيْنَ تِرْحَالِي وَأَيْنَ مَحَلُّ الرُّوحِ بَعْدَ خُرُوجِهِ ... عَنِ الْهَيْكَلِ الْمُنْحَلِّ وَالْجَسَدِ الْبَالِي فَقَالَ: وَمَا عَلَيْنَا مِنْ جَهْلِهِ، إِذَا لَمْ يَدْرِ أَيْنَ تِرْحَالُهُ؟ وَلَكِنَّنَا نَدْرِي إِلَى أَيْنَ تِرْحَالُنَا وَتِرْحَالُهُ، أَمَّا تِرْحَالُهُ فَإِلَى دَارِ الْأَشْقِيَاءِ، وَمَحِلِّ الْمُنْكِرِينَ لِقُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَالْمُكَذِّبِينَ بِمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْمُرْسَلِينَ عَنْ رَبِّهِمْ {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ - قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ - وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 5 - 12] . وَأَمَّا تِرْحَالُنَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُصَدِّقُونَ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَإِلَى نَعِيمٍ دَائِمٍ، وَخُلُودٍ مُتَّصِلٍ، وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، وَأَقْدَرِ الْقَادِرِينَ، وَأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَبِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ، الْأَوَّلُ بِالْحَقِّ، الْمَوْجُودُ بِالضَّرُورَةِ، الْمَعْرُوفُ بِالْفِطْرَةِ، الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ الْعُقُولُ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَوْجُودَاتُ، وَشَهِدَتْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَقَرَّتْ بِهَا الْفِطَرُ، الْمَشْهُودُ وَجُودُهُ وَقَيُّومِيَّتُهُ بِكُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، بِكُلِّ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ وَمَا سَيَكُونُ، الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتَاتِ، وَبَثَّ بِهِ فِي الْأَرْضِ جَمِيعَ الْحَيَوَانَاتِ {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل: 61] الَّذِي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ، وَيُغِيثُ الْمَلْهُوفَ إِذَا نَادَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ

وَيُفَرِّجُ الْكُرُبَاتِ، وَيُقِيلُ الْعَثَرَاتِ، الَّذِي يَهْدِي خَلْقَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَيُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، فَيُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْقَطْرِ، الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَيَرْزُقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ خَلْقِهِ وَعَبِيدِهِ، الَّذِي يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، وَيُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَيُدَبِّرُ الْأَمْرَ {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ - الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 88 - 2] الْمُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى كُلِّ نَائِبَةٍ وَفَادِحَةٍ، وَالْمَعْهُودُ مِنْهُ كُلُّ بِرٍّ وَكَرَامَةٍ، الَّذِي عَنَتْ لَهُ الْوُجُوهُ، وَخَشَعَتْ لَهُ الْأَصْوَاتُ، وَسَبَّحَتْ بِحَمْدِهِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ وَجَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ، الَّذِي لَا تَسْكُنُ الْأَرْوَاحُ إِلَّا بِحُبِّهِ، وَلَا تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ إِلَّا بِذِكْرِهِ، وَلَا تَزْكُو الْعُقُولُ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهِ، وَلَا يُدْرَكُ النَّجَاحُ إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ، وَلَا تَحْيَا الْقُلُوبُ إِلَّا بِنَسِيمِ لُطْفِهِ وَقُرْبِهِ، وَلَا يَقَعُ أَمْرٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَهْتَدِي ضَالٌّ إِلَّا بِهِدَايَتِهِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ ذُو أَوَدٍ إِلَّا بِتَقْوِيمِهِ، وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ إِلَّا بِتَفْهِيمِهِ، وَلَا يُتَخَلَّصُ مِنْ مَكْرُوهٍ إِلَّا بِرَحْمَتِهِ، وَلَا يُحْفَظُ شَيْءٌ إِلَّا بِكِلَاءَتِهِ، وَلَا يُفْتَتَحُ أَمْرٌ إِلَّا بِاسْمِهِ، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِحَمْدِهِ، وَلَا يُدْرَكُ مَأْمُولٌ إِلَّا بِتَيْسِيرِهِ، وَلَا تُنَالُ سَعَادَةٌ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَلَا حَيَاةٌ إِلَّا بِذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَلَا طَابَتِ الْجَنَّةُ إِلَّا بِسَمَاعِ خِطَابِهِ وَرُؤْيَتِهِ، الَّذِي وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَأَوْسَعَ كُلَّ مَخْلُوقٍ فَضْلًا وَبِرًّا. فَهُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَالرَّبُّ الْحَقُّ، وَالْمَلِكُ الْحَقُّ، وَالْمُنْفَرِدُ بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، الْمُبَرَّأُ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، لَا يَبْلُغُ الْمُثْنُونَ وَإِنِ اسْتَوْعَبُوا جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ بِكُلِّ أَنْوَاعِ الثَّنَاءِ ثَنَاءً عَلَيْهِ، بَلْ ثَنَاؤُهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ هَذَا الْجَارُ. وَأَمَّا الدَّارُ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ حُسْنَهَا وَبَهَاءَهَا، وَسِعَتَهَا وَنَعِيمَهَا، وَبَهْجَتَهَا وَرُوحَهَا وَرَاحَتَهَا، فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، فَهِيَ الْجَامِعَةُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَفْرَاحِ وَالْمَسَرَّاتِ، الْخَالِيَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمُنَكِّدَاتِ وَالْمُنَغِّصَاتِ، رَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مُشَيَّدٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ، وَفَاكِهَةٌ نَضِيجَةٌ. فَتِرْحَالُنَا أَيُّهَا الصَّادِقُونَ الْمُصَدِّقُونَ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ بِإِذْنِ رَبِّنَا وَتَوْفِيقِهِ وَإِحْسَانِهِ. وَتِرْحَالُ الْكَاذِبِينَ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى الدَّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَلِقَائِهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.

وَلَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ لَهُ الطَّالِبِينَ لِمَرْضَاتِهِ، السَّاعِينَ فِي طَاعَتِهِ، الدَّائِبِينَ فِي خِدْمَتِهِ، الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ وَبَيْنَ الْمُلْحِدِينَ - السَّاعِينَ فِي مَسَاخِطِهِ، الدَّائِبِينَ فِي مَعْصِيَتِهِ، الْمُسْتَفْرِغِينَ جُهْدَهُمْ فِي أَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ - فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ وَالْعُبُورِ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمْ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، فَحَاشَاهُ مِنْ هَذَا الظَّنِّ السَّيِّئِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَصْلٌ وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ تُعْلَمُ حَيَاةُ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَّهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَأَنَّهَا أَكْمَلُ مِنْ حَيَاتِهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَأَتَمُّ وَأَطْيَبُ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْسَادُهُمْ مُتَلَاشِيَةً، وَلُحُومُهُمْ مُتَمَزِّقَةً، وَأَوْصَالُهُمْ مُتَفَرِّقَةً، وَعِظَامُهُمْ نَخِرَةً، فَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى الطَّلَلِ إِنَّمَا الشَّأْنُ فِي السَّاكِنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154] وَإِذَا كَانَ الشُّهَدَاءُ إِنَّمَا نَالُوا هَذِهِ الْحَيَاةَ بِمُتَابَعَةِ الرُّسُلِ وَعَلَى أَيْدِيهِمْ، فَمَا الظَّنُّ بِحَيَاةِ الرُّسُلِ فِي الْبَرْزَخِ؟ وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ: فَالْعَيْشُ نَوْمٌ وَالْمَنِيَّةُ يَقْظَةٌ ... وَالْمَرْءُ بَيْنَهُمَا خَيَالٌ سَارِي فَلِلرُّسُلِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي هِيَ يَقْظَةٌ مِنْ نَوْمِ الدُّنْيَا أَكْمَلُهَا وَأَتَمُّهَا، وَعَلَى قَدْرِ حَيَاةِ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَكُونُ شَوْقُهُ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَسَعْيُهُ وَحِرْصُهُ عَلَى الظَّفَرِ بِهَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْحَيَاةِ الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ الْبَاقِيَةُ بَعْدَ طَيِّ هَذَا الْعَالَمِ، وَذَهَابِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا فِي دَارِ الْحَيَوَانِ، وَهِيَ الْحَيَاةُ الَّتِي شَمَّرَ إِلَيْهَا الْمُشَمِّرُونَ، وَسَابَقَ إِلَيْهَا الْمُتَسَابِقُونَ، وَنَافَسَ فِيهَا الْمُتَنَافِسُونَ، وَهِيَ الَّتِي أَجْرَيْنَا الْكَلَامَ إِلَيْهَا، وَنَادَتِ الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ وَرُسُلُ اللَّهِ

جَمِيعُهُمْ عَلَيْهَا، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ مَنْ فَاتَهُ الِاسْتِعْدَادُ لَهَا {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا - وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا - وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى - يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي - فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ - وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 21 - 26] ، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] . وَالْحَيَاةُ الْمُتَقَدِّمَةُ كَالنَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَصْفِ السَّيْرِ وَمَنَازِلِهِ، وَأَحْوَالِ السَّائِرِينَ، وَعُبُودِيَّتِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فَوَسِيلَةٌ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟» . وَكَمَا قِيلَ: تَنَفَّسَتِ الْآخِرَةُ فَكَانَتِ الدُّنْيَا نَفَسًا مِنْ أَنْفَاسِهَا، فَأَصَابَ أَهْلُ السَّعَادَةِ نَفَسَ نَعِيمِهَا، فَهُمْ عَلَى هَذَا النَّفَسِ يَعْمَلُونَ، وَأَصَابَ أَهْلُ الشَّقَاوَةِ نَفَسَ عَذَابِهَا، فَهُمْ عَلَى ذَلِكَ النَّفَسِ يَعْمَلُونَ. وَإِذَا كَانَتْ حَيَاةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَيَاةً طَيِّبَةً، فَمَا الظَّنُّ بِحَيَاتِهِمْ فِي الْبَرْزَخِ، وَقَدْ تَخَلَّصُوا مِنْ سِجْنِ الدُّنْيَا وَضِيقِهَا؟ فَمَا الظَّنُّ بِحَيَاتِهِمْ فِي دَارِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ الَّذِي لَا يَزُولُ، وَهُمْ يَرَوْنَ وَجْهَ رَبِّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بُكْرَةً وَعَشِيًّا وَيَسْمَعُونَ خِطَابَهُ؟ فَإِنْ قُلْتَ: مَا سَبَبُ تَخَلُّفِ النَّفْسِ عَنْ طَلَبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي لَا خَطَرَ لَهَا، وَمَا الَّذِي زَهَّدَهَا فِيهَا؟ وَمَا سَبَبُ رَغْبَتِهَا فِي الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ الْمُضْمَحِلَّةِ، الَّتِي هِيَ كَالْخَيَالِ وَالْمَنَامِ؟ أَفَسَادٌ فِي تَصَوُّرِهَا وَشُعُورِهَا؟ أَمْ تَكْذِيبٌ بِتِلْكَ الْحَيَاةِ؟ أَمْ لِآفَةٍ فِي الْعَقْلِ، وَعَمًى هُنَاكَ؟ أَمْ إِيثَارٌ لِلْحَاضِرِ الْمَشْهُودِ بِالْعِيَانِ عَلَى الْغَائِبِ الْمَعْلُومِ بِالْإِيمَانِ؟ قِيلَ: بَلْ ذَلِكَ لِمَجْمُوعِ أُمُورٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَأَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ: ضَعْفُ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ رُوحُ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا، وَالْآمِرُ بِأَحْسَنِهَا، وَالنَّاهِي عَنْ أَقْبَحِهَا، وَعَلَى قَدْرِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ يَكُونُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ لِصَاحِبِهِ، وَائْتِمَارُ صَاحِبِهِ وَانْتِهَاؤُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 93] .

وَبِالْجُمْلَةِ: فَإِذَا قَوِيَ الْإِيمَانُ قَوِيَ الشَّوْقُ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَاشْتَدَّ طَلَبُ صَاحِبِهِ لَهَا. السَّبَبُ الثَّانِي: جُثُومُ الْغَفْلَةِ عَلَى الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْغَفْلَةَ نَوْمُ الْقَلْبِ، وَلِهَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الْأَيْقَاظِ فِي الْحِسِّ نِيَامًا فِي الْوَاقِعِ، فَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ، ضِدَّ حَالِ مَنْ يَكُونُ يَقْظَانَ الْقَلْبِ وَهُوَ نَائِمٌ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا قَوِيَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ لَا يَنَامُ إِذَا نَامَ الْبَدَنُ، وَكَمَالُ هَذِهِ الْحَيَاةِ كَانَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِمَنْ أَحْيَا اللَّهُ قَلْبَهُ بِمَحَبَّتِهِ وَاتِّبَاعِ رِسَالَتِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ بِحَسْبِ نَصِيبِهِ مِنْهُمَا. فَالْغَفْلَةُ وَالْيَقَظَةُ يَكُونَانِ فِي الْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالْقَلْبِ، فَمُسْتَيْقِظُ الْقَلْبِ وَغَافِلُهُ كَمُسْتَيْقِظِ الْبَدَنِ وَنَائِمِهِ، وَكَمَا أَنَّ يَقَظَةَ الْحِسِّ عَلَى نَوْعَيْنِ، فَكَذَلِكَ يَقَظَةُ الْقَلْبِ عَلَى نَوْعَيْنِ. فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ يَقَظَةِ الْحِسِّ: أَنَّ صَاحِبَهَا يَنْفُذُ فِي الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ، وَيَتَوَغَّلُ فِيهَا بِكَسْبِهِ وَفَطَانَتِهِ، وَاحْتِيَالِهِ وَحُسْنِ تَأَتِّيهِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يُقْبِلَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَلْبِهِ وَذَاتِهِ، فَيَعْتَنِي بِتَحْصِيلِ كَمَالِهِ، فَيَلْحَظُ عَوَالِيَ الْأُمُورِ وَسَفْسَافَهَا، فَيُؤْثِرُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، وَيُقَدِّمُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا، وَيَرْتَكِبُ أَخَفَّ الشَّرَّيْنِ خَشْيَةَ حُصُولِ أَقْوَاهُمَا، وَيَتَحَلَّى بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِي الشِّيَمِ، فَيَكُونُ ظَاهِرُهُ جَمِيلًا، وَبَاطِنُهُ أَجْمَلُ مِنْ ظَاهِرِهِ، وَسَرِيرَتُهُ خَيْرًا مِنْ عَلَانِيَتِهِ، فَيُزَاحِمُ أَصْحَابَ الْمَعَالِي عَلَيْهَا كَمَا يَتَزَاحَمُ أَهْلُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ عَلَيْهِمَا، فَبِهَذِهِ الْيَقَظَةِ يَسْتَعِدُّ لِلنَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ مِنْهُمَا. أَحَدُهُمَا: يَقَظَةٌ تَبْعَثُهُ عَلَى اقْتِبَاسِ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ الْبَاقِيَةِ الَّتِي لَا خَطَرَ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الزَّائِلَةِ الْفَانِيَةِ، الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا. فَإِنْ قُلْتَ: مَثِّلْ لِي كَيْفَ تُقْتَبَسُ الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ مِنَ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟ فَإِنِّي لَا أَفْهَمُهُ. قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا مِنْ نَوْمِ الْقَلْبِ بَلْ مِنْ مَوْتِهِ، وَهَلْ تُقْتَبَسُ الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الزَّائِلَةِ؟ وَأَنْتَ قَدْ تُشْعِلُ سِرَاجَكَ مِنْ سِرَاجٍ آخَرَ قَدْ أَشَفَى عَلَى

الِانْطِفَاءِ، فَيَتَّقِدُ الثَّانِي وَيُضِيءُ غَايَةَ الْإِضَاءَةِ، وَيَتَّصِلُ ضَوْءُهُ وَيَنْطَفِئُ الْأَوَّلُ، وَالْمُقْتَبِسُ لِحَيَاتِهِ الدَّائِمَةِ مِنْ حَيَاتِهِ الْمُنْقَطِعَةِ إِنَّمَا يَنْتَقِلُ مِنْ دَارٍ مُنْقَطِعَةٍ إِلَى دَارٍ بَاقِيَةٍ، وَقَدْ تَوَسَّطَ الْمَوْتُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ، فَهُوَ قَنْطَرَةٌ لَا يُعْبَرُ إِلَى تِلْكَ الدَّارِ إِلَّا عَلَيْهَا، وَبَابٌ لَا يُدْخَلُ إِلَيْهَا إِلَّا مِنْهُ، فَهُمَا حَيَاتَانِ فِي دَارَيْنِ بَيْنَهُمَا الْمَوْتُ، وَكَمَا أَنَّ نُورَ تِلْكَ الدَّارِ مُقْتَبَسٌ مِنْ نُورِ هَذِهِ الدَّارِ، فَحَيَاتُهَا كَذَلِكَ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ حَيَاتِهَا، فَعَلَى قَدْرِ نُورِ الْإِيمَانِ فِي هَذِهِ الدَّارِ يَكُونُ نُورُ الْعَبْدِ فِي تِلْكَ الدَّارِ، وَعَلَى قَدْرِ حَيَاتِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ تَكُونُ حَيَاتُهُ هُنَاكَ. نَعَمْ؛ هَذَا النُّورُ وَالْحَيَاةُ الَّذِي يُقْتَبَسُ مِنْهُ ذَلِكَ النُّورُ وَالْحَيَاةُ لَا يَنْقَطِعُ، بَلْ يُضِيءُ لِلْعَبْدِ فِي الْبَرْزَخِ وَفِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى الصِّرَاطِ، فَلَا يُفَارِقُهُ إِلَى دَارِ الْحَيَوَانِ، يُطْفَأُ نُورُ الشَّمْسِ وَهَذَا النُّورُ لَا يُطْفَأُ، وَتَبْطُلُ الْحَيَاةُ الْمَحْسُوسَةُ وَهَذِهِ الْحَيَاةُ لَا تَبْطُلُ، هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ يَقَظَةِ الْقَلْبِ. النَّوْعُ الثَّانِي: يَقَظَةٌ تَبْعَثُ عَلَى حَيَاةٍ، لَا تُدْرِكُهَا الْعِبَارَةُ، وَلَا يَنَالُهَا التَّوَهُّمُ، وَلَا يُطَابِقُ فِيهَا اللَّفْظُ لِمَعْنَاهُ أَلْبَتَّةَ، وَالَّذِي يُشَارُ بِهِ إِلَيْهَا حَيَاةُ الْمُحِبِّ مَعَ حَبِيبِهِ الَّذِي لَا قِوَامَ لِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَحَيَاتِهِ إِلَّا بِهِ وَلَا غِنًى لَهُ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا قُرَّةَ لِعَيْنِهِ، وَلَا طُمَأْنِينَةَ لِقَلْبِهِ، وَلَا سُكُونَ لِرُوحِهِ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقُوَّتِهِ، بَلْ وَمِنْ حَيَاتِهِ، فَإِنَّ حَيَاتَهُ بِدُونِهِ عَذَابٌ وَآلَامٌ، وَهُمُومٌ وَأَحْزَانٌ، فَحَيَاتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى قُرْبِهِ وَحُبِّهِ وَمُصَاحَبَتِهِ، وَعَذَابُ حِجَابِهِ عَنْهُ أَعْظَمُ مِنَ الْعَذَابِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ نَعِيمَ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ بِإِزَالَةِ ذَلِكَ الْحِجَابِ أَعْظَمُ مِنَ النَّعِيمِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالْحُورِ الْعِينِ، فَهَكَذَا عَذَابُ الْحِجَابِ أَعْظَمُ مِنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ، وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَوْلِيَائِهِ بَيْنَ النَّعِيمَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] فَالْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: رُؤْيَةُ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَجَمَعَ لِأَعْدَائِهِ بَيْنَ الْعَذَابَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ - ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15 - 16] . وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْغَفْلَةَ هِيَ نَوْمُ الْقَلْبِ عَنْ طَلَبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَهِيَ حِجَابٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كُشِفَ هَذَا الْحِجَابَ بِالذِّكْرِ وَإِلَّا تَكَاثَفَ حَتَّى يَصِيرَ حِجَابَ بِطَالَةٍ وَلَعِبٍ وَاشْتِغَالٍ بِمَا لَا يُفِيدُ، فَإِنْ بَادَرَ إِلَى كَشْفِهِ وَإِلَّا تَكَاثَفَ حَتَّى يَصِيرَ حِجَابَ مَعَاصٍ وَذُنُوبٍ صِغَارٍ تُبْعِدُهُ عَنِ اللَّهِ، فَإِنْ بَادَرَ إِلَى كَشْفِهِ وَإِلَّا تَكَاثَفَ حَتَّى يَصِيرَ حِجَابَ كَبَائِرٍ تُوجِبُ مَقْتَ

الرَّبِّ تَعَالَى لَهُ وَغَضَبَهُ وَلَعْنَتَهُ، فَإِنْ بَادَرَ إِلَى كَشْفِهِ وَإِلَّا تَكَاثَفَ حَتَّى صَارَ حِجَابَ بِدَعٍ عَمَلِيَّةٍ يُعَذِّبُ الْعَامِلُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَلَا تُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا، فَإِنْ بَادَرَ إِلَى كَشْفِهِ وَإِلَّا تَكَاثَفَ حَتَّى صَارَ حِجَابَ بِدَعٍ قَوْلِيَّةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ؛ تَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالتَّكْذِيبَ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَإِنْ بَادَرَ إِلَى كَشْفِهِ وَإِلَّا تَكَاثَفَ حَتَّى صَارَ حِجَابَ شَكٍّ وَتَكْذِيبٍ؛ يَقْدَحُ فِي أُصُولِ الْإِيمَانِ الْخَمْسَةِ، وَهِيَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَلِقَائِهِ، فَلِغِلَظِ حِجَابِهِ وَكَثَافَتِهِ وَظُلْمَتِهِ وَسَوَادِهِ لَا يَرَى حَقَائِقَ الْإِيمَانِ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْهُ الشَّيْطَانُ، يَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ، وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ تَهْوَى وَتَشْتَهِي، وَسُلْطَانُ الطَّبْعِ قَدْ ظَفِرَ بِسُلْطَانِ الْإِيمَانِ، فَأَسَرَهُ وَسَجَنَهُ إِنْ لَمْ يُهْلِكْهُ، وَتَوَلَّى تَدْبِيرَ الْمَمْلَكَةِ وَاسْتِخْدَامَ جُنُودِ الشَّهَوَاتِ، وَأَقْطَعَهَا الْعَوَائِدَ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ، وَأَغْلَقَ بَابَ الْيَقَظَةِ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَوَّابَ الْغَفْلَةِ، وَقَالَ: إِيَّاكَ أَنْ نُؤْتَى مِنْ قِبَلِكَ، وَاتَّخَذَ حَاجِبًا مِنَ الْهَوَى، وَقَالَ: إِيَّاكَ أَنْ تُمَكِّنَ أَحَدًا يَدْخُلُ عَلَيَّ إِلَّا مَعَكَ، فَأَمْرُ هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ قَدْ صَارَ إِلَيْكَ وَإِلَى الْبَوَّابِ، فَيَا بَوَّابَ الْغَفْلَةِ، وَيَا حَاجِبَ الْهَوَى لِيَلْزَمْ كُلٌّ مِنْكُمَا ثَغْرَهُ، فَإِنْ أَخْلَيْتُمَا فَسَدَ أَمْرُ مَمْلَكَتِنَا، وَعَادَتِ الدَّوْلَةُ لِغَيْرِنَا، وَسَامَنَا سُلْطَانُ الْإِيمَانِ شَرَّ الْخِزْيِ وَالْهَوَانِ، وَلَا نَفْرَحُ بِهَذِهِ الْمَدِينَةِ أَبَدًا. فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ! إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى الْقَلْبِ هَذِهِ الْعَسَاكِرُ مَعَ رِقَّةِ الْإِيمَانِ وَقِلَّةِ الْأَعْوَانِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَالِانْخِرَاطِ فِي سِلْكِ أَبْنَاءِ الزَّمَانِ، وَطُولِ الْأَمَلِ الْمُفْسِدِ لِلْإِنْسَانِ أَنْ آثَرَ الْعَاجِلَ الْحَاضِرَ عَلَى الْغَائِبِ الْمَوْعُودِ بِهِ بَعْدَ طَيِّ هَذِهِ الْأَكْوَانِ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. فَهَذَا فَصْلٌ مُخْتَصَرٌ نَافِعٌ فِي ذِكْرِ الْحَيَاةِ وَأَنْوَاعِهَا، وَالتَّشْوِيقِ إِلَى أَشْرَفِهَا وَأَطْيَبِهَا، فَمَنْ صَادَفَ مِنْ قَلْبِهِ حَيَاةً انْتَفَعَ بِهِ، وَإِلَّا فَخُودٌ تُزَفُّ إِلَى ضَرِيرٍ مُقْعَدٍ. فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ: قَالَ: وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَنْفَاسٍ: نَفَسُ الْخَوْفِ، وَنَفَسُ الرَّجَاءِ، وَنَفَسُ الْمَحَبَّةِ. لَمَّا كَانَ لِكُلِّ حَيَوَانٍ مُتَنَفَّسًا، فَإِنَّ النَّفَسَ مُوجِبُ الْحَيَاةِ وَعَلَامَتُهَا، كَانَتْ أَنْفَاسُ الْحَيَاةِ الْمُشَارُ إِلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَنْفَاسٍ: نَفَسُ الْخَوْفِ؛ وَمَصْدَرُهُ: مُطَالَعَةُ الْوَعِيدِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِمَنْ آثَرَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَالْمَخْلُوقَ عَلَى الْخَالِقِ، وَالْهَوَى عَلَى الْهُدَى، وَالْغَيَّ عَلَى الرَّشَادِ.

فصل الحياة الثانية حياة الجمع من موت التفرقة

وَنَفَسُ الرَّجَاءِ؛ وَمَصْدَرُهُ مُطَالَعَةُ الْوَعْدِ، وَحُسْنُ الظَّنِّ بِالرَّبِّ تَعَالَى، وَمَا اللَّهُ أَعَدَّ لِمَنْ آثَرَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَحَكَّمَ الْهُدَى عَلَى الْهَوَى، وَالْوَحْيَ عَلَى الْآرَاءِ، وَالسُّنَّةَ عَلَى الْبِدْعَةِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى عَوَائِدِ الْخَلْقِ. وَنَفَسٌ بِالْمَحَبَّةِ؛ مَصْدَرُهُ مُطَالَعَةُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَمُشَاهَدَةُ النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ. فَإِذَا ذَكَرَ ذُنُوبَهُ تَنَفَّسَ بِالْخَوْفِ، وَإِذَا ذَكَرَ رَحْمَةَ رَبِّهِ وَسَعَةَ مَغْفِرَتِهِ وَعَفْوِهِ تَنَفَّسَ بِالرَّجَاءِ، وَإِذَا ذَكَرَ جَمَالَهُ وَجَلَالَهُ وَكَمَالَهُ وَإِحْسَانَهُ وَإِنْعَامَهُ تَنَفَّسَ بِالْحُبِّ. فَلْيَزِنِ الْعَبْدُ إِيمَانَهُ بِهَذِهِ الْأَنْفَاسِ الثَّلَاثَةِ، لِيَعْلَمَ مَا مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَفْطُورَةٌ عَلَى حُبِّ الْجَمَالِ وَالْإِجْمَالِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ جَمِيلٌ، بَلْ لَهُ الْجَمَالُ التَّامُّ الْكَامِلُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ جَمَالُ الذَّاتِ، وَجَمَالُ الصِّفَاتِ، وَجَمَالُ الْأَفْعَالِ، وَجَمَالُ الْأَسْمَاءِ وَإِذَا جُمِعَ جَمَالُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ كَانَتْ جَمِيعُهَا عَلَى جَمَالِ ذَلِكَ الشَّخْصِ، ثُمَّ نُسِبَ هَذَا الْجَمَالُ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِسْبَةِ سِرَاجٍ ضَعِيفٍ إِلَى عَيْنِ الشَّمْسِ. فَالنَّفَسُ الصَّادِرُ عَنْ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةِ وَالْمُطَالَعَةِ أَشْرَفُ أَنْفَاسِ الْعَبْدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَأَيْنَ نَفَسُ الْمُشْتَاقِ الْمُحِبِّ الصَّادِقِ إِلَى نَفَسِ الْخَائِفِ الرَّاجِي؟ وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا النَّفَسُ إِلَّا بِتَحْصِيلِ ذَيْنِكَ النَّفْسَيْنِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا ثَمَرَةُ تَرْكِهِ لِلْمُخَالَفَاتِ، وَالثَّانِي: ثَمَرَةُ فِعْلِهِ لِلطَّاعَاتِ، فَمِنْ هَذَيْنِ النَّفَسَيْنِ يَصِلُ إِلَى النَّفَسِ الثَّالِثِ. [فَصْلٌ الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ حَيَاةُ الْجَمْعِ مِنْ مَوْتِ التَّفْرِقَةِ] فَصْلٌ قَالَ: الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ: حَيَاةُ الْجَمْعِ مِنْ مَوْتِ التَّفْرِقَةِ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَنْفَاسٍ: نَفَسُ الِاضْطِرَارِ، وَنَفَسُ الِافْتِقَارِ، وَنَفَسُ الِافْتِخَارِ. وَمُرَادُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِالْجَمْعِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: جَمْعُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ، وَجَمْعُ الْخَوَاطِرِ وَالْعُزُومِ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، لَا الْجَمْعُ الَّذِي هُوَ حَضْرَةُ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ حَيَاةَ هَذَا الْجَمْعِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، وَسَمَّاهَا حَيَاةَ الْوُجُودِ. وَإِنَّمَا كَانَ جَمْعُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَالْخَوَاطِرِ عَلَى السَّيْرِ إِلَيْهِ حَيَاةً حَقِيقِيَّةً؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا سَعَادَةَ لَهُ، وَلَا فَلَاحَ وَلَا نَعِيمَ، وَلَا فَوْزَ وَلَا لَذَّةَ، وَلَا قُرَّةَ عَيْنٍ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ غَايَةُ طَلَبِهِ، وَنِهَايَةُ قَصْدِهِ، وَوَجْهُهُ الْأَعْلَى هُوَ كُلُّ بُغْيَتِهِ، فَالتَّفْرِقَةُ

الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَاجْتِمَاعِ الْقَلْبِ عَلَيْهِ هِيَ مَرَضُهُ إِنْ لَمْ يَمُتْ مِنْهَا. قَالَ: وَلِهَذِهِ الْحَيَاةِ ثَلَاثَةُ أَنْفَاسٍ، نَفَسُ الِاضْطِرَارِ؛ وَذَلِكَ لِانْقِطَاعِ أَمَلِهِ مِمَّا سِوَى اللَّهِ، فَيُضْطَرُّ حِينَئِذٍ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَنَفْسِهِ وَبَدَنِهِ إِلَى رَبِّهِ ضَرُورَةً تَامَّةً، بِحَيْثُ يَجِدُ فِي كُلِّ مَنْبَتِ شَعْرَةٍ مِنْهُ فَاقَةً تَامَّةً إِلَى رَبِّهِ وَمَعْبُودِهِ، فَهَذَا النَّفَسُ نَفَسٌ مُضْطَرٌّ إِلَى مَا لَا غِنَى لَهُ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَضَرُورَتُهُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَبَّهُ، وَخَالِقَهُ وَفَاطِرَهُ وَنَاصِرَهُ، وَحَافِظَهُ وَمُعِينَهُ وَرَازِقَهُ، وَهَادِيَهُ وَمُعَافِيَهُ، وَالْقَائِمَ بِجَمِيعِ مَصَالِحِهِ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَعْبُودَهُ وَإِلَهَهُ، وَحَبِيبَهُ الَّذِي لَا تَكْمُلُ حَيَاتُهُ وَلَا تَنْفَعُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ هُوَ وَحْدَهُ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَأَشْوَقَ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَهَذَا الِاضْطِرَارُ هُوَ اضْطِرَارُ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " وَالِاضْطِرَارُ الْأَوَّلُ: اضْطِرَارُ " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ". وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ نَفَسَ الِافْتِقَارِ هُوَ هَذَا النَّفَسُ، أَوْ مِنْ نَوْعِهِ، وَلَكِنَّ الشَّيْخَ جَعَلَهُمَا نَفَسَيْنِ، فَجَعَلَ نَفَسَ الِاضْطِرَارِ بِدَايَةً، وَنَفَسَ الِافْتِقَارِ تَوَسُّطًا، وَنَفَسَ الِافْتِخَارِ نِهَايَةً، وَكَأَنَّ نَفَسَ الِاضْطِرَارِ يَقْطَعُ الْخَلْقَ مِنْ قَلْبِهِ، وَنَفَسَ الِافْتِقَارِ يُعَلِّقُ قَلْبَهُ بِرَبِّهِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ نَفَسٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ، أَوَّلُهُ انْقِطَاعٌ، وَآخِرُهُ اتِّصَالٌ. وَأَمَّا نَفَسُ الِافْتِخَارِ فَهُوَ نَتِيجَةُ هَذَيْنِ النَّفَسَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا إِذَا صَحَا لِلْعَبْدِ حَصَلَ لَهُ الْقُرْبُ مِنْ رَبِّهِ، وَالْأُنْسُ بِهِ، وَالْفَرَحُ بِهِ، وَبِالْخِلَعِ الَّتِي خَلَعَهَا رَبُّهُ عَلَى قَلْبِهِ وَرُوحِهِ مِمَّا لَا يَقُومُ لِبَعْضِهِ مَمَالِكُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا، فَحِينَئِذٍ يَتَنَفَّسُ نَفَسًا آخَرَ، يَجِدُ بِهِ مِنَ التَّفْرِيجِ وَالتَّرْوِيحِ وَالرَّاحَةِ وَالِانْشِرَاحِ مَا يُشَبَّهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ بِنَفَسِ مَنْ جُعِلَ فِي عُنُقِهِ حَبْلٌ لِيُخْنَقَ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ، ثُمَّ كُشِفَ عَنْهُ وَقَدْ حُبِسَ نَفَسُهُ، فَتَنَفَّسَ نَفَسَ مَنْ أُعِيدَتْ عَلَيْهِ حَيَاتُهُ، وَتَخَلَّصَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا لِلْعَبْدِ وَالِافْتِخَارِ؟ وَأَيْنَ الْعُبُودِيَّةُ مِنْ نَفَسِ الِافْتِخَارِ؟ قُلْتُ: لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ يَفْتَخِرُ بِذَلِكَ، وَيَخْتَالُ عَلَى بَنِي جِنْسِهِ، بَلْ هُوَ فَرَحٌ وَسُرُورٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا فَتَحَ عَلَيْهِ رَبُّهُ، وَمَنَحَهُ إِيَّاهُ، وَخَصَّهُ بِهِ، وَأَوْلَى مَا فَرِحَ بِهِ الْعَبْدُ فَضْلُ رَبِّهِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَيُحِبُّ الْفَرَحَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الشُّكْرِ، وَمَنْ لَا يَفْرَحْ بِنِعْمَةِ الْمُنْعِمِ لَا يُعَدُّ شَكُورًا، فَهُوَ افْتِخَارٌ بِمَا هُوَ مَحْضُ مِنَّةِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ، لَا افْتِخَارَ بِمَا مَنَّ الْعَبْدُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُنَافِي الْعُبُودِيَّةَ لَا ذَاكَ.

فصل الحياة الثالثة حياة الوجود

وَهُنَا سِرٌّ لَطِيفٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا النَّفَسَ يَفْخَرُ عَلَى أَنْفَاسِهِ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ، كَمَا تَفْخَرُ الْحَيَاةُ عَلَى الْمَوْتِ، وَالْعِلْمُ عَلَى الْجَهْلِ، وَالسَّمْعُ عَلَى الصَّمَمِ، وَالْبَصَرُ عَلَى الْعَمَى، فَيَكُونُ الِافْتِخَارُ لِلنَّفَسِ عَلَى النَّفَسِ، لَا لِلْمُتَنَفِّسِ عَلَى النَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْحَيَاةُ الثَّالِثَةُ حَيَاةُ الْوُجُودِ] فَصْلٌ قَالَ: الْحَيَاةُ الثَّالِثَةُ: حَيَاةُ الْوُجُودِ. وَهِيَ حَيَاةٌ بِالْحَقِّ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَنْفَاسٍ: نَفَسُ الْهَيْبَةِ، وَهُوَ يُمِيتُ الِاعْتِدَالَ. وَنَفَسُ الْوُجُودِ، وَهُوَ يَمْنَعُ الِانْفِصَالَ. وَنَفَسُ الِانْفِرَادِ وَهُوَ يُورِثُ الِاتِّصَالَ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مَلْحَظٌ لِلنَّظَّارَةِ، وَلَا طَاقَةٌ لِلْإِشَارَةِ. هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ مِنَ الْحَيَاةِ هِيَ حَيَاةُ الْوَاجِدِ، وَهِيَ أَكْمَلُ مِنَ النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهَا، وَوُجُودُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ بِقَوْلِهِ: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي» وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: «ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ» . وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْوُجُودِ مَزِيدٌ لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنَّمَا كَانَتْ حَيَاةُ الْوُجُودِ أَكْمَلَ الْحَيَاةِ، لِشَرَفِهَا وَكَمَالِهَا بِمُوجِدِهَا؛ وَهُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَمَنْ حُبِيَ بِوُجُودِهِ فَقَدْ فَازَ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْحَيَاةِ. فَإِنْ قُلْتَ: يَصْعُبُ عَلَيَّ فَهْمُ مَعْنَى الْحَيَاةِ بِوُجُودِهِ. قُلْتُ: لِأَجْلِ الْحِجَابِ الَّذِي ضُرِبَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَافْهَمِ الْحَيَاةَ بِوُجُودِ الْفَنَاءِ، وَبِوُجُودِ الْمَالِكِ الْقَادِرِ إِذَا كَانَ مَعَكَ وَنَاصِرَكَ، دُونَ مُجَرَّدِ وُجُودِهِ وَلَا مَعْرِفَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَلْبَتَّةَ فَحَقِيقَةُ الْحَيَاةِ: هِيَ الْحَيَاةُ بِالرَّبِّ تَعَالَى، لَا الْحَيَاةُ النَّفَسُ وَالْفَنَاءُ وَأَسْبَابُ الْعَيْشِ. وَقَدْ تُفَسَّرُ " حَيَاةُ الْوُجُودِ " بِشُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ، حَيْثُ لَا يَرَى شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا وَهُوَ بِاللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي أَقَامَهُ، وَبِحَالِ هَذَا الشُّهُودِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ بِقَلْبِهِ إِلَى شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ، وَلَا يَخَافَهُ وَلَا يَرْجُوهُ، بَلْ قَدْ قَصَرَ خَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ، وَتَوَكُّلَهُ وَإِنَابَتَهُ عَلَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ، قَيُّومِ الْوُجُودِ وَقَيِّمِهِ وَقِيَامِهِ وَمُقَيِمِهِ وَحْدَهُ، فَمَتَى حَصَلَ لَهُ هَذَا الشُّهُودُ وَهَذَا الْحَالُ، فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ حَيَاةُ الْوُجُودِ.

فَتَارَةً يَتَنَفَّسُ بِالْهَيْبَةِ، وَهِيَ سَطْوَةُ نُورِ الصِّفَاتِ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَوَّلِ مَا يَسْطَعُ نُورُ الْوُجُودِ، فَيَقَعُ الْقَلْبُ فِي هَيْبَةٍ تَسْتَغْرِقُ حِسَّهُ عَنْ الِالْتِفَاتِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عَوَالِمِ النَّفَسِ، وَذَلِكَ هُوَ الِاعْتِلَالُ الَّذِي يُمِيتُهُ النَّفَسُ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُهُ: " وَنَفَسُ يُمِيتُ الِاعْتِلَالَ " فَتَمُوتُ مِنْهُ عِلَلُ أَعْمَالِهِ، وَآثَارُ حُظُوظِهِ، وَشُهُودُ إِنِّيَّتِهِ. قَوْلُهُ: " وَنَفَسُ الْوُجُودِ " يُرِيدُ بِهِ: وُجُودَ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ، فَيَتَنَفَّسُ بِهَذَا الْوُجُودِ، كَمَا يَسْمَعُ بِهِ، وَيُبْصِرُ بِهِ، وَيَبْطِشُ بِهِ، وَيَمْشِي بِهِ. وَلَا تُصْغِ إِلَى غَيْرِ هَذَا، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا. قَوْلُهُ: " وَهُوَ يَمْنَعُ الِانْفِصَالَ " الِانْفِصَالُ عِنْدَ الْقَوْمِ: انْقِطَاعُ الْقَلْبِ عَنِ الرَّبِّ وَبَقَاؤُهُ بِنَفْسِهِ وَطَبِيعَتِهِ، وَ " الِاتِّصَالُ " هُوَ بَقَاؤُهُ بِرَبِّهِ، وَفَنَاؤُهُ عَنْ أَحْكَامِ نَفْسِهِ، وَطَبْعِهِ وَهَوَاهُ، وَقَدْ يُرَادُ بِ " الِاتِّصَالِ " الْفَنَاءُ فِي شُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ، وَبِ " الِانْفِصَالِ " الْغَيْبَةُ عَنْ هَذَا الشُّهُودِ. وَأَمَّا الْمُلْحِدُ: فَيُفَسِّرُ الِاتِّصَالَ، وَالِانْفِصَالَ بِالِاتِّصَالِ الذَّاتِيِّ وَالِانْفِصَالِ الذَّاتِيِّ، وَهَذَا مُحَالٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا بِهِ، بَلْ لَمْ يَزَلْ إِيَّاهُ عِنْدَهُ، فَالْأَوَّلُ: يَتَعَلَّقُ بِالْإِرَادَةِ وَالْهِمَّةِ، وَهُوَ أَعْلَى الْأَنْوَاعِ. وَالثَّانِي: يَتَعَلَّقُ بِالشُّهُودِ وَالشُّعُورِ، وَهُوَ دُونَهُ، وَهُوَ عِنْدَ الشَّيْخِ أَعْلَى؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي وَادِي الْفَنَاءِ. وَالثَّالِثُ: لِلْمَلَاحِدَةِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ. قَوْلُهُ: وَنَفَسُ الِانْفِرَادِ، وَهُوَ يُورِثُ الِاتِّصَالَ. نَفَسُ الِانْفِرَادِ: هُوَ الْمَصْحُوبُ بِشُهُودِ الْفَرْدَانِيَّةِ، وَهِيَ تَفَرُّدُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، وَالتَّدْبِيرِ وَالْقَيُّومِيَّةِ، فَلَا يُثْبِتُ لِسِوَاهُ قِسْطًا فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَا يَجْعَلُ لِسِوَاهُ حَظًّا فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا فِي الْقَيُّومِيَّةِ، بَلْ يُفْرِدُهُ بِذَلِكَ فِي شُهُودِهِ، كَمَا أَفْرَدَهُ بِهِ فِي عِلْمِهِ، ثُمَّ يُفْرِدُهُ بِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي أَوْجَبَهَا لَهُ الشُّهُودُ، فَيَكُونُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَرْدًا فِي عِلْمِ الْعَبْدِ وَمَعْرِفَتِهِ، فَرْدًا فِي شُهُودِهِ، فَرْدًا فِي حَالِهِ فِي شُهُودِهِ. وَهَذَا النَّفَسُ يُورِثُهُ الِاتِّصَالَ بِرَبِّهِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهُ مُرَادٌ غَيْرُهُ، وَلَا إِرَادَةٌ غَيْرَ مُرَادِهِ الدِّينِيِّ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَيَسْتَفْرِغُ حُبُّهُ قَلْبَهُ، وَتَسْتَفْرِغُ مَرْضَاتُهُ سَعْيَهُ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مَقَامٌ يَلْحَظُهُ النَّظَّارَةُ، لَا بِالْقَلْبِ وَلَا بِالرُّوحِ.

فصل القبض

فَإِنَّ كَمَالَ هَذَا الِاتِّصَالِ، وَالشُّغْلِ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ: قَدِ اسْتَفْرَغَ الْمَقَامَاتِ، وَاسْتَوْعَبَ الْإِشَارَاتِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلُ الْقَبْضِ] قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ الْقَبْضِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 46] . قُلْتُ: قَدْ أَبْعَدَ فِي تَعَلُّقِهِ بِإِشَارَةٍ لِآيَةٍ إِلَى الْقَبْضِ الَّذِي يُرِيدُهُ، وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ بِوَجْهٍ مَا، وَإِنَّمَا يُشَارِكُ الْقَبْضُ الْمُتَرْجِمَ عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ فَقَطْ، فَإِنَّ الْقَبْضَ فِي الْآيَةِ هُوَ قَبْضُ الظِّلِّ، وَهُوَ تَقَلُّصُهُ بَعْدَ امْتِدَادِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 45] فَأَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّهُ بَسَطَ الظِّلَّ وَمَدَّهُ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُ مُتَحَرِّكًا تَبَعًا لِحَرَكَةِ الشَّمْسِ، وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا لَا يَتَحَرَّكُ: إِمَّا بِسُكُونِ الْمُظْهِرِ لَهُ، وَالدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِسَبَبٍ آخَرَ، ثُمَّ أَخْبَرَ: أَنَّهُ قَبَضَهُ بَعْدَ بَسْطِهِ قَبْضًا يَسِيرًا، وَهُوَ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ، لَمْ يَقْبِضْهُ جُمْلَةً، فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ، فَنَدَبَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ إِلَى رُؤْيَةِ صَنْعَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَحِكْمَتِهِ فِي هَذَا الْفَرْدِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ لَاصِقًا بِأَصْلِ مَا هُوَ ظِلٌّ لَهُ مِنْ جَبَلٍ وَبِنَاءٍ وَشَجَرٍ وَغَيْرِهِ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ. فَإِنْ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ تَابِعًا لِمَدِّهِ وَبَسْطِهِ، وَتَحَوُّلِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَفِي مَدِّهِ وَبَسْطِهِ، ثُمَّ قَبْضِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ مَا لَا يَخْفَى وَلَا يُحْصَى، فَلَوْ كَانَ سَاكِنًا دَائِمًا، أَوْ قُبِضَ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَتَعَطَّلَتْ مَرَافِقُ الْعَالَمِ وَمَصَالِحُهُ بِهِ وَبِالشَّمْسِ، فَمَدُّ الظِّلِّ وَقَبْضُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا لَازِمٌ لِحَرَكَةِ الشَّمْسِ، عَلَى مَا قُدِّرَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِ الْعَالَمِ، وَفِي دَلَالَةِ الشَّمْسِ عَلَى الظِّلَالِ مَا تُعْرَفُ بِهِ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ، وَمَا مَضَى مِنَ الْيَوْمِ، وَمَا بَقِيَ مِنْهُ، وَفِي تَحَرُّكِهِ وَانْتِقَالِهِ مَا يَبْرُدُ بِهِ مَا أَصَابَهُ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ، وَيَنْفَعُ الْحَيَوَانَاتِ وَالشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ، فَهُوَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ.

وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَدَّ الظِّلَّ حِينَ بَنَى السَّمَاءَ كَالْقُبَّةِ الْمَضْرُوبَةِ، وَدَحَا الْأَرْضَ تَحْتَهَا، فَأَلْقَتِ الْقُبَّةُ ظِلَّهَا عَلَيْهَا، فَلَوْ شَاءَ سُبْحَانَهُ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا مُسْتَقِرًّا فِي تِلْكَ الْحَالِ، ثُمَّ خَلَقَ الشَّمْسَ وَنَصَبَهَا دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ الظِّلِّ، فَهُوَ يَتْبَعُهَا فِي حَرَكَتِهَا، يَزِيدُ بِهَا وَيَنْقُصُ، وَيَمْتَدُّ وَيَتَقَلَّصُ، فَهُوَ تَابِعٌ لَهَا تَبَعِيَّةَ الْمَدْلُولِ لِدَلِيلِهِ. وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَبْضَهُ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ بِقَبْضِ أَسْبَابِهِ، وَهِيَ الْأَجْرَامُ الَّتِي تُلْقِي الظِّلَالَ. فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ إِعْدَامَهُ بِإِعْدَامِ أَسْبَابِهِ، كَمَا ذَكَرَ إِنْشَاءَهُ بِإِنْشَاءِ أَسْبَابِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} [الفرقان: 46] كَأَنَّهُ يَشْعُرُ بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 46] يُشْبِهُ قَوْلَهُ: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44] وَقَوْلُهُ: " قَبَضْنَاهُ " بِصِيغَةِ الْمَاضِي لَا يُنَافِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] وَالْوَجْهُ فِي الْآيَةِ هُوَ الْأَوَّلُ. وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ: إِنْ أَرَادَ مِنْ ذِكْرِهِمَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَيْهِمَا إِشَارَةً وَإِيمَاءً فَقَرِيبٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِهَا فَبَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ ذَلِكَ آيَةً وَدَلَالَةً عَلَيْهِ لِلنَّاظِرِ فِيهِ، كَمَا فِي سَائِرِ آيَاتِهِ الَّتِي يَدْعُو عِبَادَهُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا مَشْهُودًا تَقُومُ بِهِ الدَّلَالَةُ، وَتَحْصُلُ بِهِ التَّبْصِرَةُ. وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا مَا تَعَلَّقَ بِهِ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ فِي بَابِ الْقَبْضِ بِقَبْضِ الظِّلِّ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ، حَيْثُ يَقُولُ: الَّذِي مَدَّ ظِلَّ التَّكْوِينِ عَلَى الْخَلِيقَةِ مَدًّا طَوِيلًا، ثُمَّ جَعَلَ شَمْسَ التَّمْكِينِ لِصَفْوَتِهِ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضَ ظِلَّ التَّفْرِقَةِ عَنْهُمْ إِلَيْهِ قَبْضًا يَسِيرًا فَاسْتَعَارَ لِلتَّكْوِينِ لَفْظَ الظِّلِّ إِعْلَامًا بِأَنَّ الْمُكَوِّنَاتِ بِمَنْزِلَةِ الظِّلَالِ فِي عَدَمِ اسْتِقْلَالِهَا بِأَنْفُسِهَا؛ إِذْ لَا يَتَحَرَّكُ الظِّلُّ إِلَّا بِحَرَكَةِ صَاحِبِهِ، وَقَوْلُهُ " مَدًّا طَوِيلًا " إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَزَالُ يَخْلُقُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ خَلْقًا لَا يَتَنَاهَى، لِسِعَةِ قُدْرَتِهِ، وَوُجُوبِ أَبَدِيَّتِهِ. ثُمَّ إِنَّ حَقِيقَةَ الظِّلِّ هِيَ عَدَمُ الشَّمْسِ فِي بُقْعَةٍ مَا، لِسَاتِرٍ سَتَرَهَا، فَإِنَّمَا تَتَعَيَّنُ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ بِالشَّمْسِ، فَكَذَلِكَ الْمُكَوَّنُ إِنَّمَا تَتَعَيَّنُ حَقِيقَتُهُ بِالْمُكَوِّنِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَ " شَمْسُ التَّمْكِينِ " هِيَ التَّوْحِيدُ الْجَامِعُ لِقُلُوبِ صَفْوَتِهِ عَنِ التَّفَرُّقِ فِي شِعَابِ

ظِلِّ التَّكْوِينِ " ثُمَّ قَبَضَ ظِلَّ التَّفْرِقَةِ عَنْهُمْ إِلَيْهِ قَبْضًا يَسِيرًا "؛ أَيْ: أَخَذَ ظِلَّ التَّفْرِقَةِ عَنْهُمْ أَخْذًا سَهْلًا. فَالشَّيْخُ أَحَالَ بِاسْتِشْهَادِهِ بِالْآيَةِ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي الْخُطْبَةِ وَوَجْهُ الْإِشَارَةِ بِالْآيَةِ يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} [الفرقان: 46] وَالْقَبْضُ فِي هَذَا الْبَابِ: لَمْ يُرِدْ بِهِ قَبْضَ الْإِضَافَةِ. وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ: الْقَبْضُ فِي هَذَا الْبَابِ اسْمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى مَقَامِ الضَّنَائِنِ الَّذِينَ ادَّخَرَهُمُ الْحَقُّ اصْطِنَاعًا لِنَفْسِهِ. فَالْقَبْضُ نَوْعَانِ: قَبْضٌ فِي الْأَحْوَالِ، وَقَبْضٌ فِي الْحَقَائِقِ، فَالْقَبْضُ فِي الْأَحْوَالِ أَمْرٌ يَطْرُقُ الْقَلْبَ يَمْنَعُهُ عَنْ الِانْبِسَاطِ وَالْفَرَحِ، وَهُوَ نَوْعَانِ أَيْضًا. أَحَدُهُمَا: مَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ، مِثْلُ تَذَكُّرِ ذَنْبٍ، أَوْ تَفْرِيطٍ، أَوْ بُعْدٍ، أَوْ جَفْوَةٍ أَوْ حُدُوثِ مَا هُوَ نَحْوُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: مَا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ. بَلْ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ هُجُومًا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْقَبْضُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْقَوْمِ، وَضِدُّهُ الْبَسْطُ، فَالْقَبْضُ وَالْبَسْطُ عِنْدَهُمْ حَالَتَانِ لِلْقَلْبِ لَا يَكَادُ يَنْفَكُّ عَنْهُمَا. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ: فِي مَعْنَى الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ مَعْنَى الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. فَالرَّجَاءُ: يَبْسُطُ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْخَوْفُ: يَقْبِضُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. فَكُلُّهُمْ تَكَلَّمَ فِي الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ حَتَّى جَعَلُوهُ أَقْسَامًا: قَبْضُ تَأْدِيبٍ، وَقَبْضُ تَهْذِيبٍ، وَقَبْضُ جَمْعٍ، وَقَبْضُ تَفْرِيقٍ، وَلِهَذَا يَمْتَنِعُ صَاحِبُهُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ مِنَ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْكَلَامِ، وَفِعْلِ الْأَوْرَادِ، وَالِانْبِسَاطِ إِلَى الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَبْضُ التَّأْدِيبِ: يَكُونُ عُقُوبَةً عَلَى غَفْلَةٍ، أَوْ خَاطِرِ سُوءٍ، أَوْ فِكْرَةٍ رَدِيئَةٍ. وَقَبْضُ التَّهْذِيبِ: يَكُونُ إِعْدَادًا لِبَسْطٍ عَظِيمٍ شَأْنُهُ يَأْتِي بَعْدَهُ، فَيَكُونُ الْقَبْضُ قَبْلَهُ كَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ وَالْمُقَدِّمَةِ لَهُ، كَمَا كَانَ " الْغَتُّ وَالْغَطُّ " مُقَدِّمَةً بَيْنَ يَدَيِ الْوَحْيِ،

وَإِعْدَادًا لِوُرُودِهِ، وَهَكَذَا الشِّدَّةُ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيِ الْفَرَجِ، وَالْبَلَاءُ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيِ الْعَافِيَةِ، وَالْخَوْفُ الشَّدِيدُ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيِ الْأَمْنِ، وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ النَّافِعَةَ الْمَحْبُوبَةَ إِنَّمَا يُدْخَلُ إِلَيْهَا مِنْ أَبْوَابِ أَضْدَادِهَا. وَأَمَّا قَبْضُ الْجَمْعِ: فَهُوَ مَا يَحْصُلُ لِلْقَلْبِ حَالَ جَمْعِيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ مِنَ انْقِبَاضِهِ عَنِ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ فَضْلٌ وَلَا سِعَةٌ لِغَيْرِ مَنِ اجْتَمَعَ قَلْبُهُ عَلَيْهِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ مَنْ أَرَادَ مِنْ صَاحَبِهِ مَا يَعْهَدُهُ مِنْهُ مِنَ الْمُؤَانَسَةِ وَالْمُذَاكَرَةِ فَقَدْ ظَلَمَهُ. وَأَمَّا قَبْضُ التَّفْرِقَةِ: فَهُوَ الْقَبْضُ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ تَفَرُّقِ قَلْبِهِ عَنِ اللَّهِ، وَتَشَتُّتِهِ عَنْهُ فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ، فَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ: مَا يَجِدُهُ مِنَ الْقَبْضِ الَّذِي يَتَمَنَّى مَعَهُ الْمَوْتَ. وَأَمَّا الْقَبْضُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: فَهُوَ شَيْءٌ وَرَاءَ هَذَا كُلِّهِ، فَإِنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ قِسْمِ الْحَقَائِقِ، وَذَلِكَ الْقَبْضُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قِسْمِ الْبِدَايَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ: الْقَبْضُ فِي هَذَا الْبَابِ: اسْمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى مَقَامِ الضَّنَائِنِ، وَمِنْ هَنَا حَسُنَ اسْتِشْهَادُهُ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ قَبْضِ الظِّلِّ إِلَيْهِ، وَالْقَبْضُ فِي هَذَا الْبَابِ يَتَضَمَّنُ قَبْضَ الْقَلْبِ عَنْ غَيْرِهِ إِلَيْهِ، وَجَمْعِيَّتِهِ بَعْدَ التَّفْرِقَةِ عَلَيْهِ، وَالضَّنَائِنُ جَمْعُ ضَنِّينَةٍ، وَهِيَ الْخَاصَّةُ، يَضِنُّ بِهَا صَاحِبُهَا؛ أَيْ: يَبْخَلُ بِبَذْلِهَا وَيَصْطَفِيهَا لِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: الَّذِينَ ادَّخَرَهُمُ الْحَقُّ اصْطِنَاعًا لِنَفْسِهِ. وَالِادِّخَارُ افْتِعَالٌ مِنْ الذُّخْرِ، وَهُوَ مَا يُعِدُّهُ الْمَرْءُ لِحَوَائِجِهِ وَمَصَالِحِهِ، وَالِاصْطِنَاعُ بِمَعْنَى الِاصْطِفَاءِ. قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] وَالِاصْطِنَاعُ فِي الْأَصْلِ: اتِّخَاذُ الصَّنِيعَةِ، وَهِيَ الْخَيْرُ تُسْدِيهِ إِلَى غَيْرِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِذَا اصْطَنَعْتَ صَنِيعَةً فَاقْصِدْ بِهَا ... وَجْهَ الَّذِي يُولِي الصَّنَائِعَ أَوْدَعِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اصْطَنَعْتُكَ لِوَحْيِي وَرِسَالَتِي، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: اخْتَرْتُكَ بِالرِّسَالَةِ لِنَفْسِي، لِكَيْ تُحِبَّنِي وَتَقُومَ بِأَمْرِي. وَقِيلَ: اخْتَرْتُكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْكَ لِإِقَامَةِ حُجَّتِي، فَتُكَلِّمَ عِبَادِي عَنِّي. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: اخْتَرْتُكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْكَ لِإِقَامَةِ حُجَّتِي، وَجَعَلْتُكَ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي حَتَّى صِرْتَ فِي الْخِطَابِ وَالتَّبْلِيغِ عَنِّي بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَكُونُ أَنَا بِهَا لَوْ خَاطَبْتُهُمْ.

وَقِيلَ: مَثَّلَ حَالَهُ بِحَالِ مَنْ يَرَاهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ لِجَوَامِعِ خِصَالٍ فِيهِ وَخَصَائِصٍ أَهْلًا لِكَرَامَتِهِ وَتَقْرِيبِهِ، فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ مِنْهُ مَنْزِلَةً إِلَيْهِ، وَلَا أَلْطَفَ مَحَلًّا، فَيَصْطَنِعُهُ بِالْكَرَامَةِ وَالْأَثَرَةِ، وَيَسْتَخْلِصُهُ لِنَفْسِهِ، بِحَيْثُ يَسْمَعُ بِهِ، وَيُبْصِرُ بِهِ، وَيَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ حَالَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الضَّنَائِنَ وَبَيْنَ التَّعَلُّقِ بِالْخَلْقِ، وَصَرَفَ قُلُوبَهُمْ وَهِمَمَهُمْ وَعَزَائِمَهُمْ إِلَيْهِ. قَالَ: وَهُمْ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ قَبْضُهُمْ إِلَيْهِ؛ قَبْضُ التَّوَقِّي، فَضَنَّ بِهِمْ عَنْ أَعْيُنِ الْعَالَمِينَ. هَذَا الْحَرْفُ فِي التَّوَقِّي بِالْقَافِ مِنَ الْوِقَايَةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْوَفَاةِ؛ أَيْ: سَتَرَهُمْ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وِقَايَةً لَهُمْ، وَصِيَانَةً عَنْ مُلَابَسَتِهِمْ، فَغَيَّبَهُمْ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، فَلَمْ يُطْلِعْهُمْ عَلَيْهِمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الِانْقِطَاعِ وَالْعُزْلَةِ عَنِ النَّاسِ وَقْتَ فَسَادِ الزَّمَانِ، وَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمَرْءِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ» ، وَقَوْلُهُ: «وَرَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» وَهَذِهِ الْحَالُ تُحْمَدُ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضِهَا، وَإِلَّا فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ: أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَالْعُزْلَةُ: فِي وَقْتٍ تَجِبُ فِيهِ، وَوَقْتٍ تُسْتَحَبُّ فِيهِ، وَوَقْتٍ تُبَاحُ فِيهِ، وَوَقْتٍ تُكْرَهُ فِيهِ، وَوَقْتٍ تَحْرُمُ فِيهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْضَ التَّوَفِّي بِالْفَاءِ أَجْسَادَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُخَالِطُوا النَّاسَ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ تُوَفِّي وَفَارَقَ الدُّنْيَا. قَالَ: وَفِرْقَةٌ قَبَضَهُمْ بِسِتْرِهِمْ فِي لِبَاسِ التَّلْبِيسِ، وَأَسْبَلَ عَلَيْهِمْ أَكِلَّةَ الرُّسُومِ، فَأَخْفَاهُمْ عَنْ عُيُونِ الْعَالَمِ. هَذِهِ الْفِرْقَةُ: هُمْ مَعَ النَّاسِ مُخَالِطُونَ، وَالنَّاسُ يَرَوْنَ ظَوَاهِرَهُمْ. وَقَدْ سَتَرَ اللَّهُ حَقَائِقَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ لَهَا، فَحَالُهُمْ مُلْتَبِسٌ عَلَى النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَهُ، فَإِذَا رَأَوْا مِنْهُمْ مَا يَرَوْنَ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ، وَالنِّكَاحِ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ، وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ قَالُوا: هَؤُلَاءِ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَإِذَا رَأَوْا ذَلِكَ الْجَدَّ وَالْهِمَمَ، وَالصَّبْرَ وَالصِّدْقَ، وَحَلَاوَةَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانَ وَالذِّكْرَ، وَشَاهَدُوا مِنْهُمْ أُمُورًا لَيْسَتْ مِنْ أُمُورِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، قَالُوا: هَؤُلَاءِ مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، فَالْتَبَسَ حَالُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ مَسْتُورُونَ عَنِ النَّاسِ بِأَسْبَابِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ، لَمْ يَجْعَلُوا لِطَلَبِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ إِشَارَةً تُشِيرُ إِلَيْهِمْ: اعْرَفُونِي، فَهَؤُلَاءِ يَكُونُونَ مَعَ النَّاسِ، وَالْمَحْجُوبُونَ لَا يَعْرِفُونَهُمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ بِهِمْ رُءُوسًا، وَهُمْ مِنْ سَادَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، صَانَهُمُ اللَّهُ عَنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ كَرَامَةً لَهُمْ، لِئَلَّا يَفْتَتِنُوا بِهِمْ، وَإِهَانَةً لِلْجُهَّالِ بِهِمْ، فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِمْ. وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى مِنَ الْفَضْلِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَهُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِأَبْدَانِهِمْ، وَبَيْنَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى بِقُلُوبِهِمْ، فَإِذَا فَارَقُوا هَذَا الْعَالَمَ انْتَقَلَتْ أَرْوَاحُهُمْ إِلَى تِلْكَ الْحَضْرَةِ، فَإِنَّ رُوحَ كُلِّ عَبْدٍ تَنْتَقِلُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ إِلَى حَضْرَةِ مَنْ كَانَ يَأْلَفُهُمْ وَيُحِبُّهُمْ، فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّهُ.

قَوْلُهُ: " وَأَسْبَلَ عَلَيْهِمْ أَكِلَّةَ الرُّسُومِ " أَيْ: أَجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْخَلْقِ يَأْكُلُونَ كَمَا يَأْكُلُونَ، وَيَشْرَبُونَ كَمَا يَشْرَبُونَ، وَيَسْكُنُونَ حَيْثُ يَسْكُنُونَ، وَيَمْشُونَ مَعَهُمْ فِي الْأَسْوَاقِ، وَيُعَانُونَ مَعَهُمُ الْأَسْبَابَ، وَهُمْ فِي وَادٍ وَالنَّاسُ فِي وَادٍ، فَمُشَارَكَتُهُمْ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ هِيَ الَّتِي سَتَرَتْهُمْ عَنْ مَعْرِفَتِهِمْ، وَعَنْ إِدْرَاكِ حَقَائِقِهِمْ فَهُمْ تَحْتَ سُتُورِ الْمُشَارَكَةِ. وَوَرَاءَ هَاتِيكَ السُّتُورِ مُحَجَّبُ ... بِالْحُسْنِ كُلُّ الْعِزِّ تَحْتَ لِوَائِهِ لَوْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ بَعْضَ جَمَالِهِ ... لَبَذَلْتَ مِنْكَ الرُّوحَ فِي إِرْضَائِهِ مَا طَابَتِ الدُّنْيَا بِغَيْرِ حَدِيثِهِ ... كَلَّا وَلَا الْأُخْرَى بِدُونِ لِقَائِهِ يَا خَاسِرًا هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ ... إِذْ بَاعَهَا بِالْغَبْنِ مِنْ أَعْدَائِهِ لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ قَدْرَ مَا قَدْ بِعْتَهُ ... لَفَسَخَتْ ذَاكَ الْبَيْعَ قَبْلَ وَفَائِهِ أَوْ كُنْتَ كُفْوًا لِلرَّشَادِ وَلِلْهُدَى ... أَبْصَرْتَ لَكِنْ لَسْتَ مِنْ أَكْفَائِهِ قَوْلُهُ: وَفِرْقَةٌ قَبْضُهُمْ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، فَصَافَاهُمْ مُصَافَاةَ سِرٍّ، فَضَنَّ بِهِمْ عَلَيْهِمْ. هَذِهِ الْفِرْقَةُ إِنَّمَا كَانَتْ أَعْلَى مِنَ الْفِرْقَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ: لِأَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ قَدْ سَتَرَهُمْ عَنْ نُفُوسِهِمْ، لِكَمَالِ مَا أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهِ، وَشَغَلَهُمْ بِهِ عَنْهُمْ، فَهُمْ فِي أَعْلَى الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ، وَلَا الْتِفَاتَ لَهُمْ إِلَيْهَا، فَهَؤُلَاءِ قُلُوبُهُمْ مَعَهُ سُبْحَانَهُ لَا مَعَ سِوَاهُ، فَلَمْ يَكُونُوا مَعَ السِّوَى وَلَا السِّوَى مِنْهُمْ، بَلْ هُمْ مَعَ السِّوَى بِالْمُجَاوَرَةِ وَالِامْتِحَانِ، لَا بِالْمُسَاكَنَةِ وَالْأُلْفَةِ، قُلُوبُهُمْ عَامِرَةٌ بِالْأَسْرَارِ، وَأَرْوَاحُهُمْ تَحِنُّ إِلَيْهِ حَنِينَ الطُّيُورِ إِلَى الْأَوْكَارِ، قَدْ سَتَرَهُمْ وَلِيُّهُمْ وَحَبِيبُهُمْ عَنْهُمْ، وَأَخَذَهُمْ إِلَيْهِ مِنْهُمْ. قَوْلُهُ: " فَصَافَاهُمْ مُصَافَاةَ سِرٍّ " أَيْ: جَعَلَ مَوَاجِيدَهُمْ فِي أَسْرَارِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ لِلُطْفِ إِدْرَاكِهِمْ، فَلَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِمْ فِي ظَوَاهِرِهِمْ لِقُوَّةِ الِاسْتِعْدَادِ. قَوْلُهُ: " فَضَنَّ بِهِمْ عَلَيْهِمْ " أَيْ: أَخَذَهُمْ عَنْ رُسُومِهِمْ، فَأَفْنَاهُمْ عَنْهُمْ. وَأَبْقَاهُمْ بِهِ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ هَذَا: أَنَّ " الْقَبْضَ " الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ: لَيْسَ هُوَ الْقَبْضُ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ فِي الْبِدَايَاتِ وَالسُّلُوكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل البسط

[فَصْلُ الْبَسْطِ] قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ الْبَسْطِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] . قُلْتُ: وَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُعَيِّشُكُمْ فِيمَا خَلَقَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يُكَثِّرُكُمْ فِي هَذَا التَّزْوِيجِ، وَلَوْلَا هَذَا التَّزْوِيجُ لَمْ يَكْثُرِ النَّسْلُ، وَالْمَعْنَى: يَخْلُقُكُمْ فِي هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ جَعْلِهِ لَكُمْ أَزْوَاجًا، فَإِنَّ سَبَبَ خَلْقِنَا وَخَلْقِ الْحَيَوَانِ: بِالْأَزْوَاجِ، وَالضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: " فِيهِ " يَرْجِعُ إِلَى الْجَعْلِ، وَمَعْنَى الذَّرْءِ: الْخَلْقُ، وَهُوَ هُنَا الْخَلْقُ الْكَثِيرُ، فَهُوَ خَلْقٌ وَتَكْثِيرٌ، فَقِيلَ " فِي " بِمَعْنَى الْبَاءِ؛ أَيْ: يُكَثِّرُكُمْ بِذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا، وَالْفِعْلُ تَضَمَّنَ مَعْنَى يُنْشِئُكُمْ وَهُوَ يَتَعَدَّى بِفِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 61] فَهَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْحَيَاةُ حَيَاتَيْنِ: حَيَاةَ الْأَبْدَانِ، وَحَيَاةَ الْأَرْوَاحِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي يُحْيِي قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ وَأَرْوَاحِهِمْ بِإِكْرَامِهِ وَلُطْفِهِ وَبَسْطِهِ كَانَ ذَلِكَ تَنْمِيَةً لَهَا وَتَكْثِيرًا وَذَرْءًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْبَسْطُ: أَنْ يُرْسِلَ شَوَاهِدَ الْعَبْدِ فِي مَدَارِجِ الْعِلْمِ، وَيُسْبِلَ عَلَى بَاطِنِهِ رِدَاءَ الِاخْتِصَاصِ، وَهُمْ أَهْلُ التَّلْبِيسِ، وَإِنَّمَا بُسِطُوا فِي مَيْدَانِ الْبَسْطِ، بَعْدَ ثَلَاثِ مَعَانٍ، لِكُلِّ مَعْنًى طَائِفَةٌ. يُرِيدُ: أَنَّ الْبَسْطَ إِرْسَالُ ظَوَاهِرِ الْعَبْدِ وَأَعْمَالِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ، وَيَكُونُ بَاطِنُهُ مَغْمُورًا بِالْمُرَاقَبَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْأُنْسِ بِاللَّهِ، فَيَكُونُ جَمَالُهُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، فَظَاهِرُهُ قَدِ اكْتَسَى الْجَمَالَ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ، وَبَاطِنُهُ قَدِ اكْتَسَى الْجَمَالَ بِالْمَحَبَّةِ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْأُنْسِ، فَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَهُ دِثَارٌ، وَالْأَحْوَالُ الْبَاطِنَةُ لَهُ شِعَارٌ، فَلَا حَالُهُ يُنْقِصُ عَلَيْهِ ظَاهِرَ حُكْمِهِ، وَلَا عِلْمُهُ يَقْطَعُ وَارِدَ حَالِهِ، وَقَدْ جَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْجَمَالَيْنِ

أَعْنِي جَمَالَ الظَّاهِرِ وَجَمَالَ الْبَاطِنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ. مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] . وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نِسَاءِ الْجَنَّةِ: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] فَهُنَّ حِسَانُ الْوُجُوهِ، خَيِّرَاتُ الْأَخْلَاقِ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] فَالنَّضْرَةُ جَمَالُ الْوُجُوهِ، وَالسُّرُورُ جَمَالُ الْقُلُوبِ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22] فَالنَّضْرَةُ تُزَيِّنُ ظَوَاهِرَهُمْ، وَالنَّظَرُ يُجَمِّلُ بَوَاطِنَهُمْ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] فَالْأَسَاوِرُ جَمَّلَتْ ظَوَاهِرَهُمْ، وَالشَّرَابُ الطَّهُورُ طَهَّرَ بَوَاطِنَهُمْ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات: 6] فَجَمَّلَ ظَاهِرَهَا بِالْكَوَاكِبِ، وَبَاطِنَهَا بِالْحِرَاسَةِ مِنَ الشَّيَاطِينِ. رَجَعْنَا إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. قَوْلُهُ: " وَهُمْ أَهْلُ التَّلْبِيسِ " يَعْنِي: أَنَّهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي بَابِ الْقَبْضِ وَهُمُ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ الَّذِينَ سُتِرُوا بِلِبَاسِ التَّلْبِيسِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ. فَلَا تَرَى حَقَائِقَهُمْ. قَوْلُهُ: " وَإِنَّمَا بُسِطُوا فِي مَيْدَانِ الْبَسْطِ " أَيْ: بَسَطَهُمُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، لَا مَا يَظُنُّهُ الْمُلْحِدُ أَنَّهُ السَّمَاعُ الشَّهِيُّ، وَمُلَاحَظَةُ الْمَنْظَرِ الْبَهِيِّ، وَرُؤْيَةُ الصُّوَرِ الْمُسْتَحْسَنَاتِ، وَسَمَاعُ الْآلَاتِ الْمُطْرِبَاتِ. نَعَمْ هَذَا مَيْدَانٌ بَسَطَهُ الشَّيْطَانُ يَقْتَطِعُ بِهِ النُّفُوسَ عَنِ الْمَيْدَانِ الَّذِي نَصَبَهُ الرَّحْمَنُ، فَمَيْدَانُ الرَّحْمَنِ الَّذِي بَسَطَهُ هُوَ الَّذِي نَصَبَهُ لِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ مَا كَانَ

عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِهِ، وَمَعَ الْغَرِيبِ وَالْقَرِيبِ، وَهِيَ سِعَةُ الصَّدْرِ، وَدَوَامُ الْبِشْرِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَقِيَهُ، وَالْوُقُوفُ مَعَ مَنِ اسْتَوْقَفَهُ، وَالْمِزَاحُ بِالْحَقِّ مَعَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ أَحْيَانًا، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَلِينُ الْجَانِبِ حَتَّى يَظُنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْمَيْدَانُ لَا تَجِدُ فِيهِ إِلَّا وَاجِبًا، أَوْ مُسْتَحَبًّا، أَوْ مُبَاحًا يُعِينُ عَلَيْهِمَا. قَوْلُهُ: فَطَائِفَةٌ بُسِطَتْ رَحْمَةً لِلْخَلْقِ، يُبَاسِطُونَهُمْ وَيُلَابِسُونَهُمْ، فَيَسْتَضِيئُونَ بِنُورِهِمْ، وَالْحَقَائِقُ مَجْمُوعَةٌ، وَالسَّرَائِرُ مَصُونَةٌ. جَعَلَ اللَّهُ انْبِسَاطَهُمْ مَعَ الْخَلْقِ رَحْمَةً لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ بَسَطَ هَؤُلَاءِ مَعَ خَلْقِهِ؛ لِيَقْتَدِيَ بِهِمُ السَّالِكُ، وَيَهْتَدِيَ بِهِمُ الْحَيْرَانُ، وَيُشْفَى بِهِمُ الْعَلِيلُ، وَيُسْتَضَاءَ بِنُورِ هِدَايَتِهِمْ وَنُصْحِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ فِي ظُلُمَاتِ دَيَاجِي الطَّبْعِ وَالْهَوَى، فَالسَّالِكُونَ يَقْتَدُونَ بِهِمْ إِذَا سَكَتُوا، وَيَنْتَفِعُونَ بِكَلِمَاتِهِمْ إِذَا نَطَقُوا، فَإِنَّ حَرَكَاتِهُمْ وَسُكُونَهُمْ لَمَّا كَانَتْ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَعَلَى أَمْرِ اللَّهِ جَذَبَتْ قُلُوبَ الصَّادِقِينَ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا النُّورُ الَّذِي أَضَاءَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُمْ هُوَ نُورُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَالْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ اسْتَنَارَ بِنُورِهِ وَاسْتَنَارَ بِهِ النَّاسُ، فَهَذَا مِنْ خُلَفَاءِ الرُّسُلِ وَوَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَالِمٌ اسْتَنَارَ بِنُورِهِ، وَلَمْ يَسْتَنِرْ بِهِ غَيْرُهُ، فَهَذَا إِنْ لَمْ يُفَرِّطْ كَانَ نَفْعُهُ قَاصِرًا عَلَى نَفْسِهِ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ مَا بَيْنَهُمَا، وَعَالِمٌ لَمْ يَسْتَنِرْ بِنُورِهِ وَلَا اسْتَنَارَ بِهِ غَيْرُهُ، فَهَذَا عِلْمُهُ وَبَالٌ عَلَيْهِ، وَبَسْطَتُهُ لِلنَّاسِ فِتْنَةٌ لَهُمْ، وَبَسْطَةُ الْأَوَّلِ رَحْمَةٌ لَهُمْ. قَوْلُهُ: " وَالْحَقَائِقُ مَجْمُوعَةٌ، وَالسَّرَائِرُ مَصُونَةٌ " أَيِ: انْبَسَطُوا وَالْحَقَائِقُ الَّتِي فِي سَرَائِرِهِمْ مَجْمُوعَةٌ فِي بَوَاطِنِهِمْ، فَالِانْبِسَاطُ لَمْ يُشَتِّتْ قُلُوبَهُمْ، وَلَمْ يُفَرِّقْ هِمَمَهُمْ، وَلَمْ يُحِلَّ عَقْدَ عَزَائِمِهِمْ. قَوْلُهُ: " وَسَرَائِرُهُمْ مَصُونَةٌ " مَسْتُورَةٌ لَمْ يَكْشِفُوهَا لِمَنِ انْبَسَطُوا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَسْطُ يَقْتَضِي الْإِلْفَ، وَاطِّلَاعَ كُلٍّ مِنَ الْمُتَبَاسِطَيْنِ عَلَى سِرِّ صَاحِبِهِ، فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تُطْلِعَ مَنْ بَاسَطْتَهُ عَلَى سِرِّكَ مَعَ اللَّهِ، وَلَكِنِ اجْذِبْهُ وَشَوِّقْهُ، وَاحْفَظْ وَدِيعَةَ اللَّهِ عِنْدَكَ، لَا تُعَرِّضْهَا لِلِاسْتِرْجَاعِ.

قَالَ: وَطَائِفَةٌ بُسِطَتْ لِقُوَّةِ مُعَايَنَتِهِمْ، وَتَصْمِيمِ مَنَاظِرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ طَائِفَةٌ لَا تُخَالِجُ الشَّوَاهِدُ مَشْهُودَهُمْ، وَلَا تَضْرِبُ رِيَاحُ الرُّسُومِ مَوْجُودَهُمْ، فَهُمْ مَبْسُوطُونَ فِي قَبْضَةِ الْقَبْضِ، إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا لِأَرْبَابِ الْأَعْمَالِ، وَهَذِهِ لِأَرْبَابِ الْأَحْوَالِ، بُسِطَتِ الْأُولَى: رَحْمَةً لِلْخَلْقِ، وَبُسِطَتْ هَذِهِ: اخْتِصَاصًا بِالْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: " لِقُوَّةِ مُعَايَنَتِهِمْ " إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لِقُوَّةِ إِدْرَاكِ مُعَايَنَتِهِمْ، أَوْ لِقُوَّةِ ظُهُورِ مُعَايَنَتِهِمْ لِبَوَاطِنِهِمْ، أَوْ لِقُوَّتِهَا وَبَيَانِهَا فِي نَفْسِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَطْمَعُ الْبَسْطُ أَنْ يَحْجُبَهُمْ عَنْ مُعَايَنَةِ مَطْلُوبِهِمْ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الْمُعَايَنَةِ مَنَعَتْ وُصُولَ الْبَسْطِ إِلَى إِزَالَتِهَا وَإِضْعَافِهَا. قَوْلُهُ: " وَتَصْمِيمُ مَنَاظِرِهِمْ " يَعْنِي ثَبَاتَ مَنَاظِرِ قُلُوبِهِمْ وَصِحَّتِهَا، فَلَيْسُوا مِمَّنْ يَحُولُ بَيْنَ نَظَرِ قُلُوبِهِمْ وَبَيْنَ مَا تَرَاهُ قَتَرٌ مِنْ شَكٍّ، وَلَا غَيْمٌ مِنْ رَيْبٍ، فَاللَّطِيفَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ الْمُدْرِكَةُ لِحَقِيقَةِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنَ الْغَيْبِ صَحِيحَةٌ، وَهِيَ شَدِيدَةُ التَّوَجُّهِ إِلَى مَشْهُودِهَا، فَلَمْ يَقْدِرِ الْبَسْطُ عَلَى حَجْبِهَا عَنْ مَشْهُودِهَا. قَوْلُهُ: " لِأَنَّهُمْ طَائِفَةٌ لَا تُخَالِجُ الشَّوَاهِدُ مُشْهُودَهُمْ " أَيْ: لَا تُمَازِجُ الشَّوَاهِدُ مَشْهُودَهُمْ، فَيَكُونُ إِدْرَاكُهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ، بَلْ مَشْهُودُهُمْ حَاضِرٌ لَهُمْ، لَمْ يُدْرِكُوهُ بِغَيْرِهِ، فَلَا تُخَالِطُ مُشَاهَدَتُهُمْ لَهُ شَوَاهِدَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالشَّوَاهِدُ مِثْلَ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ. وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ وَبَيَانٍ وَتَفْصِيلٍ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَقَامَ الشَّوَاهِدَ عَلَيْهِ، وَمَلَأَ بِهَا كِتَابَهُ، وَهَدَى عِبَادَهُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَلَكِنَّ الْعَارِفَ إِذَا حَصَلَ لَهُ مِنْهَا الدَّلَالَةُ، وَوَصَلَ مِنْهَا إِلَى الْيَقِينِ انْطَوَى حُكْمُهَا عَنْ شُهُودِهِ، وَسَافَرَ قَلْبُهُ مِنْهَا إِلَى الْمَطْلُوبِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِهَا، وَرَآهَا كُلَّهَا أَثَرًا مِنْ آثَارِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، الْمَشْهُودِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِهَا مُعَايَنَةَ الْقَلْبِ وَالْبَصِيرَةِ لِلصَّانِعِ إِذَا عَايَنَ صَنْعَتَهُ، فَكَأَنَّهُ يَرَى الْبَانِيَ وَهُوَ يَبْنِي مَا شَاهَدَهُ مِنَ الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ؛ لِأَنَّ الشَّوَاهِدَ وَالْأَدِلَّةَ تَبْطُلُ وَيَبْطُلُ حُكْمُهَا. فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ، فَإِنَّهُ قَدْ غَلِطَ فِيهِ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ أَسَاءُوا الظَّنَّ بِمَنْ طَوَى حُكْمَ الشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ، وَنَسَبُوهُمْ إِلَى مَا نَسَبُوهُمْ إِلَيْهِ، وَفَرِيقٌ رَأَوْا أَنَّ الشَّوَاهِدَ نَفْسُ

الْمَشْهُودِ، وَالدَّلِيلُ عَيْنُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ شَاهِدًا وَدَلِيلًا، وَفِي الِانْتِهَاءِ مَشْهُودًا وَمَدْلُولًا. قَوْلُهُ: " وَلَا تَضْرِبُ رِيَاحُ الرُّسُومِ مَوْجُودَهُمْ " شَبَّهَ الرُّسُومَ بِالرِّيَاحِ؛ لِأَنَّ مَعَانِيَ الصُّوَرِ الْخَلْقِيَّةِ تَمُرُّ عَلَى أَهْلِ الشُّهُودِ الضَّعِيفِ، فَتُحَرِّكُ بَوَاطِنَهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَسَطَهُمُ الْحَقُّ تَعَالَى سَالِمُونَ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: " فَهُمْ مُنْبَسِطُونَ فِي قَبْضَةِ الْقَبْضِ " أَيْ: هُمْ فِي حَالِ انْبِسَاطِهِمْ غَيْرُ مَحْجُوبِينَ عَنْ مَعَانِي الْقَبْضِ، بَلْ هُمْ مَبْسُوطُونَ بِقَبْضِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَتَنَافَى فِي حَقِّهِمُ الْبَسْطُ وَالْقَبْضُ، بَلْ قَبْضُهُمْ إِلَيْهِ فِي بَسْطِهِمْ، وَبَسْطُهُمْ بِهِ فِي قَبْضِهِمْ، وَجَعَلَ لِلْقَبْضِ قَبْضَةً تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ. قَالَ: وَطَائِفَةٌ بُسِطَتْ أَعْلَامًا عَلَى الطَّرِيقِ، وَأَئِمَّةً لِلْهُدَى، وَمَصَابِيحَ لِلسَّالِكِينَ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ أَعْلَى مِنَ الْفِرْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا شَارَكَتْهُمَا فِي دَرَجَتَيْهِمَا، وَاخْتَصَّتْ عَنْهُمَا بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ، فَاتَّصَفَتْ بِمَا اتَّصَفَتْ بِهِ الْأُولَى مِنَ الْأَعْمَالِ، وَاتَّصَفَتْ بِمَا اتَّصَفَتْ بِهِ الثَّانِيَةُ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَزَادَتْ عَلَيْهِمَا بِالنَّفْعِ لِلسَّالِكِينَ، وَالْهِدَايَةِ لِلْحَائِرِينَ، وَالْإِرْشَادِ لِلطَّالِبِينَ، فَاهْتَدَى بِهِمُ الْحَائِرُ، وَسَارَ بِهِمُ الْوَاقِفُ. وَاسْتَقَامَ بِهِمُ الْحَانِدُ، وَأَقْبَلَ بِهِمُ الْمُعْرِضُ، وَكَمُلَ بِهِمُ النَّاقِصُ، وَرَجَعَ بِهِمُ النَّاكِصُ، وَتَقَوَّى بِهِمُ الضَّعِيفُ، وَتَنَبَّهَ عَلَى الْمَقْصُودِ مَنْ هُوَ فِي الطَّرِيقِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ خُلَفَاءُ الرُّسُلِ حَقًّا، وَهُمْ أُولُو الْبَصَرِ وَالْيَقِينِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فَنَالُوا إِمَامَةَ الدِّينِ، بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ.

فصل السكر

[فَصْلُ السُّكْرِ] [حَدُّ السُّكْرِ] قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ السُّكْرِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ مُوسَى كَلِيمِهِ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] . وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ أَنَّ مُوسَى لَمَّا اسْتَقَرَّ فِي قَلْبِهِ وَرُوحِهِ، وَسَمِعِهِ وَبَصَرِهِ الِاسْتِلْذَاذُ بِكَلَامِ رَبِّهِ لَهُ، فَحَصَلَ لَهُ مِنْ سَمَاعِ ذَلِكَ الْكَلَامِ، وَطِيبِ ذَلِكَ الْخِطَابِ، وَلَذَّةِ ذَلِكَ التَّكْلِيمِ مَا يَجِلُّ وَيَعْظُمُ وَيَكْبُرُ أَنْ يُسَمَّى سُكْرًا، أَوْ يُشَبَّهَ بِالسُّكْرِ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَنْ طَلَبَ الرُّؤْيَةَ لَهُ سُبْحَانَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. قَالَ: السُّكْرُ فِي هَذَا الْبَابِ اسْمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى سُقُوطِ التَّمَالُكِ فِي الطَّرَبِ، وَهَذَا مِنْ مَقَامَاتِ الْمُحِبِّينَ خَاصَّةً، فَإِنَّ عُيُونَ الْفَنَاءِ لَا تَقْبَلُهُ، وَمَنَازِلَ الْعِلْمِ لَا تَبْلُغُهُ. قَوْلُهُ: " يُشَارُ بِهِ إِلَى سُقُوطِ التَّمَالُكِ " يَعْنِي: عَدَمَ الصَّبْرِ، تَقُولُ: مَا تَمَالَكْتُ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا؛ أَيْ: مَا قَدِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ عَنْهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ اسْمٌ لِقُوَّةِ الطَّرَبِ الَّذِي لَا يَدْفَعُهُ الصَّبْرُ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا الْعَارِفُونَ مِنَ السَّلَفِ بِالسُّكْرِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ بِئْسَ الِاصْطِلَاحُ؛ فَإِنَّ لَفْظَ

السُّكْرِ وَالْمُسْكِرِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَعَامَّةُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي السُّكْرِ الْمَذْمُومِ الَّذِي يَمْقُتُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] وَعَبَّرَ بِهِ سُبْحَانَهُ عَنِ الْهَوْلِ الشَّدِيدِ الَّذِي يَحْصُلُ لِلنَّاسِ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] وَيُقَالُ: فُلَانٌ أَسْكَرَهُ حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ فِي سُكْرِ الْهَوَى الْمَذْمُومِ، فَأَيْنَ أَطْلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْ رَسُولُهُ عَنِ الصَّحَابَةِ أَوْ أَئِمَّةُ الطَّرِيقِ الْمُتَقَدِّمُونَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الشَّرِيفِ الَّذِي هُوَ مَنْ أَشْرَفِ أَحْوَالِ مُحِبِّيهِ وَعَابِدِيهِ اسْمَ السُّكْرِ الْمُسْتَعْمَلَ فِي سُكْرِ الْخَمْرِ، وَسُكْرِ الْفَوَاحِشِ؟ كَمَا قَالَ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] فَوَصَفَ بِالسُّكْرِ أَرْبَابَ الْفَوَاحِشِ، وَأَرْبَابَ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ، فَلَا يَلِيقُ اسْتِعْمَالُهُ فِي أَشْرَفِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ، وَلَا سِيَّمَا فِي قِسْمِ الْحَقَائِقِ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى كَلِيمِ الرَّحْمَنِ اسْمُ السُّكْرِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَالِاصْطِلَاحَاتُ لَا مُشَاحَّةَ فِيهَا إِذَا لَمْ تَتَضَمَّنْ مَفْسَدَةً. وَأَيْضًا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الْحَالَ يَحْصُلُ فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ، وَلَا يُسَمَّى سُكْرًا، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْمَعْنَى الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِهَذَا الِاسْمِ، وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ تَسْمِيَتُهُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ اسْمُ الشَّرَابِ أَوْ تَسْمِيَةُ الْمَعَارِفِ بِالْخَمْرِ، وَالْوَارِدَاتِ بِالْكُؤُوسِ، وَاللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ بِالسَّاقِي، فَهَذِهِ الِاسْتِعَارَاتُ وَالتَّسْمِيَةُ هِيَ الَّتِي فَتَحَتْ هَذَا الْبَابَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الْمُحِبِّينَ خَاصَّةً " فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ حَقِيقَةِ السُّكْرِ وَسَبَبِهِ وَتَوَلُّدِهِ، وَهَلْ هُوَ مَقْدُورٌ أَوْ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَبَيَانُ انْقِسَامِهِ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ وَأَسْبَابِهِ وَمَحَلِّهِ، لِتَكُونَ الْفَائِدَةُ بِذَلِكَ أَتَمَّ.

فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: السُّكْرُ لَذَّةٌ وَنَشْوَةٌ يَغِيبُ مَعَهَا الْعَقْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّمْيِيزُ، فَلَا يَعْلَمُ صَاحِبُهُ مَا يَقُولُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فَجَعَلَ الْغَايَةَ الَّتِي يَزُولُ بِهَا حُكْمُ السُّكْرِ أَنْ يَعْلَمَ مَا يَقُولُ، فَإِذَا عَلِمَ مَا يَقُولُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ السُّكْرِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: السَّكْرَانُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ثَوْبَهُ مِنْ ثَوْبِ غَيْرِهِ، وَنَعْلَهُ مِنْ نَعْلِ غَيْرِهِ، وَيُذْكَرُ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: إِذَا اخْتَلَطَ كَلَامُهُ الْمَنْظُومُ، وَأَفْشَى سِرَّهُ الْمَكْتُومَ. فَالسُّكْرُ يَجْمَعُ مَعْنَيَيْنِ: وُجُودُ لَذَّةٍ، وَعَدَمُ تَمْيِيزٍ، وَقَاصِدُ السُّكْرِ قَدْ يَقْصِدُهُمَا جَمِيعًا، وَقَدْ يَقْصِدُ أَحَدَهُمَا، فَإِنَّ النَّفْسَ لَهَا هَوًى وَشَهَوَاتٌ تَلْتَذُّ بِإِدْرَاكِهَا، وَالْعِلْمُ بِمَا فِي تِلْكَ اللَّذَّاتِ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ يَمْنَعُهَا مِنْ تَنَاوُلِهَا، وَالْعَقْلُ يَأْمُرُهَا بِأَنْ لَا تَفْعَلَ، فَإِذَا زَالَ الْعِلْمُ الْكَاشِفُ الْمُمَيِّزُ وَالْعَقْلُ الْآمِرُ النَّاهِي انْبَسَطَتِ النَّفْسُ فِي هَوَاهَا، وَصَادَفَتْ مَجَالًا وَاسِعًا. وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ السُّكْرَ لِشَيْئَيْنِ، ذَكَرَهُمَا فِي كِتَابِهِ، وَهُمَا إِيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حُصُولَ الْمَفْسَدَةِ النَّاشِئَةِ مِنَ النُّفُوسِ بِوَاسِطَةِ زَوَالِ الْعَقْلِ، وَانْتِفَاءِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْعَقْلِ، وَإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مِنَ الثَّانِي. وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ السُّكْرِ غَيْرَ تَنَاوُلِ الْمُسْكِرِ: إِمَّا أَلَمٌ شَدِيدٌ يَغِيبُ بِهِ الْعَقْلُ، حَتَّى يَكُونَ كَالسَّكْرَانِ، وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ مَخُوفٌ عَظِيمٌ هَجَمَ عَلَيْهِ وَهْلَةً وَاحِدَةً حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُ مَنْ هَجَمَ عَلَيْهِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] فَهُمْ سُكَارَى مِنَ الدَّهَشِ وَالْخَوْفِ، وَلَيْسُوا بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ، فَسُكْرُهُمْ سُكْرُ خَوْفٍ وَدَهَشٍ، لَا سُكْرُ لَذَّةٍ وَطَرَبٍ. وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ قُوَّةُ الْفَرَحِ بِإِدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ، بِحَيْثُ يَخْتَلِطُ كَلَامُهُ، وَتَتَغَيَّرُ أَفْعَالُهُ، بِحَيْثُ يَزُولُ عَقْلُهُ، وَيُعَرْبِدُ أَعْظَمَ مِنْ عَرْبَدَةِ شَارِبِ الْخَمْرِ، وَرُبَّمَا قَتَلَهُ سُكْرُ هَذَا الْفَرَحِ لِسَبَبٍ طَبِيعِيٍّ، وَهُوَ انْبِسَاطُ دَمِ الْقَلْبِ وَهْلَةً وَاحِدَةً انْبِسَاطًا غَيْرَ مُعْتَادٍ، وَالدَّمُ حَامِلُ الْحَارِّ الْغَرِيزِيِّ، فَيَبْرُدُ الْقَلْبُ بِسَبَبِ انْبِسَاطِ الدَّمِ عَنْهُ، فَيَحْدُثُ الْمَوْتُ، وَمِنْ هَذَا

قَوْلُ سَكْرَانِ الْفَرَحِ بِوَجْدِ رَاحِلَتِهِ فِي الْمَفَازَةِ، بَعْدَ أَنِ اسْتَشْعَرَ الْمَوْتَ " اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ " أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ، وَسَكْرَةُ الْفَرَحِ فَوْقَ سَكْرَةِ الشَّرَابِ، فَصَوِّرْ فِي نَفْسِكَ حَالَ فَقِيرٍ مَعْدُومٍ، عَاشِقٍ لِلدُّنْيَا أَشَدَّ الْعِشْقِ، ظَفِرَ بِكَنْزٍ عَظِيمٍ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، كَيْفَ تَكُونُ سَكْرَتُهُ؟ أَوْ مَنْ غَابَ عَنْهُ غُلَامُهُ بِمَالٍ لَهُ عَظِيمٍ مُدَّةَ سِنِينَ، حَتَّى أَضَرَّ بِهِ الْعَدَمُ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارٍ لَهُ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَقَدْ كَسَبَ أَضْعَافَهُ؟ وَقَدْ يُوجِبُهُ غَضَبٌ شَدِيدٌ، يَحُولُ بَيْنَ الْغَضْبَانِ وَبَيْنَ تَمْيِيزِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ سُكْرُ الْغَضَبِ أَقْوَى مِنْ سُكْرِ الطَّرَبِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَقْضِ الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» وَلَا يَسْتَرِيبُ مَنْ شَمَّ رَائِحَةَ الْفِقْهِ أَنَّ الْغَضَبَ إِذَا وَصَلَ بِصَاحِبِهِ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَطَلَّقَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الْإِغْلَاقَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» أَنَّهُ الْغَضَبُ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَظُنُّهُ الْغَضَبَ، وَالشَّافِعِيُّ سَمَّى نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ نَذْرَ الْغَلْقِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَضْبَانَ قَدِ انْغَلَقَ عَلَيْهِ بَابُ الْقَصْدِ وَالتَّمْيِيزِ بِشِدَّةِ غَضَبِهِ، وَإِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ غَلْقًا فَالْغَضَبُ الشَّدِيدُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ غَلْقًا، وَكَذَلِكَ السُّكْرُ غَلْقٌ، وَالْجُنُونُ غَلْقٌ. فَالْغَلْقُ وَالْإِغْلَاقُ أَيْضًا كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَنِ انْغَلَقَ عَلَيْهِ بَابُ الْقَصْدِ وَالتَّمْيِيزِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ. وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى إِغَاثَةَ اللَّهْفَانِ فِي طَلَاقِ الْغَضْبَانِ.

فصل أسباب السكر

[فَصْلٌ أَسْبَابُ السُّكْرِ] فَصْلٌ وَمِنْ أَسْبَابِ السُّكْرِ: حُبُّ الصُّوَرِ وَغَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُبَاحَةً أَوْ مُحَرَّمَةً، فَإِنَّ الْحُبَّ إِذَا اسْتَحْكَمَ وَقَوِيَ أَسْكَرَ صَاحِبَهُ، وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي أَشْعَارِهِمْ وَكَلَامِهِمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: سُكْرَانِ: سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ ... وَمَتَى إِفَاقَةُ مَنْ بِهِ سُكْرَانِ وَقَالَ آخَرُ مِنْ أَبْيَاتٍ: تَسْقِيكَ مِنْ عَيْنِهَا خَمْرًا وَمِنْ يَدِهَا ... خَمْرًا فَمَا لَكَ مِنْ سُكْرَيْنِ مِنْ بُدِّ لِي سَكْرَتَانِ وَلِلنَّدْمَانِ وَاحِدَةٌ ... شَيْءٌ خُصِصْتُ بِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ وَحْدِي وَفِي الْمُسْنَدِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» أَيْ: يُعْمِي عَنْ رُؤْيَةِ مَسَاوِئِ الْمَحْبُوبِ، وَيُصِمُّ عَنْ سَمَاعِ الْعَذْلِ وَاللَّوْمِ فِيهِ، وَإِذَا تَمَكَّنَ وَاسْتَمْكَنَ أَعْمَى قَلْبَهُ وَأَصَمَّهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ السُّكْرِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى سُكْرِ الْمَحَبَّةِ فَرْحَةُ الْوِصَالِ قَوِيَ السُّكْرُ وَتَضَاعَفَ، فَيَخْرُجُ صَاحِبُهُ عَنْ حُكْمِ الْعَقْلِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَأَكْثَرُ مَا نَرَى مِنْ عَرْبَدَةِ الْعَاشِقِ وَتَخْلِيطِهِ هُوَ مِنْ هَذَا السُّكْرِ، وَلَكِنْ لَمَّا أَلِفَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَاشْتَرَكُوا فِيهِ لَمْ يُنْكِرُوهُ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُهُ مَنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهُ، فَإِذَا أَفَاقُوا بَيْنَ الْأَمْوَاتِ عَلِمُوا أَنَّهُمْ حِينَئِذٍ كَانُوا فِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ. فَصْلٌ وَمِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ السُّكْرِ، الْمُوجِبَةِ لَهُ سَمَاعُ الْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ مِنْ صُورَةٍ مُسْتَحْسَنَةٍ، وَصَادَفَتْ مَحَلًّا قَابِلًا، فَلَا تَسْأَلُ عَنْ سُكْرِ السَّامِعِ، وَهَذَا السُّكْرُ يَحْدُثُ عِنْدَهَا مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا تُوجِبُ لَذَّةً قَوِيَّةً يَنْغَمِرُ مَعَهَا الْعَقْلُ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا تُحَرِّكُ النَّفْسَ إِلَى نَحْوِ مَحْبُوبِهَا وَجِهَتِهِ، كَائِنًا مَنْ كَانَ، فَيَحْصُلُ بِتِلْكَ الْحَرَكَةِ وَالشَّوْقِ وَالطَّلَبِ مَعَ التَّخَيُّلِ لِلْمَحْبُوبِ، وَإِحْضَارِهِ فِي النَّفْسِ، وَإِدْنَاءِ صُورَتِهِ إِلَى الْقَلْبِ، وَاسْتِيلَائِهَا عَلَى الْفِكْرِ لَذَّةٌ عَظِيمَةٌ تَقْهَرُ الْعَقْلَ، فَتَجْتَمِعُ لَذَّةُ الْأَلْحَانِ،

وَلَذَّةُ الْأَشْجَانِ، فَتَسْكَرُ الرُّوحُ سُكْرًا عَجِيبًا، أَقْوَى وَأَلَذَّ مِنْ سُكْرِ الشَّرَابِ، وَتَحْصُلُ بِهِ نَشْوَةٌ أَلَذُّ مِنْ نَشْوَةِ الشَّرَابِ. وَمِنْ هَاهُنَا اسْتَشْهَدَ الشَّيْخُ عَلَى السُّكْرِ بِقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِدَاوُدَ: " مَجِّدْنِي بِذَلِكَ الصَّوْتِ الَّذِي كُنْتَ تُمَجِّدُنِي بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، كَيْفَ؟ وَقَدْ أَذْهَبَتْهُ الْمَعْصِيَةُ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَرُدُّهُ عَلَيْكَ، فَيَقُومُ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ فَيُمَجِّدُهُ، فَإِذَا سَمِعَ أَهْلُ الْجَنَّةِ صَوْتَهُ اسْتَفْرَغَ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ " وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَخِطَابَهُ لَهُمْ مِنْهُ إِلَيْهِمْ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ أَثَرًا فِي ذَلِكَ: كَأَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ إِذَا سَمِعُوهُ مِنَ الرَّحْمَنِ جَلَّ جَلَالُهُ. فَإِذَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ: رُؤْيَتُهُمْ وَجْهَهُ الْكَرِيمَ الَّذِي تُغْنِيهِمْ لَذَّةُ رُؤْيَتِهِ عَنِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا فَأَمَلًا لَا تُدْرِكُهُ الْعِبَارَةُ، وَلَا قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ، فَهَذَا صَوْتٌ لَا يَلِجُ كُلَّ أُذُنٍ، وَصَيِّبٌ لَا تَحْيَا بِهِ كُلُّ أَرْضٍ، وَعَيْنٌ لَا يَشْرَبُ مِنْهَا كُلُّ وَارِدٍ، وَسَمَاعٌ لَا يَطْرُبُ عَلَيْهِ كُلُّ سَامِعٍ، وَمَائِدَةٌ لَا يَجْلِسُ عَلَيْهَا طُفَيْلِيٌّ. فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، فَنَقُولُ: السُّكْرُ سَبَبُهُ اللَّذَّةُ الْقَاهِرَةُ لِلْعَقْلِ، وَسَبَبُ اللَّذَّةِ إِدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ قَوِيَّةً، وَإِدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ قَوِيًّا، كَانَتِ اللَّذَّةُ بِإِدْرَاكِهِ تَابِعَةً لِقُوَّةِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِذَا كَانَ الْعَقْلُ قَوِيًّا مُسْتَحْكَمًا لَمْ يَتَغَيَّرْ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا حَدَثَ السُّكْرُ الْمُخْرِجُ لَهُ عَنْ حُكْمِهِ، فَقَدْ يُضَافُ إِلَى قُوَّةِ الْوَارِدِ، وَقَدْ يُضَافُ إِلَى ضَعْفِ الْمَحَلِّ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْأَمْرَانِ. قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَعُيُونُ الْفَنَاءِ لَا تَقْبَلُهُ، وَمَنَازِلُ الْعِلْمِ لَا تَبْلُغُهُ. لَمَّا كَانَ الْفَنَاءُ يُفْنِي مِنَ الْعَبْدِ كُلَّ مَا سِوَى مَشْهُودِهِ، وَيُفْنِي مَعَانِيَ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَ السُّكْرُ كَمَا حَدَّهُ بِأَنَّهُ سُقُوطُ التَّمَالُكِ فِي الطَّرَبِ كَانَ فِي السَّكْرَانِ بَقِيَّةُ طَرَبٍ بِهَا، وَأَحَسَّ بِهَا بِطَرَبِهِ، بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَالَكْ فِي الطَّرَبِ، وَالْفَنَاءُ يَأْبَى ذَلِكَ، فَحَقَائِقُهُ لَا تَقْبَلُ السُّكْرَ،

فصل علامات السكر

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْفَنَاءَ اسْتِغْرَاقٌ مَحْضٌ، وَالسُّكْرَ مَعَهُ لَذَّةٌ وَطَرَبٌ لَا يَتَمَالَكُ صَاحِبُهَا، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْنَى عَنْهَا. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ السُّكْرَ لَيْسَ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ الْوَاصِلِينَ؛ لِأَنَّ أَعْلَى مَقَامَاتِهِمْ هُوَ الْفَنَاءُ عِنْدَهُ، فَمَقَامُهُمْ لَا يَقْبَلُ السُّكْرَ. قَوْلُهُ: " وَمَنَازِلُ الْعِلْمِ لَا تَبْلُغُهُ " صَحِيحٌ، فَإِنَّ عِلْمَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ وَالْعِشْقِ شَيْءٌ وَحَالَ الْمَحَبَّةِ شَيْءٌ آخَرُ، وَالسُّكْرُ لَا يَنْشَأُ عَنْ عِلْمِ الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ عَنْ حَالِهَا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: السُّكْرُ صِفَةٌ وَحَالَةُ نَقْصٍ لِمَنْ مَقَامُهُ فَوْقَ مَقَامِ الْعِلْمِ، وَدُونَ مَقَامِ الشُّهُودِ وَالْفَنَاءِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمَحَبَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ آخِرُ مَنْزِلَةٍ يَلْتَقِي فِيهَا مُقَدِّمَةُ الْعَامَّةِ وَهُمْ أَهْلُ طَوْرِ الْعِلْمِ وَسَاقَةُ الْخَاصَّةِ وَهُمْ أَهْلُ طَوْرِ الشُّهُودِ وَالْفِنَاءِ فَالْبَرْزَخُ الْحَاصِلُ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ: هُوَ مَقَامُ الْمَحَبَّةِ، فَاخْتُصَّ بِهِ السُّكْرُ. [فَصْلٌ عَلَامَاتُ السُّكْرِ] فَصْلٌ قَالَ: وَلِلسُّكْرِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ: الضِّيقُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْخَبَرِ، وَالتَّعْظِيمُ قَائِمٌ. وَاقْتِحَامُ لُجَّةِ الشَّوْقِ، وَالتَّمَكُّنُ دَائِمٌ. وَالْغَرَقُ فِي بَحْرِ السُّرُورِ، وَالصَّبْرُ هَائِمٌ. يُرِيدُ: أَنَّ الْمُحِبَّ تَشْغَلُهُ شِدَّةُ وَجْدِهِ بِالْمَحْبُوبِ، وَحُضُورُ قَلْبِهِ مَعَهُ، وَذَوَبَانُ جَوَارِحِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحُبِّ عَنْ سَمَاعِ الْخَبَرِ عَنْهُ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّ الْمُحِبَّ الصَّادِقَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ الْخَبَرُ عَنْ مَحْبُوبِهِ وَذِكْرِهِ، كَمَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُنَا لَمَا شَبِعَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: كَيْفَ يَشْبَعُونَ مِنْ كَلَامِ مَحْبُوبِهِمْ، وَهُوَ غَايَةُ مَطْلُوبِهِمْ؟ وَالَّذِي يُرِيدُهُ الشَّيْخُ وَأَمْثَالُهُ بِهَذَا: أَنَّ الْمُحِبَّ الصَّادِقَ يَمْتَلِئُ قَلْبُهُ بِالْمَحَبَّةِ، فَتَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةُ عَلَيْهِ، فَتَحْمِلُهُ غَلَبَتُهَا وَتَمَكُّنُهَا عَلَى أَنْ لَا يَغْفَلَ عَنْ مَحْبُوبِهِ، وَلَا يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ بِغَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ، فَيَسْمَعُ مِنَ الْفَارِغِينَ مَا وَرَدَ فِي حَقِّ الْمُحِبِّينَ، وَيَسْمَعُ مِنْهُمْ أَوْصَافَ حَبِيبِهِ وَالْخَبَرَ عَنْهُ، فَلَا يَكَادُ يَصْبِرُ عَلَى أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَبَدًا، لِضِيقِ قَلْبِهِ عَنْ سَمَاعِهِ مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ، وَإِلَّا فَلَوْ سَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ مِمَّنْ هُوَ شَرِيكُهُ فِي شَجْوِهِ وَأَنِيسُهُ فِي طَرِيقِهِ، وَصَاحِبُهُ فِي سَفَرِهِ لَمَا ضَاقَ عَنْهُ، بَلْ لَاتَّسَعَ لَهُ غَايَةَ الِاتِّسَاعِ فَهَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ ثَانٍ وَهُوَ: أَنَّ السَّكْرَانَ بِالْمَحَبَّةِ قَدِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِمُشَاهَدَةِ الْمَحْبُوبِ،

فَاجْتَمَعَتْ قُوَى قَلْبِهِ وَهَمِّهِ وَإِرَادَتِهِ عَلَيْهِ، وَمَعَانِي الْخَبَرِ فِيهَا كَثْرَةٌ، وَانْتِقَالٌ مِنْ مَعْنًى إِلَى مَعْنًى، فَقَلْبُهُ يَضِيقُ فِي هَذِهِ الْحَالِ عَنْهَا حَتَّى إِذَا صَحَا اتَّسَعَ قَلْبُهُ لَهَا. قَوْلُهُ: " وَالتَّعْظِيمُ قَائِمٌ " أَيْ: ضِيقُ قَلْبِهِ عَنِ اشْتِغَالِهِ بِالْخَبَرِ لَيْسَ اطِّرَاحًا لَهُ وَرَغْبَةً عَنْهُ، وَكَيْفَ؟ وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ مَحْبُوبِهِ وَارِدًا مِنْهُ؟ بَلْ لِضِيقِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِهِ، وَتَعْظِيمِهِ قَائِمٌ فِي قَلْبِهِ، فَهُوَ مَشْغُولٌ بِوَجْدِهِ وَحَالِهِ عَمَّا يُفَرِّقُهُ عَنْهُ، وَهَذَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ الْمُشْتَغَلُ بِهِ أَحَبَّ إِلَى حَبِيبِهِ مِنَ الْمُشْتَغَلِ عَنْهُ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَا أَعْرَضَ عَنْهُ أَحَبَّ إِلَى الْحَبِيبِ مِمَّا اشْتَغَلَ بِهِ فَشَرْعُ الْمَحَبَّةِ يُوجِبُ عَلَيْهِ إِيثَارَ أَعْظَمِ الْمَحْبُوبَيْنِ إِلَى حَبِيبِهِ، وَإِلَّا كَانَ مَعَ نَفْسِهِ وَوَجْدِهِ وَلَذَّتِهِ. قَوْلُهُ: " وَاقْتِحَامُ لُجَّةِ الشَّوْقِ وَالتَّمَكُّنُ دَائِمٌ " اقْتِحَامُ لُجَّةِ الشَّوْقِ: هُوَ رُكُوبُ بَحْرِهِ، وَتَوَسُّطُهُ، لَا الدُّخُولُ فِي حَاشِيَتِهِ وَطَرَفِهِ، وَالتَّمَكُّنُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ: هُوَ لُزُومُ أَحْكَامِ الْعِلْمِ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَلُزُومُ أَحْكَامِ الْوَرَعِ، وَالْقِيَامِ بِالْأَوْرَادِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلُزُومُ ذَلِكَ وَدَوَامُهُ عَلَامَةُ صِحَّةِ الشَّوْقِ. قَوْلُهُ: " وَالْغَرَقُ فِي بَحْرِ السُّرُورِ، وَالصَّبْرُ هَائِمٌ " أَيْ: يَكُونُ الْمُحِبُّ غَرِيقًا فِي بَحْرِ السُّرُورِ، وَلَا يُفَارِقُهُ السُّرُورُ، حَتَّى كَأَنَّهُ بَحْرٌ قَدْ غَرِقَ فِيهِ، فَكَمَا أَنَّ الْغَرِيقَ لَا يُفَارِقُهُ الْمَاءُ، كَذَلِكَ الْمُحِبُّ لَا يُفَارِقُهُ السُّرُورُ، وَمَنْ ذَاقَ مَقَامَ الْمَحَبَّةِ عَرَفَ صِحَّةَ مَا يَقُولُهُ الشَّيْخُ، فَإِنَّ نَعِيمَ الْمَحَبَّةِ فِي الدُّنْيَا رَقِيقُهُ وَلَطِيفُهُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ هُوَ جَنَّةُ الدُّنْيَا، فَمَا طَابَتِ الدُّنْيَا إِلَّا بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَلَا الْجَنَّةُ إِلَّا بِرُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ، فَنَعِيمُ الْمُحِبِّ دَائِمٌ، وَإِنْ مُزِجَ بِالْآلَامِ أَحْيَانًا، فَلَوْ عَرَفَ الْمَشْغُولُونَ بِغَيْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ مَا فِيهِ أَهْلُ مَحَبَّتِهِ، وَذِكْرِهِ وَمَعْرِفَتِهِ مِنَ النَّعِيمِ لَتَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ حَسَرَاتٍ، وَلَعَلِمُوا أَنَّ الَّذِي حَصَّلُوهُ لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى مَا ضَيَّعُوهُ وَحُرِمُوهُ. كَمَا قِيلَ: وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي نَعِيمِهَا ... وَأَنْتَ وَحِيدٌ مُفْرَدٌ غَيْرُ عَاشِقِ وَقَالَ الْآخَرُ: وَمَا النَّاسُ إِلَّا الْعَاشِقُونَ ذُوُو الْهَوَى ... وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُحِبُّ وَيَعْشَقُ وَقَالَ الْآخَرُ: هَلِ الْعَيْشُ إِلَّا أَنْ تَرُوحَ وَتَغْتَدِي ... وَأَنْتَ بِكَأْسِ الْعِشْقِ فِي النَّاسِ نَشْوَانُ

وَقَالَ الْآخَرُ: وَمَا تَلِفَتْ إِلَّا مِنَ الْعِشْقِ مُهْجَتِي ... وَهَلْ طَابَ عَيْشٌ لِامْرِئٍ غَيْرِ عَاشِقِ وَقَالَ الْآخَرُ: وَمَا سَرَّنِي أَنِّي خَلِيٌّ مِنَ الْهَوَى ... وَلَوْ أَنَّ لِي مَا بَيْنَ شَرْقٍ وَمَغْرِبِ وَقَالَ الْآخَرُ: وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ صَبَابَةٍ ... وَلَا فِي نَعِيمٍ لَيْسَ فِيهِ حَبِيبُ وَقَالَ الْآخَرُ: وَمَا طَابَتِ الدُّنْيَا بِغَيْرِ مَحَبَّةٍ ... وَأَيُّ نَعِيمٍ لِامْرِئٍ غَيْرِ عَاشِقِ وَقَالَ الْآخَرُ: اسْكُنْ إِلَى سَكَنٍ تَلَذُّ بِحُبِّهِ ... ذَهَبَ الزَّمَانُ وَأَنْتَ مُنْفَرِدٌ بِهِ وَقَالَ الْآخَرُ: إِذَا لَمْ تَذُقْ فِي هَذِهِ الدَّارِ صَبْوَةً ... فَمَوْتُكَ فِيهَا وَالْحَيَاةُ سَوَاءُ وَقَالَ الْآخَرُ: وَمَا ذَاقَ طَعْمَ الْعَيْشِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ... حَبِيبٌ إِلَيْهِ يَطْمَئِنُّ وَيَسْكُنُ وَقَالَ الْآخَرُ: وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا إِذَا أَنْتَ لَمْ تَزُرْ ... حَبِيبًا وَلَا وَافَى إِلَيْكَ حَبِيبُ قَالَ الْآخَرُ: يَزُورُ فَتَنْجَلِي عَنِّي هِمُومٌ ... لِأَنَّ جِلَاءَ حُزْنِي فِي يَدَيْهِ وَيَمْضِي بِالْمَسَرَّةِ حِينَ يَمْضِي ... لِأَنَّ حَوَالَتِي فِيهَا عَلَيْهِ قَالَ أَبُو الْمِنْجَابِ: رَأَيْتُ فِي الطَّوَافِ فَتًى نَحِيفَ الْجِسْمِ، بَيْنَ الضَّعْفِ، يَلُوذُ

وَيَتَعَوَّذُ، وَيُنْشِدُ: وَدِدْتُ بِأَنَّ الْحُبَّ يُجْمَعُ كُلَّهُ ... فَيُقْذَفُ فِي قَلْبِي وَيَنْغَلِقُ الصَّدْرُ وَلَا يَنْقَضِي مَا فِي فُؤَادِي مِنَ الْهَوَى ... وَمِنْ فَرَحِي بِالْحُبِّ أَوْ يَنْقَضِي الْعُمْرُ وَالْأَخْبَارُ فِي الْمُحِبِّينَ وَأَشْعَارِهِمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، هَذَا وَكُلٌّ مِنْهُمْ مُعَذَّبٌ بِمَحْبُوبِهِ سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَلَوْ ظَفِرَ بِوِصَالِهِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ قَصَرَ حُبَّهُ عَلَى الْحَبِيبِ الْأَوَّلِ؟ وَكُلَّمَا دَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى مَحَبَّةِ غَيْرِهِ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى ... مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: " وَالصَّبْرُ هَائِمٌ " أَيْ: يَكُونُ غَرِيقًا فِي سُرُورِهِ بِالْمَحَبَّةِ وَصَبْرُهُ مَفْقُودٌ، وَ " الْهَيَمَانُ " هُوَ التَّشَتُّتُ وَالْحَيْرَةُ. قَوْلُهُ: وَمَا سِوَى هَذَا فَحَيْرَةٌ تُنْحَلُ اسْمَ السُّكْرِ جَهْلًا، أَوْ هَيَمَانًا يُسَمَّى بِاسْمِهِ جُورًا، يَقُولُ: وَمَا سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْعَلَامَاتِ الثَّلَاثِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَحَبَّةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى سُكْرًا، مِثْلَ الْحَيَاةِ فَإِنَّهَا تُعْطَى اسْمَ السُّكْرِ عِنْدَ الْجُهَّالِ، وَمِثْلَ الْهَيَمَانِ فَإِنَّهُ يُسَمِّيهِ مَنْ لَا يَعْرِفُ السُّكْرَ سُكْرًا، وَذَلِكَ جَوْرٌ وَخُرُوجٌ عَنِ التَّحْقِيقِ، وَعُدُولٌ عَنِ الصَّوَابِ. قَوْلُهُ: وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَكُلُّهُ يُنَاقِضُ الْبَصَائِرَ، كَسُكْرِ الْحِرْصِ، وَسُكْرِ الْجَهْلِ، وَسُكْرِ الشَّهْوَةِ؛ أَيْ: هَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنَ السُّكْرِ أَنْوَاعٌ مَذْمُومَةٌ، تُنَاقِضُ الْبَصَائِرَ، فَسُكْرُ الْحِرْصِ يَنْشَأُ مِنْ شِدَّةِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَعَدَمِ الزُّهْدِ فِيهَا، وَالْحَرِيصُ عَلَيْهَا سَكْرَانٌ فِي صُورَةِ صَاحٍ، وَكَذَلِكَ سُكْرُ الْجَهْلِ؛ فَإِنَّ الْجَهْلَ جَهْلَانِ: جَهْلُ الْعِلْمِ، وَجَهْلُ الْعَمَلِ، فَإِذَا تَحَكَّمَ الْجَهْلَانِ فَلَا تَسْأَلْ عَنْ سُكْرِ صَاحِبِهِمَا، وَكَذَلِكَ سُكْرُ الشَّهْوَةِ، فَإِنَّ لَهَا سُكْرًا أَشَدَّ مِنْ سُكْرِ الْخَمْرِ، وَكَذَلِكَ سُكْرُ الْغَضَبِ، وَسُكْرُ الْفَرَحِ، وَكَذَلِكَ سُكْرُ السُّلْطَانِ وَالرِّئَاسَةِ، فَإِنَّ لِلرِّئَاسَةِ سُكْرًا وَعَرْبَدَةً لَا تَخْفَى، وَكَذَلِكَ الشَّبَابُ لَهُ سَكْرَةٌ قَوِيَّةٌ، وَهِيَ شُعْبَةٌ مِنَ الْجُنُونِ، وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ، لَهُ سَكْرَةٌ تَحُولُ بَيْنَ الْخَائِفِ وَبَيْنَ حُكْمِ الْعَقْلِ.

فصل الصحو

سَكَرَاتٌ خَمْسٌ إِذَا مُنِيَ الْمَرْ ... ءُ بِهَا صَارَ ضِحْكَةً لِلزَّمَانِ سَكْرَةُ الْحِرْصِ وَالْحَدَاثَةِ وَالْعِشْ ... قِ وَسُكْرِ الشَّرَابِ وَالسُّلْطَانِ وَآخِرُ ذَلِكَ سَكْرَةُ الْمَوْتِ الَّتِي تَأْتِي بِالْحَقِّ {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 30] . [فَصْلُ الصَّحْوِ] قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ الصَّحْوِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] . وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ صَعِقَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَأَخَذَهُمْ شِبْهُ الْغَشْيِ مِنْ تَكَلُّمِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، فَإِذَا كَشَفَ الْفَزَعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَخَلَّى عَنْهَا، وَأَفَاقُوا مِنْ ذَلِكَ الْغَشْيِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيَسْتَخْبِرُ كُلُّ أَهْلِ سَمَاءٍ مَنْ يَلِيهِمْ، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَسْأَلُونَ جِبْرِيلَ: يَا جِبْرِيلُ، مَاذَا قَالَ رَبُّنَا؟ فَيَقُولُ: قَالَ الْحَقَّ. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. قَالَ: الصَّحْوُ: فَوْقَ السُّكْرِ، وَهُوَ يُنَاسِبُ مَقَامَ الْبَسْطِ، وَالصَّحْوُ: مَقَامٌ صَاعِدٌ عَنْ الِانْتِظَارِ، مُغْنٍ عَنِ الطَّلَبِ، طَاهِرٌ مِنَ الْحَرَجِ، فَإِنَّ السُّكْرَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِّ، وَالصَّحْوَ إِنَّمَا هُوَ بِالْحَقِّ، كُلُّ مَا كَانَ فِي عَيْنِ الْحَقِّ لَمْ يَخْلُ مِنْ حَيْرَةٍ، لَا حَيْرَةَ الشُّبْهَةِ، بَلْ حَيْرَةَ مُشَاهَدَةِ نُورِ الْعِزَّةِ، وَمَا كَانَ بِالْحَقِّ لَمْ يَخْلُ مِنْ صِحَّةٍ. وَلَمْ تَحِفْ عَلَيْهِ نَقِيصَةٌ، وَلَمْ تَتَعَاوَرْهُ عِلَّةٌ. وَالصَّحْوُ: مِنْ مَنَازِلِ الْحَيَاةِ، وَأَوْدِيَةِ الْجَمْعِ، وَلَوَائِحِ الْوُجُودِ. قَوْلُهُ: " الصَّحْوُ فَوْقَ السُّكْرِ " يَعْنِي: أَنَّ السُّكْرَ يَكُونُ فِي الِانْفِصَالِ. وَالصَّحْوُ فِي

الِاتِّصَالِ، وَأَيْضًا فَالسُّكْرُ فَنَاءٌ، وَالصَّحْوُ بَقَاءٌ. وَأَيْضًا فَالسُّكْرُ غَيْبَةٌ وَالصَّحْوُ حُضُورٌ، وَأَيْضًا فَالسُّكْرُ غَلَبَةٌ وَالصَّحْوُ تَمَكُّنٌ، وَأَيْضًا فَالسُّكْرُ كَالنَّوْمِ وَالصَّحْوُ كَالْيَقَظَةِ. وَبَعْضُهُمْ يُفَضِّلُ مَقَامَ السُّكْرِ عَلَى مَقَامِ الصَّحْوِ وَيَقُولُ: لَوْلَا الْبَقِيَّةُ الَّتِي بَقِيَتْ فِيهِ لَمَا صَحَا، وَيُنْشِدُ مُتَمَثِّلًا: وَمَهْمَا بَقَى لِلصَّحْوِ فِيكَ بَقِيَّةٌ ... يَجِدْ نَحْوَكَ اللَّاحِي سَبِيلًا إِلَى الْعَذْلِ وَهَذَا غَلَطٌ مَحْضٌ، لِمَا ذَكَرْنَا. نَعَمِ السُّكْرُ فَوْقَ الصَّحْوِ الْفَارِغِ، وَالسَّكْرَانُ بِالْمَحَبَّةِ خَيْرٌ مِنَ الصَّاحِي مِنْهَا، وَالصَّاحِي بِهَا خَيْرٌ مِنَ السَّكْرَانِ فِيهَا. قَوْلُهُ: " وَهُوَ يُنَاسِبُ مَقَامَ الْبَسْطِ " وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا؛ أَنَّ الِانْبِسَاطَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الصَّحْوِ، وَإِلَّا فَالسُّكْرُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْبِسَاطَ. قَوْلُهُ: " وَالصَّحْوُ مَقَامٌ صَاعِدٌ عَنْ الِانْتِظَارِ " يَعْنِي: انْتِظَارَ الْحُضُورِ فَإِنَّ الصَّاحِيَ مُتَمَكِّنٌ فِي الْحُضُورِ؛ وَلِذَلِكَ أَشْبَهَ مَقَامُهُ مَقَامَ الْبَسْطِ، فَالصَّحْوُ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَصْحَبَهُ الِانْتِظَارُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ قَدِ اتَّصَلَ، فَهُوَ لَا يَنْتَظِرُ الِاتِّصَالَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: مُغْنٍ عَنِ الطَّلَبِ، فَإِنَّ الطَّالِبَ إِنَّمَا يَطْلُبُ الْوُصُولَ إِلَى مَطْلُوبِهِ، وَهَذَا قَدِ اتَّصَلَ، فَصَحْوُهُ مُغْنٍ لَهُ عَنْ طَلَبِهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّ الطَّلَبَ لَا يُفَارِقُ الْعَبْدَ مَا دَامَتِ الْحَيَاةُ تَصْحَبُهُ، نَعَمْ؛ صَحْوُهُ مُغْنٍ عَنْ طَلَبِ حَظٍّ مِنْ حُظُوظِهِ، وَأَمَّا طَلَبُ مَحَابِّ مَحْبُوبِهِ وَمَرَاضِيهِ فَهُوَ أَكْمَلُ مَا يَكُونُ لَهَا طَلَبًا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ: أَنَّهُ مُغْنٍ عَنِ التَّوَجُّهِ وَالسُّلُوكِ، فَإِنَّهُ وَاصِلٌ، وَالسَّالِكُ لَا يَزَالُ فِي الطَّرِيقِ. قُلْتُ: الْعَبْدُ لَا يَزَالُ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى يَلْحَقَ اللَّهَ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] وَهُوَ الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ كُلِّهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ. وَتَقْسِيمُ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ إِلَى طَالِبٍ وَسَالِكٍ وَوَاصِلٍ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارٍ، فَاسِدٌ

بِاعْتِبَارٍ، فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا السَّيْرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ السَّيْرِ إِلَى بَيْتِهِ، فَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: طَالِبٌ لِلسَّفَرِ، وَمُسَافِرٌ فِي الطَّرِيقِ، وَوَاصِلٌ إِلَى الْبَيْتِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ، وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِهِ. فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَمِنْهُ الِاسْتِمْدَادُ وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ: هَذَا الْمِثَالُ غَيْرُ مُطَابِقٍ، فَإِنَّ الْوُصُولَ إِلَى الْبَيْتِ هُوَ غَايَةُ الطَّرِيقِ، فَإِذَا وَصَلَ فَقَدِ انْقَطَعَتْ طَرِيقُهُ، وَانْتَهَى سَفَرُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوُصُولُ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَصَلَ إِلَى اللَّهِ جَذَبَهُ سَيْرُهُ، وَقَوِيَ سَفَرُهُ، فَعَلَامَةُ الْوُصُولِ إِلَى اللَّهِ: الْجِدُّ فِي السَّيْرِ، وَالِاجْتِهَادُ فِي السَّفَرِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ هُوَ مَفْرِقُ الطَّرِيقَيْنِ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ وَالْمُلْحِدِينَ، فَالْمُلْحِدُ يَقُولُ: السَّفَرُ وَسِيلَةٌ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْوَسِيلَةِ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى الْغَايَةِ بَطَالَةٌ، وَمَتَى وَصَلَ الْعَبْدُ سَقَطَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ السَّفَرِ، وَصَارَ كَمَا قِيلَ: فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ وَدُعِيَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَقَدْ أُقِيمَتْ، فَقَالَ: يُطَالِبُ بِالْأَوْرَادِ مَنْ كَانَ غَافِلًا ... فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أَوْقَاتِهِ وِرْدُ وَقِيلَ لِمُلْحِدٍ آخَرَ مِنْهُمْ: أَلَا تُصَلِّي؟ فَقَالَ: أَنْتُمْ مَعَ أَوْرَادِكِمْ، وَنَحْنُ مَعَ وَارِدَاتِنَا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ صَاحَ بِهِمْ أَئِمَّةُ الطَّرِيقِ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ وَصَلُوا وَلَكِنْ إِلَى الشَّيْطَانِ لَا إِلَى الرَّحْمَنِ، وَقَالَ آخَرُ: وَصَلُوا وَلَكِنْ إِلَى سَقَرٍ. فَكُلُّ وَاصِلٍ إِلَى اللَّهِ: فَهُوَ طَالِبٌ لَهُ، وَسَالِكٌ فِي طَرِيقِ مَرْضَاتِهِ. نَعَمْ؛ بِدَايَةُ الْأَمْرِ الطَّلَبُ، وَتَوَسُّطُهُ السُّلُوكُ، وَنِهَايَتُهُ الْوُصُولُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ حَقِيقَةِ الْوُصُولِ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ قَوْلَهُ: " مُغْنٍ عَنِ الطَّلَبِ " كَلَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَحَمْلٍ عَلَى مَعْنًى يَصِحُّ، فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ مُغْنٍ عَنْ تَكَلُّفِ الطَّلَبِ، فَلَا يُرِيدُ هَذَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ مُغْنٍ عَنْ رُؤْيَتِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ، وَلَكِنْ لَا يُرِيدُهُ. وَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى مُشَاهَدَةِ الْأَوَّلِيَّةِ، حَيْثُ تَنْطَوِي الْأَكْوَانُ وَالْأَسْبَابُ، وَلَا يَبْقَى لِلطَّلَبِ تَأْثِيرٌ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ مِنْ عَيْنِ الْجُودِ، وَحُصُولُ الْمَطْلُوبِ لَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَلَا بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِمَّنْ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ الْمُوجِدُ وَالْمُعِدُّ

وَالْمُمِدُّ، وَبِيَدِهِ الْأَسْبَابُ وَسَبَبِيَّتُهَا وَقُوَاهَا وَمَوَانِعُهَا وَمَعَارِضُهَا، فَالْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ وَبِهِ، وَمَصِيرُهُ إِلَيْهِ، فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَقَامِ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الطَّلَبِ. قَوْلَهُ: " طَاهِرٌ مِنَ الْحَرَجِ " أَيْ: خَالٍ مِنْهُ، لَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ بِوَظَائِفِ الْعُبُودِيَّةِ فِي سُكْرِهِ وَصَحْوِهِ. قَوْلُهُ: " فَإِنَّ السُّكْرَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِّ، وَالصَّحْوَ إِنَّمَا هُوَ بِالْحَقِّ ". يُرِيدُ: أَنَّ السُّكْرَ إِنَّمَا هُوَ فِي مَحَبَّتِهِ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ، فَقَلْبُهُ مُسْتَغْرِقٌ فِي الْحُبِّ، وَالصَّحْوَ إِنَّمَا هُوَ بِالْحَقِّ؛ أَيْ: بِوُجُودِهِ، وَهَذَا كَلَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ وَبَيَانٍ وَعِبَارَةٍ وَافِيَةٍ، فَنَقُولُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ: الْمُحِبُّ لَهُ حَالَتَانِ: حَالَةُ اسْتِغْرَاقٍ فِي مَحَبَّةِ مَحْبُوبِهِ، كَاسْتِغْرَاقِ صَاحِبِ السُّكْرِ فِي سُكْرِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي شُهُودِ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ مُتَّسَعٌ لِسِوَاهُ، وَلَا فَضْلَ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا رَآهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُ: ظَنَّهُ سُكْرًا، فَهَذَا اسْتِغْرَاقٌ فِي مَحْبُوبِهِ وَصِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: حَالَةُ صَحْوٍ، يَفِيقُ فِيهَا عَلَى عُبُودِيَّتِهِ وَالْقِيَامِ بِمَرْضَاتِهِ، كَالْمُسَارَعَةِ إِلَى مَحَابِّهِ، فَهُوَ فِي هَذَا الْحَالِ بِهِ؛ أَيْ: مُتَصَرِّفٌ فِي أَوَامِرِهِ وَمَحَابِّهِ بِهِ، لَيْسَ غَائِبًا عَنْهُ بِأَوَامِرِهِ، وَلَا غَائِبًا بِهِ عَنْ أَوَامِرِهِ، فَلَا يَشْغَلُهُ وَاجِبٌ أَوْ أَمْرٌ وَحُقُوقُهُ عَنْ وَاجِبِ مَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالرِّضَا بِهِ، وَلَا يَشْغَلُهُ وَاجِبُ حُبِّهِ عَنْ أَوَامِرِهِ، بَلْ هُوَ مُقْتَدٍ بِإِمَامِ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِ الْمَحَبَّةِ وَهِيَ الْخُلَّةُ وَلَمْ يَشْغَلْهُ ذَلِكَ عَنِ الْقِيَامِ بِخِصَالِ الْفِطْرَةِ مِنَ الْخِتَانِ، وَقَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ، فَضْلًا عَمَّا هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ، فَوَفَّى الْمَقَامَيْنِ حَقَّهُمَا، وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَقَالَ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] . قَوْلُهُ: وَكُلَّمَا كَانَ فِي عَيْنِ الْحَقِّ لَمْ يَخْلُ مِنْ حَيْرَةٍ. يُرِيدُ بِذَلِكَ: تَفْضِيلَ مَقَامِ الصَّحْوِ عَلَى مَقَامِ السُّكْرِ، وَرَفْعَهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ السُّكْرَ لَمَّا كَانَ فِي عَيْنِ الْحَقِّ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِنَوْعٍ مِنَ الْحَيْرَةِ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَ فَقَالَ: " لَا حَيْرَةَ الشُّبْهَةِ " فَإِنَّهَا تُنَافِي أَصْلَ عَقْدِ الْإِيمَانِ، " وَلَكِنْ حَيْرَةَ مُشَاهَدَةِ أَنْوَارِ الْعِزَّةِ " وَهِيَ دَهْشَةٌ تَعْتَرِي الشَّاهِدَ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ جِدًّا، لَا عَهْدَ لَهُ بِمِثْلِهِ، بِخِلَافِ مَقَامِ " الصَّحْوِ " فَإِنَّهُ لِقُوَّتِهِ

وَثَبَاتِهِ وَتَمَكُّنِهِ لَا يَعْرِضُ لَهُ ذَلِكَ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ: أَنَّ مَنْ كَانَ نَاظِرًا فِي عَيْنِ الْحَقِيقَةِ لَزِمَتْهُ الْحَيْرَةُ، وَهِيَ حَيْرَةُ مُشَاهَدَةِ أَنْوَارِ الْعِزَّةِ، لَا حَيْرَةَ مَنْ ضَلَّ عَنْ طَرِيقِ مَقْصُودِهِ، فَإِنَّ الشُّبْهَةَ هِيَ اشْتِبَاهُ الطَّرِيقِ عَلَى السَّالِكِ، بِحَيْثُ لَا يَدْرِي أَعَلَى حَقٍّ هُوَ أَمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانٌ أَنَّ مُشَاهَدَةَ نُورِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ مُحَالٌ، فَلَا نُعِيدُهُ. قَوْلُهُ: وَمَا كَانَ بِالْحَقِّ لَمْ يَخْلُ مِنْ صِحَّةٍ، وَلَمْ تَحِفْ عَلَيْهِ نَقِيصَةٌ، وَلَمْ تَتَعَاوَرْهُ عِلَّةٌ، هَذَا تَقْرِيرٌ مِنْهُ لِرَفْعِ مَقَامِ الصَّحْوِ عَلَى مَقَامِ السُّكْرِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ بِاللَّهِ كَانَ مَحْفُوظًا مَحْرُوسًا مِنَ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَصْدَرُ كُلِّ بَاطِلٍ، وَهَذَا الْحِفْظُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ " فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا " فَأَيْنَ الْبَاطِلُ هَاهُنَا؟ ثُمَّ قَالَ: " فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي " تَحْقِيقًا لِحِفْظِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَبَطْشِهِ وَمَشْيِهِ. قَوْلُهُ: " وَلَمْ تَتَعَاوَرْهُ عِلَّةٌ " التَّعَاوُرُ: الِاخْتِلَافُ؛ أَيْ: لَمْ تَتَخَالَفْ عَلَيْهِ الْعِلَلُ، وَالْعِلَلُ مُلَاحَظَةُ الْأَغْيَارِ، وَطَاعَةُ الْقَلْبِ لِلسِّوَى، وَإِجَابَتُهُ لِدَاعِيهِ. قَوْلُهُ: " وَالصَّحْوُ مِنْ مَنَازِلِ الْحَيَاةِ، وَأَوْدِيَةِ الْجَمْعِ، وَلَوَائِحِ الْوُجُودِ " هَذَا تَقْرِيرٌ أَيْضًا لِرَفْعِ مَقَامِهِ عَلَى مَقَامِ السُّكْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَيَاةِ وَمَرَاتِبِهَا وَأَقْسَامِهَا. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الصَّحْوِ وَالْحَيَاةِ: أَنَّ الْحَيَاةَ هِيَ الْمُصَحِّحَةُ لِجَمِيعِ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ، فَهِيَ الَّتِي تَرْمِي عَلَى جَمِيعِهَا كَمَا تَرْمِي الْأَوْدِيَةُ أَمْوَاهَهَا عَلَى الْبِحَارِ. قَوْلُهُ: " وَأَوْدِيَةِ الْجَمْعِ " الْجَمْعُ يُرَادُ بِهِ جَمْعُ الْوُجُودِ، وَجَمْعُ الشُّهُودِ، وَجَمْعُ الْإِرَادَةِ، فَالْأَوَّلُ: جَمْعُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ الِاتِّحَادِيَّةِ. وَالثَّانِي: جَمْعُ أَهْلِ الْفَنَاءِ. وَالثَّالِثُ: جَمْعُ الرُّسُلِ وَوَرَثَتِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْجَمْعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَالصَّحْوُ مِنْ أَوْدِيَةِ الْجَمْعِ الْعَالِي لَا النَّازِلِ وَلَا الْمُتَوَسِّطِ. قَوْلُهُ: " وَلَوَائِحِ الْوُجُودِ " اللَّوَائِحُ جَمْعُ لَائِحَةٍ، وَهِيَ مَا يَلُوحُ لَكَ كَالْبَرْقِ وَغَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْوُجُودِ الَّذِي الصَّحْوُ مِنْ لَوَائِحِهِ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فصل الاتصال

[فَصْلُ الِاتِّصَالِ] قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ (بَابُ الِاتِّصَالِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى - فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8 - 9] آيَسَ الْعُقُولَ، فَقَطَعَ الْبَحْثُ بِقَوْلِهِ: " أَوْ أَدْنَى ". كَأَنَّ الشَّيْخَ فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ الَّذِي دَنَى فَتَدَلَّى فَكَانَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا وَإِنْ قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَالصَّحِيحُ: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى - عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 13 - 14] هَكَذَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ» وَلَفْظُ الْقُرْآنِ لَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] وَهَذَا جِبْرِيلُ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِالْقُوَّةِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ، فَقَالَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ - ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19 - 20] . الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: {ذُو مِرَّةٍ} [النجم: 6] أَيْ: حُسْنِ الْخُلُقِ، وَهُوَ الْكَرِيمُ الْمَذْكُورُ فِي التَّكْوِيرِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: {فَاسْتَوَى - وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم: 6 - 7] وَهُوَ نَاحِيَةُ السَّمَاءِ الْعُلْيَا، وَهَذَا اسْتِوَاءُ جِبْرِيلَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، وَأَمَّا اسْتِوَاءُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ فَعَلَى عَرْشِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى - فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8 - 9] فَهَذَا دُنُوُّ جِبْرِيلَ وَتَدَلِّيهِ إِلَى الْأَرْضِ، حَيْثُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الدُّنُوُّ وَالتَّدَلِّي فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ، فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ. فَهُنَاكَ دَنَا الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ مِنْهُ وَتَدَلَّى.

فَالدُّنُوُّ وَالتَّدَلِّي فِي الْحَدِيثِ غَيْرُ الدُّنُوِّ وَالتَّدَلِّي فِي الْآيَةِ، وَإِنِ اتَّفَقَا فِي اللَّفْظِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَالَ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى - عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 13 - 14] وَالْمَرْئِيُّ عِنْدَ السِّدْرَةِ: هُوَ جِبْرِيلُ قَطْعًا، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِعَائِشَةَ «ذَاكَ جِبْرِيلُ» . السَّادِسُ: أَنَّ مُفَسِّرَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ رَآهُ} [النجم: 13] ، وَفِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] ، وَفِي قَوْلِهِ: فَاسْتَوَى، وَفِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم: 7] وَاحِدٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ الْمُفَسِّرِ وَالْمُفَسَّرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. السَّابِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الرَّسُولَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ: الْمَلَكِيُّ، وَالْبَشَرِيُّ، وَنَزَّهَ الْبَشَرِيَّ عَنِ الضَّلَالِ وَالْغِوَايَةِ، وَنَزَّهَ الْمَلَكِيَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَيْطَانًا قَبِيحًا ضَعِيفًا، بَلْ هُوَ قَوِيٌّ كَرِيمٌ حَسَنُ الْخُلُقِ، وَهَذَا نَظِيرُ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ سَوَاءً. الثَّامِنُ: أَنَّهُ أَخْبَرَ هُنَاكَ أَنَّهُ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَهَاهُنَا أَخْبَرَ أَنَّهُ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى وَهُوَ وَاحِدٌ، وُصِفَ بِصِفَتَيْنِ، فَهُوَ مُبِينٌ وَهُوَ أَعْلَى، فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا عَلَا بَانَ وَظَهَرَ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ قَالَ: {ذُو مِرَّةٍ} [النجم: 6] وَالْمِرَّةُ الْخُلُقُ الْحَسَنُ الْمُحْكَمُ، فَأَخْبَرَ عَنْ حُسْنِ خُلُقِ الَّذِي عَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سَاقَ الْخَبَرَ كُلَّهُ عَنْهُ نَسَقًا وَاحِدًا. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى لَكَانَ الْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ سُبْحَانَهُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالْأُفُقِ، وَمَرَّةً عِنْدَ السِّدْرَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ وَقَدْ سَأَلَهُ: «هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟» فَكَيْفَ يُخْبِرُ الْقُرْآنُ أَنَّهُ رَآهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَنَّى أَرَاهُ؟» " وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ أَرَهُ؛ لِأَنَّهُ مَعَ النَّفْيِ يَقْتَضِي الْإِخْبَارَ عَنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ فَقَطْ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ النَّفْيَ، وَطَرَفًا مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى السَّائِلِ، كَمَا إِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: هَلْ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ؟ فَيَقُولُ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟

الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ ذِكْرٌ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] وَالَّذِي يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ لَا يَصْلُحُ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ لِعَبْدِهِ. الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ كَيْفَ يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ، وَيُتْرَكُ عَوْدُهُ إِلَى الْمَذْكُورِ مَعَ كَوْنِهِ أَوْلَى بِهِ؟ الثَّالِثُ عَشَرَ: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ " صَاحِبِكُمْ " وَأَعَادَ عَلَيْهِ الضَّمَائِرَ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ " شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ " وَأَعَادَ عَلَيْهِ الضَّمَائِرَ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ، وَالْخَبَرُ كُلُّهُ عَنْ هَذَيْنِ الْمُفَسَّرَيْنِ، وَهُمَا الرَّسُولُ الْمَلَكِيُّ، وَالرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ. الرَّابِعُ عَشَرَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى كَانَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى وَهُوَ أُفُقُ السَّمَاءِ، بَلْ هُوَ تَحْتَهَا قَدْ دَنَا مِنْ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدُنُوُّ الرَّبِّ تَعَالَى وَتَدَلِّيهِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ كَانَ مِنْ فَوْقِ الْعَرْشِ لَا إِلَى الْأَرْضِ. الْخَامِسُ عَشَرَ: أَنَّهُمْ لَمْ يُمَارُوهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَلَى رُؤْيَةِ رَبِّهِ، وَلَا أَخْبَرَهُمْ بِهَا، لِتَقَعَ مُمَارَاتُهُمْ لَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا مَارُوهُ عَلَى رُؤْيَةِ مَا أَخْبَرَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَلَوْ أَخْبَرَهُمُ الرَّبُّ تَعَالَى لَكَانَتْ مُمَارَاتُهُمْ لَهُ عَلَيْهَا أَعْظَمَ مِنْ مُمَارَاتِهِمْ عَلَى رُؤْيَةِ الْمَخْلُوقَاتِ. السَّادِسُ عَشَرَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَرَّرَ صِحَّةَ مَا رَآهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ مُمَارَاتَهُمْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ بَاطِلَةٌ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، فَلَوْ كَانَ الْمَرْئِيُّ هُوَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْمُمَارَاةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ، لَكَانَ تَقْرِيرُ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ أَوْلَى، وَالْمَقَامُ إِلَيْهَا أَحْوَجَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ: " آيَسَ الْعُقُولَ بِقَوْلِهِ: أَوْ أَدْنَى " يَعْنِي: أَنَّ الْعُقُولَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُثْبِتَ عَلَى مَعْرِفَةِ اتِّصَالٍ هُوَ أَدْنَى مِنْ قَابَ قَوْسَيْنِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا فَهِمَهُ مِنَ الْآيَةِ، وَإِلَّا فَالْعُقُولُ غَيْرُ آيِسَةٍ مِنْ دُنُوِّ رَسُولِهِ الْمَلَكِيِّ مِنْ رَسُولِهِ الْبَشَرِيِّ، حَتَّى صَارَ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى مِنْ قَوْسَيْنِ، فَإِنَّهُ دُنُوُّ عَبْدٍ مِنْ عَبْدٍ، وَمَخْلُوقٍ مِنْ مَخْلُوقٍ. يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ " أَوْ "؟ فَيُقَالُ: هِيَ لِتَقْرِيرِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْقُرْبَ إِنْ لَمْ يَنْقُصْ عَنْ قَدْرِ قَوْسَيْنِ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى الْمِائَةِ الْأَلْفِ لَمْ يَنْقُصُوا عَنْهَا.

فَهُوَ تَقْرِيرٌ لِنَصِّيَّةِ عَدَدِ الْمِائَةِ الْأَلْفِ، فَتَأَمَّلْهُ. قَالَ: وَالِاتِّصَالُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى: اتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ، ثُمَّ اتِّصَالُ الشُّهُودِ، ثُمَّ اتِّصَالُ الْوُجُودِ، وَاتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ: تَصْحِيحُ الْقَصْدِ، ثُمَّ تَصْفِيَةُ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ تَحْقِيقُ الْحَالِ. أَمَّا الْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ وَهُمَا اتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ، وَاتِّصَالُ الشُّهُودِ فَلَا إِشْكَالَ فِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا مَقَامَا الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، فَاتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ مَقَامُ الْإِيمَانِ، وَاتِّصَالُ الشُّهُودِ مَقَامُ الْإِحْسَانِ. وَعِنْدِي: أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مَرْمًى، وَكُلُّ مَا يُذْكَرُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اتِّصَالٍ صَحِيحٍ فَهُوَ مِنْ مَقَامِ الْإِحْسَانِ، فَاتِّصَالُ الْوُجُودِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مُرَادِ الشَّيْخِ وَأَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ بِهَذَا الِاتِّصَالِ، وَمُرَادِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ مِنْهُ، إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى ذِكْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَأَمَّا اتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء: 146] ، وَقَالَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103] . فَالِاعْتِصَامُ بِهِ نَوْعَانِ: اعْتِصَامُ تَوَكُّلٍ وَاسْتِعَانَةٍ وَتَفْوِيضٍ وَلَجْءٍ وَعِيَاذٍ، وَإِسْلَامِ النَّفْسِ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ سُبْحَانَهُ. وَالثَّانِي: اعْتِصَامٌ بِوَحْيِهِ، وَهُوَ تَحْكِيمُهُ دُونَ آرَاءِ الرِّجَالِ وَمَقَايِيسِهِمْ، وَمَعْقُولَاتِهِمْ، وَأَذْوَاقِهِمْ وَكُشُوفَاتِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ مُنْسَلٌّ مِنْ هَذَا الِاعْتِصَامِ، فَالدِّينُ كُلُّهُ فِي الِاعْتِصَامِ بِهِ وَبِحَبْلِهِ، عِلْمًا وَعَمَلًا، وَإِخْلَاصًا وَاسْتِعَانَةً، وَمُتَابَعَةً، وَاسْتِمْرَارًا عَلَى ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ: " ثُمَّ اتِّصَالُ الشُّهُودِ " وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُشَاهَدَةِ قَرِيبًا، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ هِيَ

تَحَقُّقُ مَقَامِ الْإِحْسَانِ، فَالِاتِّصَالُ الْأَوَّلُ اتِّصَالُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَالثَّانِي اتِّصَالُ الْحَالِ وَالْمَعْرِفَةِ. قَوْلُهُ: " ثُمَّ اتِّصَالُ الْوُجُودِ " الْوُجُودُ: الظَّفَرُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُرِيدَ الشَّيْخُ: أَنَّ وُجُودَ الْعَبْدِ يَتَّصِلُ بِوُجُودِ الرَّبِّ، فَيَصِيرُ الْكُلُّ وُجُودًا وَاحِدًا، كَمَا يَظُنُّهُ الْمُلْحِدُ، فَإِنَّ كُفْرَ النَّصَارَى جُزْءٌ يَسِيرُ مِنْ هَذَا الْكُفْرِ، وَهُوَ أَيْضًا كَلَامٌ لَا مَعْنَى لَهُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ بَلْ لَا عَبْدَ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ أَفْسَدَ الْخَلْقِ وَأَفْجَرَهُمْ، فَنَفْسُ وُجُودِهِ مُتَّصِلٌ بِوُجُودِ رَبِّهِ، بَلْ هُوَ عَيْنُ وُجُودِهِ، بَلْ لَا رَبَّ عِنْدَهُمْ وَلَا عَبْدَ. وَإِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْخُ بِاتِّصَالِ الْوُجُودِ: أَنَّ الْعَبْدَ يَجِدُ رَبَّهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ فَاقِدًا لَهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ يَطْلُبُ كَنْزًا وَلَا وُصُولَ لَهُ إِلَيْهِ، فَظَفِرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَجَدَهُ وَاسْتَغْنَى بِهِ غَايَةَ الْغِنَى، فَهَذَا اتِّصَالُ الْوُجُودِ، كَمَا فِي الْأَثَرِ اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ. وَهَذَا الْوُجُودُ مِنَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ يَتَنَوَّعُ بِحَسْبِ أَحْوَالِ الْعَبْدِ وَمَقَامِهِ، فَإِنَّ التَّائِبَ الصَّادِقَ فِي تَوْبَتِهِ إِذَا تَابَ إِلَيْهِ، وَجَدَهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَالْمُتَوَكِّلَ إِذَا صَدَقَ فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَجَدَهُ حَسِيبًا كَافِيًا، وَالدَّاعِيَ إِذَا صَدَقَ فِي الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ وَجَدَهُ قَرِيبًا مُجِيبًا، وَالْمُحِبَّ إِذَا صَدَقَ فِي مَحَبَّتِهِ وَجَدَهُ وَدُودًا حَبِيبًا، وَالْمَلْهُوفَ إِذَا صَدَقَ فِي الِاسْتِغَاثَةِ بِهِ وَجَدَهُ كَاشِفًا لِلْكُرَبِ مُخَلِّصًا مِنْهُ، وَالْمُضْطَرَّ إِذَا صَدَقَ فِي الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ وَجَدَهُ رَحِيمًا مُغِيثًا، وَالْخَائِفَ إِذَا صَدَقَ فِي اللَّجْءِ إِلَيْهِ وَجَدَهُ مُؤَمِّنًا مِنَ الْخَوْفِ، وَالرَّاجِيَ إِذَا صَدَقَ فِي الرَّجَاءِ وَجَدَهُ عِنْدَ ظَنِّهِ بِهِ. فَمُحِبُّهُ وَطَالِبُهُ وَمُرِيدُهُ الَّذِي لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلًا، وَلَا يَرْضَى بِسِوَاهُ عِوَضًا، إِذَا صَدَقَ فِي مَحَبَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَجَدَهُ أَيْضًا وُجُودًا أَخَصَّ مِنْ تِلْكَ الْوُجُودَاتِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرِيدُ مِنْهُ يَجِدُهُ، فَكَيْفَ بِمُرِيدِهِ وَمُحِبِّهِ؟ فَيَظْفَرُ هَذَا الْوَاجِدُ بِنَفْسِهِ وَبِرَبِّهِ. أَمَّا ظَفَرُهُ بِنَفْسِهِ فَتَصِيرُ مُنْقَادَةً لَهُ، مُطِيعَةً لَهُ، تَابِعَةً لِمَرْضَاتِهِ غَيْرَ آبِيَةٍ، وَلَا أَمَّارَةٍ، بَلْ تَصِيرُ خَادِمَةً لَهُ مَمْلُوكَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَخْدُومَةً مَالِكَةً. وَأَمَّا ظَفَرُهُ بِرَبِّهِ فَقُرْبُهُ مِنْهُ وَأُنْسُهُ بِهِ، وَعِمَارَةُ سِرِّهِ بِهِ، وَفَرَحُهُ وَسُرُورُهُ بِهِ أَعْظَمُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ، فَهَذَا حَقِيقَةُ اتِّصَالِ الْوُجُودِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَوْلُهُ: فَاتِّصَالُ الِاعْتِصَامِ: تَصْحِيحُ الْقَصْدِ، ثُمَّ تَصْفِيَةُ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ تَحْقِيقُ الْحَالِ.

قُلْتُ: تَصْحِيحُ الْقَصْدِ يَكُونُ بِشَيْئَيْنِ؛ إِفْرَادُ الْمَقْصُودِ، وَجَمْعُ الْهَمِّ عَلَيْهِ، وَحَقِيقَتُهُ تَوْحِيدُ الْقَصْدِ وَالْمَقْصُودِ، فَمَتَى انْقَسَمَ قَصْدُهُ أَوْ مَقْصُودُهُ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ الشَّيْخُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهُ " قَصْدٌ يَبْعَثُ عَلَى الِارْتِيَاضِ، وَيُخَلِّصُ مِنَ التَّرَدُّدِ، وَيَدْعُو إِلَى مُجَانَبَةِ الْأَعْوَاضِ " فَالِاتِّصَالُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ بِهَذَا الْقَصْدِ. وَقَوْلُهُ: " ثُمَّ تَصْفِيَةُ الْإِرَادَةِ " هُوَ تَخْلِيصُهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَتَعَلُّقِهَا بِالسِّوَى أَوْ بِالْأَعْوَاضِ، بَلْ تَكُونُ إِرَادَةً صَافِيَةً مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، بِحَيْثُ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِاللَّهِ وَبِمُرَادِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. قَوْلُهُ: " ثُمَّ تَحْقِيقُ الْحَالِ " أَيْ: يَكُونُ لَهُ حَالُ مُحَقِّقٍ ثَابِتٍ، لَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ حَتَّى يَصْحَبَهُ الْعَمَلُ، وَلَا بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ حَتَّى يَصْحَبَهُ الْحَالُ، فَتَصِيرُ الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْإِنَابَةُ وَالتَّوَكُّلُ وَحَقَائِقُ الْإِيمَانِ حَالًا لِقَلْبِهِ، قَدِ انْصَبَغَ قَلْبُهُ بِهَا، بِحَيْثُ لَوْ تَعَطَّلَتْ جَوَارِحُهُ كَانَ قَلْبُهُ فِي الْعَمَلِ وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ عَمَلُ قَلْبِهِ أَقْوَى مِنْ عَمَلِ جَوَارِحِهِ. قَوْلُهُ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: اتِّصَالُ الشُّهُودِ، وَهُوَ الْخَلَاصُ مِنَ الِاعْتِلَالِ، وَالْغِنَى عَنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَسُقُوطُ شَتَاتِ الْأَسْرَارِ. الِاعْتِلَالُ هُوَ الْعَوَائِقُ وَالْعِلَلُ، وَالْخَلَاصُ مِنْهَا هُوَ الصِّحَّةُ، وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا، فَإِنَّ الْأُولَى: اتِّصَالٌ بِصِحَّةِ الْقُصُودِ وَالْأَعْمَالِ، وَهَذِهِ اتِّصَالٌ بِرُؤْيَةٍ مِنَ الْعَمَلِ لَهُ، عَلَى تَحْقِيقِ مُشَاهَدَتِهِ بِالْبَصِيرَةِ، فَيَتَخَلَّصُ الْعَبْدُ بِذَلِكَ مِنْ عِلَلِ الْأَعْمَالِ وَاسْتِكْثَارِهَا، وَاسْتِحْسَانِهَا وَالسُّكُونِ إِلَيْهَا. قَوْلُهُ: " وَالْغِنَى عَلَى الِاسْتِدْلَالِ " أَيْ: هُوَ مُسْتَغْنٍ بِمُشَاهَدَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ عَنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ، فَإِنَّ طَالِبَ الدَّلِيلِ إِنَّمَا يَطْلُبُهُ لِيَصِلَ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَدْلُولِ، فَإِذَا كَانَ مُشَاهِدًا لِلْمَدْلُولِ، فَمَا لَهُ وَلِطَلَبِ الدَّلِيلِ؟ وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ ... إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلٍ فَكَيْفَ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، مَنِ النَّهَارُ بَعْضُ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ؟ {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37] وَلِهَذَا خَاطَبَ الرُّسُلُ قَوْمَهُمْ خِطَابَ مَنْ لَا يَشُكُّ

فِي رَبِّهِ وَلَا يَرْتَابُ فِي وُجُودِهِ {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] . قَوْلُهُ: " وَسُقُوطُ شَتَاتِ الْأَسْرَارِ " يَعْنِي: أَنَّ الْخَلَاصَ مِنَ الِاعْتِلَالِ وَالْفَنَاءَ بِاتِّصَالِ الشُّهُودِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ يُسْقِطَانِ عَنْهُ شَتَاتَ الْأَسْرَارِ، وَهُوَ تَفَرُّقُ بَالِهِ وَتَشَتُّتُ قَلْبِهِ فِي الْأَكْوَانِ، فَإِنَّ اتِّصَالَ شُهُودِهِ يَجْمَعُهُ عَلَى الْمَشْهُودِ، كَمَا أَنَّ دَوَامَ الذِّكْرِ الَّذِي تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ وَشُهُودَ الْمَذْكُورِ يَجْمَعُهُ عَلَيْهِ، وَيُسْقِطُ شَتَاتَهُ، فَالشَّتَاتُ مَصْحُوبُ الْغَيْبَةِ، وَسُقُوطُهُ مَصْحُوبُ الْحُضُورِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَوْلُهُ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: اتِّصَالُ الْوُجُودِ، وَهَذَا الِاتِّصَالُ لَا يُدْرَكُ مِنْهُ نَعْتٌ وَلَا مِقْدَارٌ، إِلَّا اسْمٌ مُعَارٌ، وَلَمْحٌ إِلَيْهِ مُشَارٌ، يَقُولُ: لِمَا يُعْهَدُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاتِّصَالِ وَكَانَ أَعَزَّ شَيْءٍ وَأَغْرَبَهُ عَنِ النُّفُوسِ عِلْمًا وَحَالًا لَمْ تَفِ الْعِبَارَةُ بِكَشْفِهِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَمَلُومٌ وَالْعِبَارَةَ فَتَّانَةٌ، إِمَّا أَنْ تُزِيغَ إِلَى زِيَادَةِ مَفْسَدَةٍ أَوْ نَقْصٍ مُخِلٍّ، أَوْ تَعْدِلَ بِالْمَعْنَى إِلَى غَيْرِهِ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تُمْكِنُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ غَلَبَهُ نُورُ الْقُرْبِ، وَتَمَكُّنُ الْمَحَبَّةِ، وَقُوَّةُ الْأُنْسِ، وَكَمَالُ الْمُرَاقَبَةِ، وَاسْتِيلَاءُ الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ، فَيَذْهَبُ الْعَبْدُ عَنْ إِدْرَاكِهِ بِحَالِهِ لِمَا قَهَرَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَيَبْقَى بِوُجُودٍ آخَرَ غَيْرَ وُجُودِهِ الطَّبِيعِيِّ. وَمَا أَظُنُّكَ تُصَدِّقُ بِهَذَا، وَأَنَّهُ يَصِيرُ لَهُ وُجُودٌ آخَرُ، وَتَقُولُ: هَذَا خَيَالٌ وَوَهْمٌ، فَلَا تَعْجَلْ بِإِنْكَارِ مَا لَمْ تُحِطْ بِعِلْمِهِ، فَضْلًا عَنْ ذَوْقِ حَالِهِ، وَأَعْطِ الْقَوْسَ بَارِيهَا، وَخَلِّ الْمَطَايَا وَحَادِيهَا، فَلَوْ أَنْصَفْتَ لَعَرَفْتَ أَنَّ الْوُجُودَ الْحَاصِلَ لَمُعَذَّبٌ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِ فِي أَسْوَأِ حَالٍ، وَأَضْيَقِ سِجْنٍ، وَأَنْكَدِ عَيْشٍ، إِذَا فَارَقَ هَذِهِ الْحَالَ، وَصَارَ إِلَى مُلْكٍ هَنِيٍّ وَاسِعٍ، نَافِذَةٌ فِيهِ كَلِمَتُهُ مُطَاعٌ أَمْرُهُ، قَدِ انْقَادَتْ لَهُ الْجُيُوشُ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، فَإِنَّ وُجُودَهُ حِينَئِذٍ غَيْرُ الْوُجُودِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ عَلَى التَّقْرِيبِ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ، فَلِهَذَا قَالَ: " لَا يُدْرَكُ مِنْهُ نَعْتٌ " يُطَابِقُهُ وَيُحِيطُ بِهِ، فَإِنَّ الْأُمُورَ الْعَظِيمَةَ جِدًّا نَعْتُهَا لَا يَكْشِفُ حَقِيقَتَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الْأَسْمَاءُ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ بَعْضَ لَوَازِمِهَا وَمُتَعَلِّقَاتِهَا، فَيَدُلُّ بِالْمَذْكُورِ عَلَى غَيْرِهِ. قَوْلُهُ: " وَلَا مِقْدَارَ " يُرِيدُ: مِقْدَارَ الشَّرَفِ وَالْمَنْزِلَةِ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ كَبِيرُ الْمِقْدَارِ.

فصل الانفصال

قَوْلُهُ: إِلَّا اسْمٌ مُعَارٌ وَلَمْحٌ إِلَيْهِ مُشَارٌ. لَمَّا كَانَ الِاسْمُ لَا يَبْلُغُ الْحَقِيقَةَ وَلَا يُطَابِقُهَا، فَكَأَنَّهُ لِغَيْرِهَا، وَأُعِيرَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهَا عَارِيَةً، وَكَذَلِكَ اللَّمْحُ الْمُشَارُ هُوَ الَّذِي يُشَارُ بِهِ إِشَارَةً إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَبَعْدُ، فَالشَّيْخُ يُدَنْدِنُ حَوْلَ بَحْرِ الْفَنَاءِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: صَاحِبُ هَذَا الِاتِّصَالِ قَدْ فَنِيَ فِي الْوُجُودِ، بِحَيْثُ صَارَ نُقْطَةً انْحَلَّ تَعَيُّنُهَا، وَاضْمَحَلَّ تَكَوُّنُهَا، وَرَجَحَ عَوْدُهَا عَلَى بَدْئِهَا، فَفَنِيَ مَنْ لَمْ يَكُنْ، وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَزَلْ، فَهُنَالِكَ طَاحَتِ الْإِشَارَاتُ، وَذَهَبَتِ الْعِبَارَاتُ، وَفَنِيَتِ الرُّسُومُ {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 111] . [فَصْلُ الِانْفِصَالِ] [حَقِيقَةُ الِانْفِصَالِ] فَصْلُ الِانْفِصَالِ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ الِانْفِصَالِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] لَيْسَ فِي الْمَقَامَاتِ شَيْءٌ فِيهِ مِنَ التَّفَاوُتِ مَا فِي الِانْفِصَالِ. وَجْهُ الْإِشَارَةِ بِالْآيَةِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُقَرِّبُ الْمُبْعِدُ، فَلْيَحْذَرِ الْقَرِيبُ مِنَ الْإِبْعَادِ وَالْمُتَّصِلُ مِنَ الِانْفِصَالِ، فَإِنَّ الْحَقَّ جَلَّ جَلَالُهُ غَيُورٌ لَا يَرْضَى مِمَّنْ عَرَفَهُ وَوَجَدَ حَلَاوَةَ مَعْرِفَتِهِ، وَاتَّصَلَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّتِهِ وَالْأُنْسِ بِهِ، وَتَعَلَّقَتْ رُوحُهُ بِإِرَادَةِ وَجْهِهِ الْأَعْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ. وَمِنْ غَيْرَتِهِ سُبْحَانَهُ: حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَغَارُ أَشَدَّ الْغَيْرَةِ عَلَى عَبْدِهِ: أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى سِوَاهُ، فَإِذَا أَذَاقَهُ حَلَاوَةَ مَحَبَّتِهِ، وَلَذَّةَ الشَّوْقِ إِلَيْهِ، وَأُنْسَ مَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ سَاكَنَ غَيْرَهُ بَاعَدَهُ مِنْ قُرْبِهِ، وَقَطَعَهُ مِنْ وَصْلِهِ، وَأَوْحَشَ سِرَّهُ، وَشَتَّتَ قَلْبَهُ، وَنَغَّصَ عَيْشَهُ، وَأَلْبَسَهُ رِدَاءَ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَالْهَوَانِ، فَنَادَى عَلَيْهِ حَالُهُ، إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ قَالُهُ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَعَوَّضَ عَنْ وَلِيِّهِ وَإِلَهِهِ وَفَاطِرِهِ، وَمَنْ لَا حَيَاةَ لَهُ إِلَّا بِهِ بِغَيْرِهِ وَآثَرَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ، فَاتَّخَذَ سِوَاهُ لَهُ حَبِيبًا، وَرَضِيَ بِغَيْرِهِ أَنِيسًا، وَاتَّخَذَ سِوَاهُ وَلِيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] .

فَإِذَا ضُرِبَ هَذَا الْقَلْبُ بِسَوْطِ الْبُعْدِ وَالْحِجَابِ، وَسُلِّطَ عَلَيْهِ مَنْ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَمُلِئَ مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، وَصَارَ مَحَلًّا لِلْجِيَفِ وَالْأَقْذَارِ وَالْأَنْتَانِ، وَبُدِّلَ بِالْأُنْسِ وَحْشَةً، وَبِالْعِزِّ ذُلًّا، وَبِالْقَنَاعَةِ حِرْصًا، وَبِالْقُرْبِ بُعْدًا وَطَرْدًا، وَبِالْجَمْعِ شَتَاتًا وَتَفْرِقَةً كَانَ هَذَا بَعْضَ جَزَائِهِ، فَحِينَئِذٍ تَطْرُقُهُ الطَّوَارِقُ وَالْمُؤْلِمَاتُ، وَتَعْتَرِيهِ وُفُودُ الْأَحْزَانِ وَالْهُمُومِ بَعْدَ وُفُودِ الْمَسَرَّاتِ. قَرَأَ قَارِئٌ بَيْنَ يَدَيِ السَّرِيِّ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] فَقَالَ السَّرِيُّ: تَدْرُونَ مَا هَذَا الْحِجَابُ؟ هُوَ حِجَابُ الْغَيْرَةِ، وَلَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ. فَمَنْ عَرَفَهُ وَذَاقَ حَلَاوَةَ قُرْبِهِ وَمَحَبَّتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى مُسَاكَنَةِ غَيْرِهِ: ثَبَّطَ جَوَارِحَهُ عَنْ طَاعَتِهِ، وَعَقَلَ قَلْبَهُ عَنْ إِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَأَخَّرَهُ عَنْ مَحَلِّ قُرْبِهِ، وَوَلَّاهُ مَا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: احْذَرْهُ، فَإِنَّهُ غَيُورٌ، لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَى فِي قَلْبِ عَبْدِهِ سِوَاهُ. وَمِنْ غَيْرَتِهِ: أَنَّ صَفِيَّهُ آدَمَ لَمَّا سَاكَنَ بِقَلْبِهِ الْجَنَّةَ، وَحَرِصَ عَلَى الْخُلُودِ فِيهَا أَخْرَجَهُ مِنْهَا، وَمِنْ غَيْرَتِهِ سُبْحَانَهُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ لَمَّا أَخَذَ إِسْمَاعِيلُ شُعْبَةً مِنْ قَلْبِهِ أَمَرَهُ بِذَبْحِهِ، حَتَّى يُخْرِجَ مِنْ قَلْبِهِ ذَلِكَ الْمُزَاحِمَ. إِنَّمَا كَانَ الشِّرْكُ عِنْدَهُ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ لِتَعَلُّقِ قَلْبِ الْمُشْرِكِ بِهِ وَبِغَيْرِهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ كُلُّهُ بِغَيْرِهِ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ بِكُلِّيَّتِهِ؟ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا حَلَّ بِكَ مِنْ بَلَاءِ الِانْفِصَالِ، وَذُلِّ الْحِجَابِ، فَانْظُرْ لِمَنِ اسْتَعْبَدَ قَلْبَكَ، وَاسْتَخْدَمَ جَوَارِحَكَ، وَبِمَنْ شَغَلَ سِرَّكَ، وَأَيْنَ يَبِيتُ قَلْبُكَ إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ؟ وَإِلَى أَيْنَ يَطِيرُ إِذَا اسْتَيْقَظْتَ مِنْ مَنَامِكَ؟ فَذَلِكَ هُوَ مَعْبُودُكَ وَإِلَهُكَ، فَإِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لِيَنْطَلِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُهُ، انْطَلَقْتَ مَعَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ. لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ! مَا أَشَدَّ غَبْنَ مَنْ بَاعَ أَطْيَبَ الْحَيَاةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ هُنَاكَ، وَالنَّعِيمَ الْمُقِيمَ بِالْحَيَاةِ الْمُنَغَّصَةِ الْمُنَكَّدَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَالْمُدَّةُ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ، أَوْ عَشِيَّةٌ أَوْ ضُحَاهَا، أَوْ يَوْمٌ أَوْ بَعْضُ يَوْمٍ، فِيهِ رِبْحُ الْأَبَدِ أَوْ خَسَارَةُ الْأَبَدِ. فَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي ... وَيَذْهَبُ هَذَا كُلُّهُ وَيَزُولُ

فصل وجوه الانفصال

[فَصْلٌ وُجُوهُ الِانْفِصَالِ] فَصْلٌ قَالَ الشَّيْخُ: لَيْسَ فِي الْمَقَامَاتِ شَيْءٌ فِيهِ مِنَ التَّفَاوُتِ مَا فِي الِانْفِصَالِ. يَعْنِي: أَنَّ بَيْنَ دَرَجَاتِ الْمَقَامَاتِ تَنَاسُبٌ، وَاخْتِلَافٌ يَسِيرٌ. وَمَقَامُ الِانْفِصَالِ قَلِيلُ التَّنَاسُبِ فِي دَرَجَاتِهِ، كَثِيرُ التَّفَاوُتِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ. قَالَ: وَوُجُوهُهُ ثَلَاثَةٌ، أَحَدُهَا: انْفِصَالٌ هُوَ شَرْطُ الِاتِّصَالِ، وَهُوَ الِانْفِصَالُ عَنِ الْكَوْنَيْنِ بِانْفِصَالِ نَظَرِكَ إِلَيْهِمَا، وَانْفِصَالِ تَوَقُّفِكَ عَلَيْهِمَا، وَانْفِصَالِ مُبَالَاتِكَ بِهِمَا. يَعْنِي: أَنَّ انْفِصَالَ الْعَبْدِ عَنْ رُسُومِهِ بِالْفَنَاءِ، هُوَ شَرْطُ اتِّصَالِ وَجُودِهِ بِالْبَقَاءِ، فَلَا وَلَاءَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَّا بِالْبَرَاءِ مِمَّا يُضَادُّ ذَلِكَ وَيُخَالِفُهُ، وَقَدْ قَالَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ لِقَوْمِهِ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26 - 27] ، وَقَالَ الْفِتْيَةُ: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف: 16] فَلَمْ تَعْتَزِلُوهُ. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّيْخُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ لَا تَخْلُو عَنْ إِنْكَارٍ حَتَّى يُبَيَّنَ مَعْنَاهَا وَالْمُرَادُ بِهَا، فَإِنَّ الْكَوْنَيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِعَالَمِ الْغَيْبِ وَعَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَفِيهِمَا الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ، وَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ، فَكَيْفَ يَنْفَصِلُ عَنْهُمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَقِفُ بِقَلْبِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُبَالِي بِهِمْ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي لِسَانِ الْقَوْمِ مِنَ الِاسْتِعَارَاتِ، وَإِطْلَاقِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْخَاصِّ، وَإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَإِرَادَةِ إِشَارَتِهِ دُونَ حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ: مَا لَيْسَ فِي لِسَانِ أَحَدٍ مِنَ الطَّوَائِفِ غَيْرُهُمْ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَصْحَابُ إِشَارَةٍ لَا أَصْحَابُ عِبَارَةٍ، وَالْإِشَارَةُ لَنَا وَالْعِبَارَةُ لِغَيْرِنَا، وَقَدْ يُطْلِقُونَ الْعِبَارَةَ الَّتِي يُطْلِقُهَا الْمُلْحِدُ، وَيُرِيدُونَ بِهَا مَعْنًى لَا فَسَادَ فِيهِ، وَصَارَ هَذَا سَبَبًا لِفِتْنَةِ طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةٌ تَعَلَّقُوا عَلَيْهِمْ بِظَاهِرِ عِبَارَاتِهِمْ، فَبَدَّعُوهُمْ وَضَلَّلُوهُمْ، وَطَائِفَةٌ نَظَرُوا إِلَى مَقَاصِدِهِمْ وَمَغْزَاهُمْ، فَصَوَّبُوا تِلْكَ الْعِبَارَاتِ، وَصَحَّحُوا تِلْكَ الْإِشَارَاتِ، فَطَالِبُ الْحَقِّ يَقْبَلُهُ مِمَّنْ كَانَ، وَيَرُدُّ مَا خَالَفَهُ عَلَى مَنْ كَانَ. وَمُرَادُ الشَّيْخِ وَأَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ: أَنَّ النَّفْسَ لَمَّا كَانَتْ مَائِلَةً إِلَى الْمَلْذُوذَاتِ الْمَحْسُوسَةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الْمُشَاهَدَةِ الْمُعَايَنَةِ كَانَ النَّظَرُ إِلَيْهَا وَالْوُقُوفُ مَعَهَا عِلَّةً فِي الطَّرِيقِ وَالْقَصْدِ جَمِيعًا، وَكَانَ شَاغِلًا لَهَا عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْمَقْصُودِ وَحْدَهُ، وَالْوُقُوفِ مَعَهُ دُونَ

غَيْرِهِ، وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ دُونَ مَا سِوَاهُ، فَمَتَى قَوِيَ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالْمَقْصُودِ الْأَعْلَى، بِحَيْثُ يَشْغَلُهُ ذِكْرُهُ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ، وَحُبُّهُ عَنْ حُبِّ غَيْرِهِ، وَخَوْفُهُ عَنْ خَوْفِ غَيْرِهِ، وَرَجَاؤُهُ عَنْ رَجَاءِ غَيْرِهِ، وَكَانَ أُنْسُهُ بِهِ خَاصَّةً انْفَصَلَ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ فِي حَالِ شُغْلِهِ بِهِ سُبْحَانَهُ؛ إِذْ لَيْسَ فِيهِ اتِّسَاعٌ لِغَيْرِهِ، فَانْفَصَلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ نَظَرُهُ إِلَى الْكَوْنَيْنِ، وَانْفَصَلَ تَوَقُّفُهُ عَلَيْهِمَا، وَانْفَصَلَتْ مُبَالَاتُهُ بِهِمَا ضَرَّا أَوْ نَفْعًا، أَوْ عَطَاءً أَوْ مَنْعًا، وَهَذِهِ الْحَالُ لَا تَدُومُ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى الْكَوْنِ بِحُكْمِ طَبِيعَتِهِ، وَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْكَوْنِ ذَكَرَ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ وَالْأَوْلِيَاءَ بِالتَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ، وَأَحْسَنِ الذِّكْرِ، وَذَكَرَ أَعْدَاءَهُمْ بِاللَّعْنِ وَأَقْبَحِ الذِّكْرِ - فَهَذِهِ وَظِيفَتُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَتِلْكَ وَظِيفَتُهُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ انْفِصَالُ شُهُودٍ فِي الْأَحْوَالِ، لَا انْفِصَالَ وُجُودٍ، وَلَا انْفِصَالَ شُهُودٍ دَائْمًا أَبَدًا، وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِ هَذَا، فَإِنَّهُ خَيَالٌ وَخَبَالٌ وَوَهْمٌ، لَا نُطِيلُ الْكِتَابَ بِذِكْرِهِ. قَالَ: الثَّانِي: انْفِصَالٌ عَنْ رُؤْيَةِ الِانْفِصَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنْ لَا يَتَرَاءَى عِنْدَكَ فِي شُهُودِ التَّحْقِيقِ شَيْءٌ يُوصِلُ بِالِانْفِصَالِ مِنْهُمَا إِلَى شَيْءٍ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى عِنْدَهُ مِمَّا قَبْلَهَا، مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْأُولَى وَسِيلَةً إِلَيْهَا، وَكَانَتْ هَذِهِ غَايَةً لَهَا وَمُرَتَّبَةً عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمُنْفَصِلَ مِنَ الْكَوْنَيْنِ شُغْلًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ تَسْكُنُ نَفْسُهُ إِلَى مَقَامِهِ مِنَ الِانْفِصَالِ، وَيُسَاكِنُهُ بِسِرِّهِ وَقَلْبِهِ، وَيَغِيبُ عَنْهُ أَنَّهُ مَحْضُ مِنَّةِ اللَّهِ، وَمُجَرَّدُ عَطَائِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ رُؤْيَةِ انْفِصَالِهِ، وَيُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِهِ وَوَلِيِّهِ الْمَانِّ بِهِ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ يَتَضَمَّنُ التَّفَاوُتَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى أَنَّ الِانْفِصَالَ شَرْطٌ فِي الِاتِّصَالِ، وَقَالَ هَاهُنَا: " لَا يَتَرَاءَى عِنْدَكَ فِي شُهُودِ التَّحْقِيقِ سَبَبٌ يُوصِلُ بِالِانْفِصَالِ مِنْهُمَا إِلَى شَيْءٍ " وَهَذَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرَهُ، وَلَا يَجْتَمِعُ مَعْنَى كَلَامَيْهِ، بَلْ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتُ التَّنَاقُضِ، فَأَيْنَ شَرْطُ حُصُولِ الشَّيْءِ مِنْ شُهُودِ عَدَمِ كَوْنِهِ سَبَبًا وَشَرْطًا؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ شَرْطًا وَسَبَبًا لِحُصُولِ شَيْءٍ لَا يُنَاقِضُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ رُؤْيَتِهِ شَرْطًا لِحُصُولِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَيَكُونُ حُصُولُهُ مَشْرُوطًا بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَبِعَدَمِ رُؤْيَةِ الْعَبْدِ لَهُ، فَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ مَانِعَةً، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ بِبَيَانِ كَلَامِهِ.

فَقَوْلُهُ: " انْفِصَالٌ عَنْ رُؤْيَةِ الِانْفِصَالِ " يَعْنِي: أَنَّ الْعَبْدَ يَرَى حَالَةَ الشُّهُودِ أَنَّهُ انْفَصَلَ عَنِ الْكَوْنَيْنِ، ثُمَّ اتَّصَلَ بِجَنَابِ الْعِزَّةِ، فَيَشْهَدُ اتِّصَالًا بَعْدَ انْفِصَالٍ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ فِي التَّحْقِيقِ لَيْسَتْ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنِ الْكَوْنَيْنِ أَصْلًا، لَكِنَّهُ تَوَهَّمَ ذَلِكَ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنِ الْكَوْنَيْنِ فَقَدِ انْفَصَلَ عَنْ الِانْفِصَالِ الْمَذْكُورِ، لِتَحَقُّقِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا. ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفَ يَصِحُّ لَهُ انْفِصَالٌ عَنِ انْفِصَالِهِ بِقَوْلِهِ: أَنْ لَا يَتَرَاءَى؛ أَيْ: لَا يَظْهَرُ لَكَ شَيْءٌ فِي شُهُودِ التَّحْقِيقِ يَكُونُ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلِاتِّصَالِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْ تَشَهَدَ التَّحْقِيقَ، فَيُرِيكَ شُهُودُهُ: أَنَّكَ مَا انْفَصَلْتَ بِنَفْسِكَ عَنْ شَيْءٍ، وَلَا اتَّصَلْتَ بِنَفْسِكَ بِشَيْءٍ، بَلِ الْأَمْرُ كُلُّهُ بِيَدِ غَيْرِكَ، فَهُوَ الَّذِي فَصَلَكَ وَهُوَ الَّذِي وَصَلَكَ. وَأَمَّا الْمُلْحِدُ: فَيُفَسِّرُ كَلَامَهُ بِغَيْرِ هَذَا، وَيَقُولُ: إِذَا شَهِدْتَ الْحَقِيقَةَ أَرَتْكَ أَنَّكَ ما انْفَصَلْتَ مِنْ شَيْءٍ، وَلَا اتَّصَلَتْ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ تِلْكَ اثْنِينِيَّةٌ تُنَافِي الْوَحْدَةَ الْمُطْلَقَةَ. فَانْظُرْ مَا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَكَيْفَ يَجُرُّهَا كُلُّ أَحَدٍ إِلَى نِحْلَتِهِ وَمَذْهَبِهِ؟ وَلِهَذَا يَقُولُ الْمُلْحِدُ: إِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ اتِّصَالٌ وَلَا انْفِصَالٌ إِنَّمَا هُوَ فِي نَظَرِ الْعَبْدِ وَوَهْمِهِ فَقَطْ، فَإِذَا صَارَ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا انْفِصَالَ وَلَا اتِّصَالَ، وَيُنْشِدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْتًا مَشْهُورًا لِطَائِفَةِ الِاتِّحَادِيَّةِ: فَمَا فِيكَ لِي شَيْءٌ لِشَيْءٍ مُوَافِقُ ... وَلَا مِنْكَ لِي شَيْءٌ لِشَيْءٍ مُخَالِفُ قَالَ: الثَّالِثُ: انْفِصَالٌ عَنْ الِاتِّصَالِ، وَهُوَ انْفِصَالٌ عَنْ شُهُودِ مُزَاحَمَةِ الِاتِّصَالِ عَيْنَ السَّبْقِ، فَإِنَّ الِانْفِصَالَ وَالِاتِّصَالَ عَلَى عِظَمِ تَفَاوُتِهِمَا فِي الِاسْمِ وَالرَّسْمِ فِي الْعِلَّةِ سِيَّانِ. الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ مَا قَبْلَهَا انْفِصَالٌ عَنْ سُكُونِهِ إِلَى انْفِصَالِهِ وَرُؤْيَتِهِ لَهُ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ انْفِصَالٌ عَنْ رُؤْيَةِ اتِّصَالِهِ، فَيَتَجَرَّدُ عَنْ رُؤْيَةِ كَوْنِهِ مُتَّصِلًا، فَإِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ عِلَّةٌ فِي الِاتِّصَالِ، بَلْ كَمَالُ الِاتِّصَالِ غَيْبَتُهُ عَنْ رُؤْيَةِ كَوْنِهِ مُتَّصِلًا، لِكَمَالِ اسْتِغْرَاقِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ حَقِيقَةِ الِاتِّصَالِ، فَيَحْصُلُ مِنَ الدَّرَجَتَيْنِ انْفِصَالُهُ عَنْ الِانْفِصَالِ وَالِاتِّصَالِ مَعًا. فَهَاهُنَا جَالَ الْمُلْحِدُ وَصَالَ، وَفَتَحَ فَاهُ نَاطِقًا بِالْإِلْحَادِ، وَقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِانْفِصَالَ وَالِاتِّصَالَ لَا حَقِيقَةَ لَهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ، فَلَا حَقِيقَةَ

فصل المعرفة

لَهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنْ فِي وَهْمِ الْمُكَاشِفِ، فَأَيْنَ الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ؟ إِنَّمَا الْوَهْمُ وَالْخَيَالُ قَدْ حَكَمَا عَلَى أَكْثَرِ الْخَلْقِ. وَقَدْ أَعَاذَ اللَّهُ الشَّيْخَ مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ هَذَا الْإِلْحَادُ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَدْ كَشَفَ عَنْ مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ: " وَهُوَ انْفِصَالٌ عَنْ شُهُودِ مُزَاحَمَةِ الِاتِّصَالِ عَيْنَ السَّبْقِ " أَيْ: يَنْفَصِلُ عَنْ شُهُودِ مُزَاحَمَتِهِ لِاتِّصَالِهِ عَمَّا سَبَقَ فِي الْأَزَلِ مِنَ الْأَوَّلِ الْآخِرِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا لَاحَظَ السَّبْقَ وَمَا تَقَرَّرَ فِيهِ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُوَ وَلَا شَيْءَ مِنَ الْأَشْيَاءِ لَمْ يُزَاحِمْ شُهُودَ اتِّصَالِهِ لِشُهُودِ مَا سَبَقَ لَهُ بِهِ الْأَزَلُ، بَلِ اضْمَحَلَّ فِعْلُهُ وَشُهُودُهُ وَوُجُودُهُ إِلَى ذَلِكَ الْوُجُودِ الْأَزَلِيِّ، بِحَيْثُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، فَإِذَا نُسِبَ فِعْلُهُ وَصِفَاتُهُ وَوُجُودُهُ إِلَى ذَلِكَ الْوُجُودِ اضْمَحَلَّ وَتَلَاشَى، وَصَارَ كَالظِّلِّ وَالْخَيَالِ لِلشَّخْصِ. قَوْلُهُ: فَإِنَّ الِاتِّصَالَ وَالِانْفِصَالَ عَلَى عِظَمِ تَفَاوُتِهِمَا فِي الِاسْمِ وَالرَّسْمِ فِي الْعِلَّةِ سِيَّانِ. مَعْنَاهُ: أَنَّ مَعْنَى اسْمِ الِاتِّصَالِ يُضَادُّ اسْمَ الِانْفِصَالِ كَمَا يُضَادُّ اسْمُهُ اسْمَهُ، وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْعِلَّةِ؛ أَيْ: رُؤْيَةُ الِاتِّصَالِ عِلَّةٌ، وَرُؤْيَةُ الِانْفِصَالِ عِلَّةٌ، فَتَسَاوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنْ تَضَادَّا لَفْظًا وَمَعْنًى، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلُ الْمَعْرِفَةِ] [حَقِيقَةُ الْمَعْرِفَةِ] فَصْلُ الْمَعْرِفَةِ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ الْمَعْرِفَةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] الْمَعْرِفَةُ: إِحَاطَةٌ بِعَيْنِ الشَّيْءِ كَمَا هُوَ. قُلْتُ: وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ الْمَعْرِفَةِ وَلَفْظُ الْعِلْمِ، فَلَفْظُ الْمَعْرِفَةِ كَقَوْلِهِ: {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] ، وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] .

وَأَمَّا لَفْظُ الْعِلْمِ فَهُوَ أَوْسَعُ إِطْلَاقًا، كَقَوْلِهِ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] ، وَقَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114] ، وَقَوْلِهِ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] ، وَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19] ، وَقَوْلِهِ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم: 56] ، وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص: 80] ، وَقَوْلِهِ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] ، وَقَوْلِهِ: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل: 40] ، وَقَوْلِهِ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: 17] ، وَقَوْلِهِ: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20] ، وَقَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} [البقرة: 223] ، وَقَوْلِهِ: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14] وَهَذَا كَثِيرٌ. وَاخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ اسْمَ الْعِلْمِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ، فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ، وَعَلِيمٌ، وَعَلَّامٌ، وَعَلِمَ، وَيَعْلَمُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُ عِلْمًا دُونَ لَفْظِ الْمَعْرِفَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْمَ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ أَكْمَلُ نَوْعِهِ الْمُشَارِكُ لَهُ فِي مَعْنَاهُ. وَإِنَّمَا جَاءَ لَفْظُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، كَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] إِلَى قَوْلِهِ {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] ، وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] .

فصل الفرق بين العلم والمعرفة

وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ تُرَجِّحُ الْمَعْرِفَةَ عَلَى الْعِلْمِ جِدًّا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَرْفَعُ بِالْعِلْمِ رَأْسًا، وَيُعِدُّهُ قَاطِعًا وَحِجَابًا دُونَ الْمَعْرِفَةِ، وَأَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ مِنْهُمْ: أَشَدُّ النَّاسِ وَصِيَّةً لِلْمُرِيدِينَ بِالْعِلْمِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلِيٌّ لِلَّهِ كَامِلُ الْوِلَايَةِ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْعِلْمِ أَبَدًا، فَمَا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَا يَتَّخِذُ وَلِيًّا جَاهِلًا، وَالْجَهْلُ رَأْسُ كُلِّ بِدْعَةٍ وَضَلَالَةٍ وَنَقْصٍ، وَالْعِلْمُ أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ وَهُدًى وَكَمَالٍ. [فَصْلٌ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ] فَصْلٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَمَّا اللَّفْظُ: فَفِعْلُ الْمَعْرِفَةِ يَقَعُ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، تَقُولُ: عَرْفْتُ الدَّارَ، وَعَرَفْتُ زَيْدًا، قَالَ تَعَالَى: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [يوسف: 58] ، وَقَالَ: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] . وَفِعْلُ الْعِلْمِ يَقْتَضِي مَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] وَإِنْ وَقَعَ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، كَانَ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ، كَقَوْلِهِ: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] وَأَمَّا الْفَرْقُ الْمَعْنَوِيُّ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الشَّيْءِ، وَالْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِهِ، فَتَقُولُ: عَرَفْتُ أَبَاكَ، وَعَلِمْتُهُ صَالِحًا عَالِمًا، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْأَمْرُ فِي الْقُرْآنِ بِالْعِلْمِ دُونَ الْمَعْرِفَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] ، وَقَوْلِهِ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 98] ، وَقَوْلِهِ: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14] . فَالْمَعْرِفَةُ: حُضُورُ صُورَةِ الشَّيْءِ وَمِثَالِهِ الْعِلْمِيِّ فِي النَّفْسِ، وَالْعِلْمُ: حُضُورُ أَحْوَالِهِ وَصِفَاتِهِ وَنِسْبَتِهَا إِلَيْهِ، فَالْمَعْرِفَةُ: تُشْبِهُ التَّصَوُّرَ، وَالْعِلْمُ: يُشْبِهُ التَّصْدِيقَ.

الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِي الْغَالِبِ تَكُونُ لِمَا غَابَ عَنِ الْقَلْبِ بَعْدَ إِدْرَاكِهِ، فَإِذَا أَدْرَكَهُ قِيلَ: عَرَفَهُ، أَوْ تَكُونُ لِمَا وُصِفَ لَهُ بِصِفَاتٍ قَامَتْ فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا رَآهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِهَا، قِيلَ: عَرَفَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [يوسف: 58] ، وَقَالَ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] لَمَّا كَانَتْ صِفَاتُهُ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمْ، فَرَأَوْهُ: عَرَفُوهُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِآخِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا: أَتَعْرِفُ الزَّمَانَ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى عَلَى رَبِّهِ» وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] فَالْمَعْرِفَةُ: تُشْبِهُ الذِّكْرَ لِلشَّيْءِ، وَهُوَ حُضُورُ مَا كَانَ غَائِبًا عَنِ الذِّكْرِ، وَلِهَذَا كَانَ ضِدَّ الْمَعْرِفَةِ الْإِنْكَارُ، وَضِدَّ الْعِلْمِ الْجَهْلُ، قَالَ تَعَالَى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83] وَيُقَالُ: عَرَفَ الْحَقَّ فَأَقَرَّ بِهِ، وَعَرَفَهُ فَأَنْكَرَهُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْفَرْقِ: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ تُفِيدُ تَمْيِيزَ الْمَعْرُوفِ عَنْ غَيْرِهِ وَالْعِلْمَ يُفِيدُ تَمْيِيزَ مَا يُوصَفُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا الْفَرْقُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ ذَاكَ يَرْجِعُ إِلَى إِدْرَاكِ الذَّاتِ وَإِدْرَاكِ صِفَاتِهَا، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى تَخْلِيصِ الذَّاتِ مِنْ غَيْرِهَا، وَتَخْلِيصِ صِفَاتِهَا مِنْ صِفَاتِ غَيْرِهَا. الْفَرْقُ الرَّابِعُ: أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: عَلِمْتُ زَيْدًا، لَمْ يُفِدِ الْمُخَاطَبَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يَنْتَظِرُ

بَعْدُ: أَنْ تُخْبِرَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ عَلِمْتَهُ؟ فَإِذَا قُلْتَ: كَرِيمًا أَوْ شُجَاعًا، حَصَلَتْ لَهُ الْفَائِدَةُ، وَإِذَا قُلْتَ: عَرَفْتُ زَيْدًا. اسْتَفَادَ الْمُخَاطَبُ، أَنَّكَ أَثْبَتَّهُ وَمَيَّزْتَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مُنْتَظِرًا لِشَيْءٍ آخَرَ، وَهَذَا الْفَرْقُ فِي التَّحْقِيقِ إِيضَاحٌ لِلْفَرْقِ الَّذِي قَبْلَهُ. الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَهُوَ فَرْقُ الْعَسْكَرِيِّ فِي فُرُوقِهِ وَفُرُوقِ غَيْرِهِ: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِلْمٌ بِعَيْنِ الشَّيْءِ مُفَصَّلًا عَمَّا سِوَاهُ، بِخِلَافِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ مُجْمَلًا، وَهَذَا يُشْبِهُ فَرْقَ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْمَعْرِفَةُ إِحَاطَةٌ بِعَيْنِ الشَّيْءِ كَمَا هُوَ، وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ: فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعْرَفَ اللَّهُ أَلْبَتَّةَ، وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ هَذَا الْبَابُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا، وَلَا مَعْرِفَةً وَلَا رُؤْيَةً، فَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ، قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] بَلْ حَقِيقَةُ هَذَا الْحَدِّ: انْتِفَاءُ تَعَلُّقِ الْمَعْرِفَةِ بِأَكْبَرِ الْمَخْلُوقَاتِ حَتَّى بِأَظْهَرِهَا، وَهُوَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، بَلْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدٌ نَفْسَهُ وَذَاتَهُ أَلْبَتَّةَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُمْ هِيَ الْعِلْمُ الَّذِي يَقُومُ الْعَالِمُ بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ، فَلَا يُطْلِقُونَ الْمَعْرِفَةَ عَلَى مَدْلُولِ الْعِلْمِ وَحْدَهُ، بَلْ لَا يَصِفُونَ بِالْمَعْرِفَةِ إِلَّا مَنْ كَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ، وَبِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى اللَّهِ، وَبِآفَاتِهَا وَقَوَاطِعِهَا، وَلَهُ حَالٌ مَعَ اللَّهِ تَشْهَدُ لَهُ بِالْمَعْرِفَةِ، فَالْعَارِفُ عِنْدَهُمْ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، ثُمَّ صَدَقَ اللَّهَ فِي مُعَامَلَتِهِ، ثُمَّ أَخْلَصَ لَهُ فِي قُصُودِهِ وَنِيَّاتِهِ، ثُمَّ انْسَلَخَ مِنْ أَخْلَاقِهِ الرَّدِيئَةِ وَآفَاتِهِ، ثُمَّ تَطَهَّرَ مِنْ أَوْسَاخِهِ وَأَدْرَانِهِ وَمُخَالَفَاتِهِ، ثُمَّ صَبَرَ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ فِي نِعَمِهِ وَبَلِيَّاتِهِ، ثُمَّ دَعَا إِلَيْهِ عَلَى بَصِيرَةٍ بِدِينِهِ وَآيَاتِهِ، ثُمَّ جَرَّدَ الدَّعْوَةَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ، وَلَمْ يَشُبْهَا بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَأَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ وَمَقَايِيسِهِمْ وَمَعْقُولَاتِهِمْ، وَلَمْ يَزِنْ بِهَا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ صَلَوَاتِهِ، فَهَذَا الَّذِي يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْعَارِفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِذَا سُمِّيَ بِهِ غَيْرُهُ عَلَى الدَّعْوَى وَالِاسْتِعَارَةِ.

وَقَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِآثَارِهَا وَشَوَاهِدِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ أَمَارَاتِ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ: حُصُولُ الْهَيْبَةِ مِنْهُ، فَمَنِ ازْدَادَتْ مَعْرِفَتُهُ ازْدَادَتْ هَيْبَتُهُ. وَقَالَ أَيْضًا: الْمَعْرِفَةُ تُوجِبُ السُّكُونَ، فَمَنِ ازْدَادَتْ مَعْرِفَتُهُ ازْدَادَتْ سَكِينَتُهُ. وَقَالَ لِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا: مَا عَلَامَةُ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي يُشِيرُونَ إِلَيْهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: أُنْسُ الْقَلْبِ بِاللَّهِ، قَالَ لِي: عَلَامَتُهَا أَنْ يُحِسَّ بِقُرْبِ قَلْبِهِ مِنَ اللَّهِ، فَيَجِدُهُ قَرِيبًا مِنْهُ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: لَيْسَ لِعَارِفٍ عَلَاقَةٌ، وَلَا لِمُحِبٍّ شَكْوَى، وَلَا لِعَبْدٍ دَعْوَى، وَلَا لِخَائِفٍ قَرَارٌ. وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ اللَّهِ فِرَارٌ. وَهَذَا كَلَامٌ جَيِّدٌ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ تَقْطَعُ مِنَ الْقَلْبِ الْعَلَائِقَ كُلَّهَا، وَتُعَلِّقُهُ بِمَعْرُوفِهِ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ عَلَاقَةٌ بِغَيْرِهِ، وَلَا تَمُرُّ بِهِ الْعَلَائِقُ إِلَّا وَهِيَ مُجْتَازَةٌ، لَا تَمُرُّ مُرُورَ اسْتِيطَانٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ: مَنْ كَانَ بِاللَّهِ أَعْرَفَ كَانَ لَهُ أَخْوَفَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَعْرَفُكُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» . وَقَالَ آخَرُ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى ضَاقَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِسِعَتِهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى اتَّسَعَ عَلَيْهِ كُلُّ ضِيقٍ. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّهُ يَضِيقُ عَلَيْهِ كُلُّ مَكَانٍ لَا يُسَاعَدُ فِيهِ عَلَى شَأْنِهِ وَمَطْلُوبِهِ، وَيَتَّسِعُ عَلَيْهِ مَا ضَاقَ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ، وَلَا هُوَ مُسَاكِنٌ لَهُ بِقَلْبِهِ، فَقَلْبُهُ غَيْرُ مَحْبُوسٍ فِيهِ. وَالْأَوَّلُ: فِي بِدَايَةِ الْمَعْرِفَةِ. وَالثَّانِي: فِي نِهَايَتِهَا الَّتِي يَصِلُ إِلَيْهَا الْعَبْدُ. وَقَالَ آخَرُ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى صَفَا لَهُ الْعَيْشُ، فَطَابَتْ لَهُ الْحَيَاةُ، وَهَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَذَهَبَ عَنْهُ خَوْفُ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَنِسَ بِاللَّهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ قَرَّتْ عَيْنُهُ بِاللَّهِ، وَقَرَّتْ عَيْنُهُ بِالْمَوْتِ، وَقَرَّتْ بِهِ كُلُّ عَيْنٍ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ تَقَطَّعَ قَلْبُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَاتٍ، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ لَمْ يَبْقَ لَهُ رَغْبَةٌ

فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنِ ادَّعَى مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَهُوَ رَاغِبٌ فِي غَيْرِهِ: كَذَّبَتْ رَغْبَتُهُ مَعْرِفَتَهُ، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ أَحَبَّهُ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَخَافَهُ وَرَجَاهُ، وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَأَنَابَ إِلَيْهِ، وَلَهِجَ بِذِكْرِهِ، وَاشْتَاقَ إِلَى لِقَائِهِ، وَاسْتَحْيَا مِنْهُ، وَأَجَلَّهُ وَعَظَمَّهُ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَعَلَامَةُ الْعَارِفِ: أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مِرْآةً إِذَا نَظَرَ فِيهَا الْغَيْبَ الَّذِي دُعِيَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَعَلَى قَدْرِ جِلَاءِ تِلْكَ الْمِرْآةِ يَتَرَاءَى لَهُ فِيهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالدَّارُ الْآخِرَةُ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَالْمَلَائِكَةُ، وَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، كَمَا قِيلَ: إِذَا سَكَنَ الْغَدِيرُ عَلَى صَفَاءٍ ... وَجُنِّبَ أَنْ يُحَرِّكَهُ النَّسِيمُ بَدَتْ فِيهِ السَّمَاءُ بِلَا امْتِرَاءٍ ... كَذَاكَ الشَّمْسُ تَبْدُو وَالنُّجُومُ كَذَاكَ قُلُوبُ أَرْبَابِ التَّجَلِّي ... يُرَى فِي صَفْوِهَا اللَّهُ الْعَظِيمُ وَهَذِهِ رُؤْيَةُ الْمَثَلِ الْأَعْلَى، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمَعْرِفَةِ: أَنْ يَبْدُوَ لَكَ الشَّاهِدُ، وَتَفْنَى الشَّوَاهِدُ، وَتَنْحَلَّ الْعَلَائِقُ، وَتَنْقَطِعَ الْعَوَائِقُ، وَتَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَتَقُومَ وَتَضْطَجِعَ عَلَى التَّأَهُّبِ لِلِقَائِهِ، كَمَا يَجْلِسُ الَّذِي شَدَّ أَحْمَالَهُ وَأَزْمَعَ السَّفَرَ عَلَى التَّأَهُّبِ لَهُ، وَيَقُومُ عَلَى ذَلِكَ وَيَضْطَجِعُ عَلَيْهِ، كَمَا يَنْزِلُ الْمُسَافِرُ فِي الْمَنْزِلِ، فَهُوَ قَائِمٌ وَجَالِسٌ وَمُضْطَجِعٌ عَلَى التَّأَهُّبِ. وَقِيلَ لِلْجُنَيْدِ: إِنَّ أَقْوَامًا يَدَّعُونَ الْمَعْرِفَةَ، يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ يَصِلُونَ بِتَرْكِ الْحَرَكَاتِ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؟ فَقَالَ الْجُنَيْدُ: هَذَا قَوْلُ أَقْوَامٍ تَكَلَّمُوا بِإِسْقَاطِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ عِنْدِي عَظِيمٌ، وَالَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الَّذِي يَقُولُ هَذَا، إِنَّ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ أَخَذُوا الْأَعْمَالَ عَنِ اللَّهِ، وَإِلَى اللَّهِ رَجَعُوا فِيهَا، وَلَوْ بَقِيتُ أَلْفَ عَامٍ لَمْ أَنْقُصْ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ذَرَّةً إِلَّا أَنْ يُحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا. وَمِنْ عَلَامَاتِ الْعَارِفِ: أَنَّهُ لَا يُطَالِبُ وَلَا يُخَاصِمُ، وَلَا يُعَاتِبُ، وَلَا يَرَى لَهُ عَلَى أَحَدٍ فَضْلًا، وَلَا يَرَى لَهُ عَلَى أَحَدٍ حَقًّا. وَمِنْ عَلَامَاتِهِ: أَنَّهُ لَا يَأْسَفُ عَلَى فَائِتٍ، وَلَا يَفْرَحُ لِآتٍ؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْأَشْيَاءِ بِعَيْنِ الْفَنَاءِ وَالزَّوَالِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ كَالظِّلَالِ وَالْخَيَالِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: لَا يَكُونُ الْعَارِفُ عَارِفًا حَتَّى يَكُونَ كَالْأَرْضِ يَطَؤُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَكَالسَّحَابِ يُظِلُّ كُلَّ شَيْءٍ، وَكَالْمَطَرِ يَسْقِي مَا يُحِبُّ وَمَا لَا يُحِبُّ.، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: يَخْرُجُ الْعَارِفُ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَقْضِ وَطَرَهُ مِنْ شَيْئَيْنِ: بُكَاءٍ عَلَى نَفْسِهِ، وَثَنَاءٍ عَلَى رَبِّهِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ وَعُيُوبِهِ وَآفَاتِهِ، وَعَلَى مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ وَكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، فَهُوَ شَدِيدُ الْإِزْرَاءِ عَلَى نَفْسِهِ، لَهِجٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ.

وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ: إِنَّمَا نَالُوا الْمَعْرِفَةَ بِتَضْيِيعِ مَا لَهُمْ وَالْوُقُوفِ مَعَ مَا لَهُ. يُرِيدُ تَضْيِيعَ حُظُوظِهِمْ، وَالْوُقُوفَ مَعَ حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَتُغْنِيهِمْ حُقُوقُهُ عَنْ حُظُوظِهِمْ. وَقَالَ آخَرُ: لَا يَكُونُ الْعَارِفُ عَارِفًا حَتَّى لَوْ أُعْطِيَ مُلْكَ سُلَيْمَانَ لَمْ يَشْغَلْهُ عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ، فَإِنَّ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ يَشْغَلُ الْقَلْبَ، لَكِنْ يَكُونُ اشْتِغَالُهُ بِغَيْرِ اللَّهِ لِلَّهِ، فَذَلِكَ اشْتِغَالٌ بِهِ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِغَيْرِهِ لِأَجْلِهِ لَمْ يَشْتَغِلْ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: الْمَعْرِفَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ: الْهَيْبَةُ وَالْحَيَاءُ وَالْأُنْسُ. وَقِيلَ لِذِي النُّونِ: بِمَ عَرَفْتَ اللَّهَ رَبَّكَ؟ قَالَ: عَرَفْتُ رَبِّي بِرَبِّي، وَلَوْلَا رَبِّي لَمَا عَرَفْتُ رَبِّي. وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: بِمَاذَا نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَأَتَى عَبْدُ اللَّهِ بِأَصْلِ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ مَعْرِفَةٌ وَلَا إِقْرَارٌ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ الْمُبَايَنَةُ وَالْعُلُوُّ عَلَى الْعَرْشِ. وَمِنْ عَلَامَاتِ الْعَارِفِ: أَنْ يَعْتَزِلَ الْخَلْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ لَا يَمْلِكُونَ لَهُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، وَيَعْتَزِلُ نَفْسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُمْ بِلَا نَفْسٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْعَارِفُ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ بِخُطْوَتَيْنِ: خُطْوَةٌ عَنْ نَفْسِهِ، وَخُطْوَةٌ عَنِ الْخَلْقِ. وَقِيلَ: الْعَارِفُ ابْنُ وَقْتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَخْصَرِهِ، فَهُوَ مَشْغُولٌ بِوَظِيفَةِ وَقْتِهِ عَمَّا مَضَى، وَصَارَ فِي الْعَدَمِ، وَعَمَّا لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ فِي الْوُجُودِ، فَهَمُّهُ عِمَارَةُ وَقْتِهِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ الْبَاقِيَةِ. وَمِنْ عَلَامَاتِهِ: أَنَّهُ مُسْتَأْنِسٌ بِرَبِّهِ، مُسْتَوْحِشٌ مِمَّنْ يَقْطَعُهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا قِيلَ: الْعَارِفُ مَنْ أَنِسَ بِاللَّهِ، فَأَوْحَشَهُ مِنَ الْخَلْقِ، وَافْتَقَرَ إِلَى اللَّهِ فَأَغْنَاهُ عَنْهُمْ، وَذَلَّ لِلَّهِ فَأَعَزَّهُ فِيهِمْ، وَتَوَاضَعَ لِلَّهِ فَرَفَعَهُ بَيْنَهُمْ، وَاسْتَغْنَى بِاللَّهِ فَأَحْوَجَهُمْ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْعَارِفُ فَوْقَ مَا يَقُولُ، وَالْعَالِمُ دُونَ مَا يَقُولُ، يَعْنِي أَنَّ الْعَالِمَ عِلْمُهُ أَوْسَعُ مِنْ حَالِهِ وَصِفَتِهِ، وَالْعَارِفُ حَالُهُ وَصِفَتُهُ فَوْقَ كَلَامِهِ وَخَبَرِهِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْتَحُ لِلْعَارِفِ عَلَى فِرَاشِهِ مَا لَمْ يَفْتَحْ لَهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَارِفُ تَنْطِقُ الْمَعْرِفَةُ عَلَى قَلْبِهِ وَحَالِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: لِكُلِّ شَيْءٍ عُقُوبَةٌ. وَعُقُوبَةُ الْعَارِفِ انْقِطَاعُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رِيَاءُ الْعَارِفِينَ أَفْضَلُ مِنْ إِخْلَاصِ الْمُرِيدِينَ، وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرُهُ مُنْكَرٌ جِدًّا يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ، فَالْعَارِفُ لَا يُرَائِي الْمَخْلُوقَ طَلَبًا لِلْمَنْزِلَةِ فِي قَلْبِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ رِيَاؤُهُ نَصِيحَةً وَإِرْشَادًا وَتَعْلِيمًا لِيُقْتَدَى بِهِ، فَهُوَ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِعَمَلِهِ كَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ، فَهُوَ يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ وَيَنْفَعُ بِهِ غَيْرَهُ، وَإِخْلَاصُ الْمُرِيدِ مَقْصُورٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَالْعَارِفُ جَمَعَ بَيْنَ الْإِخْلَاصِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، فَإِخْلَاصُهُ فِي قَلْبِهِ، وَهُوَ يُظْهِرُ عَمَلَهُ وَحَالَهُ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَالْعَارِفُ يَنْفَعُ بِسُكُوتِهِ، وَالْعَالِمُ إِنَّمَا يَنْفَعُ بِكَلَامِهِ. وَلَوْ سَكَتُوا أَثْنَتْ عَلَيْكَ الْحَقَائِقُ وَقَالَ ذُو النُّونِ: الزُّهَّادُ مُلُوكُ الْآخِرَةِ، وَهُمْ فُقَرَاءُ الْعَارِفِينَ. وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنِ الْعَارِفِ؟ فَقَالَ: لَوْنُ الْمَاءِ لَوْنُ إِنَائِهِ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ رَمَزَ بِهَا إِلَى حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَتَلَوَّنَ بِتَلَوُّنِ أَقْسَامِ الْعُبُودِيَّةِ، فَبَيْنَمَا تَرَاهُ مُصَلِّيًا إِذْ رَأَيْتَهُ ذَاكِرًا، أَوْ قَارِئًا، أَوْ مُعَلِّمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا، أَوْ مُجَاهِدًا، أَوْ حَاجًّا، أَوْ مُسَاعِدًا لِلضَّيْفِ، أَوْ مُغِيثًا لِلْمَلْهُوفِ، فَيَضْرِبُ فِي كُلِّ غَنِيمَةٍ مِنَ الْغَنَائِمِ بِسَهْمٍ، فَهُوَ مَعَ الْمُتَسَبِّبِينَ مُتَسَبِّبٌ، وَمَعَ الْمُتَعَلِّمِينَ مُتَعَلِّمٌ، وَمَعَ الْغُزَاةِ غَازٍ، وَمَعَ الْمُصَلِّينَ مُصَلٍّ، وَمَعَ الْمُتَصَدِّقِينَ مُتَصَدِّقٌ، فَهُوَ يَتَنَقَّلُ فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ عُبُودِيَّةٍ إِلَى عُبُودِيَّةٍ، وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعْبُودٍ وَاحِدٍ، لَا يَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْعَارِفُ كَائِنٌ بَائِنٌ، وَهَذَا يُفَسَّرُ عَلَى وُجُوهٍ. مِنْهَا: أَنَّهُ كَائِنٌ مَعَ الْخَلْقِ بِظَاهِرِهِ، بَائِنٌ عَنْهُمْ بِسِرِّهِ وَقَلْبِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ كَائِنٌ بِرَبِّهِ بَائِنٌ عَنْ نَفْسِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ كَائِنٌ مَعَ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، بَائِنٌ عَنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ كَائِنٌ مَعَ اللَّهِ بِمُوَافَقَتِهِ، بَائِنٌ عَنِ النَّاسِ فِي مُخَالَفَتِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْأَشْيَاءِ خَارِجٌ مِنْهَا، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْهَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الدُّخُولِ فِيهَا، وَالْعَارِفُ دَاخِلٌ فِيهَا خَارِجٌ مِنْهَا، وَلَعَلَّ هَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: عَلَامَةُ الْعَارِفِ ثَلَاثَةٌ: لَا يُطْفِئُ نُورُ مَعْرِفَتِهِ نُورَ وَرَعِهِ، وَلَا يَعْتَقِدُ بَاطِنًا مِنَ الْعِلْمِ يَنْقُضُهُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ مِنَ الْحُكْمِ، وَلَا تَحْمِلُهُ كَثْرَةُ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى هَتْكِ أَسْتَارِ مَحَارِمِ اللَّهِ. وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ الَّذِي قِيلَ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى شَرْحٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَرَى أَنَّ التَّوَرُّعَ عَنِ الْأَشْيَاءِ مِنْ قِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ مُتَّسِعَةُ الْأَكْنَافِ، وَاسِعَةُ الْأَرْجَاءِ. فَالْعَارِفُ وَاسِعٌ مُوَسَّعٌ، وَالسِّعَةُ تُطْفِئُ نُورَ الْوَرَعِ، فَالْعَارِفُ لَا تَنْقُصُ

مَعْرِفَتُهُ وَرَعَهُ، وَلَا يُخَالِفُ وَرَعُهُ مَعْرِفَتَهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمُ: الْعَارِفُ لَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا؛ لِاسْتِبْصَارِهِ بِسِرِّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ، فَعِنْدَهُ: أَنْ مُشَاهَدَةَ الْقَدَرِ وَالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ: هُوَ غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ، وَإِذَا شَاهَدَ الْحَقِيقَةَ عَذَرَ الْخَلِيقَةَ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْسُورُونَ فِي قَبْضَةِ الْقَدَرِ، فَمَنْ يَعْذُرُ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ وَالْجَرَائِمِ، بَلْ أَرْبَابَ الْكُفْرِ فَهُوَ أَبْعَدُ خَلْقِ اللَّهِ عَنِ الْوَرَعِ، بَلْ لِظَلَامِ مَعْرِفَتِهِ قَدْ أَطْفَأَ نُورَ إِيمَانِهِ. قَوْلُهُ " بَاطِنُ الْعِلْمِ الَّذِي يَنْقُضُهُ ظَاهِرُ الْحُكْمِ " فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِهِ إِلَى مَا عَلَيْهِ الْمُنْحَرِفُونَ، مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى السُّلُوكِ، فَإِنَّهُمْ يَقَعُ لَهُمْ أَذْوَاقٌ وَمَوَاجِيدُ، وَوَارِدَاتٌ تُخَالِفُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ، وَتَكُونُ تِلْكَ مَعْلُومَةً لَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ جَحْدُهَا، فَيَعْتَقِدُونَهَا وَيَتْرُكُونَ بِهَا ظَاهِرَ الْحُكْمِ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَهُوَ الَّذِي انْتَقَدَ أَئِمَّةَ الطَّرِيقِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَصَاحُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَبَدَّعُوهُمْ وَضَلَّلُوهُمْ بِهِ. قَوْلُهُ " وَلَا تَحْمِلُهُ كَثْرَةُ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى هَتْكِ أَسْتَارِ مَحَارِمِ اللَّهِ " كَثْرَةُ النِّعَمِ تُطْغِي الْعَبْدَ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَصْرِفَهَا فِي وُجُوهِهَا وَغَيْرِ وُجُوهِهَا، وَهِيَ تَدْعُو إِلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ الْعَبْدُ بِهَا مَا حَلَّ وَمَا لَا يَحِلُّ، وَأَكْثَرُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ لَا يَقْتَصِرُونَ فِي صَرْفِ النِّعْمَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْحَلَالِ، بَلْ يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَتُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّ مَعْرِفَتَهُ بِاللَّهِ تَرُدُّ عَلَيْهِ مَا انْتَهَبَتْهُ مِنْهُمْ أَيْدِي الشَّهَوَاتِ وَالْمُخَالَفَاتِ، وَيَقُولُ: الْعَارِفُ لَا تَضُرُّهُ الذُّنُوبُ، كَمَا تَضُرُّ الْجَاهِلَ، وَرُبَّمَا يُسَوَّلُ لَهُ أَنَّ ذُنُوبَهُ خَيْرٌ مِنْ طَاعَاتِ الْجُهَّالِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَكْرِ، وَالْأَمْرُ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ مِنَ الْجَاهِلِ مَا لَا يُحْتَمَلُ مِنَ الْعَارِفِ وَإِذَا عُوقِبَ الْجَاهِلُ ضِعْفًا عُوقِبَ الْعَارِفُ ضِعْفَيْنِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا شَرْعُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ، وَلِهَذَا كَانَتْ عُقُوبَةُ الْحُرِّ فِي الْحُدُودِ مِثْلَيْ عُقُوبَةِ الْعَبْدِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] فَإِذَا أُكْمِلَتِ النِّعْمَةُ عَلَى الْعَبْدِ، فَقَابَلَهَا بِالْإِسَاءَةِ وَالْعِصْيَانِ: كَانَتْ عُقُوبَتُهُ أَعْظَمَ، فَدَرَجَتُهُ أَعْلَى وَعُقُوبَتُهُ أَشَدُّ. وَقَالَ أَيْضًا: لَيْسَ بِعَارِفٍ مَنْ وَصَفَ الْمَعْرِفَةِ عِنْدَ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، فَكَيْفَ عِنْدَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا؟ يُرِيدُ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَصْفُ الْمَعْرِفَةِ لِغَيْرِ أَهْلِهَا، سَوَاءٌ كَانُوا عُبَّادًا، أَوْ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: الْمَعْرِفَةُ تَأْتِي مِنْ عَيْنِ الْوُجُودِ، وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ، وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ ثَمَرَةُ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي الْأَعْمَالِ، وَتَحَقُّقِ الْوَجْدِ فِي

فصل درجات المعرفة

الْأَحْوَالِ؛ فَهِيَ ثَمَرَةُ عَمَلِ الْجَوَارِحِ، وَحَالُ الْقَلْبِ لَا يُنَالُ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ، فَمَنْ لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ وَلَا حَالٌ فَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ. وَسُئِلَ ذُو النُّونِ عَنِ الْعَارِفِ؟ فَقَالَ: كَانَ هَاهُنَا فَذَهَبَ. فَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَمَّا أَرَادَ بِكَلَامِهِ هَذَا؟ فَقَالَ: لَا يَحْصُرُهُ حَالٌ عَنْ حَالٍ، وَلَا يَحْجُبُهُ مَنْزِلٌ عَنِ التَّنَقُّلِ فِي الْمَنَازِلِ، فَهُوَ مَعَ كُلِّ أَهْلِ مَنْزِلٍ بِمِثْلِ الَّذِي هُمْ فِيهِ، يَجِدُ مِثْلَ الَّذِي يَجِدُونَ، وَيَنْطِقُ بِمَعَالِمِهَا لِيَنْتَفِعُوا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: الْمَعْرِفَةُ حَيَاةُ الْقَلْبِ مَعَ اللَّهِ. وَسُئِلَ أَبُو سَعِيدٍ: هَلْ يَصِلُ الْعَارِفُ إِلَى حَالٍ يَجْفُو عَلَيْهِ الْبُكَاءُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّمَا الْبُكَاءُ فِي أَوْقَاتِ سَيْرِهِمْ إِلَى اللَّهِ، فَإِذَا نَزَلُوا بِحَقَائِقِ الْقُرْبِ، وَذَاقُوا طَعْمَ الْوُصُولِ مِنْ بِرِّهِ؛ زَالَ عَنْهُمْ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: نَوْمُ الْعَارِفِ يَقَظَةٌ، وَأَنْفَاسُهُ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُ الْعَارِفِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَافِلِ. وَإِنَّمَا كَانَ نَوْمُ الْعَارِفِ يَقَظَةً؛ لِأَنَّ قَلْبَهُ حَيٌّ؛ فَعَيْنَاهُ تَنَامَانِ، وَرُوحُهُ سَاجِدَةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهَا وَفَاطِرِهَا، جَسَدُهُ فِي الْفَرْشِ، وَقَلَبُهُ حَوْلَ الْعَرْشِ، وَإِنَّمَا كَانَ نَوْمُهُ أَفْضَلَ مِنْ صَلَاةِ الْغَافِلِ؛ لِأَنَّ بَدَنَ الْغَافِلِ وَاقِفٌ فِي الصَّلَاةِ، وَقَلْبَهُ يُسَبِّحُ فِي حُشُوشِ الدُّنْيَا وَالْأَمَانِيِّ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ يَقَظَتُهُ نَوْمًا؛ لِأَنَّ قَلْبَهُ مَوَاتٌ. وَقِيلَ: مُجَالَسَةُ الْعَارِفِ تَدْعُوكَ مِنْ سِتٍّ إِلَى سِتٍّ: مِنَ الشَّكِّ إِلَى الْيَقِينِ، وَمِنَ الرِّيَاءِ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَمِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ، وَمِنَ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا إِلَى الرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَمِنَ الْكِبْرِ إِلَى التَّوَاضُعِ، وَمِنْ سُوءِ الطَّوِيَّةِ إِلَى النَّصِيحَةِ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْمَعْرِفَةِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى مَعْرِفَةُ الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: الْمَعْرِفَةُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، وَالْخَلْقُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مَعْرِفَةُ الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَسَامِيهَا بِالرِّسَالَةِ، وَظَهَرَتْ شَوَاهِدُهَا فِي الصَّنْعَةِ: بِتَبَصُّرِ النُّورِ الْقَائِمِ فِي السِّرِّ، وَطِيبِ حَيَاةِ الْعَقْلِ لِزَرْعِ الْفِكْرِ، وَحَيَاةُ الْقَلْبِ: بِحُسْنِ النَّظَرِ بَيْنَ التَّعْظِيمِ، وَحُسْنِ الِاعْتِبَارِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا تَنْعَقِدُ شَرَائِطُ الْيَقِينِ إِلَّا بِهَا، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ: إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ بِاسْمِهَا مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ، وَنَفْيُ التَّشْبِيهِ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ، وَالْإِيَاسُ مِنْ إِدْرَاكِ كُنْهِهَا، وَابْتِغَاءِ

تَأْوِيلِهَا. قُلْتُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالنَّعْتِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ النَّعْتَ يَكُونُ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف: 54] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف: 10] . {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف: 11] . {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] وَنَظَائِرِ ذَلِكَ. وَ " الصِّفَةُ " هِيَ الْأُمُورُ الثَّابِتَةُ اللَّازِمَةُ لِلذَّاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22] . {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23] إِلَى قَوْلِهِ {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 24] وَنَظَائِرِ ذَلِكَ. الْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ النُّعُوتِ، كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَالْقَدَمِ، وَالْأَصَابِعِ، وَتُسَمَّى صِفَاتٍ، وَقَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا السَّلَفُ هَذَا الِاسْمَ، وَكَذَلِكَ مُتَكَلِّمُو أَهْلِ الْإِثْبَاتِ، سَمَّوْهَا صِفَاتٍ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ، كَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: نُصُوصُ الصِّفَاتِ، بَلْ آيَاتُ الْإِضَافَاتِ؛ لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يُوصَفُ بِيَدِهِ وَلَا وَجْهِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَوْصُوفُ، فَكَيْفَ تُسَمَّى صِفَةً؟ وَأَيْضًا: فَالصِّفَةُ مَعْنًى يَعُمُّ الْمَوْصُوفَ، فَلَا يَكُونُ الْوَجْهُ وَالْيَدُ صِفَةً. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ هَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ فِي التَّسْمِيَةِ، فَالْمَقْصُودُ: إِطْلَاقُ هَذِهِ الْإِضَافَاتِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَنِسْبَتُهَا إِلَيْهِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِهَا، مُنَزَّهَةً عَنِ التَّمْثِيلِ وَالتَّعْطِيلِ، سَوَاءً

سُمِّيَتْ صِفَاتٍ أَوْ لَمْ تُسَمَّ. الْفَرْقُ الثَّالِثُ: أَنَّ النُّعُوتَ مَا يَظْهَرُ مِنَ الصِّفَاتِ وَيَشْتَهِرُ، وَيَعْرِفُهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَالصِّفَاتُ: أَعَمُّ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّعْتِ وَالصِّفَةِ فَرْقٌ مَا بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي تَحْلِيَةِ الشَّيْءِ: نَعْتُهُ كَذَا وَكَذَا، لِمَا يَظْهَرُ مِنْ صِفَاتِهِ. وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا يَقُولُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ: بَابُ الصِّفَةِ، وَيَقُولُ نُحَاةُ الْكُوفَةِ: بَابُ النَّعْتِ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ، وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ، وَنَحْنُ فِي غَيْرِ هَذَا، فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَهُوَ: أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ لِلْعَبْدِ قَدَمٌ فِي الْمَعْرِفَةِ - بَلْ وَلَا فِي الْإِيمَانِ - حَتَّى يُؤْمِنَ بِصِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَيَعْرِفَهَا مَعْرِفَةً تُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْجَهْلِ بِرَبِّهِ، فَالْإِيمَانُ بِالصِّفَاتِ وَتَعَرُّفُهَا: هُوَ أَسَاسُ الْإِسْلَامِ، وَقَاعِدَةُ الْإِيمَانِ، وَثَمَرَةُ شَجَرَةِ الْإِحْسَانِ، فَمَنْ جَحَدَ الصِّفَاتِ فَقَدْ هَدَمَ أَسَاسَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَثَمَرَةَ شَجَرَةِ الْإِحْسَانِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنْكِرَ صِفَاتِهِ مُسِيءَ الظَّنِّ بِهِ، وَتَوَعَّدَهُ بِمَا لَمْ يَتَوَعَّدْ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ، فَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22] . {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّ إِنْكَارَهُمْ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ صِفَاتِهِ: مِنْ سُوءِ ظَنِّهِمْ بِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَهْلَكَهُمْ، وَقَدْ قَالَ فِي الظَّانِّينَ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6] وَلَمْ يَجِئْ مِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ فِي غَيْرِ مَنْ ظَنَّ السَّوْءَ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَجَحْدُ صِفَاتِهِ وَإِنْكَارُ حَقَائِقِ أَسْمَائِهِ مِنْ أَعْظَمِ ظَنِّ السَّوْءِ بِهِ. وَلَمَّا كَانَ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ حَمْدَهُ وَمَدْحَهُ، وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ؛ كَانَ إِنْكَارُهَا وَجَحْدُهَا أَعْظَمَ الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ بِهِ، وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الشِّرْكِ، فَالْمُعَطِّلُ شَرٌّ مِنَ الْمُشْرِكِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوِي جَحْدُ صِفَاتِ الْمَلِكِ وَحَقِيقَةُ مُلْكِهِ وَالطَّعْنُ فِي أَوْصَافِهِ هُوَ، وَالتَّشْرِيكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْمُلْكِ، فَالْمُعَطِّلُونَ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ بِالذَّاتِ، بَلْ كُلُّ شِرْكٍ فِي الْعَالَمِ فَأَصْلُهُ التَّعْطِيلُ، فَإِنَّهُ لَوْلَا تَعْطِيلُ كَمَالِهِ - أَوْ بَعْضِهِ - وَظَنُّ السَّوْءِ بِهِ: لَمَا أُشْرِكَ بِهِ، كَمَا قَالَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ وَأَهْلِ التَّوْحِيدِ لِقَوْمِهِ {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ - فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 86 - 87]

أَيْ فَمَا ظَنُّكُمْ بِهِ أَنْ يُجَازِيَكُمْ، وَقَدْ عَبَدْتُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ؟ وَمَا الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِهِ حَتَّى جَعَلْتُمْ مَعَهُ شُرَكَاءَ؟ أَظْنَنْتُمْ: أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الشُّرَكَاءِ وَالْأَعْوَانِ؟ أَمْ ظَنَنْتُمْ: أَنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ عِبَادِهِ، حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى شُرَكَاءَ تُعَرِّفُهُ بِهَا كَالْمُلُوكِ؟ أَمْ ظَنَنْتُمْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ وَحْدَهُ عَلَى اسْتِقْلَالِهِ بِتَدْبِيرِهِمْ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، أَمْ هُوَ قَاسٍ؛ فَيَحْتَاجَ إِلَى شُفَعَاءَ يَسْتَعْطِفُونَهُ عَلَى عِبَادِهِ؟ أَمْ ذَلِيلٌ؛ فَيَحْتَاجَ إِلَى وَلِيٍّ يَتَكَثَّرُ بِهِ مِنَ الْقِلَّةِ، وَيَتَعَزَّزُ بِهِ مِنَ الذِّلَّةِ؟ أَمْ يَحْتَاجُ إِلَى الْوَلَدِ؛ فَيَتَّخِذَ صَاحِبَةً يَكُونُ الْوَلَدُ مِنْهَا وَمِنْهُ؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ التَّعْطِيلَ مَبْدَأُ الشِّرْكِ وَأَسَاسُهُ، فَلَا تَجِدُ مُعَطِّلًا إِلَّا وَشِرْكُهُ عَلَى حَسَبِ تَعْطِيلِهِ، فَمُسْتَقِلٌ وَمُسْتَكْثِرٌ. فَصْلٌ وَالرُّسُلُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى خَاتَمِهِمْ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - أُرْسِلُوا بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَبَيَانِ الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَيْهِ، وَبَيَانِ حَالِ الْمَدْعُوِّينَ بَعْدَ وُصُولِهِمْ إِلَيْهِ، فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ الثَّلَاثُ ضَرُورِيَّةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ عَلَى لِسَانِ كُلِّ رَسُولٍ، فَعَرَّفُوا الرَّبَّ الْمَدْعُوَّ إِلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ تَعْرِيفًا مُفَصَّلًا، حَتَّى كَأَنَّ الْعِبَادَ يُشَاهِدُونَهُ سُبْحَانَهُ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، يُكَلِّمُ مَلَائِكَتَهُ، وَيُدَبِّرُ أَمْرَ مَمْلَكَتِهِ، وَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ خَلْقِهِ، وَيَرَى أَفْعَالَهُمْ وَحَرَكَاتِهِمْ، وَيُشَاهِدُ بَوَاطِنَهُمْ، كَمَا يُشَاهِدُ ظَوَاهِرَهُمْ، يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَيَرْضَى وَيَغْضَبُ، وَيُحِبُّ وَيَسْخَطُ، وَيَضْحَكُ مِنْ قُنُوطِهِمْ وَقُرْبِ غَيْرِهِ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ مُضْطَرِّهِمْ، وَيُغِيثُ مَلْهُوفَهُمْ، وَيُعِينُ مُحْتَاجَهُمْ، وَيُجْبِرُ كَسَيْرَهُمْ، وَيُغْنِي فَقِيرَهُمْ، وَيُمِيتُ وَيُحْيِي، وَيَمْنَعُ وَيُعْطِي، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، مَالِكُ الْمُلْكِ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، يَغْفِرُ ذَنْبًا، وَيُفْرِّجُ كَرْبًا، وَيَفُكُّ عَانِيًا، وَيَنْصُرُ مَظْلُومًا، وَيَقْصِمُ ظَالِمًا، وَيَرْحَمُ مِسْكِينًا، وَيُغِيثُ مَلْهُوفًا، وَيَسُوقُ الْأَقْدَارَ إِلَى مَوَاقِيتِهَا، وَيُجْرِيهَا عَلَى نِظَامِهَا، وَيُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ تَقْدِيمَهُ، وَيُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ تَأْخِيرَهُ فَأَزِمَّةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا بِيَدِهِ، وَمَدَارُ تَدْبِيرِ الْمَمَالِكِ كُلِّهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا مَقْصُودُ الدَّعْوَةِ، وَزُبْدَةُ الرِّسَالَةِ. الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: تَعْرِيفُهُمْ بِالطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَيْهِ، وَهُوَ صِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ، الَّذِي نَصَبَهُ لِرُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَهُوَ امْتِثَالُ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ، وَالْإِيمَانُ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ.

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: تَعْرِيفُ الْحَالِ بَعْدَ الْوُصُولِ، وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ الْيَوْمُ الْآخِرُ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الْحِسَابِ، وَالْحَوْضِ وَالْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ. فَقَعَّدَتِ الْمُعَطِّلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ عَلَى رَأْسِ الْقَاعِدَةِ الْأُولَى، فَحَالُوا بَيْنَ الْقُلُوبِ وَبَيْنَ مَعْرِفَةِ رَبِّهَا، وَسَمَّوْا إِثْبَاتَ صِفَاتِهِ، وَعُلُوَّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ: تَشْبِيهًا وَتَجْسِيمًا وَحَشْوًا، فَنَفَّرُوا عَنْهُ صِبْيَانَ الْعُقُولِ، وَسَمَّوْا نُزُولَهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَتَكَلُّمَهُ بِمَشِيئَتِهِ، وَرِضَاهُ بَعْدَ غَضَبِهِ، وَغَضَبَهُ بَعْدَ رِضَاهُ، وَسَمْعَهُ الْحَاضِرَ لِأَصْوَاتِ الْعِبَادِ، وَرُؤْيَتَهُ الْمُقَارِنَةَ لِأَفْعَالِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ: حَوَادِثَ، وَسَمَّوْا وَجْهَهُ الْأَعْلَى، وَيَدَيْهِ الْمَبْسُوطَتَيْنِ، وَأَصَابِعَهُ الَّتِي يَضَعُ عَلَيْهَا الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: جَوَارِحَ وَأَعْضَاءً، مَكْرًا مِنْهُمْ كُبَّارًا بِالنَّاسِ، كَمَنْ يُرِيدُ التَّنْفِيرَ عَنِ الْعَسَلِ، فَيَمْكُرُ فِي الْعِبَارَةِ، وَيَقُولُ: مَائِعٌ أَصْفَرُ يُشْبِهُ الْعُذْرَةَ الْمَائِعَةَ، أَوْ يُنَفِّرُ عَنْ شَيْءٍ مُسْتَحْسَنٍ فَيُسَمِّيَهُ بِأَقْبَحِ الْأَسْمَاءِ، فِعْلَ الْمَاكِرِ الْمُخَادِعِ، فَلَيْسَ مَعَ مُخَالِفِ الرُّسُلِ سِوَى الْمَكْرِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. فَلَمَّا تَمَّ لِلْمُعَطِّلَةِ مَكْرُهُمْ، وَسَلَكَ فِي الْقُلُوبِ الْمُظْلِمَةِ الْجَاهِلَةِ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ، وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّهِ، وَعَنْ ذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِأَوْصَافِ كَمَالِهِ، وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، فَانْصَرَفَتْ قُوَى حُبِّهَا وَشَوْقِهَا وَأُنْسِهَا إِلَى سِوَاهُ. وَجَاءَ أَهْلُ الْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ، وَالسِّيَاسَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَالْأَذْوَاقِ الْمُنْحَرِفَةِ، وَالْعَوَائِدِ الْمُسْتَمِرَّةِ: فَقَعَدُوا عَلَى رَأْسِ هَذَا الصِّرَاطِ، وَحَالُوا بَيْنَ الْقُلُوبِ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى نَبِيِّهَا، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَعَابُوا مَنْ خَالَفَهُمْ فِي قُعُودِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَرَغِبَ عَمَّا اخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَرَمَوْهُ بِمَا هُمْ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ، كَمَا قِيلَ: رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ. وَجَاءَ أَصْحَابُ الشَّهَوَاتِ الْمَفْتُونُونَ بِهَا، الَّذِينَ يَعُدُّونَ حُصُولَهَا - كَيْفَ كَانَ - هُوَ الظَّفَرُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَالْبُغْيَةُ، فَقَعَدُوا عَلَى رَأْسِ طَرِيقِ الْمَعَادِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْجَنَّةِ وَلِقَاءِ اللَّهِ، وَقَالُوا: الْيَوْمَ خَمْرٌ، وَغَدًا أَمْرٌ، الْيَوْمَ لَكَ، وَلَا تَدْرِي: غَدًا لَكَ، أَوْ عَلَيْكَ؟ وَقَالُوا: لَا نَبِيعُ ذَرَّةً مَنْقُودَةً، بِدُرَّةٍ مَوْعُودَةٍ. خُذْ مَا تَرَاهُ وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ ... فِي طَلْعَةِ الشَّمْسِ مَا يُغْنِيكَ عَنْ زُحَلِ وَقَالُوا لِلنَّاسِ: خَلُّوا لَنَا الدُّنْيَا، وَنَحْنُ قَدْ خَلَّيْنَا لَكُمُ الْآخِرَةَ، فَإِنْ طَلَبْتُمْ مِنَّا مَا بِأَيْدِينَا أَحَلْنَاكُمْ عَلَى الْآخِرَةِ.

أُنَاسٌ يَنْقُدُونَ عَيْشَ النَّعِيمِ ... وَنَحْنُ نُحَالُ عَلَى الْآخِرَهْ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِثْلَمَا يَزْعُمُو ... نَ فَتِلْكَ إِذًا كَرَةٌ خَاسِرَهْ فَالْإِيمَانُ بِالصِّفَاتِ وَمَعْرِفَتُهَا، وَإِثْبَاتُ حَقَائِقِهَا، وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِهَا، وَشُهُودُهُ لَهَا: هُوَ مَبْدَأُ الطَّرِيقِ وَوَسَطُهُ وَغَايَتُهُ، وَهُوَ رُوحُ السَّالِكِينَ، وَحَادِيهِمْ إِلَى الْوُصُولِ، وَمُحَرِّكُ عَزَمَاتِهِمْ إِذَا فَتَرُوا، وَمُثِيرُ هِمَمِهِمْ إِذَا قَصَرُوا، فَإِنَّ سَيْرَهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الشَّوَاهِدِ، فَمَنْ كَانَ لَا شَاهِدَ لَهُ فَلَا سَيْرَ لَهُ، وَلَا طَلَبَ وَلَا سُلُوكَ لَهُ، وَأَعْظَمُ الشَّوَاهِدِ: صِفَاتُ مَحْبُوبِهِمْ، وَنِهَايَةُ مَطْلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْعَلَمُ الَّذِي رُفِعَ لَهُمْ فِي السَّيْرِ فَشَمَّرُوا إِلَيْهِ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ رَآهُ غَادِيًا رَائِحًا، لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلَكِنْ رُفِعَ لَهُ عَلَمٌ فَشَمَّرَ إِلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي التَّوَانِي وَالْفُتُورِ وَالْكَسَلِ، حَتَّى يَرْفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ - بِفَضْلِهِ وَمَنِّهِ - عَلَمًا يُشَاهِدُهُ بِقَلْبِهِ، فَيُشَمِّرُ إِلَيْهِ، وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ. فَإِنْ عُطِّلَتْ شَوَاهِدُ الصِّفَاتِ، وَوُضِعَتْ أَعْلَامُهَا عَنِ الْقُلُوبِ، وَطُمِسَتْ آثَارُهَا، وَضُرِبَتْ بِسِيَاطِ الْبُعْدِ، وَأُسْبِلَ دُونَهَا حِجَابُ الطَّرْدِ، وَتَخَلَّفَتْ مَعَ الْمُتَخَلِّفِينَ، وَأَوْحَى إِلَيْهَا الْقَدَرُ: أَنِ اقْعُدِي مَعَ الْقَاعِدِينَ، فَإِنَّ أَوْصَافَ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ، وَنُعُوتَ كَمَالِهِ، وَحَقَائِقَ أَسْمَائِهِ: هِيَ الْجَاذِبَةُ لِلْقُلُوبِ إِلَى مَحَبَّتِهِ، وَطَلَبِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ إِنَّمَا تُحِبُّ مَنْ تَعْرِفُهُ، وَتَخَافُهُ وَتَرْجُوهُ وَتَشْتَاقُ إِلَيْهِ، وَتَلْتَذُّ بِقُرْبِهِ، وَتَطْمَئِنُّ إِلَى ذِكْرِهِ، بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهَا بِصِفَاتِهِ، فَإِذَا ضُرِبَ دُونَهَا حِجَابُ مَعْرِفَةِ الصِّفَاتِ وَالْإِقْرَارِ بِهَا: امْتَنَعَ مِنْهَا - بَعْدَ ذَلِكَ - مَا هُوَ مَشْرُوطٌ بِالْمَعْرِفَةِ، وَمَلْزُومٌ لَهَا، إِذْ وُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ، وَالْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ، مُمْتَنِعٌ. فَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ، وَالْإِنَابَةِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَمَقَامِ الْإِحْسَانِ مُمْتَنِعٌ عَلَى الْمُعَطِّلِ امْتِنَاعَ حُصُولِ الْمَغَلِ مِنْ مُعَطِّلِ الْبَذْرِ، بَلْ أَعْظَمُ امْتِنَاعًا. كَيْفَ تَصْمُدُ الْقُلُوبُ إِلَى مَنْ لَيْسَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَلَا مُتَّصِلًا بِهِ وَلَا مُنْفَصِلًا عَنْهُ، وَلَا مُبَايِنًا لَهُ وَلَا مُحَايِثًا؟ بَلْ حَظُّ الْعَرْشِ مِنْهُ كَحَظِّ الْآبَارِ وَالْوِهَادِ، وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا؟ وَكَيْفَ تَأْلَهُ الْقُلُوبُ مَنْ لَا يَسْمَعُ كَلَامَهَا، وَلَا يَرَى مَكَانَهَا، وَلَا يُحِبُّ وَلَا يُحَبُّ، وَلَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ الْبَتَّةَ، وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يُكَلَّمُ، وَلَا يُقَرَّبُ مِنْ شَيْءٍ وَلَا يُقَرَّبُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَقُومُ بِهِ رَأْفَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا حَنَانٌ، وَلَا لَهُ حِكْمَةٌ وَلَا غَايَةٌ يَفْعَلُ وَيَأْمُرُ لِأَجْلِهَا؟ . فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَحَبَّتُهُ وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، وَرُؤْيَةِ وَجْهِهِ

الْكَرِيمِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ؟ أَمْ كَيْفَ تَأْلَهُ الْقُلُوبُ مَنْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُحَبُّ، وَلَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ، وَلَا يَفْرَحُ وَلَا يَضْحَكُ؟ فَسُبْحَانَ مَنْ حَالَ بَيْنَ الْمُعَطِّلَةِ وَبَيْنَ مَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالسُّرُورِ وَالْفَرَحِ بِهِ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، وَانْتِظَارِ لَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَالتَّمَتُّعِ بِخِطَابِهِ فِي مَحَلِّ كَرَامَتِهِ وَدَارِ ثَوَابِهِ! فَلَوْ رَآهَا أَهْلًا لِذَلِكَ لَمَنَّ عَلَيْهَا بِهِ، وَأَكْرَمَهَا بِهِ، إِذْ ذَاكَ أَعْظَمُ كَرَامَةٍ يُكْرِمُ بِهَا عَبْدَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ كَرَامَتَهُ، وَيَضَعُ نِعْمَتَهُ {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ - وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ - أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 53 - 32] وَلَيْسَ جُحُودُهُمْ صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَحَقَائِقَ أَسْمَائِهِ: فِي الْحَقِيقَةِ تَنْزِيهًا، وَإِنَّمَا هُوَ حِجَابٌ ضُرِبَ عَلَيْهِمْ، فَظَنُّوهُ تَنْزِيهًا، كَمَا ضُرِبَ حِجَابُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ وَالشَّهَوَاتِ الْمُرْدِيَةِ عَلَى قُلُوبِ أَصْحَابِهَا، وَزُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ، فَرَأَوْهَا حَسَنَةً. عُدْنَا إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. قَوْلُهُ: وَقَدْ وَرَدَتْ أَسَامِيهَا بِالرِّسَالَةِ. . . إِلَى آخِرِهِ. ذَكَرَ أَنَّ إِثْبَاتَ الصِّفَاتِ دَلَّ عَلَيْهَا الْوَحْيُ الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَالْحِسُّ الَّذِي شَاهَدَ بِهِ الْبَصِيرُ آثَارَ الصَّنْعَةِ؛ فَاسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى صِفَاتِ صَانِعِهَا، وَالْعَقْلُ الَّذِي طَابَتْ حَيَاتُهُ بِزَرْعِ الْفِكْرِ، وَالْقَلْبُ الَّذِي حَيِيَ بِحُسْنِ النَّظَرِ بَيْنَ التَّعْظِيمِ وَالِاعْتِبَارِ. فَأَمَّا الرِّسَالَةُ: فَإِنَّهَا جَاءَتْ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ إِثْبَاتًا مُفَصَّلًا عَلَى وَجْهٍ أَزَالَ الشُّبْهَةَ، وَكَشَفَ الْغِطَاءِ، وَحَصَلَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ، وَرُفِعَ الشَّكُّ وَالرَّيْبُ؛ فَثَلَجَتْ لَهُ الصُّدُورِ، وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ الْقُلُوبُ، وَاسْتَقَرَّ بِهِ الْإِيمَانُ فِي نِصَابِهِ، فَفَصَّلَتِ الرِّسَالَةُ الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتَ وَالْأَفْعَالَ أَعْظَمَ مِنْ تَفْصِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَقَرَّرَتْ إِثْبَاتَهَا أَكْمَلَ تَقْرِيرٍ فِي أَبْلَغِ لَفْظٍ، وَأَبْعَدِهِ مِنَ الْإِجْمَالِ وَالِاحْتِمَالِ، وَأَمْنَعِهِ مِنْ قَبُولِ التَّأْوِيلِ، وَكَذَلِكَ كَانَ تَأْوِيلُ آيَاتِ

الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا بِمَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلِ آيَاتِ الْمَعَادِ وَأَخْبَارِهِ، بَلْ أَبْعَدُ مِنْهُ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، ذَكَرْتُهَا فِي كِتَابِ " الصَّوَاعِقِ الْمُرْسَلَةِ، عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ " بَلْ تَأْوِيلُ آيَاتِ الصِّفَاتِ - بِمَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا - كَتَأْوِيلِ آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ سَوَاءً، فَالْبَابُ كُلُّهُ بَابٌ وَاحِدٌ، وَمَصْدَرُهُ وَاحِدٌ، وَمَقْصُودُهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ إِثْبَاتُ حَقَائِقِهِ وَالْإِيمَانُ بِهَا. وَكَذَلِكَ سَطَا عَلَى تَأْوِيلِ آيَاتِ الْمَعَادِ قَوْمٌ، وَقَالُوا: فِعْلُنَا فِيهَا كَفِعْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ، بَلْ نَحْنُ أَعْذَرُ، فَإِنَّ اشْتِمَالَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ وَقِيَامِ الْأَفْعَالِ: أَعْظَمُ مِنْ نُصُوصِ الْمَعَادِ لِلْأَبْدَانِ بِكَثِيرٍ، فَإِذَا سَاغَ لَكُمْ تَأْوِيلُهَا، فَكَيْفَ يَحْرُمُ عَلَيْنَا نَحْنُ تَأْوِيلُ آيَاتِ الْمَعَادِ؟ وَكَذَلِكَ سَطَا قَوْمٌ آخَرُونَ عَلَى تَأْوِيلِ آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَقَالُوا: فِعْلُنَا فِيهَا كَفِعْلِ أُولَئِكَ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ، مَعَ كَثْرَتِهَا وَتَنَوُّعِهَا، وَآيَاتُ الْأَحْكَامِ لَا تَبْلُغُ زِيَادَةً عَلَى خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ. قَالُوا: وَمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مُعَارِضٌ مِنَ الْعَقْلِيَّاتِ لِنُصُوصِ الصِّفَاتِ، فَعِنْدَنَا مُعَارِضٌ عَقْلِيٌّ لِنُصُوصِ الْمَعَادِ، مِنْ جِنْسِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ. وَقَالَ مُتَأَوِّلُو آيَاتِ الْأَحْكَامِ عَلَى خِلَافِ حَقَائِقِهَا وَظَوَاهِرِهَا: الَّذِي سَوَّغَ لَنَا هَذَا التَّأْوِيلَ: الْقَوَاعِدُ الَّتِي اصْطَلَحْتُمُوهَا لَنَا، وَجَعَلْتُمُوهَا أَصْلًا نَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا طَرَدْنَاهَا كَانَ طَرْدُهَا: أَنَّ اللَّهَ مَا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ قَطُّ، وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى وَلَا لَهُ صِفَةٌ تَقُومُ بِهِ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا، وَطَرَدُ هَذَا الْأَصْلِ: لُزُومُ تَأْوِيلِ آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّوَاعِقِ أَنَّ تَأْوِيلَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَخْبَارِهَا - بِمَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا - هُوَ أَصْلُ فَسَادِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَزَوَالُ الْمَمَالِكِ، وَتَسْلِيطُ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ؛ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ التَّأْوِيلِ، وَيَعْرِفُ هَذَا مِنْ لَهُ اطِّلَاعٌ وَخِبْرَةٌ بِمَا جَرَى فِي الْعَالَمِ، وَلِهَذَا يُحَرِّمُ عُقَلَاءُ الْفَلَاسِفَةِ التَّأْوِيلَ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ لِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِفَسَادِ الْعَالَمِ، وَتَعْطِيلِ الشَّرَائِعِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ كَيْفِيَّةَ وُرُودِ آيَاتِ الصِّفَاتِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ: عَلِمَ قَطْعًا بُطْلَانَ تَأْوِيلِهَا بِمَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا، فَإِنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُحْتَمَلُ مَعَهُ التَّأْوِيلُ بِوَجْهٍ.

فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] هَلْ يَحْتَمِلُ هَذَا التَّقْسِيمُ وَالتَّنْوِيعُ: تَأْوِيلَ إِتْيَانِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ بِإِتْيَانِ مَلَائِكَتِهِ أَوْ آيَاتِهِ؟ وَهَلْ يَبْقَى مَعَ هَذَا السِّيَاقِ شُبْهَةٌ أَصْلًا: أَنَّهُ إِتْيَانُهُ بِنَفْسِهِ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]- إِلَى أَنْ قَالَ - {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ الْعَامِّ، وَالتَّكْلِيمِ الْخَاصِّ، وَجَعَلَهُمَا نَوْعَيْنِ، ثُمَّ أَكَّدَ فِعْلَ التَّكْلِيمِ بِالْمَصْدَرِ الرَّافِعِ لِتَوَهُّمِ مَا يَقُولُهُ الْمُحَرِّفُونَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51] فَنَوَّعَ تَكْلِيمَهُ إِلَى تَكْلِيمٍ بِوَاسِطَةٍ، وَتَكْلِيمٍ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] فَفَرَّقَ بَيْنَ الرِّسَالَةِ وَالْكَلَامِ، وَالرِّسَالَةُ إِنَّمَا هِيَ بِكَلَامِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانًا، كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فِي الصَّحْوِ، لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ وَالْكَشْفَ وَالِاحْتِرَازَ: يُنَافِي إِرَادَةَ التَّأْوِيلِ قَطْعًا، وَلَا يَرْتَابُ فِي هَذَا مَنْ لَهُ عَقْلٌ وَدِينٌ. قَوْلُهُ: " وَظَهَرَتْ شَوَاهِدُهَا فِي الصَّنْعَةِ ". هَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي مِنْ طُرُقِ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، وَهُوَ دَلَالَةُ الصَّنْعَةِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ، عَلَى حَيَاتِهِ وَعَلَى قُدْرَتِهِ، وَعَلَى عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ اسْتِلْزَامًا ضَرُورِيًا، وَمَا فِيهِ مِنَ الْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ وَوُقُوعِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ يَدُلُّ عَلَى حِكْمَةِ فَاعِلِهِ وَعِنَايَتِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالنَّفْعِ، وَوُصُولِ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِ يَدُلُّ عَلَى رَحْمَةِ خَالِقِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ، وَمَا

فِيهِ مِنْ آثَارِ الْكَمَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَالِقَهُ أَكْمَلُ مِنْهُ، فَمُعْطِي الْكَمَالِ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ، وَخَالِقُ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ وَالنُّطْقِ: أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا، وَخَالِقُ الْحَيَاةِ وَالْعُلُومِ، وَالْقُدَرِ وَالْإِرَادَاتِ: أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، فَمَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّخْصِيصَاتِ: هُوَ مِنْ أَدَلِّ شَيْءٍ عَلَى إِرَادَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، الَّتِي اقْتَضَتِ التَّخْصِيصَ. وَحُصُولُ الْإِجَابَةِ عُقَيْبَ سُؤَالِ الطَّالِبِ، عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ: دَلِيلٌ عَلَى عِلْمِ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْجُزْئِيَاتِ، وَعَلَى سَمْعِهِ لِسُؤَالِ عَبِيدِهِ، وَعَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَعَلَى رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ. وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمُطِيعِينَ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِمْ وَالْإِكْرَامُ، وَإِعْلَاءُ دَرَجَاتِهِمْ يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، وَعُقُوبَتُهُ لِلْعُصَاةِ وَالظَّلَمَةِ، وَأَعْدَاءِ رُسُلِهِ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ الْمَشْهُودَةِ: تَدُلُّ عَلَى صِفَةِ " الْغَضَبِ وَالسُّخْطِ " وَالْإِبْعَادِ، وَالطَّرْدُ وَالْإِقْصَاءُ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْتِ وَالْبُغْضِ. فَهَذِهِ الدَّلَالَاتُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ التَّأَمُّلِ، وَلِهَذَا دَعَا سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ عِبَادَهُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى صِفَاتِهِ، فَهُوَ يُثْبِتُ الْعِلْمَ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِفَاتِ كَمَالِهِ بِآثَارِ صِفَتِهِ الْمَشْهُودَةِ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذَلِكَ. فَيَظْهَرُ شَاهِدُ اسْمِ " الْخَالِقِ " مِنْ نَفْسِ الْمَخْلُوقِ، وَشَاهِدُ اسْمِ " الرَّازِقِ " مِنْ وُجُودِ الرِّزْقِ وَالْمَرْزُوقِ، وَشَاهِدُ اسْمِ " الرَّحِيمِ " مِنْ شُهُودِ الرَّحْمَةِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْعَالَمِ، وَاسْمِ " الْمُعْطِي " مِنْ وُجُودِ الْعَطَاءِ الَّذِي هُوَ مِدْرَارٌ لَا يَنْقَطِعُ لَحْظَةً وَاحِدَةً، وَاسْمِ " الْحَلِيمِ " مِنْ حِلْمِهِ عَنِ الْجُنَاةِ وَالْعُصَاةِ وَعَدَمِ مُعَالَجَتِهِمْ، وَاسْمِ " الْغَفُورِ " وَ " التَّوَّابِ " مِنْ مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، وَقَبُولِ التَّوْبَةِ، وَيَظْهَرُ شَاهِدُ اسْمِهِ " الْحَكِيمِ " مِنَ الْعِلْمِ بِمَا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَوُجُوهِ الْمَنَافِعِ، وَهَكَذَا كُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى لَهُ شَاهِدٌ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَهُ وَيَجْهَلُهُ مَنْ جَهِلَهُ، فَالْخَلْقُ وَالْأَمْرُ مِنْ أَعْظَمِ شَوَاهِدِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَكُلُّ سَلِيمِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ يَعْرِفُ قَدْرَ الصَّانِعِ وَحِذْقِهِ وَتَبْرِيزِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَتَفَرُّدِهِ بِكَمَالٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ مُشَاهَدَةِ صَنْعَتِهِ، فَكَيْفَ لَا تَعْرِفُ صِفَاتِ مَنْ هَذَا الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ وَالسُّفْلِيُّ وَهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ مِنْ بَعْضِ صُنْعِهِ؟ وَإِذَا اعْتَبَرْتَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمَأْمُورَاتِ، وَجَدْتَهَا بِأَسْرِهَا كُلِّهَا دَالَّةً عَلَى النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ، وَحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَعَلِمْتَ أَنَّ الْمُعَطِّلَةَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عَمًى

بِمُكَابَرَةٍ، وَيَكْفِي ظُهُورُ شَاهِدِ الصُّنْعِ فِيكَ خَاصَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] فَالْمَوْجُودَاتُ بِأَسْرِهَا شَوَاهِدُ صِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَنُعُوتِهِ وَأَسْمَائِهِ، فَهِيَ كُلُّهَا تُشِيرُ إِلَى الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَحَقَائِقِهَا، وَتُنَادِي عَلَيْهَا، وَتَدُلُّ عَلَيْهَا، وَتُخْبِرُ بِهَا بِلِسَانِ النُّطْقِ وَالْحَالِ، كَمَا قِيلَ: تَأَمَّلْ سُطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا ... مِنَ الْمَلِكِ الْأَعْلَى إِلَيْكَ رَسَائِلُ وَقَدْ خَطَّ فِيهَا لَوْ تَأَمَّلْتَ خَطَّهَا ... أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ تُشِيرُ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِرَبِّهَا ... فَصَامِتُهَا يَهْدِي وَمَنْ هُوَ قَائِلُ فَلَسْتَ تَرَى شَيْئًا أَدَلَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دَلَالَةِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى صِفَاتِ خَالِقِهَا، وَنُعُوتِ كَمَالِهِ، وَحَقَائِقِ أَسْمَائِهِ، وَقَدْ تَنَوَّعَتْ أَدِلَّتُهَا بِحَسَبِ تَنَوُّعِهَا، فَهِيَ تَدُلُّ عَقْلًا وَحِسًّا، وَفِطْرَةً وَنَظَرًا، وَاعْتِبَارًا. قَوْلُهُ " بِتَبْصِيرِ النُّورِ الْقَائِمِ فِي السِّرِّ " يَعْنِي: أَنَّ النُّورَ الْإِلَهِيَّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِعَبْدِهِ، وَيُلْقِيهِ إِلَيْهِ، وَيُودِعُهُ فِي سِرِّهِ: هُوَ الَّذِي يُبَصِّرُهُ بِشَوَاهِدِ صِفَاتِهِ، فَكُلَّمَا قَوِيَ هَذَا النُّورُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ: كَانَ بَصَرُهُ بِالصِّفَاتِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَكُلَّمَا قَلَّ نَصِيبُهُ مِنْ هَذَا النُّورِ، وَطُفِئَ مِصْبَاحُهُ فِي قَلْبِهِ: طُفِئَ نُورُ التَّصْدِيقِ بِالصِّفَاتِ وَإِثْبَاتِهَا فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُشَاهِدُهَا بِذَلِكَ النُّورِ، فَإِذَا فَقَدَهُ لَمْ يُشَاهِدْهَا، وَجَاءَتِ الشُّبَهُ الْبَاطِلَةُ مَعَ تِلْكَ الظُّلْمَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا سِوَى الْإِنْكَارِ. قَوْلُهُ " وَطِيبِ حَيَاةِ الْعَقْلِ لِزَرْعِ الْفِكْرِ " أَيْ يُدْرِكُ الصِّفَاتِ بِذَلِكَ النُّورِ الْقَائِمِ فِي سِرِّهِ، وَطِيبِ حَيَاةِ عَقْلِهِ، الَّتِي طَيَبَهَا زَرْعُ الْفِكْرِ الصَّحِيحِ، الْمُتَعَلِّقِ بِمَا دَعَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ إِلَى الْفِكْرِ فِيهِ، بِقَوْلِهِ {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191] وَقَوْلِهِ {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الروم: 8] وَقَوْلِهِ {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219] . {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة: 220] فَيَتَفَكَّرُونَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَهَا لَهُمْ، فَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَالْعِلْمِ بِلِقَائِهِ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَانْقِضَائِهَا، وَاضْمِحْلَالِهَا وَآفَاتِهَا، وَالْآخِرَةِ وَدَوَامِهَا وَبَقَائِهَا وَشَرَفِهَا، وَقَوْلِهِ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]

فَالْفِكْرُ الصَّحِيحُ، الْمُؤَيَّدُ بِحَيَاةِ الْقَلْبِ، وَنُورِ الْبَصِيرَةِ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ وَأَمَّا فِكْرٌ مَصْحُوبٌ بِمَوْتِ الْقَلْبِ وَعَمَى الْبَصِيرَةِ فَإِنَّمَا يُعْطَى صَاحِبُهُ نَفْيَهَا وَتَعْطِيلَهَا. قَوْلُهُ " وَحَيَاةُ الْقَلْبِ بِحُسْنِ النَّظَرِ بَيْنَ التَّعْظِيمِ وَحُسْنِ الِاعْتِبَارِ " يَعْنِي: أَنَّهُ يَنْضَافُ إِلَى نُورِ الْبَصِيرَةِ وَطِيبِ حَيَاةِ الْعَقْلِ: حَيَاةُ الْقَلْبِ بِحُسْنِ النَّظَرِ، الدَّائِرِ بَيْنَ تَعْظِيمِ الْخَالِقِ - جَلَّ جَلَالُهُ - وَحُسْنِ الِاعْتِبَارِ بِمَصْنُوعَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، فَلَابُدَّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّهُ إِنْ غَفِلَ بِالتَّعْظِيمِ عَنْ حُسْنِ الِاعْتِبَارِ: لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الصِّفَاتِ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُ الِاعْتِبَارُ مِنْ غَيْرِ تَعْظِيمِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ: لَمْ يَسْتَفِدْ بِهِ إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ لَهُ تَعْظِيمُ الْخَالِقِ وَحُسْنُ النَّظَرِ فِي صُنْعِهِ: أَثْمَرَا لَهُ إِثْبَاتَ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَلَابُدَّ. وَ " الِاعْتِبَارُ " هُوَ أَنْ يَعْبُرَ نَظَرُهُ مِنَ الْأَثَرِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَمِنَ الصَّنْعَةِ إِلَى الصَّانِعِ، وَمِنَ الدَّلِيلِ إِلَى الْمَدْلُولِ، فَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِ بِسُرْعَةِ لُطْفِ إِدْرَاكٍ، فَيَنْتَقِلُ ذِهْنُهُ مِنَ الْمَلْزُومِ إِلَى لَازِمِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَ " الِاعْتِبَارُ " افْتِعَالٌ مِنَ الْعُبُورِ، وَهُوَ عُبُورُ الْقَلْبِ مِنَ الْمَلْزُومِ إِلَى لَازِمِهِ، وَمِنَ النَّظِيرِ إِلَى نَظِيرِهِ. وَهَذَا الِاعْتِبَارُ يَضْعُفُ وَيَقْوَى، حَتَّى يَسْتَدِلَّ صَاحِبُهُ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَمَالِهِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ، لِحُسْنِ اعْتِبَارِهِ وَصِحَّةِ نَظَرِهِ، وَهُوَ اعْتِبَارُ الْخَوَاصِّ وَاسْتِدْلَالُهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَأَنَّهُ يَفْعَلُ كَذَا وَلَا يَفْعَلُ كَذَا، فَيَفْعَلُ مَا هُوَ مُوجَبُ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ وَغِنَاهُ وَحَمْدِهِ، وَلَا يَفْعَلُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ تَعَالَى فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] ثُمَّ قَالَ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] فَمَخْلُوقَاتُهُ دَالَّةٌ عَلَى ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ دَالَّةٌ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ، وَمَا لَا يَفْعَلُهُ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ اسْمَهُ " الْحَمِيدَ " سُبْحَانَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَاسْمَهُ " الْحَكِيمَ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا عَبَثًا، وَاسْمَهُ " الْغَنِيَّ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَاسْمَهُ " الْمَلِكَ " يَدُلُّ عَلَى مَا يَسْتَلْزِمُ حَقِيقَةَ مُلْكِهِ: مِنْ قُدْرَتِهِ،

وَتَدْبِيرِهِ، وَعَطَائِهِ وَمَنْعِهِ، وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَبَثِّ رُسُلِهِ فِي أَقْطَارِ مَمْلَكَتِهِ، وَإِعْلَامِ عَبِيدِهِ بِمَرَاسِيمِهِ، وَعُهُودِهِ إِلَيْهِمْ، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ الَّذِي هُوَ عَرْشُهُ الْمَجِيدُ، فَمَتَى قَامَ بِالْعَبْدِ تَعْظِيمُ الْحَقِّ - جَلَّ جَلَالُهُ - وَحُسْنُ النَّظَرِ فِي الشَّوَاهِدِ، وَالتَّبَصُّرُ وَالِاعْتِبَارُ بِهَا: صَارَتِ الصِّفَاتُ وَالنُّعُوتُ مَشْهُودَةً لِقَلْبِهِ قِبْلَةً لَهُ. قَوْلُهُ: " وَهِيَ مَعْرِفَةُ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا تَنْعَقِدُ شَرَائِطُ الْيَقِينِ إِلَّا بِهَا ". لَا يُرِيدُ بِالْعَامَّةِ الْجُهَّالَ الَّذِينَ هُمْ عَوَامُّ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ: أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي وَقَفَ عِنْدَهَا الْعُمُومُ وَلَمْ يَتَعَدَّوْهَا، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ أَهْلِ الذَّوْقِ وَالْمَحَبَّةِ الْخَاصَّةِ فَأَخَصُّ مِنْ هَذَا كَمَا سَيَأْتِي. قَوْلُهُ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ: إِثْبَاتُ الصِّفَةِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ - إِلَى آخِرِهَا، هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: إِثْبَاتُ تِلْكَ الصِّفَةِ؛ فَلَا يُعَامِلُهَا بِالنَّفْيِ وَالْإِنْكَارِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى بِهَا اسْمَهَا الْخَاصَّ الَّذِي سَمَّاهَا اللَّهُ بِهِ، بَلْ يَحْتَرِمُ الِاسْمَ كَمَا يَحْتَرِمُ الصِّفَةَ، فَلَا يُعَطِّلُ الصِّفَةَ، وَلَا يُغَيِّرُ اسْمَهَا وَيُعِيرُهَا اسْمًا آخَرَ، كَمَا تُسَمِّى الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعَطِّلَةُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، وَقُدْرَتَهُ وَحَيَاتَهُ، وَكَلَامَهُ: أَعْرَاضًا، وَيُسَمُّونَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَهُ - سُبْحَانَهُ -: جَوَارِحَ وَأَبْعَاضًا، وَيُسَمُّونَ حِكْمَتَهُ وَغَايَةَ فِعْلِهِ الْمَطْلُوبَةَ: عِلَلًا وَأَغْرَاضًا، وَيُسَمُّونَ أَفْعَالَهُ الْقَائِمَةَ بِهِ: حَوَادِثَ، وَيُسَمُّونَ عُلُوَّهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ، تَحَيُّرًا، وَيَتَوَاصَوْنَ بِهَذَا الْمَكْرِ الْكُبَّارِ إِلَى نَفْيِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَالْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ، وَآثَارُ الصَّنْعَةِ مِنْ صِفَاتِهِ، فَيَسْطُونَ - بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ - عَلَى نَفْيِ صِفَاتِهِ وَحَقَائِقِ أَسْمَائِهِ. الثَّالِثُ: عَدَمُ تَشْبِيهِهَا بِمَا لِلْمَخْلُوقِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لَا فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، فَالْعَارِفُونَ بِهِ، الْمُصَدِّقُونَ لِرُسُلِهِ، الْمُقِرُّونَ بِكَمَالِهِ: يُثْبِتُونَ لَهُ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ، وَيَنْفُونَ عَنْهُ مُشَابَهَةَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَنَفْيِ التَّشْبِيهِ، وَبَيْنَ التَّنْزِيهِ وَعَدَمِ التَّعْطِيلِ، فَمَذْهَبُهُمْ حَسَنَةٌ بَيْنَ سَيِّئَتَيْنِ، وَهُدًى بَيْنَ ضَلَالَتَيْنِ، فَصِرَاطُهُمْ صِرَاطُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَصِرَاطُ غَيْرِهِمْ صِرَاطُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا نُزِيلُ عَنِ اللَّهِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ، لِأَجْلِ شَنَاعَةِ الْمُشَنِّعِينَ، وَقَالَ: التَّشْبِيهُ: أَنْ تَقُولَ يَدٌ كَيَدِي، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

قَوْلُهُ: " وَالْإِيَاسُ مِنْ إِدْرَاكِ كُنْهِهَا، وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلِهَا ". يَعْنِي: أَنْ الْعَقْلَ قَدْ يَئِسَ مِنْ تَعَرُّفِ كُنْهِ الصِّفَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ اللَّهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ بِلَا كَيْفٍ أَيْ بِلَا كَيْفٍ يَعْقِلُهُ الْبَشَرُ، فَإِنَّ مَنْ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَةُ ذَاتِهِ وَمَاهِيَّتُهُ، كَيْفَ تُعْرَفُ كَيْفِيَّةُ نُعُوتِهِ وَصِفَاتِهِ؟ وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ بِهَا، وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهَا، فَالْكَيْفِيَّةُ وَرَاءَ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّا نَعْرِفُ مَعَانِي مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَقَائِقِ مَا فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَا نَعْرِفُ حَقِيقَةَ كَيْفِيَّتِهِ، مَعَ قُرْبِ مَا بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْمَخْلُوقِ، فَعَجْزُنَا عَنْ مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الْخَالِقِ وَصِفَاتِهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ. فَكَيْفَ يَطْمَعُ الْعَقْلُ الْمَخْلُوقُ الْمَحْصُورُ الْمَحْدُودُ فِي مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ مَنْ لَهُ الْكَمَالُ كُلُّهُ، وَالْجَمَالُ كُلُّهُ، وَالْعِلْمُ كُلُّهُ، وَالْقُدْرَةُ كُلُّهَا، وَالْعَظَمَةُ كُلُّهَا، وَالْكِبْرِيَاءُ كُلُّهَا؟ مَنْ لَوْ كُشِفَ الْحِجَابُ عَنْ وَجْهِهِ لَأَحْرَقَتْ سَبَحَاتُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ؟ الَّذِي يَقْبِضُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ، فَتَغِيبُ كَمَا تَغِيبُ الْخَرْدَلَةُ فِي كَفِّ أَحَدِنَا، الَّذِي نِسْبَةُ عُلُومِ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا إِلَى عِلْمِهِ أَقَلُّ مِنْ نِسْبَةِ نَقْرَةِ عُصْفُورٍ مِنْ بِحَارِ الْعِلْمِ الَّذِي لَوْ أَنَّ الْبَحْرَ - يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ - مِدَادٌ وَأَشْجَارَ الْأَرْضِ - مِنْ حِينِ خُلِقَتْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ - أَقْلَامٌ: لَفَنِيَ الْمِدَادُ وَفَنِيَتِ الْأَقْلَامُ، وَلَمْ تَنْفَدْ كَلِمَاتُهُ، الَّذِي لَوْ أَنَّ الْخَلْقَ مِنْ أَوَّلِ الدُّنْيَا إِلَى آخِرِهَا - إِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ، وَنَاطِقَهُمْ وَأَعْجَمَهُمْ - جُعِلُوا صَفًّا وَاحِدًا مَا أَحَاطُوا بِهِ سُبْحَانَهُ، الَّذِي يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِهِ، وَالْأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَشْجَارَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ. فَقَاتَلَ اللَّهُ الْجَهْمِيَّةَ وَالْمُعَطِّلَةَ! أَيْنَ التَّشْبِيهُ هَاهُنَا؟ وَأَيْنَ التَّمْثِيلُ؟ لَقَدِ اضْمَحَلَّ هَاهُنَا كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَاهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا يُمَاثِلُهُ فِي ذَلِكَ الْكَمَالِ، وَيُشَابِهُهُ فِيهِ، فَسُبْحَانَ مَنْ حَجَبَ عُقُولَ هَؤُلَاءِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَوَلَّاهَا مَا تَوَلَّتْ مِنْ وُقُوفِهَا مَعَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا حُرْمَةَ لَهَا، وَالْمَعَانِي الَّتِي لَا حَقَائِقَ لَهَا. وَلَمَّا فَهِمَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنَ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ مَا تَفْهَمُهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ،

فصل الدرجة الثانية معرفة الذات

فَرَّتْ إِلَى إِنْكَارِ حَقَائِقِهَا، وَابْتِغَاءِ تَحْرِيفِهَا، وَسَمَّتْهُ تَأْوِيلًا، فَشَبَّهَتْ أَوَّلًا، وَعَطَّلَتْ ثَانِيًا، وَأَسَاءَتِ الظَّنَّ بِرَبِّهَا وَبِكِتَابِهِ وَبِنَبِيِّهِ وَبِأَتْبَاعِهِ. أَمَّا إِسَاءَةُ الظَّنِّ بِالرَّبِّ: فَإِنَّهَا عَطَّلَتْ صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَنِسْبَتِهِ إِلَى أَنَّهُ أَنْزَلَ كِتَابًا مُشْتَمِلًا عَلَى مَا ظَاهِرُهُ كُفْرٌ وَبَاطِلٌ، وَأَنَّ ظَاهِرَهُ وَحَقَائِقَهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ. وَأَمَّا إِسَاءَةُ ظَنِّهَا بِالرَّسُولِ: فَلِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ وَقَرَّرَهُ وَأَكَّدَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْأُمَّةِ أَنَّ الْحَقَّ فِي خِلَافِهِ وَتَأْوِيلِهِ. وَأَمَّا إِسَاءَةُ ظَنِّهَا بِأَتْبَاعِهِ: فَبِنِسْبَتِهِمْ لَهُمْ إِلَى التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَالْجَهْلِ وَالْحَشْوِ، وَهُمْ عِنْدَ أَتْبَاعِهِ أَجْهَلُ مِنْ أَنْ يُكَفِّرُوهُمْ، إِلَّا مَنْ عَانَدَ الرَّسُولَ، وَقَصَدَ نَفْيَ مَا جَاءَ بِهِ، وَالْقَوْمُ عِنْدَهُمْ فِي خِفَارَةِ جَهْلِهِمْ، قَدْ حُجِبَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَإِثْبَاتِ حَقَائِقِ أَسْمَائِهِ، وَأَوْصَافِ كَمَالِهِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مَعْرِفَةُ الذَّاتِ] فَصْلٌ قَالَ: " الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ الذَّاتِ، مَعَ إِسْقَاطِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ وَالذَّاتِ، وَهِيَ تَثْبُتُ بِعِلْمِ الْجَمْعِ، وَتَصْفُو فِي مَيْدَانِ الْفَنَاءِ، وَتُسْتَكْمَلُ بِعِلْمِ الْبَقَاءِ، وَتُشَارِفُ عَيْنَ الْجَمْعِ ". نَشْرَحُ كَلَامَهُ وَمُرَادَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ نُبَيِّنُ مَا لَهُ وَعَلَيْهِ فِيهِ. فَكَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ عِنْدَهُ أَرْفَعَ مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا نَظَرٌ فِي الصِّفَاتِ، وَهَذِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالذَّاتِ بِالْجَامِعَةِ لِلصِّفَاتِ، وَإِنْ كَانَتِ الذَّاتُ لَا تَخْلُو عَنِ الصِّفَاتِ، فَهِيَ قَائِمَةٌ بِهَا، وَلَا نَقُولُ: إِنَّ صِفَاتِهَا عَيْنُهَا وَلَا غَيْرُهَا، لِمَا فِي لَفْظِ الْغَيْرِ مِنَ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِبَاهِ، فَإِنَّ الْغَيْرَيْنِ قَدْ يُرَادُ بِهِمَا مَا جَازَ افْتِرَاقُهُمَا ذَاتًا أَوْ زَمَانًا، أَوْ مَكَانًا، وَعَلَى هَذَا: فَلَيْسَتِ الصِّفَاتُ مُغَايِرَةً لِلذَّاتِ، وَقَدْ يُرَادُ بِالْغَيْرَيْنِ: مَا جَازَ الْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَيَفْتَرِقَانِ فِي الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ، لَا فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، فَالصِّفَاتُ غَيْرُ الذَّاتِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الشُّعُورُ بِالذَّاتِ حَالَ مَا يُغْفَلُ عَنْ صِفَاتِهَا، فَتَتَجَرَّدُ عَنْ صِفَاتِهَا فِي شُعُورِ الْعَبْدِ، لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَقَوْلُهُ " مَعَ إِسْقَاطِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ وَالذَّاتِ " التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصِّفَاتِ وَالذَّاتِ فِي الْوُجُودِ مُسْتَحِيلٌ، وَهُوَ مُمْكِنٌ فِي الشُّهُودِ بِأَنْ يَشْهَدَ الصِّفَةَ وَيَذْهَلَ عَنْ شُهُودِ الْمَوْصُوفِ، أَوْ يَشْهَدَ الْمَوْصُوفَ وَيَذْهَلَ عَنْ شُهُودِ الصِّفَةِ، فَتَجْرِيدُ الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ إِنَّمَا يُمْكِنُ فِي الذِّهْنِ، فَالْمَعْرِفَةُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ تَعَلَّقَتْ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ جَمِيعًا، فَلَمْ يُفَرِّقِ الْعِلْمُ وَالشُّهُودُ بَيْنَهُمَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ مِنْ شُهُودِ مُجَرَّدِ الصِّفَةِ، أَوْ مُجَرَّدِ الذَّاتِ. وَلَا يُرِيدُ الشَّيْخُ أَنَّكَ تُسْقِطُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ فِي الْخَارِجِ وَالْعِلْمِ. بِحَيْثُ تَكُونُ الصِّفَاتُ هِيَ نَفْسَ الذَّاتِ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ الشَّيْخُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْكَلَامِ يَقُولُونَ: إِنَّ الصِّفَاتِ هِيَ الذَّاتُ، فَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّ الذَّاتَ نَفْسَهَا صِفَةٌ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنَّ صِفَاتِهَا لَيْسَتْ شَيْئًا غَيْرَهَا. فَإِنْ أَرَادَ هَؤُلَاءِ أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ هُوَ مَفْهُومُ الذَّاتِ: فَهَذَا مُكَابَرَةٌ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا أَشْيَاءُ غَيْرُ الذَّاتِ انْضَمَّتْ إِلَيْهَا وَقَامَتْ بِهَا فَهَذَا حَقٌّ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ - جَلَّ جَلَالُهُ - دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ، فَلَيْسَ اسْمُهُ اللَّهُ، وَالرَّبُّ، وَالْإِلَهُ أَسْمَاءً لِذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ، لَا صِفَةً لَهَا الْبَتَّةَ، فَإِنَّ هَذِهِ الذَّاتَ الْمُجَرَّدَةِ وُجُودُهَا مُسْتَحِيلٌ، وَإِنَّمَا يَفْرِضُهَا الذِّهْنُ فَرْضَ الْمُمْتَنِعَاتِ، ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَيْهَا، وَاسْمُ " اللَّهِ " سُبْحَانَهُ، " وَالرَّبِّ، وَالْإِلَهِ " - اسْمٌ لِذَاتٍ لَهَا جَمِيعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ، كَالْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْحَيَاةِ، وَالْإِرَادَةِ، وَالْكَلَامِ، وَالسَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْبَقَاءِ، وَالْقِدَمِ، وَسَائِرِ الْكَمَالِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ لِذَاتِهِ، فَصِفَاتُهُ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ، فَتَجْرِيدُ الصِّفَاتِ عَنِ الذَّاتِ، وَالذَّاتِ عَنِ الصِّفَاتِ فَرْضٌ وَخَيَالٌ ذِهْنِيٌّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةٌ، وَلَا إِيمَانٌ، وَلَا هُوَ عِلْمٌ فِي نَفْسِهِ، وَبِهَذَا أَجَابَ السَّلَفُ الْجَهْمِيَّةَ لَمَّا اسْتَدَلُّوا عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] قَالُوا: وَالْقُرْآنُ شَيْءٌ. فَأَجَابَهُمُ السَّلَفُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ، وَكَلَامُهُ مِنْ صِفَاتِهِ، وَصِفَاتُهُ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ - كَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحَيَاتِهِ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ - فَلَيْسَ اللَّهُ اسْمًا لِذَاتٍ لَا نَعْتَ لَهَا، وَلَا صِفَةَ، وَلَا فِعْلَ، وَلَا وَجْهَ، وَلَا يَدَيْنِ، ذَلِكَ إِلَهٌ مَعْدُومٌ مَفْرُوضٌ فِي الْأَذْهَانِ، لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْأَعِيَانِ، كَإِلَهِ الْجَهْمِيَّةِ، الَّذِي فَرَضُوهُ غَيْرِ خَارِجٍ عَنِ الْعَالَمِ وَلَا دَاخِلٍ فِيهِ، وَلَا مُتَّصِلٍ بِهِ وَلَا مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وَلَا مُحَايِثٍ لَهُ وَلَا مُبَايِنٍ، وَكَإِلَهِ الْفَلَاسِفَةِ

الَّذِي فَرَضُوهُ وُجُودًا مُطْلَقًا لَا يَتَخَصَّصُ بِصِفَةٍ وَلَا نَعْتٍ، وَلَا لَهُ مَشِيئَةٌ وَلَا قُدْرَةٌ، وَلَا إِرَادَةٌ وَلَا كَلَامٌ، وَكَإِلَهِ الِاتِّحَادِيَّةِ الَّذِي فَرَضُوهُ وُجُودًا سَارِيًا فِي الْمَوْجُودَاتِ ظَاهِرًا فِيهَا، هُوَ عَيْنُ وُجُودِهَا، وَكَإِلَهِ النَّصَارَى الَّذِي فَرَضُوهُ قَدِ اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، وَتَدَرَّعَ بِنَاسُوتِ وَلَدِهِ، وَاتَّخَذَ مِنْهُ حِجَابًا، فَكُلُّ هَذِهِ الْآلِهَةِ مِمَّا عَمِلَتْهُ أَيْدِي أَفْكَارِهَا، وَإِلَهُ الْعَالَمِينَ الْحَقُّ: هُوَ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ وَعَرَّفُوهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، مَوْصُوفٌ بِكُلِّ كَمَالٍ، مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، لَا مِثَالَ لَهُ، وَلَا شَرِيكَ، وَلَا ظَهِيرَ، وَلَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] غَنِيٌ بِذَاتِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ بِذَاتِهِ. قَوْلُهُ " وَهِيَ تَثْبُتُ بِعِلْمِ الْجَمْعِ، وَتَصْفُو فِي مَيْدَانِ الْفَنَاءِ " يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ الْخَاصَّةَ تَثْبُتُ بِعِلْمِ الْجَمْعِ، وَلَمْ يَقُلْ بِحَالِ الْجَمْعِ، وَلَا بِعَيْنِهِ، وَلَا مَقَامِهِ فَإِنَّ عِلْمَهُ أَوَّلًا: هُوَ سَبَبُ ثُبُوتِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ لَا تُنَالُ إِلَّا بِالْعِلْمِ، فَهُوَ شَرْطٌ فِيهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْجَمْعِ عَنْ قَرِيبٍ. فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ انْفِرَادَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْأَزَلِ وَالْبَقَاءِ وَالْفِعْلِ، وَعَجَزَ مَنْ سِوَاهُ عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِيجَادِ ذَرَّةٍ أَوْ جُزْءٍ مِنْ ذَرَّةٍ، وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَوُجُودُهُ لَيْسَ لَهُ، وَلَا بِهِ وَلَا مِنْهُ، وَتَوَالِى هَذَا الْعِلْمِ عَنِ الْقَلْبِ يُسْقِطُ ذِكْرَ غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ عَنِ الْبَالِ وَالذِّكْرِ، كَمَا سَقَطَ غِنَاهُ وَرُبُوبِيَّتُهُ وَمُلْكُهُ وَقُدْرَتُهُ، فَصَارَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَعْبُودَ وَالْمَشْهُودَ وَالْمَذْكُورَ، كَمَا كَانَ وَحْدَهُ هُوَ الْخَالِقَ الْمَالِكَ، الْغَنِيَّ الْمَوْجُودَ بِنَفْسِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ فَوُجُودُهُ - وَتَوَابِعُ وَجُودِهِ - عَارِيَةٌ لَيْسَتْ لَهُ، وَكُلَّمَا فَنِيَ الْعَبْدُ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ وَشُهُودِهِ صَفَتْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ فِي قَلْبِهِ، فَلِهَذَا قَالَ: " وَتَصْفُو فِي مَيْدَانِ الْفَنَاءِ " اسْتَعَارَ الشَّيْخُ لِلْفَنَاءِ مَيْدَانًا وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ لِاتِّسَاعِ مَجَالِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ قَدِ انْقَطَعَ الْتِفَاتُهُ إِلَى ضِيقِ الْأَغْيَارِ، وَانْجَذَبَتْ رُوحُهُ وَقَلْبُهُ إِلَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، فَهِيَ تَجُولُ فِي مَيْدَانٍ أَوْسَعَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَسْجُونَةً فِي سُجُونِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَإِذَا اسْتَمَرَّ لَهُ عُكُوفُ قَلَبِهِ عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَنَظَرُ قَلْبِهِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَرُؤْيَةُ تَفَرُّدِهِ بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ - كَمُلَتْ وَتَمَّتْ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ مَعْرِفَتُهُ، وَاسْتُكْمِلَتْ بِهَذَا الْبَقَاءِ الَّذِي أَوْصَلَهُ إِلَيْهِ الْفَنَاءُ، وَشَارَفَتْ عَيْنُ الْجَمْعِ بَعْدَ عِلْمِهِ، فَغَابَ الْعَارِفُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِمَعْرُوفِهِ، وَعَنْ ذِكْرِهِ بِمَذْكُورِهِ، وَعَنْ مَحَبَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ بِمُرَادِهِ وَمَحْبُوبِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ:

" وَتُسْتَكْمَلُ بِعِلْمِ الْبَقَاءِ، وَتُشَارِفُ عَيْنَ الْجَمْعِ ". وَلِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ، أَشَارَ إِلَيْهَا الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ: إِرْسَالُ الصِّفَاتِ عَلَى الشَّوَاهِدِ، وَإِرْسَالُ الْوَسَائِطِ عَلَى الْمَدَارِجِ، وَإِرْسَالُ الْعِبَارَاتِ عَلَى الْمَعَالِمِ. شَوَاهِدُ الصِّفَاتِ هِيَ الَّتِي تَشْهَدُ بِهَا، وَتَدُلُّ عَلَيْهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَشَهَادَةِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرَةِ وَآثَارِ الصَّنْعَةِ، فَإِذَا تَمَكَّنَ الْعَبْدُ فِي التَّوْحِيدِ عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ صِفَاتِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَعْرِفْهَا الْعَبْدُ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَا بِغَيْرِ تَعْرِيفِ الْحَقِّ لَهُ، بِمَا أَجْرَاهُ لَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الشَّوَاهِدِ، وَالِانْتِقَالِ مِنْهَا إِلَى الْمَشْهُودِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي شَهِدَ لِنَفْسِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، إِذْ تِلْكَ الشَّوَاهِدُ مَصْدَرُهُا مِنْهُ، فَشَهِدَ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، بِمَا قَالَهُ وَفَعَلَهُ وَجَعَلَهُ شَاهِدًا لِمَعْرِفَتِهِ، فَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالْعَبْدُ آلَةٌ مَحْضَةٌ، وَمُنْفَعَلٌ وَمُحَلٌّ لِجَرَيَانِ الشَّوَاهِدِ، وَآثَارِهَا وَأَحْكَامِهَا عَلَيْهِ، لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَهَذَا مَعْنَى إِرْسَالِ الصِّفَاتِ عَلَى الشَّوَاهِدِ فَإِذَا أَرْسَلَهَا عَلَيْهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْحُكْمَ لِلصِّفَاتِ دُونَ الشَّوَاهِدِ، بَلِ الشَّوَاهِدُ هِيَ آثَارُ الصِّفَاتِ، فَهَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ ثَانٍ، أَيْضًا وَهُوَ: أَنَّ الشَّوَاهِدَ بَوَارِقٌ وَتَجَلِّيَاتٌ تَبْدُو لِلشَّاهِدِ، فَإِذَا أَرْسَلَ الصِّفَاتِ عَلَى تِلْكَ الشَّوَاهِدِ تَوَارَى حُكْمُ تِلْكَ الْبَوَارِقِ وَالتَّجَلِّيَّاتِ فِي الصِّفَاتِ، وَكَانَ الْحُكْمُ لِلصِّفَاتِ، فَحِينَئِذٍ يَتَرَقَّى الْعَبْدُ إِلَى شُهُودِ الذَّاتِ شُهُودًا عِلْمِيًا عِرْفَانِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ " وَإِرْسَالُ الْوَسَائِطِ عَلَى الْمَدَارِجِ " " الْوَسَائِطُ ": هِيَ الْأَسْبَابُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ الَّتِي بِهَا تَظْهَرُ الْمَعْرِفَةُ وَتَوَابِعُهَا، " وَالْمَدَارِجُ ": هِيَ الْمَنَازِلُ وَالْمَقَامَاتُ الَّتِي يَتَرَقَّى الْعَبْدُ فِيهَا إِلَى الْمَقْصُودِ، وَقَدْ تَكُونُ الْمَدَارِجُ الطُّرُقَ الَّتِي يَسْلُكُهَا إِلَيْهِ وَيُدْرَجُ فِيهَا، فَإِرْسَالُ الْوَسَائِطِ الَّتِي مِنَ الرَّبِّ عَلَى الْمَدَارِجِ الَّتِي هِيَ مَنَازِلُ السَّيْرِ وَطُرُقُهُ تُوجِبُ كَوْنَ الحُكْمِ لَهَا دُونَ الْمَدَارِجِ، فَيَغِيبُ عَنْ شُهُودِ الْمَدَارِجِ بِالْوَسَائِطِ، وَقَدْ غَابَ عَنْ شُهُودِ الْوَسَائِطِ بِالصِّفَاتِ، فَيَتَرَقَّى حِينَئِذٍ إِلَى شُهُودِ الذَّاتِ. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ مَا أَطْلَعَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا بِشَوَاهِدَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَبِوَسَائِطَ لَيْسَتْ مِنَ الْعَبْدِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى قَبْضِ تِلْكَ الشَّوَاهِدِ وَالْوَسَائِطِ، وَعَلَى إِجْرَائِهَا عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لَهُ، وَتِلْكَ الْوَسَائِطُ لَا تُوجِبُ بِنَفْسِهَا شَيْئًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا - إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الإسراء: 86 - 87]

وَقَالَ لِلْأُمَّةِ عَلَى لِسَانِهِ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام: 46] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس: 16] وَيَعْلَمُ الْعَبْدُ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنْ شَوَاهِدِ مَعْرِفَتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ: هِيَ مَعَالِمُ يَهْتَدِي بِهَا عِبَادُهُ إِلَيْهِ، وَيَعْرِفُونَ بِهَا كَمَالَهُ وَجَلَالَهُ وَعَظَمَتَهُ، فَإِذَا تَيَقَّنُوا صِدْقَهُ وَلَمْ يَشُكُّوا فِيهِ، وَتَفَطَّنُوا لِآثَارِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي سِوَاهُمُ؛ انْضَمَّ شَاهِدُ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ إِلَى شَاهِدِ الْوَحْيِ وَالشَّرْعِ، فَانْتَقَلُوا حِينَئِذٍ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الْعِيَانِ، فَالْعِبَارَاتُ مَعَالِمُ عَلَى الْحَقَائِقِ الْمَطْلُوبَةِ، وَالْمَعَالِمُ هِيَ الْأَمَارَاتُ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْمَطْلُوبُ، فَإِذَا أَوْصَلَ الْعَارِفُ كُلَّ مَعْنًى مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى مَقْصُودِهِ، وَصَرَفَ هِمَّتَهُ إِلَى مُجْرِيهِ وَنَاصِبِهِ وَمَصْدَرِهِ؛ اجْتَمَعَ هَمُّهُ عَلَيْهِ، وَتَمَكَّنَ فِي مَعْرِفَةِ الذَّاتِ الَّتِي لَهَا صِفَاتُ الْكَمَالِ، وَنُعُوتُ الْجَلَالِ. وَمَقْصُودُهُ: أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ حَالَ صَاحِبِ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ، وَكَيْفَ تَتَرَتَّبُ الْأَشْيَاءُ فِي نَظَرِهِ، وَيَتَرَقَّى فِيهَا إِلَى الْمَقْصُودِ؟ مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّوَاهِدَ أَرْسَلَتْهُ إِلَى الصِّفَاتِ بِإِرْسَالِهَا عَلَيْهَا، فَانْتَقَلَ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا إِلَى مُشَاهَدَةِ الصِّفَاتِ، وَالْوَسَائِطُ الَّتِي كَانَ يَرَاهَا آيَةً عَلَى الْمَدَارِجِ، انْتَقَلَ فَانْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى الْمَدَارِجِ وَلَمْ يَلْقَهَا، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَا هِيَ آيَةٌ لَهُ، وَالْعِبَارَاتُ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ أَلْفَاظًا خَارِجَةً عَنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ صَارَتْ أَمَارَاتٍ تَوَصِّلُهُ إِلَى الْحَقِيقَةِ الْمُعَبِّرِ عَنْهَا، فَبِهَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ يَصِيرُ بِهَا مِنْ أَهْلِ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ عِنْدَهُ. قَوْلُهُ " وَهَذِهِ مَعْرِفَةُ الْخَاصَّةِ الَّتِي تُؤْنَسُ مِنْ أُفُقِ الْحَقِيقَةِ " أَيْ تُدْرَكُ وَتُحَسُّ مِنْ نَاحِيَةِ الْحَقِيقَةِ، وَ " الْإِينَاسُ " الْإِدْرَاكُ وَالْإِحْسَاسُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] وَقَالَ مُوسَى: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه: 10] وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْعَارِفَ إِذَا عَلَّقَ هَمَّهُ بِأُفُقِ الْحَقِيقَةِ، وَأَعْرَضَ عَنِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِطِ - لَا إِعْرَاضَ جُحُودٍ وَإِنْكَارٍ، بَلْ إِعْرَاضَ اشْتِغَالٍ، وَنَظَرٍ إِلَى عَيْنِ الْمَقْصُودِ - أَوْصَلَهُ ذَلِكَ إِلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ الْجَامِعَةِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

فصل الدرجة الثالثة معرفة مستغرقة في محض التعريف

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مَعْرِفَةٌ مُسْتَغْرِقَةٌ فِي مَحْضِ التَّعْرِيفِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْرِفَةٌ مُسْتَغْرِقَةٌ فِي مَحْضِ التَّعْرِيفِ، لَا يُوصِلُ إِلَيْهَا الِاسْتِدْلَالُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا شَاهِدٌ، وَلَا تَسْتَحِقُّهَا وَسِيلَةٌ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ: مُشَاهَدَةِ الْقُرْبِ، وَالصُّعُودِ عَنِ الْعِلْمِ، وَمُطَالَعَةِ الْجَمْعِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَهُ أَرْفَعَ مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْوَسَائِطِ وَالشَّوَاهِدِ، مُتَّصِلَةٌ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَهَذِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِعَيْنِ الْمَقْصُودِ فَقَطْ، طَاوِيَةٌ لِلْوَسَائِطِ وَالشَّوَاهِدِ، فَالْوَسَائِطُ صَاعِدَةٌ عَنْهَا إِلَيْهِ، وَهِيَ غَالِبَةٌ عَلَى حَالِ الْعَارِفِ وَشُهُودِهِ، وَقَدِ اسْتَغْرَقَتْ إِدْرَاكَهُ لِمَا هُوَ فِيهِ، بِحَيْثُ غَابَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِمَعْرُوفِهِ، وَعَنْ ذِكْرِهِ بِمَذْكُورِهِ، وَعَنْ وُجُودِهِ بِمَوْجُودِهِ. فَقَوْلُهُ: " مُسْتَغْرِقَةٌ فِي مَحْضِ التَّعْرِيفِ ". " الْمَعْرِفَةُ " صِفَةُ الْعَبْدِ وَفِعْلُهُ، وَ " التَّعْرِيفُ " فِعْلُ الرَّبِّ وَتَوْفِيقُهُ، فَاسْتَغْرَقَتْ صِفَةُ الْعَبْدِ فِي فِعْلِ الرَّبِّ وَتَعْرِيفِهِ نَفْسَهُ لِعَبْدِهِ. وَقَوْلُهُ " لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا بِالِاسْتِدْلَالِ " يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا بِسَبَبٍ، فَإِنَّ الْأَسْبَابَ قَدِ انْطَوَتْ فِيهَا، وَالْوَسَائِلُ قَدِ انْقَطَعَتْ دُونَهَا، فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا شَاهِدٌ غَيْرُهَا، بَلْ هِيَ شَاهِدُ نَفْسِهَا، فَشَاهِدُهَا وُجُودُهَا، وَدَلِيلُهَا نَفْسُهَا، وَلَا تَعْجَلْ بِإِنْكَارِ هَذَا، فَالْأُمُورُ الْوِجْدَانِيَّةُ كَذَلِكَ، وَدَلِيلُهَا نَفْسُهَا، وَشَاهِدُهَا حَقِيقَتُهَا، فَتَصِيرُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ لِلْعَارِفِ كَالْأُمُورِ الْوِجْدَانِيَّةِ، كَاللَّذَّةِ وَالْفَرَحِ، وَالْحُبِّ وَالْخَوْفِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُطْلَبُ مَنْ قَامَتْ بِهِ شَاهِدًا عَلَيْهَا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهَا. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ دَرَجَةٌ مِنَ الْمَعْرِفَةِ مَنِيفَةٌ، وَرُتْبَةٌ شَرِيفَةٌ، تَنْقَطِعُ دُونَهَا أَعْنَاقُ مَطَايَا السَّائِرِينَ، فَلِذَلِكَ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا بِالِاسْتِدْلَالِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا شَاهِدٌ، وَلَا تَسْتَحِقُّهَا وَسِيلَةٌ، وَالْأَعْمَالُ وَالْأَحْوَالُ وَالْمَقَامَاتُ كُلُّهَا وَسَائِلُ، وَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ فَضْلُ مَنِ الْفَضْلُ كُلُّهُ بِيَدِهِ، وَهُوَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمُ، وَكَوْنُ الْوَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ لَا تَسْتَحِقُّهَا لَا تَمْنَعُ مِنَ الْقِيَامِ بِهَا عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِيهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا تَسْتَحِقُّهَا الْوَسَائِلُ.

فصل الفناء

قَوْلُهُ: " وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ: مُشَاهَدَةِ الْقُرْبِ، وَالصُّعُودِ عَنِ الْعِلْمِ، وَمُطَالَعَةِ الْجَمْعِ، إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَرْكَانًا لَهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ قَدْ وَصَلَ مِنَ الْقُرْبِ إِلَى مَقَامٍ يَلِيقُ بِهِ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ، فَكُلَّمَا كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ أَتَمَّ؛ كَانَ قُرْبُهُ أَتَمَّ، فَإِنَّ شُهُودَ الْوَسَائِطِ وَالْوَسَائِلِ حِجَابٌ عَنْ عَيْنِ الْقُرْبِ، وَإِلْغَاؤُهَا وَجُحُودُهَا حِجَابٌ عَنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا صُعُودُهُ عَنِ الْعِلْمِ: فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ صُعُودَهُ عَنْ أَحْكَامِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ سُقُوطٌ وَنُزُولٌ إِلَى الْحَضِيضِ الْأَدْنَى، لَا صُعُودٌ إِلَى الْمَطْلَبِ الْأَعْلَى، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: أَنَّهُ يَصْعَدُ بِأَحْكَامِ الْعِلْمِ عَنِ الْوُقُوفِ مَعَهُ، وَتَوْسِيطِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ الْوَسَائِطَ قَدْ طُوِيَ بِسَاطُهَا فِي هَذَا الشُّهُودِ وَالْعِرْفَانِ، أَعْنِي: بِسَاطَ الْوُقُوفِ مَعَهَا وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا، فَيُدْرِكُ مَشْهُودَهُ وَمَعْرُوفَهُ بِهِ سُبْحَانَهُ، لَا بِالْعِلْمِ وَالْخَبَرِ، بَلْ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِلْ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْخَبَرِ، لَكِنَّهُ قَدْ صَعِدَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ إِلَى الْمَعْلُومِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ. وَأَمَّا مُطَالَعَةُ الْجَمْعِ فَهِيَ الْغَايَةُ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ: وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ، لَكِنْ أَيُّ جَمْعٍ هُوَ؟ هَلْ هُوَ جَمْعُ الْوُجُودِ، كَمَا يَقُولُهُ الِاتِّحَادِيُّ؟ أَمْ جَمْعُ الشُّهُودِ، كَمَا يَقُولُهُ صَاحِبُ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؟ أَمْ هُوَ جَمْعُ الْإِرَادَةِ كُلِّهَا فِي مُرَادِ الرَّبِّ تَعَالَى الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ؟ فَالشَّأْنُ فِي هَذَا الْجَمْعِ الَّذِي مُطَالَعَتُهُ مِنْ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْمَعْرِفَةِ. نَعَمْ هَاهُنَا جَمْعٌ آخَرُ، مُطَالَعَتُهُ هِيَ كُلُّ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ: جَمْعُ الْأَفْعَالِ فِي الصِّفَاتِ، وَجَمْعُ الصِّفَاتِ فِي الذَّاتِ، وَجَمْعُ الْأَسْمَاءِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، فَمُطَالَعَةُ هَذَا الْجَمْعِ: هِيَ غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ، وَأَعْلَى أَنْوَاعِهَا، وَهِيَ - لَعَمْرُ اللَّهِ - مَعْرِفَةٌ خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. [فَصْلٌ الْفَنَاءُ] [حَقِيقَةُ الْفَنَاءِ] فَصْلٌ الْفَنَاءُ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ الْفَنَاءِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] . {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] .

الْفَنَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ: لَيْسَ هُوَ الْفَنَاءَ الَّذِي تُشِيرُ إِلَيْهِ الطَّائِفَةُ، فَإِنَّ الْفَنَاءَ فِي الْآيَةِ الْهَلَاكُ وَالْعَدَمُ، أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ يُعْدَمُ وَيَمُوتُ، وَيَبْقَى وَجْهُهُ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وَمِثْلُ قَوْلِهِ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: هَلَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] أَيْقَنَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالْهَلَاكِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا قَرَأْتَ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] فَلَا تَسْكُتْ حَتَّى تَقْرَأَ {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ} [الرحمن: 27] وَهَذَا مِنْ فِقْهِهِ فِي الْقُرْآنِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ، إِذِ الْمَقْصُودُ: الْإِخْبَارُ بِفَنَاءِ مَنْ عَلَيْهَا مَعَ بَقَاءِ وَجْهِهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِتَمْدَحَهُ بِالْبَقَاءِ وَحْدَهُ، وَمُجَرَّدُ فَنَاءِ الْخَلِيقَةِ لَيْسَ فِيهِ مَدْحُهُ، إِنَّمَا الْمَدْحُ فِي بَقَائِهِ بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ، فَهِيَ نَظِيرُ قَوْلِهِ {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] .

وَأَمَّا الْفَنَاءُ الَّذِي تُتَرْجِمُ عَنْهُ الطَّائِفَةُ: فَأَمْرٌ غَيْرُ هَذَا، وَلَكِنْ وُجِدَ الْإِشَارَةُ بِالْآيَةِ: أَنَّ الْفَنَاءَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ ذَهَابُ الْقَلْبِ، وَخُرُوجُهُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ وَتَعَلُّقُهُ بِالْعَلِيِّ الْكَبِيرِ الَّذِي لَهُ الْبَقَاءُ فَلَا يُدْرِكُهُ الْفَنَاءُ، وَمَنْ فَنِيَ فِي مَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ أَوْصَلَهُ هَذَا الْفَنَاءُ إِلَى مَنْزِلِ الْبَقَاءِ، فَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ حَقِيقٌ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِمَنْ هُوَ فَانٍ، وَيَذَرَ مَنْ لَهُ الْبَقَاءُ، وَهُوَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَكَأَنَّهَا تَقُولُ: إِذَا تَعَلَّقْتَ بِمَنْ هُوَ فَانٍ انْقَطَعَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ عِنْدَ فَنَائِهِ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ، وَإِذَا تَعَلَّقْتَ بِمَنْ هُوَ بَاقٍ لَا يَفْنَى لَمْ يَنْقَطِعْ تَعَلُّقُكَ وَدَامَ بِدَوَامِهِ. وَالْفَنَاءُ الَّذِي يُتَرْجَمُ عَلَيْهِ هُوَ غَايَةُ التَّعَلُّقِ وَنِهَايَتُهُ، فَإِنَّهُ انْقِطَاعٌ عَمَّا سِوَى الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: " الْفَنَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ: اضْمِحْلَالُ مَا دُونَ الْحَقِّ عِلْمًا، ثُمَّ جَحْدًا، ثُمَّ حَقًّا ". قُلْتُ: " الْفَنَاءُ " ضِدُّ " الْبَقَاءِ "، وَالْبَاقِي: إِمَّا بَاقٍ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى مَنْ يُبْقِيهِ، بَلْ بَقَاؤُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَمَا سِوَاهُ فَبَقَاؤُهُ بِبَقَاءِ الرَّبِّ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ بَقَاءٌ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وُجُودٌ، فَإِيجَادُهُ وَإِبْقَاؤُهُ مِنْ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا الْعَدَمُ قَبْلَ إِيجَادِهِ، وَالْفَنَاءُ بَعْدَ إِيجَادِهِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى: أَنَّ نَفْسَهُ وَذَاتَهُ اقْتَضَتْ عَدَمَهُ وَفَنَاءَهُ، وَإِنَّمَا الْفَنَاءُ أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى ذَاتِهِ - بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِيجَادِ مُوجِدِهِ لَهُ - كَانَ مَعْدُومًا، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ بَعْدَ وُجُودِهِ - مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِبْقَاءِ مُوجِدِهِ لَهُ - اسْتَحَالَ بَقَاؤُهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَبْقَى بِإِبْقَائِهِ، كَمَا أَنَّهُ إِنَّمَا يُوجَدُ بِإِيجَادِهِ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: إِنَّهُ نَفْسَهُ مَعْدُومٌ وَفَانٍ، فَافْهَمْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ إِفْنَاءُ الْمَوْجُودِ وَإِعْدَامُهُ بِخَلْقِ عَرَضٍ فِيهِ يُسَمَّى الْفَنَاءُ وَالْإِعْدَامُ؟ أَمْ بِإِمْسَاكِ خَلْقِ الْبَقَاءِ لَهُ، إِذْ هُوَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَنْ يَخْلُقَ لَهُ بَقَاءً يُبْقِيهِ؟ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِعْدَامِ الْمَشْهُورَةُ. وَالتَّحْقِيقُ فِيهَا: أَنَّ ذَاتَهُ لَا تَقْتَضِي الْوُجُودَ، وَهُوَ مَعْدُومٌ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا قَدَّرَ الرَّبُّ تَعَالَى لِوُجُودِهِ أَجَلًا وَوَقْتًا انْتَهَى وُجُودُهُ عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهِ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ وَهُوَ الْعَدَمُ، نَعَمْ قَدْ يُقَدِّرُ لَهُ وَقْتًا ثُمَّ يَمْحُو سُبْحَانَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَيُرِيدُ إِعْدَامَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَمْحُو مَا يَشَاءُ، وَيُرِيدُ اسْتِمْرَارَ وَجُودِهِ بَعْدَ الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ إِلَى أَمَدٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ

يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ - يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 2 - 4] فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِبْقَاءَ الشَّيْءِ أَبْقَاهُ إِلَى حِينِ يَشَاءُ، وَإِذَا أَرَادَ إِفْنَاءَهُ أَعْدَمَهُ بِمَشِيئَتِهِ، كَمَا يُوجِدُهُ بِمَشِيئَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وُجُودِيًّا، فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَدَمُ مُتَعَلِّقَ الْمَشِيئَةِ؟ قِيلَ: مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ أَمْرَانِ: إِيجَادٌ، وَإِعْدَامٌ، وَكِلَاهُمَا مُمْكِنٌ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ أَمْرًا وُجُودِيًا دَعْوَى بَاطِلَةٌ، نَعَمُ، الْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَشِيئَةُ، وَأَمَّا الْإِعْدَامُ: فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْعَدَمِ. وَلَوْلَا أَنَّا فِي أَمْرٍ أَخَصَّ مِنْ هَذَا لَبَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَكَرْنَا أَوْهَامَ النَّاسِ وَأَغْلَاطَهُمْ فِيهَا. وَقَوْلُهُ " الْفَنَاءُ اسْمٌ لِاضْمِحْلَالِ مَا دُونَ الْحَقِّ عِلْمًا " يَعْنِي: يَضْمَحِلُّ عَنِ الْقَلْبِ وَالشُّهُودِ عِلْمًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتُهُ فَانِيَةً فِي الْحَالِ مُضْمَحِلَّةً، فَتَغِيبُ صُوَرُ الْمَوْجُودَاتِ فِي شُهُودِ الْعَبْدِ، بِحَيْثُ تَكُونُ كَأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الْعَدَمِ، كَمَا كَانَتْ قَبْلَ أَنْ تُوجَدَ، وَيَبْقَى الْحَقُّ تَعَالَى ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَحْدَهُ فِي قَلْبِ الشَّاهِدِ، كَمَا كَانَ وَحْدَهُ قَبْلَ إِيجَادِ الْعَوَالِمِ. قَوْلُهُ " عِلْمًا، ثُمَّ جَحْدًا، ثُمَّ حَقًّا " هَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ مَرَاتِبُ الِاضْمِحْلَالِ إِذَا وَرَدَ عَلَى الْعَبْدِ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَإِذَا جَاءَ وَهْلَةً وَاحِدَةً لَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعْرِفُ ذَلِكَ إِذَا عَادَ إِلَى عِلْمِهِ وَشُهُودِهِ، فَإِنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ إِذَا رَقَّى عَبْدَهُ بِالتَّدْرِيجِ نَوَّرَ بَاطِنَهُ وَعَقْلَهُ بِالْعِلْمِ، فَرَأَى أَنَّهُ لَا خَالِقَ سِوَاهُ، وَلَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ وَالْعَطَاءَ وَالْمَنْعَ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ - بِنِهَايَةِ الْخُضُوعِ وَالْحُبِّ - سِوَاهُ، وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ فَبَاطِلٌ، فَهَذَا تَوْحِيدُ الْعِلْمِ.

درجات الفناء

ثُمَّ إِذَا رَقَّاهُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ دَرَجَةً أُخْرَى فَوْقَ هَذِهِ أَشْهَدَهُ عَوْدَ الْمَفْعُولَاتِ إِلَى أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ، وَعَوْدَ أَفْعَالِهِ إِلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَقِيَامَ صِفَاتِهِ بِذَاتِهِ، فَيَضْمَحِلُّ شُهُودُ غَيْرِهِ مِنْ قَلْبِهِ، وَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ لِسِوَاهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَلَمْ يَجْحَدِ السَّوِيُّ كَمَا يَجْحَدُهُ الْمَلَاحِدَةُ، فَإِنَّ هَذَا الْجُحُودَ عَيْنُ الْإِلْحَادِ. ثُمَّ إِذَا رَقَّاهُ دَرَجَةً أُخْرَى؛ أَشْهَدَهُ قِيَامَ الْعَوَالِمِ كُلِّهَا - جَوَاهِرِهَا وَأَعْرَاضِهَا، ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا - بِهِ وَحْدَهُ، أَيْ بِإِقَامَتِهِ لَهَا وَإِمْسَاكِهِ لَهَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا، وَيُمْسِكُ الْبِحَارَ أَنْ تَغِيضَ أَوْ تَفِيضَ عَلَى الْعَالَمِ، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، وَيُمْسِكُ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ، وَيُمْسِكُ الْقُلُوبَ الْمُوقِنَةَ أَنْ تَزِيغَ عَنِ الْإِيمَانِ، وَيُمْسِكُ حَيَاةَ الْحَيَوَانِ أَنْ تُفَارِقَهُ إِلَى الْأَجَلِ الْمَحْدُودِ، وَيُمْسِكُ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ وُجُودَهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاضْمَحَلَّتْ وَتَلَاشَتْ، وَالْكُلُّ قَائِمٌ بِأَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، فَلَيْسَ الْوُجُودُ الْحَقِيقِيُّ إِلَّا لَهُ، أَعْنِي الْوُجُودَ الَّذِي هُوَ مُسْتَغْنٍ فِيهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ، لَا قِيَامَ لَهُ بِنَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَلَمَّا كَانَ لِلْفَنَاءِ مَبْدَأٌ وَتَوَسُّطٌ وَغَايَةٌ؛ أَشَارَ إِلَى مَرَاتِبِهِ الثَّلَاثَةِ، فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: فَنَاءُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمُتَحَقِّقِينَ بِهِ، وَالثَّانِيَةُ: فَنَاءُ أَهْلِ السُّلُوكِ وَالْإِرَادَةِ، وَالثَّالِثَةُ: فَنَاءُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، الْمُسْتَغْرِقِينَ فِي شُهُودِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. فَأَوَّلُ الْأَمْرِ، أَنْ تَفْنَى قُوَّةُ عِلْمِهِ وَشُعُورِهِ بِالْمَخْلُوقِينَ فِي جَنْبِ عَلَمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ وَحُقُوقِهِ، ثُمَّ يَقْوَى ذَلِكَ حَتَّى يَعُدَّهُمْ كَالْأَمْوَاتِ وَكَالْعَدَمِ، ثُمَّ يَقْوَى ذَلِكَ حَتَّى يَغِيبَ عَنْهُمْ، بِحَيْثُ يُكَلَّمُ وَلَا يَسْمَعُ، وَيُمَرُّ بِهِ وَلَا يَرَى، وَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ حَالِ السُّكْرِ، وَلَكِنْ لَا تَدُومُ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ عَلَيْهَا. [دَرَجَاتُ الْفَنَاءِ] [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الْأُولَى فَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ] فَصْلٌ قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى: فَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ عِلْمًا، وَفَنَاءُ الْعِيَانِ فِي الْمُعَايَنِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ جَحْدًا، وَفَنَاءُ الطَّلَبِ فِي الْوُجُودِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ حَقًّا. هَذَا تَفْصِيلُ مَا أَجْمَلَهُ أَوَّلًا، وَنُبَيِّنُ مَا أَرَادُوا بِالْعِلْمِ، وَالْجَحْدِ، وَالْحَقِّ.

فَفَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ: هُوَ غَيْبَةُ الْعَارِفِ بِمَعْرُوفِهِ عَنْ شُعُورِهِ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَعَانِيهَا فَيَفْنَى بِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ وَصْفِهِ هُنَا وَمَا قَامَ بِهِ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُهُ وَوَصْفُهُ، فَإِذَا اسْتَغْرَقَ فِي شُهُودِ الْمَعْرُوفِ فَنِيَ عَنْ صِفَةِ نَفْسِهِ وَفِعْلِهَا، وَلَمَّا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ فَوْقَ الْعِلْمِ وَأَخَصَّ مِنْهُ كَانَ فَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ مُسْتَلْزِمًا لِفَنَاءِ الْعِلْمِ فِي الْمَعْرِفَةِ، فَيَفْنَى أَوَّلًا فِي الْمَعْرِفَةِ ثُمَّ تَفْنَى الْمَعْرِفَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. وَأَمَّا فَنَاءُ الْعِيَانِ فِي الْمُعَايَنِ: فَالْعِيَانُ فَوْقَ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ الْعِلْمِ وَدُونَ الْعِيَانِ، فَإِذَا انْتَقَلَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ إِلَى الْعِيَانِ فَنِيَ عِيَانُهُ فِي مُعَايَنِهِ، كَمَا فَنِيَتْ مَعْرِفَتُهُ فِي مَعْرُوفِهِ. وَأَمَّا فَنَاءُ الطَّلَبِ فِي الْوُجُودِ: فَهُوَ أَنْ لَا يَبْقَى لِصَاحِبِ هَذَا الْفَنَاءِ طَلَبٌ؛ لِأَنَّهُ ظَفِرَ بِالْمَطْلُوبِ الْمُشَاهَدِ، وَصَارَ وَاجِدًا بَعْدَ أَنْ كَانَ طَالِبًا، فَكَانَ إِدْرَاكُهُ أَوَّلًا عِلْمًا، ثُمَّ قَوِيَ فَصَارَ مَعْرِفَةً، ثُمَّ قَوِيَ فَصَارَ عِيَانًا، ثُمَّ تَمَكَّنَ فَصَارَ مَعْرِفَةً، ثُمَّ تَمَكَّنَ فَصَارَ وُجُودًا. وَلَعَلَّكَ أَنَّ تَسْتَنْكِرَ - أَوْ تَسْتَبْعِدَ - هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَمَعَانِيهَا، فَاسْمَعْ ضَرْبَ مَثَلٍ يُهَوِّنُ عَلَيْكَ ذَلِكَ، وَيُقَرِّبُهُ مِنْكَ: مِثْلَ مَلِكٍ - عَظِيمِ السُّلْطَانِ، شَدِيدِ السَّطْوَةِ، تَامِّ الْهَيْبَةِ، قَوِيِّ الْبَأْسِ - اسْتَدْعَى رَجُلًا مِنْ رَعِيَّتِهِ قَدِ اشْتَدَّ جُرْمُهُ وَعِصْيَانُهُ لَهُ، فَحَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِتْلَافُهُ، فَأَحْوَالُهُ فِي حَالِ حُضُورِهِ مُخْتَلِفَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُشَاهِدُهُ، فَتَارَةً يَتَذَكَّرُ جُرْمَهُ وَسَطْوَةَ السُّلْطَانِ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِ، فَيُفَكِّرُ فِيمَا سَيَلْقَاهُ، وَتَارَةً تَقْهَرُهُ الْحَالُ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَلَا يَذْكُرُ مَا كَانَ مِنْهُ وَلَا مَا أُحْضِرَ مِنْ أَجْلِهِ، لِغَلَبَةِ الْخَوْفِ عَلَى قَلْبِهِ وَيَأْسِهِ مِنَ الْخَلَاصِ، وَلَكِنَّ عَقْلَهُ وَذِهْنَهُ مَعَهُ، وَتَارَةً يَغِيبُ قَلْبُهُ وَذِهْنُهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَشْعُرُ أَيْنَ هُوَ؟ وَلَا مَنْ إِلَى جَانِبِهِ، وَلَا بِمَا يُرَادُ بِهِ، وَرُبَّمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَا لَا يُرِيدُهُ، فَهَذَا فَنَاءُ الْخَوْفِ. وَمِثَالٌ ثَانٍ فِي فَنَاءِ الْحُبِّ: مُحِبٌّ اسْتَغْرَقَتْ مَحَبَّتُهُ شَخْصًا فِي غَايَةِ الْجَمَالِ وَالْبَهَاءِ، وَأَكْبَرُ أُمْنِيَّتِهِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ، وَمُحَادَثَتُهُ وَرُؤْيَتُهُ، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى حَالِهِ قَدْ مَلَأَ الْحُبُّ قَلْبَهُ، وَقَدِ اسْتَغْرَقَ فِكْرُهُ فِي مَحْبُوبِهِ، وَإِذَا بِهِ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ مَحْبُوبُهُ بَغْتَةً عَلَى أَحْسَنِ هَيْئَةٍ، فَقَابَلَهُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَلَيْسَ دُونَهُ سِوَاهُ، أَفَلَيْسَ هَذَا حَقِيقًا أَنْ يَفْنَى عَنْ شُهُودِهِ بَمَشْهُودِهِ، بَلْ وَعَنْ حُبِّهِ بِمَحْبُوبِهِ؟ فَيَمْلِكُ عَلَيْهِ الْمَحْبُوبُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَإِرَادَتَهُ وَإِحْسَاسَهُ، وَيَغِيبُ بِهِ عَنْ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ؟ وَانْظُرْ إِلَى النِّسْوَةِ كَيْفَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ لَمَّا طَلَعَ عَلَيْهِنَّ يُوسُفُ، وَشَاهَدْنَ ذَلِكَ الْجَمَالَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُنَّ مِنْ عِشْقِهِ وَمَحَبَّتِهِ مَا تَقَدَّمَ لِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ، فَأَفْنَاهُنَّ شُهُودُ جَمَالِهِ عَنْ حَالِهِنَّ حَتَّى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.

وَأَمَّا امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: فَإِنَّهَا - وَإِنْ كَانَتْ صَاحِبَةَ الْمَحَبَّةِ - فَإِنَّهَا كَانَتْ قَدْ أَلِفَتْ رُؤْيَتَهُ وَمُشَاهَدَتَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَيْهَا حَالُهَا كَمَا تَغَيَّرَ عَلَى الْعَوَاذِلِ، فَكَانَ مَقَامَهَا الْبَقَاءُ وَمَقَامَهُنَّ الْفَنَاءُ، وَحَصَلَ لَهُنَّ الْفَنَاءُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: ذُهُولُهُنَّ عَنِ الشُّعُورِ بِقَطْعِ مَا فِي أَيْدِيهِنَّ حَتَّى تَخَطَّاهُ الْقَطْعُ إِلَى الْأَيْدِي. الثَّانِي: فَنَاؤُهُنَّ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِأَلَمِ الْقَطْعِ، وَهَكَذَا الْفَنَاءُ بِالْمَخُوفِ، وَالْفَرَحُ بِالْمَحْبُوبِ يُفْنِي صَاحِبَهُ عَنْ شُعُورِهِ وَعَنْ إِحْسَاسِهِ بِالْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ. هَذَا فِي مُشَاهَدَةِ مَخْلُوقٍ مُحْدَثٍ لَهُ أَشْبَاهٌ وَأَمْثَالٌ، وَلَهُ مَنْ يُقَارِبُهُ وَيُدَانِيهِ فِي الْجَمَالِ، وَإِنَّمَا فَاقَ بَنِي جِنْسِهِ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ، وَامْتَازَ بِبَعْضِ الْمَعَانِي الْمَخْلُوقَةِ الْمَصْنُوعَةِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ لَهُ الْجَمَالُ كُلُّهُ، وَالْكَمَالُ كُلُّهُ، وَالْإِحْسَانُ وَالْإِجْمَالُ، وَنِسْبَةُ كُلِّ جَمَالٍ فِي الْوُجُودِ إِلَى جَمَالِهِ وَجَلَالِهِ أَقَلُّ مِنْ نِسْبَةِ سِرَاجٍ ضَعِيفٍ إِلَى عَيْنِ الشَّمْسِ، وَلَمَّا عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ قُوَى الْبَشَرِ لَا تَحْتَمِلُ - فِي هَذِهِ الدَّارِ - رُؤْيَتَهُ؛ احْتَجَبَ عَنْ عِبَادِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيُنْشِئُهُمْ نَشْأَةً يَتَمَكَّنُونَ بِهَا مِنْ مُشَاهَدَةِ جَمَالِهِ وَرُؤْيَةِ وَجْهِهِ، وَأَنْتَ تَرَى بَعْضَ آيَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ وَمُبْدَعَاتِهِ كَيْفَ يَفْنَى فِيهَا مُشَاهِدُهَا عَنْ غَيْرِهَا؟ وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي الْمُشَاهَدَاتِ العِيَانِيَّةِ، وَالْوَارِدَاتِ الْوِجْدَانِيَّةِ. وَأَمَّا الْمَعَارِفُ الْإِلَهِيَّةُ: فَإِنَّ حَالَةَ " الْبَقَاءِ " فِيهَا أَكْمَلُ مِنْ حَالَةِ " الْفَنَاءِ " وَهِيَ حَالَةُ نَبِيِّنَا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَحَالُ الْكُمَّلِ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَلِهَذَا رَأَى مَا رَأَى لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ وَهُوَ ثَابِتُ الْقَلْبِ، رَابِطُ الْجَأْشِ، حَاضِرُ الْإِدْرَاكِ، تَامُّ التَّمْيِيزِ، وَلَوْ رَأَى غَيْرُهُ بَعْضَ ذَلِكَ لَمَا تَمَالَكَ. فَإِنْ قُلْتَ: رُبَّمَا أَفْهَمُ مَعْنَى فَنَاءِ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ وَفَنَاءِ الْعِيَانِ فِي الْمُعَايَنِ، فَمَا مَعْنَى فَنَاءِ الطَّلَبِ فِي الْوُجُودِ، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْفَنَاءَ حَقًّا؟ قُلْتُ: مَتَى فَهِمْتَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ فَهِمْتَ مَعْنَاهُ، فَإِنَّ الْوَاجِدَ لَمَّا ظَفِرَ بِمَوْجُودِهِ فَنِيَ طَلَبُهُ لَهُ وَاضْمَحَلَّ، وَهَذَا مَشْهُودٌ فِي الشَّاهِدِ، فَإِنَّكَ تَرَى طَالِبَ أَمْرٍ مُهِمٍّ، فَإِذَا ظَفِرَتْ يَدَاهُ بِهِ وَأَدْرَكَهُ كَيْفَ يَبْرُدُ طَلَبُهُ، وَيَفْنَى فِي وُجُودِهِ؟ لَكِنَّ هَذَا مُحَالٌ فِي حَقِّ الْعَارِفِ، فَإِنَّ طَلَبَهُ لَا يُفَارِقُهُ، بَلْ إِذَا وَجَدَ اشْتَدَّ طَلَبُهُ، فَلَا يَزَالُ طَالِبًا، فَكُلَّمَا كَانَ أَوْجَدَ كَانَ أَطْلَبَ، نَعَمُ، الَّذِي يَفْنَى طَلَبُ حَظِّهِ فِي طَلَبِ مَحْبُوبِهِ وَطَلَبِ مَرَاضِيهِ، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذَا غَايَةٌ، وَلَكِنَّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ: أَنَّ الْعَبْدَ يَصِلُ فِي مَنْزِلَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي الْمُشَاهَدَةِ إِلَى حَالَةٍ تَسْتَوْلِي فِيهَا عَلَيْهِ أَنْوَاعُ الْقُرْبِ وَآثَارُ الصِّفَاتِ،

بِحَيْثُ يَذْهَلُ لُبُّهُ عَنْ شُعُورِهِ بِطَلَبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى رَبِّهِ، وَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهُ، وَتَمَكَّنَ مِنْ شُهُودِ قِيَامِ رَبِّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ: مُكَابِدًا وَصَابِرًا وَمُرَابِطًا، فَإِذَا صَبَرَ وَصَابَرَ وَرَابَطَ - صَبَرَ فِي نَفْسِهِ وَصَابَرَ عَدُوَّهُ، وَرَابَطَ عَلَى ثَغْرِ قَلْبِهِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ خَاطِرٌ لَا يُحِبُّهُ وَلَيُّهُ الْحَقُّ - ظَهَرَ حِينَئِذٍ فِي قَلْبِهِ نُورٌ مِنْ إِقْبَالِهِ عَلَى رَبِّهِ، فَإِذَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ غَيَّبَهُ عَنْ وُجُودِهِ الذِّهْنِيِّ، وَسَرَى بِهِ فِي مَطَاوِي الْغَيْبِ، فَحِينَئِذٍ يَصْفُو لَهُ إِقْبَالُهُ عَلَى رَبِّهِ، فَإِذَا صَفَا لَهُ ذَلِكَ غَابَ عَنْ وُجُودِهِ الْعَيْنِيِّ وَالذِّهْنِيِّ، فَغَابَ بِنُورِ إِقْبَالِهِ عَلَى رَبِّهِ بِوُصُولِ خَالِصِ الذِّكْرِ وَصَافِيهِ إِلَى قَلْبِهِ، حَيْثُ خَلَا مِنْ كُلِّ شَاغِلٍ مِنَ الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ وَالذِّهْنِيِّ، وَصَارَ وَاحِدًا لِوَاحِدٍ، فَيَسْتَوْلِي نُورُ الْمُرَاقَبَةِ عَلَى أَجْزَاءِ بَاطِنِهِ، فَيَمْتَلِئُ قَلْبُهُ مِنْ نُورِ التَّوَجُّهِ، بِحَيْثُ يَغْمُرُ قَلْبَهُ، وَيَسْتُرُهُ عَمَّا سِوَاهُ، ثُمَّ يَسْرِي ذَلِكَ النُّورُ مِنْ بَاطِنِهِ فَيَعُمُّ أَجْزَاءَ ظَاهِرِهِ، فَيَتَشَابَهُ الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَفْنَى الْعَبْدُ عَمَّا سِوَاهُ، وَيَبْقَى بِالْمَشْهَدِ الرُّوحِيِّ الذَّاتِيِّ الْمُوجِبِ لِلْمَحَبَّةِ الْخَاصَّةِ الْمُلْهِبَةِ لِلرُّوحِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَضْعُفُ لِقِلَّةِ الْوَارِدِ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّسِعَ لِغَيْرِ مَا بَاشَرَ سِرُّهُ وَقَلْبُهُ مِنْ آثَارِ الْحُبِّ الْخَاصِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْوَى وَيَتَّسِعُ نَظَرُهُ، فَيَجِدُ آثَارَ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ الْمُقَدَّسِ فِي قَلْبِهِ وَرُوحِهِ، وَيَجِدُ الْعُبُودِيَّةَ وَالْمَحَبَّةَ، وَالدُّعَاءَ وَالِافْتِقَارَ، وَالتَّوَكُّلَ وَالْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ، وَسَائِرَ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ قَائِمَةً بِقَلْبِهِ، لَا تَشْغَلُهُ عَنْ مَشْهَدِ الرُّوحِ، وَلَا تَسْتَغْرِقُ مَشْهَدَ الرُّوحِ عَنْهُ، وَيَجِدُ مُلَاحَظَتَهُ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي حَاضِرًا فِي جِذْرِ قَلْبِهِ حَيْثُ نَزَلَتِ الْأَمَانَةُ، فَلَا يَشْغَلُهُ مَشْهَدُ الرُّوحِ الْمُسْتَغْرِقُ، وَلَا مَشْهَدُ الْقَلْبِ عَنْ مُلَاحَظَةِ مَرَاضِي الرَّبِّ تَعَالَى وَمَحَابِّهِ وَحَقِّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَيَجِدُ تَرْكَ التَّدْبِيرِ وَالِاخْتِيَارِ وَصِحَّةَ التَّفْوِيضِ مَوْجُودًا فِي مَحَلِّ نَفْسِهِ، فَيُعَامِلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ، بِحَيْثُ لَا تَشْغَلُهُ مُشَاهَدَةُ الْأُولَى عَنْهُ، وَيَقُومُ بِمُلَاحَظَةِ عَقْلِهِ لِأَسْرَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَلَا يَحْجُبُهُ ذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ مُلَاحَظَةِ عُبُودِيَّتِهِ، فَيَبْقَى مَغْمُورَ الرُّوحِ بِمُلَاحَظَةِ الْفَرْدَانِيَّةِ وَجَلَالِهَا وَكَمَالِهَا وَجَمَالِهَا، قَدِ اسْتَغْرَقَتْهُ مَحَبَّتُهُ وَالشَّوْقُ إِلَيْهِ، مَعْمُورَ الْقَلْبِ بِعِبَادَاتِ الْقُلُوبِ مَعْمُورَ الْقَلْبِ بِمُلَاحَظَةِ الْحِكْمَةِ وَمَعَانِي الْخِطَابِ، طَاهِرَ الْقَلْبِ عَنْ سَفْسَافِ الْأَخْلَاقِ، مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَ الْخَلْقِ، قَدْ صَارَ عَبْدًا مَحْضًا لِرَبِّهِ بِرُوحِهِ وَقَلْبِهِ وَعَقْلِهِ، وَنَفْسِهِ وَبَدَنِهِ وَجَوَارِحِهِ، قَدْ قَامَ كُلٌّ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، بِحَيْثُ لَا تَحْجُبُهُ عُبُودِيَّةُ بَعْضِهِ عَنْ عُبُودِيَّةِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، قَدْ فَنِيَ عَنْ نَفْسِهِ وَبَقِيَ بِرَبِّهِ، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْكِتَّانِيُّ: جَرَتْ مَسْأَلَةٌ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ فِي الْمَحَبَّةِ، فَتَكَلَّمَ الشُّيُوخُ فِيهَا، وَكَانَ الْجُنَيْدُ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا، فَقَالُوا لَهُ: هَاتِ مَا عِنْدَكَ يَا عِرَاقِيُّ، فَأَطْرَقَ سَاعَةً، وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: عَبْدٌ ذَاهِبٌ عَنْ

فصل الدرجة الثانية فناء شهود الطلب لإسقاطه

نَفْسِهِ، وَمُتَّصِلٌ بِذِكْرِ رَبِّهِ، قَائِمٌ بِأَدَاءِ حُقُوقِهِ، نَاظِرٌ إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ، أَحْرَقَ قَلْبَهُ أَنْوَارُ هَيْبَتِهِ، وَصَفَا شُرْبُهُ مِنْ كَأْسِ وُدِّهِ، وَانْكَشَفَ لَهُ الْجَبَّارُ مِنْ أَسْتَارِ غَيْبِهِ، فَإِنْ تَكَلَّمَ فَبِاللَّهِ، وَإِنْ نَطَقَ فَعَنِ اللَّهِ، وَإِنْ عَمِلَ فَبِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِنْ سَكَنَ فَمَعَ اللَّهِ، فَهُوَ لِلَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَمَعَ اللَّهِ. فَبَكَى الشُّيُوخُ، وَقَالُوا: مَا عَلَى هَذَا مَزِيدٌ جَبَرَكَ اللَّهُ يَا تَاجَ الْعَارِفِينَ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ فَنَاءُ شُهُودِ الطَّلَبِ لِإِسْقَاطِهِ] فَصْلٌ قَالَ الشَّيْخُ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: فَنَاءُ شُهُودِ الطَّلَبِ لِإِسْقَاطِهِ، وَفَنَاءُ شُهُودِ الْعِلْمِ لِإِسْقَاطِهِ، وَفَنَاءُ شُهُودِ الْعِيَانِ لِإِسْقَاطِهِ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْفَنَاءِ أَعْلَى عِنْدَهُ مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا أَبْلَغُ فِي الْفَنَاءِ مِنْ جِهَةِ فَنَاءِ أَرْبَابِهَا عَنْ فَنَائِهِمْ، فَقَدْ سَقَطَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ذِكْرُ أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشُّغْلِ بِرَبِّهِمْ. وَقَوْلُهُ " لِإِسْقَاطِهِ " أَيْ لِإِسْقَاطِ الشُّهُودِ، لَا إِسْقَاطِ الْمَشْهُودِ، فَالطَّلَبُ وَالْعِلْمُ وَالْعِيَانُ قَائِمٌ، وَقَدْ سَقَطَ الشُّهُودُ، لِاسْتِغْرَاقِ صَاحِبِهِ فِي الْمَطْلُوبِ الْمُعَايَنِ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ الْفَنَاءِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ الْفَنَاءِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ حَقًّا، شَائِمًا بَرْقَ الْعَيْنِ، رَاكِبًا بَحْرَ الْجَمْعِ، سَالِكًا سَبِيلَ الْبَقَاءِ. الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَنَاءِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا قَدْ فَنِيَ عَنْ شُهُودِ طَلَبِهِ وَعِلْمِهِ وَعِيَانِهِ، مَعَ شُعُورِهِ بِفَنَائِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَفِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ قَدْ فَنِيَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَفَنِيَ عَنْ شُهُودِ فَنَائِهِ، كَمَا يُقَالُ: آخِرُ مَنْ يَمُوتُ مَلَكُ الْمَوْتِ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْفَنَاءُ عِنْدَهُ هُوَ الْفَنَاءَ حَقًّا؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَنِيَ فِيهِ كُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَشْهَدُ الْفَنَاءَ قَدْ فَنِيَ، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. وَقَوْلُهُ " شَائِمًا بَرْقَ الْعَيْنِ " الشَّائِمُ النَّاظِرُ مِنْ بُعْدٍ، وَبَرْقُ الْعَيْنِ نُورُ الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى اسْتِحَالَةِ تَعَلُّقِ هَذَا بِالنُّورِ الْخَارِجِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ أَنْوَارُ الْقُرْبِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ.

وَقَوْلُهُ " رَاكِبًا بَحْرَ الْجَمْعِ " " الْجَمْعُ " الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ: عِبَارَةٌ عَنْ شُخُوصِ الْبَصِيرَةِ إِلَى مُجَرَّدِ مَصْدَرِ الْمُتَفَرِّقَاتِ كُلِّهَا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَرُكُوبُ لُجَّةِ هَذَا الْجَمْعِ هُوَ فَنَاؤُهُ فِيهِ. قَوْلُهُ " سَالِكًا سَبِيلَ الْبَقَاءِ " يَعْنِي: أَنَّ مَنْ فَنِيَ فَقَدْ تَأَهَّلَ لِلْبَقَاءِ بِالْحَقِّ، وَهَذَا الْبَقَاءُ هُوَ بَعْدَ الْفَنَاءِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ بِالْفَنَاءِ رُفِعَ لَهُ عَلَمُ الْحَقِيقَةِ، فَشَمَّرَ إِلَيْهِ سَالِكًا فِي طَرِيقِ الْبَقَاءِ، وَهِيَ الْقِيَامُ بِالْأَوْرَادِ، وَحِفْظُ الْوَارِدَاتِ، فَحِينَئِذٍ يُرْجَى لَهُ الْوُصُولُ. فَصْلٌ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَدْحُ لَفْظِ الْفَنَاءِ وَلَا ذَمُّهُ، وَلَا اسْتَعْمَلُوا لَفْظَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ، وَلَا ذَكَرَهُ مَشَايِخُ الطَّرِيقِ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَلَا جَعَلُوهُ غَايَةً وَلَا مَقَامًا، وَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ أَحَقَّ بِكُلِّ كَمَالٍ، وَأَسْبَقَ إِلَى كُلِّ غَايَةٍ مَحْمُودَةٍ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذَا اللَّفْظَ مُطْلَقًا، وَلَا نَقْبَلُهُ مُطْلَقًا. وَلَابُدَّ فِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَبَيَانِ صَحِيحِهِ مِنْ مَعْلُولِهِ، وَوَسِيلَتِهِ مِنْ غَايَتِهِ، فَنَقُولُ - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ: حَقِيقَةُ " الْفَنَاءِ " الْمُشَارِ إِلَيْهِ هُوَ اسْتِهْلَاكُ الشَّيْءِ فِي الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ الذِّهْنِيِّ، وَهَاهُنَا تَقَسَّمَهُ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ وَأَهْلُ الزَّيْغِ وَالْإِلْحَادِ، فَزَعَمَ أَهْلُ الِاتِّحَادِ - الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ - أَنَّ الْفَنَاءَ هُوَ غَايَةُ الْفَنَاءِ عَنْ وُجُودِ السِّوَى، فَلَا يَثْبُتُ لِلسِّوَى وُجُودٌ الْبَتَّةَ، لَا فِي الشُّهُودِ وَلَا فِي الْعِيَانِ، بَلْ يَتَحَقَّقُ بِشُهُودِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ، فَيَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّ وُجُودَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ، فَمَا ثَمَّ وُجُودَانِ، بَلِ الْمَوْجُودُ وَاحِدٌ، وَحَقِيقَةُ الْفَنَاءِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَفْنَى عَمَّا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلْ هُوَ وَهْمٌ وَخَيَالٌ، فَيَفْنَى عَمَّا هُوَ فَانٍ فِي نَفْسِهِ، لَا وُجُودَ لَهُ، فَيَشْهَدُ فَنَاءَ وُجُودِ كُلِّ مَا سِوَاهُ فِي وُجُودِهِ، وَهَذَا تَعْبِيرٌ مَحْضٌ، وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ عِنْدَ الْقَوْمِ " سِوَى " وَلَا " غَيْرُ " وَإِنَّمَا السِّوَى وَالْغَيْرُ فِي الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ، فَحَوْلَ هَذَا الْفَنَاءِ يُدَنْدِنُونَ وَعَلَيْهِ يَحُومُونَ. وَأَمَّا أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِقَامَةِ: فَيُشِيرُونَ بِالْفَنَاءِ إِلَى أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَرْفَعُ مِنَ الْآخَرِ.

الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: الْفَنَاءُ فِي شُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ، فَيَشْهَدُ تَفَرُّدَ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْقَيُّومِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ مُنْفَعِلَةٌ لَا فَاعِلَةٌ، وَمَا لَهُ مِنْهَا فِعْلٌ فَهُوَ مُنْفَعِلٌ فِي فِعْلِهِ، مَحَلُّ مَحْضٍ لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَيْهِ، لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ بِهَذَا الْمَشْهَدِ؛ خَمَدَتْ مِنْهُ الْخَوَاطِرُ وَالْإِرَادَاتُ، نَظَرًا إِلَى الْقَيُّومِ الَّذِي بِيَدِهِ تَدْبِيرُ الْأُمُورِ، وَشَخُوصًا مِنْهُ إِلَى مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَهُوَ نَاظِرٌ مِنْهُ بِهِ إِلَيْهِ، فَانٍ بِشُهُودِهِ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَاهُ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ سَاعٍ فِي طَلَبِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، قَائِمًا بِالْوَاجِبَاتِ وَالنَّوَافِلِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: الْفَنَاءُ فِي مَشْهَدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَحَقِيقَتُهُ " الْفَنَاءُ " عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، فَيَفْنَى بِحُبِّهِ عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ، وَبِخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ عَنْ خَوْفِ مَا سِوَاهُ وَرَجَائِهِ، وَحَقِيقَةُ هَذَا الْفَنَاءِ إِفْرَادُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْمَحَبَّةِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى مَبَادِئِ ذَلِكَ وَتَوَسُّطِهِ وَغَايَتِهِ، فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَلْبَ إِذَا خَلَا مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالدُّنْيَا وَالتَّعَلُّقِ بِمَا فِيهَا مِنْ مَالٍ، أَوْ رِيَاسَةٍ أَوْ صُورَةٍ، وَتَعَلَّقَ بِالْآخِرَةِ، وَالِاهْتِمَامِ بِهَا مِنْ تَحْصِيلِ الْعُدَّةِ، وَالتَّأَهُّبِ لِلْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَذَلِكَ أَوَّلُ فُتُوحِهِ، وَتَبَاشِيرُ فَجْرِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَحَرَّكُ قَلْبُهُ لِمَعْرِفَةِ مَا يَرْضَى بِهِ رَبُّهُ مِنْهُ، فَيَفْعَلُهُ وَيَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ، وَمَا يُسْخِطُهُ مِنْهُ، فَيَجْتَنِبُهُ، وَهَذَا عُنْوَانُ صِدْقِ إِرَادَتِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ أَيْقَنَ بِلِقَاءِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ سَائِلُهُ عَنْ كَلِمَتَيْنِ - يُسْأَلُ عَنْهُمُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ - مَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ وَمَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟ لَابُدَّ أَنْ يَتَنَبَّهَ لِطَلَبِ مَعْرِفَةِ مَعْبُودِهِ، وَالطَّرِيقِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهِ، فَإِذَا تَمَكَّنَ فِي ذَلِكَ فَتَحَ لَهُ بَابَ الْأُنْسِ بِالْخَلْوَةِ وَالْوَحْدَةِ وَالْأَمَاكِنِ الْخَالِيَةِ الَّتِي تَهْدَأُ فِيهَا الْأَصْوَاتُ وَالْحَرَكَاتُ، فَلَا شَيْءَ أَشْوَقُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَجْمَعُ عَلَيْهِ قُوَى قَلْبِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَتَسُدُّ عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ الَّتِي تُفَرِّقُ هَمَّهُ وَتَشِتُّ قَلْبَهُ، فَيَأْنَسُ بِهَا وَيَسْتَوْحِشُ مِنَ الْخَلْقِ. ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ حَلَاوَةِ الْعِبَادَةِ بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَشْبَعُ مِنْهَا، وَيَجِدُ فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ وَالرَّاحَةِ أَضْعَافَ مَا كَانَ يَجِدُهُ فِي لَذَّةِ اللَّهْوِ، وَاللَّعِبِ، وَنَيْلِ الشَّهَوَاتِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَدَّ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهَا، ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ حَلَاوَةِ اسْتِمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ فَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعَهُ هَدَأَ قَلْبُهُ بِهِ كَمَا يَهْدَأُ الصَّبِيُّ إِذَا أُعْطِيَ مَا هُوَ شَدِيدُ الْمَحَبَّةِ لَهُ، ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ شُهُودِ عَظَمَةِ اللَّهِ الْمُتَكَلَّمِ بِهِ وَجَلَالِهِ، وَكَمَالِ نُعُوتِهِ وَصِفَاتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمَعَانِي خِطَابِهِ، بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَغِيبَ فِيهِ، وَيُحِسُّ بِقَلْبِهِ وَقَدْ دَخَلَ

فِي عَالَمٍ آخَرَ غَيْرِ مَا النَّاسُ فِيهِ. ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ شَوَاهِدِ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي الْقَلْبِ، يُرِيهِ ذَلِكَ النُّورُ أَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَسْتَحِي مِنْهُ فِي خَلَوَاتِهِ، وَجَلَوَاتِهِ، وَيُرْزَقُ عِنْدَ ذَلِكَ دَوَامَ الْمُرَاقَبَةِ لِلرَّقِيبِ، وَدَوَامَ التَّطَلُّعِ إِلَى حَضْرَةِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى، حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ وَيُشَاهِدُهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، نَاظِرًا إِلَى خَلْقِهِ، سَامِعًا لِأَصْوَاتِهِمْ، مُشَاهِدًا لِبَوَاطِنِهِمْ، فَإِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ هَذَا الشَّاهِدُ غَطَّى عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الْهُمُومِ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَهُوَ فِي وُجُودٍ وَالنَّاسُ فِي وُجُودٍ آخَرَ، هُوَ فِي وُجُودٍ بَيْنِ يَدَيْ رَبِّهِ وَوَلِيِّهِ، نَاظِرًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ، وَالنَّاسُ فِي حِجَابِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ يَرَاهُمْ وَهُمْ لَا يَرَوْنَهُ، وَلَا يَرَوْنَ مِنْهُ إِلَّا مَا يُنَاسِبُ عَالَمَهُمْ وَوُجُودَهُمْ. ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ الشُّعُورِ بِمَشْهَدِ الْقَيُّومِيَّةِ، فَيَرَى سَائِرَ التَّقَلُّبَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَتَصَارِيفَ الْوُجُودِ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، فَيَشْهَدُهُ مَالِكَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، فَيَتَّخِذُهُ وَحْدَهُ وَكِيلًا، وَيَرْضَى بِهِ رَبًّا وَمُدَبِّرًا وَكَافِيًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ دَلَّهُ عَلَى خَالِقِهِ وَبَارِئِهِ، وَصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، فَلَا يَحْجُبُهُ خَلْقُهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ، بَلْ يُنَادِيهِ كُلٌّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ بِلِسَانِ حَالِهِ: اسْمَعْ شَهَادَتِي لِمَنْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَأَنَا صُنْعُ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ. فَإِذَا اسْتَمَرَّ لَهُ ذَلِكَ فَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، فَيَقْبِضُ عَلَيْهِ حَتَّى يَجِدَ أَلَمَ الْقَبْضِ لِقُوَّةِ وَارِدِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُ وِعَاءَهُ بِأَنْوَارِ الْوُجُودِ، فَيَفْنَى عَنْ وُجُودِهِ، وَيَنْمَحِي كَمَا يَمْحُو نُورُ الشَّمْسِ نُورَ الْكَوَاكِبِ، وَيَطْوِي الْكَوْنَ عَنْ قَلْبِهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، وَتَفِيضُ أَنْوَارُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمُعَامَلَةِ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْمَحَبَّةِ مِنْ قَلْبِهِ، كَمَا يَفِيضُ نُورُ الشَّمْسِ عَنْ جِرْمِهَا، فَيَغْرَقُ حِينَئِذٍ فِي الْأَنْوَارِ كَمَا يَغْرَقُ رَاكِبُ الْبَحْرِ فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الرِّيَاضَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ، وَزَوَالِ أَحْكَامِ الطَّبِيعَةِ، وَطُولِ الْوُقُوفِ فِي الْبَابِ. وَهَذَا هُوَ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ، لَا مِنْ عَيْنِ الْيَقِينِ، وَلَا مِنْ حَقِّ الْيَقِينِ، إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِمَا فِي الدَّارِ، فَإِنَّ عَيْنَ الْيَقِينِ مُشَاهَدَةٌ، وَحَقَّ الْيَقِينِ مُبَاشَرَةٌ، نَعَمْ قَدْ يَكُونُ حَقُّ الْيَقِينِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ، وَمَا يَقُومُ بِالْقُلُوبِ فَقَطْ، لَيْسَ إِلَّا، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مِرَارًا، وَنَحْنُ لَا تَأْخُذُنَا فِي ذَلِكَ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَهُمْ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي كَوْنِ ذَلِكَ فِي الْعِيَانِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَهُمْ عِنْدَنَا صَادِقُونَ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِمْ، وَنَحْنُ عِنْدَهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنْ ذَلِكَ غَيْرُ وَاصِلِينَ إِلَيْهِ.

فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ وَاقِفًا بِبَابِ مَوْلَاهُ، لَا يَلْتَفِتُ عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَلَا يُجِيبُ غَيْرَ مَنْ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ وَرَاءَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ، وَمَتَى تَوَهَّمَ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ انْقَطَعَ عَنْهُ الْمَزِيدُ - رُجِيَ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ فَتْحٌ آخَرُ، هُوَ فَوْقَ مَا كَانَ فِيهِ، مُسْتَغْرِقًا قَلْبُهُ فِي أَنْوَارِ مُشَاهَدَةِ الْجَلَالِ بَعْدَ ظُهُورِ أَنْوَارِ الْوُجُودِ الْحَقِّ، وَمَحْوِ وُجُودِهِ هُوَ، وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّ وُجُودَ صِفَاتِهِ وَذَاتِهِ تَبْطُلُ، بَلِ الَّذِي يَبْطُلُ هُوَ وُجُودُهُ النَّفْسَانِيُّ الطَّبْعِيُّ، وَيَبْقَى لَهُ وُجُودٌ قَلْبِيٌّ رُوحَانِيٌّ مَلَكِيٌّ، فَيَبْقَى قَلْبُهُ سَابِحًا فِي بَحْرٍ مِنْ أَنْوَارِ آثَارِ الْجَلَالِ، فَتَنْبُعُ الْأَنْوَارُ مِنْ بَاطِنِهِ، كَمَا يَنْبُعُ الْمَاءُ مِنَ الْعَيْنِ، حَتَّى يَجِدَ الْمَلَكُوتَ الْأَعْلَى كَأَنَّهُ فِي بَاطِنِهِ وَقَلْبِهِ، وَيَجِدُ قَلْبَهُ عَالِيًا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، صَاعِدًا إِلَى مَنْ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ يُرَقِّيهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَيُشْهِدُهُ أَنْوَارَ الْإِكْرَامِ بَعْدَ مَا شَهِدَ أَنْوَارَ الْجَلَالِ، فَيَسْتَغْرِقُ فِي نُورٍ مِنْ أَنْوَارِ أَشِعَّةِ الْجَمَالِ، وَفِي هَذَا الْمَشْهَدِ يَذُوقُ الْمَحَبَّةَ الْخَاصَّةَ الْمُلْهِبَةَ لِلْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ، فَيَبْقَى الْقَلْبُ مَأْسُورًا فِي يَدِ حَبِيبِهِ وَوَلِيِّهِ، مَمْتَحَنًا بِحُبِّهِ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَفْهَمَ ذَلِكَ تَقْرِيبًا، فَانْظُرْ إِلَيْكَ وَإِلَى غَيْرِكَ - وَقَدِ امْتُحِنْتَ بِصُورَةٍ بَدِيعَةِ الْجَمَالِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا - فَمَلَكَتْ عَلَيْكَ قَلْبَكَ وَفِكْرَكَ، وَلَيْلَكَ وَنَهَارَكَ، فَيَحْصُلُ لَكَ نَارٌ مِنَ الْمَحَبَّةِ، فَتُضْرَمُ فِي أَحْشَائِكَ يَعِزُّ مَعَهَا الِاصْطِبَارُ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. فَيَا لَهُ مِنْ قَلْبٍ مُمْتَحَنٍ مَغْمُورٍ مُسْتَغْرِقٌ بِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ أَشِعَّةِ أَنْوَارِ الْجَمَالِ الْأَحَدِىِّ، وَالنَّاسُ مَفْتُونُونَ مُمْتَحَنُونَ بِمَا يَفْنَى مِنَ الْمَالِ وَالصُّوَرِ وَالرِّيَاسَةِ، مُعَذَّبُونَ بِذَلِكَ قَبْلَ حُصُولِهِ، وَحَالَ حُصُولِهِ، وَبَعْدَ حُصُولِهِ، وَأَعْلَاهُمْ مَرْتَبَةً مَنْ يَكُونُ مَفْتُونًا بِالْحُورِ الْعِيْنِ، أَوْ عَامِلًا عَلَى تَمَتُّعِهِ فِي الْجَنَّةِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ، وَهَذَا الْمُحِبُّ قَدْ تَرَقَّى فِي دَرَجَاتِ الْمَحَبَّةِ عَلَى أَهْلِ الْمَقَامَاتِ، يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فِي الْجَنَّةِ كَمَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ الْغَابِرِ فِي الْأُفُقِ لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ وَقُرْبِ مَنْزِلَتِهِ مِنْ حَبِيبِهِ، وَمَعِيَّتِهِ مَعَهُ، فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ وَلِكُلِّ عَمَلٍ جَزَاءٌ، وَجَزَاءُ الْمَحَبَّةِ الْمَحَبَّةُ وَالْوُصُولُ وَالِاصْطِنَاعُ وَالْقُرْبُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَرَفًا وَفَخْرًا فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَقَامَاتِهِمُ الْعَالِيَةِ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ؟ فَكَيْفَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ أَسْمَعَهُمُ الْمُنَادِي " لِيَنْطَلِقْ كُلُّ قَوْمٍ مَعَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ " فَيَبْقَوْنَ فِي مَكَانِهِمْ يَنْتَظِرُونَ مَعْبُودَهُمْ وَحَبِيبَهُمُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَتَجَلَّى لَهُمْ ضَاحِكًا. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ لَا يَزَالُ اللَّهُ يُرَقِّيهِ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ، وَمَنْزِلًا بَعْدَ مَنْزِلٍ، إِلَى أَنْ يُوصِلَهُ إِلَيْهِ، وَيُمَكِّنَ لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ يَمُوتَ فِي الطَّرِيقِ، فَيَقَعُ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، فَالسَّعِيدُ كُلُّ السَّعِيدِ، وَالْمُوَفَّقُ كُلُّ الْمُوَفَّقِ مَنْ لَمْ يَلْتَفِتْ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَمِينًا

وَلَا شَمَالًا، وَلَا اتَّخَذَ سِوَاهُ رَبًّا وَلَا وَكِيلًا، وَلَا حَبِيبًا وَلَا مُدَبِّرًا، وَلَا حَكَمًا وَلَا نَاصِرًا وَلَا رَازِقًا. وَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَرَاتِبِ الْوُصُولِ إِنَّمَا هِيَ شَوَاهِدُ وَأَمْثِلَةٌ إِذَا تَجَلَّتْ لَهُ الْحَقَائِقُ فِي الْغَيْبِ - بِحَسْبِ اسْتِعْدَادِهِ وَلُطْفِهِ وَرِقَّتِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهَا - ظَهَرَ مِنْ تَجَلِّيهَا شَاهِدٌ فِي قَلْبِهِ، وَذَلِكَ الشَّاهِدُ دَالٌّ عَلَيْهَا لَيْسَ هُوَ عَيْنَهَا، فَإِنَّ نُورَ الْجَلَالِ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ هُوَ نُورَ ذِي الْجَلَالِ فِي الْخَارِجِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا تَقُومُ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَلَوْ ظَهَرَ لِلْوُجُودِ لَتَدَكْدَكَ، لَكِنَّهُ شَاهِدٌ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْمَثَلَ الْأَعْلَى شَاهِدٌ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ، وَالْحَقُّ وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ، مُنَزَّهٌ عَنْ حُلُولٍ وَاتِّحَادٍ، وَمُمَازَجَةٍ لِخَلْقِهِ، وَإِنَّمَا تِلْكَ رَقَائِقُ وَشَوَاهِدُ تَقُومُ بِقَلْبِ الْعَارِفِ، تَدُلُّ عَلَى قُرْبِ الْأَلْطَافِ مِنْهُ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ حَيْثُ يَرَاهَا، وَإِذَا فَنِيَ فَإِنَّمَا يَفْنَى بِحَالِ نَفْسِهِ لَا بِاللَّهِ وَلَا فِيهِ، وَإِذَا بَقِيَ فَإِنَّمَا يَبْقَى بِحَالِهِ هُوَ وَوَصْفِهِ، لَا بِبَقَاءِ رَبِّهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا يَبْقَى بِاللَّهِ إِلَّا اللَّهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْوُصُولُ حَقٌّ، يَجِدُ الْوَاصِلُ آثَارَ تَجَلِّي الصِّفَاتِ فِي قَلْبِهِ، وَآثَارَ تَجَلِّي الْحَقِّ فِي قَلْبِهِ، وَيُوقِفُ الْقَلْبَ فَوْقَ الْأَكْوَانِ كُلِّهَا بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَمِنْ هُنَاكَ يُكَاشَفُ بِآثَارِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَيَجِدُ الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ تَحْتَ مَشْهَدِ قَلْبِهِ حُكْمًا، وَلَيْسَ الَّذِي يَجِدُهُ تَحْتَ قَلْبِهِ حَقِيقَةً الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ، بَلْ شَاهِدٌ وَمِثَالٌ عِلْمِيٌّ، يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ قَلْبِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَقُرْبِ رَبِّهِ مِنْ قَلْبِهِ، وَبَيْنَ الذَّوْقَيْنِ تَفَاوُتٌ، فَإِذَا قَرُبَ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْ قَلْبِ عَبْدِهِ بَقِيَتِ الْأَكْوَانُ كُلُّهَا تَحْتَ مَشْهَدِ قَلْبِهِ، وَحِينَئِذٍ يَطْلُعُ فِي أُفُقِهِ شَمْسُ التَّوْحِيدِ، فَيَنْقَشِعُ بِهَا ضَبَابُ وُجُودِهِ وَيَضْمَحِلُّ وَيَتَلَاشَى، وَذَاتُهُ وَحَقِيقَتُهُ مَوْجُودَةٌ بَائِنَةٌ عَنْ رَبِّهِ، وَرَبُّهُ بَائِنٌ عَنْهُ، فَحِينَئِذٍ يَغِيبُ الْعَبْدُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَفْنَى، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ بَاقٍ، غَيْرُ فَانٍ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي سِرِّهِ غَيْرُ اللَّهِ، قَدْ فَنِيَ فِيهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. نَعَمْ قَدْ يَتَّفِقُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ لَا يَجِدَ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ فَذَلِكَ لِاسْتِغْرَاقِ قَلْبِهِ فِي مَشْهُودِهِ وَمَوْجُودِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لَكَانَ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَالِ خَالِقًا بَارِئًا مُصَوِّرًا أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا. فَعَلَيْكَ بِهَذَا الْفُرْقَانِ، وَاحْذَرْ فَرِيقَيْنِ هُمَا أَعْدَى عَدُوٍّ لِهَذَا الشَّأْنِ: فَرِيقَ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلَةِ، الَّتِي لَيْسَ عِنْدَهَا فَوْقَ الْعَرْشِ إِلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ، فَشَمُّ رَائِحَةِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَمْكِنَةِ حَرَامٌ عَلَيْهَا، وَفَرِيقَ أَهْلِ الِاتِّحَادِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَأَنَّ الْعَبْدَ يَنْتَهِي فِي هَذَا السَّفَرِ إِلَى أَنْ يَشْهَدَ وُجُودَهُ هُوَ عَيْنَ وُجُودِ الْحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَعَيْشُكَ بِجَهْلِكَ خَيْرٌ مِنْ مَعْرِفَةِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَانْقِطَاعُكَ مَعَ الشَّهَوَاتِ خَيْرُكَ مَعَهُمَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

فصل البقاء

[فَصْلٌ الْبَقَاءُ] [حَدُّ الْبَقَاءِ] قَالَ الشَّيْخُ: (بَابُ الْبَقَاءِ) قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73] . الْبَقَاءُ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ: هُوَ صِفَةُ الْعَبْدِ وَمَقَامُهُ، وَالْبَقَاءُ فِي الْآيَةِ: هُوَ بَقَاءُ الرَّبِّ، وَدَوَامُ وَجُودِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُؤْمِنُو السَّحَرَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ؛ لِأَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ فِرْعَوْنَ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِإِتْلَافِ حَيَاتِهِمْ، وَإِفْنَاءِ ذَوَاتِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: وَإِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ، فَالَّذِي آمَنَّا بِهِ وَانْتَقَلْنَا مِنْ عُبُودِيَّتِكَ إِلَى عُبُودِيَّتِهِ، وَمِنْ طَلَبِ رِضَاكَ وَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَكَ إِلَى طَلَبِ رِضَاهُ وَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ - خَيْرٌ مِنْكَ وَأَدْوَمُ، وَعَذَابُكَ وَنَعِيمُكَ يَنْقَطِعُ وَيَفْرَغُ، وَعَذَابُهُ هُوَ وَنَعِيمُهُ وَكَرَامَتُهُ لَا تَنْقَطِعُ وَلَا تَبِيدُ، فَكَيْفَ نُؤْثِرُ الْمُنْقَطِعَ الْفَانِيَ الْأَدْنَى، عَلَى الْبَاقِي الْمُسْتَمِرِّ الْأَعْلَى؟ وَلَكِنْ وَجْهُ الْإِشَارَةِ بِالْآيَةِ أَنَّ الْوَسَائِلَ وَالتَّعَلُّقَاتِ وَالْمَحَبَّةَ وَالْإِرَادَةَ تَابِعَةٌ لِغَايَاتِهَا وَمَحْبُوبِهَا وَمُرَادِهَا، فَمَنْ كَانَتْ غَايَةُ مَحَبَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ مُنْقَطِعَةً انْقَطَعَ تَعَلُّقُهُ عِنْدَ انْقِطَاعِهَا، وَذَهَبَ عَمَلُهُ وَسَعْيُهُ وَاضْمَحَلَّ، وَمَنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ وَغَايَتُهُ بَاقِيًا دَائِمًا لَا زَوَالَ لَهُ وَلَا فَنَاءَ، وَلَا يَضْمَحِلُّ وَلَا يَتَلَاشَى دَامَ تَعَلُّقُهُ وَنَعِيمُهُ بِهِ بِدَوَامِهِ، فَالْوَسَائِلُ تَابِعَةٌ لِلْغَايَاتِ، وَالتَّعَلُّقَاتُ تَابِعَةٌ لِمُتَعَلِّقَاتِهَا، وَالْمَحَبَّةُ تَابِعَةٌ لِلْمَحْبُوبِ، فَلَيْسَ الْمَحْبُوبُ الَّذِي يَتَلَاشَى وَيَضْمَحِلُّ وَيَفْنَى كَالْمَحْبُوبِ الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فَالْمُحِبُّ بَاقٍ بِبَقَاءِ مَحْبُوبِهِ، يَشْرُفُ بِشَرَفِهِ، وَيَعْظُمُ خَطَرُهُ بِحَسَبِ مَحْبُوبِهِ، وَيَسْتَغْنِي بِغِنَاهُ، وَيَقْوَى بِقُوَّتِهِ، وَيَعِزُّ بِعِزِّهِ، وَيَعْظُمُ شَأْنُهُ فِي النُّفُوسِ بِخِدْمَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، تَاللَّهِ لَوْلَا حِجَابُ الْغَفْلَةِ وَالْعَوَائِدُ وَالْهَوَى وَالْمُخَالَفَاتُ لَذَاقَ الْقَلْبُ أَعْظَمَ الْأَلَمِ بِتَعَلُّقِهِ بِغَيْرِ الْحَبِيبِ الْأَوَّلِ، وَلَذَاقَ أَعْظَمَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ بِتَعَلُّقِهِ بِهِ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَصْلٌ قَالَ الشَّيْخُ: " الْبَقَاءُ: اسْمٌ لِمَا بَقِيَ بَعْدَ فَنَاءِ الشَّوَاهِدِ وَسُقُوطِهَا ". لَهُ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ تَسَامُحٌ، وَأَرْبَابُ هَذَا الشَّأْنِ هَمُّهُمُ الْمَعَانِي، فَهُمْ يُسَامِحُونَ

درجات البقاء

فِي الْعِبَارَاتِ مَا لَا يُسَامَحُ فِيهِ غَيْرُهُمْ. فَالْبَقَاءُ: هُوَ الدَّوَامُ وَاسْتِمْرَارُ الْوُجُودِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: مُقَيَّدٌ وَمُطْلَقٌ، فَالْمُقَيَّدُ: الْبَقَاءُ إِلَى مُدَّةٍ، وَالْمُطْلَقُ: الدَّائِمُ الْمُسْتَمِرُّ لَا إِلَى غَايَةٍ. وَ " الْبَقَاءُ " أَوْضَحُ مِنْ هَذَا الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مُرَادُهُ " الْبَقَاءَ " الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْعَبْدِ وَمَقَامُهُ، قَالَ: " هُوَ اسْمٌ لِمَا بَقِيَ بَعْدَ فَنَاءِ الشَّوَاهِدِ "، وَهَذَا عَامٌّ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ مَا بَقِيَ الْعَبْدُ مُتَّصِفًا بِهِ بَعْدَ فَنَاءِ الْأَدِلَّةِ وَالْآثَارِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَ " الشَّوَاهِدُ " عِنْدَهُ هِيَ الرُّسُومُ كُلُّهَا، وَرُبَّمَا يُرَادُ بِهَا مَعَالِمُ الشُّهُودِ، وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا جُعِلَتِ الشَّوَاهِدُ هَاهُنَا مَعَالِمَ الشُّهُودِ، كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَعَالِمَ تُوصِلُ إِلَى الشُّهُودِ، وَيَبْقَى الشُّهُودُ قَائِمًا بَعْدَ فَنَاءِ مَعَالِمِهِ. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ يُفْنِيهِمْ عَمَّا سِوَاهُ وَيُبْقِيهِمْ بِهِ، وَمَا سِوَاهُ هُوَ الْمَعَالِمُ وَالرُّسُومُ. [دَرَجَاتُ الْبَقَاءِ] قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: بَقَاءُ الْمَعْلُومِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِلْمِ عَيْنًا لَا عِلْمًا، وَبَقَاءُ الْمَشْهُودِ بَعْدَ سُقُوطِ الشُّهُودِ وُجُودًا لَا نَعْتًا، وَبَقَاءُ مَا لَمْ يَزَلْ حَقًّا بِإِسْقَاطِ مَا لَمْ يَكُنْ مَحْوًا. قُلْتُ: أَمَّا بَقَاءُ الْمَعْلُومِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِلْمِ، فَقَدْ يَظْهَرُ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ امْتِنَاعُهُ، إِذْ كَوْنُهُ مَعْلُومًا - مَعَ سُقُوطِ الْعِلْمِ بِهِ - جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَكَأَنَّهُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَإِنَّ الْمَعْلُومَ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا إِلَّا بِالْعِلْمِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْلُومًا مَعَ سُقُوطِهِ؟ وَجَوَابُ هَذَا، أَنَّ هُنَا أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُودُ صُورَةِ الْمَعْلُومِ فِي قَلْبِ الْعَالِمِ، وَإِدْرَاكُهُ لَهَا وَشُعُورُهُ بِهَا. وَالثَّانِي: عِلْمُهُ بِعِلْمِهِ وَشُعُورِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ وَرَاءَ حُضُورِ تِلْكَ الصُّورَةِ، وَهَذَا فِي سَائِرِ الْمَدَارِكِ، فَقَدْ يَرَى الرَّائِي الشَّيْءَ وَيَسْمَعُهُ وَيَشَمُّهُ، وَيَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ وَشُعُورِهِ بِصِفَةِ نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ إِدْرَاكُهُ، فَيَغِيبُ بِمُدْرَكِهِ عَنْ إِدْرَاكِهِ، وَبِمَعْلُومِهِ عَنْ عِلْمِهِ وَبِمَرْئِيهِ عَنْ رُؤْيَتِهِ، فَإِنْ قُلْتَ: أَوْضِحْ لِي هَذَا لِيَنْجَلِيَ فَهْمُهُ. فَاعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا قُوَّةً مُدْرِكَةً لَهُ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ صَارَ مَعْلُومًا مُدْرَكًا، فَتَوَلَّدَ مِنْ بَيْنِ

هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حَالَةٌ ثَالِثَةٌ، تُسَمَّى " الشُّعُورَ " وَ " الْعِلْمَ " وَ " الْإِدْرَاكَ ". مِثَالُ ذَلِكَ: مَا يُدْرِكُهُ بِحَاسَّةِ الذَّوْقِ وَالشَّمِّ، فَإِنَّهُ لَابُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُدْرَكِ الْمَذُوقِ الْمَشْمُومِ، وَلَابُدَّ مِنْ قُوَّةٍ فِي الْآلَةِ وَالْمَحَلِّ الْمَخْصُوصِ، تُقَابِلُ الْمُدْرَكَ، وَتَتَعَلَّقُ بِهِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَيْفِيَّةُ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَلْمُوسِ وَالْمَسْمُوعِ وَالْمَرْئِيِّ، فَتَمَامُ الْإِدْرَاكِ أَنْ يُحِيطَ عِلْمًا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، فَيَشْعُرُ بِالْمُدْرَكِ، وَبِالْقُوَّةِ الْمُدْرِكَةِ، وَبِحَالَةِ الْإِدْرَاكِ، فَإِذَا اسْتَغْرَقَ الْقَلْبُ فِي شُهُودِهِ الْمَعْلُومَ غَابَ بِهِ عَنْ شُهُودِ الْقُوَّةِ الَّتِي بِهَا يَعْلَمُ، وَعَنْ حَالَةِ الْعِلْمِ، وَمَثَّلَ هَذَا بِرَجُلٍ أَدْرَكَ بِلَمْسِهِ مَا الْتَذَّ بِهِ أَعْظَمَ لَذَّةٍ حَصُلَتْ لَهُ، فَاسْتَغْرَقَتْهُ تِلْكَ اللَّذَّةُ عَمَّا سِوَاهَا، فَأَسْقَطَتْ شُعُورَهُ بِهَا دُونَ وُجُودِهَا، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ " بَقَاءُ الْمَعْلُومِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِلْمِ عَيَانًا لَا عِلْمًا " فَعَيَانًا حَالٌ مِنَ الْبَقَاءِ لَا مِنَ السُّقُوطِ أَيْ بَقَاؤُهُ وُجُودًا لَا نَعْتًا، فَإِنَّهُ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ بَاقٍ نَعْتًا وَوَصْفًا، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بَاقٍ وُجُودًا وَعَيَانًا لَا عِلْمًا مُجَرَّدًا. وَهَذَا وَجْهٌ ثَانٍ فِي كَلَامِهِ أَنَّهُ يَبْقَى وُجُودُهُ وَعَيْنُهُ لَا مُجَرَّدُ الْعِلْمِ بِهِ، فَالْعِلْمُ بِهِ لَمْ يُعْدَمْ، وَلَكِنِ انْتَقَلَ الْعَبْدُ مِنْ وُجُودِ الْعِلْمِ إِلَى وُجُودِ الْمَعْلُومِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ - " وَبَقَاءُ الْمَشْهُودِ بَعْدَ سُقُوطِ الشُّهُودِ وُجُودًا لَا نَعْتًا " الشُّهُودُ فَوْقَ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ عِلْمُ عِيَانٍ، فَيَنْتَقِلُ مِنْ مُجَرَّدِ الشُّهُودِ إِلَى الْوُجُودِ، فَيَبْقَى الْمَشْهُودُ مَوْجُودًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَشْهُودًا، وَمَرْتَبَةُ الْوُجُودِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الشُّهُودِ فَإِنَّ الْوُجُودَ حُصُولٌ ذَاتِيٌّ، وَالشُّهُودُ حُصُولٌ عِلْمِيٌّ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ الْعِلْمِ. قَوْلُهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ: " وَبَقَاءُ مَنْ لَمْ يَزَلْ حَقًّا بِإِسْقَاطِ مَا لَمْ يَكُنْ مَحْوًا "، أَيْ يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ سُلْطَانُ الْحَقِيقَةِ، وَنُورُ الْجَمْعِ، حَتَّى يَنْطَمِسَ مِنْ قَلْبِهِ أَثَرُ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَنْطَمِسُ نُورُ الْكَوَاكِبِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَبْقَى فِيهِ تَعْظِيمُ مَنْ لَمْ يَزَلْ وَذِكْرُهُ وَحُبُّهُ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ. فَالدَّرَجَةُ الْأُولَى: بَقَاءٌ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ، وَالثَّانِيَةُ: بَقَاءٌ فِي مَرْتَبَةِ الشُّهُودِ، وَالثَّالِثَةُ: بَقَاءٌ فِي مَرْتَبَةِ الْوُجُودِ، فَهَذَا وَجْهٌ. وَيُمْكِنُ شَرْحُ كَلَامِهِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّ الْمَعْلُومَ يُسْقِطُ شُهُودَ الْعِلْمِ، فَالْعِلْمُ يَسْقُطُ وَالْمَعْلُومُ يَثْبُتُ، فَالْعَبْدُ إِذَا بَقِيَ بَعْدَ الْفَنَاءِ سَقَطَ عِلْمُهُ فِي مَشْهَدِ عِيَانِهِ بِحَيْثُ تَبْقَى مَرْتَبَةُ الْعِلْمِ عِيَانًا، فَيَسْقُطُ الْعِلْمُ بِالْعِيَانِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ عَيْنًا لَا عِلْمًا، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْعِلْمِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ - وَهِيَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ - سَقَطَ الْعِلْمُ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْفَرْقِ لَمْ يَسْقُطْ، فَسُقُوطُهُ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ، وَثُبُوتُهُ فِي مَقَامِ الْفَرْقِ.

فصل التحقيق

قَوْلُهُ: " وَبَقَاءُ الْمَشْهُودِ بَعْدَ سُقُوطِ الشُّهُودِ وُجُودًا "، يَعْنِي: بَقَاءَ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْمَشْهُودُ بَعْدَ سُقُوطِ الشُّهُودِ الَّذِي هُوَ الْمَخْلُوقُ: كَانَ الْمَشْهُودُ صِفَةَ الْمُشَاهَدِ، وَالْمَشَاهَدُ وَصِفَاتُهُ مَخْلُوقٌ، وَمَشْهُودُهُ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، كَمَا أَنَّ عِلْمَهُ وَذِكْرَهُ وَمَعْرِفَتَهُ مَخْلُوقَةٌ، وَالْمَعْلُومُ الْمَذْكُورُ الْمَعْرُوفُ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَإِذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ قَدْ فَنِيَ، وَصِفَاتُهُ تَابِعَةٌ لَهُ فِي الْفَنَاءِ، فَيَفْنَى شُهُودُهُ وَيَبْقَى مَشْهُودُهُ. قَوْلُهُ " وُجُودًا لَا نَعْتًا " أَيْ سَقَطَ وُجُودُ شُهُودِهِ لَا نَعْتُهُ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ. قَوْلُهُ " وَبَقَاءُ مَا لَمْ يَزَلْ حَقًّا بِإِسْقَاطِ مَا لَمْ يَكُنْ مَحْوًا " يُوَضِّحُ الْمُرَادَ مِنَ الدَّرَجَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلُ، وَمَعْنَاهُ: بَقَاءُ الْحَقِّ، وَفَنَاءُ الْمَخْلُوقِ، وَالْحَقُّ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يَزَلْ بَاقِيًا، فَلَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ الْبَقَاءُ، وَالْفَنَاءُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَخْلُوقِ فَنَاؤُهُمْ فِي شُهُودِ الْمُشَاهَدِ، وَمَحْوِ رُسُومِهِمْ مِنْ قَلْبِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، لَا فَنَاؤُهُمْ فِي الْخَارِجِ. وَحَاصِلُ ذَلِكَ: أَنْ يَفْنَى مِنْ قَلْبِكَ إِرَادَةُ السِّوَى: وَشُهُودُهُ وَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ، وَيَبْقَى فِيهِ إِرَادَةُ الْحَقِّ وَحْدَهُ، وَشُهُودُهُ وَالِالْتِفَاتُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَيْهِ، وَالْإِقْبَالُ بِجَمْعِيَّتِكَ عَلَيْهِ، فَحَوْلَ هَذَا يُدَنْدِنُ الْعَارِفُونَ، وَإِلَيْهِ يُشَمِّرُ السَّالِكُونَ، وَإِنْ وَسَّعُوا لَهُ الْعِبَارَاتِ، وَصَرَفُوا إِلَيْهِ الْقَوْلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ التَّحْقِيقُ] قَالَ: (بَابُ التَّحْقِيقِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] التَّحْقِيقُ: تَلْخِيصُ مَصْحُوبِكَ مِنَ الْحَقِّ، ثُمَّ بِالْحَقِّ، ثُمَّ فِي الْحَقِّ، وَهَذِهِ أَسْمَاءُ دَرَجَاتِهِ الثَّلَاثِ. وَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَبَ الِانْتِقَالَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْعِلْمِ بِإِحْيَاءِ اللَّهِ الْمَوْتَى إِلَى رُؤْيَةِ تَحْقِيقِهِ عِيَانًا، فَطَلَبَ - بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ الذِّهْنِيِّ - تَحْقِيقَ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعِيَانِ مَنْزِلَةٌ أُخْرَى، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» إِذْ قَالَ {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260] وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يَشُكَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَشُكَّ، وَلَكِنْ أَوْقَعَ اسْمَ

" الشَّكِّ " عَلَى الْمَرْتَبَةِ الْعِلْمِيَّةِ بِاعْتِبَارِ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَرْتَبَةِ الْعِيَانِ فِي الْخَارِجِ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ سُمِّيَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ - قَبْلَ مُشَاهَدَةِ مَعْلُومِهِ - ظَنًّا، قَالَ تَعَالَى {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46] وَقَالَ تَعَالَى {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} [البقرة: 249] وَهَذَا الظَّنُّ عِلْمٌ جَازِمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} [البقرة: 223] لَكِنْ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْعِيَانِ فَرْقٌ، وَفِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ» وَلِهَذَا لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنَّهُ قَدْ فُتِنَ قَوْمُهُ، وَأَنَّ السَّامِرِيَّ أَضَلَّهُمْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنَ الْغَضَبِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَإِلْقَاءِ الْأَلْوَاحِ مَا حَصَلَ لَهُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ. إِذَا عَرَفَ هَذَا، فَقَوْلُهُ " التَّحْقِيقُ: تَلْخِيصُ مَصْحُوبِكَ مِنَ الْحَقِّ " هَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ بِتَفْسِيرِهَا يُفْهَمُ مُرَادُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -. أَحَدُهَا: لَفْظُ " التَّحْقِيقِ " وَهُوَ تَفْعِيلٌ مِنْ حَقَّقَ الشَّيْءَ تَحْقِيقًا، فَهُوَ مَصْدَرٌ فِعْلُهُ

حَقَّقَ الشَّيْءَ، أَيْ أَثْبَتَهُ وَخَلَّصَهُ مِنْ غَيْرِهِ. الثَّانِيَةُ: لَفْظُ " التَّلْخِيصِ " وَمَعْنَاهُ: تَخْلِيصُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ، فَخَلَّصَهُ وَلَخَّصَهُ يَشْتَرِكَانِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِنْ كَانَ " التَّلْخِيصُ " أَغْلَبَ مَا فِي الذِّهْنِ وَالتَّخْلِيصُ أَغْلَبَ عَلَى مَا فِي الْخَارِجِ، فَالتَّلْخِيصُ: تَلْخِيصُ الشَّيْءِ فِي الذِّهْنِ، بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَالتَّخْلِيصُ: إِفْرَادُهُ فِي الْخَارِجِ عَنْ غَيْرِهِ. الثَّالِثُ: " الْمَصْحُوبُ " وَهُوَ مَا يَصْحَبُ الْإِنْسَانَ فِي قَصْدِهِ وَمَعْرِفَتِهِ مِنْ مَعْلُومٍ وَمُرَادٍ. الرَّابِعُ: " الْحَقُّ " وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَمَا كَانَ مُوصِلًا إِلَيْهِ، مُدْنِيًا لِلْعَبْدِ مِنْ رِضَاهُ. إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَمَصْحُوبُ الْعَبْدِ مِنَ الْحَقِّ هُوَ مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ، وَإِرَادَةُ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَمَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي سُلُوكِهِ فَ " التَّحْقِيقُ " هُوَ تَخْلِيصُهُ مِنَ الْمُفْسِدَاتِ الْقَاطِعَةِ عَنْهُ، الْحَائِلَةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ الْمُوصِلِ إِلَيْهِ، وَتَحْصِينُهُ مِنَ الْمُخَالَطَاتِ، وَتَخْلِيصُهُ مِنَ الْمُشَوِّشَاتِ، فَإِنَّ تِلْكَ قَوَاطِعُ لَهُ عَنْ مَصْحُوبِهِ الْحَقِّ، وَهِيَ نَوْعَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: عَوَارِضُ مَحْبُوبَةٌ، وَعَوَارِضُ مَكْرُوهَةٌ. فَصَاحِبُ مَقَامِ التَّحْقِيقِ لَا يَقِفُ مَعَ الْعَوَارِضِ الْمَحْبُوبَةِ، فَإِنَّهَا تَقْطَعُهُ عَنْ مَصْحُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ، وَلَا مَعَ الْعَوَارِضِ الْمَكْرُوهَةِ، فَإِنَّهَا قَوَاطِعُ أَيْضًا، وَيَتَغَافَلُ عَنْهَا مَا أَمْكَنَهُ، فَإِنَّهَا تَمُرُّ بِالْمُكَاثَرَةِ وَالتَّغَافُلِ مَرًّا سَرِيعًا، لَا يُوَسِّعُ دَوَائِرَهَا، فَإِنَّهُ كُلَمَّا وَسَّعَهَا اتَّسَعَتْ، وَوَجَدَتْ مَجَالًا فَسِيحًا، فَصَالَتْ فِيهِ وَجَالَتْ، وَلَوْ ضَيَّقَهَا - بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَالتَّغَافُلِ - لَاضْمَحَلَّتْ وَتَلَاشَتْ، فَصَاحِبُ مَقَامِ التَّحْقِيقِ يَنْسَاهَا وَيَطْمِسُ آثَارَهَا، وَيَعْلَمُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِحُكْمِ الْمَقَادِيرِ فِي دَارِ الْمِحَنِ وَالْآفَاتِ. قَالَ لِي شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَرَّةً: الْعَوَارِضُ وَالْمِحَنُ هِيَ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْهُمَا لَمْ يَغْضَبْ لِوُرُودِهِمَا، وَلَمْ يَغْتَمَّ لِذَلِكَ وَلَمْ يَحْزَنْ. فَإِذَا صَبَرَ الْعَبْدُ عَلَى هَذِهِ الْعَوَارِضِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ بِهَا؛ رَجَا لَهُ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَقَامِ التَّحْقِيقِ، فَيَبْقَى مَعَ مَصْحُوبِهِ الْحَقِّ وَحْدَهُ، فَتَهَذَّبُ نَفْسُهُ، وَتَطْمَئِنُّ مَعَ اللَّهِ، وَتَنْفَطِمُ عَنْ عَوَائِدِ السُّوءِ، حَتَّى تَغْمُرَ مَحَبَّةُ اللَّهِ قَلْبَهُ وَرُوحَهُ، وَتَعُودُ جَوَارِحُهُ مُتَابِعَةً لِلْأَوَامِرِ، فَيُحِسُّ قَلْبُهُ حِينَئِذٍ بِأَنَّ مَعِيَّةَ اللَّهِ مَعَهُ وَتَوَلِّيهِ لَهُ، فَيَبْقَى فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ بِاللَّهِ لَا بِنَفْسِهِ، وَتَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ التَّعْرِيفَاتُ الْإِلَهِيَّةُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي مَنْزِلِ الْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ،

وَالظَّفَرِ بِالْمَحَبَّةِ الْخَاصَّةِ، وَيَشْهَدُ الْإِلَهِيَّةَ وَالْقَيُّومِيَّةَ وَالْفَرْدَانِيَّةَ، فَإِنَّ عَلَى هَذِهِ الْمَشَاهِدِ الثَّلَاثَةِ مَدَارُ الْمَعْرِفَةِ وَالْوُصُولِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ صَاحِبَ مَقَامِ " التَّحْقِيقِ " يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاطِلِ، فَيُمْسِكُ بِالْحَقِّ، وَيُلْغِي الْبَاطِلَ، فَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِهِ، بَلْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؛ فَيَبْرَأُ حِينَئِذٍ مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ بِالْحَقِّ، ثُمَّ يَتَمَكَّنُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَيَرْسَخُ فِيهِ قَلْبُهُ، فَيَصِيرُ تَحْقِيقُهُ بِاللَّهِ وَفِي اللَّهِ. فَفِي الْأَوَّلِ: يَخْلُصُ لَهُ مَطْلُوبُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَتَجَرَّدُ لَهُ مِنْ سِوَاهُ. وَفِي الثَّانِي: يَخْلُصُ لَهُ إِضَافَتُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ سِوَاهُ سُبْحَانَهُ. وَفِي الثَّالِثِ: تَجَرَّدَ لَهُ شُهُودُهُ وَقُصُورُهُ، بِحَيْثُ صَارَتْ فِي مَطْلُوبِهِ. فَالْأَوَّلُ: سَفَرٌ إِلَى اللَّهِ، وَالثَّانِي: سَفَرٌ بِاللَّهِ، وَالثَّالِثُ: سَفَرٌ فِي اللَّهِ. وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ مَعْنَى السَّفَرِ فِيهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّفَرِ إِلَيْهِ فَفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ الْعَابِدِ الزَّاهِدِ السَّائِرِ إِلَى اللَّهِ، الَّذِي لَمْ يُفْتَحْ لَهُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْمَعْرِفَةِ الْخَاصَّةِ، وَبَيْنَ حَالِ الْعَارِفِ الَّذِي قَدْ كُشِفَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْفِقْهِ فِيهَا مَا حُجِبَ عَنْ غَيْرِهِ. قَوْلُهُ: " أَمَّا الدَّرَجَةُ الْأُولَى - وَهِيَ تَخْلِيصُ مَصْحُوبِكَ مِنَ الْحَقِّ -: فَأَنْ لَا يُخَالِجَ عِلْمُكَ عِلْمَهُ " يَعْنِي: أَنَّكَ كُنْتَ تَنْسُبُ الْعِلْمَ إِلَى نَفْسِكَ قَبْلَ وُصُولِكَ إِلَى مَقَامِ التَّحْقِيقِ فَفِي حَالَةِ التَّحْقِيقِ تَعُودُ نِسْبَتُهُ إِلَى مُعَلِّمِهِ وَمُعْطِيهِ الْحَقِّ، وَلَعَلَّ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، إِذْ جَمَعَهُمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَالَ {مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109] قِيلَ: قَالُوهُ تَأَدُبًا مَعَهُ سُبْحَانَهُ، إِذْ رَدُّوا الْعِلْمَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا عِلْمَ لَنَا بِحَقِيقَةِ الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا أَجَابَنَا مَنْ أَجَابَنَا ظَاهِرًا، وَالْبَاطِنُ غَيْبٌ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. وَالتَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ عُلُومَهُمْ تَلَاشَتْ فِي عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَاضْمَحَلَّتْ، فَصَارَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَلَا عِلْمٍ، فَرَدُّوا الْعِلْمَ كُلَّهُ إِلَى وَلِيِّهِ وَأَهْلِهِ، وَمَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ، فَعُلُومُهُمْ وَعُلُومُ الْخَلَائِقِ جَمِيعِهِمْ فِي جَنْبِ عِلْمِهِ تَعَالَى كَنَقْرَةِ عُصْفُورٍ فِي بَحْرٍ مِنْ بِحَارِ الْعَالَمِ، وَ " الْمُخَالَجَةُ " الْمُنَازَعَةُ.

قَوْلُهُ: " وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: فَأَنْ لَا يُنَازِعَ شُهُودُكَ شُهُودَهُ، هَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشُّهُودَ الَّذِي كُنْتَ تَنْسُبُهُ إِلَى نَفْسِكَ قَبْلَ الْفَنَاءِ تَصِيرُ بَعْدُ تَنْسُبُهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، لَا إِلَيْكَ. قَوْلُهُ " الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يُنَاسِمَ رَسْمُكَ سَبْقَهُ " الرَّسْمُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الشَّخْصُ وَهُوَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ، وَالرَّبُّ تَعَالَى هُوَ الْقَدِيمُ الْخَالِقُ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ بِالْحَقِيقَةِ؛ شَهِدَ الْحَقَّ وَحْدَهُ مُنْفَرِدًا عَنْ خَلْقِهِ، فَلَمْ يُنَاسِمْ رَسْمُهُ سَبْقَ الْحَقِّ وَأَوَّلِيَّتَهُ، وَالْمُنَاسَمَةُ كَالْمُشَامَّةِ، يُقَالُ: نَاسَمَهُ، أَيْ شَامَّهُ، فَاسْتَعَارَ الشَّيْخُ اللَّفْظَةَ لِأَدْنَى الْمُقَارَبَةِ وَالْمُلَابَسَةِ، أَيْ لَا يُدَانِي رَسْمُكَ سَبْقَهُ، وَلَوْ بِأَدْنَى مُنَاسَمَةٍ، بَلْ تَشْهَدُ الْحَقَّ وَحْدَهُ مُنْفَرِدًا عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَهُمْ يُشِيرُونَ بِذَلِكَ إِلَى أَمْرٍ، وَهُوَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ، وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ، فَأَمَّا اللَّفْظُ الْأَوَّلُ وَهُوَ " «كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ» " فَهَذَا قَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ الثَّابِتُ «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ» وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ «أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ» وَلَمْ يَقُلْ: فَلَيْسَ مَعَكَ شَيْءٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ " وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ " فَزِيَادَةٌ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَتْ مِنْهُ، بَلْ زَادَهَا بَعْضُ الْمُتَحَذْلِقِينَ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ قَطْعًا، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ خَلْقِهِ بِالْعِلْمِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْقُدْرَةِ، وَمَعَ أَوْلِيَائِهِ بِالْحِفْظِ وَالْكِلَاءَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَهُمْ مَعَهُ بِالْمُوَافَقَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَصَارَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ

فصل التلبيس

مِجَنًّا وَتُرْسًا لِلْمَلَاحِدَةِ مِنَ الِاتِّحَادِيَّةِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا وُجُودَ سِوَى وُجُودِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَحَالًا، فَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَكُلُّ مَا تَرَاهُ وَتَلْمَسُهُ وَتَذُوقُهُ وَتَشُمُّهُ وَتُبَاشِرُهُ فَهُوَ حَقِيقَةُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ إِفْكِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَأَمَّا أَهْلُ التَّوْحِيدِ: فَقَدْ يُطْلِقُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، وَيُرِيدُونَ بِهَا لَفْظًا صَحِيحًا، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ عَنْ خَلْقِهِ، لَيْسَ مُخَالِطًا لَهُمْ، وَلَا حَالًّا فِيهِمْ، وَلَا مُمَازِجًا لَهُمْ، بَلْ هُوَ بَائِنٌ عَنْهُمْ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. وَأَمَّا الشَّيْخُ وَأَرْبَابُ الْفَنَاءِ: فَقَدْ يَعْنُونَ مَعْنًى آخَرَ أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ " لَا يُنَاسِمُ رَسْمُكَ سَبْقَهُ " أَيْ لَا تَرَى أَنَّكَ مَعَهُ بَلْ تَرَاهُ وَحْدَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: فَتَسْقُطُ الشَّهَادَاتُ، وَتَبْطُلُ الْعِبَارَاتُ، وَتَفْنَى الْإِشَارَاتُ، يَعْنِي: أَنَّكَ إِذَا لَمْ تَشْهَدْ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَأَسْقَطْتَ الْغَيْرَ مِنَ الشُّهُودِ، لَا مِنَ الْوُجُودِ، بِخِلَافِ مَا يَقُولُ الْمُلْحِدُ الِاتِّحَادِيُّ: إِنَّكَ تُسْقِطُ الْغَيْرَ شُهُودًا وَوُجُودًا - سَقَطَتِ الشَّهَادَاتُ وَالْعِبَارَاتُ وَالْإِشَارَاتُ؛ لِأَنَّهَا صِفَاتُ الْعَبْدِ الْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ، وَالْفَنَاءُ يُوجِبُ إِسْقَاطَهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْوَاصِلَ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ لَا يَرَى مَعَ الْحَقِّ سِوَاهُ، فَيَمْحُوَ السِّوَى فِي شُهُودِهِ، وَعِنْدَ الْمُلْحِدِ يَمْحُوهُ مِنَ الْوُجُودِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ التَّلْبِيسُ] [عَدَمُ مُنَاسَبَةِ اسْمِ الْبَابِ] فَصْلٌ التَّلْبِيسُ قَالَ: (بَابُ التَّلْبِيسِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] ، لَيْتَهُ لَمْ يَسْتَشْهِدْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ الِاسْتِشْهَادَ بِهَا عَلَى مَقْصُودِهِ أَبْعَدُ شَاهِدٍ عَلَيْهِ، وَأَبْطَلُهُ شَهَادَةً، وَلَيْتَهُ لَمْ يُسَمِّ هَذَا الْبَابَ بِالتَّلْبِيسِ وَاخْتَارَ لَهُ اسْمًا أَحْسَنَ مِنْهُ مَوْقِعًا. فَأَمَّا الْآيَةُ: فَإِنَّ مَعْنَاهَا غَيْرُ مَا عُقِدَ لَهُ الْبَابُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا تَعَنُّتًا فِي كُفْرِهِمْ {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] يَعْنُونَ: مَلَكًا نُشَاهِدُهُ وَنَرَاهُ، يَشْهَدُ لَهُ وَيُصَدِّقُهُ، وَإِلَّا فَالْمَلَكُ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا، وَبَيَّنَ الْحِكْمَةَ فِي عَدَمِ إِنْزَالِ الْمَلَكِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ بِأَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ مَلَكًا - كَمَا اقْتَرَحُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا وَيُصَدِّقُوهُ - لَعُوجِلُوا بِالْعَذَابِ، كَمَا جَرَتْ وَاسْتَمَرَّتْ بِهِ سُنَّتُهُ تَعَالَى مَعَ

فصل حقيقة التلبيس

الْكُفَّارِ فِي آيَاتِ الِاقْتِرَاحِ، إِذَا جَاءَتْهُمْ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، فَقَالَ {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8] ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ مَلَكًا - كَمَا اقْتَرَحُوا - لَمَا حَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُمْ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَنْزَلَهُ فِي صُورَتِهِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى التَّلَقِّي عَنْهُ، إِذِ الْبَشَرُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُخَاطَبَةِ الْمَلَكِ وَمُبَاشَرَتِهِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَقْوَى الْخَلْقِ - إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكُ كَرَبَ لِذَلِكَ، وَأَخَذَهُ الْبُرَحَاءُ، وَتَحَدَّرَ مِنْهُ الْعَرَقُ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِي، وَإِنْ جَعَلَهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ؛ حَصَلَ لَهُمْ لَبْسٌ؛ هَلْ هُوَ رَجُلٌ، أَمْ مَلَكٌ؟ فَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ} [الأنعام: 9] فِي هَذِهِ الْحَالِ {مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] عَلَى أَنْفُسِهِمْ حِينَئِذٍ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ - إِذَا رَأَوُا الْمَلَكَ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ - هَذَا إِنْسَانٌ، وَلَيْسَ بِمَلَكٍ، فَهَذَا مَعْنَى الْآيَةِ، فَأَيْنَ تَجِدُهُ مِمَّا عُقِدَ لَهُ الْبَابُ؟ [فَصْلٌ حَقِيقَةُ التَّلْبِيسِ] فَصْلٌ قَالَ: " التَّلْبِيسُ: تَوْرِيَةٌ بِشَاهِدٍ مُعَارٍ عَنْ مَوْجُودٍ قَائِمٍ، لَمَّا كَانَتِ " التَّوْرِيَةُ " إِظْهَارَ خِلَافِ الْمُرَادِ، بِأَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا يُوهِمُ أَنَّهُ مُرَادُهُ، وَلَيْسَ هُوَ بِمُرَادِهِ، بَلْ وَرَّى بِالْمَذْكُورِ عَنِ الْمُرَادِ: فُسِّرَ " التَّلْبِيسُ " بِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا» " مِثَالُهُ: أَنْ يُرِيدَ غَزْوَ خَيْبَرَ فَيَقُولُ لِلنَّاسِ: كَيْفَ طَرِيقُ نَجْدٍ، وَمَا بِهَا مِنَ الْمِيَاهِ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَهَاهُنَا شَيْئَانِ: أَمْرُ سَتْرِ الْمُورِّي الْمُلَبِّسِ، وَأَمْرُ سَتْرِ مَا وَرَّى عَنْهُ، فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى الْأَمْرَيْنِ بِقَوْلِهِ " تَوْرِيَةُ شَاهِدٍ مُعَارٍ عَنْ مَوْجُودٍ قَائِمٍ " فَأَمَّا " التَّوْرِيَةُ " فَقَدْ عَرَفْتَهَا، وَأَمَّا " الشَّاهِدُ " فَهُوَ الَّذِي تُوَرِّي بِهِ عَنْ مُرَادِكَ وَتَسْتَشْهِدُ بِهِ، وَأَمَّا " الْمُعَارُ " فَهُوَ الشَّاهِدُ الَّذِي اسْتُعِيرَ لِغَيْرِهِ لِيَشْهَدَ لَهُ، فَهُوَ شَاهِدٌ اسْتُعِيرَ لِمَشْهُودٍ قَائِمٍ، فَالتَّوْرِيَةُ: أَنْ تَذْكُرَ مَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، وَمَقْصُودُكَ خِلَافُ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُمَا، وَالتَّلْبِيسُ: يُشْبِهُ التَّعْمِيَةَ وَالتَّخْلِيطَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42] وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

فصل التلبيس اسم لثلاثة معان

[فَصْلٌ التَّلْبِيسُ اسْمٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ] [الْأَوَّلُ تَلْبِيسُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِالْكَوْنِ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ] فَصْلٌ قَالَ الشَّيْخُ: " وَهُوَ اسْمٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا: تَلْبِيسُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِالْكَوْنِ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ، وَهُوَ تَعْلِيقُهُ الْكَوَائِنَ بِالْأَسْبَابِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَحَايِينِ، وَتَعْلِيقُهُ الْمَعَارِفَ بِالْوَسَائِطِ، وَالْقَضَايَا بِالْحُجَجِ، وَالْأَحْكَامَ بِالْعِلَلِ، وَالِانْتِقَامَ بِالْجِنَايَاتِ، وَالْمَثُوبَةَ بِالطَّاعَاتِ، وَأَخْفَى الرِّضَا وَالسُّخْطَ اللَّذَيْنِ يُوجِبَانِ الْفَصْلَ وَالْوَصْلَ، وَيُظْهِرَانِ الشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ. شَيْخُ الْإِسْلَامِ حَبِيبُنَا، وَلَكِنِ الْحَقُّ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْهُ، وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: عَمَلُهُ خَيْرٌ مِنْ عِلْمِهِ، وَصَدَقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَسِيرَتُهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَجِهَادِ أَهْلِ الْبِدَعِ لَا يُشَقُّ لَهُ فِيهَا غُبَارٌ، وَلَهُ الْمَقَامَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي نُصْرَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَكْسُوَ ثَوْبَ الْعِصْمَةِ لِغَيْرِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْبَابِ لَفْظًا وَمَعْنًى. أَمَّا اللَّفْظُ: فَتَسْمِيَتُهُ فِعْلَ اللَّهِ، الَّذِي هُوَ حَقٌّ وَصَوَابٌ وَحِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ، وَحُكْمَهُ الَّذِي هُوَ عَدْلٌ وَإِحْسَانٌ، وَأَمْرَهُ الَّذِي هُوَ دِينُهُ وَشَرْعُهُ " تَلْبِيسًا " فَمَعَاذَ اللَّهِ، ثُمَّ مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ، وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنَ الرِّضَا بِهَا، وَالْإِقْرَارِ عَلَيْهَا، وَالذَّبِّ عَنْهَا، وَالِانْتِصَارِ لَهَا، وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ هَذَا تَلْبِيسٌ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ، فَالتَّلْبِيسُ وَقَعَ عَلَيْهِ، وَلَا نَقُولُ: وَقَعَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ صَادِقٌ لُبِّسَ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ مُتَعَصِّبًا لَهُ يَقُولُ: أَنْتُمْ لَا تَفْهَمُونَ كَلَامَهُ، فَنَحْنُ نُبَيِّنُ مُرَادَهُ عَلَى وَجْهِهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -، ثُمَّ نُتْبِعُ ذَلِكَ بِمَا لَهُ وَعَلَيْهِ. فَقَوْلُهُ " أَوَّلُهَا: تَلْبِيسُ الْحَقِّ بِالْكَوْنِ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ " وَالْحَقُّ هَاهُنَا الْمُرَادُ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى، وَ " الْكَوْنُ " اسْمٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَ " أَهْلُ التَّفْرِقَةِ " ضِدُّ أَهْلِ " الْجَمْعِ "، وَسَيَأْتِي مَعْنَى الْجَمْعِ عِنْدَهُ بَعْدَ هَذَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -، فَأَهْلُ التَّفْرِقَةِ الَّذِينَ لَمْ يَصِلُوا إِلَى مَقَامِ الْجَمْعِ، فَأَهْلُ التَّفْرِقَةِ عِنْدَهُ لُبِّسَ عَلَيْهِمُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّهُمْ لُبِّسَ عَلَيْهِمُ الْحَقُّ بِالْكَوْنِ وَهُوَ الْبَاطِلُ، وَكُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهُ بَاطِلٌ، وَأَهْلُ التَّفْرِقَةِ عِنْدَهُمُ الَّذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمُ النَّظَرُ إِلَى الْأَسْبَابِ حَتَّى غَفَلُوا عَنِ الْمُسَبِّبِ، وَوَقَفُوا مَعَهَا دُونَهُ، وَ " التَّلْبِيسُ " فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلِذَلِكَ اسْتُدِلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِالْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]

لِيُعَرِّفَكَ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا تُمْنَعُ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ كَمَا لَا تُمْنَعُ نِسْبَةُ الْإِضْلَالِ إِلَيْهِ. وَوَجْهُ هَذَا التَّلْبِيسِ: أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَضَافَ الْأَفْعَالَ الصَّادِرَةَ عَنْ مَحْضِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ إِلَى أَسْبَابٍ وَأَزْمِنَةٍ وَأَمْكِنَةٍ، فَلَبَّسَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ حَيْثُ عَلَّقَ الْكَوَائِنَ - وَهِيَ الْأَفْعَالُ - بِالْأَسْبَابِ، فَنَسَبَهَا أَهْلُ التَّفْرِقَةِ إِلَى أَسْبَابِهَا، وَعَمُوا عَنْ رُؤْيَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، فَفِي الْحَقِيقَةِ لَا فِعْلَ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَهْلُ التَّفْرِقَةِ يَجْهَلُونَ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ: فَعَلَ فُلَانٌ، وَفَعَلَ الْمَاءُ، وَفَعَلَ الْهَوَاءُ، وَفَعَلَتِ النَّارُ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُهُ سُبْحَانَهُ الْمَعَارِفَ بِالْوَسَائِطِ، وَهِيَ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ وَالْفِطْرِيَّةُ، وَتَعْلِيقُهُ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصِرَاتِ وَالْمَلْمُوسَاتِ بِآلَاتِهَا وَحَوَاسِّهَا، مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْخَالِقُ لِتِلْكَ الْإِدْرَاكَاتِ مُقَارَنَةً لِهَذِهِ الْحَوَاسِّ، وَعِنْدَهَا، لَا بِهَا، وَلَا بِقُوًى مُوَدَعَةٍ فِيهَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ بِغَيْرِ هَذِهِ الْوَسَائِطِ، فَحَجَبَ أَهْلَ التَّفْرِقَةِ، فَهَذِهِ الْوَسَائِطُ عَنْ إِلَهٍ قَادِرٍ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةُ الَّذِي لَا فِعْلَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا لَهُ، فَكَأَنَّهُ لَبَّسَ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ - أَيْ أَضَلَّهُمْ - بِشُهُودِهِمُ الْأَسْبَابَ، وَغَيْبَتِهِمْ بِهَا عَنْهُ. وَكَذَلِكَ الْقَضَايَا - وَهِيَ الْوَقَائِعُ بَيْنَ الْعِبَادِ - غَلَّقَهَا بِالْحُجَجِ الْمُوجِبَةِ لَهَا، فَكُلُّ قَضَاءٍ وَحُكْمٍ لَابُدَّ لَهُ مِنْ حُجَّةٍ يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا، فَيَحْجُبُ صَاحِبَ التَّفْرِقَةِ بِتِلْكَ الْحُجَّةِ عَنِ الْمَصْدَرِ الْأَوَّلِ الَّذِي مِنْهُ ابْتِدَاءُ كُلِّ شَيْءٍ، وَيَقِفُ مَعَ الْحُجَّةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَنْ حَكَمَ بِهَا، وَجَعَلَهَا مَظْهَرًا لِنُفُوذِ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ. وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُهُ الْأَحْكَامَ بِالْعِلَلِ - وَهِيَ الْمَعَانِي وَالْمُنَاسَبَاتُ، وَالْحِكَمُ وَالْمَصَالِحُ - الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا ثَبَتَتِ الْأَحْكَامُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاضِعُ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَمُضِيفُ الْأَحْكَامِ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مُضَافَةٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَكَذَلِكَ تَرْتِيبُهُ الِانْتِقَامَ عَلَى الْجِنَايَاتِ، وَرَبْطُهُ الثَّوَابَ بِالطَّاعَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ مُضَافٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، لَا إِلَى الْجِنَايَاتِ، وَلَا إِلَى الطَّاعَاتِ، فَإِضَافَةُ ذَلِكَ إِلَيْهَا تَلْبِيسٌ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ، وَمَوْضِعُ التَّلْبِيسِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ أَهْلَ التَّفْرِقَةِ يَظُنُّونَ أَنَّهُ لَوْلَا تِلْكَ الْوَسَائِطُ لَمَّا وُجِدَتْ مَعْرِفَةٌ، وَلَا وَقَعَتْ قَضِيَّةٌ، وَلَا كَانَ حُكْمٌ وَلَا ثَوَابٌ، وَلَا عِقَابٌ وَلَا انْتِقَامٌ، وَهَذَا تَلْبِيسٌ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِنَّمَا أَوْجَبَهَا مَحْضُ مَشِيئَةِ اللَّهِ الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَانْطَوَى حُكْمُ تِلْكَ الْوَسَائِطِ وَالْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ فِي بِسَاطِ الْمَشِيئَةِ الْأَزَلِيَّةِ، وَاضْمَحَلَّتْ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ الْأَزَلِيِّ، وَصَارَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْكَائِنَاتِ الَّتِي هِيَ مُنْفَعِلَةٌ لَا فَاعِلَةٌ، وَمُطِيعَةٌ لَا مُطَاعَةٌ، وَمَأْمُورَةٌ لَا آمِرَةٌ وَخَلَقَ مِنْ خَلْقِهِ، لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فَهِيَ بِهِ لَا بِهِمْ، وَلِهَذَا عَاذَ الْعَارِفُونَ بِهِ مِنْهُ وَهَرَبُوا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَالْتَجَئُوا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَفَرُّوا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَتَوَكَّلُوا بِهِ عَلَيْهِ، وَخَافُوهُ بِمَا مِنْهُ لَا مِنْ

غَيْرِهِ، فَشَهِدُوا أَوَّلِيَّتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَتَفَرُّدَهُ فِي الصُّنْعِ وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ مَا يُوجِبُ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا مَشِيئَتُهُ وَحْدَهُ، فَمَشِيئَتُهُ هِيَ السَّبَبُ فِي الْحَقِيقَةِ وَمَا يُشَاهَدُ أَوْ يُعْلَمُ مِنَ الْأَسْبَابِ فَمَحَلٌّ وَمَجْرًى لِنُفُوذِ الْمَشِيئَةِ، لَا أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ وَفَاعِلٌ، فَالْوَسَائِطُ لَابُدَّ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى أَوَّلٍ، لِامْتِنَاعِ التَّسَلْسُلِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟» وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ، وَكَتَبَ الْآثَارَ وَالْأَعْمَالَ، وَالشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، حَيْثُ لَا وَاسِطَةَ هُنَاكَ وَلَا سَبَبَ وَلَا عِلَّةَ، فَأَهْلُ التَّفْرِقَةِ وَقَفُوا مَعَ الْوَسَائِطِ، وَأَهْلُ الْجَمْعِ نَفِذَ بَصَرُهُمْ مِنَ الْوَسَائِطِ وَالْأَسْبَابِ إِلَى مَنْ أَقَامَهَا وَرَبَطَ بِهَا أَحْكَامَهَا. قَوْلُهُ: " وَأَخْفَى الرِّضَا وَالسُّخْطَ اللَّذَيْنِ هُمَا مَوْضِعُ الْوَصْلِ وَالْفَصْلِ "، يَعْنِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْفَى عَنْ عِبَادِهِ مَا سَبَقَ لَهُمْ عِنْدَهُ مِنْ سُخْطِهِ عَلَى مَنْ سَخِطَ عَلَيْهِ، وَرِضَاهُ عَمَّنْ رَضِيَ عَنْهُ، الْمُوجِبَيْنِ لِوَصْلِ مَنْ وَصَلَهُ، وَقَطْعِ مَنْ قَطْعَهُ. وَمُرَادُهُ: أَنَّ هَذَا مَعَ السَّبَبِ الصَّحِيحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ رِضَاهُ وَسُخْطُهُ، وَإِنَّمَا لَبَّسَ سُبْحَانَهُ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ الْأَمْرَ بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجِنَايَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَالْعِلَلِ وَالْحُجَجِ، وَلَا سَبَبَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا رِضَاهُ وَسُخْطِهِ، وَذَلِكَ لَا عِلَّةَ لَهُ، فَالرِّضَا هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ الْمَثُوبَةَ لَا الطَّاعَةُ، وَالسُّخْطُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ لَا الْمَعْصِيَةُ، وَالْمَشِيئَةُ هِيَ الَّتِي أَوْجَبَتِ الْحُكْمَ لَا الْوَسَائِطُ، فَأَخْفَى الرَّبُّ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَنْ خَلْقِهِ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ أَسْبَابًا أُخَرَ عَلَّقُوا بِهَا الْأَحْكَامَ، وَذَلِكَ تَلْبِيسٌ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ، فَأَهْلُ التَّفْرِقَةِ وَقَفُوا مَعَ هَذَا التَّلْبِيسِ، وَأَهْلُ الْجَمْعِ صَعَدُوا عَنْهُ وَجَاوَزُوهُ إِلَى مَصْدَرِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَمُوجِدِهَا بِمَشِيئَتِهِ فَقَطْ. فَبَالَغَ الشَّيْخُ فِي ذَلِكَ حَتَّى جَعَلَ الرِّضَا وَالسُّخْطَ يُظْهِرَانِ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ، وَلَمْ يَجْعَلِ الرِّضَا وَالسُّخْطَ مُؤَثِّرَيْنِ فِيهِمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ سَبَقَتْ عِنْدَهُ سَبْقًا مَحْضًا مُسْتَنِدًا إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ لَا عِلَّةً لَهُمَا، وَالرِّضَا وَالسُّخْطُ أَظْهَرَا مَا سَبَقَ بِهِ التَّقْدِيرُ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي شَرْحِ كَلَامِهِ وَتَقْرِيرِهِ، وَحَمْلِهُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَجْمَلِهَا. وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَانْتِهَاءِ الْأُمُورِ إِلَى مَشِيئَةِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَذَلِكَ عَقْدُ نِظَامِ الْإِيمَانِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَكْفِي وَحْدَهُ، إِذْ غَايَتُهُ تَحْقِيقُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي لَا يُنْكِرُهُ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي أَمْرٍ آخَرَ وَرَاءَ هَذَا؛ هَذَا بَابُهُ، وَالْمَدْخَلُ إِلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ يُوصَلُ إِلَيْهِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَعَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَالشَّرَائِعُ كُلُّهَا

تَفَاصِيلُهُ وَحُقُوقُهُ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ الَّذِي لَا سَعَادَةَ لِلنُّفُوسِ إِلَّا بِالْقِيَامِ بِهِ - عِلْمًا وَعَمَلًا، وَحَالًا - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَحْدَهُ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَخَوَفَ عِنْدَهُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَرْجَى لَهُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَيَعْبُدُهُ بِمَعَانِي الْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ بِمَا يُحِبُّهُ هُوَ وَيَرْضَاهُ، وَهُوَ مَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، لَا بِمَا يُرِيدُ الْعَبْدُ وَيَهْوَاهُ، وَتَلْخِيصُ ذَلِكَ فِي كَلِمَتَيْنِ " إِيَّاكَ أُرِيدُ بِمَا تُرِيدُ " فَالْأُولَى: تَوْحِيدٌ وَإِخْلَاصٌ، وَالثَّانِيَةُ: اتِّبَاعٌ لِلسُّنَّةِ وَتَحْكِيمٌ لِلْأَمْرِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ غَايَتُهُ تَقْرِيرُ تَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ. وَأَمَّا جَعْلُهُ مَا نَصَبَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَأَحْكَامِهِ، وَثَوَابِهِ، وَعِقَابِهِ تَلْبِيسًا، فَتَلْبِيسٌ مِنَ النَّفْسِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ - عِنْدَ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ - مِنَ التَّلْبِيسِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَظْهَرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَنِعْمَتِهِ، وَقُدْرَتِهِ وَعَزَّتِهِ، إِذْ ظُهُورُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ، تَسْتَلْزِمُ مَحَالَّ وَتَعَلُّقَاتٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَيَظْهَرُ فِيهَا آثَارُهَا، وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لِلصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ، إِذِ الْعِلْمُ لَابُدَّ لَهُ مِنْ مَعْلُومٍ، وَصِفَةُ الْخَالِقِيَّةِ، وَالرَّازِقِيَّةِ، تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مَخْلُوقٍ وَمَرْزُوقٍ، وَكَذَلِكَ صِفَةُ الرَّحْمَةِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْحِلْمِ، وَالْعَفْوِ، وَالْمَغْفِرَةِ، وَالتَّجَاوُزِ - تَسْتَلْزِمُ، فَكَيْفَ يَكُونُ تَعْلِيقُ الْأَحْكَامِ، وَالثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ بِهَا تَلْبِيسًا؟ وَهَلْ ذَلِكَ مَحَالُّ تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَيَظْهَرُ فِيهَا آثَارُهَا، فَالْأَسْبَابُ وَالْوَسَائِطُ، مَظْهَرُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، إِلَّا حِكْمَةً بَالِغَةً بَاهِرَةً، وَآيَاتٍ ظَاهِرَةً، وَشَوَاهِدَ نَاطِقَةً بِرُبُوبِيَّةِ مُنْشِئِهَا، وَكَمَالِهِ، وَثُبُوتِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؟ فَإِنَّ الْكَوْنَ - كَمَا هُوَ مَحَلُّ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَمَظْهَرُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ - فَهُوَ بِجَمِيعِ مَا فِيهِ شَوَاهِدُ وَأَدِلَّةٌ وَآيَاتٌ، دَعَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ، وَالِاعْتِبَارِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ عَلَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَبِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى عَدْلِهِ، وَأَنَّهُ يَغْضَبُ وَيَسْخَطُ، وَيَكْرَهُ وَيَمْقُتُ، وَبِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْمَثُوبَاتِ وَالْإِكْرَامِ عَلَى أَنَّهُ يُحِبُّ، وَيَرْضَى وَيَفْرَحُ، فَالْكَوْنُ - بِجُمْلَةِ مَا فِيهِ - آيَاتٌ وَشَوَاهِدُ وَأَدِلَّةٌ، لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ مِنْهَا شَيْئًا تَلْبِيسًا، وَلَا وَسَّطَهُ عَبَثًا، وَلَا خَلَقَهُ سُدًى. فَالْأَسْبَابُ وَالْوَسَائِطُ وَالْعِلَلُ مَحَلُّ ادِّكَارِ الْمُتَفَكِّرِينَ، وَاعْتِبَارِ النَّاظِرِينَ، وَمَعَارِفِ الْمُسْتَدِلِّينَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] وَكَمْ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْحَثِّ عَلَى النَّظَرِ

وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، وَالتَّفَكُّرِ فِيهَا، وَذَمِّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا، وَالْإِخْبَارِ بِأَنَّ النَّظَرَ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالَ، يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْمَعْرِفَةَ بِصِدْقِ رُسُلِهِ؛ فَهُوَ آيَاتٌ كَوْنِيَّةٌ مُشَاهَدَةٌ تُصَدِّقُ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ؟ ! ! . فَمَا عَلَّقَ بِهَا آثَارَهَا سُدًى، وَلَا رَتَّبَ عَلَيْهَا مُقْتَضَيَاتِهَا وَأَحْكَامَهَا بَاطِلًا، وَلَا جَعَلَ تَوْسِيطَهَا تَلْبِيسًا الْبَتَّةَ، بَلْ ذَلِكَ مُوجَبُ كَمَالِهِ وَكَمَالِ نُعُوتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَبِهَا عُرِفَتْ رُبُوبِيَّتُهُ وَإِلَهِيَّتُهُ، وَمُلْكُهُ وَصِفَاتُهُ وَأَسْمَاؤُهُ. هَذَا وَلَمْ يَخْلُقْهَا سُبْحَانَهُ عَنْ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا، وَلَا تَوَقُّفًا لِكَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَتَكَثَّرْ بِهَا مِنْ قِلَّةٍ، وَلَمْ يَتَعَزَّزْ بِهَا مِنْ ذِلَّةٍ، بَلِ اقْتَضَى كَمَالُهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ، وَيَأْمُرَ وَيَتَصَرَّفَ وَيُدَبِّرَ كَمَا يَشَاءُ، وَأَنْ يُحْمَدَ وَيُعْرَفَ، وَيُذْكَرَ وَيُعْبَدَ، وَيَعْرِفَ الْخَلْقُ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتَ جَلَالِهِ، وَلِذَلِكَ خَلَقَ خَلْقًا يَعْصُونَهُ وَيُخَالِفُونَ أَمْرَهُ، لِتَعْرِفَ مَلَائِكَتُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ، وَأَوْلِيَاؤُهُ كَمَالَ مَغْفِرَتِهِ، وَعَفْوِهِ، وَحِلْمِهِ وَإِمْهَالِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِقُلُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، فَظَهَرَ كَرَمُهُ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَبِرِّهِ وَلُطْفِهِ فِي الْعَوْدِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيُغْفَرُ لَهُمْ» فَلِمَنْ كَانَتْ تَكُونُ مَغْفِرَتُهُ لَوْ لَمْ يَخْلُقِ الْأَسْبَابَ الَّتِي يَعْفُو عَنْهَا وَيَغْفِرُهَا؟ وَالْعَبْدَ الَّذِي لَهُ يَغْفِرُ؟ فَخَلْقُ الْعَبْدِ الْمَغْفُورِ لَهُ، وَتَقْدِيرُ الذَّنْبِ الَّذِي يُغْفَرُ، وَالتَّوْبَةُ الَّتِي يَغْفِرُ بِهَا هُوَ نَفْسُ مُقْتَضَى الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ، وَمُوجَبُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتِ الْعُلَا - لَيْسَ مِنَ التَّلْبِيسِ فِي شَيْءٍ، فَتَعْلِيقُ الْكَوَائِنِ بِالْأَسْبَابِ كَتَعْلِيقِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِالْأَسْبَابِ، وَلِهَذَا سَوَّى صَاحِبُ الْمَنَازِلِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ مَحْضُ الْحِكْمَةِ وَمُوجَبُ الْكَمَالِ الْإِلَهِيِّ، وَمُقْتَضَى الْحَمْدِ التَّامِّ، وَمَظْهَرُ صِفَةِ الْعِزَّةِ، وَالْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ، وَالشَّرَائِعُ كُلُّهَا - مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا - مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْعِلَلِ، وَالْقَضَايَا بِالْحُجَجِ، وَالثَّوَابِ بِالطَّاعَةِ، وَالْعُقُوبَاتِ بِالْجَرَائِمِ، فَهَلْ يُقَالُ: إِنَّ الشَّرَائِعَ كُلَّهَا تَلْبِيسٌ، بِأَيِّ مَعْنًى فُسِّرَ التَّلْبِيسُ؟ وَلَعَمْرُ اللَّهِ، لَقَدْ كَانَ فِي غُنْيَةٍ عَنْ هَذَا الْبَابِ، وَعَنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ، وَلَقَدْ أَفْسَدَ الْكِتَابَ بِذَلِكَ. هَذَا وَلَا يُجْهَلُ مَحَلُّ الرَّجُلِ مِنَ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقِ السُّلُوكِ، وَآفَتِهِ وَعِلَلِهِ وَلَكِنْ قَصْدُهُ تَجْرِيدَ تَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ وَالرُّبُوبِيَّةِ قَادَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ اعْتِقَادُهُ أَنَّ

الْفَنَاءَ فِي هَذَا التَّوْحِيدِ هُوَ غَايَةُ السُّلُوكِ، وَنِهَايَةُ الْعَارِفِينَ، وَسَاعَدَهُ اعْتِقَادُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّنَّةِ، الرَّادِّينَ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فِي الْأَسْبَابِ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا الْبَتَّةَ، وَلَا فِيهَا قُوًى، وَلَا يَفْعَلُ اللَّهُ شَيْئًا بِشَيْءٍ وَلَا شَيْئًا لِشَيْءٍ، فَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ فِي أَفْعَالِهِ بَاءُ سَبَبِيَّةٍ، أَوْ لَامُ تَعْلِيلٍ، وَمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ حَمَلُوا الْبَاءَ فِيهِ عَلَى بَاءِ الْمُصَاحَبَةِ، وَاللَّامَ فِيهِ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ، وَقَالُوا: يَفْعَلُ اللَّهُ الْإِحْرَاقَ وَالْإِغْرَاقَ وَالْإِزْهَاقَ عِنْدَ مُلَاقَاةِ النَّارِ، وَالْمَاءِ وَالْحَدِيدِ، لَا بِهِمَا، وَلَا بِقُوًى فِيهِمَا، وَلَا فَرْقَ - فِي نَفْسِ الْأَمْرِ - بَيْنَ النَّارِ وَبَيْنَ الْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ وَالْخَشَبِ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُنْفَعِلٌ مَحْضٌ، وَمَحَلُّ جَرَيَانِ تَصَارِيفِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْفَاعِلَ فِيهِ سِوَاهُ، وَالْمُحَرِّكَ لَهُ غَيْرُهُ، وَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ فَاعِلٌ أَوْ مُتَحَرِّكٌ، فَهُوَ تَلْبِيسٌ. فَهَذِهِ الْأُصُولُ: أَوْجَبَتْ هَذَا التَّلْبِيسَ عَلَى نُفَاةِ الْحِكَمِ وَالْأَسْبَابِ، وَقَابَلَهُمْ آخَرُونَ، فَمَزَّقُوا لُحُومَهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَفَرَّقُوا أَدِيمَهُمْ، وَقَالُوا: عَطَّلْتُمُ الشَّرَائِعَ، وَالثَّوَابَ، وَالْعِقَابَ، وَأَبْطَلْتُمْ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَإِنَّ مَبْنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَأَنَّ أَفْعَالَهُمْ مَنْسُوبَةٌ إِلَيْهِمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ قُدَرَهُمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَدَوَاعِيَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ فِي أَفْعَالِهِمْ، وَأَفْعَالُهُمْ وَاقِعَةٌ بِحَسَبِ دَوَاعِيهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ، عَلَى ذَلِكَ قَامَتِ الشَّرَائِعُ وَالنُّبُوَّاتُ، وَالثَّوَابُ، وَالْعِقَابُ، وَالْحُدُودُ، وَالزَّوَاجِرُ، فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا وَالْحَيَوَانَ، وَسَوَّيْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا سَوَّى بَيْنَ حَرَكَةِ الْمُخْتَارِ وَحَرَكَةِ مَنْ تَحَرَّكَ قَسْرًا بِغَيْرِ إِرَادَةٍ مِنْهُ أَبَدًا، وَلَا سَوَّى بَيْنَ حَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ، وَحَرَكَاتِ ابْنِ آدَمَ، وَلَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَفْعَالَ عِبَادِهِ وَطَاعَتَهُمْ وَمَعَاصِيَهُمْ أَفْعَالًا لَهُ، بَلْ نَسَبَهَا إِلَيْهِ حَقِيقَةً، وَأَخْبَرَ: أَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ فَاعِلِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] وَقَالَ {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41] وَقَالَ سَادَاتُ الْعَارِفِينَ بِهِ {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128] وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلِهِ {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} [إبراهيم: 40] فَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الْعَبْدَ كَذَلِكَ، وَالْعَبْدُ هُوَ الَّذِي صَلَّى وَصَامَ وَأَسْلَمَ، وَهُوَ الْفَاعِلُ حَقِيقَةً، يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَاعِلًا، وَهُوَ السَّائِرُ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] فَهَذَا فِعْلُهُ، وَالسَّيْرُ

فِعْلُهُمْ، وَالْإِقَامَةُ فِعْلُهُ، وَالْقِيَامُ فِعْلُهُمْ، وَالْإِنْطَاقُ فِعْلُهُ، وَالنُّطْقُ فِعْلُهُمْ، فَكَيْفَ تُجْعَلُ نِسْبَةُ الْأَفْعَالِ إِلَى مَحَالِّهَا الْقَائِمَةِ بِهَا، وَأَسْبَابِهَا الْمُظْهِرَةِ لَهَا: تَلْبِيسًا؟ وَمَعْلُومٌ: أَنَّ طَيَّ بِسَاطِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ: تَعْطِيلٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالشَّرَائِعِ وَالْحِكَمِ، وَأَمَّا الْوُقُوفُ مَعَ الْأَسْبَابِ، وَاعْتِقَادُ تَأْثِيرِهَا: فَلَا نَعْلَمُ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِأَنْفُسِهَا، حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى نَفْيِ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ - وَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ -: إِنَّ أَفْعَالَ الْحَيَوَانِ خَاصَّةً غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ، وَلَا وَاقِعَةٍ بِمَشِيئَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَطْبَقَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى ذَمِّهِمْ وَتَبْدِيعِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ، وَبَيَّنَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ أَشْبَاهُ الْمَجُوسِ، وَأَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ الْعُقُولَ وَالْفِطَرَ وَنُصُوصَ الْوَحْيِ، فَالتَّلْبِيسُ فِي الْحَقِيقَةِ حَصَلَ لِهَؤُلَاءِ، وَلِمُنْكِرِي الْأَسْبَابِ فِي الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ وَالْحِكَمِ، وَلُبِّسَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ. وَالْحَقُّ - الَّذِي بَعَثَ بِهِ اللَّهُ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، وَفَطَرَ عَلَيْهِ عِبَادَهُ، وَأَوْدَعَهُ فِي عُقُولِهِمْ -: بَيْنَ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، فَالْهُدَى بَيْنَ الضَّلَالَتَيْنِ، وَالِاسْتِقَامَةُ بَيْنَ الِانْحِرَافَيْنِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْقُرْآنَ - بَلْ وَسَائِرَ كُتُبِ اللَّهِ - تَضَمَّنَتْ تَعْلِيقَ الْكَوَائِنِ بِالْأَسْبَابِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَحَايِينِ، وَتَعْلِيقَ الْمَعَارِفِ بِالْوَسَائِطِ، وَالْقَضَايَا بِالْحُجَجِ وَالْأَحْكَامِ بِالْعِلَلِ، وَالِانْتِقَامَ بِالْجِنَايَاتِ، وَالْمَثُوبَاتِ بِالطَّاعَاتِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا تَلْبِيسًا عَادَ الْوَحْيُ وَالشَّرْعُ وَالْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ تَلْبِيسًا. نَعَمُ، التَّلْبِيسُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ التَّعْلِيقَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْلَالِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، وَنَاصِبِ الْحِكَمِ وَالْعِلَلِ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ: أَنَّهُ لَبَّسَ الْأَمْرَ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الصَّوَابِ، فَأَبْعَدَ اللَّهُ مَنْ يَنْتَصِرُ لَهُمْ، وَيَذُبُّ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ أَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَنْ أَثْبَتَ الْأَسْبَابَ وَالْحِكَمَ وَالْعِلَلَ، وَعَلَّقَ بِهَا مَا عَلَّقَهُ اللَّهُ بِهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالشَّرْعِ، وَأَنْزَلَهَا بِالْمَحَلِّ الَّذِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ بِهِ، وَوَضَعَهَا حَيْثُ وَضَعَهَا - فَقَدْ لَبَّسَ عَلَيْهِ، فَنَحْنُ نَدِينُ اللَّهَ بِذَلِكَ، وَإِنْ سُمِّيَ تَلْبِيسًا، كَمَا نَدِينُ بِإِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَإِنْ سُمِّيَ جَبْرًا، وَنَدِينُ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ، وَإِنْ سُمِّيَ تَجْسِيمًا، وَنَدِينُ بِإِثْبَاتِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، وَإِنْ سُمِّيَ تَحَيُّزًا أَوْ جِهَةً، وَنَدِينُ بِإِثْبَاتِ وَجْهِهِ الْأَعْلَى، وَيَدَيْهِ الْمَبْسُوطَتَيْنِ، وَإِنْ سُمِّيَ تَرْكِيبًا، وَنَدِينُ بِحُبِّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ سُمِّيَ نَصْبًا، وَنَدِينُ بِأَنَّهُ مُكَلَّمٌ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً كَلَامًا يَسْمَعُهُ مَنْ خَاطَبَهُ، وَأَنَّهُ يُرَى بِالْأَبْصَارِ عِيَانًا حَقِيقَةً يَوْمَ لِقَائِهِ، وَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا.

فصل الثاني تلبيس أهل الغيرة على الأوقات بإخفائها

وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبَ! أَلَيْسَتِ الْكَوَائِنُ كُلُّهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْأَسْبَابِ؟ أَوَلَيْسَ الرَّبُّ تَعَالَى - كُلَّ وَقْتٍ - يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إِلَى الْمَوَاقِيتِ الَّتِي وَقَّتَهَا لَهَا، وَيُظْهِرُهَا بِأَسْبَابِهَا الَّتِي سَبَّبَهَا لَهَا، وَيَخُصُّهَا بِمَحَالِّهَا مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا لَهَا؟ أَوَلَيْسَ قَدْ قَدَّرَ اللَّهُ الْمَقَادِيرَ، وَسَبَّبَ الْأَسْبَابَ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا، وَوَقَّتَ الْمَوَاقِيتَ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَنَصَبَ الْعِلَلَ الَّتِي تُوجَدُ لِأَجْلِهَا، وَجَعَلَ لِلْأَسْبَابِ أَسْبَابًا أُخَرَ تُعَارِضُهَا وَتُدَافِعُهَا؟ فَهَذِهِ تَقْتَضِي آثَارَهَا، وَهَذِهِ تَمْنَعُهَا اقْتِضَاءَهَا، وَتَطْلُبُ ضِدَّ مَا تَطْلُبُهُ تِلْكَ. أَوَلَيْسَ قَدْ رَتَّبَ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ عَلَى ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ مَحَلَّ الِامْتِحَانِ وَالِابْتِلَاءِ وَالْعُبُودِيَّةِ؟ أَوَلَيْسَ عِمَارَةُ الدَّارَيْنِ - أَعْنِي الْجَنَّةَ وَالنَّارَ - بِالْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالْحِكَمِ؟ وَلَا حَاجَةَ بِنَا أَنْ نَقُولَ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَسْبَابَ وَنَصَبَ الْعِلَلَ، فَإِنَّ ذِكْرَ هَذَا مِنْ بَابِ بَيَانِ الْوَاضِحَاتِ الَّتِي لَا يَجْهَلُهَا إِلَّا أَجْهَلُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَقَلُّهُمْ نَصِيبًا مِنَ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ. أَوَلَيْسَ الْقُرْآنُ - مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ - قَدْ عُلِّقَتْ أَخْبَارُهُ وَقِصَصُهُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ، وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَزَوَاجِرُهُ، وَثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ: بِالْأَسْبَابِ، وَالْحِكَمِ وَالْعِلَلِ؟ وَعُلِّقَتْ فِيهِ الْمَعَارِفُ بِالْوَسَائِطِ، وَالْقَضَايَا بِالْحُجَجِ، وَالْعُقُوبَاتُ وَالْمَثُوبَاتُ بِالْجِنَايَاتِ وَالطَّاعَاتِ؟ أَوَلَيْسَ ذَلِكَ مُقْتَضَى الرِّسَالَةِ، وَمُوجَبَ الْمُلْكِ الْحَقِّ، وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ؟ نَعَمْ، مَرْجِعُ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَالْمَصْلَحَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَوَضْعِ الْأَشْيَاءِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَتَنْزِيلِهَا فِي مَنَازِلِهَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي جَعَلَ لَهَا تِلْكَ الْمَوَاضِعَ وَالْمَنَازِلَ، وَالصِّفَاتِ وَالْمَقَادِيرَ، فَلَا تَلْبِيسَ هُنَاكَ بِوَجْهٍ مَا، وَإِنَّمَا التَّلْبِيسُ فِي إِخْرَاجِ الْأَسْبَابِ عَنْ مَوَاضِعِهَا وَمَوْضُوعِهَا وَإِلْغَائِهَا، أَوْ فِي إِنْزَالِهَا غَيْرَ مَنْزِلَتِهَا، وَالْغَيْبَةِ بِهَا عَنْ مُسَبِّبِهَا وَوَاضِعِهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ الثَّانِي تَلْبِيسُ أَهِلَ الْغَيْرَةِ عَلَى الْأَوْقَاتِ بِإِخْفَائِهَا] فَصْلٌ قَالَ: " وَالتَّلْبِيسُ الثَّانِي: تَلْبِيسُ أَهِلِ الْغَيْرَةِ عَلَى الْأَوْقَاتِ بِإِخْفَائِهَا، وَعَلَى الْكَرَامَاتِ بِكِتْمَانِهَا ". إِطْلَاقُ " التَّلْبِيسِ " عَلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَوْلَى مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الدَّرَجَةِ الْأُولَى، فَإِنَّ

التَّلْبِيسَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ رَاجِعٌ إِلَى فِعْلِ الْعَبْدِ، وَفِي الْأَوْلَى إِلَى فِعْلِ الرَّبِّ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ تَسْمِيَةُ الدَّرَجَةِ الْأُولَى تَلْبِيسًا شَنِيعًا جِدًّا، وَطَّأَ لَهُ بِذِكْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] أَيْ لَا تَسْتَوْحِشْ مِنْ إِطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَطْلَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْعَبْدَ يَقْوَى إِخْلَاصُهُ لِلَّهِ، وَصِدْقُهُ وَمُعَامَلَتُهُ، حَتَّى لَا يُحِبَّ أَنْ يَطَّلِعَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى حَالِهِ مَعَ اللَّهِ وَمَقَامِهِ مَعَهُ، فَهُوَ يُخْفِي أَحْوَالَهُ غَيْرَةً عَلَيْهَا مِنْ أَنْ تَشُوبَهَا شَائِبَةُ الْأَغْيَارِ، وَيُخْفِي أَنْفَاسَهُ خَوْفًا عَلَيْهَا مِنَ الْمُدَاخَلَةِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ إِذَا غَلَبَهُ الْبُكَاءُ، وَعَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَا أَمَرَّ الزُّكَامَ! فَالصَّادِقُ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجْدُ وَالْحَالُ، وَهَاجَ مِنْ قَلْبِهِ لَوَاعِجُ الشَّوْقِ؛ أَخْلَدَ إِلَى السُّكُونِ مَا أَمْكَنَهُ، فَإِنْ غَلَبَ؛ أَظْهَرَ أَلَمًا وَوَجَعًا؛ يَسْتُرُ بِهِ حَالَهُ مَعَ اللَّهِ، كَمَا أَظْهَرَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْمِهِ أَنَّهُ سَقِيمٌ، حِينَ أَرَادَ أَنْ يُفَارِقَهُمْ، وَيَرْجِعَ بِذَلِكَ الْوَارِدِ وَتِلْكَ الْحَالِ إِلَى الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ، فَيَجْعَلَهَا جُذَاذًا. فَالصَّادِقُونَ يَعْمَلُونَ فِي كِتْمَانِ الْمَعَانِي، وَاجْتِنَابِ الدَّعَاوِي، فَظَوَاهِرُهُمْ ظَوَاهِرُ النَّاسِ، وَقُلُوبُهُمْ مَعَ الْحَقِّ تَعَالَى، لَا تَلْتَفِتُ عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، فَهُمْ فِي وَادٍ، وَالنَّاسُ فِي وَادٍ. فَقَوْلُهُ: " تَلْبِيسُ أَهِلِ الْغَيْرَةِ عَلَى الْأَوْقَاتِ بِإِخْفَائِهَا "، يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَغَارُونَ عَلَى الْأَوْقَاتِ الَّتِي عَمَرَتْ لَهُمْ بِاللَّهِ، وَصَفَتْ لَهُمْ أَنْ يُظْهِرُوهَا لِلنَّاسِ، وَإِنِ اطَّلَعَ غَيْرُهُمْ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِمْ لِكَشْفِهَا وَإِظْهَارِهَا؛ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي طَرِيقِهِمْ فَلَا يَفْزَعُونَ إِلَى الْجَحْدِ وَالْإِنْكَارِ، وَشِكَايَةِ الْحَالِ، بَلْ يَسَعُهُمُ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْإِظْهَارِ وَالْجَحْدِ. قَوْلُهُ: " وَعَلَى الْكَرَامَاتِ بِكِتْمَانِهَا "، يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَغَارُونَ عَلَى كَرَامَاتِهِمْ أَنْ يَعْلَمَ بِهَا النَّاسُ، فَهُمْ يُخْفُونَهَا أَبَدًا غَيْرَةً عَلَيْهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ فِي إِظْهَارِهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ؛ مِنْ حُجَّةٍ أَوْ حَاجَةٍ، فَلَا يُظْهِرُونَهَا إِلَّا لِحُجَّةٍ عَلَى مُبْطِلٍ، أَوْ حَاجَةٍ تَقْتَضِي إِظْهَارَهَا. قَوْلُهُ: " وَالتَّلْبِيسُ بِالْمَكَاسِبِ وَالْأَسْبَابِ مَعْنَاهُ، وَتَعْلِيقُ الظَّوَاهِرِ بِالشَّوَاهِدِ وَالْمَكَاسِبِ تَلْبِيسٌ عَلَى الْعُيُونِ الْكَلِيلَةِ وَالْعُقُولِ الْعَلِيلَةِ "، يَعْنِي: أَنَّ التَّلْبِيسَ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعُيُونِ الْكَلِيلَةِ، أَيْ أَهْلِ الْإِحْسَاسِ الضَّعِيفِ، وَ " الْعُقُولُ الْعَلِيلَةُ " هِيَ الْمُنْحَرِفَةُ الَّتِي لَا تُدْرِكُ الْحَقَّ لِمَرَضٍ بِهَا.

الثالث تلبيس أهل التمكين على العالم

قَوْلُهُ " مَعَ تَصْحِيحِ التَّحْقِيقِ عَقْدًا وَسُلُوكًا وَمُعَايَنَةً " يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ يُلْبِسُونَ عَلَى أَهْلِ الْعُيُونِ الْكَلِيلَةِ أَحْوَالَهُمْ وَكَرَامَاتِهِمْ بِسَتْرِهِمْ لَهَا عَنْهُمْ، مَعَ كَوْنِهِمْ قَائِمِينَ بِالتَّحْقِيقِ اعْتِقَادًا وَسُلُوكًا وَمُعَايَنَةً، فَهُمْ مُعْتَقِدُونَ لِلْحَقِّ، سَالِكُونَ الطَّرِيقَ الْمُوصِلَةَ إِلَى الْمَقْصُودِ، أَهْلُ مُرَاقَبَةٍ وَشُهُودٍ. قَوْلُهُ: " وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ: رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ وَالْأَسْبَابِ فِي مُلَابَسَتِهِمْ ". وَإِنَّمَا كَانُوا رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ ذَاكِرُونَ اللَّهَ بَيْنَ الْغَافِلِينَ، وَفِي وَسَطِهِمْ يَرْحَمُهُمُ اللَّهُ بِهِمْ، فَإِنَّهُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ، الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَهُمْ فِي غَفَلَاتِهِمْ، بَلْ يَقُومُونَ فِيهِمْ بِالنَّصِيحَةِ لَهُمْ، وَالْأَمْرِ لَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالدَّعْوَةِ لَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَيُرْحَمُونَ بِهِمْ، وَيَنَالُونَ بِهِمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُمْ يَتَصَرَّفُونَ مَعَ الْخَلْقِ بِحُكْمِ الْعِلْمِ وَالشَّرْعِ، وَأَحْوَالُهُمْ وَمَقَامَاتُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ خَاصَّةٌ. [الثَّالِثُ تَلْبِيسُ أَهْلِ التَّمْكِينِ عَلَى الْعَالَمِ] قَوْلُهُ: " التَّلْبِيسُ الثَّالِثُ: تَلْبِيسُ أَهْلِ التَّمْكِينِ عَلَى الْعَالَمِ، تَرَحُّمًا عَلَيْهِمْ بِمُلَابَسَةِ الْأَسْبَابِ، وَتَوَسُّعًا عَلَى الْعَالَمِ، لَا عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَهَذِهِ دَرَجَةُ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ هِيَ لِلْأَئِمَّةِ الرَّبَّانِيِّينَ، الصَّادِرِينَ عَنْ وَادِي الْجَمْعِ، الْمُشِيرِينَ عَنْ عَيْنِهِ ". هَذَا أَيْضًا مِنَ النَّمَطِ الْأَوَّلِ، مِمَّا يُنْكَرُ لَفْظُهُ وَإِطْلَاقُهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ مَحْوُ هَذَا اللَّفْظِ الْقَبِيحِ، وَإِطْلَاقُهُ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَيْفَ تَتَّسِعُ مَسَامِعُ الْمُؤْمِنِ لِيَسْمَعَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَبَّسُوا عَلَى النَّاسِ بِأَيِّ اعْتِبَارٍ كَانَ؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ! بَلِ الرُّسُلُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - كَشَفُوا عَنِ النَّاسِ التَّلْبِيسَ الَّذِي لَبَّسُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَبَّسَهُ عَلَيْهِمْ طَوَاغِيتُهُمْ، فَجَاءُوا بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ وَشَيَاطِينُهُمْ. وَكَانَ النَّاسُ فِي لَبْسٍ عَظِيمٍ ... فَجَاءُوا بِالْبَيَانِ فَأَظْهَرُوهُ وَكَانَ النَّاسُ فِي جَهْلٍ عَظِيمٍ ... فَجَاءُوا بِالْيَقِينِ فَأَذْهَبُوهُ وَكَانَ النَّاسُ فِي كُفْرٍ عَظِيمٍ ... فَجَاءُوا بِالرَّشَادِ فَأَبْطَلُوهُ وَالْمُصَنِّفُ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ قَدَمًا فِي مَقَامِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَتَعْظِيمِهِمْ، وَتَعْظِيمِ مَا

فصل مبنى الباب على محو الأسباب وعدم الالتفات إليها والوقوف معها

جَاءُوا بِهِ، وَلَكِنْ لُبِّسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا لُبِّسَ عَلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ، وَيَجْمَعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ أَهْلَ التَّمْكِينِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ، وَجَعَلَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ مِنَ التَّلْبِيسِ لَهُمْ، ثُمَّ فَسَّرُوهَا بِأَنَّهَا تَلْبِيسُ تَرَحُّمٍ، وَتَوْسِيعٍ عَلَى الْعَالَمِ، وَمَقْصُودُهُ: أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَهُمْ بِتَعَاطِي الْأَسْبَابِ رَحْمَةً لَهُمْ، وَتَوْسِيعًا عَلَيْهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا لَا أَثَرَ لَهَا فِي خَلْقٍ وَلَا رِزْقٍ، وَلَا نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ، وَلَا عَطَاءٍ وَلَا مَنْعٍ، بَلِ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، الْمُعْطِي الْمَانِعُ، لَكِنْ لَمَّا عَلِمُوا عَجْزَ النَّاسِ عَنْ إِدْرَاكِ ذَلِكَ وَالتَّحَقُّقِ بِهِ؛ لَبَّسُوا عَلَيْهِمْ، وَسَتَرُوهُمْ بِالْأَسْبَابِ، رَحْمَةً بِهِمْ وَتَوْسِيعًا عَلَيْهِمْ. فَهَذِهِ الدَّرَجَةُ تَتَضَمَّنُ الرُّجُوعَ إِلَى الْأَسْبَابِ رَحْمَةً وَتَوْسِيعًا، مَعَ الِانْقِطَاعِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَالْوُقُوفِ مَعَهَا تَجْرِيدًا وَتَوْحِيدًا. قَوْلُهُ " لَا لِأَنْفُسِهِمْ " يَعْنِي: أَنَّ أَمْرَهُمْ بِالْأَسْبَابِ إِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَتَوْسِيعًا عَلَيْهِمْ، لَا لِحَظِّ الْآمِرِ، وَجَرِّ النَّفْعِ إِلَى نَفْسِهِ، بَلْ لِقَصْدِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، وَحُصُولِ النَّفْعِ لَهُمْ، وَهَذَا قَرِيبٌ، مَعَ أَنَّ فِيهِ مَا فِيهِ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، فَإِنَّ مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِمَصْلَحَةٍ وَقَصَدَ نَفْعَهُ: فَبِنَفْسِهِ يَبْدَأُ، وَلَهَا يَنْفَعُ أَوْلًا، وَمَصْلَحَتُهَا لَابُدَّ أَنْ تَكُونَ قَدْ حَصَلَتْ قَبْلَ مَصْلَحَةِ الْمَأْمُورِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ قُصِدَ بِإِحْسَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ عَبْدٌ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ، وَاللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ، الَّذِي يُحْسِنُ إِلَى خَلْقِهِ لَا لِأَجْلِ مُعَاوَضَةٍ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ: فَإِنَّهُ يُرِيدُ الْعِوَضَ لَكِنِ الْأَعْوَاضُ تَتَفَاوَتُ، وَمَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْعِوَضُ يَخْتَلِفُ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ قَوْلَهُ " لَا لِأَنْفُسِهِمْ " لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ " ابْنَ آدَمَ، كُلٌّ يُرِيدُكَ لِنَفْسِهِ، وَأَنَا أُرِيدُكَ لَكَ ". قَوْلُهُ: " ثُمَّ هِيَ لِلْأَئِمَّةِ الرَّبَّانِيِّينَ، الصَّادِرِينِ عَنْ وَادِي الْجَمْعِ "، يَعْنِي: الَّذِينَ فَنُوا فِي الْجَمْعِ، ثُمَّ حَصَلُوا فِي الْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، فَذَلِكَ صُدُورُهُمْ عَنْ وَادِي الْجَمْعِ. قَوْلُهُ: " الْمُشِيرِينَ عَنْ عَيْنِهِ "، يَعْنِي: الَّذِينَ إِذَا أَشَارُوا أَشَارُوا عَنْ عَيْنٍ لَا عَنْ عِلْمٍ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَصْدَرِهَا، فَإِشَارَةٌ عَنْ عِلْمٍ وَإِشَارَةٌ عَنْ كَشْفٍ، وَإِشَارَةٌ عَنْ شُهُودٍ، وَإِشَارَةٌ عَنْ عَيْنٍ. [فَصْلٌ مَبْنَى الْبَابِ عَلَى مَحْوِ الْأَسْبَابِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا وَالْوُقُوفِ مَعَهَا] فَصْلٌ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مَبْنَاهُ عَلَى مَحْوِ الْأَسْبَابِ، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا وَالْوُقُوفِ مَعَهَا، وَلِهَذَا سَمَّى الْمُصَنِّفُ نَصْبَهَا " تَلْبِيسًا ".

وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الدِّينَ هُوَ إِثْبَاتُ الْأَسْبَابِ، وَالْوُقُوفُ مَعَهَا، وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا، وَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا، وَإِنَّهُ لَا دِينَ إِلَّا بِذَلِكَ، كَمَا لَا حَقِيقَةَ إِلَّا بِهِ، فَالْحَقِيقَةُ وَالشَّرِيعَةُ: مَبْنَاهُمَا عَلَى إِثْبَاتِهَا، لَا عَلَى مَحْوِهَا، وَلَا نُنْكِرُ الْوُقُوفَ مَعَهَا، فَإِنَّ الْوُقُوفَ مَعَهَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، لَا يَتِمُّ إِسْلَامُهُ وَإِيمَانُهُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَمْرَنَا بِالْوُقُوفِ مَعَهَا، بِمَعْنَى أَنَّا نُثْبِتُ الْحُكْمَ إِذَا وُجِدَتْ، وَنَنْفِيهِ إِذَا عُدِمَتْ، وَنَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى حُكْمِهِ الْكَوْنِيِّ، فَوُقُوفُنَا مَعَهَا - بِهَذَا الِاعْتِبَارِ - هُوَ مُقْتَضَى الْحَقِيقَةِ وَالشَّرِيعَةِ، وَهَلْ يُمَكِّنُ حَيَوَانًا أَنْ يَعِيشَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِلَّا بِوُقُوفِهِ مَعَ الْأَسْبَابِ؟ فَيَنْتَجِعَ مَسَاقِطَ غَيْثِهَا وَمَوَاقِعَ قَطْرِهَا، وَيَرْعَى فِي خَصِبِهَا دُونَ جَدِبِهَا، وَيُسَالِمَهَا وَلَا يَحَارُ بِهَا، فَكَيْفَ وَتَنَفُّسُهُ فِي الْهَوَاءِ بِهَا، وَتَحَرُّكُهُ بِهَا، وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ بِهَا، وَغِذَاؤُهُ بِهَا، وَدَوَاؤُهُ بِهَا، وَهُدَاهُ بِهَا، وَسَعَادَتُهُ وَفَلَاحُهُ بِهَا؟ وَضَلَالُهُ وَشَقَاؤُهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَإِلْغَائِهَا، فَأَسْعَدُ النَّاسِ فِي الدَّارَيْنِ: أُقْوَمُهُمْ بِالْأَسْبَابِ الْمُوصِلَةِ إِلَى مَصَالِحِهِمَا، وَأَشْقَاهُمْ فِي الدَّارَيْنِ: أَشُدُّهُمْ تَعْطِيلًا لِأَسْبَابِهِمَا، فَالْأَسْبَابُ مَحَلُّ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالنَّجَاحِ وَالْخُسْرَانِ. وَبِالْأَسْبَابِ عُرِفَ اللَّهُ، وَبِهَا عُبِدَ اللَّهُ، وَبِهَا أُطِيعَ اللَّهُ، وَبِهَا تَقَرَّبَ إِلَيْهِ الْمُتَقَرِّبُونَ، وَبِهَا نَالَ أَوْلِيَاؤُهُ رِضَاهُ وَجِوَارَهُ فِي جَنَّتِهِ، وَبِهَا نُصِرَ حِزْبُهُ وَدِينُهُ، وَأَقَامُوا دَعْوَتَهُ، وَبِهَا أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ، وَبِهَا انْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى سَعِيدٍ وَشَقِيٍّ، وَمُهْتَدٍ وَغَوِيٍّ، فَالْوُقُوفُ مَعَهَا وَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا: هُوَ الْوَاجِبُ شَرْعًا، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ قَدَرًا، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ غَلُظَ حِجَابُهُ، وَكَثُفَ طَبْعُهُ فَيَقُولُ: لَا نَقِفُ مَعَهَا وُقُوفَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِالْإِحْدَاثِ وَالتَّأْثِيرِ، وَأَنَّهَا أَرْبَابٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدْتَ أَحَدًا يَزْعُمُ ذَلِكَ، وَيَظُنُّ أَنَّهَا أَرْبَابٌ، وَآلِهَةٌ مَعَ اللَّهِ مُسْتَقِلَّةٌ بِالْإِيجَادِ، أَوْ أَنَّهَا عَوْنٌ لِلَّهِ يَحْتَاجُ فِي فِعْلِهِ إِلَيْهَا، أَوْ أَنَّهَا شُرَكَاءُ لَهُ: فَشَأْنُكَ بِهِ، فَمَزِّقْ أَدِيمَهُ، وَتَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ بِعَدَاوَتِهِ مَا اسْتَطَعْتَ، وَإِلَّا فَمَا هَذَا النَّفْيُ لِمَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ؟ وَالْإِلْغَاءُ لِمَا اعْتَبَرَهُ؟ وَالْإِهْدَارُ لِمَا حَقَّقَهُ؟ وَالْحَطُّ وَالْوَضْعُ لِمَا نَصَبَهُ؟ وَالْمَحْوُ لِمَا كَتَبَهُ؟ وَالْعَزْلُ لِمَا وَلَّاهُ؟ فَإِنْ زَعَمَتْ أَنَّكَ تَعْزِلُهَا عَنْ رُتْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ وَلَّاهَا هَذِهِ الرُّتْبَةَ حَتَّى تَجْعَلَ سَعْيَكَ فِي عَزْلِهَا عَنْهَا؟ وَيَالَلَّهِ مَا أَجْهَلَ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ إِلَّا بِإِلْغَائِهَا وَمَحْوِهَا، وَإِهْدَارِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قُوًى وَلَا طَبَائِعَ، وَلَا غَرَائِزَ لَهَا تَأْثِيرُ مُوجِبَةٍ مَا، وَلَا فِي النَّارِ حَرَارَةً وَلَا إِحْرَاقًا، وَلَا فِي الدَّوَاءِ قُوَّةً مُذْهِبَةً لِلدَّاءِ، وَلَا فِي الْخُبْزِ قُوَّةً مُشْبِعَةً، وَلَا فِي الْمَاءِ قُوَّةً مُرَوِّيَةً، وَلَا فِي الْعَيْنِ قُوَّةً بَاصِرَةً، وَلَا فِي الْأَنْفِ قُوَّةً شَامَّةً، وَلَا فِي السُّمِّ قُوَّةً قَاتِلَةً، وَلَا فِي الْحَدِيدِ قُوَّةً قَاطِعَةً؟

فصل الوجود

وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا بِشَيْءٍ، وَلَا فَعَلَ شَيْئًا لِأَجْلِ شَيْءٍ. فَهَذَا غَايَةُ تَوْحِيدِهِمُ الَّذِي يَحُومُونَ حَوْلَهُ، وَيُبَالِغُونَ فِي تَقْرِيرِهِ. فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ أَضْحَكُوا عَلَيْهِمُ الْعُقَلَاءَ، وَأَشْمَتُوا بِهِمُ الْأَعْدَاءِ، وَنَهَجُوا لِأَعْدَاءِ الرُّسُلِ طَرِيقَ إِسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِمْ، وَجَنَوْا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ أَعْظَمَ جِنَايَةٍ، وَقَالُوا: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، الْمُوَكَّلُونَ بِكَسْرِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ وَأَعْدَاءِ الرُّسُلِ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ كَسَرُوا الدِّينَ وَسَلَّطُوا عَلَيْهِ الْمُبْطِلِينَ، وَقَدْ قِيلَ: إِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الْجَاهِلِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرُّكَ. فَقِفْ مَعَ الْأَسْبَابِ حَيْثُ أُمِرْتَ بِالْوُقُوفِ مَعَهَا، وَفَارِقْهَا حَيْثُ أُمِرْتَ بِمُفَارَقَتِهَا، كَمَا فَارَقَهَا الْخَلِيلُ وَهُوَ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ مِنَ الْمَنْجَنِيقِ، حَيْثُ عَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. وَدُرْ مَعَهَا حَيْثُ دَارَتْ، نَاظِرًا إِلَى مَنْ أَزِمَّتُهَا بِيَدَيْهِ، وَالْتَفَتَ إِلَيْهَا الْتِفَاتَ الْعَبْدِ الْمَأْمُورِ إِلَى تَنْفِيذِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَالتَّحْدِيقِ نَحْوَهُ، وَارْعَهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَلَا تَغِبْ عَنْهَا وَلَا تَفْنَ عَنْهَا، بَلِ انْظُرْ إِلَيْهَا وَهِيَ فِي رُتْبَتِهَا الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ غَيْبَتَكَ بِمُسَبِّبِهَا عَنْهَا نَقْصٌ فِي عُبُودِيَّتِكَ، بَلِ الْكَمَالُ: أَنَّ تَشْهَدَ الْمَعْبُودَ، وَتَشْهَدَ قِيَامَكَ بِعُبُودِيَّتِهِ، وَتَشْهَدَ أَنَّ قِيَامَكَ بِهِ لَا بِكَ، وَمِنْهُ لَا مِنْكَ، وَبِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ لَا بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، وَمَتَى خَرَجْتَ عَنْ ذَلِكَ وَقَعْتَ فِي انْحِرَافَيْنِ، لَابُدَّ لَكَ مِنْ أَحَدِهِمَا: إِمَّا أَنْ تَغِيبَ بِهَا عَنِ الْمَقْصُودِ لِذَاتِهِ، لِضَعْفِ نَظَرِكَ وَغَفْلَتِكَ، وَقُصُورِ عِلْمِكَ وَمَعْرِفَتِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَغِيبَ بِالْمَقْصُودِ عَنْهَا، بِحَيْثُ لَا تَلْتَفِتُ إِلَيْهَا. وَالْكَمَالُ: أَنْ يُسَلِّمَكَ اللَّهُ مِنَ الِانْحِرَافَيْنِ، فَتَبْقَى عَبْدًا مُلَاحِظًا لِلْعُبُودِيَّةِ، نَاظِرًا إِلَى الْمَعْبُودِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. [فَصْلٌ الْوُجُودُ] [حَقِيقَةُ الْوُجُودِ] فَصْلٌ الْوُجُودُ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: " (بَابُ الْوُجُودِ) أَطْلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ اسْمَ الْوُجُودِ عَلَى نَفْسِهِ صَرِيحًا فِي مَوَاضِعَ، فَقَالَ تَعَالَى {يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا - لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 110 - 64]

{وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور: 39] الْوُجُودُ: الظَّفَرُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، وَهُوَ اسْمٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا: وُجُودُ عِلْمٍ لَدُنِّيِّ، يَقْطَعُ عُلُومَ الشَّوَاهِدِ فِي صِحَّةِ مُكَاشَفَةِ الْحَقِّ إِيَّاكَ، وَالثَّانِي: وُجُودُ الْحَقِّ وُجُودَ عَيْنٍ مُنْقَطِعًا عَنْ مَسَاغِ الْإِشَارَةِ، وَالثَّالِثُ: وُجُودُ مَقَامِ اضْمِحْلَالِ رَسْمِ الْوُجُودِ فِيهِ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي الْأَوَّلِيَّةِ. هَذَا الْبَابُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي شَمَّرَ إِلَيْهِ الْقَوْمُ، وَالْغَايَةُ الَّتِي قَصَدُوهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا مَعْنًى صَحِيحًا، وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالْوُجُودِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَنَظِيرِهَا، وَلَكِنْ لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ مَا تَضَمَّنُهُ الْوِجْدَانُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَإِنَّهُ وِجْدَانُ الْمَطْلُوبِ تَعَلَّقَ بِاسْمٍ أَوْ صِفَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] فَهَذَا وُجُودٌ مُقَيَّدٌ بِظَفَرِهِمْ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَجِدُ مَا ظَنَّهُ مَنْ مَغْفِرَةُ اللَّهِ لَهُ حَاصِلَةٌ، وَكَذَلِكَ {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39] فَهَذَا وِجْدَانُ الْكَافِرِ لِرَبِّهِ عِنْدَ حِسَابِهِ لَهُ عَلَى أَعْمَالِهِ، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْوُجُودَ الَّذِي يُشِيرُ الْقَوْمُ إِلَيْهِ، بَلْ مِنْهُ الْأَثَرُ الْمَعْرُوفُ «ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ،» وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي،» وَمِنْهُ الْأَثَرُ الْإِسْرَائِيلِيُّ: أَنَّ مُوسَى قَالَ: يَا رَبِّ أَيْنَ أَجِدُكَ؟ قَالَ: عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عَبْدِي، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أُطْعِمُكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدَتْ ذَلِكَ عِنْدِي، عَبْدِي اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا لَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، عَبْدِي مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ

رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: مَرِضَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ» . فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ فِي الْإِطْعَامِ وَالْإِسْقَاءِ «لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي» وَقَوْلَهُ فِي الْعِيَادَةِ «لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ» وَلَمْ يَقُلْ: لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، إِيذَانًا بِقُرْبِهِ مِنَ الْمَرِيضِ، وَأَنَّهُ عِنْدَهُ، لِذُلِّهِ وَخُضُوعِهِ، وَانْكِسَارِ قَلْبِهِ، وَافْتِقَارِهِ إِلَى رَبِّهِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ وُجُودَ اللَّهِ عِنْدَهُ، هَذَا، وَهُوَ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ عِنْدَ عَبْدِهِ، فَوُجُودُ الْعَبْدِ عِنْدَ رَبِّهِ ظَفَّرَهُ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ. وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: سَالِكٌ، وَوَاصِلٌ، وَوَاجِدٌ. فَإِنْ قُلْتَ: اضْرِبْ لِي مَثَلًا، أَفْهَمُ بِهِ مَعْنَى الْوُصُولِ فِي هَذَا الْبَابِ وَالْوُجُودِ. قُلْتُ: إِذَا بَلَغَكَ أَنَّ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا كَنْزًا عَظِيمًا، مَنْ ظَفِرَ بِهِ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ، اسْتَغْنَى غِنَى الدَّهْرِ، وَتَرَحَّلَ عَنْهُ الْعَدَمُ وَالْفَقْرُ، فَتَحَرَّكَتْ نَفْسُهُ لِلسَّيْرِ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ فِي التَّأَهُّبِ لِلْمَسِيرِ، فَلَمَّا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ انْتَهَى إِلَى الْكَنْزِ وَوَصَلَ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِتَحْوِيلِهِ إِلَى دَارِهِ، وَحُصُولِهِ عِنْدَهُ بَعْدُ، فَهُوَ وَاصِلٌ غَيْرُ وَاجِدٍ، وَالَّذِي فِي الطَّرِيقِ سَالِكٌ، وَالْقَاعِدُ عَنِ الطَّلَبِ مُنْقَطِعٌ، وَآخِذُ الْكَنْزِ - بِحَيْثُ حَصَلَ عِنْدَهُ، وَصَارَ فِي دَارِهِ - وَاجِدٌ، فَهَذَا الْمَعْنَى حَوْلَهُ حَامَ الْقَوْمُ، وَعَلَيْهِ دَارَتْ إِشَارَاتُهُمْ فَعِنْدَهُمُ التَّوَاجُدُ بِدَايَةٌ، وَالْوَاجِدُ وَاسِطَةٌ، وَالْوُجُودُ نِهَايَةٌ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ يَتَكَلَّفُ التَّوَاجُدَ، فَيَقْوَى عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ وَاجِدًا، ثُمَّ يَسْتَغْرِقُ فِي وَجْدِهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَوْجُودِهِ. وَيَسْتَشْكِلُ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ النُّورِيِّ: أَنَا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً بَيْنَ الْوَجْدِ وَالْفَقْدِ إِذَا وَجَدْتُ رَبِّي فَقَدْتُ قَلْبِي، وَإِذَا وَجَدْتُ قَلْبِي فَقَدْتُ رَبِّي، وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْوُجُودَ الصَّحِيحَ يُغَيِّبُ الْوَاجِدَ عَنْهُ، وَيُجَرِّدُهُ مِنْهُ، فَيَفْنَى بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ، وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، فَإِذَا وَجَدَ الْحَقِيقَةَ غَابَ عَنْ قَلْبِهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ، وَإِذَا غَابَتْ عَنْهُ الْحَقِيقَةُ بَقِيَ مَعَ صِفَاتِهِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ: وُجُودِي أَنْ أَغِيبَ عَنِ الْوُجُودِ ... بِمَا يَبْدُو عَلَيَّ مِنَ الشُّهُودِ

وَمَا فِي الْوَجْدِ مَوْجُودٌ وَلَكِنْ فَخَرْتُ بِوَجْدِ مَوْجُودِ الْوُجُودِ وَقَدْ مَثَّلَ التَّوَاجُدَ وَالْوَجْدَ وَالْوُجُودَ بِمُشَاهَدَةِ الْبَحْرِ وَرُكُوبِهِ وَالْغَرَقِ فِيهِ، فَقِيلَ: التَّوَاجُدُ يُوجِبُ اسْتِيعَابَ الْعَبْدِ، وَالْوَجْدُ: يُوجِبُ اسْتِغْرَاقَ الْعَبْدِ، وَالْوُجُودُ: يُوجِبُ اسْتِهْلَاكَ الْعَبْدِ، وَهَذِهِ عِبَارَاتٌ وَاسْتِعَارَاتٌ لِلْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الْبِدَايَةُ، وَالتَّوَسُّطُ، وَالنِّهَايَةُ، وَالسُّلُوكُ وَالْوُصُولُ - عِنْدَهُمْ - قُصُودٌ، ثُمَّ وُرُودٌ، ثُمَّ شُهُودٌ، ثُمَّ وُجُودٌ، ثُمَّ خُمُودٌ، فَيَقْصِدُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَرِدُ، ثُمَّ يَشْهَدُ، ثُمَّ يَجِدُ، ثُمَّ تَخْمَدُ نَفْسُهُ، وَتَذْهَبُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالْوَجْدُ مَا يَرِدُ عَلَى النَّاظِرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُكْسِبُهُ فَرَحًا أَوْ حُزْنًا، وَهِيَ فَرْحَةٌ يَجِدُهَا الْمَغْلُوبُ عَلَيْهِ بِصِفَاتٍ شَرِيفَةٍ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا، وَالتَّوَاجُدُ اسْتِجْلَابُ الْوَجْدِ بِالتَّذَكُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، لِاتِّسَاعِ فُرْجَةِ الْوَجْدِ بِالْخُرُوجِ إِلَى فَضَاءِ الْوِجْدَانِ، فَلَا وَجْدَ عِنْدَهُمْ مَعَ الْوِجْدَانِ، كَمَا لَا خَبَرَ مَعَ الْعِيَانِ، وَالْوَجْدُ عُرْضَةٌ لِلزَّوَالِ، وَالْوُجُودُ ثَابِتٌ ثُبُوتَ الْجِبَالِ، وَقَدْ قِيلَ: قَدْ كَانَ يُطْرِبُنِي وَجْدِي فَأَقْعَدَنِي ... عَنْ رُؤْيَةِ الْوَجْدِ مَنْ بِالْوَجْدِ مَوْجُودُ وَالْوَجْدُ يُطْرِبُ مَنْ فِي الْوَجْدِ رَاحَتُهُ ... وَالْوَجْدُ عِنْدَ حُضُورِ الْحَقِّ مَقْصُودُ فَالتَّوَاجُدُ: اسْتِدْعَاءُ الْوَجْدِ بِنَوْعِ اخْتِيَارٍ وَتَكَلُّفٍ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ كَمَالُ الْوَجْدِ، إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لَكَانَ وَجْدًا، وَبَابُ التَّفَاعُلِ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى إِظْهَارِ الصِّفَةِ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، كَمَا قِيلَ: إِذًا تَخَازَرْتُ وَمَا بِي مِنْ خَزَرِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّوَاجُدِ: هَلْ يَسلَمُ لِصَاحِبِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَسْلَمُ لِصَاحِبِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَإِظْهَارِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَقَوْمٌ قَالُوا: يَسْلَمُ لِلصَّادِقِ الَّذِي يَرْصُدُ لِوِجْدَانِ الْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا» . وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ صَاحِبَ التَّوَاجُدِ إِنْ تَكَلَّفَهُ لِحَظٍّ وَشَهْوَةِ نَفْسٍ: لَمْ يَسْلَمْ لَهُ، وَإِنْ

فصل تكلم الفلاسفة والمتكلمون والاتحادية في الوجود بما هو أبعد شيء عن الصواب

تَكَلَّفَهُ لِاسْتِجْلَابِ حَالٍ، أَوْ مَقَامٍ مَعَ اللَّهِ: سَلِمَ لَهُ، وَهَذَا يُعْرَفُ مِنْ حَالِ الْمُتَوَاجِدِ، وَشَوَاهِدِ صِدْقِهِ وَإِخْلَاصِهِ. [فَصْلٌ تَكَلَّمَ الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ وَالِاتِّحَادِيَّةُ فِي الْوُجُودِ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ شَيْءٍ عَنِ الصَّوَابِ] فَصْلٌ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي " الْوُجُودِ " الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ وَالِاتِّحَادِيَّةُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ شَيْءٍ عَنِ الصَّوَابِ: هَلْ وُجُودِ الشَّيْءِ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ، أَوْ غَيْرُ مَاهِيَّتِهِ؟ أَوْ وُجُودُ الْقَدِيمِ نَفْسُ مَاهِيَّتِهِ؟ أَوْ وُجُودُ الْحَادِثِ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ؟ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ خَطَأٌ، وَأَصْحَابُهَا كَخَابِطِ عَشْوَاءَ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْوُجُودَ وَالْمَاهِيَّةَ إِنْ أُخِذَا ذِهْنِيَّيْنِ فَالْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ عَيْنُ الْمَاهِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أُخِذَا خَارِجِيَّيْنِ: اتَّحَدَا أَيْضًا، فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ وُجُودٌ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ الْخَارِجِيَّةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ كَالثَّوْبِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْبَدَنِ، هَذَا خَيَالٌ مَحْضٌ، وَكَذَلِكَ حُصُولُ الْمَاهِيَّةِ فِي الذِّهْنِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِهَا، فَلَيْسَ فِي الذِّهْنِ مَاهِيَّةٌ وَوُجُودُ مُتَغَايِرَيْنِ، بَلْ إِنْ أُخِذَ أَحَدُهُمَا ذِهْنِيًا وَالْآخَرُ خَارِجِيًّا، فَأَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بَحْثَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهَا بَعِيدَةٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَهِيَ مِنْ وَظَائِفِ أَرْبَابِ الْجَدَلِ وَالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ، لَا مِنْ وَظَائِفِ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ وَالْمُعَامَلَاتِ، فَهَؤُلَاءِ هِمَمُهُمْ فِي أَنْ يَجِدُوا مَطْلُوبَهُمْ، وَيَظْفَرُوا بِهِ، وَأُولَئِكَ شَاكُّونَ فِي وُجُودِهِ: هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ، أَوْ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ؟ وَهَلْ هُوَ وُجُودُ مُطْلَقٌ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ وَصْفٌ وَلَا اسْمٌ؟ أَمْ وُجُودٌ خَاصٌّ تُضَافُ إِلَيْهِ الصِّفَاتُ وَالْأَسْمَاءُ؟ فَهَؤُلَاءِ فِي وَادٍ وَهَؤُلَاءِ فِي وَادٍ. وَأَعْظَمُ الْخَلْقِ كُفْرًا وَضَلَالًا: مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ نَفْسُ وُجُودِ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنْ عَيْنَ وُجُودِهِ فَاضَ عَلَيْهَا فَاكْتَسَتْ عَيْنَ وُجُودِهِ، فَاتَّخَذَ حِجَابًا مِنْ أَعْيَانِهَا، وَاكْتَسَتْ جِلْبَابًا مِنْ وُجُودِهِ، وَلَبَّسَ عَلَيْهِمْ مَا لَبَّسُوهُ عَلَى ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ مِنْ عَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ وُجُودِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَإِيجَادِهِ، وَأَنَّ إِيجَادَهُ هُوَ الَّذِي فَاضَ عَلَيْهَا، وَهُوَ الَّذِي اكْتَسَتْهُ، وَأَمَّا وُجُودُهُ: فَمُخْتَصٌّ بِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، كَمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِمَاهِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ، فَهُوَ بَائِنٌ عَنْ خَلْقِهِ، وَالْخَلْقُ بَائِنُونَ عَنْهُ، فَوُجُودُ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ

فصل حد الوجود

لَمْ يَكُنْ، حَاصِلٌ بِإِيجَادِهِ لَهُ، فَهُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، وَوُجُودَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ، وَبَانَ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَوُجُودِهِ عَنْ خَلْقِهِ. [فَصْلٌ حَدُّ الْوُجُودِ] فَصْلٌ قَوْلُهُ: " الْوُجُودُ: اسْمٌ لِلظَّفَرِ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، هَذَا الْوُجُودُ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ وَجَدَ الشَّيْءَ يَجِدُهُ وُجُودًا، وَوَجَدَ ضَالَّتَهُ وِجْدَانًا، وَفِي الصِّحَاحِ: أَوْجَدَهُ اللَّهُ مَطْلُوبَهُ أَيْ أَظْفَرَهُ بِهِ، وَأَوْجَدَهُ أَيْ أَغْنَاهُ، أَيْ جَعَلَهُ ذَا جِدَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وَيُقَالُ: وَجَدَ فُلَانٌ وُجْدًا وَوَجْدًا - بِضَمِّ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا - إِذَا صَارَ ذَا جِدَةٍ وَثَرْوَةٍ، وَوُجِدَ الشَّيْءُ فَهُوَ مَوْجُودٌ وَأَوْجَدَهُ اللَّهُ، وَيُقَالُ: وَجَدَ اللَّهُ الشَّيْءَ كَذَا وَكَذَا، عَلَى غَيْرِ مَعْنًى أَوْجَدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَدَهُ عَلَى عِلْمِهِ، بِأَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةٍ، ثُمَّ وَجَدَهُ بَعْدَ إِيجَادِهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الَّتِي عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْوَاجِدُ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ: فَهُوَ بِمَعْنَى ذُو الْوُجْدِ وَالْغِنَى، وَهُوَ ضِدُّ الْفَاقِدِ، وَهُوَ كَالْمُوْسِعِ ذِي السَّعَةِ، قَالَ تَعَالَى {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] أَيْ ذَوُو سَعَةٍ وَقُدْرَةٍ وَمُلْكٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وَدَخَلَ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ الْوَاجِدُ دُونَ الْمُوجِدِ فَإِنَّ الْمُوجِدَ صِفَةُ فِعْلٍ، وَهُوَ مُعْطِي الْوُجُودِ، كَالْمُحْيِي مُعْطِي الْحَيَاةِ وَهَذَا الْفِعْلُ لَمْ يَجِئْ إِطْلَاقُهُ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، فَلَا يُعْرَفُ إِطْلَاقُ: أَوْجَدَ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّمَا الَّذِي جَاءَ خَلَقَهُ وَبَرَأَهُ، وَصَوَّرَهُ وَأَعْطَاهُ خَلْقَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ يُسْتَعْمَلُ فِعْلُهُ لَمْ يَجِئِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، فَإِنَّ الْفِعْلَ أَوْسَعُ مِنَ الِاسْمِ، وَلِهَذَا أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْعَالًا لَمْ يَتَسَمَّ مِنْهَا بِأَسْمَاءِ الْفَاعِلِ، كَأَرَادَ، وَشَاءَ، وَأَحْدَثَ، وَلَمْ يُسَمَّ بِالْمُرِيدِ وَالشَّائِي وَالْمُحَدِثِ، كَمَا لَمْ يُسَمِّ نَفْسَهُ بِالصَّانِعِ وَالْفَاعِلِ وَالْمُتْقِنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ، فَبَابُ الْأَفْعَالِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الْأَسْمَاءِ. وَقَدْ أَخْطَأَ - أَقْبَحَ خَطَأٍ - مَنِ اشْتَقَّ لَهُ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ اسْمًا، وَبَلَغَ بِأَسْمَائِهِ زِيَادَةً عَلَى الْأَلْفِ، فَسَمَّاهُ الْمَاكِرُ، وَالْمُخَادِعُ، وَالْفَاتِنُ، وَالْكَائِدُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ بَابُ

الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالِاسْمِ أَوْسَعُ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ شَيْءٌ، وَمَوْجُودٌ، وَمَذْكُورٌ، وَمَعْلُومٌ، وَمُرَادٌ، وَلَا يُسَمَّى بِذَلِكَ. فَأَمَّا الْوَاجِدُ فَلَمْ تَجِئْ تَسْمِيَتُهُ بِهِ إِلَّا فِي حَدِيثِ تَعْدَادِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ ذُو الْوَجْدِ وَالْغِنَى، فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُسَمَّى بِهِ مِنَ الْمَوْجُودِ وَمِنَ الْمُوجِدِ، أَمَّا الْمَوْجُودُ فَإِنَّهُ مُنْقَسِمٌ إِلَى كَامِلٍ وَنَاقِصٍ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمَا كَانَ مُسَمَّاهُ مُنْقَسِمًا لَمْ يَدْخُلِ اسْمُهُ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، كَالشَّيْءِ وَالْمَعْلُومِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُسَمَّ بِالْمُرِيدِ، وَلَا بِالْمُتَكَلِّمِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ الْإِرَادَةُ وَالْكَلَامُ، لِانْقِسَامِ مُسَمَّى الْمُرِيدِ وَالْمُتَكَلِّمِ، وَأَمَّا الْمُوجِدُ فَقَدْ سَمَّى نَفْسَهُ بِأَكْمَلِ

أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ الْخَالِقُ، الْبَارِئُ، الْمُصَوِّرُ فَالْمُوجِدُ كَالْمُحْدِثِ وَالْفَاعِلِ وَالصَّانِعِ. وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ فِقْهِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، فَتَأَمَّلْهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ الظَّفَرُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، إِنْ كَانَ فِي بَابِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فَهُوَ مَعْرِفَةٌ تَجْرِي فَوْقَ حُدُودِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُعَايَنِ كَانَ مُعَايَنَةً، وَهِيَ فَوْقَ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ كَانَ لِلطَّالِبِ فَهُوَ جَمْعِيَّةٌ لَهُ بِكُلِّهِ عَلَى مَطْلُوبِهِ، وَإِنْ كَانَ لِصَاحِبِ الْجَمْعِ كَانَ جَمْعِيَّةً وُجُودِيَّةً، تُغْنِيهِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ " هُوَ اسْمٌ لِثَلَاثِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا: وُجُودُ عِلْمٍ لَدُنِّيِّ، يَقْطَعُ عُلُومَ الشَّوَاهِدِ " الْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ - عِنْدَهُمْ - هُوَ الْمَعْرِفَةُ، وَسُمِّيَ لَدُنِّيًّا؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْحَقِّ، وَارِدٌ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ، يَقْطَعُ الْوَسَاوِسَ، وَيُزِيلُ الشُّكُوكَ، وَيَحُلُّ مَحَلَّ الْعِيَانِ، فَيَصِيرُ لِصَاحِبِهِ كَالْوِجْدَانِيَّاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا عَنِ النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: يَقْطَعُ عُلُومَ الشَّوَاهِدِ، فَعُلُومُ الشَّوَاهِدِ - عِنْدَهُ - هِيَ عُلُومُ الِاسْتِدْلَالِ، وَهِيَ تَنْقَطِعُ بِوِجْدَانِ هَذَا الْعِلْمِ، أَيْ يَرْتَقِي صَاحِبُهُ عَنْهَا إِلَى مَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْهَا، لَا أَنَّهَا يَبْطُلُ حُكْمُهَا، وَيَزُولُ رَسْمُهَا، وَلَكِنْ صَاحِبُ الْوُجُودِ قَدِ ارْتَقَى عَنِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالشَّوَاهِدِ إِلَى الْعِلْمِ الْمُدْرَكِ بِالذَّوْقِ وَالْحِسِّ الْبَاطِنِ. قَوْلُهُ " فِي صِحَّةِ مُكَاشَفَةِ الْحَقِّ إِيَّاكَ " مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ " يَقْطَعُ عُلُومَ الشَّوَاهِدِ " أَيْ يَقْطَعُهَا فِي كَوْنِ الْحَقِّ كَشَفَ لَكَ كَشْفًا صَحِيحًا، قَطَعَ عَنْكَ الْحَاجَةَ إِلَى الشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ. قَوْلُهُ: " وَالثَّانِي: وُجُودُ الْحَقِّ وُجُودَ عَيْنٍ "، أَيْ وُجُودَ مُعَايَنَةٍ لَا وُجُودَ خَبَرٍ، وَمُرَادُهُ: مُعَايَنَةُ الْقَلْبِ لَهُ بِحَقِيقَةِ الْيَقِينِ. قَوْلُهُ " مُنْقَطِعًا عَنْ مَسَاغِ الْإِشَارَةِ " لَمَّا كَانَتِ الدَّرَجَةُ الْأَوْلَى وُجُودَ عِلْمٍ، وَهَذِهِ وُجُودُ عِيَانٍ: قَامَ الْعِيَانُ فِيهَا مَقَامَ الْإِشَارَةِ، فَأَغْنَى عَنْهَا، فَإِنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَكُونُ ضَرُورِيًا، وَقَدْ يَكُونُ نَظَرِيًّا، وَالضَّرُورِيُّ: أَبْعَدُ عَنِ الِالْتِفَاتِ، وَعَنْ تَطَرُّقِ الْآفَاتِ، وَعَدَمِ الْغَفَلَاتِ، فَصَاحِبُهُ يُشَاهِدُ مَعْلُومَهُ بِنُورِ الْبَصِيرَةِ، كَمَا يُشَاهِدُ الْمُبْصِرَاتِ بِنُورِ الْبَصَرِ، وَلَمَّا كَانَتْ مَرْتَبَةُ الْمَعْرِفَةِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ، وَمَرْتَبَةُ الشُّهُودِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْمَعْرِفَةِ وَمَرْتَبَةُ الْوُجُودِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الشُّهُودِ، كَانَتِ الْعِبَارَةُ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْإِشَارَةُ فِي مَرْتَبَةِ الشُّهُودِ، فَإِنْ وَصَلَ إِلَى مَرْتَبَةِ الْوُجُودِ انْقَطَعَتِ الْإِشَارَاتُ،

فصل التجريد

وَاضْمَحَلَّتِ الْعِبَارَاتُ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْوُجُودِ فِي حَضْرَةِ الْوُجُودِ، فَمَا لَهُ وَمَا لِلْإِشَارَةِ؟ إِذِ الْإِشَارَةُ فِي هَذَا الْبَابِ إِنَّمَا تَكُونُ إِلَى غَائِبٍ بِوَجْهٍ مَا. قَوْلُهُ: " وَالثَّالِثُ: وُجُودُ مَقَامِ اضْمِحْلَالِ رَسْمِ الْوُجُودِ فِيهِ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي الْأَوَّلِيَّةِ ". هَذَا كَلَامٌ فِيهِ قَلَقٌ وَتَعْقِيدٌ، وَهُوَ بِاللُّغْزِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْبَيَانِ. وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: أَنَّهَا تَشْغَلُ صَاحِبَهَا بِمَوْجُودِهِ عَنْ إِدْرَاكِ كَوْنِهِ وَاجِدًا، فَلَمْ تَبْقِ فِيهِ بَقِيَّةٌ يَتَفَطَّنُ بِهَا لِكَوْنِهِ مُدْرِكًا لِمَوْجُودِهِ، لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ، فَقَدْ قَهَرَهُ وَمَحَقَهُ عَنْ شُعُورِهِ بِكَوْنِهِ وَاجِدًا لِمَوْجُودِهِ، فَهُوَ حَاضِرٌ مَعَ الْحَقِّ، غَائِبٌ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. فَالدَّرَجَةُ الْأُولَى: وُجُودُ عِلْمٍ، وَالثَّانِيَةُ: وُجُودُ عِيَانٍ، وَالثَّالِثَةُ: وُجُودُ مَقَامٍ اضْمَحَلَّ فِيهِ مَا سِوَى الْمَوْجُودِ، وَهَذَا مَعْنَى " اضْمِحْلَالِ رَسْمِ الْوُجُودِ فِيهِ "، وَلِهَذَا قَالَ: بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي الْأَوَّلِيَّةِ، فَإِنَّهُ إِذَا اسْتَغْرَقَ فِي شُهُودِ الْأَوَّلِيَّةِ اضْمَحَلَّ فِي هَذَا الشُّهُودِ كُلُّ حَادِثٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ التَّجْرِيدُ] [حَقِيقَةُ التَّجْرِيدِ] فَصْلٌ التَّجْرِيدُ قَالَ: " بَابُ التَّجْرِيدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] التَّجْرِيدُ: انْخِلَاعٌ عَنْ شُهُودِ الشَّوَاهِدِ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَجْرِيدُ عَيْنِ الْكَشْفِ عَنْ كَسْبِ الْيَقِينِ، وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَجْرِيدُ عَيْنِ الْجَمْعِ عَنْ دَرْكِ الْعِلْمِ، وَالدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: تَجْرِيدُ الْخَلَاصِ مِنْ شُهُودِ التَّجْرِيدِ ". وَجْهُ الْإِشَارَةِ بِالْآيَةِ - وَلَيْسَ هُوَ تَفْسِيرَهَا وَلَا الْمُرَادَ بِهَا - أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَخْلَعَ نَعْلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِهِ ذَلِكَ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ، إِمَّا لِتَنَالَ إِخْمَصُ قَدَمَيْهِ بِرْكَةَ الْوَادِي، وَإِمَّا لِأَنَّهُمَا كَانَتَا مِمَّا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ الْمَكَانَ بِهِمَا، قِيلَ: إِنَّهُمَا كَانَتَا مِنْ جِلْدِ

فصل درجات التجريد

حِمَارٍ غَيْرِ مُذَكًّى، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ أَمْرٌ بِالتَّجَرُّدِ مِنَ النَّعْلَيْنِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَتِلْكَ الْحَالِ. وَمَوْضِعُ الْإِشَارَةِ: أَنَّهُ أَمَرَ مُوسَى بِالتَّجَرُّدِ مِنْ نَعْلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِ الْوَادِي، فَعَلِمَ أَنَّ التَّجَرُّدَ شَرْطٌ فِي الدُّخُولِ فِيمَا لَا يَصْلُحُ الدُّخُولُ فِيهِ إِلَّا بِالتَّجَرُّدِ. وَعَلَى هَذَا، فَيُقَالُ لِمَنْ أَرَادَ الْوُصُولَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالدُّخُولَ عَلَيْهِ: اخْلَعْ مِنْ قَلْبِكَ مَا سِوَاهُ، وَادْخُلْ عَلَيْهِ، وَأَوَّلُ قَدَمٍ يُدْخَلُ بِهَا فِي الْإِسْلَامِ: أَنْ يَخْلَعَ الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَتَجَرَّدَ مِنْهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: اطْرَحْ عَنْكَ مَا لَا يَكُونُ صَالِحًا لِلْوَطْءِ بِهِ عَلَى هَذَا الْبِسَاطِ، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَادِيَ لَمَّا كَانَ مِنْ أَشْرَفِ الْأَوْدِيَةِ وَأَطْهَرِهَا - وَلِذَلِكَ اخْتَارَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْدِيَةِ لِتَكْلِيمِ نَبِيِّهِ وَكَلِيمِهِ - فَأَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعَظِّمَ ذَلِكَ الْوَادِي بِالْوَطْءِ فِيهِ حَافِيًا، كَمَا يُوطَأُ بِسَاطُ الْمَلِكِ، وَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مَوَاضِعِ صَلَوَاتِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَشَرِيعَتُنَا جَاءَتْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَصَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّعْلَيْنِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُصَلُّوا فِي نِعَالِهِمْ، وَقَالَ: «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ» فَالسُنَّةُ فِي دِينِنَا: الصَّلَاةُ فِي النِّعَالِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقِيلَ لَهُ: أَيُصَلِّي الرَّجُلُ فِي نَعْلَيْهِ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ. [فَصْلٌ دَرَجَاتُ التَّجْرِيدِ] [الدَّرَجَةُ الْأُولَى تَجْرِيدُ عَيْنِ الْكَشْفِ عَنْ كَسْبِ الْيَقِينِ] فَصْلٌ قَوْلُهُ: التَّجْرِيدُ: الِانْخِلَاعُ عَنْ شُهُودِ الشَّوَاهِدِ، وَالشَّوَاهِدُ عِنْدَهُ: هِيَ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَالِانْخِلَاعُ عَنِ الشُّهُودِ هُوَ غَيْبَةُ الشَّاهِدِ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي مَقَامِ الْمُعَايَنَةِ: فَإِنَّهُ لَا يَنْخَلِعُ عَنْ شُهُودِ الشَّوَاهِدِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُعَايِنًا لِلْمَشْهُودِ. قَوْلُهُ: " الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَجْرِيدُ عَيْنِ الْكَشْفِ عَنْ كَسْبِ الْيَقِينِ، أَيْ تَجْرِيدُ حَقِيقَةِ الْكَشْفِ عَنْ كَسْبِ الْيَقِينِ، أَيْ يَعْزِلُ مَا اكْتَسَبَهُ مِنَ الْيَقِينِ الْعِلْمِيِّ بِالْكَشْفِ الْحَقِيقِيِّ، فَتَجَرُّدُ الْكَشْفِ: أَنْ يُخَلِّصَهُ وَيُعَرِّيَهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْيَقِينِ، فَيَعْزِلَ مَا اكْتَسَبَهُ مِنَ

فصل الدرجة الثانية تجريد عين الجمع عن درك العلم

الْيَقِينِ الْعِلْمِيِّ بِالْكَشْفِ الْحَقِيقِيِّ. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ تَجْرِيدُ عَيْنِ الْجَمْعِ عَنْ دَرْكِ الْعِلْمِ] فَصْلٌ قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَجْرِيدُ عَيْنِ الْجَمْعِ عَنْ دَرْكِ الْعِلْمِ. " عَيْنُ الْجَمْعِ " هِيَ حَقِيقَةُ الْجَمْعِ، وَتَجْرِيدُهُ هُوَ أَنْ لَا يَشْهَدَ لِلْعِلْمِ فِيهَا آثَارًا، فَإِنَّ الْعِلْمَ مِنْ آثَارِ الرُّسُومِ، وَحَقِيقَةُ الْجَمْعِ تَمْحُو الرُّسُومَ، فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَبَدًا فِي تَجَرُّدٍ وَتَجْرِيدٍ، وَالدَّرْكُ هُوَ الْإِدْرَاكُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ دَرَجَةَ الْعِلْمِ أَسْفَلُ مِنْ دَرَجَةِ عَيْنِ الْجَمْعِ، فَيُجَرَّدُ الْجَمْعُ عَنِ الدَّرَجَةِ الَّتِي هِيَ أَسْفَلُ مِنْهُ، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ هَذَا حَالُ الْمُوَلَّهِينَ فِي الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْجَمْعِ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكَمَالٍ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الِانْحِلَالِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَجَرَّدَ مِنَ الْعِلْمِ وَمَا يُوجِبُهُ؛ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ النُّورِ الَّذِي يَكْشِفُ لَهُ الْحَقَائِقَ، وَيُمَيِّزُ لَهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ، فَالْكَشْفُ وَشُهُودُ الْحَقِيقَةِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْعِلْمِ: فَقَدْ يَنْسَلِخُ صَاحِبُهُ عَنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: هُوَ تَجْرِيدُ الْجَمْعِ عَنِ الْوُقُوفِ مَعَ مُجَرَّدِ الْعِلْمِ، فَلَا يَرْضَى بِالْعِلْمِ عَنْ مَقَامِ جَمْعِيَّةِ حَالِهِ وَقَلْبِهِ وَهَمِّهِ عَلَى اللَّهِ، بَلْ يَرْتَقِي مِنْ دَرَجَةِ الْعِلْمِ إِلَى دَرَجَةِ الْجَمْعِ مُصَاحِبًا لِلْعِلْمِ، غَيْرَ مُفَارِقٍ لِأَحْكَامِهِ، وَلَا جَاعِلٍ لَهُ غَايَةً يَقِفُ عِنْدَهَا. [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَجْرِيدُ الْخَلَاصِ مِنْ شُهُودِ التَّجْرِيدِ] فَصْلٌ قَوْلُهُ: " الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: تَجْرِيدُ الْخَلَاصِ مِنْ شُهُودِ التَّجْرِيدِ ". يَعْنِي: أَنْ لَا يَشْهَدَ تَجْرِيدَهُ لِمَنْ يُجَرِّدُهُ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ دَائِمًا قَدْ فَنِيَ عَمَّا سِوَى الْحَقِّ تَعَالَى، فَكَيْفَ يَتَّسِعُ مَعَ ذَلِكَ لِشُهُودِ وَصْفِهِ وَفِعْلِهِ؟ بَلْ أَفْنَاهُ تَجْرِيدُهُ عَنْ شُهُودِ تَجْرِيدِهِ.

فصل التفريد

[فَصْلٌ التَّفْرِيدُ] [حَدُّ التَّفْرِيدِ] قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: " بَابُ التَّفْرِيدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25] التَّفْرِيدُ: اسْمٌ لِتَخْلِيصِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَقِّ، ثُمَّ بِالْحَقِّ، ثُمَّ عَنِ الْحَقِّ ". الشَّيْخُ جَعَلَ التَّفْرِيدَ عَيْنَ التَّجْرِيدِ وَجَعَلَهُ بَعْدَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ التَّجْرِيدَ انْقِطَاعٌ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَالتَّفْرِيدَ إِفْرَادُ الْحَقِّ بِالْإِيثَارِ، فَالتَّفْرِيدُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْبُودِ، وَالتَّجْرِيدُ مُتَعَلِّقٌ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَجَعَلَهُ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ: تَخْلِيصُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَقِّ، ثُمَّ بِهِ، ثُمَّ عَنْهُ، فَهَاهُنَا أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: تَخْلِيصُ الْإِشَارَةِ، وَالثَّانِي: مُتَعَلِّقُ الْإِشَارَةِ. فَأَمَّا تَخْلِيصُهَا: فَهُوَ تَجْرِيدُهَا مِمَّا يُمَازِجُهَا وَيُخَالِطُهَا، وَأَمَّا مُتَعَلِّقُهَا، فَثَلَاثَةُ أُمُورٍ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَقِّ، وَبِهِ، وَعَنْهُ، فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ: غَايَةٌ، وَالْإِشَارَةُ بِهِ: وُجُودٌ، وَالْإِشَارَةُ عَنْهُ: إِخْبَارٌ وَتَبْلِيغٌ، فَمَنْ خَلَصَتْ إِشَارَتُهُ إِلَى الْحَقِّ كَانَ مِنَ الْمُخْلَصِينَ، وَمَنْ كَانَتْ إِشَارَتُهُ بِهِ فَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وَمَنْ كَانَتْ إِشَارَتُهُ عَنْهُ فَهُوَ مِنَ الْمُبَلِّغِينَ، وَمَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ الثَّلَاثَةُ فَهُوَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْعَارِفِينَ، فَالْكَمَالُ أَنْ تُشِيرَ إِلَيْهِ بِهِ عَنْهُ، فَتَخْلِيصُ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ هُوَ حَقِيقَةُ الْمُتَابَعَةِ، وَذَلِكَ هُوَ مَحْضُ الصِّدِّيقِيَّةِ، فَمَتَى اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي الْعَبْدِ، فَقَدْ خُلِعَتْ عَلَيْهِ خِلْعَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ، فَمَا كُلُّ مَنْ أَشَارَ إِلَى اللَّهِ أَشَارَ بِهِ، وَلَا كُلُّ مَنْ أَشَارَ بِهِ أَشَارَ عَنْهُ، وَالرُّسُلُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - أَجْمَعِينَ - هُمُ الَّذِينَ كَمَّلُوا الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَةَ، فَخَلَصَتْ إِشَارَتُهُمْ إِلَى اللَّهِ وَبِهِ وَعَنْهُ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ، ثُمَّ

الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ، وَمَا أَكْثَرَ مَا تُشَبَّهُ الْإِشَارَةُ إِلَى اللَّهِ وَبِهِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى النَّفْسِ وَالْإِشَارَةِ بِهَا، فَيُشِيرُ إِلَى نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، ظَانًّا أَنَّ إِشَارَتَهُ بِاللَّهِ وَإِلَى اللَّهِ، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا إِلَّا خَوَاصُّ الْعَارِفِينَ، الْفُقَهَاءُ فِي مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ وَالْمَقْصُودِ، وَهَاهُنَا انْقَطَعَ مَنِ انْقَطَعَ وَاتَّصَلَ مَنِ اتَّصَلَ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ! كَمْ مَنْ تَنَوَّعَ فِي الْإِشَارَةِ، وَبَالَغَ وَدَقَّقَ، وَحَقَّقَ، وَلَمْ تَعْدُ إِشَارَتُهُ نَفْسَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، أَشَارَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ أَشَارَ بِرَبِّهِ، وَإِنَّ فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَرَائِحَةَ كَلَامِهِ لَتُنَادِي عَلَيْهِ: أَنَا، وَبِي، وَعَنِّي. فَإِذَا خَلَصَتِ الْإِشَارَةُ - بِاللَّهِ، وَعَنِ اللَّهِ - مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ؛ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِاللَّهِ، خَالِصَةً لَهُ، مَقْبُولَةً لَدَيْهِ، رَاضِيًا بِهَا، وَعَلَى هَذَا كَانَ حِرْصُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، لَا عَلَى كَثْرَةِ الْعَمَلِ، وَلَا عَلَى تَدْقِيقِ الْإِشَارَةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَبِلَ مِنِّي عَمَلًا وَاحِدًا؛ لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى مَعْنَى أَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَشَأْنُ الْقَوْمِ كَانَ أَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَى تَخْلِيصِ الْأَعْمَالِ مِنْ شَوَائِبِ النُّفُوسِ، وَمُشَارَكَاتِ الْحُظُوظِ، فَكَانُوا يَخَافُونَ - لِكَمَالِ عِلْمِهِمْ بِاللَّهِ وَحُقُوقِهِ عَلَيْهِمْ - أَنَّ أَعْمَالَهُمْ لَمْ تَخْلُصْ مِنْ شَوَائِبِ حُظُوظِهِمْ، وَمُشَارَكَاتِ أَنْفُسِهِمْ، بِحَيْثُ تَكُونُ مُتَمَحِّصَةً لِلَّهِ وَبِاللَّهِ، وَمَأْخُوذَةً عَنِ اللَّهِ، فَمَنْ وَصَلَ لَهُ عَمَلٌ وَاحِدٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ وَصَلَ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى شَكُورٌ، إِذَا رَضِيَ مِنَ الْعَبْدِ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِهِ نَجَّاهُ، وَأَسْعَدَهُ بِهِ، وَثَمَّرَهُ لَهُ، وَبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَأَوْصَلَهُ بِهِ إِلَيْهِ، وَأَدْخَلَهُ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْطَعْهُ بِهِ عَنْهُ، فَمَا أَكْثَرَ الْمُنْقَطِعِينَ بِالْإِشَارَةِ عَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَبِالْعِبَادَةِ عَنِ الْمَعْبُودِ، وَبِالْمَعْرِفَةِ عَنِ الْمَعْرُوفِ؟ فَتَكُونُ الْإِشَارَاتُ وَالْمَعَارِفُ قِبْلَةَ قَلْبِهِ، وَغَايَةَ قَصْدِهِ، فَيَتَغَذَّى بِهَا، وَيَجِدُ مِنَ الْأُنْسِ بِهَا وَالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ مَا يَسْكُنُ قَلْبُهُ إِلَيْهِ، وَيَطْمَئِنُّ بِهِ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ، فَيَصِيرُ قَلْبُهُ مَحْبُوسًا عَنْ رَبِّهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَتَصِيرُ نَفْسُهُ رَاتِعَةً فِي رِيَاضِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَاجِدَةً لَهَا، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ وَاتَّصَلَ، وَعَلَى مَنْزِلِ الْوُجُودِ حَصَلَ، فَهُوَ دَقِيقُ الْإِشَارَةِ، لَطِيفُ الْعِبَارَةِ، فَفِيهِ فِي مَسَائِلِ السُّلُوكِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ لَمْ يَنْكَشِفْ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ هَذَا الْحِجَابُ بِحَالِ التَّجْرِيدِ وَالتَّفْرِيدِ، لَا بِمُجَرَّدِ عِلْمِ ذَلِكَ، فَبِتَفْرِيدِ الْمَعْبُودِ الْمَطْلُوبِ الْمَقْصُودِ عَنْ غَيْرِهِ، وَبِتَجْرِيدِ الْقَصْدِ وَالطَّلَبِ، وَالْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَاللَّجَأِ إِلَيْهِ عَنِ الْحُظُوظِ وَإِرَادَاتِ النَّفْسِ، فَيَنْكَشِفُ عَنِ الْقَلْبِ حِجَابُهُ، وَيَزُولُ عَنْهُ ظَلَامُهُ، وَيَطْلُعُ فِيهِ فَجْرُ التَّوْحِيدِ، وَتَبْزُغُ فِيهِ شَمْسُ الْيَقِينِ، وَتَسْتَنِيرُ لَهُ الطَّرِيقُ الْغَرَّاءُ، وَالْمَحَجَّةُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي لِيَلُهَا كَنَهَارِهَا.

فصل تفريد الإشارة إلى الحق

[فَصْلٌ تَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَقِّ] فَصْلٌ قَالَ: " فَأَمَّا تَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَقِّ: فَعَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: تَفْرِيدُ الْقَصْدِ عَطَشًا، ثُمَّ تَفْرِيدُ الْمَحَبَّةِ تَلَفًا، ثُمَّ تَفْرِيدُ الشُّهُودِ اتِّصَالًا ". ذَكَرَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: تَفْرِيدَ الْقَصْدِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالشُّهُودِ، فَالْقَصْدُ بِدَايَةٌ، وَالشُّهُودُ نِهَايَةٌ وَالْمَحَبَّةُ وَاسِطَةٌ، فَيُفْرِدُ قَصْدَهُ وَحُبَّهُ وَشُهُودَهُ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إِفْرَادَ مَطْلُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ وَمَشْهُودِهِ، فَيَكُونُ فَرْدًا لِفَرْدٍ، فَلَا يَنْقَسِمُ طَلَبُهُ، وَلَا حُبُّهُ، وَلَا شُهُودُهُ، وَلَا يَنْقَسِمُ مَطْلُوبُهُ وَمَحْبُوبُهُ وَمَشْهُودُهُ، فَتَفْرِيدُ الطَّلَبِ وَالْمَحَبَّةِ وَالشُّهُودِ صِدْقٌ، وَتَفْرِيدُ الْمَطْلُوبِ وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَشْهُودِ إِخْلَاصٌ. فَالصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ: هُوَ أَنْ تَبْذُلَ كُلَّكَ لِمَحْبُوبِكَ وَحْدَهُ، ثُمَّ تَحْتَقِرُ مَا بَذَلْتَ فِي جَنْبِ مَا يَسْتَحِقُّهُ، ثُمَّ لَا تَنْظُرُ إِلَى بَذْلِكَ. وَقَيَّدَ تَفْرِيدَ الْقَصْدِ بِالْعَطَشِ، وَتَفْرِيدَ الْمَحَبَّةِ بِالتَّلَفِ، وَتَفْرِيدَ الشُّهُودِ بِالِاتِّصَالِ، وَالْعَطَشُ - كَمَا قَالَ - هُوَ غَلَبَةُ وُلُوعٍ بِمَأْمُولٍ؟ وَالتَّلَفُ: هُوَ الْمَحَبَّةُ الْمُهْلِكَةُ، وَالِاتِّصَالُ: سُقُوطُ الْأَغْيَارِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، فَهَذَا حُكْمُ التَّفْرِيدِ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى. [تَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ بِالْحَقِّ] فَصْلٌ قَالَ: " وَأَمَّا تَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ بِالْحَقِّ: فَعَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، تَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ بِالِافْتِخَارِ بَوْحًا، وَتَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ بِالسُّلُوكِ مُطَالَعَةً، وَتَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ بِالْقَبْضِ غَيْرَةً. ذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: الِافْتِخَارَ، وَالسُّلُوكَ، وَالْقَبْضَ، فَالِافْتِخَارُ نَوْعَانِ: مَذْمُومٌ، وَمَحْمُودٌ، فَالْمَذْمُومُ: إِظْهَارُ مَرْتَبَتِهِ عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ تَرَفُّعًا عَلَيْهِمْ، وَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَالْمَحْمُودُ: إِظْهَارُ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ، وَالْمَقَامَاتِ الشَّرِيفَةِ، بَوْحًا بِهَا، أَيْ تَصْرِيحًا وَإِعْلَانًا، لَا عَلَى وَجْهِ الْفَخْرِ، بَلْ عَلَى وَجْهِ تَعْظِيمِ النِّعْمَةِ، وَالْفَرَحِ بِهَا، وَذِكْرِهَا، وَنَشْرِهَا، وَالتَّحَدُّثِ بِهَا، وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ فِي إِظْهَارِهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ» وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

أَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ أَتَى عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا وَإِنِّي لِثَالِثُ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ إِلَيَّ: أَنَّهُ لَا يُحِبُّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُنِي إِلَّا مُنَافِقٌ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ: إِنَّ هَاهُنَا عِلْمًا جَمًّا، لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعِينَ سُورَةً، وَإِنَّ زَيْدًا لَيَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، وَقَالَ أَيْضًا: مَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ نَزَلَتْ؟ وَمَاذَا أُرِيدَ بِهَا؟ وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: لَأَنْ تَخْتَلِفُ فِيَّ الْأَسِنَّةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ

فصل تفريد الإشارة عن الحق

نَفْسِي فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ مَا أَنَا فِيهِ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ. وَالصَّادِقُ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ، فَتَارَةً يَبُوحُ بِمَا أَوْلَاهُ رَبُّهُ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْهِ، لَا يُطِيقُ كِتْمَانَ ذَلِكَ، وَتَارَةً يُخْفِيهِ وَيَكْتُمُهُ، لَا يُطِيقُ إِظْهَارَهُ، فَتَارَةً يَقْبِضُ، وَتَارَةً يَبْسُطُ وَيَنْشَطُ، وَتَارَةً يَجِدُ لِسَانًا قَائِلًا لَا يَسْكُتُ، وَتَارَةً لَا يَقْدِرُ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ، وَتَارَةً تَجِدُهُ ضَاحَكًا مَسْرُورًا، وَتَارَةً بَاكِيًا حَزِينًا، وَتَارَةً يَجِدُ جَمْعِيَّةً لَا سَبِيلَ لِلتَّفْرِقَةِ عَلَيْهَا، وَتَارَةً تَفْرِقَةً لَا جَمْعِيَّةَ مَعَهَا، وَتَارَةً يَقُولُ: وَاطَرَبَاهُ! وَأُخْرَى يَقُولُ: وَاحَرْبَاهُ! بِخِلَافِ مَنْ هُوَ عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ لَا يُوجَدُ عَلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَالصَّادِقُ لَوْنٌ. قَوْلُهُ: " وَتَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ بِالسُّلُوكِ مُطَالَعَةً "، أَيْ تَجْرِيدُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَطْلُوبِ بِالسُّلُوكِ اطِّلَاعًا عَلَى حَقَائِقِهِ. قَوْلُهُ: " وَتَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ بِالْقَبْضِ غَيْرَةً "، أَيْ تَخْلِيصُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَطْلُوبِ بِالْقَبْضِ غَيْرَةً عَلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ تَارَةً يُفْرِدُ إِشَارَتَهُ بِمَا أَوْلَاهُ الْحَقُّ، لَا يَكْتُمُهُ وَلَا يُخْفِيهِ، وَتَارَةً يُفْرِدُ إِشَارَتَهُ بِحَقَائِقِ السُّلُوكِ اطِّلَاعًا عَلَيْهَا، وَإِطْلَاعًا لِغَيْرِهِ، وَتَارَةً يُشِيرُ بِالْقَبْضِ غَيْرَةً وَتَسَتُّرًا، فَيُشِيرُ بِالِافْتِخَارِ تَارَةً، وَبِالِاطِّلَاعِ تَارَةً، وَبِالْقَبْضِ تَارَةً. فَافْتِخَارُهُ بِالْمُنْعِمِ وَنِعَمِهِ، لَا بِنَفْسِهِ وَصِفَتِهِ، وَإِطْلَاعُهُ لِغَيْرِهِ: تَعْلِيمٌ وَإِرْشَادٌ وَتَبْصِيرٌ، وَقَبَضُهُ غَيْرَةٌ وَسَتْرٌ، وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ: أَنَّ الصَّادِقَ بِحَسَبِ دَوَاعِي صِدْقِهِ وَحَالِهِ مَعَ اللَّهِ، وَحُكْمِ وَقْتِهِ وَمَا أُقِيمُ فِيهِ. [فَصْلٌ تَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ عَنِ الْحَقِّ] فَصْلٌ قَوْلُهُ: " وَأَمَّا تَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ عَنِ الْحَقِّ: فَانْبِسَاطٌ بِبَسْطِ ظَاهِرٍ: يَتَضَمَّنُ قَبْضًا خَالِصًا، لِلْهِدَايَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، يُرِيدُ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْإِشَارَةِ مُنْبَسِطٌ

فصل الجمع

بَسْطًا ظَاهِرًا، مَعَ أَنَّ بَاطِنَهُ مَجْمُوعٌ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ الْقَبْضُ الْخَالِصُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ، فَهُوَ فِي بَاطِنِهِ مَقْبُوضٌ، لِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ جَمْعِيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ، وَفِي ظَاهِرِهِ مَبْسُوطٌ مَعَ الْخَلْقِ بَسْطًا ظَاهِرًا لِقُوَّتِهِ، قَصْدًا لِهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ: أَنَّهُ مَبْسُوطٌ بِظَاهِرِهِ لِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ، وَمَقْبُوضٌ بِبَاطِنِهِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ، فَظَاهِرُهُ مُنْبَسِطٌ مَعَ الْخَلْقِ، وَبَاطِنُهُ مُنْقَبِضٌ عَنْهُمْ، لِقُوَّةِ تَعَلُّقِهِ بِاللَّهِ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ عَنْهُمْ، فَهُوَ كَائِنٌ بَائِنٌ، دَاخِلٌ خَارِجٌ، مُتَّصِلٌ مُنْفَصِلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 87 - 88] فَأَمَرَهُ بِتَجْرِيدِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَتَجْرِيدِ عُبُودِيَّتِهِ وَحْدَهُ، وَهَذَانِ هُمَا أَصْلَا الدِّينِ، وَعَلَيْهِمَا مَدَارُهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ الْجَمْعُ] [حَدُّ الْجَمْعِ] فَصْلٌ الْجَمْعُ قَالَ: " بَابُ الْجَمْعِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] . قُلْتُ: اعْتَقَدَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ: سَلْبُ فِعْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى

الرَّبِّ تَعَالَى، وَجَعَلُوا ذَلِكَ أَصْلًا فِي الْجَبْرِ، وَإِبْطَالِ نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ إِلَى الْعِبَادِ، وَتَحْقِيقِ نِسْبَتِهَا إِلَى الرَّبِّ وَحْدَهُ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ، فَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَوَجَبَ طَرْدُهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، فَيُقَالُ: مَا صَلَّيْتَ إِذْ صَلَّيْتَ، وَمَا صُمْتَ إِذْ صُمْتَ، وَمَا ضَحَّيْتَ إِذْ ضَحَّيْتَ، وَلَا فَعَلْتَ كُلَّ فِعْلٍ إِذْ فَعَلْتَهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنْ طَرَدُوا ذَلِكَ لَزِمَهُمْ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ - طَاعَتِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ - إِذْ لَا فَرْقَ، فَإِنْ خَصُّوهُ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ وَأَفْعَالِهِ جَمِيعِهَا، أَوْ رَمْيِهِ وَحْدَهُ؛ تَنَاقَضُوا، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يُوَفَّقُوا لِفَهْمِ مَا أُرِيدَ بِالْآيَةِ. وَبَعْدُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ رَمْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَبْضَةٍ مِنَ الْحَصْبَاءِ، فَلَمْ تَدَعْ وَجْهَ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا أَصَابَتْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الرَّمْيَةَ مِنَ الْبَشَرِ لَا تَبْلُغُ هَذَا الْمَبْلَغَ، فَكَانَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْدَأُ الرَّمْيِ، وَهُوَ الْحَذْفُ، وَمِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِهَايَتُهُ، وَهُوَ الْإِيصَالُ، فَأَضَافَ إِلَيْهِ رَمْيَ الْحَذْفِ الَّذِي هُوَ مَبْدَؤُهُ، وَنَفَى عَنْهُ رَمْيَ الْإِيصَالِ الَّذِي هُوَ نِهَايَتُهُ، وَنَظِيرُ هَذَا: قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] ثُمَّ قَالَ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] فَأَخْبَرَهُ: أَنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِقَتْلِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِكُمْ أَنْتُمْ، كَمَا تَفَرَّدَ بِإِيصَالِ الْحَصَى إِلَى أَعْيُنِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِهِ وَلَكِنْ وَجْهُ الْإِشَارَةِ بِالْآيَةِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقَامَ أَسْبَابًا ظَاهِرَةً، كَدَفْعِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَوَلِّى دَفْعِهِمْ، وَإِهْلَاكِهِمْ بِأَسْبَابٍ بَاطِنَةٍ غَيْرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَظْهَرُ لِلنَّاسِ، فَكَانَ مَا حَصَلَ مِنَ الْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ وَالنُّصْرَةِ مُضَافًا إِلَيْهِ وَبِهِ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ. قَالَ: " الْجَمْعُ: مَا أَسْقَطَ التَّفْرِقَةَ، وَقَطَعَ الْإِشَارَةَ، وَشَخَصَ عَنِ الْمَاءِ وَالطِّينِ، بَعْدَ صِحَّةِ التَّمْكِينِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ التَّلْوِينِ، وَالْخَلَاصِ مِنْ شُهُودِ الثَّنَوِيَّةِ، وَالتَّنَافِي مِنْ إِحْسَاسِ الِاعْتِلَالِ، وَالتَّنَافِي مِنْ شُهُودِ شُهُودِهَا، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: جَمْعُ عِلْمٍ، ثُمَّ جَمْعُ وُجُودٍ، ثُمَّ جَمْعُ عَيْنٍ. قَوْلُهُ: " الْجَمْعُ: مَا أَسْقَطَ التَّفْرِقَةَ " هَذَا حَدٌّ غَيْرُ مُحْصِّلٍ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُحْمَدُ وَمَا

يُذَمُّ مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِقَةِ، فَإِنَّ " الْجَمْعَ " يَنْقَسِمُ إِلَى صَحِيحٍ وَبَاطِلٍ، وَ " التَّفْرِقَةُ " تَنْقَسِمُ إِلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يُحْمَدُ مُطْلَقًا، وَلَا يُذَمُّ مُطْلَقًا، فَيُرَادُ بِالْجَمْعِ: جَمْعُ الْوُجُودِ، وَهُوَ جَمْعُ الْمَلَاحِدَةِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَيُرِيدُونَ بِالتَّفْرِقَةِ: الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ، وَبَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: الْجَمْعُ مَا أَسْقَطَ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ، وَيَقُولُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ: إِنَّهُمْ أَصْحَابُ جَمْعِ الْوُجُودِ، وَلِهَذَا صَرَّحَ بِمَا ذَكَرْنَا مُحَقِّقُو الْمَلَاحِدَةِ، فَقَالُوا: التَّفْرِقَةُ اعْتِبَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ وُجُودٍ وَوُجُودٍ، فَإِذَا زَالَ الْفَرْقُ فِي نَظَرِ الْمُحَقِّقِ حَصَلَ لَهُ حَقِيقَةُ الْجَمْعِ. وَيُرَادُ بِالْجَمْعِ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ عَلَى الْمُرَادِ الْمَطْلُوبِ وَحْدَهُ، وَبِالتَّفْرِقَةِ: تَفْرِقَةُ الْهِمَّةِ وَالْإِرَادَةِ، وَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ الصَّحِيحُ، وَالتَّفْرِقَةُ الْمَذْمُومَةُ، فَحَدُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ: مَا أَزَالَ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ، وَأَمَّا جَمْعٌ يُزِيلُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ، وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَالْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ فَأَبْطَلُ الْبَاطِلِ، وَتِلْكَ التَّفْرِقَةُ هِيَ الْحَقُّ، وَأَهْلُ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ هُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الْجَمْعِ هُمْ أَهْلُ الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ وَالْوَثَنِيَّةِ. وَيُرَادُ بِالْجَمْعِ: جَمْعُ الشُّهُودِ، وَبِالتَّفْرِقَةِ: مَا يُنَافِي ذَلِكَ، فَإِذَا زَالَ الْفَرْقُ فِي نَظَرِ الْمُشَاهِدِ، وَهُوَ مُثْبِتٌ لِلْفَرْقِ؛ كَانَ ذَلِكَ جَمْعًا فِي شُهُودِهِ خَاصَّةً، مَعَ تَحَقُّقِهِ بِالْفَرْقِ. فَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَالْجَمْعُ الصَّحِيحُ: مَا أَسْقَطَ التَّفْرِقَةَ الطَّبِيعِيَّةَ النَّفْسِيَّةَ، وَهِيَ التَّفْرِقَةُ الْمَذْمُومَةُ، وَأَمَّا التَّفْرِقَةُ الْأَمْرِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ - بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ، وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ - فَلَا يُحْمَدُ جَمْعٌ أَسْقَطَهَا، بَلْ يُذَمُّ كُلَّ الذَّمِّ، وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْمُجْمَلَاتِ دَخَلَ عَلَى أَصْحَابِ السُّلُوكِ وَالْإِرَادَةِ مَا دَخَلَ. قَوْلُهُ " وَقَطَعَ الْإِشَارَةَ " هُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ " مَا أَسْقَطَ التَّفْرِقَةَ " قَالَ أَهْلُ الْإِلْحَادِ: لَمَّا كَانَتِ الْإِشَارَةُ نِسْبَةً بَيْنَ شَيْئَيْنِ - مُشِيرٍ، وَمُشَارٍ إِلَيْهِ - كَانَتْ مُسْتَلْزِمَةً لِلْثَنَوِيَّةِ، فَإِذَا جَاءَتِ الْوَحْدَةُ جَمْعِيَّةً، وَذَهَبَتِ الثَّنَوِيَّةُ؛ انْقَطَعَتِ الْإِشَارَةُ. وَقَالَ أَهْلُ التَّوْحِيدِ: إِنَّمَا تَنْقَطِعُ الْإِشَارَةُ عِنْدَ كَمَالِ الْجَمْعِيَّةِ عَلَى اللَّهِ، فَلَا يَبْقَى فِي صَاحِبِ هَذِهِ الْجَمْعِيَّةِ مَوْضِعٌ لِلْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ جَمْعِيَّتَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْمُرَادِ غَيْبَتُهُ عَنِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ جَمْعِيَّتَهُ أَفْنَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِشَارَتِهِ، فَفِي مَقَامِ الْفَنَاءِ تَنْقَطِعُ الْإِشَارَةُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ. قَوْلُهُ: " وَشَخَصَ عَنِ الْمَاءِ وَالطِّينِ "، هَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ بِالْمَاءِ وَالطِّينِ بَنِي آدَمَ، وَنَفْسَهُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، أَيْ شَخَصَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى النَّاسِ وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ، وَتَعَلَّقَ الْقَلْبُ بِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْعَلَائِقِ، وَأَصْعَبَهَا وَأَشَدَّهَا قَطْعًا لِصَاحِبِهَا هِيَ عَلَائِقُهُمْ، فَإِذَا شَخَصَ قَلْبُهُ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَعَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ أَبْعَدُ إِلَيْهِ مِنْهُمْ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَفِي ذِكْرِ الْمَاءِ وَالطِّينِ تَقْرِيرٌ لِهَذَا الشُّخُوصِ عَنْهُمْ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى تَعَيُّنِهِ وَوُجُوبِهِ، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ مِنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ بَشَرٌ ضَعِيفٌ، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ - وَلَا لِمَنْ تَعَلَّقَ بِهِ - جَلْبَ مَنْفَعَتِهِ، وَلَا دَفْعَ مَضَرَّةٍ، فَإِنَّ الْمَاءَ وَالطِّينَ مُنْفَعِلٌ لَا فَاعِلٌ، وَعَاجِزٌ مَهِينٌ لَا قَوِيٌّ مَتِينٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} [الصافات: 11] وَأَخْبَرَ: أَنَّهُ خَلَقَنَا {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8] فَحَقِيقٌ بِابْنِ الْمَاءِ وَالطِّينِ أَنْ يَشْخَصَ عَنْهُ الْقَلْبُ، لَا إِلَيْهِ، وَأَنْ يُعَوِّلَ عَلَى خَالِقِهِ وَحْدَهُ لَا عَلَيْهِ وَأَنْ يَجْعَلَ رَغْبَتَهُ كُلَّهَا فِيهِ وَفِيمَا لَدَيْهِ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي - الَّذِي يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ -: أَنْ يَشْخَصَ عَنْ أَحْكَامِ الطَّبِيعَةِ السُّفْلِيَّةِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ، وَعَنْ مُتَعَلِّقَاتِهَا إِلَى أَحْكَامِ الْأَرْوَاحِ الْعُلْوِيَّةِ. وَلَمَّا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِحِكْمَتِهِ وَعَجِيبِ صُنْعِهِ - قَدْ جَعَلَ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبًا مِنْ جَوْهَرَيْنِ: جَوْهَرٍ طَبِيعِيٍّ كَثِيفٍ، وَهُوَ الْجِسْمُ، وَجَوْهَرٍ رُوحَانِيٍّ لَطِيفٍ، وَهُوَ الرُّوحُ، وَمِنْ شَأْنِ كُلِّ شَكْلٍ أَنْ يَمِيلَ إِلَى شَكْلِهِ، وَمِنْ طَبْعِ كُلِّ مِثْلٍ أَنْ يَنْجَذِبَ إِلَى مِثْلِهِ - صَارَ الْإِنْسَانُ يَنْجَذِبُ إِلَى الْعَالَمِ الطَّبِيعِيِّ، بِمَا فِيهِ مِنَ الْكَثَافَةِ، وَإِلَى الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ بِمَا فِيهِ مِنَ اللَّطَافَةِ، فَصَارَ فِي الْإِنْسَانِ قُوَّتَانِ مُتَضَادَّتَانِ إِحْدَاهُمَا: تَجْذِبُهُ سُفْلًا، وَالثَّانِيَةُ: تَجْذِبُهُ عُلْوًا، فَمَنْ شَخَصَ عَنْ طَبِيعَةِ الْمَاءِ وَالطِّينِ، إِلَى مَحَلِّ الْأَرْوَاحِ الْعُلْوِيَّةِ، الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ؛ كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْجَمْعِ الْمَحْمُودِ، الَّذِي جَمَعَهُ مِنْ مُتَفَرِّقَاتِ النَّفْسِ وَالطَّبْعِ. قَوْلُهُ: " بَعْدَ صِحَّةِ التَّمْكِينِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ التَّلْوِينِ، وَالْخَلَاصِ مِنْ شُهُودِ الثَّنَوِيَّةِ "، مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْخَصَ عَنِ الْمَاءِ وَالطِّينِ إِلَّا بَعْدَ صِحَّةِ تَمَكُّنِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَبَرَاءَتِهِ مِنَ التَّلْوِينِ، فَشَرْطُ الشَّيْخِ حُصُولُ التَّمْكِينَ لَهُ، وَانْتِفَاءُ التَّلْوِينِ عَنْهُ، وَخَلَاصُهُ مِنْ شُهُودِ الثَّنَوِيَّةِ. فَالتَّلْوِينُ: تَلَوُّنُهُ لِإِجَابَةِ دَوَاعِي الطَّبْعِ وَالنَّفْسِ، وَشُهُودُ الثَّنَوِيَّةِ: عِبَارَةٌ مُجْمَلَةٌ

مُحْتَمَلَةٌ، وَقَدْ حَمَلَهَا الْمُلْحِدُ عَلَى أَنَّهُ يَشْهَدُ عَبْدًا وَرَبًّا، وَقَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَخَالِقًا وَمَخْلُوقًا، وَالتَّوْحِيدُ الْمَحْضُ: أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ بِشُهُودِهِ وَحْدَةَ الْوُجُودِ، وَمَتَى شَهِدَ تَعَدُّدَ الْوُجُودِ كَانَ ثَنَوِيًّا عِنْدَ الْمَلَاحِدَةِ. وَأَمَّا الْمُوَحِّدُونَ: فَالثَّنَوِيَّةُ الَّتِي يَجِبُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا: أَنْ يَتَّخِذَ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، فَيَشْهَدَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ شَهِدَ مَعَ اللَّهِ مَوْجُودًا غَيْرَهُ، وَهُوَ مُوجِدُهُ وَخَالِقُهُ وَفَاطِرُهُ: فَلَيْسَ بِثَنَوِيَّةٍ، بَلْ هُوَ تَوْحِيدٌ خَالِصٌ، وَلَا يَتِمُّ لَهُ التَّوْحِيدُ إِلَّا بِهَذَا الشُّهُودِ لِيَصِحَّ لَهُ نَفْيُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَنْفِي الْإِلَهِيَّةَ عَمَّا لَا يَشْهَدُهُ وَيَشْهَدُ نَفْيَهَا عَنْهُ؟ وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ صَاحِبَ الْجَمْعِ إِذَا شَهِدَ رَبًّا وَعَبْدًا، وَخَالِقًا وَمَخْلُوقَاتٍ، وَآمِرًا وَفَاعِلًا مَنَفِّذًا، وَمَحَرِّكًا، وَمَتَحَرِّكًا، وَوَلِيًّا وَعَدُوًّا: كَانَ ذَلِكَ مُوجَبَ عَقْدِ التَّوْحِيدِ. وَصِحَّةُ التَّمْكِينِ هِيَ حِفْظُ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ بَقَاءُ شُهُودِ الرُّسُومِ فِي مَرْتَبَتِهَا. وَكَأَنَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِي تَخْطِفُهُمْ لَوَائِحُ شُهُودِ الْجَمْعِ، وَتَمَكُّنُهُمْ ضَعِيفٌ، فَيُنْكِرُونَ صُوَرَ الْخَلْقِ، حَتَّى يَقُولَ أَحَدُهُمْ: أَنَا نُورٌ مِنْ نُورِ رَبِّي، لِمَا يَغْلِبُ عَلَى أَحَدِهِمْ مِنْ شُهُودِ الْجَمْعِ، وَعَدَمِ تَمَكُّنِهِ فِي الْبَقَاءِ، وَهَذَا قَدْ يَعْرِضُ لِلصَّادِقِ أَحْيَانًا، فَيَعْلَمُ أَنَّهُ غَالِطٌ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْأَصْلِ، وَيُحَكِّمُ الْعِلْمَ عَلَى الْحَالِ، فَإِذَا صَحَا عَلِمَ أَنَّهُ غَالِطٌ مُخْطِئٌ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ قَالَ أَبُو يَزِيدَ: سُبْحَانِي، وَمَا فِي الْجُبَّةِ إِلَّا اللَّهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَأَخَذَ قَوْمٌ هَذِهِ الشَّطَحَاتِ فَجَعَلُوهَا غَايَةً يَجْرُونَ إِلَيْهَا، وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهَا، فَالشَّيْخُ شَرَطَ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ شُهُودُ الْجَمْعِ إِلَّا لِمَنْ تَمَكَّنَ فِي شُهُودِ طَوْرِ الْبَقَاءِ. قَوْلُهُ: " وَالتَّنَافِي مِنَ الْإِحْسَاسِ بِالِاعْتِلَالِ ". الِاعْتِلَالُ عِنْدَهُمْ: هُوَ التَّفْرِقَةُ فِي الْأَسْبَابِ، وَالْوُقُوفُ مَعَ الرَّبْطِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْمُسَبِّبَاتِ وَأَسْبَابِهَا، وَذَلِكَ عَقْدٌ لَا يَحِلُّهُ إِلَّا شُهُودُ الْجَمْعِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِنَ الْعَجْمِ وَالتَّعْقِيدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " وَالتَّنَافِي مِنْ شُهُودِ شُهُودِهَا " وَمُرَادُهُ: أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ شُهُودُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ - الَّتِي ذَكَرَهَا - كُلِّهَا، وَأَنْ يَفْنَى عَنْ هَذَا الشُّهُودِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَفْنَ عَنْهَا كُلِّهَا، وَعَنْ شُهُودِ فَنَائِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَعَهَا؛ لِأَنَّهُ يَحِسُّ بِهَا، وَلَا يَقَعُ الْإِحْسَاسُ إِلَّا بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ صَاحِبِ الْإِحْسَاسِ، فَإِذَا غَابَ عَنْ شُهُودِهَا، ثُمَّ عَنْ شُهُودِ الشُّهُودِ: فَقَدِ اسْتَقَرَّ قَدَمُهُ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَمَالٍ، وَلَا مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُعْطِي

درجات الجمع

كَمَالًا، وَلَا فِيهِ مَعْرِفَةٌ، وَلَا عُبُودِيَّةٌ، وَلَا دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ الْبَتَّةَ، وَلَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَا وَصَفَهُ أَهْلُ الطَّرِيقِ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَغَايَتُهُ أَنْ يُشَبِّهَ صَاحِبَهُ بِالْغَائِبِ عَنْ عَقْلِهِ وَحِسِّهِ وَإِدْرَاكِهِ، وَغَايَتُهُ: أَنْ يَكُونَ عَارِضًا مِنْ عَوَارِضَ الطَّرِيقِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ غَايَةً. وَلَمَّا جَعَلَهُ مَنْ جَعَلَهُ غَايَةً مَطْلُوبَةً، يُشَمِّرُ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ؛ دَخَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ عَلَى مَنْ شَمَّرَ إِلَيْهِ مَا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَالْعُبُودِيَّةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْعَبْدِ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [دَرَجَاتُ الْجَمْعِ] قَوْلُهُ: " وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: جَمْعِ عِلْمٍ، ثُمَّ جَمْعِ وُجُودٍ، ثُمَّ جَمْعِ عَيْنٍ، فَأَمَّا جَمْعُ الْعِلْمِ: فَهُوَ تَلَاشِي عُلُومِ الشَّوَاهِدِ فِي الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ صَرْفًا، وَأَمَّا جَمْعُ الْوُجُودِ: فَهُوَ تَلَاشِي نِهَايَةِ الِاتِّصَالِ فِي عَيْنِ الْوُجُودِ مَحْقًا، وَأَمَّا جَمْعُ الْعَيْنِ: فَهُوَ تَلَاشِي كُلِّ مَا تُقِلُّهُ الْإِشَارَةُ فِي ذَاتِ الْحَقِّ حَقًّا. عُلُومُ الشَّوَاهِدِ هِيَ مَا حَصَلَتْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، وَبِالْمَصْنُوعِ عَلَى الصَّانِعِ، فَالْمَصْنُوعَاتُ شَوَاهِدُ وَأَدِلَّةٌ وَآثَارٌ، وَعُلُومُ الشَّوَاهِدِ: هِيَ الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى الشَّوَاهِدِ الْحَاصِلَةِ عَنْهَا، وَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ إِلْهَامًا بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا اسْتِدْلَالٍ، وَلِهَذَا سُمِّيَ لَدُنِّيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي عَلَّمَ الْعِبَادَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلْمَ أَخَصُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ أَضَافَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، كَبَيْتِهِ وَنَاقَتِهِ وَبَلَدِهِ وَعَبْدِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتَضْمَحِلُّ الْعُلُومُ الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى الْأَدِلَّةِ وَالشَّوَاهِدِ فِي الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، الْحَاصِلِ بِلَا سَبَبٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، هَذَا مَضْمُونُ كَلَامِهِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِالشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ: هُوَ الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ، وَأَمَّا مَا يَدَّعِي حُصُولَهُ بِغَيْرِ شَاهِدٍ وَلَا دَلِيلٍ: فَلَا وُثُوقَ بِهِ، وَلَيْسَ بِعِلْمٍ، نَعَمْ قَدْ يَقْوَى الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِالشَّوَاهِدِ وَيَتَزَايَدُ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمَعْلُومُ كَالْمَشْهُودِ، وَالْغَائِبُ كَالْمُعَايَنِ، وَعِلْمُ الْيَقِينِ كَعَيْنِ الْيَقِينِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ شُعُورًا أَوَّلًا، ثُمَّ تَجْوِيزًا، ثُمَّ ظَنًّا، ثُمَّ عِلْمًا، ثُمَّ مَعْرِفَةً، ثُمَّ عِلْمَ يَقِينٍ، ثُمَّ حَقَّ يَقِينٍ، ثُمَّ عَيْنَ يَقِينٍ، ثُمَّ تَضْمَحِلُّ كُلُّ مَرْتَبَةٍ فِي الَّتِي فَوْقَهَا، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْحُكْمُ لَهَا دُونَهَا، فَهَذَا حَقٌّ.

وَأَمَّا دَعْوَى وُقُوعِ نَوْعٍ مِنَ الْعِلْمِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ: فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَبَطَ التَّعْرِيفَاتِ بِأَسْبَابِهَا، كَمَا رَبَطَ الْكَائِنَاتِ بِأَسْبَابِهَا، وَلَا يَحْصُلُ لِبِشْرٍ عِلْمٌ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَيَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رُسُلَهُ بِأَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الَّتِي دَلَّتْهُمْ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَهُمْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَدَلَّتْ أُمَمَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ مَعَهُمْ أَعْظَمُ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَهُمْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَانَتْ بَرَاهِينُهُمْ أَدِلَّةً وَشَوَاهِدَ لَهُمْ وَلِلْأُمَمِ، فَالْأَدِلَّةُ وَالشَّوَاهِدُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ، وَمَعَهُمْ أَعْظَمُ الشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى شَهِدَ بِتَصْدِيقِهِمْ بِمَا أَقَامَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّوَاهِدِ، فَكُلُّ عِلْمٍ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ فَدَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَحُكْمٌ لَا بُرْهَانَ عِنْدَ قَائِلِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِلْمًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَدُنِّيًّا. فَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ: مَا قَامَ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَمَا عَدَاهُ فَلَدُنِّيٌّ مِنْ لَدُنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَقَدِ انْبَثَقَ سَدُّ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، وَرَخُصَ سِعْرُهُ، حَتَّى ادَّعَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ أَنَّ عِلْمَهُمْ لَدُنِّيٌّ، وَصَارَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَالسُّلُوكِ وَبَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِمَا يَسْنَحُ لَهُ، وَيُلْقِيهُ شَيْطَانُهُ فِي قَلْبِهِ: يَزْعُمُ أَنَّ عِلْمَهُ لَدُنِّيٌّ، فَمَلَاحِدَةُ الِاتِّحَادِيَّةِ، وَزَنَادِقَةُ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّلُوكِ يَقُولُونَ: إِنَّ عِلْمَهُمْ لَّدُنِّيٌّ، وَقَدْ صَنَّفَ فِي الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ مُتَهَوِّكُو الْمُتَكَلِّمِينَ، وَزَنَادِقَةُ الْمُتَصَوِّفِينَ، وَجَهَلَةُ الْمُتَفَلْسِفِينَ، وَكُلٌّ يَزْعُمُ أَنَّ عِلْمَهُ لَّدُنِّيٌّ، وَصَدَقُوا وَكَذَبُوا فَإِنَّ اللَّدُنِّيَّ مَنْسُوبٌ إِلَى " لَدُنْ " بِمَعْنَى عِنْدَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: الْعِلْمُ الْعِنْدِيُّ، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِيمَنْ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ عِنْدِهِ وَمِنْ لَدُنْهُ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى بِأَبْلَغِ الذَّمِّ مَنْ يَنْسِبُ إِلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 79] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93] فَكُلُّ مَنْ قَالَ: هَذَا الْعِلْمُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ - وَهُوَ كَاذِبٌ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ - فَلَهُ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ هَذَا الذَّمِّ، وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، يَذُمُّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ أَضَافَ إِلَيْهِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَمَنْ قَالَ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُ، وَلِهَذَا رَتَّبَ سُبْحَانَهُ الْمُحَرَّمَاتِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ، وَجَعَلَ أَشَدَّهَا: الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ، فَجَعَلَهُ آخِرَ مَرَاتِبِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالٍ، بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ

الجمع غاية مقامات السالكين

رَسُولٍ، فَالْقَائِلُ: إِنَّ هَذَا عِلْمٌ لَّدُنِّيٌّ، لِمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا قَامَ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ: كَاذِبٌ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ أَظْلَمِ الظَّالِمِينَ، وَأَكْذَبِ الْكَاذِبِينَ. قَوْلُهُ: " وَأَمَّا جَمْعُ الْوُجُودِ: فَهُوَ تَلَاشِي نِهَايَةِ الِاتِّصَالِ فِي عَيْنِ الْوُجُودِ مَحْقًا ". " تَلَاشِي نِهَايَةِ الِاتِّصَالِ ": هُوَ فَنَاءُ الْعَبْدِ فِي الشُّهُودِ، وَ " نِهَايَةُ الِاتِّصَالِ ": هُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ بَابِ الِاتِّصَالِ " أَنَّهُ لَا يُدْرَكُ مِنْهُ نَعْتٌ وَلَا مِقْدَارٌ إِلَّا اسْمٌ مُعَارٌ، وَلَمْحٌ إِلَيْهِ مُشَارٌ "، فَحَقِيقَةُ الْجَمْعِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: تَلَاشِي ذَلِكَ فِي عَيْنِ الْوُجُودِ، أَيْ فِي حَقِيقَتِهِ، وَيُرِيدُ بِالْوُجُودِ: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ بَابِ الْوُجُودِ، وَهُوَ قَوْلُهُ " وُجُودُ الْحَقِّ: وُجُودُ عَيْنٍ، مُنْقَطِعًا عَنْ مَسَاغِ الْإِشَارَةِ " فَتَضْمَحِلُّ نِهَايَةُ الِاتِّصَالِ فِي هَذَا الْوُجُودِ مَحْقًا أَيْ ذَوَبَانًا وَفَنَاءً. قَوْلُهُ: " وَأَمَّا جَمْعُ الْعَيْنِ: فَهُوَ تَلَاشِي كُلِّ مَا تُقِلُّهُ الْإِشَارَةُ فِي ذَاتِ الْحَقِّ حَقًّا ". " تُقِلُّهُ الْإِشَارَةُ " أَيْ تَحَمِلُهُ وَتَقُومُ بِهِ وَالْإِشَارَةُ تَارَةً تَكُونُ بِالْيَدِ وَالرَّأْسِ فَتَكُونُ إِيمَاءً، وَتَارَةً تَكُونُ بِالْعَيْنِ فَتَكُونُ رَمْزًا، وَتَارَةً تَكُونُ بِاللَّفْظِ فَيُسَمَّى تَعْرِيضًا، وَتَارَةً تَكُونُ بِالذِّهْنِ وَالْعَقْلِ، فَتَضْمَحِلُّ كُلُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، وَتَبْطُلُ عِنْدَ شُهُودِ الْعَيْنِ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ، وَظُهُورِ جَلَالِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ، وَالذَّاتُ: هِيَ الْحَامِلَةُ لِلصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ. فَعَرَفْتَ مِنْ هَذَا: أَنَّهُ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى يَغِيبُ عَنْ جَمِيعِ الْعُلُومِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَدِلَّةِ وَالشَّوَاهِدِ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، وَفِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ: يَغِيبُ عَنِ اتِّصَالِهِ وَشُهُودِ اتِّصَالِهِ بِالْوُجُودِ، فَإِنَّ الْوُجُودَ فَوْقَ الِاتِّصَالِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَهَذَا كَمَا يَغِيبُ الْوَاجِدُ الَّذِي قَدْ ظَفِرَ بِمَوْجُودِهِ عَنْ شُهُودِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ وَاتِّصَالِهِ بِهِ، فَتُفْنِيهِ عَيْنُ وُجُودِهِ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهَا، وَفِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ: يَضْمَحِلُّ كُلُّ مَا تَحْمِلُهُ الْإِشَارَةُ - إِلَى ذَاتٍ، أَوْ إِلَى صِفَةٍ، أَوْ حَالٍ، أَوْ مَقَامٍ - فِي ذَاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، فَلَا يَبْقَى هُنَاكَ مَا يُشَارُ إِلَيْهِ سِوَاهُ. [الْجَمْعُ غَايَةُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ] قَوْلُهُ: " وَالْجَمْعُ: غَايَةُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، وَهُوَ طَرَفُ بَحْرِ التَّوْحِيدِ ". وَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ السَّالِكَ مَا دَامَ فِي سُلُوكِهِ فَهُوَ فِي تَفْرِقَةِ الِاسْتِدْلَالِ، وَطَلَبِ الشَّوَاهِدِ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى مَقَامِ الْمَعْرِفَةِ، وَصَارَ هَمُّهُ هَمًّا وَاحِدًا - لِلَّهِ، وَفِي اللَّهِ، وَبِاللَّهِ - يَنْزِلُ فِي مَنْزِلَةِ الْجَمْعِ وَيُشَمِّرُ لِرُكُوبِ بَحْرِ التَّوْحِيدِ الَّذِي يَتَلَاشَى فِيهِ كُلُّ مَا

سِوَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، فَالْجَمْعُ عِنْدَهُ: نِهَايَةُ سَفَرِ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَقَامِ السَّالِكِينَ: التَّوْبَةُ الَّتِي هِيَ بِدَايَاتُ مَنَازِلِهِمْ. وَلَعَلَّ سَمْعَكَ يَنْفِرُ مِنْ هَذَا غَايَةَ النُّفُورِ، وَتَقُولُ: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا مِنْ طَرِيقِ الْقَوْمِ، وَلَا نَزَلَ فِي مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيُوَافِقُكَ عَلَى هَذَا، وَيَقُولُ: أَيْنَ كُنَّا؟ وَأَيْنَ صِرْنَا؟ نَحْنُ قَدْ قَطَعْنَا مَنْزِلَةَ التَّوْبَةِ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا مِائَةُ مَقَامٍ، فَنَرْجِعُ مِنْ مِائَةِ مَقَامٍ إِلَيْهَا، وَنَجْعَلُهَا غَايَةَ مَقَامِ السَّالِكِينَ؟ فَاسْمَعِ الْآنَ وَعِهْ، وَلَا تَعْجَلْ بِالْإِنْكَارِ، وَلَا تُبَادِرْ بِالرَّدِّ، وَافْتَحْ ذِهْنَكَ لِمَعْرِفَةِ نَفْسِكَ، وَحُقُوقِ رَبِّكَ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْكَ، وَمَا لَهُ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْكَ، ثُمَّ انْسِبْ أَعْمَالَكَ وَأَحْوَالَكَ وَتِلْكَ الْمَنَازِلَ الَّتِي نَزَلْتَهَا وَالْمَقَامَاتِ الَّتِي قُمْتَ فِيهَا - لِلَّهِ وَبِاللَّهِ - إِلَى عَظِيمِ جَلَالِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ وَمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، فَإِنْ رَأَيْتَهَا وَافِيَةً بِذَلِكَ مُكَافِئَةً لَهُ فَلَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ إِلَى التَّوْبَةِ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهَا رُجُوعٌ عَنِ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ، وَانْحِطَاطٌ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، وَرُجُوعٌ مِنْ غَايَةٍ إِلَى بِدَايَةٍ، وَمَا ذَلِكَ بِبَعِيدٍ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى هَذَا الشَّأْنِ، الْمَغْرُورِينَ بِأَحْوَالِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ وَإِشَارَاتِهِمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ أَنَّ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مَا قُمْتَ بِهِ - مِنْ صِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ، وَإِنَابَةٍ، وَتَوَكُّلٍ، وَزُهْدٍ وَعِبَادَةٍ - لَا يَفِي بِأَيْسَرِ حَقٍّ لَهُ عَلَيْكَ، وَلَا يُكَافِئُ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِهِ عِنْدَكَ، وَأَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ - لِجَلَالَتِهِ وَعَظْمَتِهِ - أَعْظَمُ وَأَجَلُّ وَأَكْبَرُ مِمَّا يَقُومُ بِهِ الْخَلْقُ. فَاعْلَمِ الْآنَ: أَنَّ التَّوْبَةَ نِهَايَةُ كُلِّ عَارِفٍ، وَغَايَةُ كُلِّ سَالِكٍ، وَكَمَا أَنَّهَا بِدَايَةٌ فَهِيَ نِهَايَةٌ، وَالْحَاجَةُ إِلَيْهَا فِي النِّهَايَةِ أَشَدُّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي الْبِدَايَةِ، بَلْ هِيَ فِي النِّهَايَةِ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ. فَاسْمَعِ الْآنَ مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ عِنْدَ النِّهَايَةِ، وَكَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ حَيَاتِهِ أَشَدَّ مَا كَانَ اسْتِغْفَارًا وَأَكْثَرَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117] وَهَذَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ

سُبْحَانَهُ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهِيَ آخِرُ الْغَزَوَاتِ الَّتِي غَزَاهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ شُكْرَانًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ الْجِهَادُ، وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ مَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ: إِذَا {جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3] وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا صَلَّى صَلَاةً - بَعْدَ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ - إِلَّا قَالَ فِيهَا: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» وَذَلِكَ فِي نِهَايَةِ أَمْرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا فَهِمَ مِنْهَا عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ - كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنَّ أَجَلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَعْلَمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَأَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي نِهَايَةِ أَحْوَالِهِ، وَآخِرِ أَمْرِهِ، عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقَامًا وَحَالًا، وَآخِرُ مَا سُمِعَ مِنْ كَلَامِهِ عِنْدَ قُدُومِهِ عَلَى رَبِّهِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْتِمُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ بِالِاسْتِغْفَارِ» ، كَالصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، فَإِنَّهُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْهُ، وَأَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: «آيِبُونَ، تَائِبُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» وَشَرَّعَ أَنْ يُخْتَمَ الْمَجْلِسُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَإِنْ كَانَ

مَجْلِسَ خَيْرٍ وَطَاعَةٍ، وَشَرَّعَ أَنْ يَخْتِمَ الْعَبْدُ عَمَلَ يَوْمِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ، فَيَقُولُ عِنْدَ النَّوْمِ «أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ» وَأَنْ يَنَامَ عَلَى سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ. وَالْعَارِفُ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَحُقُوقِهِ يَعْلَمُ أَنَّ الْعَبْدَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَى التَّوْبَةِ فِي نِهَايَتِهِ، وَأَنَّهُ أَحْوَجُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الْفَنَاءِ، وَالِاتِّصَالِ، وَجَمْعِ الشَّوَاهِدِ، وَجَمْعِ الْوُجُودِ، وَجَمْعِ الْعَيْنِ، وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ أَعْلَى مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، وَغَايَةُ مَطْلَبِ الْمُقَرَّبِينَ، وَلَمْ يَأْتِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا يَعْرِفُهُ إِلَّا النَّادِرُ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَتَصَوَّرُهُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا بِصُعُوبَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَلَوْ سَمِعَهُ أَكْثَرُ الْخَلْقِ لَمَا فَهِمُوهُ، وَلَا عَرَفُوا الْمُرَادَ مِنْهُ إِلَّا بِتَرْجَمَةٍ؟ فَأَيْنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ - الَّذِينَ نِسْبَةُ مَعَارِفِ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى مَعَارِفِهِمْ كَنِسْبَةِ فَضْلِهِمْ وَدِينِهِمْ وَجِهَادِهِمْ إِلَيْهِمْ - مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ؟ فَصَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ - أَرْبَابَ هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتِ الْحَادِثَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ، وَالْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ -: أَعْرَفَ بِمَقَامَاتِ السَّالِكِينَ وَمَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَغَايَاتِهَا مِنْ أَعْلَمِ الْخَلْقِ بِاللَّهِ بَعْدَ رُسُلِهِ؟ ! هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ. وَهَؤُلَاءِ فِي بَابِ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ وَالسُّلُوكِ نَظِيرُ أَرْبَابِ الْكَلَامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ

وَالْجَهْمِيَّةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ فِي بَابِ الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَالطَّائِفَتَانِ - بَلْ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْفِقْهِ - مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أَشَدَّ التَّكَلُّفِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ الْحَيَّ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ: أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ. فَلَا تَجِدُ هَذَا التَّكْلِيفَ الشَّدِيدَ، وَالتَّعْقِيدَ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي عِنْدَ الصَّحَابَةِ أَصْلًا. وَإِنَّمَا يُوجَدُ عِنْدَ مَنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمْ، وَإِذَا تَأَمَّلَهُ الْعَارِفُ وَجَدَهُ كَلَحْمِ جَمَلٍ غَثٍّ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ، لَا سَهْلَ فَيَرْتَقِي، وَلَا سَمِينَ فَيَنْتَقِلُ، فَيُطَوِّلُ عَلَيْكَ الطَّرِيقَ، وَيُوَسِّعُ لَكَ الْعِبَارَةَ، وَيَأْتِي بِكُلِّ لَفْظٍ غَرِيبٍ وَمَعْنًى أَغْرَبَ مِنَ اللَّفْظِ، فَإِذَا وَصَلْتَ لَمْ تَجِدْ مَعَكَ حَاصِلًا طَائِلًا، وَلَكِنْ تَسْمَعُ جَعْجَعَةً وَلَا تَرَى طَحْنًا، فَالْمُتَكَلِّمُونَ فِي جَعَاجِعِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَكْوَانِ وَالْأَلْوَانِ، وَالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، وَالْأَحْوَالِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَالْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ وَالِانْحِيَازِ، وَالْجِهَاتِ وَالنِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ، وَالْغَيْرَيْنِ وَالْخِلَافَيْنِ، وَالضِّدَّيْنِ وَالنَّقِيضَيْنِ، وَالتَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ، وَالْعَرَضُ هَلْ يَبْقَى زَمَانَيْنِ؟ وَمَا هُوَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ؟ وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَلَمْ يَعْرِفِ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ، وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفِ الْوُجُودَ: هَلْ هُوَ مَاهِيَّةُ الشَّيْءِ، أَوْ زَائِدٌ عَلَيْهَا؟ وَيَعْتَرِفُ: أَنَّهُ شَاكٌّ فِي وُجُودِ الرَّبِّ: هَلْ هُوَ وُجُودٌ مَحْضٌ، أَوْ وُجُودٌ مُقَارِنٌ لِلْمَاهِيَّةِ؟ وَيَقُولُ: الْحَقُّ عِنْدِي الْوَقْفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَيَقُولُ أَفْضَلُهُمْ - عِنْدَ نَفْسِهِ - عِنْدَ الْمَوْتِ: أَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَرَفْتُ إِلَّا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ أَنَّ الْمُمْكِنَ يَفْتَقِرُ إِلَى وَاجِبٍ، ثُمَّ قَالَ: الِافْتِقَارُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، فَأَمُوتُ وَلَمْ أَعْرِفْ شَيْئًا، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَكْثَرُ النَّاسِ شَكًّا عِنْدَ الْمَوْتِ: أَرْبَابُ الْكَلَامِ. وَآخَرُونَ أَعْظَمُ تَكَلُّفًا مِنْ هَؤُلَاءِ، وَأَبْعَدُ شَيْءٍ عَنِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَهُمْ: أَرْبَابُ

الْهَيُولِي وَالصُّورَةِ وَالْأَسْطُقُّصَّاتِ، وَالْأَرْكَانِ وَالْعِلَلِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْمُفَارَقَاتِ، وَالْمُجَرَّدَاتِ، وَالْمَقُولَاتِ الْعَشْرِ، وَالْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ، وَالْمُخْتَلِطَاتِ وَالْمُوَجَّهَاتِ، وَالْقَضَايَا الْمُسَوَّرَاتِ، وَالْقَضَايَا الْمُهْمَلَاتِ، فَهُمْ أَعْظَمُ الطَّوَائِفِ تَكَلُّفًا، وَأَقَلُّهُمْ تَحْصِيلًا لِلْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّفُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِرَادَةِ وَالسُّلُوكِ، وَأَرْبَابِ الْحَالِ وَالْمَقَامِ، وَالْوَقْتِ وَالْمَكَانِ، وَالْبَادِيِ وَالْبَاذِهِ وَالْوَارِدِ، وَالْخَاطِرِ وَالْوَاقِعِ وَالْقَادِحِ وَاللَّامِعِ، وَالْغَيْبَةِ وَالْحُضُورِ، وَالْمُحِقِّ وَالْحَقِّ، وَالسُّكْرِ، وَاللَّوَائِحِ وَالطَّوَالِعِ، وَالْعَطَشِ وَالدَّهَشِ، وَالتَّلْبِيسِ، وَالتَّمْكِينِ وَالتَّلْوِينِ، وَالِاسْمِ وَالرَّسْمِ، وَالْجَمْعِ وَجَمْعِ الْجَمْعِ، وَجَمْعِ الشَّوَاهِدِ وَجَمْعِ الْوُجُودِ، وَالْأَثَرِ، وَالْكَوْنِ، وَالْبَوْنِ، وَالِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ، وَالْمُسَامَرَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَالْمُعَايَنَةِ، وَالتَّجَلِّي، وَالتَّخَلِّي، وَأَنَا بِلَا أَنَا، وَأَنْتَ بِلَا أَنْتَ، وَنَحْنُ بِلَا نَحْنُ، وَهُوَ بِلَا هُوَ، وَكُلُّ ذَلِكَ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى تَكَلُّفِ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ وَتَنَطُّعِهِمْ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْفِقْهِ لَهُمْ مِثْلُ هَذَا التَّكَلُّفِ وَأَعْظَمُ مِنْهُ. فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مَحْجُوبُونَ بِمَا لَدَيْهِمْ، مَوْقُوفُونَ عَلَى مَا عِنْدَهُمْ، خَاضُوا - بِزَعْمِهِمْ - بِحَارَ الْعِلْمِ، وَمَا ابْتَلَّتْ أَقْدَامُهُمْ، وَكَدُّوا أَفْكَارَهُمْ وَأَذْهَانَهُمْ وَخَوَاطِرَهُمْ، وَمَا اسْتَنَارَتْ بِالْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنِ الرُّسُلِ قُلُوبُهُمْ وَأَفْهَامُهُمْ، فَرِحِينَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعُلُومِ رَاضِينَ بِمَا قُيِّدُوا بِهِ مِنَ الرُّسُومِ، فَهُمْ فِي وَادٍ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي وَادٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّا لَمْ نَتَجَاوَزْ فِيهِمُ الْقَوْلَ، بَلْ قَصَرْنَا فِيمَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَقُولَهُ، فَذَكَرْنَا غَيْضًا مِنْ فَيْضٍ، وَقَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ. وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ الرَّأْيِ، الَّذِي اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى ذَمِّهِ وَذَمِّ أَهْلِهِ. فَهُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ حَقًّا، الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِيَّاكُمْ

فصل نهاية السالكين تكميل مرتبة العبودية صرفا

وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ، فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا، وَقَالَ أَيْضًا: أَصْحَابُ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْوُوهَا، فَاشْتَغَلُوا عَنْهَا بِالرَّأْيِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي؟ وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي؟ إِنْ قَلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي، أَوْ بِمَا لَا أَعْلَمُ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الرَّأْيَ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصِيبًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ يُرِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَّا الظَّنُّ وَالتَّكَلُّفُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ أَحْدَثَ رَأْيًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ عَلَى مَا هُوَ مِنْهُ إِذَا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، «وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى الدِّينِ، فَقَدْ رَأَيْتُنِي، وَإِنِّي لَأَرُدُّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْيِي، أَجْتَهِدُ، وَاللَّهِ مَا آلُو ذَلِكَ يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَالْكِتَابُ يُكْتَبُ، فَقَالُوا: تَكْتُبُ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَيْتُ، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، تَرَانِي قَدْ رَضِيتُ وَتَأْبَى؟» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسَدِّدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَتِيقٍ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، أَلَا هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، أَلَا هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَالْمَعَانِي الَّتِي نَجِدُهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ تَنَطُّعًا فَلَيْسَ لِلتَّنَطُّعِ حَقِيقَةٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ نِهَايَةُ السَّالِكِينَ تَكْمِيلُ مَرْتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ صَرْفًا] فَصْلٌ فَإِنْ لَمْ يَسْمَحْ قَلْبُكَ بِكَوْنِ التَّوْبَةِ غَايَةَ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، وَلَمْ تُصْغِ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَلَاشِي نِهَايَةِ الِاتِّصَالِ فِي عَيْنِ الْوُجُودِ مَحْقًا، وَتَلَاشِي عُلُومِ الشَّوَاهِدِ فِي الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ صَرْفًا، وَجَمْعُ الْوُجُودِ وَجَمْعُ الْعَيْنِ: هُوَ نِهَايَةُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ، بِحَيْثُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ سَالِكٍ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ بِمُجَرَّدٍ لَا يُعْطِي عُبُودِيَّةً وَلَا إِيمَانًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ غَايَةَ كُلِّ نَبِيٍّ وَوَلِيٍّ وَعَارِفٍ، فَإِنَّ

هَذَا الْجَمْعَ يَحْصُلُ لِلصِّدِّيقِ وَالزِّنْدِيقِ، وَلِلْمَلَاحِدَةِ وَالِاتِّحَادِيَّةِ مِنْهُ حَظٌّ كَبِيرٌ، وَحَوْلَهُ يُدَنْدِنُونَ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ نِهَايَةُ التَّحْقِيقِ، فَأَيْنَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْقِيَامُ بِأَعْبَائِهَا، وَاحْتِمَالُ فَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَأَدَائِهَا، وَالْجِهَادُ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَحَمُّلُ الْأَذَى فِي اللَّهِ فِي هَذَا الْجَمْعِ؟ ! وَأَيْنَ مَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِيهِ مُفَصَّلًا؟ وَأَيْنَ مَعْرِفَةُ مَا يُحِبُّهُ الرَّبُّ تَعَالَى، وَيَكْرَهُهُ مُفَصَّلًا؟ وَأَيْنَ مَعْرِفَةُ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ وَشَرِّ الشَّرَّيْنِ فِيهِ؟ وَأَيْنَ الْعِلْمُ بِمَرَاتِبِ الْعُبُودِيَّةِ وَمَنَازِلِهَا فِيهِ؟ ! . فَالْحَقُّ أَنَّ نِهَايَةَ السَّالِكِينَ تَكْمِيلُ مَرْتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ صَرْفًا، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ لِبَنِي الطَّبِيعَةِ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِذَلِكَ الْخَلِيلَانِ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْخَلْقِ، أَمَّا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ وَفَّى، وَأَمَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - فَإِنَّهُ كَمَّلَ مَرْتَبَةَ الْعُبُودِيَّةِ، فَاسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ عَلَى سَائِرِ الْخَلَائِقِ، فَكَانَ صَاحِبَ الْوَسِيلَةِ وَالشَّفَاعَةِ الَّتِي يَتَأَخَّرُ عَنْهَا جَمِيعُ الرُّسُلِ، وَيَقُولُ هُوَ: أَنَا لَهَا، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْعُبُودِيَّةِ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِهِ، وَأَشْرَفِ أَحْوَالِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] وَقَوْلِهِ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] وَلِهَذَا يَقُولُ الْمَسِيحُ، حِينَ يُرْغَبُ إِلَيْهِ فِي الشَّفَاعَةِ: اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، عَبْدٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَاسْتَحَقَّ تِلْكَ الرُّتْبَةَ الْعُلْيَا بِتَكْمِيلِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ، وَبِكَمَالِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ. فَرَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّ غَايَةَ الْمَقَامَاتِ وَنِهَايَتَهَا: هُوَ التَّوْبَةُ وَالْعُبُودِيَّةُ الْمَحْضَةُ، لَا جَمْعُ الْعَيْنِ، وَلَا جَمْعُ الْوُجُودِ، وَلَا تَلَاشِي الِاتِّصَالِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا الْجَمْعُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ قَامَ بِحَقِيقَةِ التَّوْبَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ. قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْجَمْعُ الَّذِي يَحْصُلُ لِمَنْ قَامَ بِذَلِكَ: هُوَ جَمْعُ الرُّسُلِ وَخُلَفَائِهِمْ، وَهُوَ جَمْعُ الْهِمَّةِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ؛ مَحَبَّةً وَإِنَابَةً وَتَوَكُّلًا، وَخَوْفًا وَرَجَاءً

وَمُرَاقَبَةً، وَجَمْعُ الْهِمَّةِ عَلَى تَنْفِيذِ أَوَامِرِ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ دَعْوَةً وَجِهَادًا، فَهُمَا جَمْعَانِ: جَمْعُ الْقَلْبِ عَلَى الْمَعْبُودِ وَحْدَهُ، وَجَمْعُ الْهَمِّ لَهُ عَلَى مَحْضِ عُبُودِيَّتِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَأَيْنَ شَاهِدُ هَذَيْنِ الْجَمْعَيْنِ؟ قُلْتُ: فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ، فَخُذْهُ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَتَأَمَّلْ مَا فِي قَوْلِهِ " إِيَّاكَ ": التَّخْصِيصُ لِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: " نَعْبُدُ " الَّذِي هُوَ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَلِلْعِبَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مِنِ اسْتِيفَاءِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، حَالًا وَاسْتِقْبَالًا، قَوْلًا وَعَمَلًا، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَى ذَلِكَ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الطَّرِيقُ كُلُّهَا فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الطَّرِيقُ فِي: إِيَّاكَ أُرِيدُ بِمَا تُرِيدُ، فَجَمَعَ الْمُرَادَ فِي وَاحِدٍ، وَالْإِرَادَةَ فِي مُرَادِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَإِلَى هَذَا دَعَتِ الرُّسُلُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَإِلَيْهِ شَخَصَ الْعَامِلُونَ، وَتَوَجَّهَ الْمُتَوَجِّهُونَ، وَكُلُّ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ - مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا - مُنْدَرِجَةٌ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَرَاتِهِ وَمُوجِبَاتِهِ. فَالْعُبُودِيَّةُ تَجْمَعُ كَمَالَ الْحُبِّ فِي كَمَالِ الذُّلِّ، وَكَمَالَ الِانْقِيَادِ لِمَرَاضِي الْمَحْبُوبِ وَأَوَامِرِهِ، فَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي لَيْسَ فَوْقَهَا غَايَةٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَى الْقِيَامِ بِحَقِيقَتِهَا - كَمَا يَجِبُ - سَبِيلٌ، فَالتَّوْبَةُ هِيَ الْمِعْوَلُ وَالْآخِيَّةُ، وَقَدْ عَرَفْتَ - بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ - أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا فِي النِّهَايَةِ أَشَدُّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي الْبِدَايَةِ، وَلَوْلَا تَنَسُّمُ رُوحِهَا لَحَالَ الْيَأْسُ بَيْنَ ابْنِ الْمَاءِ وَالطِّينِ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا لَوْ قَامَ بِمَا يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ لِسَيِّدِهِ مِنْ حُقُوقِهِ، فَكَيْفَ وَالْغَفْلَةُ وَالتَّقْصِيرُ وَالتَّفْرِيطُ وَالتَّهَاوُنُ، وَإِيثَارُ حُظُوظِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ عَلَى حُقُوقِ رَبِّهِ لَا يَكَادُ يَتَخَلَّصُ مِنْهَا، وَلَاسِيَّمَا السَّالِكُ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ وَالْجَمْعِ؟ لِأَنَّ رَبَّهُ يُطَالِبُهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَنَفْسُهُ تُطَالِبُهُ بِالْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ، وَلَوْ حَقَّقَ النَّظَرَ مَعَ نَفْسِهِ وَحَاسَبَهَا حِسَابًا صَحِيحًا لَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ حَظَّهُ يُرِيدُ، وَلَذَّتَهُ يَطْلُبُ، نَعَمْ كُلُّ أَحَدٍ يَطْلُبُ ذَلِكَ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ صَارَ حَظُّهُ نَفْسَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَمَحَابِّهِ، أَحَبَّتْ ذَلِكَ نَفْسُهُ أَوْ كَرِهَتْهُ، وَبَيْنَ مَنْ حَظُّهُ مَا يُرِيدُ مِنْ رَبِّهِ، فَالْأَوَّلُ: حَظُّهُ مُرَادُ رَبِّهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ مِنْهُ، وَهَذَا حَظُّهُ مُرَادُهُ مِنْ رَبِّهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْبَابُ مُسَلَّمٌ لِأَهْلِ الذَّوْقِ، وَأَنْتُمْ تَتَكَلَّمُونَ بِلِسَانِ الْعِلْمِ لَا بِلِسَانِ الذَّوْقِ، وَالذَّائِقُ وَاجِدٌ، وَالْوَاجِدُ لَا يُمْكِنُهُ إِنْكَارُ مَوْجُودِهِ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِ الْعِلْمِ، بَلْ يَدْعُوهُ إِلَى ذَوْقِ مَا ذَاقَهُ، وَيَقُولُ: أَقُولُ لِلَّائِمِ الْمُهْدِي مَلَامَتَهُ ... ذُقِ الْهَوَى وَإِنِ اسْطَعْتَ الْمَلَامَ لُمْ قِيلَ: لَمْ يُنْصِفْ مَنْ أَحَالَ عَلَى الذَّوْقِ، فَإِنَّهَا حِوَالَةٌ عَلَى مَحْكُومٍ عَلَيْهِ لَا عَلَى

حَاكِمٍ، وَعَلَى مَشْهُودٍ لَهُ، لَا عَلَى شَاهِدٍ، وَعَلَى مَوْزُونٍ، لَا عَلَى مِيزَانٍ. وَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ! هَلْ يَدُلُّ مُجَرَّدُ ذَوْقِ الشَّيْءِ عَلَى حُكْمِهِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ؟ وَهَلْ جَعَلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْأَذْوَاقَ وَالْمَوَاجِيدَ حُجَجًا وَأَدِلَّةً، يُمَيَّزُ بِهَا بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَبَيْنَ مَا يَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ؟ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: لَاحْتَجَّ كُلُّ مُبْطِلٍ عَلَى بَاطِلِهِ بِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ، كَمَا تَجِدُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْإِلْحَادِ، فَهَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ - وَهُمْ أَكْفَرُ الْخَلْقِ - يَحْتَجُّونَ بِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِلْحَادِهِمْ حَتَّى لَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: يَا صَاحِبِي أَنْتَ تَنْهَانِي وَتَأْمُرُنِي ... وَالْوَجْدُ أَصْدَقُ نَهَّاءٍ وَأَمَّارِ فَإِنْ أُطِعْكَ وَأَعْصِ الْوَجْدَ رُحْتُ عَمٍ ... عَنِ الْيَقِينِ إِلَى أَوْهَامِ أَخْبَارِ وَعَيْنُ مَا أَنْتَ تَدْعُونِي إِلَيْهِ إِذَا ... حَقَّقْتُهُ بَدَّلَ الْمَنْهِيَّ يَا جَارِ وَيَقُولُ هَذَا الْقَائِلُ: ثَبَتَ عِنْدَنَا - بِالْكَشْفِ وَالذَّوْقِ - مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعَقْلِ، وَكُلُّ مُعْتَقِدٍ لِأَمْرٍ جَازِمٍ بِهِ، مُسْتَحْسِنٌ لَهُ: يَذُوقُ طَعْمَهُ، فَالْمُلْحِدُ يَذُوقُ طَعْمَ الِاتِّحَادِ وَالِانْحِلَالِ مِنَ الدِّينِ، وَالرَّافِضِيُّ يَذُوقُ طَعْمَ الرَّفْضِ، وَمُعَادَاةِ خِيَارِ الْخَلْقِ، وَالْقَدَرِيُّ يَذُوقُ طَعْمَ إِنْكَارِ الْقَدَرِ، وَيَعْجَبُ مِمَّنْ يُثْبِتُهُ، وَالْجَبْرِيُّ عَكْسُهُ، وَالْمُشْرِكُ يَذُوقُ طَعْمَ الشِّرْكِ، حَتَّى إِنَّهُ لِيَسْتَبْشِرُ إِذَا ذُكِرَ إِلَهُهُ وَمَعْبُودُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَشْمَئِزُّ قَلْبُهُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ. وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ قَدْ سَلَكَهُ أَرْبَابُ السَّمَاعِ الْمُحْدَثِ الشَّيْطَانِيِّ، الَّذِي هُوَ مَحْضُ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَهَوَاهَا، وَاحْتَجُّوا عَلَى إِبَاحَةِ هَذَا السَّمَاعِ بِمَا فِيهِ مِنَ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ وَاللَّذَّةِ، وَأَنْتَ تَجِدُ النَّصْرَانِيَّ لَهُ فِي تَثْلِيثِهِ ذَوْقٌ، وَوَجْدٌ وَحَنِينٌ، بِحَيْثُ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ أَشَدُّ الْعَذَابِ لَاخْتَارَهُ، دُونَ أَنْ يُفَارِقَ تَثْلِيثَهُ، لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الذَّوْقِ. وَحِينَئِذٍ، فَيُقَالُ: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا تَقُولُ، وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ الْمُنْكِرَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِ الذَّوْقِ، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَوْقُ الذَّائِقِ لِذَلِكَ حُجَّةً صَحِيحَةً نَافِعَةً لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ؟ وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذَا الْمُنْكِرَ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا مَحْجُوبٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَا أَنْكَرْتُهُ، غَيْرُ ذَائِقٍ لَهُ، وَأَنْتَ ذَائِقٌ وَاصِلٌ، فَمَا عَلَامَةُ مَا ذُقْتَهُ، وَوَصَلْتَ إِلَيْهِ؟ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ وَأَنَا لَا أُنْكِرُ ذَوْقَكَ لَهُ وَوَجْدَكَ بِهِ، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الْمَذُوقِ لَا فِي الذَّوْقِ، وَإِذَا ذَاقَ الْمُحِبُّ الْعَاشِقُ طَعْمَ مَحَبَّتِهِ وَعِشْقِهِ لِمَحْبُوبِهِ، مَا كَانَ غَايَةَ ذَلِكَ: إِلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى وُجُودِ مَحَبَّتِهِ وَعِشْقِهِ، لَا عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ نَافِعًا لَهُ أَوْ ضَارًّا، أَوْ مُوجِبًا لِكَمَالِهِ أَوْ نَقْصِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

فصل التوحيد

[فَصْلٌ التَّوْحِيدُ] [التَّوْحِيدُ أَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ] قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: (بَابُ التَّوْحِيدِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] التَّوْحِيدُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْحَدَثِ، وَإِنَّمَا نَطَقَ الْعُلَمَاءُ بِمَا نَطَقُوا بِهِ، وَأَشَارَ الْمُحَقِّقُونَ بِمَا أَشَارُوا بِهِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ: لِقَصْدِ تَصْحِيحِ التَّوْحِيدِ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ حَالٍ أَوْ مَقَامٍ؛ فَكُلُّهُ مَصْحُوبٌ بِالْعِلَلِ. قُلْتُ: التَّوْحِيدُ أَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَأَوَّلُ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَأَوَّلُ مَقَامٍ يَقُومُ فِيهِ السَّالِكُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] وَقَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65] وَقَالَ صَالِحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73] وَقَالَ شُعَيْبٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] . فَالتَّوْحِيدُ: مِفْتَاحُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَسُولِهِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ - «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» ، وَلِهَذَا

كَانَ الصَّحِيحُ: أَنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا النَّظَرُ، وَلَا الْقَصْدُ إِلَى النَّظَرِ، وَلَا الشَّكُّ - كَمَا هِيَ أَقْوَالٌ لِأَرْبَابِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ. فَالتَّوْحِيدُ: أَوَّلُ مَا يَدْخُلُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَآخِرُ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ، فَهُوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ، وَآخِرُ وَاجِبٍ، فَالتَّوْحِيدُ: أَوَّلُ الْأَمْرِ وَآخِرُهُ. قَوْلُهُ: " التَّوْحِيدُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ الْحَدَثِ "، هَذَا الْحَدُّ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، وَيَنْجُو بِهِ الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ، وَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَيَخْرُجُ مِنَ الشِّرْكِ، فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ الْفِرَقِ، وَكُلُّ مَنْ أَقَرَّ بِوُجُودِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ أَقَرَّ بِهِ، فَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ، وَالْمَجُوسُ، وَالنَّصَارَى، وَالْيَهُودُ، وَالْمُشْرِكُونَ - عَلَى اخْتِلَافِ نِحَلِهِمْ - كُلُّهُمْ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنِ الْحَدَثِ، وَيُثْبِتُونَ قِدَمَهُ، حَتَّى أَعْظَمُ الطَّوَائِفِ عَلَى الْإِطْلَاقِ شِرْكًا، وَكُفْرًا وَإِلْحَادًا، وَهُمْ طَائِفَةُ الِاتِّحَادِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَدَثِ، وَلَمْ تَزَلِ الْمُحْدَثَاتُ تَكْتَسِي وُجُودَهُ، تَلْبَسُهُ وَتَخْلَعُهُ. وَالْفَلَاسِفَةُ - الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنِ الشَّرَائِعِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ - يُثْبِتُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ قَدِيمًا مُنَزَّهًا عَنِ الْحَدَثِ. وَالْمُشْرِكُونَ - عُبَّادُ الْأَصْنَامِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى - يُثْبِتُونَ قَدِيمًا مُنَزَّهًا عَنِ الْحَدَثِ. فَالتَّنْزِيهُ عَنِ الْحَدَثِ حَقٌّ، وَلَكِنْ لَا يُعْطِي إِسْلَامًا وَلَا إِيمَانًا، وَلَا يُدْخِلُ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يُخْرِجُ مِنْ نِحَلِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَمِلَلِهِمُ الْبَتَّةَ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَخْفَى عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَمَحَلُّهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ مَحَلُّهُ. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ سُئِلَ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ الْجُنَيْدُ عَنِ التَّوْحِيدِ؟ فَقَالَ: هُوَ إِفْرَادُ الْقَدِيمِ عَنِ الْمُحْدَثِ، وَالْجُنَيْدُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ دَعْوَى التَّوْحِيدِ، وَلَا مَقَامُهُ وَلَا حَالُهُ، وَلَا

فصل الإفراد الذي أشار إليه الجنيد

يَكُونُ الْعَبْدُ مُوَحِّدًا إِلَّا إِذَا أَفْرَدَ الْقَدِيمَ عَنِ الْمُحْدَثِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنِ ادَّعَى التَّوْحِيدَ لَمْ يُفْرِدْهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ مَنْ نَفَى مُبَايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَجَعَلَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ، لَمْ يُفْرِدْهُ عَنِ الْمُحْدَثِ، بَلْ جَعَلَهُ حَالًّا فِي الْمُحْدَثَاتِ مُخَالِفًا لَهَا، مَوْجُودًا فِيهَا بِذَاتِهِ، وَصُوفِيَّةُ هَؤُلَاءِ وَعُبَّادُهُمْ هُمُ الْحُلُولِيَّةُ، الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَحِلُّ بِذَاتِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُمْ طَائِفَتَانِ: طَائِفَةٌ تُعَمِّمُ الْمَوْجُودَاتِ بِحُلُولِهِ فِيهَا، وَطَائِفَةٌ تَخُصُّ بِهِ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ. قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ: هَذِهِ حِكَايَةُ قَوْلِ قَوْمٍ مِنَ النُّسَّاكِ، وَفِي الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَنْتَحِلُونَ النَّسْكَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ جَائِزٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْحُلُولُ فِي الْأَجْسَامِ، وَإِذَا رَأَوْا شَيْئًا يَسْتَحْسِنُونَهُ قَالُوا: لَا نَدْرِي! لَعَلَّهُ رَبُّنَا. قُلْتُ: وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ طَائِفَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: تَزْعُمُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَحِلُّ فِي الصُّورَةِ الْجَمِيلَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَالثَّانِيَةُ: تَزْعُمُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَحِلُّ فِي الْكُمَّلِ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الَّذِينَ تَجَرَّدَتْ نُفُوسُهُمْ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَاتَّصَفُوا بِالْفَضَائِلِ، وَتَنَزَّهُوا عَنِ الرَّذَائِلِ، وَالنَّصَارَى تَزْعُمُ أَنَّهُ حَلَّ فِي بَدَنِ الْمَسِيحِ وَتَدَرَّعَ بِهِ، وَالِاتِّحَادِيَّةُ تَزْعُمُ أَنَّهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ اكْتَسَتْهُ الْمَاهِيَّاتُ، فَهُوَ عَيْنُ وُجُودِهَا. فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَمْ يُفْرِدُوا الْقَدِيمَ عَنِ الْمُحْدَثِ. [فَصْلٌ الْإِفْرَادُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْجُنَيْدُ] فَصْلٌ وَهَذَا الْإِفْرَادُ - الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْجُنَيْدُ - نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: إِفْرَادٌ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْخَبَرِ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ أَيْضًا، أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ مُبَايَنَةِ الرَّبِّ تَعَالَى لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَعَلُوِّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَأَخْبَرَتْ بِهِ جَمِيعُ الرُّسُلِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَالثَّانِي: إِفْرَادُهُ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَإِثْبَاتُهَا لَهُ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، كَمَا أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ، وَأَثْبَتَهَا لَهُ رُسُلُهُ، مُنَزَّهَةً عَنِ التَّعْطِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالتَّمْثِيلِ، وَالتَّكْيِيفِ وَالتَّشْبِيهِ، بَلْ تُثْبِتُ لَهُ سُبْحَانَهُ حَقَائِقَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَنْفِي عَنْهُ فِيهَا مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ، إِثْبَاتًا بِلَا تَمْثِيلٍ، وَتَنْزِيهًا بِلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . وَفِي هَذَا النَّوْعِ يَكُونُ إِفْرَادُهُ سُبْحَانَهُ بِعُمُومِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ - أَعْيَانِهَا وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا - وَأَنَّهَا كُلَّهَا وَاقِعَةٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَيُبَايِنُ

صَاحِبُ هَذَا الْإِفْرَادِ سَائِرَ فِرَقِ أَهْلِ الْبَاطِلِ: مِنَ الِاتِّحَادِيَّةِ، وَالْحُلُولِيَّةِ، وَالْجَهْمِيَّةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ - الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ رَبٌّ يُعْبَدُ، وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إِلَهٌ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ - وَالْقَدَرِيَّةِ - الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ، مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَلَا عَلَى أَفْعَالِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ - بَلْ يَقَعُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ، وَيُرِيدُ مَا لَا يَكُونُ، فَيُرِيدُ شَيْئًا لَا يَكُونُ، وَيَكُونُ شَيْءٌ بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْإِفْرَادِ: إِفْرَادُ الْقَدِيمِ عَنِ الْمُحَدَثِ بِالْعِبَادَةِ - مِنَ التَّأَلُّهِ، وَالْحُبِّ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالِاسْتِعَانَةِ وَابْتِغَاءِ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ - فَهَذَا الْإِفْرَادُ، وَذَلِكَ الْإِفْرَادُ: بِهِمَا بُعِثَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَشُرِّعَتِ الشَّرَائِعُ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَقَامَ سُوقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَتَفْرِيدُ الْقَدِيمِ سُبْحَانَهُ عَنِ الْمُحْدَثِ: فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، - وَفِي إِرَادَتِهِ، وَحْدَهُ وَمَحَبَّتِهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ وَالْحَلِفِ بِهِ، وَالنَّذْرِ لَهُ، وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَالسُّجُودِ لَهُ، وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ عِبَارَةُ الْجُنَيْدِ عَنِ التَّوْحِيدِ عِبَارَةً سَادَّةً مُسَدَّدَةً. فَشَيْخُ الْإِسْلَامِ: إِنْ أَرَادَ مَا أَرَادَ أَبُو الْقَاسِمِ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُنَزِّهَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَنْ قِيَامِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِهِ - الَّتِي يُسَمِّيهَا نُفَاةُ أَفْعَالِهِ: حُلُولَ الْحَوَادِثِ - وَيَجْعَلُونَ تَنْزِيهَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْهَا مِنْ كَمَالِ التَّوْحِيدِ، بَلْ هُوَ أَصْلُ التَّوْحِيدِ عِنْدَهُمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: التَّوْحِيدُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ حُلُولِ الْحَوَادِثِ. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ: أَنَّ التَّوْحِيدَ - عِنْدَهُمْ - تَعْطِيلُهُ عَنْ أَفْعَالِهِ وَنَفْيُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا الْبَتَّةَ، فَإِنَّ إِثْبَاتَ فَاعِلٍ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ يَقُومُ بِهِ الْبَتَّةَ مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ وَلُغَاتِ الْأُمَمِ، وَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ رَبًّا لِلْعَالَمِ مَعَ نَفْيِ ذَلِكَ أَبَدًا، فَإِنَّ قِيَامَ الْأَفْعَالِ بِهِ هُوَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَحَقِيقَتُهَا، وَنَافِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَافٍ لِأَصْلِ الرُّبُوبِيَّةِ، جَاحِدٌ لَهَا رَأْسًا. وَإِنْ أَرَادَ تَنْزِيهَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ سِمَاتِ الْمُحْدَثِينَ، وَخَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُ تَقْصِيرٌ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ إِثْبَاتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَصْلُ التَّوْحِيدِ، وَمِنْ تَمَامِ هَذَا الْإِثْبَاتِ: تَنْزِيهُهُ سُبْحَانَهُ عَنْ سِمَاتِ الْمُحْدَثِينَ، وَخَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ، وَقَدِ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ الِاتِّحَادِيُّ فِي هَذَا الْحَدِّ، فَقَالَ: شُهُودُ التَّوْحِيدِ يَرْفَعُ الْحُدُوثَ أَصْلًا وَرَأْسًا، فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ وُجُودَانِ - قَدِيمٌ وَمُحْدَثٌ - فَالتَّوْحِيدُ: هُوَ أَنْ لَا يُرَى مَعَ الْوُجُودِ

فصل انقسام الطوائف في التوحيد وتسمية كل طائفة باطلهم توحيدا

الْمُطْلَقِ سِوَاهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ انْقِسَامُ الطَّوَائِفِ فِي التَّوْحِيدِ وَتَسْمِيَةُ كُلِّ طَائِفَةٍ بَاطِلَهُمْ تَوْحِيدًا] فَصْلٌ وَقَدْ تَقَسَّمَتِ الطَّوَائِفُ التَّوْحِيدَ وَسَمَّى كُلُّ طَائِفَةٍ بَاطِلَهُمْ تَوْحِيدًا. فَأَتْبَاعُ إِرِسْطُو وَابْنِ سِينَا وَالنَّصِيرِ الطَّوْسِيِّ، عِنْدَهُمُ التَّوْحِيدُ: إِثْبَاتُ وُجُودٍ مُجَرَّدٍ عَنِ الْمَاهِيَّةِ وَالصِّفَةِ، بَلْ هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ، لَا يَعْرِضُ لِشَيْءٍ مِنَ الْمَاهِيَّاتِ، وَلَا يَقُومُ بِهِ وَصْفٌ، وَلَا يَتَخَصَّصُ بِنَعْتٍ، بَلْ صِفَاتُهُ كُلُّهَا سُلُوبٌ وَإِضَافَاتٌ، فَتَوْحِيدُ هَؤُلَاءِ: هُوَ غَايَةُ الْإِلْحَادِ وَالْجَحْدِ وَالْكُفْرِ، وَفُرُوعُ هَذَا التَّوْحِيدِ: إِنْكَارُ ذَاتِ الرَّبِّ، وَالْقَوْلُ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ، وَأَنَّهَا حِرْفَةٌ مِنَ الْحِرَفِ، كَالْوِلَايَةِ وَالسِّيَاسَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَ الْأَفْلَاكِ وَلَا الْكَوَاكِبِ، وَلَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْمُعَيَّنَةِ الْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَلْبِ شَيْءٍ مِنْ أَعْيَانِ الْعَالَمِ وَلَا شَقِّ الْأَفْلَاكِ وَلَا خَرْقِهَا، وَأَنَّهُ: لَا حَلَالَ وَلَا حَرَامَ، وَلَا أَمْرَ وَلَا نَهْيَ، وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، فَهَذَا تَوْحِيدُ هَؤُلَاءِ. وَأَمَّا الِاتِّحَادِيَّةُ، فَالتَّوْحِيدُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْحَقَّ الْمُنَزَّهَ هُوَ عَيْنُ الْخَلْقِ الْمُشَبَّهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ، وَحَقِيقَتُهُ وَمَاهِيَّتُهُ، وَأَنَّهُ آيَةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَهُ فِيهِ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَيْنُهُ، وَهَذَا عِنْدَ مُحَقِّقِيهِمْ مِنْ خَطَأِ التَّعْبِيرِ، بَلْ هُوَ نَفْسُ الْآيَةِ، وَنَفْسُ الدَّلِيلِ، وَنَفْسُ الْمُسْتَدِلِّ، وَنَفْسُ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ، فَالتَّعَدُّدُ: بِوُجُودِ اعْتِبَارَاتٍ وَهْمِيَّةٍ، لَا

بِالْحَقِيقَةِ وَالْوُجُودِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ عَيْنُ النَّاكِحِ، وَعَيْنُ الْمَنْكُوحِ وَعَيْنُ الذَّابِحِ، وَعَيْنُ الْمَذْبُوحِ، وَعَيْنُ الْآكِلِ، وَعَيْنُ الْمَأْكُولِ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ: هُوَ السِّرُّ الَّذِي رَمَزَتْ إِلَيْهِ هَوَامِسُ الدُّهُورِ الْأَوَّلِيَّةِ، وَرَامَتْ إِفَادَتَهُ الْهِدَايَةُ النَّبَوِيَّةُ، كَمَا قَالَهُ مُحَقِّقُهُمْ وَعَارِفُهُمْ ابْنُ سَبْعِينَ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا التَّوْحِيدِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مُؤْمِنُونَ كَامِلُو الْإِيمَانِ، عَارِفُونَ بِاللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا عَبَدُوا عَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا غَيْرَهُ، وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّ الْحَقَّ أَنْ لَا فَرْقَ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْأُخْتِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْخَمْرِ، وَالزِّنَا وَالنِّكَاحِ، الْكُلُّ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ، وَإِنَّمَا الْمَحْجُوبُونَ عَنْ هَذَا السِّرِّ قَالُوا: هَذَا حَرَامٌ وَهَذَا حَلَالٌ، نَعَمْ هُوَ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ فِي حِجَابٍ عَنْ حَقِيقَةِ هَذَا التَّوْحِيدِ، وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ ضَيَّقُوا الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ، وَبَعَّدُوا عَلَيْهِمُ الْمَقْصُودَ، وَالْأَمْرُ وَرَاءَ مَا جَاءُوا بِهِ، وَدَعَوْا إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ، فَالتَّوْحِيدُ عِنْدَهُمْ: إِنْكَارُ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ بِذَاتِهِ، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَإِنْكَارُ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَقَوَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، وَكَلَامِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَمَحَبَّةِ الْعِبَادِ لَهُ، فَالتَّوْحِيدُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ. وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ، فَالتَّوْحِيدُ عِنْدَهُمْ: هُوَ إِنْكَارُ قَدَرَ اللَّهِ، وَعُمُومِ مَشِيئَتِهِ لِلْكَائِنَاتِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، وَمُتَأَخِّرُوهُمْ ضَمُّوا إِلَى ذَلِكَ: تَوْحِيدَ الْجَهْمِيَّةِ، فَصَارَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ عِنْدَهُمْ: إِنْكَارَ الْقَدَرِ، وَإِنْكَارَ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، وَرُبَّمَا سَمَّوْا إِنْكَارَ الْقَدَرِ، وَالْكُفْرَ بِقَضَاءِ الرَّبِّ وَقَدَرِهِ: عَدْلًا، وَقَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ.

فصل أنواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل

وَأَمَّا الْجَبْرِيَّةُ، فَالتَّوْحِيدُ عِنْدَهُمْ: هُوَ تَفَرُّدُ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالْفِعْلِ، وَأَنَّ الْعِبَادَ غَيْرُ فَاعِلِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا مُحْدِثِينَ لِأَفْعَالِهِمْ، وَلَا قَادِرِينَ عَلَيْهَا، وَأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَمْ يَفْعَلْ لِحِكْمَةٍ، وَلَا غَايَةٍ تُطْلَبُ بِالْفِعْلِ، وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قُوًى وَطَبَائِعُ وَغَرَائِزُ وَأَسْبَابٌ، بَلْ مَا تَمَّ إِلَّا مَشِيئَةٌ مَحْضَةٌ تُرَجِّحُ مَثَلًا عَلَى مَثَلٍ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ وَلَا حِكْمَةٍ وَلَا سَبَبٍ الْبَتَّةَ. وَأَمَّا صَاحِبُ الْمَنَازِلِ - وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ - فَالتَّوْحِيدُ عِنْدَهُمْ: نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا غَيْرُ مَوْجُودٍ وَلَا مُمْكِنٍ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الْعَبْدِ رَبَّهُ، فَعِنْدَهُمْ: مَا وَحَّدَ الْوَاحِدُ مِنْ وَاحِدٍ ... إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ وَالثَّانِي: تَوْحِيدٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الرَّبِّ لِنَفْسِهِ، وَكُلُّ مَنْ يَنْعَتُهُ سِوَاهُ فَهُوَ مُلْحِدٌ، فَهَذَا تَوْحِيدُ الطَّوَائِفِ، وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ؟ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أَنْوَاعُ التَّوْحِيدِ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ] فَصْلٌ وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ رُسُلُ اللَّهِ، وَنَزَلَتْ بِهِ كُتُبُهُ: فَوَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهُ وَهُوَ نَوْعَانِ: تَوْحِيدٌ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالْإِثْبَاتِ، وَتَوْحِيدٌ فِي الْمَطْلَبِ وَالْقَصْدِ. فَالْأَوَّلُ: هُوَ حَقِيقَةُ ذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَعُلُوِّهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَتَكَلُّمِهِ بِكُتُبِهِ، وَتَكْلِيمِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَإِثْبَاتِ عُمُومِ قَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ، وَحُكْمِهِ، وَقَدْ أَفْصَحَ الْقُرْآنُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ جِدَّ الْإِفْصَاحِ. كَمَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ، وَسُورَةِ طَهَ، وَآخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ، وَأَوَّلِ سُورَةِ " تَنْزِيلُ " السَّجْدَةِ، وَأَوَّلِ سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ، وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ بِكَمَالِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِثْلُ مَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَقَوْلِهِ: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64]- الْآيَةَ وَأَوَّلِ سُورَةِ " تَنْزِيلُ الْكِتَابِ " وَآخِرِهَا، وَأَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ وَوَسَطِهَا وَآخِرِهَا، وَأَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَآخِرِهَا، وَجُمْلَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَالِبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، بَلْ كُلُّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِنَوْعَيِ التَّوْحِيدِ. بَلْ نَقُولُ قَوْلًا كُلِّيًّا: إِنَّ كُلَّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّوْحِيدِ، شَاهِدَةٌ بِهِ، دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ: إِمَّا خَبَرٌ عَنِ اللَّهِ، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَهُوَ التَّوْحِيدُ

مراتب التوحيد

الْعِلْمِيُّ الْخَبَرِيُّ، وَإِمَّا دَعْوَةٌ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَخَلْعُ كُلِّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ، فَهُوَ التَّوْحِيدُ الْإِرَادِيُّ الطَّلَبِيُّ، وَإِمَّا أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَإِلْزَامٌ بِطَاعَتِهِ فِي نَهْيِهِ وَأَمْرِهِ، فَهِيَ حُقُوقُ التَّوْحِيدِ وَمُكَمِّلَاتُهُ، وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لِأَهْلِ تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُكْرِمُهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ جَزَاءُ تَوْحِيدِهِ وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّكَالِ، وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْعُقْبَى مِنَ الْعَذَابِ، فَهُوَ خَبَرٌ عَمَّنْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ التَّوْحِيدِ. [مَرَاتِبُ التَّوْحِيدِ] فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ فِي التَّوْحِيدِ وَحُقُوقِهِ وَجَزَائِهِ، وَفِي شَأْنِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ وَجَزَائِهِمْ فَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] تَوْحِيدٌ {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] تَوْحِيدٌ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] تَوْحِيدٌ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] تَوْحِيدٌ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] تَوْحِيدٌ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] تَوْحِيدٌ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] تَوْحِيدٌ مُتَضَمِّنٌ لِسُؤَالِ الْهِدَايَةِ إِلَى طَرِيقِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] الَّذِينَ فَارَقُوا التَّوْحِيدَ، وَلِذَلِكَ شَهِدَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا التَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لَهُ بِهِ مَلَائِكَتُهُ، وَأَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ، قَالَ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18] . فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ إِثْبَاتَ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، وَالرَّدَّ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ، وَالشَّهَادَةَ بِبُطْلَانِ أَقْوَالِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَبَيَّنُ بَعْدَ فَهْمِ الْآيَةِ بِبَيَانِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْحَقَائِقِ الْإِيمَانِيَّةِ. فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: أَجَلَّ شَهَادَةٍ، وَأَعْظَمَهَا، وَأَعْدَلَهَا، وَأَصْدَقَهَا، مِنْ أَجَلِّ شَاهِدٍ، بِأَجَلِّ مَشْهُودٍ بِهِ، وَعِبَارَاتُ السَّلَفِ فِي " شَهِدَ " تَدُورُ عَلَى الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ، وَالْإِعْلَامِ وَالْبَيَانِ، وَالْإِخْبَارِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: حَكَمَ، وَقَضَى، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بَيَّنَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَعْلَمَ وَأَخْبَرَ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا حَقٌّ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهَا فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَتَضَمَّنُ كَلَامَ الشَّاهِدِ وَخَبَرَهُ، وَقَوْلَهُ، وَتَتَضَمَّنُ إِعْلَامَهُ، وَإِخْبَارَهُ وَبَيَانَهُ، فَلَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ، فَأَوَّلُ مَرَاتِبِهَا: عِلْمٌ، وَمَعْرِفَةٌ، وَاعْتِقَادٌ لِصِحَّةِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَثُبُوتِهِ، وَثَانِيهَا: تَكَلُّمُهُ بِذَلِكَ، وَنُطْقُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْ بِهِ غَيْرَهُ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِهِ مَعَ نَفْسِهِ وَيَذْكُرُهَا، وَيَنْطِقُ بِهَا أَوْ يَكْتُبُهَا، وَثَالِثُهَا: أَنْ يُعْلِمَ غَيْرَهُ بِمَا شَهِدَ بِهِ، وَيُخْبِرَهُ بِهِ، وَيُبَيِّنَهُ لَهُ، وَرَابِعُهَا: أَنْ يُلْزِمَهُ بِمَضْمُونِهَا وَيَأْمُرَهُ بِهِ.

فَشَهَادَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَةَ: عِلْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ، وَتَكَلُّمَهُ بِهِ، وَإِعْلَامَهُ، وَإِخْبَارَهُ لِخَلْقِهِ بِهِ، وَأَمْرَهُمْ وَإِلْزَامَهُمْ بِهِ. أَمَّا مَرْتَبَةُ الْعِلْمِ: فَإِنَّ الشَّهَادَةَ بِالْحَقِّ تَتَضَمَّنُهَا ضَرُورَةً، وَإِلَّا كَانَ الشَّاهِدُ شَاهِدًا بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ وَأَشَارَ إِلَى الشَّمْسِ» . وَأَمَّا مَرْتَبَةُ التَّكَلُّمِ وَالْخَبَرِ: فَمَنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ وَأَخْبَرَ بِهِ فَقَدْ شَهِدَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالشَّهَادَةِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150] وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19] . فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ شَهَادَةً، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظُوا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يُؤَدُّوهَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ» وَشَهَادَةُ الزُّورِ هِيَ قَوْلُ الزُّورِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30] وَعِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ» فَسَمَّى قَوْلَ الزُّورِ شَهَادَةً، وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى إِقْرَارَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ شَهَادَةً، قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]

فَشَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ: هِيَ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ الْأَسْلَمِيِّ: «فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ رَجَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، وَقَالَ تَعَالَى: {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130] . وَهَذَا - وَأَضْعَافُهُ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ: لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ - وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَلَفَّظُوا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَالْعَشَرَةُ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ، لَمْ يَتَلَفَّظْ فِي شَهَادَتِهِ لَهُمْ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، بَلْ قَالَ: «أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ» الْحَدِيثَ.

وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ إِسْلَامُهُ عَلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: «حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةٌ مِنْهُمْ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ شَوَاهِدُهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلَيْسَ مَعَ مَنِ اشْتَرَطَ لَفَظَ الشَّهَادَةِ، دَلِيلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَأَمَّا مَرْتَبَةُ الْإِعْلَامِ وَالْإِخْبَارِ، فَنَوْعَانِ: إِعْلَامٌ بِالْقَوْلِ، وَإِعْلَامٌ بِالْفِعْلِ، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُعْلِمٍ لِغَيْرِهِ بِأَمْرٍ: تَارَةً يُعْلِمُهُ بِقَوْلِهِ، وَتَارَةً بِفِعْلِهِ، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ جَعَلَ دَارًا مَسْجِدًا، وَفَتَحَ بَابَهَا لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ إِلَيْهَا، وَأَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِيهَا: مُعْلِمًا أَنَّهَا وَقْفٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ وُجِدَ مُتَقَرِّبًا إِلَى غَيْرِهِ بِأَنْوَاعِ الْمَسَارِ: مُعْلِمًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِقَوْلِهِ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَبَيَانُهُ وَإِعْلَامُهُ، يَكُونُ بِقَوْلِهِ تَارَةً، وَبِفِعْلِهِ تَارَةً أُخْرَى، فَالْقَوْلُ: هُوَ مَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، وَمِمَّا قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ: أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ أَخْبَرُوا عَنِ اللَّهِ: أَنَّهُ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَشْهَدُوا بِهِ، وَشَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَعْلُومَةٌ مِنْ جِهَةِ كُلِّ مَنْ بَلَّغَ عَنْهُ كَلَامَهُ. وَأَمَّا بَيَانُهُ وَإِعْلَامُهُ بِفِعْلِهِ: فَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ خَبَرُهُ تَعَالَى عَنِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ الَّتِي تُعْلَمُ دَلَالَتُهَا بِالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، وَهَذَا أَيْضًا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الدَّلَالَةِ، وَالْإِرْشَادِ وَالْبَيَانِ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ يُبَيِّنُ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ وَيُظْهِرُهُ، كَمَا يُبَيِّنُهُ الشَّاهِدُ وَالْمُخْبِرُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْبَيَانُ بِالْفِعْلِ أَظْهَرَ وَأَبْلَغَ، وَقَدْ يُسَمَّى شَاهِدُ الْحَالِ نُطْقًا وَقَوْلًا وَكَلَامًا، لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ، وَأَدَائِهِ مُؤَدَّاهُ، كَمَا قِيلَ: وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً ... وَحَدَّرَتَا بِالدُّرِّ لَمَّا يُثْقَبِ وَقَالَ الْآخَرُ: شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ... صَبْرًا جَمِيلًا فَكِلَانَا مُبْتَلَى

وَقَالَ الْآخَرُ: امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي ... مَهْلًا رُوَيْدًا قَدْ مَلَأْتَ بَطْنِي وَيُسَمَّى هَذَا شَهَادَةً أَيْضًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17] فَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يَفْعَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ وَأَقْوَالِهِ، فَهِيَ شَهَادَةٌ بِكُفْرِهِمْ، وَهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا شَهِدَتْ بِهِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَشْهَدُ بِمَا جَعَلَ آيَاتِهِ الْمَخْلُوقَةَ دَالَّةً عَلَيْهِ، فَإِنَّ دَلَالَتَهَا إِنَّمَا هِيَ بِخَلْقِهِ وَجَعْلِهِ، وَيَشْهَدُ بِآيَاتِهِ الْقَوْلِيَّةِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُطَابِقَةِ لِمَا شَهِدَتْ بِهِ آيَاتُهُ الْخَلْقيَّةُ، فَتَتَطَابَقُ شَهَادَةُ الْقَوْلِ وَشَهَادَةُ الْفِعْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] ، أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَدُلُّ بِآيَاتِهِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ عَلَى صِدْقِ آيَاتِهِ الْقَوْلِيَّةِ الْكَلَامِيَّةِ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ الْفِعْلِيَّةُ قَدْ ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالتَّفْسِيرِ، قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: شَهِدَ اللَّهُ بِتَدْبِيرِهِ الْعَجِيبِ وَأُمُورِهِ الْمُحْكَمَةِ عِنْدَ خَلْقِهِ: أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ - وَهِيَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ وَالْإِلْزَامُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدُ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ، لَكِنِ الشَّهَادَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَتَتَضَمَّنُهُ - فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِدَ بِهِ شَهَادَةَ مَنْ حَكَمَ بِهِ، وَقَضَى وَأَمَرَ، وَأَلْزَمَ عِبَادَهَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 51] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء: 22] ، وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص: 88] وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ.

فصل تفسير قوله تعالى " قائما بالقسط

وَوَجْهُ اسْتِلْزَامِ شَهَادَتِهِ سُبْحَانَهُ لِذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَقَدْ أَخْبَرَ، وَبَيَّنَ وَأَعْلَمَ، وَحَكَمَ وَقَضَى: أَنَّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ، وَأَنَّ إِلَهِيَّةَ مَا سِوَاهُ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ، وَإِثْبَاتَهَا أَظْلَمُ الظُّلْمِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، كَمَا لَا تَصْلُحُ الْإِلَهِيَّةُ لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِاتِّخَاذِهِ وَحْدَهُ إِلَهًا، وَالنَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ غَيْرِهِ مَعَهَا إِلَهًا، وَهَذَا يَفْهَمُهُ الْمُخَاطَبُ مِنْ هَذَا النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، كَمَا إِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا يَسْتَفْتِي أَوْ يَسْتَشْهِدُ، أَوْ يَسْتَطِبُّ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَيَدَعُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، فَتَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِمُفْتٍ وَلَا شَاهِدٍ وَلَا طَبِيبٍ، الْمُفْتِي فُلَانٌ، وَالشَّاهِدُ فُلَانٌ، وَالطَّبِيبُ فُلَانٌ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنْكَ وَنَهْيٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، فَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، تَضَمَّنَ هَذَا الْإِخْبَارُ: أَمْرَ الْعِبَادِ وَإِلْزَامَهُمْ بِأَدَاءِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْقِيَامَ بِذَلِكَ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا شَهِدَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تَضَمَّنَتْ شَهَادَتُهُ الْأَمْرَ وَالْإِلْزَامَ بِتَوْحِيدِهِ. وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجُمَلِ الْخَبَرِيَّةِ، فَيُقَالُ لِلْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ قَضِيَّةٌ وَحُكْمٌ وَقَدْ حَكَمَ فِيهَا بِكَيْتَ وَكَيْتَ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 151] فَجَعَلَ هَذَا الْإِخْبَارَ الْمُجَرَّدَ مِنْهُمْ حُكْمًا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35] لَكِنَّ هَذَا حُكْمٌ لَا إِلْزَامَ مَعَهُ، وَالْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ: مُتَضَمِّنٌ لِلْإِلْزَامِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى " قَائِمًا بِالْقِسْطِ] فَصْلٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] " الْقِسْطِ ": هُوَ الْعَدْلُ، فَشَهِدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُ قَائِمٌ بِالْعَدْلِ فِي تَوْحِيدِهِ، وَبِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي عَدْلِهِ، وَالتَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ هُمَا جِمَاعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ، فَإِنَّ التَّوْحِيدَ يَتَضَمَّنُ تَفَرُّدَهُ سُبْحَانَهُ بِالْكَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالْمَجْدِ وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ سِوَاهُ، وَالْعَدْلُ يَتَضَمَّنُ وُقُوعَ أَفْعَالِهِ كُلِّهَا عَلَى السَّدَادِ وَالصَّوَابِ وَمُوَافَقَةِ الْحِكْمَةِ. فَهَذَا تَوْحِيدُ الرُّسُلِ وَعَدْلُهُمْ: إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ، وَالْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ

لَهُ، وَإِثْبَاتُ الْقَدَرِ وَالْحِكَمِ، وَالْغَايَاتِ الْمَطْلُوبَةِ الْمَحْمُودَةِ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ، لَا تَوْحِيدَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، الَّذِي هُوَ إِنْكَارُ الصِّفَاتِ وَحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَعَدْلُهُمْ، الَّذِي هُوَ: التَّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ، أَوْ نَفْيُ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ وَالْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي يَفْعَلُ اللَّهُ لِأَجْلِهَا وَيَأْمُرُ، وَقِيَامُهُ سُبْحَانَهُ بِالْقِسْطِ فِي شَهَادَتِهِ يَتَضَمَّنُ أُمُورًا. أَحَدَهَا: أَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ أَعْدَلُ شَهَادَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنْكَارُهَا وَجُحُودُهَا أَعْظَمُ الظُّلْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَا أَعْدَلَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَلَا أَظْلَمَ مِنَ الشِّرْكِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَائِمٌ بِالْعَدْلِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا، حَيْثُ شَهِدَ بِهَا، وَأَخْبَرَ وَأَعْلَمَ عِبَادَهُ، وَبَيَّنَ لَهُمْ تَحْقِيقَهَا وَصِحَّتَهَا، وَأَلْزَمَهُمْ بِمُقْتَضَاهَا، وَحَكَمَ بِهِ، وَجَعَلَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَيْهَا، وَجَعَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ حُقُوقِهَا وَوَاجِبَاتِهَا، فَالدِّينُ كُلُّهُ مِنْ حُقُوقِهَا، وَالثَّوَابُ كُلُّهُ عَلَيْهَا، وَالْعِقَابُ كُلُّهُ عَلَى تَرْكِهَا. وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي قَامَ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَأَوَامِرُهُ كُلُّهَا تَكْمِيلٌ لَهَا، وَأَمْرٌ بِأَدَاءِ حُقُوقِهَا، وَنَوَاهِيهِ كُلُّهَا صِيَانَةٌ لَهَا عَمَّا يَهْضِمُهَا وَيُضَادُّهَا، وَثَوَابُهُ كُلُّهُ عَلَيْهَا، وَعِقَابُهُ كُلُّهُ عَلَى تَرْكِهَا، وَتَرْكِ حُقُوقِهَا، وَخَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا كَانَ بِهَا وَلِأَجْلِهَا، وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي خُلِقَتْ بِهِ، وَضِدُّهَا هُوَ الْبَاطِلُ وَالْعَبَثُ الَّذِي نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ، وَأَخْبَرَ: أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ بِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، قَالَ تَعَالَى - رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ - {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] ، وَقَالَ تَعَالَى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ - مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 1 - 3] وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5] ، وَقَالَ {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 8] وَقَالَ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38] وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالْحَقُّ الَّذِي خُلِقَتْ بِهِ

السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَلِأَجْلِهِ: هُوَ التَّوْحِيدُ، وَحُقُوقُهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَالشَّرْعُ وَالْقَدَرُ، وَالْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ قَائِمٌ بِالْعَدْلِ، وَالتَّوْحِيدُ صَادِرٌ عَنْهُمَا، وَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي عَلَيْهِ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قَالَ تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ - {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، فَهُوَ يَقُولُ الْحَقَّ، وَيَفْعَلُ الْعَدْلَ {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 115 - 4] . فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ - الَّذِي عَلَيْهِ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: هُوَ مُقْتَضَى التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76] فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَلِلصَّنَمِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَالصَّنَمُ مَثَلُ الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ، أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] هُوَ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] وَقَوْلُهُ {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي " شَهِدَ اللَّهُ " وَالْعَامِلُ فِيهَا الْفِعْلُ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: شَهِدَ اللَّهُ حَالَ قِيَامِهِ بِالْقِسْطِ: أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ " هُوَ " وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، حَالَ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، وَبَيْنَ التَّقْدِيرَيْنِ فَرْقٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلَ: يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمَعْنَى: " شَهِدَ اللَّهُ " مُتَكَلِّمًا بِالْعَدْلِ، مُخْبِرًا بِهِ، آمِرًا بِهِ، فَاعِلًا لَهُ، مُجَازِيًا بِهِ - أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَإِنَّ الْعَدْلَ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالْمُقْسِطُ هُوَ الْعَادِلُ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، فَشَهِدَ اللَّهُ قَائِمًا بِالْعَدْلِ - قَوْلًا وَفِعْلًا - أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَفِي ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ شَهَادَةَ عَدْلٍ وَقِسْطٍ، وَهِيَ أَعْدَلُ شَهَادَةٍ، كَمَا أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ أَعْدَلُ شَيْءٍ، وَأَصَحُّهُ وَأَحَقُّهُ، وَذَكَرَ ابْنُ السَّائِبِ وَغَيْرُهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ مَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ، وَهُوَ «أَنَّ حَبْرَيْنِ مِنْ أَحْبَارِ الشَّامِ قَدِمَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا أَبْصَرَا الْمَدِينَةَ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ بِمَدِينَةِ النَّبِيِّ الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ

الزَّمَانِ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَا لَهُ: أَنْتَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَحْمَدُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَا: نَسْأَلُكَ عَنْ شَهَادَةٍ، فَإِنْ أَخْبَرَتْنَا بِهَا آمَنَّا بِكَ، قَالَ: سَلَانِي، قَالَا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَعْظَمِ شَهَادَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَنَزَلَتْ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18]- الْآيَةَ» وَإِذَا كَانَ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ سُبْحَانَهُ يَشْهَدُ وَهُوَ قَائِمٌ بِالْعَدْلِ عَالِمٌ بِهِ، لَا بِالظُّلْمِ، فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تَضَمَّنَتْ قَوْلًا وَعَمَلًا، فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ: أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَحْدَهُ: هُمُ الْمُفْلِحُونَ السُّعَدَاءُ، وَأَنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ هُمُ الضَّالُّونَ الْأَشْقِيَاءُ، فَإِذَا شَهِدَ قَائِمًا بِالْعَدْلِ - الْمُتَضَمِّنِ جَزَاءَ الْمُخْلِصِينَ بِالْجَنَّةِ، وَجَزَاءَ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّارِ -: كَانَ هَذَا مِنْ تَمَامِ مُوجَبِ الشَّهَادَةِ وَتَحْقِيقِهَا، وَكَانَ قَوْلُهُ {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] تَنْبِيهًا عَلَى جَزَاءِ الشَّاهِدِ بِهَا وَالْجَاحِدِ لَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الثَّانِي - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: " قَائِمًا " حَالًا مِمَّا بَعْدَ إِلَّا - فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ قَائِمًا بِالْعَدْلِ، فَهُوَ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ الْإِلَهِيَّةَ، مَعَ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا التَّقْدِيرُ أَرْجَحُ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَأُولِي الْعِلْمِ يَشْهَدُونَ لَهُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ. قُلْتُ: مُرَادُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ قَوْلُهُ {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] حَالًا مِنَ الْمَشْهُودِ بِهِ، فَهُوَ كَالصِّفَةِ لَهُ، فَإِنَّ الْحَالَ صِفَةٌ فِي الْمَعْنَى لِصَاحِبِهَا، فَإِذَا وَقَعَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى ذِي الْحَالِ وَصَاحِبِهَا كَانَ كِلَاهُمَا مَشْهُودًا بِهِ، فَيَكُونُ الْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَدْ شَهِدُوا بِأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ، كَمَا شَهِدُوا بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَالتَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ لَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ: شَهِدَ اللَّهُ - قَائِمًا بِالْقِسْطِ - أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةَ وَأُولُو الْعِلْمِ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ: كَانَ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ حَالًا مِنِ اسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ. وَأَيْضًا فَكَوْنُهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ فِيمَا شَهِدَ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ كَوْنِهِ حَالًا مِنْ مُجَرَّدِ الشَّهَادَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ حَالًا مِنْ " هُوَ " فَهَلَّا اقْتَرَنَ بِهِ؟ وَلِمَ فُصِلَ بَيْنَ صَاحِبِ الْحَالِ وَبَيْنَهَا بِالْمَعْطُوفِ، فَجَاءَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ صَاحِبِ الْحَالِ وَبَيْنَهَا؟ قُلْتُ: فَائِدَتُهُ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ; لَأُوهِمَ عَطْفُ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]

وَلَا يَحْسُنُ الْعَطْفُ لِأَجْلِ الْفَصْلِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْقِسْطِ مُخْتَصٌّ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَهُوَ وَحْدَهُ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ الْمُسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْمُجَازِي الْمُثِيبُ الْمُعَاقِبُ بِالْعَدْلِ. قَوْلُهُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ "، ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ: الْأُولَى وَصْفٌ وَتَوْحِيدٌ، وَالثَّانِيَةُ: رَسْمٌ وَتَعْلِيمٌ، أَيْ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْأُولَى تَضَمَّنَتْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَهِدَ بِهَا وَأَخْبَرَ بِهَا، وَالتَّالِي لِلْقُرْآنِ إِنَّمَا يُخْبِرُ عَنْ شَهَادَتِهِ هُوَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَهَادَةٌ مِنَ التَّالِي نَفْسِهِ، فَأَعَادَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَهَا مُجَرَّدَةً لِيَقُولَهَا التَّالِي، فَيَكُونَ شَاهِدًا هُوَ أَيْضًا. وَأَيْضًا فَالْأُولَى: خَبَرٌ عَنِ الشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالثَّانِيَةُ: خَبَرٌ عَنْ نَفْسِ التَّوْحِيدِ، وَخَتَمَ بِقَوْلِهِ: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] فَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ تَوْحِيدَهُ وَعَدْلَهُ، وَعِزَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ، فَالتَّوْحِيدُ: يَتَضَمَّنُ ثُبُوتَ صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، وَعَدَمَ الْمُمَاثِلِ لَهُ فِيهَا وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْعَدْلُ يَتَضَمَّنُ وَضْعَهُ الْأَشْيَاءَ مَوْضِعَهَا، وَتَنْزِيلَهَا مَنَازِلَهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا بِمُخَصِّصٍ اقْتَضَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، وَلَا يَمْنَعُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَطَاءَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ مُسْتَحِقًّا، وَالْعِزَّةُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَقَهْرِهِ، وَالْحِكْمَةُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ عِلْمِهِ، وَخِبْرَتِهِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ وَنَهَى، وَخَلَقَ وَقَدَّرَ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا كَمَالَ الْحَمْدِ. فَاسْمُهُ الْعَزِيزُ يَتَضَمَّنُ الْمُلْكَ، وَاسْمُهُ الْحَكِيمُ يَتَضَمَّنُ الْحَمْدَ، وَأَوَّلُ الْآيَةِ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِهِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ كَانَ حَسَنًا فِي نَفْسِهِ وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ كَانَ قَبِيحًا فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ كَانَ صِدْقًا، وَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا كَانَ صَوَابًا، وَإِذَا أَرَادَ شَيْئًا كَانَ أَوْلَى بِالْإِرَادَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا الْوَصْفُ عَلَى الْكَمَالِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ. فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ: الدَّلَالَةَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ الْمُنَافِيَةِ لِلشِّرْكِ، وَعَدْلِهُ الْمُنَافِي لِلظُّلْمِ، وَعِزَّتِهِ الْمُنَافِيَةِ لِلْعَجْزِ، وَحِكْمَتِهِ الْمُنَافِيَةِ لِلْجَهْلِ وَالْعَيْبِ، فَفِيهَا الشَّهَادَةُ لَهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَالْعَدْلِ، وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَلِهَذَا كَانَتْ أَعْظَمَ شَهَادَةٍ.

وَلَا يَقُومُ لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ إِلَّا أَهْلُ السُّنَّةِ، وَسَائِرُ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ لَا يَقُومُونَ بِهَا، فَالْفَلَاسِفَةُ أَشَدُّ النَّاسِ إِنْكَارًا وَجُحُودًا لِمَضْمُونِهَا، مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَطَوَائِفُ الِاتِّحَادِيَّةِ: هُمْ أَبْعَدُ خَلْقِ اللَّهِ عَنْهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَطَائِفَةُ الْجَهْمِيَّةِ تُنْكِرُ حَقِيقَتَهَا مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ، مَحَبَّةً لَهُ، وَاشْتِيَاقًا إِلَيْهِ، وَإِنَابَةً، وَعِنْدَهُمْ: أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ وَلَا يُحَبُّ. وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ كَلَامُهُ وَخَبَرُهُ عَمَّا شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ لَا يَقُولُ وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَشْهَدُ وَلَا يُخْبِرُ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ مُبَايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَعِنْدَ فِرَعَوْنِيِّهِمْ: أَنَّهُ لَا يُبَايِنُ الْخَلْقَ وَلَا يُحَايِثُهُمْ، وَلَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ إِلَهٌ يُعْبَدُ، وَلَا رَبٌّ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ. وَعِنْدَ حُلُولِيَّتِهِمْ: أَنَّهُ حَالٌّ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ، حَتَّى فِي الْأَمْكِنَةِ الَّتِي يُسْتَحْيَى مِنْ ذِكْرِهَا، فَهَؤُلَاءِ مُثْبِتَةُ الْجَهْمِيَّةِ، وَأُولَئِكَ نُفَاتُهُمْ. وَمِنْهَا: أَنَّ قِيَامَهُ بِالْقِسْطِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، وَعِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ وَلَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ وَلَا قَوْلٌ الْبَتَّةَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: مَخْلُوقٌ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَفِعْلَهُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْمُنْفَصِلُ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِعْلٌ يَكُونُ بِهِ فَاعِلًا حَقِيقَةً: فَلَا. وَمِنْهَا: أَنَّ الْقِسْطَ عِنْدَهُمْ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَهُوَ قِسْطٌ، وَلَيْسَ فِي مَقْدُورِهِ مَا يَكُونُ ظُلْمًا وَقِسْطًا، بَلِ الظُّلْمُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُحَالُ الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، وَالْقِسْطُ هُوَ الْمُمْكِنُ، فَنَزَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ - عَلَى قَوْلِهِمْ - عَنِ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْعِزَّةَ هِيَ الْقُوَّةُ وَالْقُدْرَةُ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ، وَلَا لَهُ صِفَةٌ وَقُدْرَةٌ تُسَمَّى قُدْرَةً وَقُوَّةً. وَمِنْهَا: أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي يَفْعَلُ لِأَجْلِهَا، وَتَكُونُ هِيَ الْمَطْلُوبَةَ بِالْفِعْلِ، وَيَكُونُ وُجُودُهَا أَوْلَى مِنْ عَدَمِهَا، وَهَذَا عِنْدَهُمْ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ، فَلَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةٍ وَلَا غَايَةٍ، بَلْ لَا غَايَةَ لِفِعْلِهِ وَلَا أَمْرِهِ، وَمَا ثَمَّ إِلَّا مَحْضُ الْمَشِيئَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتُ الْعُلَى، وَهُوَ الَّذِي يَفْعَلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، الْمُسَمَّى بِالْأَسْمَاءِ

فصل مزاعم الجهمية والمعتزلة

الَّتِي قَامَتْ بِهَا حَقَائِقُهَا وَمَعَانِيهَا، وَهَذَا لَا يُثْبِتُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ. [فَصْلٌ مَزَاعِمُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ] فَصْلٌ فَالْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ: تَزْعُمُ أَنَّ ذَاتَهُ لَا تُحِبُّ، وَوَجْهَهُ لَا يُرَى، وَلَا يُلْتَذُّ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَلَا تَشْتَاقُ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرُونَ الْإِلَهِيَّةَ. وَالْقَدَرِيَّةُ: تُنْكِرُ دُخُولَ أَفْعَالِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ، فَهُمْ مُنْكِرُونَ فِي الْحَقِيقَةِ لِكَمَالِ عِزِّهِ وَمُلْكِهِ. وَالْجَبْرِيَّةُ: تُنْكِرُ حِكْمَتَهُ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَوَامِرِهِ غَايَةٌ يَفْعَلُ وَيَأْمُرُ لِأَجْلِهَا، فَهُمْ مُنْكِرُونَ فِي الْحَقِيقَةِ لِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ. وَأَتْبَاعُ ابْنِ سِينَا، وَالنَّصِيرِ الطُّوسِيِّ وَفُرُوخِهِمَا: يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ مَاهِيَّةٌ غَيْرَ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ وَصْفٌ ثُبُوتِيٌّ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّةِ الْوُجُودِ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرُونَ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، لَا يَتَحَاشَوْنَ مِنْ ذَلِكَ. وَالِاتِّحَادِيَّةُ: أَدْهَى وَأَمَرُّ، فَإِنَّهُمْ رَفَعُوا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْأَصْلِ، وَقَالُوا: مَا ثَمَّ وُجُودُ خَالِقٍ وَوُجُودُ مَخْلُوقٍ، بَلِ الْخَلْقُ الْمُشَبَّهُ هُوَ عَيْنُ الْحَقِّ الْمُنَزَّهِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ. فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ الْعَظِيمَةُ: كُلُّ هَؤُلَاءِ هُمْ بِهَا غَيْرُ قَائِمِينَ، وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِإِبْطَالِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَرَدَّهُ، كَمَا تَضَمَّنَتْ إِبْطَالَ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَرَدَّهُ، وَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ طَائِفَتَيِ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ، وَلَا يَقُومُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إِلَّا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَيَنْفُونَ عَنْهُ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا. [فَصْلٌ شَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ تَتَضَمَّنُ بَيَانَهُ لِلْعِبَادِ وَدَلَالَتَهُمْ وَتَعْرِيفَهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ] فَصْلٌ وَإِذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ تَتَضَمَّنُ بَيَانَهُ لِلْعِبَادِ، وَدَلَالَتَهُمْ وَتَعْرِيفَهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَوْ شَهِدَ شَهَادَةً لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْعِلْمِ بِهَا: لَمْ يَنْتَفِعُوا، وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهِمْ بِهَا الْحُجَّةَ، كَمَا أَنَّ الشَّاهِدَ مِنَ الْعِبَادِ إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ وَلَمْ يُبَيِّنْهَا، بَلْ كَتَمَهَا، لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا أَحَدٌ، وَلَمْ تَقُمْ بِهَا حُجَّةٌ، وَإِذَا كَانَ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا بِبَيَانِهَا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَهَا غَايَةَ الْبَيَانِ بِطُرُقٍ ثَلَاثَةٍ: السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْعَقْلِ.

أَمَّا السَّمْعُ: فَبِسَمْعِ آيَاتِهِ الْمَتْلُوَّةِ الْقَوْلِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِإِثْبَاتِ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، وَعُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتِهِ، وَتَكَلُّمِهِ بِكُتُبِهِ، وَتَكْلِيمِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ تَكَلُّمًا وَتَكْلِيمًا، حَقِيقَةً لَا مَجَازًا. وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنْ عِبَادِهِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُهُ السَّمْعِيَّةُ مِنْ إِثْبَاتِ مَعَانِيهَا وَحَقَائِقِهَا الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا أَلْفَاظُهَا، فَإِنَّ هَذَا ضِدُّ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ، وَيَعُودُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّهَادَةِ بِالْإِبْطَالِ وَالْكِتْمَانِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مِنْ أَظْلَمِ الظَّالِمِينَ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ الْعَبْدِ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ تُحَقِّقُ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ، وَتَوْحِيدِ الرُّسُلِ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ، وَكَتَمَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ؛ كَانَ مِنْ أَظْلَمِ الظَّالِمِينَ - كَمَا فَعَلَهُ أَعْدَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْيَهُودِ، الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ - فَكَيْفَ يُظَنُّ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ كَتَمَ شَهَادَةَ الْحَقِّ الَّتِي يَشْهَدُ بِهَا الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْمُعَطِّلَةُ، وَلَا يَشْهَدُ بِهَا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِمَا يُضَادُّهَا وَيُنَاقِضُهَا، وَلَا يُجَامِعُهَا بِوَجْهٍ مَا؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ! فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، وَبِأَنَّهُ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَبِأَنَّ مَلَائِكَتَهُ يَخَافُونَهُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعْرُجُ إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ، وَتَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ بِهِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَصْعَدُ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَأْتِي وَيَجِيءُ، وَيَتَكَلَّمُ، وَيَرْضَى وَيَغْضَبُ، وَيُحِبُّ وَيَكْرَهُ، وَيَتَأَذَّى، وَيَفْرَحُ وَيَضْحَكُ، وَأَنَّهُ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ، وَأَنَّهُ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ بِأَبْصَارِهِمْ يَوْمَ لِقَائِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَشَهِدَ لَهُ بِهِ رُسُلُهُ، وَشَهِدَتْ لَهُ الْجَهْمِيَّةُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَقَالُوا: شَهَادَتُنَا أَصَحُّ، وَأَعْدَلُ مِنْ شَهَادَةِ النُّصُوصِ، فَإِنَّ النُّصُوصَ تَضَمَّنَتْ كِتْمَانَ الْحَقِّ وَإِظْهَارَ خِلَافِهِ. فَشَهَادَةُ الرَّبِّ تَعَالَى: تُكَذِّبُ هَؤُلَاءِ أَشَدَّ التَّكْذِيبِ، وَتَتَضَمَّنُ أَنَّ الَّذِي شَهِدَ بِهِ قَدْ بَيَّنَهُ وَأَوْضَحَهُ وَأَظْهَرَهُ، حَتَّى جَعَلَهُ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الظُّهُورِ وَالْبَيَانِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَقُّ فِيمَا يَقُولُهُ الْمُعَطِّلَةُ والْجَهْمِيَّةُ لَمْ يَكُنِ الْعِبَادُ قَدِ انْتَفَعُوا بِمَا شَهِدَ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ - عِنْدَهُمْ - لَمْ يَشْهَدْ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَالَّذِي شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَأَظْهَرَهُ وَأَوْضَحَهُ: فَلَيْسَ بِحَقٍّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهُ الْحَقُّ وَالْيَقِينُ. وَأَمَّا آيَاتُهُ الْعِيَانِيَّةُ الْخَلْقِيَّةُ، وَالنَّظَرُ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا: فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ السَّمْعِيَّةُ، وَآيَاتُ الرَّبِّ: هِيَ دَلَائِلُهُ وَبَرَاهِينُهُ الَّتِي بِهَا يَعْرِفُهُ الْعِبَادُ، وَبِهَا يَعْرِفُونَ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَتَوْحِيدَهُ، وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، فَالرُّسُلُ تُخْبِرُ عَنْهُ بِكَلَامِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ، وَهُوَ آيَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِمَفْعُولَاتِهِ الَّتِي تَشْهَدُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، وَهِيَ آيَاتُهُ الْعِيَانِيَّةُ، وَالْعَقْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، فَيَجْزِمُ بِصِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ

الرُّسُلُ، فَتَتَّفِقُ شَهَادَةُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ - لِكَمَالِ عَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ لِلْعُذْرِ، وَإِقَامَتِهِ لِلْحُجَّةِ - لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَمَعَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43] وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران: 183] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [فاطر: 25] . حَتَّى إِنَّ مِنْ أَخْفَى آيَاتِ الرُّسُلِ آيَاتُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى قَالَ لَهُ قَوْمُهُ {يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود: 53] وَمَعَ هَذَا فَبَيِّنَتُهُ مِنْ أَظْهَرِ الْبَيِّنَاتِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونَ - إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54 - 56] ، فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ: أَنَّ رَجُلًا وَاحِدًا يُخَاطِبُ أُمَّةً عَظِيمَةً بِهَذَا الْخِطَابِ، غَيْرَ جَزِعٍ وَلَا فَزِعٍ، وَلَا خَوَّارٍ، بَلْ وَاثِقٌ مِمَّا قَالَهُ جَازِمٌ بِهِ، قَدْ أَشْهَدَ اللَّهَ أَوَّلًا عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ دِينِهِمْ، وَمِمَّا هُمْ عَلَيْهِ إِشْهَادَ وَاثِقٍ بِهِ، مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ، مُعْلِمٍ لِقَوْمِهِ: أَنَّهُ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسَلِّطِهِمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ - إِشْهَادَ مُجَاهِرٍ لَهُمْ بِالْمُخَالَفَةِ -: أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ دِينِهِمْ وَآلِهَتِهِمْ، الَّتِي يُوَالُونَ عَلَيْهَا وَيُعَادُونَ، وَيَبْذُلُونَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي نُصْرَتِهَا. ثُمَّ أَكَّدَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِالِاسْتِهَانَةِ بِهِمْ، وَاحْتِقَارِهِمْ وَازْدِرَائِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَوْ يَجْتَمِعُونَ كُلُّهُمْ عَلَى كَيْدِهِ، وَشِفَاءِ غَيْظِهِمْ مِنْهُ، ثُمَّ يُعَالِجُونَهُ وَلَا يُمْهِلُونَهُ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ

أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ وَأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّكُمْ لَوْ رُمْتُمُوهُ لَانْقَلَبْتُمْ بِغَيْظِكُمْ مَكْبُوتِينَ مَخْذُولِينَ. ثُمَّ قَرَّرَ دَعْوَتَهُ أَحَسَنَ تَقْرِيرٍ، وَبَيَّنَ أَنَّ رَبَّهُ تَعَالَى وَرَبَّهُمْ، الَّذِي نَوَاصِيهِمْ بِيَدِهِ: هُوَ وَلِيُّهُ وَوَكِيلُهُ، الْقَائِمُ بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَلَا يَخْذُلُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَآمَنَ بِهِ، وَلَا يُشْمِتُ بِهِ أَعْدَاءَهُ، وَلَا يَكُونُ مَعَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ - فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ - يَمْنَعُ ذَلِكَ وَيَأْبَاهُ. وَتَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ أَنَّ مِنْ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ أَنْ يَنْتَقِمَ مِمَّنْ خَرَجَ عَنْهُ وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ، وَيُنْزِلَ بِهِ بِأْسَهُ، فَإِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الرَّبُّ تَعَالَى، وَمِنْهُ انْتِقَامُهُ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْإِجْرَامِ، وَنَصْرُهُ أَوْلِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَأَنَّهُ يَذْهَبُ بِهِمْ، وَيَسْتَخْلِفُ قَوْمًا غَيْرَهُمْ، وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ شَيْئًا، وَأَنَّهُ الْقَائِمُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حِفْظًا وَرِعَايَةً وَتَدْبِيرًا وَإِحْصَاءً. فَأَيُّ آيَةٍ وَبُرْهَانٍ وَدَلِيلٍ أَحْسَنُ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَبَرَاهِينِهِمْ وَأَدِلَّتِهِمْ؟ وَهِيَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ، بَيَّنَهَا لِعِبَادِهِ غَايَةَ الْبَيَانِ، وَأَظْهَرَهَا لَهُمْ غَايَةَ الْإِظْهَارِ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنُ وَهُوَ - فِي أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ - الْمُصَدِّقُ الَّذِي يُصَدِّقُ الصَّادِقِينَ بِمَا يُقِيمُ لَهُمْ مِنْ شَوَاهِدِ صِدْقِهِمْ، فَهُوَ الَّذِي صَدَّقَ رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فِيمَا بَلَّغُوا عَنْهُ، وَشَهِدَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي دَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِهِمْ قَضَاءً وَخَلْقًا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ - وَخَبَرُهُ الصِّدْقُ، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ - أَنَّهُ لَابُدَّ أَنْ يَرَى الْعِبَادُ مِنَ الْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ مَا يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ الْوَحْيَ الَّذِي بَلَّغَتْهُ رُسُلُهُ حَقٌّ، فَقَالَ تَعَالَى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] أَيِ الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت: 52] ثُمَّ قَالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] فَشَهِدَ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ: أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَوَعَدَهُ أَنْ يُرِيَ

الْعِبَادَ مِنْ آيَاتِهِ الْفِعْلِيَّةِ الْخَلْقَيَّةِ مَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ أَيْضًا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ، وَهُوَ شَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ الشَّهِيدَ الَّذِي لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، بَلْ هُوَ مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُشَاهِدٌ لَهُ، عَلِيمٌ بِتَفَاصِيلِهِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَالْأَوَّلُ اسْتِدْلَالٌ بِقَوْلِهِ وَكَلِمَاتِهِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ اسْتِدْلَالٌ بِأَفْعَالِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ فَهِمْتُ الِاسْتِدْلَالَ بِكَلِمَاتِهِ وَالِاسْتِدْلَالَ بِمَخْلُوقَاتِهِ، فَبَيِّنْ لِي كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا عَهْدَ لَنَا بِهِ فِي تَخَاطُبِنَا وَكُتُبِنَا. قُلْتُ: أَجَلْ! هُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ كَمَا ذَكَرْتَ، وَشَأْنُهُ أَجَلُّ وَأَعْلَى، فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى هُوَ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ، وَآيَاتُهُ هِيَ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ. فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الدَّالُّ عَلَى نَفْسِهِ بِآيَاتِهِ، فَهُوَ الدَّلِيلُ لِعِبَادِهِ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَا نَصَبَهُ لَهُمْ مِنَ الدَّلَالَاتِ وَالْآيَاتِ، وَقَدْ أَوْدَعَ فِي الْفِطَرِ الَّتِي لَمْ تَتَنَجَّسْ بِالتَّعْطِيلِ وَالْجُحُودِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَامِلُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِكُلِّ كَمَالٍ، الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ، فَالْكَمَالُ كُلُّهُ، وَالْجَمَالُ وَالْجَلَالُ وَالْبَهَاءُ، وَالْعِزَّةُ وَالْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ: كُلُّهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَالْحَيَاةُ كُلُّهَا لَهُ، وَالْعِلْمُ كُلُّهُ لَهُ، وَالْقُدْرَةُ كُلُّهَا لَهُ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْإِرَادَةُ، وَالْمَشِيئَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْغِنَى، وَالْجُودُ وَالْإِحْسَانُ وَالْبِرُّ، كُلُّهُ خَاصُّ لَهُ قَائِمٌ بِهِ، وَمَا خَفِيَ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ كَمَالِهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ مِمَّا عَرَفُوهُ مِنْهُ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِمَا عَرَفُوهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا لَمْ يَعْرِفُوهُ. وَمِنْ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ: اطِّلَاعُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَشَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ تَفَاصِيلِهِ، وَلَا ذَرَّةٌ مِنْ ذَرَّاتِهِ، بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَمَنْ هَذَا شَأْنُهُ: كَيْفَ يَلِيقُ بِالْعِبَادِ أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ، وَأَنْ يَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ؟ وَأَنْ يَجْعَلُوا مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ؟ وَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَمَالِهِ أَنْ يُقِرَّ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ الْكَذِبِ، وَيُخْبِرُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا الْأَمْرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْصُرُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُؤَيِّدُهُ، وَيُعْلِي كَلِمَتَهُ، وَيَرْفَعُ شَأْنَهُ، وَيُجِيبُ دَعْوَتَهُ، وَيُهْلِكُ عَدُوَّهُ، وَيُظْهِرُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْأَدِلَّةِ مَا تَعْجِزُ عَنْ مِثْلِهِ قُوَى الْبَشَرِ، وَهُوَ - مَعَ ذَلِكَ - كَاذِبٌ عَلَيْهِ مُفْتَرٍ، سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ؟ ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَهَادَتَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَقُدْرَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَحِكْمَتُهُ وَعِزَّتُهُ وَكَمَالُهُ الْمُقَدَّسُ يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّ الْإِبَاءِ، وَمَنْ ظَنَّ ذَلِكَ بِهِ، وَجَوَّزَهُ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ مِنْ أَبْعَدِ الْخَلْقِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَإِنْ عُرِفَ مِنْهُ بَعْضُ صِفَاتِهِ، كَصِفَةِ الْقُدْرَةِ وَصِفَةِ الْمَشِيئَةِ. وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَهِيَ طَرِيقُ الْخَاصَّةِ، بَلْ خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ هُمْ

الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِاللَّهِ عَلَى أَفْعَالِهِ، وَمَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمَا لَا يَفْعَلُهُ. وَإِذَا تَدَبَّرْتَ الْقُرْآنَ رَأَيْتَهُ يُنَادِي عَلَى ذَلِكَ، فَيُبْدِيهِ وَيُعِيدُهُ لِمَنْ لَهُ فَهْمٌ وَقَلْبٌ وَاعٍ عَنِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44] أَفَلَا تَرَاهُ كَيْفَ يُخْبِرُ سُبْحَانَهُ: أَنَّ كَمَالَهُ وَحِكْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ تَأْبَى أَنْ يُقِرَّ مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ؟ بَلْ لَابُدَّ أَنْ يَجْعَلَهُ عِبْرَةً لِعِبَادِهِ، كَمَا جَرَتْ بِذَلِكَ سُنَّتُهُ فِي الْمُتَقَوِّلِينَ عَلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] هَاهُنَا انْتَهَى جَوَابُ الشَّرْطِ، ثُمَّ أَخْبَرَ خَبَرًا جَازِمًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ: أَنَّهُ {يَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} [الشورى: 24] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُ الْإِرْسَالَ وَالْكَلَامَ لَمْ يُقَدِّرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَا عَرَفَهُ كَمَا يَنْبَغِي، وَلَا عَظَّمَهُ كَمَا يَسْتَحِقُّ، فَكَيْفَ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَنْصُرُ الْكَاذِبَ الْمُفْتَرِيَ عَلَيْهِ وَيُؤَيِّدُهُ؟ وَيُظْهِرُ عَلَى يَدَيْهِ الْآيَاتِ وَالْأَدِلَّةَ؟ وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا، يُسْتَدَلُّ بِكَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ، وَأَوْصَافِهِ وَجَلَالِهِ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ، وَعَلَى وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَيَدْعُو عِبَادَهُ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا يُسْتَدَلُّ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 22 - 23] ، وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ. وَيَسْتَدِلُّ سُبْحَانَهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى بُطْلَانِ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ الْبَاطِلَةِ، وَأَنَّ كَمَالَهُ الْمُقَدَّسَ يَمْنَعُ مِنْ شَرْعِهَا، كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] ، وَقَوْلِهِ عَقِيبَ مَا نَهَى عَنْهُ وَحَرَّمَهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْقَوْلِ عَلَيْهِ بِلَا عَلَمٍ {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] فَأَعْلَمَكَ أَنَّ مَا كَانَ سَيِّئُهُ فِي نَفْسِهِ

فصل الاستشهاد على الرسالة بشهادة الله له

فَهُوَ يَكْرَهُهُ، وَكَمَالُهُ يَأْبَى أَنْ يَجْعَلَهُ شَرْعًا لَهُ وَدِينًا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَدُلُّ عِبَادَهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ، وَمَا يُحِبُّهُ وَيَبْغَضُهُ، وَيُثِيبُ عَلَيْهِ وَيُعَاقِبُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ الدَّلَالَاتِ بِالْآيَاتِ الْمُشَاهَدَةِ، فَإِنَّهَا أَوْسَعُ وَأَسْهَلُ تَنَاوُلًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُفَضِّلُ بَعْضَ خَلْقِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَيَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. فَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ هُوَ الدَّعْوَةُ وَالْحُجَّةُ، وَهُوَ الدَّلِيلُ وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ لَهُ، وَهُوَ الْحُكْمُ وَالدَّلِيلُ، وَهُوَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود: 17] أَيْ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَقَالَ تَعَالَى لِمَنْ طَلَبَ آيَةً تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ - قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 51 - 52] ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ يَكْفِي عَنْ كُلِّ آيَةٍ، فَفِيهِ الْحُجَّةُ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ وَفِيهِ بَيَانُ مَا يُوجِبُ لِمَنِ اتَّبَعَهُ السَّعَادَةَ، وَيُنْجِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ قَالَ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [العنكبوت: 52] فَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ؛ كَانَتْ شَهَادَتُهُ أَصْدَقَ شَهَادَةٍ وَأَعْدَلَهَا، فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ بِعِلْمٍ تَامٍّ، مُحِيطٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ، فَيَكُونُ الشَّاهِدُ بِهِ أَعْدَلَ الشُّهَدَاءِ وَأَصْدَقَهُمْ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُ عِلْمَهُ عِنْدَ شَهَادَتِهِ، وَقُدْرَتَهُ وَمُلْكَهُ عِنْدَ مُجَازَاتِهِ، وَحِكْمَتَهُ عِنْدَ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَرَحْمَتَهُ عِنْدَ ذِكْرِ إِرْسَالِ رَسُولِهِ، وَحِلْمَهُ عِنْدَ ذِكْرِ ذُنُوبِ عِبَادِهِ وَمَعَاصِيهِمْ، وَسَمْعَهُ عِنْدَ ذِكْرِ دُعَائِهِمْ، وَمَسْأَلَتَهُ وَعِزَّتَهُ وَعِلْمَهُ عِنْدَ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. فَتَأَمَّلْ وُرُودَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى فِي كِتَابِهِ، وَارْتِبَاطَهَا بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. [فَصْلٌ الِاسْتِشْهَادُ عَلَى الرِّسَالَةِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ لَهُ] فَصْلٌ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] فَاسْتَشْهَدَ عَلَى رِسَالَتِهِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ لَهُ، وَلَابُدَّ

أَنَّ تُعْلَمَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، وَتَقُومَ بِهَا الْحُجَّةُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ لَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يس - وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ - إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 1 - 3] وَقَوْلُهُ: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252] وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] وَقَوْلُهُ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] فَهَذَا كُلُّهُ شَهَادَةٌ مِنْهُ لِرَسُولِهِ، قَدْ أَظْهَرَهَا وَبَيَّنَهَا، وَبَيَّنَ صِحَّتَهَا غَايَةَ الْبَيَانِ، بِحَيْثُ قَطَعَ الْعُذْرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ، فَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ شَاهِدًا لِرَسُولِهِ: مَعْلُومٌ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ: عَقْلِيِّهَا وَنَقْلِيِّهَا وَفِطْرِيِّهَا وَضَرُورِيِّهَا وَنَظَرِيِّهَا. وَمَنْ نَظَرَ فِي ذَلِكَ وَتَأَمَّلَهُ؛ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَهِدَ لِرَسُولِهِ أَصْدَقَ الشَّهَادَةِ، وَأَعْدَلَهَا وَأَظْهَرَهَا، وَصَدَّقَهُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّصْدِيقِ: بِقَوْلِهِ الَّذِي أَقَامَ الْبَرَاهِينَ عَلَى صِدْقِهِ فِيهِ، وَبِفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ، وَبِمَا فَطَرَ عَلَيْهِ عِبَادَهُ: مِنَ الْإِقْرَارِ بِكَمَالِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْقَبَائِحِ، وَعَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يُحْدِثُ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ مَا يُقِيمُ بِهِ الْحُجَّةَ، وَيُزِيلُ بِهِ الْعُذْرَ، وَيَحْكُمُ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ بِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعِزِّ وَالنَّجَاةِ وَالظَّفَرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَيَحْكُمُ عَلَى أَعْدَائِهِ وَمُكَذِّبِيهِ بِمَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ: مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَالْعُقُوبَاتِ الْمُعَجَّلَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى تَحْقِيقِ الْعُقُوبَاتِ الْمُؤَجَّلَةِ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] فَيُظْهِرُهُ ظُهُورَيْنِ: ظُهُورًا بِالْحُجَّةِ، وَالْبَيَانِ، وَالدَّلَالَةِ، وَظُهُورًا بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالتَّأْيِيدِ، حَتَّى يُظْهِرَهُ عَلَى مُخَالِفِيهِ، وَيَكُونَ مْنُصُورًا. وَقَوْلُهُ {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء: 166] فَمَا فِيهِ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَعْمَلُهُ غَيْرُهُ: مِنْ أَعْظَمِ الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13 - 14]

فصل من شهادته سبحانه ما أودعه في قلوب العباد من التصديق الجازم بكلامه ووحيه

وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ - وَهُوَ مَعْلُومٌ لَهُ، كَمَا يَعْلَمُ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَعْلُومٌ لَهُ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ - وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَنْزَلَهُ مُشْتَمِلًا عَلَى عِلْمِهِ، فَنُزُولُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى عِلْمِهِ هُوَ آيَةُ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6] ذَكَرَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ تَكْذِيبًا وَرَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: افْتَرَاهُ. [فَصْلٌ مِنْ شَهَادَتِهِ سُبْحَانَهُ مَا أَوْدَعَهُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ مِنَ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ بِكَلَامِهِ وَوَحْيِهِ] فَصْلٌ وَمِنْ شَهَادَتِهِ أَيْضًا: مَا أَوْدَعَهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ: مِنَ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ، وَالْيَقِينِ الثَّابِتِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ بِكَلَامِهِ وَوَحْيِهِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ حُصُولَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ، وَالِافْتِرَاءِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، بَلْ ذَلِكَ يُوقِعُ أَعْظَمَ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ، وَتَدْفَعُهُ الْفِطَرُ وَالْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، كَمَا تَدْفَعُ الْفِطَرُ - الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا الْحَيَوَانُ - الْأَغْذِيَةَ الْخَبِيثَةَ الضَّارَّةَ الَّتِي لَا تُغَذِّي، كَالْأَبْوَالِ وَالْأَنْتَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَطَرَ الْقُلُوبَ عَلَى قَبُولِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَالطُّمَأْنِينَةِ بِهِ، وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَفَطَرَهَا عَلَى بُغْضِ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ، وَالنُّفُورِ عَنْهُ، وَالرِّيبَةِ بِهِ، وَعَدَمِ السُّكُونِ إِلَيْهِ، وَلَوْ بَقِيَتِ الْفِطَرُ عَلَى حَالِهَا لَمَا آثَرَتْ عَلَى الْحَقِّ سِوَاهُ، وَلَمَا سَكَنَتْ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا اطْمَأَنَّتْ إِلَّا بِهِ، وَلَا أَحَبَّتْ غَيْرَهُ، وَلِهَذَا نَدَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ إِلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ تَدَبَّرَهُ أَوْجَبَ لَهُ تَدَبُّرُهُ عِلْمًا ضَرُورِيًا وَيَقِينًا جَازِمًا: أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، بَلْ أَحَقُّ كُلَّ الْحَقِّ، وَأَصْدَقُ كُلَّ صِدْقٍ، وَأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ أَصْدَقُ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَبَرُّهُمْ، وَأَكْمَلُهُمْ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَمَعْرِفَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] فَلَوْ رُفِعَتِ الْأَقْفَالُ عَنِ الْقُلُوبِ لَبَاشَرَتْهَا حَقَائِقُ الْقُرْآنِ، وَاسْتَنَارَتْ فِيهَا مَصَابِيحُ الْإِيمَانِ، وَعَلِمْتَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا يَكُونُ عِنْدَهَا كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْوِجْدَانِيَّةِ - مِنَ الْفَرَحِ، وَالْأَلَمِ، وَالْحُبِّ، وَالْخَوْفِ - أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، تَكَلَّمَ بِهِ حَقًّا، وَبَلَّغَهُ رَسُولُهُ جِبْرِيلُ عَنْهُ إِلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، فَهَذَا الشَّاهِدُ فِي الْقَلْبِ مِنْ أَعْظَمِ الشَّوَاهِدِ، وَبِهِ احْتَجَّ هِرَقْلُ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ حَيْثُ قَالَ لَهُ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً

لِدِينِهِ، بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ لَهُ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إِذَا خَالَطَتْ حَلَاوَتُهُ بِشَاشَةَ الْقُلُوبِ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ، وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] وَقَوْلِهِ: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ} [الحج: 54] وَقَوْلِهِ {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] وَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19] وَقَوْلِهِ: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27] يَعْنِي: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي يَقْتَرِحُونَهَا لَا تُوجِبُ هِدَايَةً، بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَهْدِي وَيُضِلُّ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى أَعْظَمِ آيَةٍ وَأَجَلِّهَا، وَهِيَ: طُمَأْنِينَةُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ، فَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28] أَيْ بِكِتَابِهِ وَكَلَامِهِ: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] فَطُمَأْنِينَةُ الْقُلُوبِ الصَّحِيحَةِ، وَالْفِطَرِ السَّلِيمَةِ بِهِ، وَسُكُونُهَا إِلَيْهِ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ؛ إِذْ يَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ تَطْمَئِنَّ الْقُلُوبُ وَتَسْكُنَ إِلَى الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْبَاطِلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَهَادَةَ رُسُلِهِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، فَيَقُولُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَالرُّسُلُ، وَهُمْ أَعْظَمُ شَهَادَةً مِنْ أُولِي الْعِلْمِ؟ قِيلَ: فِي ذَلِكَ عِدَّةُ فَوَائِدَ. إِحْدَاهَا: أَنَّ أُولِي الْعِلْمِ أَعَمُّ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ فَيَدْخُلُونَ هُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ. وَثَانِيهَا: أَنَّ فِي ذِكْرِ أُولِي الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَتَعْلِيقِهَا بِهِمْ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِلْمِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، كَمَا يُقَالُ: إِذَا طَلَعَ الْهِلَالُ وَاتَّضَحَ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ يَرَاهُ، وَإِذَا فَاحَتْ رَائِحَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّمِّ يَشَمُّ هَذِهِ الرَّائِحَةَ، قَالَ تَعَالَى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات: 36] أَيْ كُلُّ مَنْ لَهُ رُؤْيَةٌ يَرَاهَا حِينَئِذٍ عِيَانًا، فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْجُهَّالِ، وَإِنْ عَلِمَ مِنْ

فصل ضمن الشهادة الإلهية الثناء على أهل العلم الشاهدين بها وتعديلهم

أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ، فَهُوَ مِنْ أُولِي الْجَهْلِ، لَا مِنْ أُولِي الْعِلْمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَيُؤَدِّيهَا عَلَى وَجْهِهَا إِلَّا اتْبَاعُ الرُّسُلِ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ، فَهُمْ أُولُو الْعِلْمِ، وَسَائِرُ مَنْ عَدَاهُمْ أُولُو الْجَهْلِ، وَإِنْ وَسَّعُوا الْقَوْلَ وَأَكْثَرُوا الْجِدَالَ. وَمِنْهَا: الشَّهَادَةُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِأَهْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ أَنَّهُمْ أُولُو الْعِلْمِ، فَشَهَادَتُهُ لَهُمْ أَعْدَلُ وَأَصْدَقُ مِنْ شَهَادَةِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَالْفِرْعَوْنِيَّةِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ جُهَّالٌ، وَأَنَّهُمْ حَشَوِيَّةٌ، وَأَنَّهُمْ مُشَبِّهَةٌ، وَأَنَّهُمْ مُجَسِّمَةٌ وَنَوَابِتُ وَنَوَاصِبُ، فَكَفَاهُمْ أَصْدَقُ الصَّادِقِينَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ إِذْ شَهِدُوا لَهُ بِحَقِيقَةِ مَا شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَأَثْبَتُوا لَهُ حَقِيقَةَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَمَضْمُونَهَا، وَخُصُومُهُمْ نَفَوْا عَنْهُ حَقَائِقَهَا، وَأَثْبَتُوا لَهُ أَلْفَاظَهَا وَمَجَازَاتِهَا. [فَصْلٌ ضِمْنُ الشَّهَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ الثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الشَّاهِدِينَ بِهَا وَتَعْدِيلِهِمْ] فَصْلٌ وَفِي ضِمْنِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ الثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الشَّاهِدِينَ بِهَا وَتَعْدِيلِهِمْ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَرَنَ شَهَادَتَهُمْ بِشَهَادَتِهِ وَشَهَادَةِ مَلَائِكَتِهِ، وَاسْتَشْهَدَ بِهِمْ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى أَجَلٍ مَشْهُودٍ بِهِ، وَجَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى مَنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ، كَمَا يَحْتَجُّ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْحَقَّ، فَالْحُجَّةُ قَامَتْ بِالرُّسُلِ عَلَى الْخَلْقِ، وَهَؤُلَاءِ نُوَّابُ الرُّسُلِ وَخُلَفَاؤُهُمْ فِي إِقَامَةِ حُجَجِ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ. [فَصْلٌ تَفْسِيرُ شَهَادَةِ أُولِي الْعِلْمِ] فَصْلٌ وَقَدْ فُسِّرَتْ شَهَادَةُ أُولِي الْعِلْمِ بِالْإِقْرَارِ، وَفُسِّرَتْ بِالتَّبْيِينِ وَالْإِظْهَارِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ، فَشَهَادَتُهُمْ إِقْرَارٌ، وَإِظْهَارٌ، وَإِعْلَامٌ، وَهُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] فَأَخْبَرَ: أَنَّهُ جَعَلَهُمْ عُدُولًا خِيَارًا، وَنَوَّهَ بِذِكْرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُوجِدَهُمْ، لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنَ اتِّخَاذِهِ لَهُمْ شُهَدَاءً يَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقُمْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ - عِلْمًا وَعَمَلًا، وَمَعْرِفَةً وَإِقْرَارًا، وَدَعْوَةً وَتَعْلِيمًا، وَإِرْشَادًا - فَلَيْسَ مِنْ شُهَدَاءِ اللَّهِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ: هَلْ هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، أَوْ دَاخِلٌ فِي مَضْمُونِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ؟ فَهُوَ بَعْضُ الْمَشْهُودِ بِهِ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي كَسْرِ " إِنَّ " وَفَتْحِهَا، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى كَسْرِهَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَفَتَحَهَا الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ، وَالْوَجْهُ: هُوَ الْكَسْرُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَبْلَهُ قَدْ تَمَّ، فَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مُقَرِّرَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي التَّقْرِيرِ، وَأَذْهَبُ فِي الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَلِهَذَا كَانَ كَسْرُ {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28] أَحْسَنَ مِنَ الْفَتْحِ، وَكَانَ الْكَسْرُ فِي قَوْلِ الْمُلَبِّي " لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ " أَحْسَنَ مِنَ الْفَتْحِ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ وَاقِعَةً عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ، فَهِيَ وَاقِعَةٌ عَلَى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وَهُوَ الْمَشْهُودُ بِهِ، وَيَكُونُ فَتْحُ " أَنَّهُ " مِنْ قَوْلِهِ {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَهَذَا تَوْجِيهُ الْفَرَّاءِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْمَعْنَى عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ هُوَ نَفْسُ قَوْلِهِ " أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " فَالْمَشْهُودُ بِهِ " أَنَّ " وَمَا فِي حَيِّزِهَا، وَالْعِنَايَةُ إِلَى هَذَا صُرِفَتْ، وَبِهِ حَصَلَتْ، وَلَكِنْ لِهَذَا الْقَوْلِ - مَعَ ضَعْفِهِ - وَجْهٌ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: شَهِدَ اللَّهُ بِتَوْحِيدِهِ، أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَالْإِسْلَامُ: هُوَ تَوْحِيدُهُ سُبْحَانَهُ، فَتَضَمَّنَتِ الشَّهَادَةُ تَوْحِيدَهُ، وَتَحْقِيقَ دِينِهِ: أَنَّهُ الْإِسْلَامُ لَا غَيْرُهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ وَاقِعَةً عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا، كِلَاهُمَا مَشْهُودٌ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْوَاوِ وَإِرَادَتِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، فَتَكُونُ جُمْلَةً اسْتَغْنَى فِيهَا عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ بِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ ذِكْرِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَمَا وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ {ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] فَيَحْسُنُ ذِكْرُ الْوَاوِ وَحَذْفُهَا، كَمَا حُذِفَتْ هُنَا، وَذُكِرَتْ فِي قَوْلِهِ {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] . الْوَجْهُ الثَّالِثُ - وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ -: أَنْ يَجْعَلَ " أَنَّ " الثَّانِيَةَ بَدَلًا مِنْ

الْأُولَى، وَالتَّقْدِيرُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَقَوْلُهُ {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] تَوْطِئَةٌ لِلثَّانِيَةِ وَتَمْهِيدٌ، وَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْبَدَلِ الَّذِي الثَّانِي فِيهِ نَفْسُ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الدِّينَ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْقِيَامُ بِحَقِّهَا، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ بَابِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَشْتَمِلُ عَلَى التَّوْحِيدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَهُ الْإِسْلَامُ، فَلِمَ عَدَلَ إِلَى لَفْظِ الظَّاهِرِ؟ قِيلَ: هَذَا يُرَجِّحُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّهَا أَفْصَحُ وَأَحْسَنُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ إِقَامَةُ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196] وَقَالَ {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 69] وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: افْتَخَرَ الْمُشْرِكُونَ بِآبَائِهِمْ، فَقَالَ كُلُّ فَرِيقٍ: لَا دِينَ إِلَّا دِينُ آبَائِنَا، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] يَعْنِي الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، لَيْسَ لِلَّهِ دِينٌ سِوَاهُ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] . وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] عَلَى أَنَّهُ دِينُ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ قَطُّ وَلَا يَكُونُ لَهُ دِينٌ سِوَاهُ، قَالَ أَوَّلُ الرُّسُلِ نُوحٌ {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72] وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ - وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 128 - 132] وَقَالَ يَعْقُوبُ لِبَنِيهِ عِنْدَ الْمَوْتِ {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ} [البقرة: 133]- إِلَى قَوْلِهِ - {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] وَقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84]

وَقَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] وَقَالَتْ مَلِكَةُ سَبَأٍ {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] . فَالْإِسْلَامُ دِينُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ، وَدِينُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ، فَأَدْيَانُ أَهْلِ الْأَرْضِ سِتَّةٌ: وَاحِدٌ لِلرَّحْمَنِ، وَخَمْسَةٌ لِلشَّيْطَانِ، فَدِيْنُ الرَّحْمَنِ: هُوَ الْإِسْلَامُ، وَالَّتِي لِلشَّيْطَانِ: الْيَهُودِيَّةُ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَالْمَجُوسِيَّةُ، وَالصَّابِئَةُ، وَدِينُ الْمُشْرِكِينَ. فَهَذَا بَعْضُ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَارِفِ، وَلَا تَسْتَطِلِ الْكَلَامَ فِيهَا، فَإِنَّهُ أَهَمُّ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى كَلَامِ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ وَبَيَانِ مَا فِيهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا نَطَقَ الْعُلَمَاءُ بِمَا نَطَقُوا بِهِ، وَأَشَارَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى مَا أَشَارُوا إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ: لِقَصْدِ تَصْحِيحِ التَّوْحِيدِ، وَمَا سِوَاهُ - مِنْ حَالٍ أَوْ مَقَامٍ -: فَكُلُّهُ مَصْحُوبُ الْعِلَلِ. يُرِيدُ: أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ، فَغَايَتُهَا كُلِّهَا التَّوْحِيدُ، وَإِنَّمَا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ السُّلُوكِ كُلُّهِ لِقَصْدِ تَصْحِيحِهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ مِنْ أَوَّلِ الْمَقَامَاتِ إِلَى آخِرِهَا، فَإِنَّهَا تُشِيرُ إِلَى تَصْحِيحِهِ وَتَجْرِيدِهِ. وَقَوْلُهُ " وَمَا سِوَاهُ - مِنْ حَالٍ أَوْ مَقَامٍ - فَكُلُّهُ مَصْحُوبُ الْعِلَلِ " يُرِيدُ: أَنَّ تَجْرِيدَ التَّوْحِيدِ لَا عِلَّةَ مَعَهُ، إِذْ لَوْ كَانَ مَعَهُ عِلَّةٌ تَصْحَبُهُ لَمْ يُجَرَّدْ، فَتَجَرُّدُهُ يَنْفِي عَنْهُ الْعِلَلَ بِالْكُلِّيَّةِ، بِخِلَافِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِنَّ الْعِلَلَ تَصْحَبُهَا، وَعِنْدَهُمْ: أَنَّ عِلَلَ الْمَقَامَاتِ لَا تَزُولُ بِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ، مِثَالُهُ: أَنَّ عِلَّةَ مَقَامِ التَّوَكُّلِ أَنْ يَشْهَدَ مَتَوَكِّلًا وَمُتَوَكَّلًا عَلَيْهِ، وَمُتَوَكَّلًا فِيهِ، وَيَشْهَدَ نَفْسَ تَوَكُّلِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ عِلَّةٌ فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ مَقَامُهُ إِلَّا بِأَنْ لَا يَشْهَدَ مَعَ الْوَكِيلِ الْحَقِّ الَّذِي يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا يَرَى تَوَكُّلَهُ

عَلَيْهِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَلَا وَسِيلَةً إِلَيْهِ. وَفِيهِ عِلَّةٌ أُخْرَى أَدَقُّ مِنْ هَذِهِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْفَنَاءِ، وَهِيَ: أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ قَدْ وَكَّلَ أَمْرَهُ إِلَى مَوْلَاهُ، وَالْتَجَأَ إِلَى كِفَايَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ لَهُ، وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ، قَالُوا: وَهَذَا فِي طَرِيقِ الْخَاصَّةِ عَمًى عَنِ التَّوْحِيدِ، وَرُجُوعٌ إِلَى الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ الْمُوَحِّدَ قَدْ رَفَضَ الْأَسْبَابَ، وَوَقَفَ مَعَ الْمُسَبِّبِ وَحْدَهُ، وَالْمُتَوَكِّلِ - وَإِنْ رَفَضَ الْأَسْبَابَ - فَإِنَّهُ وَاقِفٌ مَعَ تَوَكُّلِهِ، فَصَارَ تَوَكُّلُهُ بَدَلًا مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ الَّتِي رَفَضَهَا، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا رَفَضَهُ. وَتَجْرِيدُ التَّوَكُّلِ عِنْدَهُمْ وَحَقِيقَتُهُ: هُوَ تَخْلِيصُ الْقَلْبِ مِنْ عِلَّةِ التَّوَكُّلِ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَغَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَقَدَّرَهَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إِلَى الْمَوَاقِيتِ، فَالْمُتَوَكِّلُ حَقِيقَةً - عِنْدَهُمْ - هُوَ مَنْ أَرَاحَ نَفْسَهُ مِنْ كَدِّ النَّظَرِ، وَمُطَالَعَةِ السَّبَبِ، سُكُونًا إِلَى مَا سَبَقَ لَهُ مِنَ الْقَسْمِ، مَعَ اسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ عِنْدَهُ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ: أَنَّ الطَّالِبَ لَا يَنْفَعُ، وَالتَّوَكُّلَ لَا يَجْمَعُ، وَمَتَى طَالَعَ بِتَوَكُّلِهِ عَرَضًا كَانَ تَوَكُّلُهُ مَدْخُولًا، وَقَصْدُهُ مَعْلُولًا، فَإِذَا خَلَصَ مِنْ رِقِّ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَمُطَالَعَةِ الْعَوَارِضِ، وَلَمْ يُلَاحِظْ فِي تَوَكُّلِهِ سِوَى خَالِصِ حَقِّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ؛ كَفَاهُ تَعَالَى كُلَّ مُهِمٍّ، كَمَا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى " كُنْ لِي كَمَا أُرِيدُ، أَكُنْ لَكَ كَمَا تُرِيدُ. وَهَذَا الْكَلَامُ وَأَمْثَالُهُ بَعْضُهُ صَوَابٌ، وَبَعْضُهُ خَطَأٌ، وَبَعْضُهُ مُحْتَمَلٌ. فَقَوْلُهُ " إِنَّ التَّوَكُّلَ فِي طَرِيقِ الْخَاصَّةِ عَمًى عَنِ التَّوْحِيدِ، وَرُجُوعٌ إِلَى الْأَسْبَابِ " خَطَأٌ مَحْضٌ، بَلِ التَّوَكُّلُ: حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ، وَلَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ إِلَّا بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّوَكُّلِ بَيَانُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مِنْ مَقَامَاتِ الرُّسُلِ، وَهُمْ خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا الْمُتَحَذْلِقُونَ الْمُتَنَطِّعُونَ جَعَلُوهُ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ، وَلَا أَخَصَّ مِمَّنْ أَرْسَلَ اللَّهُ وَاصْطَفَى، وَلَا أَعْلَى مِنْ مَقَامَاتِهِمْ. وَقَوْلُهُ " إِنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى الْأَسْبَابِ " يُقَالُ: بَلْ هُوَ قِيَامٌ بِحَقِّ الْأَمْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ رَبْطَ الْمُسَبِّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا، وَجَعَلَ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ مِنْ أَقْرَبِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ، فَالتَّوَكُّلُ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَمُوَافَقَةٌ لِحِكْمَتِهِ، وَعُبُودِيَّةِ الْقَلْبِ لَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَصْحُوبَ الْعِلَلِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ؟ وَقَوْلُهُ " لِأَنَّ الْمُوَحِّدَ قَدْ رَفَضَ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا " يُقَالُ لَهُ: هَذَا الرَّفْضُ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْكُفْرِ تَارَةً، وَالْفِسْقِ تَارَةً، وَالتَّقْصِيرِ تَارَةً، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِالْأَسْبَابِ، فَمَنْ رَفَضَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُومَ بِهِ فَقَدْ ضَادَ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ، وَكَيْفَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَرْفُضَ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا؟

فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ الْمُرَادُ رَفْضَ الْقِيَامِ بِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: رَفَضَ الْوُقُوفِ مَعَهَا. قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّ الْوُقُوفَ مَعَ الْأَسْبَابِ قِسْمَانِ: وُقُوفٌ مَأْمُورٌ بِهِ مَطْلُوبٌ، وَهُوَ أَنْ يَقِفَ مَعَهَا حَيْثُ أَوْقَفَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَلَا يَتَعَدَّى حُدُودَهَا، وَلَا يَقْصُرُ عَنْهَا، فَيَقِفُ مَعَهَا مُرَاعَاةً لِحُدُودِهَا وَأَوْقَاتِهَا وَشَرَائِطِهَا، وَهَذَا الْوُقُوفُ لَا تَتِمُّ الْعُبُودِيَّةُ إِلَّا بِهِ. وَوُقُوفٌ مَعَهَا، بِحَيْثُ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا هِيَ الْفَاعِلَةُ الْمُؤَثِّرَةُ بِنَفْسِهَا، وَأَنَّهَا تَنْفَعُ وَتَضُرُّ بِذَاتِهَا، فَهَذَا لَا يَعْتَقِدُهُ مُوَحِّدٌ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْهُ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالسُّلُوكِ، نَعَمْ، لَا يَنْقَطِعُ بِهَا عَنْ رُؤْيَةِ الْمُسَبِّبِ، وَيَعْتَقِدُهَا هِيَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهُ، بَلْ هِيَ وَسِيلَةٌ تُوَصِّلُ إِلَى الْغَايَةِ، وَلَا تَصِلُ إِلَى الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِدُونِهَا، فَهَذَا حَقٌّ، لَكِنْ لَا يُجَامِعُ رَفْضَهَا وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا، بَلْ يَقُومُ بِهَا، مُعْتَقِدًا أَنَّهَا وَسِيلَةٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَى الْغَايَةِ، فَهِيَ كَالطَّرِيقِ الْحِسِّيِّ الَّذِي يَقْطَعُهُ الْمُسَافِرُ إِلَى مَقْصِدِهِ، فَإِنْ قِيلَ لَهُ: ارْفُضِ الطَّرِيقَ، وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهَا؛ انْقَطَعَ عَنِ الْمَسِيرِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ جَعَلَهَا غَايَتَهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِالسَّيْرِ فِيهَا وُصُولَهُ إِلَى مَقْصِدٍ مُعَيَّنٍ؛ كَانَ مُعْرِضًا عَنِ الْغَايَةِ، مُشْتَغِلًا بِالطَّرِيقِ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ: الْتَفِتْ إِلَى طَرِيقِكِ وَمَنَازِلِ سِيَرِكَ، وَرَاعِهَا، وَسِرْ فِيهَا نَاظِرًا إِلَى الْمَقْصُودِ، عَامِلًا عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. وَقَوْلُهُ: " الْمُتَوَكِّلُ - وَإِنْ رَفَضَ الْأَسْبَابَ - وَاقِفٌ مَعَ تَوَكُّلِهِ. فَيُقَالُ: إِنْ وَقَفَ مَعَ تَوَكُّلِهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَدَاءً لِحَقِّ عُبُودِيَّتِهِ، مَعْتَقِدًا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِالتَّوَكُّلِ، وَأَقَامَهُ فِيهِ، وَجَعَلَهُ سَبَبًا مُوَصِّلًا لَهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ، فَنِعْمَ الْوُقُوفُ وَقَفَ، وَمَا أَحْسَنَهُ مِنْ وُقُوفٍ! وَإِنْ وَقَفَ مَعَهُ اعْتِقَادًا أَنَّ بِنَفْسِ تَوَكُّلِهِ وَعَمَلِهِ يَصِلُ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ فَضْلِ رَبِّهِ وَإِعَانَتِهِ، وَمَنِّهِ عَلَيْهِ بِالتَّوَكُّلِ؛ فَهُوَ وُقُوفٌ مُنْقَطِعٌ عَنِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: " إِنَّ التَّوَكُّلَ بَدَلٌ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي رَفَضَهَا، فَالْمُتَوَكِّلُ مُتَنَقِّلٌ مِنْ سَبَبٍ إِلَى سَبَبٍ يُقَالُ لَهُ: إِنْ كَانَتِ الْأَسْبَابُ الَّتِي رَفَضَهَا غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهَا، فَالتَّوَكُّلُ الْمُجَرَّدُ خَيْرٌ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا، فَرَفْضُهُ لَهَا إِلَى التَّوَكُّلِ مَعْصِيَةٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْأَمْرِ. نَعَمْ لِلتَّوَكُّلِ ثَلَاثُ عِلَلٍ، إِحْدَاهَا: أَنْ يَتْرُكَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، اسْتِغْنَاءً بِالتَّوَكُّلِ عَنْهَا، فَهَذَا تَوَكُّلُ عَجْزٍ وَتَفْرِيطٍ وَإِضَاعَةٍ، لَا تَوَكُّلُ عُبُودِيَّةٍ وَتَوْحِيدٍ، كَمَنْ يَتْرُكُ الْأَعْمَالَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ النَّجَاةِ، وَيَتَوَكَّلُ فِي حُصُولِهَا وَيَتْرُكُ الْقِيَامَ بِأَسْبَابِ الرِّزْقِ - مِنْ

الْعَمَلِ وَالْحِرَاثَةِ وَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا - وَيَتَوَكَّلُ فِي حُصُولِهِ، وَيَتْرُكُ طَلَبَ الْعِلْمِ، وَيَتَوَكَّلُ فِي حُصُولِهِ، فَهَذَا تَوَكُّلُهُ عَجْزٌ وَتَفْرِيطٌ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَجْعَلُ تَوَكُّلَهُ عَجْزًا، وَعَجْزَهُ تَوَكُّلًا. الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَوَكَّلَ فِي حُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ دُونَ حُقُوقِ رَبِّهِ، كَمَنْ يَتَوَكَّلُ فِي حُصُولِ مَالٍ أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ رِيَاسَةٍ، وَأَمَّا التَّوَكُّلُ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَإِظْهَارِ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ فَلَيْسَ فِيهِ عِلَّةٌ، بَلْ هُوَ مُزِيلٌ لِلْعِلَلِ. الْعِلَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرَى تَوَكُّلَهُ مِنْهُ، وَيَغِيبُ بِذَلِكَ عَنْ مُطَالَعَةِ الْمِنَّةِ وَشُهُودِ الْفَضْلِ، وَإِقَامَةِ اللَّهِ لَهُ فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ رُؤْيَةِ التَّوَكُّلِ عِلَّةً، كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، بَلْ رُؤْيَةُ التَّوَكُّلِ، وَأَنَّهُ مِنْ عَيْنِ الْجُودِ، وَمَحْضِ الْمِنَّةِ، وَمُجَرَّدِ التَّوْفِيقِ عُبُودِيَّةٌ، وَهِيَ أَكْمَلُ مِنْ كَوْنِهِ يَغِيبُ عَنْهُ وَلَا يَرَاهُ، فَالْأَكْمَلُ أَنْ لَا يَغِيبَ بِفَضْلِ رَبِّهِ عَنْهُ، وَلَا بِهِ عَنْ شُهُودِ فَضْلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَهَذِهِ الْعِلَلُ الثَّلَاثُ هِيَ الَّتِي تَعْرِضُ فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَقَامَاتِ، وَهِيَ الَّتِي يَعْمَلُ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ وَأَمْرِهِ عَلَى قَطْعِهَا، وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي سَائِرِ عِلَلِ الْمَقَامَاتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا مِثَالًا لِمَا يُذْكَرُ مِنْ عِلَلِهَا، وَقَدْ أَفْرَدَ لَهَا صَاحِبُ الْمَنَازِلِ مُصَنَّفًا لَطِيفًا، وَجَعَلَ غَالِبَهَا مَعْلُولًا، وَالصَّوَابُ: أَنَّ عِلَلَهَا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ، أَنْ يَتْرُكَ بِهَا مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا، وَأَنْ يُعَلِّقَهَا بِحَظِّهِ، وَالِانْقِطَاعِ بِهَا عَنِ الْمَقْصُودِ، وَأَنْ لَا يَرَاهَا مِنْ عَيْنِ الْمِنَّةِ وَمَحْضِ الْجُودِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ: وَالتَّوْحِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: تَوْحِيدُ الْعَامَّةِ، الَّذِي يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْحَقَائِقِ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: تَوْحِيدٌ قَائِمٌ بِالْقِدَمِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ. فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يَتَفَاوَتُونَ فِي تَوْحِيدِهِمْ - عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَحَالًا - تَفَاوُتًا لَا يُحْصِيهُ إِلَّا اللَّهُ، فَأَكْمَلُ النَّاسِ تَوْحِيدًا: الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ أَكْمَلُ فِي ذَلِكَ، وَأُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أَكْمَلُ تَوْحِيدًا، وَهُمْ نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَمُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَأَكْمَلُهُمْ تَوْحِيدًا: الْخَلِيلَانِ مُحَمَّدٌ وَإِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا، فَإِنَّهُمَا قَامَا مِنَ التَّوْحِيدِ بِمَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُمَا - عِلْمًا وَمَعَرِفَةً وَحَالًا، وَدَعْوَةً لِلْخَلْقِ وَجِهَادًا - فَلَا تَوْحِيدَ أَكْمَلُ مِنَ الَّذِي

قَامَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَدَعَوْا إِلَيْهِ، وَجَاهَدُوا الْأُمَمَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِيهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ - بَعْدَ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَمُنَاظَرَتِهِ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ فِي بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَصِحَّةِ التَّوْحِيدِ، وَذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ - ثُمَّ قَالَ {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 89] فَلَا أَكْمَلَ مِنْ تَوْحِيدِ مَنْ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ. وَلَمَّا قَامُوا بِحَقِيقَتِهِ - عِلْمًا وَعَمَلًا وَدَعْوَةً وَجِهَادًا - جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَئِمَّةً لِلْخَلَائِقِ، يَهْدُونَ بِأَمْرِهِ، وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ الْخَلَائِقَ تَبَعًا لَهُمْ، يَأْتَمُّونَ بِأَمْرِهِمْ، وَيَنْتَهُونَ إِلَى مَا وَقَفُوا بِهِمْ عِنْدَهُ، وَخَصَّ بِالسَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ وَالْهُدَى أَتْبَاعَهُمْ، وَبِالشَّقَاءِ وَالضَّلَالِ مُخَالِفِيهِمْ، وَقَالَ لِإِمَامِهِمْ وَشَيْخِهِمْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] أَيْ لَا يَنَالُ عَهْدِي بِالْإِمَامَةِ مُشْرِكٌ، وَلِهَذَا أَوْصَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَبِّعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ، إِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَقُولُوا: " أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ، حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "، فَمِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ: التَّوْحِيدُ، وَدِينُ مُحَمَّدٍ: مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا، وَكَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ: هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِطْرَةُ الْإِسْلَامِ: هِيَ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ عُبُودِيَّةً وَذُلًّا، وَانْقِيَادًا وَإِنَابَةً. فَهَذَا هُوَ تَوْحِيدُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ الَّذِي مَنْ رَغِبَ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ أَسَفِهِ السُّفَهَاءِ، قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 130] . فَقَسَّمَ سُبْحَانَهُ الْخَلَائِقَ قِسْمَيْنِ: سَفِيهًا لَا أَسْفَهَ مِنْهُ، وَرَشِيدًا، فَالسَّفِيهُ: مَنْ رَغِبَ عَنْ مِلَّتِهِ إِلَى الشِّرْكِ، وَالرَّشِيدُ: مَنْ تَبَرَّأَ مِنَ الشِّرْكِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَحَالًا، فَكَانَ قَوْلُهُ تَوْحِيدًا، وَعَمَلُهُ تَوْحِيدًا، وَحَالُهُ تَوْحِيدًا، وَدَعَوْتُهُ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَبِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ - مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ - قَالَ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51]

وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وَقَالَ تَعَالَى {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] وَقَالَ تَعَالَى {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ - لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ - لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ - أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} [الأنبياء: 21 - 24] أَيْ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيَّ، وَهَذِهِ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ: هَلْ وَجَدْتُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا اتِّخَاذَ آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ؟ أَمْ كُلُّهَا نَاطِقَةٌ بِالتَّوْحِيدِ آمِرَةٌ بِهِ؟ وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وَالطَّاغُوتُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا عَبَدُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَكُلُّ مُشْرِكٍ إِلَهُهُ طَاغُوتُهُ. وَقَدْ تَكَلَّمَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ فِي التَّوْحِيدِ فَقَالَ - بَعْدَ أَنْ حَكَى كَلَامَهُ إِلَى آخِرِهِ -: أَمَّا التَّوْحِيدُ الْأَوَّلُ، الَّذِي ذَكَرَهُ: فَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ كُلُّهَا، وَبِهِ أَمَرَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَذَكَرَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ بِذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ كُلِّ رَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 32] وَهَذِهِ أَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَآخِرُهَا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» وَقَالَ «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذَا التَّوْحِيدِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَتَعْلِيقِ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ بِهِ، وَحَقِيقَتُهُ: إِخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ، وَالْفَنَاءُ فِي هَذَا التَّوْحِيدِ مَقْرُونٌ بِالْبَقَاءِ، وَهُوَ أَنْ تُثْبِتَ إِلَهِيَّةَ الْحَقِّ تَعَالَى فِي قَلْبِكَ، وَتَنْفِي إِلَهِيَّةَ مَا سِوَاهُ، فَتَجْمَعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَالنَّفْيُ هُوَ الْفَنَاءُ، وَالْإِثْبَاتُ هُوَ الْبَقَاءُ، وَحَقِيقَتُهُ: أَنْ تَفْنَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَبِمَحَبَّتِهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ، وَبِخَشْيَتِهِ عَنْ خَشْيَةِ مَا سِوَاهُ،

وَبِطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ، وَكَذَلِكَ بِمُوَالَاتِهِ وَسُؤَالِهِ، وَالِاسْتِغْنَاءِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَرَجَائِهِ وَدُعَائِهِ، وَالتَّفْوِيضِ إِلَيْهِ، وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْهِ، وَاللُّجْءِ إِلَيْهِ، وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ، قَالَ تَعَالَى {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14] وَقَالَ تَعَالَى {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114] وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164] وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ - وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 64 - 65] وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 161 - 162] لَا شَرِيكَ لَهُ الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213] وَقَالَ تَعَالَى {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39] وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] وَقَالَ {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2] وَقَالَ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ {فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 14] وَقَالَ عَنْ صَاحِبِ يس {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: 22] وَقَالَ تَعَالَى {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشورى: 9]

وَقَالَ تَعَالَى {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43] وَقَالَ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73] وَقَالَ تَعَالَى {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] . وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، بَلْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وَهُوَ أَوَّلُ الدِّينِ وَآخِرُهُ وَبَاطِنُهُ وَظَاهِرُهُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ، وَقُطْبُ رَحَاهُ، وَأَمَرَنَا تَعَالَى أَنَّ نَتَأَسَّى بِإِمَامِ هَذَا التَّوْحِيدِ فِي نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26] وَقَالَ تَعَالَى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ - قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ - قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ - أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ - قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ - قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ - الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ - وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ - وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ - وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ - وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 69 - 82] وَإِذَا تَدَبَّرْتَ الْقُرْآنَ - مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ - رَأَيْتَهُ يَدُورُ عَلَى هَذَا التَّوْحِيدِ، وَتَقْرِيرِهِ وَحُقُوقِهِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَالْخَلِيلَانِ هُمْ أَكْمَلُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ تَوْحِيدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ هُوَ أَكْمَلُ تَوْحِيدًا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَضْلًا عَنِ الرُّسُلِ، فَضْلًا عَنْ أُولِي الْعَزْمِ، فَضْلًا عَنِ الْخَلِيلَيْنِ، وَكَمَالُ هَذَا التَّوْحِيدِ هُوَ أَنْ لَا يَبْقَى فِي الْقَلْبِ شَيْءٌ لِغَيْرِ

فصل توحيد العامة الذي يصح بالشواهد

اللَّهِ أَصْلًا، بَلْ يَبْقَى الْعَبْدُ مُوَالِيًا لِرَبِّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، يُحِبُّ مَنْ أَحَبَّ وَمَا أَحَبَّ، وَيُبْغِضُ مَنْ أَبْغَضَ وَمَا أَبْغَضَ، وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي، وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي، وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَيَنْهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ. [فَصْلٌ تَوْحِيدُ الْعَامَّةِ الَّذِي يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ] فَصْلٌ قَوْلُهُ: " وَهَذَا تَوْحِيدُ الْعَامَّةِ، الَّذِي يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ ". قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا تَوْحِيدُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ، الَّذِي لَا شَيْءَ فَوْقَهُ، وَلَا أَخَصَّ مِنْهُ، وَأَنَّ الْخَلِيلَيْنِ أَكْمَلُ النَّاسِ فِيهِ تَوْحِيدًا، فَلْيَهْنَ الْعَامَّةَ نَصِيُهُمْ مِنْهُ. قَوْلُهُ " يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ " أَيْ بِالْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِهِ وَشَرَفِهِ أَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ، وَنَادَتْ عَلَيْهِ الشَّوَاهِدُ، وَأَوْضَحَتْهُ الْآيَاتُ وَالْبَرَاهِينُ، وَمَا عَدَاهُ فَدَعَاوَى مُجَرَّدَةٌ، لَا يَقُومُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ، وَلَا تَصِحُّ بِشَاهِدٍ، فَكُلُّ تَوْحِيدٍ لَا يَصِحُّ بِشَاهِدٍ فَلَيْسَ بِتَوْحِيدٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْحِيدٌ أَكْمَلَ مِنَ التَّوْحِيدِ الَّذِي يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ، وَالْآيَاتِ، وَتَوْحِيدُ الْقُرْآنِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ كَذَلِكَ. قَوْلُهُ: " هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الظَّاهِرُ الْجَلِيُّ، الَّذِي نَفَى الشِّرْكَ الْأَعْظَمَ ". فَنَعَمْ، لَعَمْرُ اللَّهِ، وَلِظُهُورِهِ وَجَلَائِهِ أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، وَأَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَمَّا الرَّمْزُ وَالْإِشَارَةُ وَالتَّعْقِيدُ، الَّذِي لَا يَكَادُ أَنْ يَفْهَمَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا بِجَهْدٍ وَكُلْفَةٍ فَلَيْسَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَا دَعَوْا إِلَيْهِ، فَظُهُورُ هَذَا التَّوْحِيدِ وَانْجِلَاؤُهُ وَوُضُوحُهُ، وَشَهَادَةُ الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ بِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ أَنَّهُ أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّوْحِيدِ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ، وَلِذَلِكَ قَوِيَ عَلَى نَفْيِ الشِّرْكِ الْأَعْظَمِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا عَظُمَ لَا يَدْفَعُهُ إِلَّا الْعَظِيمُ، فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا التَّوْحِيدِ لَدَفَعَ اللَّهُ بِهِ الشِّرْكَ الْأَعْظَمَ، وَلِعَظَمَتِهِ وَشَرَفِهِ؛ نُصِبَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَأُسِّسَتْ عَلَيْهِ الْمِلَّةُ، وَوَجَبَتْ بِهِ الذِّمَّةُ، وَانْفَصَلَتْ بِهِ دَارُ الْكُفْرِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَانْقَسَمَ بِهِ النَّاسُ إِلَى سَعِيدٍ وَشَقِيٍّ،

وَمُهْتَدٍ وَغَوِيٍّ، وَنَادَتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ وَالرُّسُلُ. قَوْلُهُ " وَإِنْ لَمْ يَقُومُوا بِحُسْنِ الِاسْتِدْلَالِ " يَعْنِي: هُوَ مُسْتَتِرٌ فِي قُلُوبِ أَهْلِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ تَقْرِيرًا وَإِيْضَاحًا، وَجَوَابًا عَنِ الْمُعَارِضِ، وَدَفْعًا لِشُبَهِ الْمُعَانِدِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُحْسِنُونَ ذَلِكَ، وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى وُجُودِ التَّوْحِيدِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَمَا كُلُّ مَنْ وَجَدَ شَيْئًا وَعَلِمَهُ وَتَيَقَّنَهُ أَحْسَنَ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ، وَيُقَرِّرَهُ، وَيَدْفَعَ الشُّبَهَ الْقَادِحَةَ فِيهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَوُجُودُهُ لَوْنٌ، وَلَكِنْ لَابُدَّ - مَعَ ذَلِكَ - مِنْ نَوْعِ اسْتِدْلَالٍ قَامَ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى شُرُوطِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يُنَظِّمُهَا أَهْلُ الْكَلَامِ وَغَيْرُهُمْ وَتَرْتِيبِهَا، فَهَذِهِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي التَّوْحِيدِ - لَا فِي مَعْرِفَتِهِ وَالْعِلْمِ بِهِ، وَلَا فِي الْقِيَامِ بِهِ عَمَلًا وَحَالًا - فَاسْتِدْلَالُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ، وَلَا يُحْصِي أَنْوَاعَ الِاسْتِدْلَالِ وَوُجُوهَهُ وَمَرَاتِبَهُ إِلَّا اللَّهُ، فَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، وَلِكُلِّ عِلْمٍ صَحِيحٍ وَيَقِينٍ دَلِيلٌ يُوجِبُهُ، وَشَاهِدٌ يَصِحُّ بِهِ، وَقَدْ لَا يُمْكِنُ صَاحِبَهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ عَجْزًا وَعِيًّا، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ فَقَدْ لَا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِاصْطِلَاحِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَلْفَاظِهِمْ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ الدَّلِيلُ الَّذِي عُرِفَ بِهِ الْحَقُّ أَصَحَّ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمُقَدِّمَاتِهَا، وَأَبْعَدَ عَنِ الشُّبَهِ، وَأَقْرَبَ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ، وَإِيصَالًا إِلَى الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ. بَلْ مَنِ اسْتَقْرَأَ أَحْوَالَ النَّاسِ رَأَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ - أَوْ أَكْثَرَهُمْ - أَعْظَمُ تَوْحِيدًا، وَأَكْثَرُ مَعْرِفَةً، وَأَرْسَخُ إِيمَانًا مِنْ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَرْبَابِ النَّظَرِ وَالْجِدَالِ، وَيَجِدُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ الَّتِي يَصِحُّ بِهَا إِيمَانُهُمْ مَا هُوَ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ وَأَصَحُّ مِمَّا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَدَبَ اللَّهُ عِبَادَهُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَثُبُوتِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ هِيَ آيَاتٌ مَشْهُودَةٌ بِالْحِسِّ، مَعْلُومَةٌ بِالْعَقْلِ، مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْفِطَرِ، لَا يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهَا إِلَى أَوْضَاعِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ، وَاصْطِلَاحِهِمْ، وَطُرُقِهِمُ الْبَتَّةَ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ حِسٌّ سَلِيمٌ، وَعَقْلٌ يُمَيِّزُ بِهِ يَعْرِفُهَا وَيُقِرُّ بِهَا، وَيَنْتَقِلُ مِنَ الْعِلْمِ بِهَا إِلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ، وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَاتِ أُلُوفٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَمَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ إِذَا سَمِعَهَا وَفَهِمَهَا وَعَقَلَهَا انْتَقَلَ ذِهْنُهُ مِنْهَا إِلَى الْمَدْلُولِ أَسْرَعَ انْتِقَالٍ وَأَقْرَبَهُ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَا كُلُّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ، وَلَا كُلُّ مَنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ يُحْسِنُ تَرْتِيبَ الدَّلِيلِ وَتَقْرِيرَهُ، وَالْجَوَابَ عَنِ الْمُعَارِضِ، وَالشَّوَاهِدُ الَّتِي ذَكَرَهَا: هِيَ الْأَدِلَّةُ، كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَصْنُوعِ عَلَى الصَّانِعِ، وَالْمَخْلُوقِ عَلَى

الْخَالِقِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا تَوْحِيدَ أَكْمَلُ مِنْ تَوْحِيدِهِ. قَوْلُهُ: " بَعْدَ أَنْ يَسْلَمُوا مِنَ الشُّبْهَةِ، وَالْحَيْرَةِ، وَالرِّيبَةِ "، الشُّبْهَةُ: الشُّكُوكُ الَّتِي تُوقِعُ فِي اشْتِبَاهِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، فَيَتَوَلَّدُ عَنْهَا الْحَيْرَةُ وَالرِّيبَةُ، وَهَذَا حَقٌّ، فَإِنَّ هَذَا التَّوْحِيدَ لَا يَنْفَعُ إِنْ لَمْ يَسْلَمْ قَلْبُ صَاحِبِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الَّذِي لَا يُفْلِحُ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِهِ، فَيَسْلَمُ مِنَ الشُّبَهِ الْمُعَارِضَةِ لِخَبَرِهِ، وَالْإِرَادَاتِ الْمُعَارِضَةِ لِأَمْرِهِ، بَلْ يَنْقَادُ لِلْخَبَرِ تَصْدِيقًا وَاسْتِيقَانًا، وَلِلطَّلَبِ إِذْعَانًا وَامْتِثَالًا. قَوْلُهُ: " بِصِدْقِ شَهَادَةٍ صَحَّحَهَا قَبُولُ الْقَلْبِ "، أَيْ سَلِمُوا مِنَ الشُّبْهَةِ وَالْحَيْرَةِ وَالرِّيبَةِ: بِصِدْقِ شَهَادَةٍ تَوَاطَأَ عَلَيْهَا الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ، فَصَحَّتْ شَهَادَتُهُمْ بِقَبُولِ قُلُوبِهِمْ لَهَا، وَاعْتِقَادِهِمْ صِحَّتَهَا، وَالْجَزْمَ بِهَا، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْمُنَافِقِ الَّتِي لَمْ يَقْبَلْهَا قَلْبُهُ، وَلَمْ يُوَاطِئْ عَلَيْهَا لِسَانُهُ. قَوْلُهُ: " وَهُوَ تَوْحِيدُ الْعَامَّةِ الَّذِي يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ، قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ، ثُمَّ بَيَّنَ مُرَادَهُ بِالشَّوَاهِدِ أَنَّهَا الرِّسَالَةُ وَالصَّنَائِعُ، فَقَالَ: " وَالشَّوَاهِدُ: الْأَدِلَّةُ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالرِّسَالَةُ أَرْشَدَتْ إِلَيْهَا، وَعُرِفَتْ بِهَا، وَمَقْصُودُهُ: أَنَّ الشَّوَاهِدَ نَوْعَانِ: آيَاتٌ مَتْلُوَّةٌ، وَهِيَ الرِّسَالَةُ، وَآيَاتٌ مَرْئِيَّةٌ، وَهِيَ الصَّنَائِعُ. قَوْلُهُ: " وَيَجِبُ بِالسَّمْعِ، وَيُوجَدُ بِتَبْصِيرِ الْحَقِّ، وَيَنْمُو عَلَى مَشَاهِدِ الشَّوَاهِدِ ". هَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ، إِحْدَاهَا: مَا يَجِبُ بِهِ، وَالثَّانِيَةُ: مَا يُوجَدُ بِهِ، وَالثَّالِثَةُ: مَا يَنْمُو بِهِ. فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَاخْتَلَفَ فِيهَا النَّاسُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجِبُ بِالْعَقْلِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، وَالسَّمْعُ مُقَرِّرٌ لِمَا وَجَبَ بِالْعَقْلِ مُؤَكِّدٌ لَهُ، فَجَعَلُوا وَجُوبَهُ وَالْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ ثَابِتَيْنِ بِالْعَقْلِ، وَالسَّمْعُ مُبَيِّنٌ وَمُقَرِّرٌ لِلْوُجُوبِ وَالْعِقَابِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ فِي مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ، لَا هَذَا وَلَا هَذَا، بَلْ لَا يَجِبُ بِالْعَقْلِ فِيهَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا الْوُجُوبُ بِالشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى نَفْيِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَالْقَوْلَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةِ. وَالْحَقُّ: أَنَّ وُجُوبَهُ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ، وَالْقُرْآنُ عَلَى هَذَا يَدُلُّ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَيُبَيِّنُ حُسْنَهُ وَقُبْحَ الشِّرْكِ عَقْلًا وَفِطْرَةً، وَيَأْمُرُ بِالتَّوْحِيدِ وَيَنْهَى عَنِ الشِّرْكِ، وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْثَالَ، وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ، وَخَاطَبَ الْعِبَادَ بِذَلِكَ خِطَابَ مَنِ اسْتَقَرَّ فِي عُقُولِهِمْ وَفِطَرِهِمْ حُسْنُ التَّوْحِيدِ وَوُجُوبُهُ، وَقُبْحُ الشِّرْكِ وَذَمُّهُ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] وَقَوْلِهِ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 75 - 76] وَقَوْلِهِ {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73] إِلَى أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ وَنَبَّهَ عَلَيْهَا. وَلَكِنْ هَاهُنَا أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِ هَذَا الْوَاجِبِ يَتَأَخَّرُ إِلَى حِينِ وُرُودِ الشَّرْعِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَقَوْلُهُ {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} [الملك: 8] وَقَوْلُهُ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] وَقَوْلُهُ {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131]

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَأَنَّهُ لَا يُهْلِكُهُمْ بِهَذَا الظُّلْمِ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَالْآيَةُ رَدٌّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا، مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ الظُّلْمُ وَالْقُبْحُ إِلَّا بِالسَّمْعِ، وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ عَلَى ظُلْمِهِمْ بِدُونِ السَّمْعِ، فَالْقُرْآنُ يُبْطِلُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَقَوْلَ هَؤُلَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47] فَأَخْبَرَ: أَنَّ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ سَبَبٌ لِإِصَابَتِهِمْ بِالْمُصِيبَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ قَبْلَ إِرْسَالِ الرَّسُولِ الَّذِي يُقِيمُ بِهِ حُجَّتَهُ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وَقَالَ تَعَالَى {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ - أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ - أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 155 - 157] وَقَوْلُهُ {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56]- إِلَى قَوْلِهِ - {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 59] وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، يُخْبِرُ أَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا نَبَّهَهُمْ بِمَا فِي عُقُولِهِمْ وَفِطَرِهِمْ: مِنْ حُسْنِ التَّوْحِيدِ وَالشُّكْرِ، وَقُبْحِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَوْفَاةً مِنْ كِتَابِ مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ وَجْهًا، تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ نَفَى الْقُبْحَ الْعَقْلِيَّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَفْعَالِ مَا يَقْتَضِي حُسْنَهَا وَلَا قُبْحَهَا، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِعَيْنِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَيَنْهَى عَنْ عَيْنِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لَا بِحُسْنٍ هَذَا وَقُبْحِ هَذَا، وَأَنَّهُ لَوْ نَهَى عَنِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَالشُّكْرِ لَكَانَ قَبِيحًا، وَلَوْ أَمَرَ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ لَكَانَ حَسَنًا، وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُخَالِفٌ لِلْعُقُولِ وَالْفِطَرِ، وَالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَالْمَقْصُودُ: الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ " وَيَجِبُ بِالسَّمْعِ "، وَأَنَّ الصَّوَابَ وُجُوبُهُ

بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ الْإِيجَابِ، فَالْعَقْلُ يُوجِبُهُ: بِمَعْنَى اقْتِضَائِهِ لِفِعْلِهِ، وَذَمِّهِ عَلَى تَرْكِهِ، وَتَقْبِيحِهِ لِضِدِّهِ، وَالسَّمْعُ يُوجِبُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَيَزِيدُ: إِثْبَاتَ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ، وَالْإِخْبَارَ عَنْ مَقْتِ الرَّبِّ تَعَالَى لِتَارِكِهِ، وَبُغْضِهِ لَهُ، وَهَذَا قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَقَرَّرَ قُبْحُ الشَّيْءِ وَفُحْشُهُ بِالْعَقْلِ، وَعُلِمَ ثُبُوتُ كَمَالِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا: اقْتَضَى ثُبُوتُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: عِلْمَ الْعَقْلِ بِمَقْتِ الرَّبِّ تَعَالَى لِمُرْتَكِبِهِ، وَأَمَّا تَفَاصِيلُ الْعِقَابِ، وَمَا يُوجِبُهُ مَقْتُ الرَّبِّ مِنْهُ: فَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حُسْنُ التَّوْحِيدِ وَقُبْحُ الشِّرْكِ مَعْلُومًا بِالْعَقْلِ، مَسُتَقِرًّا فِي الْفِطَرِ، فَلَا وُثُوقَ بِشَيْءٍ مِنْ قَضَايَا الْعَقْلِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ مِنْ أَجَلِّ الْقَضَايَا الْبَدِيهِيَّاتِ، وَأَوْضَحِ مَا رَكَّبَ اللَّهُ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ، وَلِهَذَا يَقُولُ سُبْحَانَهُ عَقِيبَ تَقْرِيرِ ذَلِكَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَيَنْفِي الْعَقْلَ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَيُخْبِرُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ فِي النَّارِ: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ، وَأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ مُوجَبِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّ سَمْعَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَأَفْئِدَتَهُمْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ خَرَجَ عَنْ مُوجَبِ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى " انْظُرُوا " وَ " اعْتَبِرُوا " وَ " سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا " فَائِدَةٌ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: عُقُولُنَا لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ إِخْبَارِكَ، فَمَا هَذَا النَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ وَالسَّيْرُ فِي الْأَرْضِ؟ وَمَا هَذِهِ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ، وَالْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالشَّوَاهِدُ الْعِيَانِيَّةُ؟ أَفَلَيِسَ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ دَلِيلٍ عَلَى حُسْنِ التَّوْحِيدِ وَالشُّكْرِ؟ وَقُبْحُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مُسْتَقِرٌّ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ، مَعْلُومٌ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ، وَعَقْلٌ سَلِيمٌ، وَفِطْرَةٌ صَحِيحَةٌ؟ قَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 27] وَقَالَ تَعَالَى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] وَقَالَ تَعَالَى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]

وَقَالَ تَعَالَى {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219] وَقَالَ تَعَالَى {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] وَقَالَ تَعَالَى {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25] . وَمِنْ بَعْضِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ: مَا أَبْقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آثَارِ عُقُوبَاتِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَآثَارِ دِيَارِهِمْ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ، وَمَا أَبْقَاهُ مِنْ نَصْرِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَإِعْزَازِهِمْ، وَجَعْلِ الْعَاقِبَةِ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} [العنكبوت: 38] وَقَالَ فِي ثَمُودَ {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل: 52] وَقَالَ فِي قَوْمِ لُوطٍ {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 34] وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 75] وَقَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ لُوطٍ {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137] وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مَا أَوْقَعَ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَيَذْكُرُ إِنْجَاءَهُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ يَقُولُ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 8] فَيَذْكُرُ شِرْكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا بِهِ الْهَلَاكَ، وَتَوْحِيدَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا بِهِ النَّجَاةَ، ثُمَّ يُخْبِرُ أَنَّ فِي ذَلِكَ آيَةً وَبُرْهَانًا لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يَذْكُرُ مَصْدَرَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّهُ عَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَصُدُورُ هَذَا الْإِهْلَاكِ عَنْ عِزَّتِهِ، وَذَلِكَ الْإِنْجَاءِ عَنْ رَحْمَتِهِ، ثُمَّ يُقَرِّرُ فِي آخِرِ السُّورَةِ نُبُوَّةَ رَسُولِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ أَحْسَنَ تَقْرِيرٍ، وَيُجِيبُ عَنْ شُبَهِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ أَحْسَنَ جَوَابٍ، وَكَذَلِكَ تَقْرِيرُهُ لِلْمَعَادِ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ، فَضَرَبَ الْأَمْثَالَ وَالْأَقْيِسَةَ،

فَدَلَالَةُ الْقُرْآنِ سَمْعِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ. فَصْلٌ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: " وَيُوجَدُ بِتَبْصِيرِ الْحَقِّ، وُجُوبُ الشَّيْءِ شَرْعًا لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ حِسًّا، فَلِذَلِكَ ذَكَرَ مَا يُوجَدُ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَجِبُ بِهِ، وَهُوَ تَبْصِيرُ الْحَقِّ تَعَالَى، وَمُرَادُهُ: التَّبْصِيرُ التَّامُّ الَّذِي لَا تَخْتَلِفُ عَنْهُ الْهِدَايَةُ، وَإِلَّا فَقَدْ يُبْصِرُ الْعَبْدُ الْحَقَّ وَلَا تُوجَدُ مِنْهُ الْهِدَايَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - بَصَّرَهُمْ، فَآثَرُوا الضَّلَالَ عَلَى الْهُدَى، وَقَالَ تَعَالَى {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38] وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] فَهَذَا التَّبْصِيرُ لَمْ يُوجِبْ وُجُودَ الْهِدَايَةِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُرِدْ وُجُودَهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ وُجُودَ مُجَرَّدِ الْبَصِيرَةِ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَأَمَّا التَّبْصِيرُ التَّامُّ: فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْهِدَايَةِ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ إِيَّاهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَقَالَ فِيهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] وَقَالَ تَعَالَى {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] فَعَمَّ بِدَعْوَتِهِ الْبَيَانَ وَالدَّلَالَةَ، وَخَصَّ بِهِدَايَتِهِ التَّوْفِيقَ وَالْإِلْهَامَ، فَلَوْ قَالَ الشَّيْخُ: وَيُوجَدُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ بَعْدَ تَبْصِيرِهِ، لَكَانَ أَحْسَنَ، وَلَعَلَّهُ هُوَ مُرَادُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: " وَيَنْمُو عَلَى مُشَاهَدَةِ الشَّوَاهِدِ " وَهَذَا أَيْضًا يَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ الْإِجَابَةُ لِدَاعِي الْحَقِّ، فَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ مُشَاهَدَةِ الشَّوَاهِدِ فِي نُمُوِّهِ {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] يَمُرُّ عَلَيْهَا الْعَبْدُ وَلَا يَنْمُو بِهَا وَلَا يَزِيدُ، بَلْ يَنْقُصُ إِيمَانُهُ وَتَوْحِيدُهُ، فَإِذَا أَجَابَ الدَّاعِي وَتَبَصَّرَ فِي الشَّوَاهِدِ نَمَا تَوْحِيدُهُ، وَقَوِيَ

فصل توحيد الخاصة

إِيمَانُهُ، وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] وَقَالَ تَعَالَى {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] وَقَالَ تَعَالَى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة: 124] . وَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُ الشَّيْخِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ: أَنَّ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ يَنْمُوَانِ وَيَتَزَايَدَانِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِي فَارَقُوا بِهِ الْجَهْمِيَّةَ وَالْمُرْجِئَةَ. [فَصْلٌ تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ] فَصْلٌ قَالَ: وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الثَّانِي، الَّذِي يَثْبُتُ بِالْحَقَائِقِ: فَهُوَ تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ، وَهُوَ إِسْقَاطُ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، وَالصُّعُودُ عَنْ مُنَازَعَاتِ الْعُقُولِ، وَعَنِ التَّعَلُّقِ بِالشَّوَاهِدِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَشْهَدَ فِي التَّوْحِيدِ دَلِيلًا، وَلَا فِي التَّوَكُّلِ سَبَبًا، وَلَا فِي النَّجَاةِ وَسِيلَةً، فَيَكُونُ مُشَاهِدًا سَبْقَ الْحَقِّ بِحُكْمِهِ وَعِلْمِهِ، وَوَضْعِهِ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا وَتَعْلِيقِهِ إِيَّاهَا بِأَحَايِينِهَا، وَإِخْفَائِهِ إِيَّاهَا فِي رُسُومِهَا، وَتَحَقُّقِ مَعْرِفَةِ الْعِلَلِ، وَيَسْلُكُ سَبِيلَ إِسْقَاطِ الْحَدَثِ، هَذَا تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ، الَّذِي يَصْلُحُ بِعِلْمِ الْفَنَاءِ، وَيَصْفُو فِي عِلْمِ الْجَمْعِ، وَيَجْذِبُ إِلَى تَوْحِيدِ أَرْبَابِ الْجَمْعِ. قَوْلُهُ " يَثْبُتُ بِالْحَقَائِقِ " وَقَالَ فِي التَّوْحِيدِ الْأَوَّلِ " يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ " فَإِنَّ الثُّبُوتَ أَبْلَغُ مِنَ الصِّحَّةِ، وَالْحَقَائِقُ أَبْلَغُ مِنَ الشَّوَاهِدِ، وَيُرِيدُ بِالْحَقَائِقِ: الْمُكَاشَفَةَ وَالْمُشَاهَدَةَ، وَالْمُعَايَنَةَ، وَالِاتِّصَالَ وَالِانْفِصَالَ، وَالْحَيَاةَ، وَالْقَبْضَ وَالْبَسْطَ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ قِسْمِ الْحَقَائِقِ مِنْ كِتَابِهِ. وَبِالْأَدِلَّةِ وَالشَّوَاهِدِ يَصِحُّ التَّوْحِيدُ الْعَامُّ، وَبِالْحَقَائِقِ يَثْبُتُ التَّوْحِيدُ الْخَاصُّ. قَوْلُهُ: " وَهُوَ إِسْقَاطُ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا: الْأَسْبَابَ الْمُشَاهَدَةَ الَّتِي تَظْهَرُ لَنَا، وَإِسْقَاطُهَا: هُوَ أَنْ لَا يَرَى لَهَا تَأْثِيرًا الْبَتَّةَ، وَلَا تَغْيِيرًا، وَإِنْ بَاشَرَهَا بِحُكْمِ الِارْتِبَاطِ الْعَادِيِّ، فَمُبَاشَرَتُهَا لَا تُنَافِي إِسْقَاطَهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ: الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْمَالَ، وَإِسْقَاطُهَا: عَزْلُهَا عَنِ اقْتِضَائِهَا السَّعَادَةَ وَالنَّجَاةَ، لَا إِهْمَالُهَا وَتَعْطِيلُهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَانْسِلَاخٌ مِنَ الْإِسْلَامِ

بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَكِنْ يَقُومُ بِهَا وَقَدْ عَزَلَهَا عَنْ وِلَايَةِ النَّجَاحِ وَالنَّجَاةِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اعْمَلُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يُنْجِيَهُ عَمَلُهُ» . وَاحْتَرِزْ بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْبَاطِنَةِ، كَالْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ، وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ النَّجَاةَ وَالسَّعَادَةَ مُعَلِّقَةٌ بِهَا، بَلِ التَّوْحِيدُ نَفْسُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ الْبَاطِنَةِ، فَلَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ؛ فَهُوَ غَيْرُ مُخْلِصٍ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالْإِسْقَاطِ التَّعْطِيلُ وَالْإِهْمَالُ؛ فَمِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْعَزْلُ عَنْ وِلَايَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَإِسْنَادُ الْحُكْمِ إِلَى مَشِيئَةِ الرَّبِّ وَحْدَهُ؛ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْأَسْبَابُ الَّتِي لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا الْعَبْدُ، فَلَيْسَ إِسْقَاطُهَا مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَا الْقِيَامُ بِهَا مُبْطِلًا لَهُ وَلَا مُنْقِصًا. وَبِالْجُمْلَةِ: فَلَيْسَ إِسْقَاطُ الْأَسْبَابِ مِنَ التَّوْحِيدِ، بَلِ الْقِيَامُ بِهَا وَاعْتِبَارُهَا وَإِنْزَالُهَا فِي مَنَازِلِهَا الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِيهَا هُوَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَالْقَوْلُ بِإِسْقَاطِ الْأَسْبَابِ هُوَ تَوْحِيدُ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ، أَتْبَاعِ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ فِي الْجَبْرِ، فَإِنَّهُ كَانَ غَالِيًا فِيهِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا بِسَبَبٍ، وَلَا جَعَلَ فِي الْأَسْبَابِ قُوًى وَطَبَائِعَ تُؤَثِّرُ، فَلَيْسَ فِي النَّارِ قُوَّةُ الْإِحْرَاقِ، وَلَا فِي السُّمِّ قُوَّةُ الْإِهْلَاكِ، وَلَا فِي الْمَاءِ وَالْخُبْزِ قُوَّةُ الرِّيِّ وَالتَّغَذِّي بِهِ، وَلَا فِي الْعَيْنِ قُوَّةُ الْإِبْصَارِ، وَلَا فِي الْأُذُنِ وَالْأَنْفِ قُوَّةُ السَّمْعِ وَالشَّمِّ، بَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يُحْدِثُ هَذِهِ الْآثَارَ عِنْدَ مُلَاقَاةِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ، لَا بِهَا، فَلَيْسَ الشِّبَعُ بِالْأَكْلِ، وَلَا الرِّيُّ بِالشُّرْبِ، وَلَا الْعِلْمُ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَلَا الِانْكِسَارُ بِالْكَسْرِ، وَلَا الْإِزْهَاقُ بِالذَّبْحِ، وَلَا الطَّاعَاتُ وَالتَّوْحِيدُ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَلَا الشِّرْكُ وَالْكَفْرُ وَالْمَعَاصِي سَبَبًا لِدُخُولِ النَّارِ، بَلْ يُدْخِلُ هَؤُلَاءِ الْجَنَّةَ بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَلَا حِكْمَةٍ أَصْلًا، وَيُدْخِلُ هَؤُلَاءِ النَّارَ بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَلَا حِكْمَةٍ. وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَهُوَ أَنْ لَا يَشْهَدَ فِي التَّوْحِيدِ دَلِيلًا، وَلَا فِي التَّوَكُّلِ سَبَبًا، وَلَا فِي النَّجَاةِ وَسِيلَةً، بَلْ عِنْدَهُمْ صُدُورُ الْكَائِنَاتِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي عَنْ مَحْضِ الْمَشِيئَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي رَجَّحَتْ مَثَلًا عَلَى مَثَلٍ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَعَنْهَا يَصْدُرُ كُلُّ حَادِثٍ، وَيَصْدُرُ مَعَ الْحَادِثِ حَادِثٌ آخَرُ مُقْتَرِنًا بِهِ اقْتِرَانًا عَادِيًّا، لَا أَنَّ أَحَدَهُمَا سَبَبُ الْآخَرِ، وَلَا مُرْتَبِطٌ بِهِ، فَأَحَدُهُمَا مُجَرَّدُ عَلَامَةٍ وَأَمَارَةٍ عَلَى وُجُودِ الْآخَرِ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدَ الْمُقْتَرِنَيْنِ وَجَدَ الْآخَرَ مَعَهُ، بِطَرِيقِ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ فَقَطْ، لَا بِطْرِيقِ التَّسَبُّبِ وَالِاقْتِضَاءِ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ هُوَ نِهَايَةُ التَّوْحِيدِ وَغَايَةُ الْمَعْرِفَةِ.

وَطَرْدُ هَذَا الْمَذْهَبِ: مُفْسِدٌ لِلدُّنْيَا وَالدِّينِ، بَلْ وَلِسَائِرِ أَدْيَانِ الرُّسُلِ، وَلِهَذَا لَمَّا طَرَدَهُ قَوْمٌ أَسْقَطُوا الْأَسْبَابَ الدُّنْيَوِيَّةَ وَعَطَّلُوهَا، وَجَعَلُوا وَجُودَهَا كَعَدَمِهَا، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَابُدَّ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا، وَيُبَاشِرُوا مِنَ الْأَسْبَابِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَالْأَلَمَ. فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ: هَلَّا أَسْقَطْتُمْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: لِأَجْلِ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ. فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ: هَلَّا قُمْتُمْ بِمَا أَسْقَطْتُمُوهُ مِنَ الْأَسْبَابِ لِأَجْلِ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ أَيْضًا، فَهَذَا الْمَذْهَبُ قَدْ فَطَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَيَوَانَ - نَاطِقَهُ وَأَعْجَمَهُ - عَلَى خِلَافِهِ. وَقَوْمٌ طَرَدُوهُ، فَتَرَكُوا لَهُ الْأَسْبَابَ الْأُخْرَوِيَّةَ، وَقَالُوا: سَبْقُ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ لَا يَتَغَيَّرُ الْبَتَّةَ، فَسَوَاءٌ عَلَيْنَا الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ، فَإِنْ سَبَقَ الْعِلْمُ وَالْحُكْمُ بِالشَّقَاوَةِ فَنَحْنُ أَشْقِيَاءُ، عَمِلْنَا أَوْ لَمْ نَعْمَلْ، وَإِنْ سَبَقَ بِالسَّعَادَةِ فَنَحْنُ سُعَدَاءُ، عَمِلْنَا أَوْ لَمْ نَعْمَلْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُ الدُّعَاءَ جُمْلَةً، بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَيَقُولُ: الْمَدْعُوُّ بِهِ إِنْ سَبَقَ الْعِلْمُ وَالْحُكْمُ بِحُصُولِهِ حَصَلَ، دَعَوْنَا أَوْ لَمْ نَدْعُ، وَإِنْ سَبَقَ بِعَدَمِ حُصُولِهِ لَمْ يَحْصُلْ وَإِنْ دَعَوْنَا. قَالَ شَيْخُنَا: " وَهَذَا الْأَصْلُ الْفَاسِدُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ "، بَلْ وَمُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إِسْقَاطِ الْأَسْبَابِ نَظَرًا إِلَى الْقَدَرِ؟ فَرَدَّ ذَلِكَ، وَأَلْزَمَ الْقِيَامَ بِالْأَسْبَابِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: لَا، اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ مَا يَكْدَحُ النَّاسُ فِيهِ

الْيَوْمَ وَيَعْمَلُونَ: أَمْرٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى، أَمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِمَّا آتَاهُمْ فِيهِ الْحُجَّةُ؟ فَقَالَ: بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا؟ قَالَ: لَا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: «أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا، وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا، وَتُقَاةً نَتَّقِي بِهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِعُمَرَ أَتَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ - يَعْنِي مِنَ الطَّاعُونِ - قَالَ: أَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي السَّحَابِ {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57] وَقَالَ تَعَالَى {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 164] وَقَالَ تَعَالَى {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16] وَقَالَ تَعَالَى {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ - ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 105 - 182] وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْأَسْبَابِ بِطُرُقٍ مُتَنَوِّعَةٍ، فَيَأْتِي بِبَاءِ السَّبَبِيَّةِ تَارَةً، وَبِاللَّامِ تَارَةً، وَبِأَنْ تَارَةً، وَبِكَيْ تَارَةً، وَيَذْكُرُ الْوَصْفَ الْمُقْتَضَى تَارَةً، وَيَذْكُرُ صَرِيحَ التَّعْلِيلِ تَارَةً، كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا كَذَا، وَقَالُوا كَذَا، وَيَذْكُرُ الْجَزَاءَ تَارَةً، كَقَوْلِهِ {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29] وَقَوْلِهِ {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 85] وَقَوْلِهِ {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17] وَيَذْكُرُ الْمُقْتَضِيَ لِلْحُكْمِ وَالْمَانِعَ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59] .

وَعِنْدَ مُنْكِرِي الْأَسْبَابِ وَالْحُكْمِ: لَمْ يَمْنَعْهُ إِلَّا مَحْضُ مَشِيئَتِهِ لَيْسَ إِلَّا، وَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9] وَقَالَ {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1] وَقَالَ {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] وَقَالَ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2] وَقَالَ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5] وَقَالَ {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] وَقَالَ {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] وَقَالَ تَعَالَى {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160] وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْقُرْآنُ - مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ - يُبْطِلُ هَذَا الْمَذْهَبَ وَيَرُدُّهُ، كَمَا تُبْطِلُهُ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ وَالْحِسُّ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الِالْتِفَاتُ إِلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ - أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا - تَغْيِيرٌ فِي وَجْهِ الْعَقْلِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ: قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ، وَالتَّوَكُّلُ مَعْنًى يَلْتَئِمُ مِنْ مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ. وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ وَتَقْيِيدٍ، فَالِالْتِفَاتُ إِلَى الْأَسْبَابِ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: شِرْكٌ، وَالْآخَرُ: عُبُودِيَّةٌ وَتَوْحِيدٌ، فَالشِّرْكُ: أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهَا وَيَطْمَئِنَّ إِلَيْهَا، وَيَعْتَقِدَ أَنَّهَا بِذَاتِهَا مُحَصِّلَةٌ لِلْمَقْصُودِ، فَهُوَ مُعْرِضٌ عَنِ السَّبَبِ لَهَا، وَيَجْعَلُ نَظَرَهُ وَالْتِفَاتَهُ مَقْصُورًا عَلَيْهَا، وَأَمَّا إِنِ الْتَفَتَ إِلَيْهَا الْتِفَاتَ امْتِثَالٍ وَقِيَامٍ بِهَا وَأَدَاءٍ لِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ فِيهَا، وَإِنْزَالِهَا مَنَازِلَهَا: فَهَذَا الِالْتِفَاتُ عُبُودِيَّةٌ وَتَوْحِيدٌ، إِذْ لَمْ يَشْغَلْهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبِّبِ، وَأَمَّا مَحْوُهَا أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا: فَقَدْحٌ فِي الْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْفِطْرَةِ، فَإِنْ أَعْرَضَ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ: كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي الشَّرْعِ، وَإِبْطَالًا لَهُ، وَحَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ: الْقِيَامُ بِالْأَسْبَابِ، وَالِاعْتِمَادُ بِالْقَلْبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَاعْتِقَادُ أَنَّهَا بِيَدِهِ، فَإِنْ شَاءَ مَنَعَهَا اقْتِضَاءَهَا، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهَا

مُقْتَضِيَةً لِضِدِّ أَحْكَامِهَا، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ لَهَا مَوَانِعَ وَصَوَارِفَ تُعَارِضُ اقْتِضَاءَهَا وَتَدْفَعُهُ. فَالْمُوَحِّدُ الْمُتَوَكِّلُ: لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْأَسْبَابِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، وَلَا يَرْجُوهَا وَلَا يَخَافُهَا، فَلَا يَرْكَنُ إِلَيْهَا، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا - بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُسْقِطُهَا وَلَا يُهْمِلُهَا وَيُلْغِيهَا - بَلْ يَكُونُ قَائِمًا بِهَا، مُلْتَفِتًا إِلَيْهَا، نَاظِرًا إِلَى مُسَبِّبِهَا سُبْحَانَهُ وَمُجْرِيهَا، فَلَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ - شَرْعًا وَعَقْلًا - إِلَّا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ سَبَبٌ تَامٌّ مُوجَبٌ إِلَّا مَشِيئَتَهُ وَحْدَهُ، فَهُوَ الَّذِي سَبَّبَ الْأَسْبَابَ، وَجَعَلَ فِيهَا الْقُوَى وَالِاقْتِضَاءَ لِآثَارِهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ مِنْهَا سَبَبًا يَقْتَضِي وَحْدَهُ أَثَرَهُ، بَلْ لَابُدَّ مَعَهُ مِنْ سَبَبٍ يُشَارِكُهُ، وَجَعَلَ لَهَا أَسْبَابًا تُضَادُّهَا وَتَمَانِعُهَا، بِخِلَافِ مَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَلَا فِي الْأَسْبَابِ الْحَادِثَةِ مَا يُبْطِلُهَا وَيُضَادُّهَا، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ يُبْطِلُ حُكْمَ مَشِيئَتِهِ بِمَشِيئَتِهِ، فَيَشَاءُ الْأَمْرُ ثُمَّ يَشَاءُ مَا يُضَادُّهُ وَيَمْنَعُ حُصُولَهُ، وَالْجَمِيعُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَلَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا الِالْتِجَاءُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا الْخَوْفُ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا الرَّجَاءُ إِلَّا لَهُ، وَلَا الطَّمَعُ إِلَّا فِي رَحْمَتِهِ، كَمَا قَالَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» وَقَالَ «لَا مَنْجَى وَلَا مَلْجَأَ مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ» . فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ هَذَا التَّوْحِيدِ وَبَيْنَ إِثْبَاتِ الْأَسْبَابِ: اسْتَقَامَ قَلْبُكَ عَلَى السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ، وَوَضُحَ لَكَ الطَّرِيقُ الْأَعْظَمُ الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَمَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ وَحُكْمُهُ حَقٌّ، وَهُوَ لَا يُنَافِي إِثْبَاتَ الْأَسْبَابِ، وَلَا يَقْتَضِي إِسْقَاطَهَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ وَحَكَمَ: أَنَّ كَذَا وَكَذَا يَحْدُثُ بِسَبَبِ كَذَا وَكَذَا، فَسَبَقَ الْعِلْمُ وَالْحُكْمُ بِحُصُولِهِ عَنْ سَبَبِهِ، فَإِسْقَاطُ الْأَسْبَابِ خِلَافُ مُوجَبِ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ، فَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْحُدُوثِ بِغَيْرِ الْأَسْبَابِ: لَمْ يَكُنْ نَظَرُهُ وَشُهُودُهُ مُطَابِقًا لِلْحَقِّ، بَلْ كَانَ شُهُودُهُ غَيْبَةً، وَنَظَرُهُ عَمًى، فَإِذَا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ قَدْ سَبَقَ بِحُدُوثِ الْأَشْيَاءِ بِأَسْبَابِهَا، فَكَيْفَ يَشْهَدُ الْعَبْدُ الْأُمُورَ بِخِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ؟ وَالْعِلَلُ الَّتِي تَتَّقِي فِي الْأَسْبَابِ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهَا، وَالثِّقَةُ بِهَا، وَرَجَاؤُهَا وَخَوْفُهَا، فَهَذَا شِرْكٌ يَرِقُّ وَيَغْلُظُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ.

فصل الصعود عن منازعات العقول حق لا يتم التوحيد والإيمان إلا به

الثَّانِي: تَرْكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا أَيْضًا قَدْ يَكُونُ كُفْرًا وَظُلْمًا، وَبَيْنَ ذَلِكَ، بَلْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ، وَيَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ، وَأَنَّ السَّبَبَ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ، وَلَا يَقْضِي وَلَا يَحْكُمُ، وَلَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ تَسْبِقْ لَهُ بِهِ الْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ مَا سَبَقَ بِهِ الْحُكْمُ وَالْعِلْمُ، فَيَأْتِي بِالْأَسْبَابِ إِتْيَانَ مَنْ لَا يَرَى النَّجَاةَ وَالْفَلَاحَ وَالْوُصُولَ إِلَّا بِهَا، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ مَنْ يَرَى أَنَّهَا لَا تُنْجِيهِ، وَلَا تُحَصِّلُ لَهُ فَلَاحًا، وَلَا تُوصِلُهُ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَيُجَرِّدُ عَزْمَهُ لِلْقِيَامِ بِهَا حِرْصًا وَاجْتِهَادًا، وَيُفْرِغُ قَلْبَهُ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا، وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا، تَجْرِيدًا لِلتَّوَكُّلِ، وَاعْتِمَادًا عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، حَيْثُ يَقُولُ «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجِزْ» فَأَمَرَهُ بِالْحِرْصِ عَلَى الْأَسْبَابِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِالْمُسَبِّبِ، وَنَهَاهُ عَنِ الْعَجْزِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: تَقْصِيرٌ فِي الْأَسْبَابِ، وَعَدَمُ الْحِرْصِ عَلَيْهَا، وَتَقْصِيرٌ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَتَرْكُ تَجْرِيدَهَا، فَالدِّينُ كُلُّهُ - ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، شَرَائِعُهُ وَحَقَائِقُهُ - تَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ النَّبَوِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الصُّعُودُ عَنْ مُنَازَعَاتِ الْعُقُولِ حَقٌّ لَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ] فَصْلٌ قَوْلُهُ: وَالصُّعُودُ عَنْ مُنَازَعَاتِ الْعُقُولِ، هَذَا حَقٌّ، وَلَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ، فَمَا أَفْسَدَ أَدْيَانَ الرُّسُلِ إِلَّا أَرْبَابُ مُنَازَعَاتِ الْعُقُولِ، الَّذِينَ يُنَازِعُونَ بِمَعْقُولِهِمْ فِي التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ، وَإِثْبَاتِ مَا أَثْبَتُوهُ، وَنَفْيِ مَا نَفَوْهُ، فَنَازَعَتْ عُقُولُهُمْ ذَلِكَ، وَتَرَكُوا لِتِلْكَ الْمُنَازَعَاتِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، ثُمَّ عَارَضُوهُمْ بِتِلْكَ الْمَعْقُولَاتِ، وَقَدَّمُوهَا عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ، وَقَالُوا: إِذَا تَعَارَضَتْ عُقُولُنَا وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ: قَدَّمْنَا مَا حَكَمَتْ بِهِ عُقُولُنَا عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ، وَقَدْ هَلَكَ بِهَؤُلَاءِ طَوَائِفُ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ، وَانْحَلُّوا بِسَبَبِهِمْ مِنْ أَدْيَانِ جَمِيعِ الرُّسُلِ. قَوْلُهُ " وَمِنَ التَّعَلُّقِ بِالشَّوَاهِدِ " كَلَامٌ فِيهِ إِجْمَالٌ، فَالشَّوَاهِدُ: هِيَ الْأَدِلَّةُ وَالْآيَاتُ، فَتَرْكُ التَّعَلُّقِ بِهَا انْسِلَاخٌ عَنِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالتَّعَلُّقُ بِهَا وَحْدَهَا، دُونَ مَنْ نَصَّبَهَا شَوَاهِدَ وَأَدِلَّةً انْقِطَاعٌ عَنِ اللَّهِ، وَشِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَالتَّعَلُّقُ بِهَا اسْتِدْلَالًا، وَنَظَرًا

فِي آيَاتِ الرَّبِّ، لِيَصِلَ بِهَا إِلَى اللَّهِ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ. وَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ: أَنَّهُ يَصْعَدُ عَنِ الْوُقُوفِ مَعَهَا، فَإِنَّهَا وَسَائِلُ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَلَا يَنْقَطِعُ بِالْوَسِيلَةِ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَهَذَا حَقٌّ، لَكِنَّ قَوْلَهُ " وَهُوَ أَنْ لَا يَشْهَدَ فِي التَّوْحِيدِ دَلِيلًا " يُكَدِّرُ هَذَا الْمَعْنَى وَيُشَوِّشُهُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الْوَاجِبُ: أَنْ يَشْهَدَ الْأَمْرَ كَمَا أَشْهَدَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَأَقَامَ الْبَرَاهِينَ وَأَظْهَرَ الْآيَاتِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَشْهَدَ الْأَدِلَّةَ وَالْآيَاتِ، وَنَنْظُرَ فِيهَا وَنَسْتَدِلَّ بِهَا، وَلَا يَجْتَمِعُ هَذَا الْإِثْبَاتُ وَذَلِكَ النَّفْيُ الْبَتَّةَ، وَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا آيَاتٌ لِلتَّوْحِيدِ، وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الْمَتْلُوَّةُ أَدِلَّةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَكَيْفَ لَا يَشْهَدُهَا دَلِيلًا عَلَيْهِ؟ هَذَا مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ، بَلِ التَّوْحِيدُ - كُلُّ التَّوْحِيدِ - أَنْ يَشْهَدَ كُلَّ شَيْءٍ دَلِيلًا عَلَيْهِ، مُرْشِدًا إِلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرُّسُلَ أَدِلَّةٌ لِلتَّوْحِيدِ، فَكَيْفَ لَا يَشْهَدُهُمْ كَذَلِكَ؟ وَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ بِهِمْ وَعَدَمُ شُهُودِهِمْ أَدِلَّةً لِلتَّوْحِيدِ؟ فَانْظُرْ مَاذَا أَدَّى إِلَيْهِ إِنْكَارُ الْأَسْبَابِ، وَالسُّلُوكُ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ، فَهَذَا هُوَ مُقْتَضَاهُ وَطَرْدُهُ، وَإِلَّا تَنَاقَضَ أَصْحَابُهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] وَقَالَ تَعَالَى {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] وَالْهَادِي: هُوَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَدُلُّ بِهِمْ فِي الطَّرِيقِ إِلَى اللَّهِ، وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا قَوْلَهُ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] وَقَوْلَهُ {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 8] فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَكَلَّمَ بِهَذَا وَهَذَا، فَرُسُلُهُ الْهُدَاةُ هِدَايَةَ الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ، وَهُوَ الْهَادِي هِدَايَةَ التَّوْفِيقِ وَالْإِلْهَامِ، فَالرُّسُلُ هُمُ الْأَدِلَّةُ حَقًّا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُوَفِّقُ الْمُلْهِمُ، الْخَالِقُ لِلْهُدَى فِي الْقُلُوبِ. قَوْلُهُ " وَلَا فِي التَّوَكُّلِ سَبَبًا " يُرِيدُ: أَنَّكَ تُجَرِّدُ التَّوَكُّلَ عَنِ الْأَسْبَابِ، فَإِنْ أَرَادَ تَجْرِيدَهُ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا: فَبَاطِلٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ أَرَادَ تَجْرِيدَهُ عَنِ الرُّكُونِ إِلَيْهَا، وَالْوُقُوفِ مَعَهَا، وَالْوُثُوقِ بِهَا: فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ أَرَادَ تَجْرِيدَهُ عَنْ شُهُودِهَا: فَشُهُودُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ أَكْمَلُ، وَلَا يُقْدَحُ فِي التَّوْحِيدِ بِوَجْهٍ مَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " وَلَا فِي النَّجَاةِ وَسِيلَةٌ " إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ

حُصُولَ النَّجَاةِ بِمُجَرَّدِ الْوَسَائِلِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَسْبَابِ، وَأَمَّا إِلْغَاءُ كَوْنِهَا وَسَائِلَ: فَبَاطِلٌ، يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ، وَأَمَّا عَدَمُ شُهُودِهَا وَسَائِلَ، مَعَ اعْتِقَادِ كَوْنِهَا وَسَائِلَ: فَلَيْسَ بِكَمَالٍ، وَشُهُودُهَا وَسَائِلَ - كَمَا جَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ - أَكْمَلُ مَشْهَدًا، وَأَصَحُّ طَرِيقَةً، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ بَيَّنَّا - فِيمَا تَقَدَّمَ - أَنَّ الْكَمَالَ: أَنَّ تَشْهَدَ الْعُبُودِيَّةَ وَقِيَامَكَ بِهَا، وَتَشْهَدَ أَنَّهَا مِنْ عَيْنِ الْمِنَّةِ وَالْفَضْلِ، وَتَشْهَدَ الْمَعْبُودَ، فَلَا تَغِيبُ بِشُهُودِهِ عَنْ شُهُودِ أَمْرِهِ، وَلَا تَغِيبُ بِشُهُودِ أَمْرِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَلَا تَغِيبُ بِشُهُودِهِ وَشُهُودِ أَمْرِهِ عَنْ شُهُودِ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَشُهُودِ فَقْرِكَ وَفَاقَتِكَ، وَأَنَّكَ بِهِ لَا بِكَ، وَقَدْ «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ، فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا، وَهَدَانَا بِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: آللَّهِ، مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟ قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَلِكَ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ» وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: لَا تَشْهَدُوا فِي التَّوْحِيدِ دَلِيلًا، وَلَا فِي النَّجَاةِ وَسِيلَةً، بَلْ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ مُبَاهَاةِ اللَّهِ بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ: شُهُودُهُمْ سَبَبَ التَّوْحِيدِ، وَوَسِيلَةَ النَّجَاةِ، وَأَنَّهَا مِنْ مَنِّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164] فَكَيْفَ يَكُونُ كَمَالُهُمْ فِي أَنْ لَا يَشْهَدُوا الدَّلِيلَ الَّذِي يُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيَهْدِيهِمْ؟ وَيُسْقِطُونَهُ مِنَ الشُّهُودِ وَالسَّبَبِيَّةِ؟ قَوْلُهُ: " فَيَكُونُ شَاهِدًا سَبْقَ الْحَقِّ بِعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ، وَوَضْعِهِ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَتَعْلِيقِهِ إِيَّاهَا بِأَحَايِينِهَا، وَإِخْفَائِهِ إِيَّاهَا فِي رُسُومِهَا. لَيْسَ الشُّهُودُ هَاهُنَا مَتَعَلِّقًا بِمُجَرَّدِ أَزَلِيَّةِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَتَقَدُّمِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَقَطْ، بَلْ مُتَعَلِّقٌ بِسَبْقِ الْعِلْمِ وَالتَّقْدِيرِ، فَيَرَى الْأَشْيَاءَ بِعَيْنِ سَوَابِقِهَا، وَقَدْ تَقَرَّرَتْ هُنَاكَ فِي عِلْمِ الرَّبِّ وَتَقْدِيرِهِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا هُنَاكَ إِذَا نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهَا هُنَا، فَيَتَجَاوَزُ نَظَرُهُ نَظَرَهُمْ، فَيَغْلِبُ شُهُودُ السَّوَابِقِ عَلَى مُلَاحَظَةِ اللَّوَاحِقِ، فَيَشْهَدُ تَفَرُّدَ الرَّبِّ وَحْدَهُ، حَيْثُ لَا مَوْجُودَ سِوَاهُ، وَقَدْ عَلِمَ الْكَائِنَاتِ وَقَدَّرَ مَقَادِيرَهَا، وَوَقَّتَ مَوَاقِيتَهَا، وَقَرَّرَهَا عَلَى مُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَقَدْ سَبَقَ الْعِلْمُ الْمَعْلُومَ، وَالْقَدَرُ الْمَقْدُورَ وَالْإِرَادَةُ الْمُرَادَ، فَيَرَى الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا ثَابِتَةً فِي عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَحِكْمَتِهِ قَبْلَ وُجُودِ الْعَوَالِمِ، فَأَيُّ وَسِيلَةٍ يَشْهَدُ هُنَاكَ؟ وَأَيُّ

سَبَبٍ؟ وَأَيُّ دَلِيلٍ هَذَا الَّذِي يُدَنْدِنُ الشَّيْخُ حَوْلَهُ؟ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْحُكْمَ سَبَقَ بِوُجُودِ الْمُسَبِّبَاتِ عَنْ أَسْبَابِهَا وَارْتِبَاطِهَا بِوَسَائِلِهَا وَأَدِلَّتِهَا، كَمَا سَبَقَ الْعِلْمُ وَالْحُكْمُ بِوُجُودِ الْوَلَدِ عَنْ أَبَوَيْهِ، وَالْمَطَرِ عَنِ السَّحَابِ، وَالنَّبَاتِ عَنِ الْمَاءِ، وَالْإِزْهَاقِ عَنِ الْقَتْلِ، وَأَسْبَابِ الْمَوْتِ، فَهَذِهِ هِيَ الْمُشَاهَدَةُ الصِّحِّيَّةُ، لَا إِسْقَاطُ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ وَالْأَدِلَّةِ. قَوْلُهُ: " وَوَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا، وَتَعْلِيقَهَا بِأَحَايِينِهَا، وَإِخْفَائِهَا فِي رُسُومِهَا "، هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ - الْمَكَانُ، وَالزَّمَانُ، وَالْمَادَّةُ - الَّتِي لَابُدَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْهَا، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ لَابُدَّ لَهُ مِنْ زَمَانٍ يُوجَدُ فِيهِ، وَمَكَانٍ يَسْتَقِرُّ فِيهِ، وَمَادَّةٍ يُوجَدُ بِهَا، فَأَشَارَ إِلَى الثَّلَاثَةِ، فَالْمَوَاضِعُ: الْأَمْكِنَةُ، وَالْأَحَايِينُ: الْأَزْمِنَةُ، وَالرُّسُومُ: الْمَوَادُّ الْحَامِلَةُ لَهَا، وَالرُّسُومُ: هِيَ الصُّورَةُ الْخَلْقِيَّةُ. وَكَأَنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ أَرَادَ بِهَا هُنَا الْأَسْبَابَ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ غَطَّى حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ عَنْ أَبْصَارِ الْخَلْقِ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ تَعَلُّقِ الْمُسَبِّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا، فَنَسَبُوهَا إِلَيْهَا، فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَشْهَدُ كَيْفَ أَظْهَرَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ الْأَشْيَاءَ فِي مَوَادِّهَا وَصُوَرِهَا وَأَظْهَرَهَا بِأَسْبَابِهَا، وَأَخْفَى عِلْمَهُ وَحُكْمَهُ فِيمَا أَظْهَرَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَالظُّهُورُ: لِلْأَسْبَابِ الْمُشَاهَدَةِ، وَالْحَقِيقَةُ الْمَخْفِيَّةُ لِلْعِلْمِ وَالْحُكْمِ السَّابِقَيْنِ. قَوْلُهُ " وَتُحَقِّقُ مَعْرِفَةَ الْعِلَلِ " يُرِيدُ: أَنَّ هَذَا التَّوْحِيدَ يُحَقِّقُ لِصَاحِبِهِ مَعْرِفَةَ عِلَلِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ وَالْأَعْمَالِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عَوَائِقَ السَّالِكِ: مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السِّوَى، وَالْتِفَاتِهِ إِلَيْهِ، فَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ التَّوْحِيدِ - عِنْدَهُ - تُحَقِّقُ هَذِهِ الْعِلَلَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْعِلَلِ الْأَسْبَابَ الَّتِي رَبَطَتْ بِهَا الْأَحْكَامَ، فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَعْرِفُ حَقِيقَتَهَا وَمَرْتَبَتَهَا كَمَا هِيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَعَدَ مِنْهَا إِلَى مُسَبِّبِهَا وَوَاضِعِهَا. قَوْلُهُ: " وَيَسْلُكُ سَبِيلَ إِسْقَاطِ الْحَدَثِ ". يُرِيدُ: أَنَّهُ فِي هَذَا الشُّهُودِ، وَهَذِهِ الْمُلَاحَظَةِ الْمَذْكُورَةِ: سَالِكُ سَبِيلِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَيْنَ الْأَزَلِ، فَنَفَى عَنْهُمْ شُهُودَ الْحَدَثِ، وَذَلِكَ بِالْفَنَاءِ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي يَفْنَى فِيهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ، وَيَبْقَى فِيهَا مَنْ لَمْ يَزَلْ. فَإِنْ أَرَادَ بِإِسْقَاطِ الْحَدَثِ: أَنَّهُ يَعْتَقِدُ نَفْيَ حُدُوثِ شَيْءٍ، فَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْحِسِّ وَالشُّهُودِ، وَإِنْ أَرَادَ إِسْقَاطَ الْحَدَثِ مِنْ قَلْبِهِ، فَلَا يَشْهَدُ حَادِثًا وَمُحْدِثًا - وَهَذَا مُرَادُهُ - فَهَذَا خِلَافُ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ، وَخِلَافُ الْحَقِّ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ أَنْ يَشْهَدَ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيَشْهَدَ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةَ

حَقٌّ، وَالنَّبِيِّينَ حَقٌّ، وَيَشْهَدَ حُدُوثَ الْمُحْدَثَاتِ بِإِحْدَاثِ الرَّبِّ تَعَالَى لَهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَبِمَا خَلَقَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَلِمَا خَلَقَهُ مِنَ الْحِكَمِ، وَلَمْ يَأْمُرِ الْعَبْدَ - بَلْ لَمْ يُرِدْ مِنْهُ - أَنْ لَا يَشْهَدَ حَادِثًا وَلَا حُدُوثَ شَيْءٍ، وَهَذَا لَا كَمَالَ فِيهِ، وَلَا مَعْرِفَةَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ غَايَةَ الْعَارِفِ، وَأَنْ يَكُونَ تَوْحِيدَ الْخَاصَّةِ، وَالْقُرْآنُ - مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ - صَرِيحٌ فِي خِلَافِهِ، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِشُهُودِ الْحَادِثَاتِ وَالْكَائِنَاتِ، وَالنَّظَرِ فِيهَا، وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَعَلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَأَعْرَفُ النَّاسِ بِهِ، وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَعْظَمُهُمْ شُهُودًا لَهَا، وَنَظَرًا فِيهَا، وَاعْتِبَارًا بِهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ لُبُّ التَّوْحِيدِ وَقَلْبُهُ وَسِرُّهُ: إِسْقَاطَهَا مِنَ الشُّهُودِ. فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّمَا يُرِيدُ إِسْقَاطَهَا مِنِ الْتِفَاتِ الْقَلْبِ إِلَيْهَا، وَالْوُقُوفِ مَعَهَا. قُلْتُ: هَذَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الدَّرَجَةِ فِي قَوْلِهِ: " وَهُوَ إِسْقَاطُ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ "، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْإِسْقَاطُ إِمَّا لَعَيْنِ الْوُجُودِ، أَوْ لِعَيْنِ الشُّهُودِ، أَوْ لِعَيْنِ الْمَقْصُودِ، فَالْأَوَّلُ: مُحَالٌ، وَالثَّانِي: نَقْصٌ، وَالثَّالِثُ: حَقٌّ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مُرَادَ الشَّيْخِ، فَتَأَمَّلْهُ. وَقَوْلُهُ: " وَفَنِيَ مَنْ لَمْ يَكُنْ، وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَزَلْ "، إِنْ أَرَادَ بِهِ فَنَاءَ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ فَهَذَا مُكَابَرَةٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ فَنِيَ مِنَ الشُّهُودِ، فَهَذَا نَقْصٌ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ - كَمَا تَقَرَّرَ - وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَفْنَى فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ، فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى وَقَصْدِهِ وَمَحَبَّتِهِ. قَوْلُهُ: هَذَا تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ، الَّذِي يَصِحُّ بِعِلْمِ الْفَنَاءِ، وَيَصْفُو فِي عِلْمِ الْجَمْعِ، وَيَجْذِبُ إِلَى تَوْحِيدِ أَرْبَابِ الْجَمْعِ، يَعْنِي: تَوْحِيدَ الْمُتَوَسِّطِينَ الَّذِينَ ارْتَفَعُوا عَنِ الْعَامَّةِ، وَلَمْ يَصِلُوا إِلَى مَنْزِلَةِ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ. قَوْلُهُ " يَصِحُّ بِعِلْمِ الْفَنَاءِ " وَلَمْ يَقُلْ: بِحَقِيقَةِ الْفَنَاءِ؛ لِأَنَّ دَرَجَةَ الْعِلْمِ فِي هَذَا السُّلُوكِ قَبْلَ دَرَجَةِ الْحَالِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَهَذِهِ دَرَجَةُ مُتَوَسِّطٍ لَمْ يَبْلُغَ الْغَايَةَ، وَحَالُ الْفَنَاءِ لِصَاحِبِ الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " وَيَصْفُو فِي عِلْمِ الْجَمْعِ " فَإِنَّ عِلْمَ الْجَمْعِ قَبْلَ حَالِ الْجَمْعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِهِ. قَوْلُهُ " وَيَجْذِبُ إِلَى تَوْحِيدِ أَرْبَابِ الْجَمْعِ " يُرِيدُ: أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ يَجْذِبُ أَهْلَهُ إِلَى تَوْحِيدِ الْفَرِيقِ الثَّانِي الَّذِينَ هُمْ فَوْقَهُمْ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْجَمْعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْجَمْعِ

فصل الفرق الإيماني الذي يتعلق بمسائل القضاء والقدر

وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ الشِّفَاءُ. وَنَحْنُ الْآنَ ذَاكِرُونَ حَقِيقَتَهُ وَأَقْسَامَهُ، وَالصَّحِيحَ مِنْهُ وَالْمَعْلُولَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. الْجَمْعُ فِي اللُّغَةِ الضَّمُّ، وَالِاجْتِمَاعُ الِانْضِمَامُ، وَالتَّفْرِيقُ: ضِدُّهُ، وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْقَوْمِ: فَهُوَ شُخُوصُ الْبَصِيرَةِ إِلَى مَنْ صَدَرَتْ عَنْهُ الْمُتَفَرِّقَاتُ كُلُّهَا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: جَمْعُ وُجُودٍ، وَهُوَ جَمْعُ الزَّنَادِقَةِ مِنْ أَهْلِ الِاتِّحَادِ، وَجَمْعُ شُهُودٍ، وَجَمْعُ قُصُودٍ، فَإِذَا تَحَرَّرَتْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ تَحَرَّرَ الْجَمْعُ الصَّحِيحُ مِنَ الْفَاسِدِ. وَكَذَلِكَ يَنْقَسِمُ الْفَرْقُ إِلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، أَعْنِي إِلَى مَطْلُوبٍ فِي السُّلُوكِ وَقَاطِعٍ عَنِ السُّلُوكِ، فَالْفَرْقُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ، فَرْقٌ طَبِيعِيٌّ حَيَوَانِيٌّ، وَفَرْقٌ إِسْلَامِيٌّ، وَفَرْقٌ إِيمَانِيٌّ، هَذِهِ سِتَّةُ أَقْسَامٍ لِلْجَمْعِ وَلِلْفَرْقِ. فَنَذْكُرُ أَنْوَاعَ الْفَرْقِ أَوَّلًا، إِذْ بِهَا تَعْرِفُ أَنْوَاعَ الْجَمْعِ. فَأَمَّا الْفَرْقُ الطَّبِيعِيُّ وَالْحَيَوَانِيُّ: فَهُوَ التَّفْرِيقُ بِمُجَرَّدِ الطَّبْعِ وَالْمَيْلِ، فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ وَمَا لَا يَفْعَلُهُ بِطَبْعِهِ وَهَوَاهُ، وَهَذَا فَرْقُ الْحَيَوَانَاتِ وَأَشْبَاهِهَا مِنْ بَنِي آدَمَ، فَالْمِعْيَارُ مَيْلُ طَبْعِهِ، وَنَفْرَةُ طَبْعِهِ، وَالْمُشْرِكُونَ وَالْكُفَّارُ وَأَهْلُ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاقِفُونَ مَعَ هَذَا الْفَرْقِ. وَأَمَّا الْفَرْقُ الْإِسْلَامِيُّ: فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ بِهِ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ، وَبَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ وَكَرِهَهُ وَمَقَتَ فَاعِلَهُ، وَهَذَا الْفَرْقُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ لَمْ يَشَمَّ رَائِحَةَ الْإِسْلَامِ الْبَتَّةَ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ أَهْلِ الْفَرْقِ الطَّبِيعِيِّ: أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا هَذَا الْفَرْقَ، فَشَهِدُوا الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ إِذْ قَالُوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَقَالُوا: الْمَيْتَةُ مِثْلُ الْمُذَكَّاةِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَقَالُوا: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَهَذَا جَمْعُهُمْ وَذَاكَ فَرْقُهُمْ، فَهَذَا فَرْقٌ يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْمَالِ. [فَصْلٌ الْفَرْقُ الْإِيمَانِيُّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَسَائِلِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ] فَصْلٌ وَأَمَّا الْفَرْقُ الْإِيمَانِيُّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَسَائِلِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ: فَهُوَ التَّمْيِيزُ الْإِيمَانِيُّ بَيْنَ فِعْلِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَأَفْعَالِ الْعِبَادِ، فَيُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ فِي الْكَوْنِ إِلَّا مَا هُوَ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ لِأَفْعَالِهِ حَقِيقَةً، وَهِيَ صَادِرَةٌ عَنْ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، قَائِمَةٌ بِهِ، وَهُوَ فَاعِلٌ لَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَيَشْهَدُ

تَفَرُّدَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَوُقُوعَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْهُمْ بِقُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ، وَاللَّهُ الْخَالِقُ لِذَلِكَ كُلِّهِ. وَهُنَا انْقَسَمَ أَصْحَابُ هَذَا الْفَرْقِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ غَابُوا بِأَفْعَالِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ عَنْ فِعْلِ الرَّبِّ تَعَالَى وَقَضَائِهِ، مَعَ إِيمَانِهِمْ بِهِ، وَقِسْمٌ غَابُوا بِفِعْلِ الرَّبِّ وَتَفَرُّدِهِ بِالْحُكْمِ وَالْمَشِيئَةِ عَنْ أَفْعَالِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ، وَقِسْمٌ أَعْطَوْا الْمَرَاتِبَ حَقَّهَا، فَآمَنُوا بِفِعْلِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ، وَشَهِدُوا وُقُوعَ الْأَفْعَالِ مِنْ فَاعِلِيهَا، وَاسْتِحْقَاقَهُمْ عَلَيْهَا الْمَدْحَ وَالذَّمَّ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ. فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ: يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْفَرْقُ الطَّبِيعِيُّ، وَلَمْ يَصْعَدُوا إِلَى مُشَاهَدَةِ الْحُكْمِ. وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ حَالُ الْجَمْعِ وَهُوَ شُهُودُ قَدَرِ الرَّبِّ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِخَلْقِهِ، فَتَجْتَمِعُ قُلُوبُهُمْ عَلَى شُهُودِ أَفْعَالِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي رُؤْيَةِ أَفْعَالِ الْخَلْقِ، وَتَغِيبُ بِفِعْلِهِ عَنْ أَفْعَالِهِمْ، وَرُبَّمَا غَلَبَ عَلَيْهَا شُهُودُ ذَلِكَ حَتَّى أَسْقَطَتْ عَنْهُمُ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ بِالْكُلِّيَّةِ، فَكِلَاهُمَا مُنْحَرِفٌ فِي شُهُودِهِ. وَالْفَرِيقُ الثَّالِثُ: يَشْهَدُ الْحُكْمَ وَالتَّدْبِيرَ الْعَامَّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَيَشْهَدُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَوُقُوعَهَا بِإِرَادَتِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ، فَيَكُونُ صَاحِبَ جَمْعٍ وَفَرْقٍ، فَيَجْمَعُ الْأَشْيَاءَ فِي الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَهَا بِالْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ أَيْضًا، كَمَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهَا بِالْحُكْمِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَّقَ بَيْنَهَا خَلْقًا وَأَمْرًا وَقَدَرًا وَشَرْعًا، وَكَوْنًا، وَدِينًا. فَالشُّهُودُ الصَّحِيحُ الْمُطَابِقُ أَنْ يَشْهَدَهَا كَذَلِكَ، فَيَكُونَ صَاحِبَ جَمْعٍ فِي فَرْقٍ، وَفَرْقٍ فِي جَمْعٍ، جَمَعَ بَيْنَهَا فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَشُمُولِ الْمَشِيئَةِ لَهَا وَفَرَّقَ بَيْنَهَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ، فَشَهِدَهَا وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى مَأْمُورٍ وَمَحْظُورٍ، وَمَحْبُوبٍ، وَمَكْرُوهٍ، كَمَا فَرَّقَ خَالِقُهَا بَيْنَهَا، وَيَشْهَدُ الْفَرْقَ بَيْنَهَا أَيْضًا قَدَرًا، فَإِنَّهُ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهَا أَمْرُهُ، فَرَّقَ بَيْنَهَا قَدَرُهُ، فَقَدَّرَ الْمَحْبُوبَ مَحْبُوبًا، وَالْمَسْخُوطَ مَسْخُوطًا، وَالْخَيْرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَالشَّرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَافْتَرَقَتْ فِي قَدَرِهِ كَمَا افْتَرَقَتْ فِي شَرْعِهِ، فَجَمَعَتْهَا مَشِيئَتُهُ وَقَدَرُهُ، وَفَرَّقَتْ بَيْنَهَا مَشِيئَتُهُ وَقَدَرُهُ، فَشَاءَ سُبْحَانَهُ كُلًّا مِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، ذَاتًا وَقَدَرًا وَصِفَةً، وَأَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا أَوْ مَسْخُوطًا، وَأَشْهَدَهَا أَهْلَ الْبَصَائِرِ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا هِيَ عَلَيْهِ. فَهَؤُلَاءِ أَصَحُّ النَّاسِ شُهُودًا، بِخِلَافِ مَنْ شَهِدَ الْمَخْلُوقَ قَدِيمًا، وَالْوُجُودَ الْمَخْلُوقَ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ، وَالْمَأْمُورَ وَالْمَحْظُورَ سَوَاءً، وَالْمَقْدُورَ كُلَّهُ مَحْبُوبًا مُرْضِيًا لَهُ، أَوْ أَنَّ بَعْضَ الْحَادِثَاتِ خَارِجٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ وَتَكْوِينِهِ، أَوْ أَنَّ أَفْعَالَ عِبَادِهِ

فصل الجمع الصحيح هو جمع توحيد الربوبية وجمع توحيد الإلهية

خَارِجَةٌ عَنْ إِرَادَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ، وَلَيْسُوا هُمُ الْفَاعِلِينَ لَهَا، فَإِنَّ هَذَا الشُّهُودَ كُلَّهُ عَمًى، وَأَصْحَابَهُ قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الشُّهُودِ الصَّحِيحِ، الَّذِي يُمَيِّزُ بِهِ صَاحِبُهُ بَيْنَ وُجُودِ الْخَالِقِ وَوُجُودِ الْمَخْلُوقِ وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ، وَالْمَحْظُورِ، وَبَيْنَ فِعْلِ الرَّبِّ، وَفِعْلِ الْعَبْدِ، وَبَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَيُبْغِضُهُ. وَصَاحِبُ هَذَا الشُّهُودِ: لَا يَغِيبُ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ عَنْ فِعْلِ الرَّبِّ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَلَا يَغِيبُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِبَعْضِهَا وَكَرَاهَتِهِ لِبَعْضِهَا، وَلَا يَغِيبُ بِوُجُودِ الْخَالِقِ عَنْ وُجُودِ الْمَخْلُوقِ، وَلَا بِرُؤْيَةِ الْخَلْقِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْخَالِقِ، بَلْ يَضَعُ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا، فَيَشْهَدُ الْقَدَرَ الْعَامَّ السَّابِقَ الَّذِي لَا خُرُوجَ لِمَخْلُوقٍ عَنْهُ، كَمَا لَا خُرُوجَ لَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَرْبُوبًا فَقِيرًا بِذَاتِهِ، وَيَذُمُّ الْعِبَادَ وَيَمْدَحُهُمْ بِمَا حَرَّكَهُمْ بِهِ الْقَدَرُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالطَّاعَاتِ، بِخِلَافِ صَاحِبِ الْجَمْعِ بِلَا فَرْقٍ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا عَذَرَ أَصْحَابَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، لِاسْتِيلَاءِ شُهُودِ الْجَمْعِ عَلَى قَلْبِهِ، وَيَقُولُ: الْعَارِفُ لَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، لِاسْتِبْصَارِهِ بِسِرِّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ، فَشُهُودُهُ مِنَ الْخَلْقِ مُوَافَقَتَهُمْ لِمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ. فَالشَّاهِدُ الْمُبْصِرُ الْمُتَمَكِّنُ يَشْهَدُ الْقَيُّومِيَّةَ وَالْقَدَرَ السَّابِقَ الشَّامِلَ الْمُحِيطَ، وَيَشْهَدُ اكْتِسَابَ الْعِبَادِ وَمَا جَرَى بِهِ عَلَيْهِمُ الْقَدَرُ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي، وَيَشْهَدُ حِكْمَةَ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَحُبَّهُ وَكَرَاهِيَتَهُ. [فَصْلٌ الْجَمْعُ الصَّحِيحُ هُوَ جَمْعُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَجَمْعُ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ] فَصْلٌ إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ: فَالْجَمْعُ الصَّحِيحُ - الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ - هُوَ جَمْعُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَجَمْعُ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، فَيَشْهَدُ صَاحِبُهُ قَيُّومِيَّةَ الرَّبَّ تَعَالَى فَوْقَ عَرْشِهِ، يُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِهِ وَحْدَهُ، فَلَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ، وَلَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ، وَلَا مُمِيتَ وَلَا مُحْيِيَ، وَلَا مُدَبِّرَ لِأَمْرِ الْمَمْلَكَةِ - ظَاهِرًا وَبَاطِنًا - غَيْرُهُ، فَمَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، لَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَجْرِي حَادِثٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَلَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ، وَلَا يَغْرُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا أَحْصَاهَا عِلْمُهُ، وَأَحَاطَتْ بِهَا قُدْرَتُهُ، وَنَفَذَتْ بِهَا مَشِيئَتُهُ، وَاقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ، فَهَذَا جَمْعُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَأَمَّا جَمْعُ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، فَهُوَ: أَنْ يَجْمَعَ قَلْبَهُ وَهَمَّهُ وَعَزْمَهُ عَلَى اللَّهِ، وَإِرَادَتَهُ، وَحَرَكَاتَهُ عَلَى أَدَاءِ حَقِّهِ تَعَالَى، وَالْقِيَامِ بِعُبُودِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ، فَتَجْتَمِعُ شُئُونُ إِرَادَتِهِ عَلَى مُرَادِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ. وَهَذَانِ الْجَمْعَانِ: هُمَا حَقِيقَةُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَإِنَّ الْعَبْدَ يَشْهَدُ مِنْ

فصل التوحيد الذي اختصه الحق لنفسه واستحقه لقدره

قَوْلِهِ " إِيَّاكَ " الذَّاتَ الْجَامِعَةَ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، الَّتِي لَهَا كُلُّ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، ثُمَّ يَشْهَدُ مِنْ قَوْلِهِ " نَعْبُدُ " جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، قَصْدًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا وَحَالًا وَاسْتِقْبَالًا، ثُمَّ يَشْهَدُ مِنْ قَوْلِهِ " {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " جَمِيعَ أَنْوَاعِ الِاسْتِعَانَةِ، وَالتَّوَكُّلِ وَالتَّفْوِيضِ، فَيَشْهَدُ مِنْهُ جَمْعَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَيَشْهَدُ مِنْ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " جَمْعَ الْإِلَهِيَّةِ، وَيَشْهَدُ مِنْ " إِيَّاكَ " الذَّاتَ الْجَامِعَةَ لِكُلِّ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى. ثُمَّ يَشْهَدُ مِنْ " اهْدِنَا " عَشْرَ مَرَاتِبَ، إِذَا اجْتَمَعَتْ حَصَلَتْ لَهُ الْهِدَايَةُ. الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: هِدَايَةُ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ، فَيَجْعَلُهُ عَالِمًا بِالْحَقِّ مُدْرِكًا لَهُ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقْدِرَهُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ بِنَفْسِهِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجْعَلَهُ مُرِيدًا لَهُ. الرَّابِعَةُ: أَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا لَهُ. الْخَامِسَةُ: أَنْ يُثَبِّتَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَسْتَمِرَّ بِهِ عَلَيْهِ. السَّادِسَةُ: أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ الْمَوَانِعَ وَالْعَوَارِضَ الْمُضَادَّةَ لَهُ. السَّابِعَةُ: أَنْ يَهْدِيَهُ فِي الطَّرِيقِ نَفْسِهَا هِدَايَةً خَاصَّةً، أَخَصَّ مِنَ الْأُولَى، فَإِنَّ الْأُولَى هِدَايَةٌ إِلَى الطَّرِيقِ إِجْمَالًا، وَهَذِهِ هِدَايَةٌ فِيهَا وَفِي مَنَازِلِهَا تَفْصِيلًا. الثَّامِنَةُ: أَنْ يُشْهِدَهُ الْمَقْصُودَ فِي الطَّرِيقِ، وَيُنَبِّهَهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونَ مُطَالِعًا لَهُ فِي سَيْرِهِ، مُلْتَفِتًا إِلَيْهِ، غَيْرَ مُحْتَجَبٍ بِالْوَسِيلَةِ عَنْهُ. التَّاسِعَةُ: أَنَّ يُشْهِدَهُ فَقْرَهُ وَضَرُورَتَهُ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ. الْعَاشِرَةُ: أَنْ يُشْهِدَهُ الطَّرِيقَيْنِ الْمُنْحَرِفَيْنِ عَنْ طَرِيقِهَا، وَهُمَا طَرِيقُ أَهْلِ الْغَضَبِ، الَّذِينَ عَدَلُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ قَصْدًا وَعِنَادًا، وَطَرِيقُ أَهْلِ الضَّلَالِ الَّذِينَ عَدَلُوا عَنْهَا جَهْلًا وَضَلَالًا، ثُمَّ يَشْهَدُ جَمْعَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَأَتْبَاعِهِمْ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. فَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ الَّذِي عَلَيْهِ رُسُلُ اللَّهِ وَأَتْبَاعُهُمْ، فَمَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْجَمْعُ، فَقَدَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ التَّوْحِيدُ الَّذِي اخْتَصَّهُ الْحَقُّ لِنَفْسِهِ وَاسْتَحَقَّهُ لِقَدْرِهِ] فَصْلٌ قَالَ الشَّيْخُ: وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الثَّالِثُ: فَهُوَ تَوْحِيدٌ اخْتَصَّهُ الْحَقُّ لِنَفْسِهِ، وَاسْتَحَقَّهُ لِقَدْرِهِ، وَأَلَاحَ مِنْهُ لَائِحًا إِلَى أَسْرَارِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ صَفْوَتِهِ، وَأَخْرَسَهُمْ عَنْ نَعْتِهِ، وَأَعْجَزَهُمْ عَنْ بَثِّهِ.

فَيُقَالُ: إِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهَذَا التَّوْحِيدِ: تَوْحِيدَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَهُوَ مَا قَامَ بِالْعَبْدِ مِنَ التَّوْحِيدِ، لَا يُرِيدُ بِهِ تَوْحِيدَ الرَّبِّ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ مَا قَامَ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَكَمَالِهِ، فَإِذَا أَرَادَ بِهِ تَوْحِيدَ الرَّبِّ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ عِلْمُهُ وَكَلَامُهُ، وَخَبَرُهُ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ، كَقَوْلِهِ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] وَقَوْلِهِ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] وَقَوْلِهِ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الحشر: 22] وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَذَلِكَ هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ الْقَائِمَةُ بِهِ، كَمَا يَقُومُ بِهِ سَائِرُ صِفَاتِهِ: مِنْ حَيَاتِهِ، وَعِلْمِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَذَلِكَ لَا يُفَارِقُ ذَاتَ الرَّبِّ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِهِ، بَلْ صِفَاتُ الْمَخْلُوقِ لَا تُفَارِقُهُ، وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِهِ، فَكَيْفَ صِفَاتُ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا؟ وَلَكِنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِآيَاتِهِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، فَيَعْلَمُ عِبَادُهُ مَا قَامَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ لِنَفْسِهِ، بِمَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، فَإِذَا شَهِدَ عَبْدُهُ لَهُ بِمَا شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ، قِيلَ: هَذِهِ الشَّهَادَةُ هِيَ شَهَادَةُ الرَّبِّ، بِمَعْنَى: أَنَّهَا مُطَابِقَةٌ لَهَا مُوَافِقَةٌ لَهَا، لَا بِمَعْنَى أَنَّهَا عَيْنُهَا، وَأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ وَاحِدَةٌ بِالْعَيْنِ، فَمَا قَامَ بِقَلْبِ الْعَبْدِ إِلَّا صِفَتُهُ وَكَلَامُهُ وَخَبَرُهُ وَإِرَادَتُهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَا قَامَ بِذَاتِ الرَّبِّ مِنْ صِفَتِهِ وَكَلَامِهِ، وَخَبَرِهِ، وَإِنْ طَابَقَهُ وَوَافَقَهُ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ " اخْتَصَّهُ الْحَقُّ لِنَفْسِهِ " أَيْ لَا يُوَحِّدُهُ بِهِ غَيْرُهُ، " وَاسْتَحَقَّهُ لِقَدْرِهِ " أَيِ اسْتَحَقَّهُ بِقَدْرِ كُنْهِهِ الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ غَيْرُهُ. قَوْلُهُ: " وَأَلَاحَ مِنْهُ لَائِحًا إِلَى أَسْرَارِ طَائِفَةٍ مِنْ صَفْوَتِهِ "، أَيْ أَظْهَرَ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا، أَسَرَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَهُمْ أَهْلُ صَفْوَتِهِ. قَوْلُهُ " أَخْرَسَهُمْ عَنْ نَعْتِهِ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ نَعْتَ الْمَخْلُوقِينَ كَمَا لَا يَقْبَلُ لِسَانُ الْأَخْرَسِ الْكَلَامَ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ نَعْتُهُ غَيْرَ مُمْكِنٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: أَنَّهُ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نَعْتِهِ، لِعَجْزِ السَّامِعِ عَنْ فَهْمِهِ، فَيَكُونُ نَعْتُهُ مُمْكِنًا، لَكِنَّ الْحَقَّ أَسْكَتَهُمْ عَنْهُ، غَيْرَةً عَلَيْهِ وَصِيَانَةً لَهُ. قَوْلُهُ: " وَأَعْجَزَهُمْ عَنْ بَثِّهِ "، أَيْ لَمْ يُقْدِرْهُمْ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ. فَيُقَالُ: أَفْضَلُ صَفْوَةِ الرَّبِّ تَعَالَى: الْأَنْبِيَاءُ، وَأَفْضَلُهُمْ: الرُّسُلُ، وَأَفْضَلُهُمْ: أُولُو الْعَزْمِ، وَأَفْضَلُهُمْ: الْخَلِيلَانِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالَّذِي أَلَاحَهُ اللَّهُ إِلَى أَسْرَارِهِمْ مِنْ ذَلِكَ هُوَ أَكْمَلُ تَوْحِيدٍ عَرَفَهُ الْعِبَادُ، وَلَا أَكْمَلَ مِنْهُ،

وَلَيْسَ وَرَاءَهُ إِلَّا الشَّطْحُ وَالدَّعَاوَى وَالْوَسَاوِسُ، وَهُمْ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - قَدْ تَكَلَّمُوا بِالتَّوْحِيدِ، وَنَعَتُوهُ وَبَيَّنُوهُ، وَأَوْضَحُوهُ وَقَرَّرُوهُ، بِحَيْثُ صَارَ فِي حَيِّزِ التَّجَلِّي وَالظُّهُورِ وَالْبَيَانِ، فَعَقَلَتْهُ الْقُلُوبُ، وَحَصَّلَتْهُ الْأَفْئِدَةُ، وَنَطَقَتْ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَأَوْضَحَتْهُ الشَّوَاهِدُ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَرَاهِينُ، وَنَادَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ، وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يَنْقِلَ عَنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا وَارِثِ نَبِيٍّ دَاعٍ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ أَنَّهُ يُعَلِّمُ تَوْحِيدًا لَا يُمْكِنُهُ النُّطْقُ بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْرَسَهُ عَنْ نُطْقِهِ وَأَعْجَزَهُ عَنْ بَثِّهِ، بَلْ كُلُّ مَا عَلِمَهُ الْقَلْبُ أَمْكَنَ اللِّسَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَةُ ظُهُورًا وَخَفَاءً، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَقَدْ لَا يَفْهَمُهُ إِلَّا بَعْضُ النَّاسِ، فَالنَّاسُ لَمْ تَتَّفِقْ أَفْهَامُهُمْ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. وَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ أَعْرَفَ الْخَلْقِ، وَأَفْصَحَهُمْ وَأَنْصَحَهُمْ عَاجِزٌ أَنْ يُبَيِّنَ مَا عَرَّفَهُ اللَّهُ مِنْ تَوْحِيدِهِ، وَأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ بَثِّهِ؟ فَمَا هَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي عَجَزَتِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ عَنْ بَثِّهِ، وَمُنِعُوا مِنَ النُّطْقِ بِهِ، وَعَرَفَهُ غَيْرُهُمْ؟ هَذَا كُلُّهُ إِنْ أُرِيدَ بِهِ كُلُّهُمُ التَّوْحِيدُ الْقَائِمُ بِذَاتِ الْحَقِّ تَعَالَى لِنَفْسِهِ. فَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّوْحِيدُ، الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْعَبْدِ وَفِعْلُهُ فَلَمْ يُطَابِقْ قَوْلَهُ " اخْتَصَّهُ الرَّبُّ لِنَفْسِهِ، وَاسْتَحَقَّهُ لِقَدْرِهِ "، وَلَا يُطَابِقُ الْقَوَافِيَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي أَجَابَ بِهَا الشَّيْخُ عَنْهُ، وَأَنَّ تَوْحِيدَهُ نَفْسَهُ: هُوَ التَّوْحِيدُ لَا غَيْرُهُ. وَأَيْضًا فَصِفَةُ الْعَبْدِ وَفِعْلُهُ لَا يَعْجِزُ عَنْ بَثِّهَا، وَلَا يَخْرَسُ عَنِ النُّطْقِ بِهَا، وَكُلُّ مَا قَامَ بِالْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ وَكَشْفُهُ وَبَيَانُهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ: أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى هُوَ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ فِي قُلُوبِ صَفْوَتِهِ، لَا أَنَّهُمْ هُمُ الْمُوَحِّدُونَ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ: وَالَّذِي يُشَارُ إِلَيْهِ عَلَى أَلْسُنِ الْمُشِيرِينَ: أَنَّهُ إِسْقَاطُ الْحَدَثِ، وَإِثْبَاتُ الْقِدَمِ، وَعَلَيْهِ أَنْشَدَ هَذِهِ الْقَوَافِي الثَّلَاثَةَ وَهِيَ: مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ ... إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ ... عَارِيَةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ ... وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ قَوْلُهُ: " مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ "، يَعْنِي: مَا وَحَدَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدٌ سِوَاهُ، وَكُلُّ

مَنْ وَحَدَّ اللَّهَ فَهُوَ جَاحِدٌ لِحَقِيقَةِ تَوْحِيدِهِ، فَإِنَّ تَوْحِيدَهُ يَتَضَمَّنُ شُهُودَ ذَاتِ الْوَاحِدِ وَانْفِرَادِهِ، وَتِلْكَ اثْنَيْنِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ، بِخِلَافِ تَوْحِيدِهِ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ هُوَ الْمُوَحِّدَ وَالْمُوَحَّدَ، وَالتَّوْحِيدُ صِفَتُهُ وَكَلَامُهُ الْقَائِمُ بِهِ، فَمَا ثَمَّ غَيْرٌ، فَلَا اثْنَيْنِيَّةَ وَلَا تَعَدُّدَ. وَأَيْضًا فَمَنْ وَحَّدَهُ مِنَ الْخَلْقِ فَلَابُدَّ أَنْ يَصِفَهُ بِصِفَةٍ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ جَحْدَ حَقِّهِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ انْحِصَارِهِ تَحْتَ الْأَوْصَافِ، فَمَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ جَحَدَ إِطْلَاقَهُ عَنْ قُيُودِ الصِّفَاتِ. وَقَوْلُهُ: " تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ عَارِيَةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ ". يَعْنِي تَوْحِيدَ النَّاطِقِينَ عَنْهُ، " عَارِيَةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ "، يَعْنِي: عَارِيَةً مَرْدُودَةً، كَمَا تُسْتَرَدُّ الْعَوَارِي، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تَوْحِيدَهُمْ عَارِيَةٌ لَا مِلْكٌ لَهُمْ، بَلِ الْحَقُّ أَعَارَهُمْ إِيَّاهُ، كَمَا يُعِيرُ الْمُعِيرُ مَتَاعَهُ لِغَيْرِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَيَكُونُ مِلْكًا لِلْمُعِيرِ لَا لِلْمُسْتَعِيرِ. وَقَوْلُهُ " أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ " أَيِ الْوَاحِدُ الْمُطْلَقُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَحْدَتُهُ تُبْطِلُ هَذِهِ الْعَارِيَةَ، وَتَرُدُّهَا إِلَى مَالِكِهَا الْحَقِّ، فَإِنَّ الْوَحْدَةَ الْمُطْلَقَةَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ تُنَافِي مِلْكَ الْغَيْرِ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، بَلِ الْمَالِكُ لِتِلْكَ الْعَارِيَةِ هُوَ الْوَاحِدُ فَقَطْ، فَلِذَلِكَ أَبْطَلَتِ الْوَحْدَةُ هَذِهِ الْعَارِيَةَ. وَقَوْلُهُ: " تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ " أَيْ تَوْحِيدُهُ الْحَقِيقِيُّ: هُوَ تَوْحِيدُهُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ لِلسِّوَى بِوَجْهٍ، بَلْ لَا سِوَى هُنَاكَ. وَقَوْلُهُ: " وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لِاحَدُ "، أَيْ نَعْتُ النَّاعِتِ لَهُ إِلْحَادٌ، وَهُوَ عُدُولٌ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ كَمَالِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ أَسْنَدَ إِلَى نَزَاهَةِ الْحَقِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ إِسْنَادُهُ، فَإِنَّ عَيْنَ الْأَوَّلِيَّةِ تَأْبَى نُطْقَ الْحَدَثِ، وَمَحْضُ التَّوْحِيدِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ لِلسِّوَى أَثَرٌ الْبَتَّةَ. فَيُقَالُ - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ -: فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنَ الْإِجْمَالِ وَالْحَقِّ وَالْإِلْحَادِ مَا لَا يَخْفَى. فَأَمَّا قَوْلُهُ: " إِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى هُوَ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ فِي قُلُوبِ صَفْوَتِهِ، لَا أَنَّهُمْ هُمُ الْمُوَحِّدُونَ لَهُ، إِنْ أُرِيدَ بِهِ ظَاهِرُهُ، وَأَنَّ الْمُوَحِّدَ لِلَّهِ هُوَ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَلَّ فِي صَفْوَتِهِ، حَتَّى وَحَّدَ نَفْسَهُ، فَيَكُونُ هُوَ الْمُوَحِّدَ لِنَفْسِهِ فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ، لِاتِّحَادِهِ بِهِمْ وَحُلُولِهِ فِيهِمْ: فَهَذَا قَوْلُ النَّصَارَى بِعَيْنِهِ، بَلْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ خَصُّوهُ بِالْمَسِيحِ، وَهَؤُلَاءِ عَمُّوا بِهِ كُلَّ مُوَحِّدٍ، بَلْ عِنْدَ الِاتِّحَادِيَّةِ: الْمُوَحَّدُ وَالْمُوَحِّدُ وَاحِدٌ، وَمَا ثَمَّ تَعَدُّدٌ فِي الْحَقِيقَةِ.

وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ: هُوَ الَّذِي وَفَّقَهُمْ لِتَوْحِيدِهِ، وَأَلْهَمَهُمْ إِيَّاهُ، وَجَعَلَهُمْ يُوَحِّدُونَهُ، فَهُوَ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ بِمَا عَرَفَهُمْ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ، وَبِمَا أَلْقَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَجْرَاهُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ: فَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ نَفْيُ أَفْعَالِهِمْ عَنْهُمْ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ، لَا أَنَّ عَبَدَهُ يُوَحِّدُهُ، هَذَا بَاطِلٌ شَرْعًا وَعَقْلًا وَحِسًّا: بَلِ الْحَقُّ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَحَّدَ نَفْسَهُ بِتَوْحِيدٍ قَامَ بِهِ، وَوَحَّدَهُ عَبِيدُهُ بِتَوْحِيدٍ قَامَ بِهِمْ بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، فَهُوَ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَهُمُ الْمُوَحِّدُونَ لَهُ بِتَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ وَإِذْنِهِ، فَالَّذِي قَامَ بِهِمْ لَيْسَ هُوَ الَّذِي قَامَ بِالرَّبِّ تَعَالَى وَلَا وَصْفِهِ، بَلِ الْعِلْمُ بِهِ وَمَحَبَّتُهُ وَتَوْحِيدُهُ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الشَّاهِدُ وَالْمَثَلُ الْأَعْلَى، فَهِيَ الشَّوَاهِدُ وَالْأَمْثِلَةُ الْعَلِيَّةُ، الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] وَقَالَ تَعَالَى {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ فِي قَلْبِي وَفِي فُؤَادِي، وَالْمُرَادُ: هَذَا، لَا ذَاتُهُ وَنَفْسُهُ. وَقَوْلُهُ " وَالَّذِي يُشَارُ إِلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُشِيرِينَ: أَنَّهُ إِسْقَاطُ الْحَدَثِ، وَإِثْبَاتُ الْقِدَمِ " فَإِنْ أُرِيدَ: إِسْقَاطُهُ مِنَ الْوُجُودِ؛ فَمُكَابَرَةٌ لِلْعِيَانِ، وَإِنْ أُرِيدَ: إِسْقَاطُهُ مِنَ الشُّهُودِ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَأْمُورٍ بِهِ، وَلَا هُوَ كَمَالٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ تَوْحِيدَ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ، فَمَا هَذَا الْإِسْقَاطُ لِلْحَدَثِ الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ التَّوْحِيدِ، وَأَعْلَى مَقَامَاتِهِ؟ وَهَلِ الْكَمَالُ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، كَمَا هِيَ فِي شَهَادَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ؟ فَإِسْقَاطُ الْحَدَثِ كَلَامٌ لَا حَاصِلَ لَهُ، إِذْ لَا كَمَالَ فِيهِ، بَلْ إِنَّمَا يَنْفَعُ إِسْقَاطُ الْحَدَثِ عِنْدَ دَرَجَةِ الْقَصْدِ وَالتَّأَلُّهِ، فَإِسْقَاطُ الْحَدَثِ - كَمَا تَقَدَّمَ - ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: إِسْقَاطُهُ عَنِ الْوُجُودِ، وَهُوَ مُكَابَرَةٌ، وَإِسْقَاطُهُ عَنِ الشُّهُودِ، وَهُوَ نَقْصٌ، وَإِسْقَاطُهُ عَنِ القُصُودِ، وَهُوَ كَمَالٌ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُلْحِدُ: إِسْقَاطُ الْحَدَثِ وَإِثْبَاتُ الْقِدَمِ الصَّحِيحِ، وَنَظَرُ الْوَارِدِ عَلَى هَذِهِ الْحَضْرَةِ لِضَعْفِهِ، فَإِذَا تَمَكَّنَ عَرَفَ أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَزَلْ سَاقِطًا، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ " إِسْقَاطُ الْحَدَثِ " وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ " إِثْبَاتُ الْقِدَمِ " فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَمْ يَزَلْ ثَابِتًا، فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَرْضَى بِهِ الْمُوَحِّدُ، وَلَا الْمُلْحِدُ، وَلَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ الَّذِي تَضَمَّنَ أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّوْحِيدِ، بَلِ الْقُرْآنُ - مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ - يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ. قَالَ الْمُلْحِدُ: وَأَيْضًا فَالتَّوْحِيدُ يَسْتَغْرِقُ الْقَوْلَ فِي الطَّمْسِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ نُطْقٌ فَلَيْسَ هُنَاكَ شُهُودٌ، كَمَا قَالَ فِي الْمَوَاقِفِ: أَنَا أَقْرَبُ إِلَى اللِّسَانِ مِنْ نُطْقِهِ إِذَا نَطَقَ،

فَمَنْ شَهِدَنِي لَمْ يَذْكُرْ، وَمَنْ ذَكَرَنِي لَمْ يَشْهَدْ. قَالَ: فَقَوْلُهُ " مَنْ ذَكَرَنِي لَمْ يَشْهَدْ " هُوَ نَفْسُ قَوْلِ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ: عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّمْزَ فِي ذَلِكَ التَّوْحِيدِ عِلَّةٌ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ التَّوْحِيدُ إِلَّا بِإِسْقَاطِهَا. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّوْحِيدُ إِلَّا بِإِسْقَاطِ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّمْزَ وَالْإِشَارَةَ وَالْخَبَرَ هُوَ عَنْ نَفْسِ التَّوْحِيدِ، فَهُوَ تَوْحِيدٌ نُطْقِيٌّ خَبَرِيٌّ مُطَابِقٌ لِلتَّوْحِيدِ الْمَعْلُومِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التَّوْحِيدُ إِلَّا بِإِسْقَاطِ ذَلِكَ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّوْحِيدُ إِلَّا بِإِسْقَاطِ التَّوْحِيدِ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا قُطْبُ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ عَلَى أَلْسُنِ عُلَمَاءِ هَذَا الطَّرِيقِ، وَإِنْ زَخْرَفُوا لَهُ نُعُوتًا، وَفَصَّلُوهُ فُصُولًا، يَعْنِي: أَنَّ قَوْلَهُمُ التَّوْحِيدُ هُوَ إِسْقَاطُ الْحَدَثِ وَإِثْبَاتُ الْقِدَمِ هُوَ قُطْبُ مَدَارَاتِ الْإِشَارَاتِ إِلَى التَّوْحِيدِ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَصِحُّ التَّوْحِيدُ إِلَّا بِإِسْقَاطِ مَا قَالُوهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ التَّوْحِيدَ تَزِيدُهُ الْعِبَارَةُ خَفَاءً، وَالصِّفَةُ نُفُورًا، وَالْبَسْطُ صُعُوبَةً. فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِإِسْقَاطِ الْإِشَارَةِ وَالصِّفَةِ وَالْبَسْطِ: كَانَتِ الْعِبَارَةُ عَنْهُ لَا تَزِيدُهُ إِلَّا خَفَاءً، وَلَا الصِّفَةُ إِلَّا نِفَارًا، أَيْ هُرُوبًا وَذِهَابًا، وَالْبَسْطُ وَالْإِيْضَاحُ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا صُعُوبَةً؛ لِكَثْرَةِ الْإِشَارَاتِ وَالْعِبَارَاتِ. قَوْلُهُ: " وَإِلَى هَذَا التَّوْحِيدِ: شَخَصَ أَهْلُ الرِّيَاضَةِ، وَأَرْبَابُ الْأَحْوَالِ - أَيْ تَطَلَّعَتْ قُلُوبُهُمْ - وَإِلَيْهِ قَصَدَ أَهْلُ التَّعْظِيمِ، وَإِيَّاهُ عَنَى الْمُتَكَلِّمُونَ فِي عَيْنِ الْجَمْعِ، وَعَلَيْهِ تَصْطَلِمُ الْإِشَارَاتُ، ثُمَّ لَمْ يَنْطِقْ عَنْهُ لِسَانٌ، وَلَمْ تُشِرْ إِلَيْهِ عِبَارَةٌ. فَيُقَالُ: يَالَلَّهِ الْعَجَبَ! مَا هَذَا السِّرُّ الَّذِي مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ، وَلَا أَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُهُ، وَلَا نَالَتْهُ إِشَارَةٌ، وَلَا قَامَتْ بِهِ عِبَارَةٌ، وَلَا أَشَارَ إِلَيْهِ مُكَوِّنٌ، وَلَا تَعَاطَاهُ حِينٌ، وَلَا أَقَلَّهُ سَبَبٌ؟ ؟ ! فَهَذِهِ الْعُقُولُ حَاضِرَةٌ، وَهَذِهِ الْمَعَارِفُ، وَهَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ سَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ، وَكَلَامُ سَادَاتِ الْعَارِفِينَ مِنَ الْأُمَّةِ، فَمَا هَذَا الْحَقُّ الْمُحَالُ بِهِ؟ وَعَلَى مَنْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحِوَالَةُ؟ فَإِنَّكُمْ أَحَلْتُمْ بِمَا لَا يَنْطِقُ عَنْهُ لِسَانٌ وَلَمْ تُشِرْ إِلَيْهِ عِبَارَةٌ، وَلَا

تَعَاطَاهُ حِينٌ، وَلَا أَقَلَّهُ سَبَبٌ، فَعَلَى مَنْ أَحَلْتُمْ بِهَذَا الْحَقِّ الْمَجْهُولِ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَلَا التَّعْبِيِرِ عَنْهُ، وَلَا الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ؟ ! ! وَأَيْنَ قَوْلُهُ: " مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ " مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] ؟ فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كُلَّهُمْ يُوَحِّدُونَهُ، وَأَنَّ أُولِي الْعِلْمِ يُوَحِّدُونَهُ، وَكَذَلِكَ إِخْبَارُهُ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ أَنَّهُمْ وَحَّدُوهُ، وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نُوحٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، وَعَنْ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، بَلْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ أَنَّهَا تُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ تَوْحِيدًا وَمَعْرِفَةً. فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مَا وَحَّدَهُ أَحَدٌ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ؟ وَلَا سَبَّحَ بِحَمْدِهِ سَمَاءٌ وَلَا أَرْضٌ وَلَا شَيْءٌ؟ وَأَبْطَلُ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَنْ وَحَّدَ اللَّهَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ جَاحِدٌ لَهُ وَلِتَوْحِيدِهِ، لَا مُوَحِّدَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ؟ وَأَنَّ نَعْتَ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ لَهُ إِلْحَادٌ، وَكُلُّ مَنْ نَعَتَهُ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فَهُوَ لَاحِدٌ، فَلَا مَعْنًى صَحِيحٌ، وَلَا لَفْظٌ مَلِيحٌ، بَلِ الْمَعْنَى أَبْطَلُ مِنَ اللَّفْظِ، وَاللَّفْظُ أَقْبَحُ مِنَ الْمَعْنَى! ثُمَّ يُقَالُ: فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتَهُ - فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ - هَلْ هُوَ تَوْحِيدٌ، وَوَصْفٌ لِلتَّوْحِيدِ، أَمْ لَيْسَ بِتَوْحِيدٍ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوْحِيدًا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ تَوْحِيدًا فَقَدْ وَحَّدْتَ الْوَاحِدَ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ تَوْحِيدُهُ لِنَفْسِهِ هُوَ التَّوْحِيدَ وَمَا عَدَاهُ فَلَيْسَ بِتَوْحِيدٍ فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَوْحِيدَهُ لِنَفْسِهِ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ وَهَذَا عِنْدَكَ هُوَ تَوْحِيدُ الْعَامَّةِ، فَأَيْنَ هَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي وَحَّدَ بِهِ نَفْسَهُ وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانٌ وَلَمْ تُعَبِّرْ عَنْهُ عِبَارَةٌ وَلَمْ يَقُلْهُ سَبَبٌ؟ فَإِنْ قُلْتَ: هُوَ التَّوْحِيدُ الْقَائِمُ بِهِ فَذَلِكَ هُوَ وَصْفُهُ وَكَلَامُهُ وَعِلْمُهُ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَلَا صِفَتِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ مِنْ تَوْحِيدِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ كَمَا أَنَّ سَائِرَ صِفَاتِهِ لَا تَدْخُلُ فِي دَرَجَاتِ السُّلُوكِ، فَإِنَّ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ هِيَ مَنَازِلُ الْعُبُودِيَّةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُلْحِدِينَ وَلَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُوَحِّدِينَ. أَمَّا الْمُوَحِّدُونَ فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ يُوَحِّدُونَ اللَّهَ حَقَّ تَوْحِيدِهِ الَّذِي يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُلْحِدُونَ فَيَقُولُونَ: مَا ثَمَّ غَيْرٌ فِي

الْحَقِيقَةِ، فَاللَّهُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ السَّارِي فِي الْمَوْجُودَاتِ، فَهُوَ الْمُوَحِّدُ وَالْمُوَحَّدُ، وَكُلُّ مَا يُقَالُ فِيهِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ حَقٌّ وَتَوْحِيدٌ كَمَا قَالَ عَارِفُ الْقَوْمِ ابْنُ عَرَبِيٍّ: سِرْ حَيْثُ شِئْتَ فَإِنَّ اللَّهَ ثَمَّ وَقُلْ ... مَا شِئْتَ فِيهِ فَإِنَّ الْوَاسِعَ اللَّهُ وَقَالَ أَيْضًا: عَقَدَ الْخَلَائِقُ فِي الْإِلَهِ عَقَائِدًا ... وَأَنَا اعْتَقَدْتُ جَمِيعَ مَا اعْتَقَدُوهُ وَمَذْهَبُ الْقَوْمِ أَنَّ عُبَّادَ الْأَوْثَانِ وَعُبَّادَ الصُّلْبَانِ وَعُبَّادَ النِّيرَانِ وَعُبَّادَ الْكَوَاكِبِ كُلَّهُمْ مُوَحِّدُونَ، فَإِنَّهُ مَا عُبِدَ غَيْرُ اللَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ عِنْدَهُمْ، وَمَنْ خَرَّ لِلْأَحْجَارِ فِي الْبِيدِ وَمَنْ عَبَدَ النَّارَ وَالصَّلِيبَ فَهُوَ مُوَحِّدٌ عَابِدٌ لِلَّهِ، وَالشِّرْكُ عِنْدَهُمْ إِثْبَاتُ وُجُودٍ قَدِيمٍ وَحَادِثٍ وَخَالِقٍ وَمَخْلُوقٍ وَرَبٍّ وَعَبْدٍ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ عَارِفِيهِمْ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ يُبْطِلُ قَوْلَكُمْ، فَقَالَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِرْكٌ وَالتَّوْحِيدُ هُوَ مَا نَقُولُهُ. وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقَوَافِي الثَّلَاثَةُ أَوَّلًا مَذْهَبَ هَؤُلَاءِ وَنِحْلَتَهُمْ، وَلِهَذَا تَلَقَّاهَا بِالْقَبُولِ عَارِفُوهُمْ وَبَالَغُوا فِي اسْتِحْسَانِهَا، وَقَالُوا: هِيَ تَرْجَمَةُ مَذْهَبِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ، وَكُلُّ مَنْ

وَحَّدَ اللَّهَ فَهُوَ جَاحِدٌ لِإِطْلَاقِهِ فَإِنَّهُ يَصِفُهُ فَيَحْصُرُهُ تَحْتَ الْأَوْصَافِ، وَحَصْرُهُ تَحْتَهَا جَحْدٌ لِإِطْلَاقِهِ عَنْ قُيُودِ الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتِ، وَلِهَذَا كَانَ تَوْحِيدُ الْوَاصِفِ النَّاعِتِ لَهُ: عَارِيَةً اسْتَعَارَهَا حَتَّى قَامَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ وَصْفٌ وَمَوْصُوفٌ وَمُوَحِّدٌ وَمُوَحَّدٌ، وَالْوَحْدَةُ الْمُطْلَقَةُ تُبْطِلُ هَذِهِ الْعَارِيَةَ وَتَرُدُّ الْمُسْتَعَارَ إِلَى الْمَوْجُودِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يَتَقَيَّدُ بِوَصْفٍ وَلَا يَتَخَصَّصُ بِنَعْتٍ. ثُمَّ كَشَفَ الْغِطَاءَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ، أَيْ هُوَ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، لَا أَنَّ غَيْرَهُ يُوَحِّدُهُ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ غَيْرٌ. وَزَادَ إِيضَاحُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لِاحِدُ "، وَالْإِلْحَادُ: هُوَ الْمَيْلُ عَنِ الصَّوَابِ، وَالنَّعْتُ تَقْيِيدٌ وَتَخْصِيصٌ لِمَنْ لَا يَتَقَيَّدُ وَلَا يَتَخَصَّصُ، فَهُوَ إِلْحَادٌ. وَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ: أَنَّ الْفَنَاءَ فِي شُهُودِهِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْحُكْمَ يَمْحُو شُهُودَ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ، فَضْلًا عَنْ شُهُودِ غَيْرِهِ، فَلَا يَشْهَدُ مُوجِدًا فَاعِلًا عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَفِي هَذَا الشُّهُودِ تَفْنَى الرُّسُومُ كُلُّهَا، فَلَا يَبْقَى هَذَا الشُّهُودُ وَالْفَنَاءُ رَسْمًا الْبَتَّةَ، فَيَمْحُو هَذَا الشُّهُودُ مِنَ الْقَلْبِ كُلَّ مَا سِوَى الْحَقِّ، لَا أَنَّهُ يَمْحَقُهُ مِنَ الْوُجُودِ، وَحِينَئِذٍ فَيَشْهَدُ أَنَّ التَّوْحِيدَ الْحَقِيقِيَّ - غَيْرَ الْمُسْتَعَارِ - هُوَ تَوْحِيدُ الرَّبِّ تَعَالَى لِنَفْسِهِ، وَتَوْحِيدُ غَيْرِهِ لَهُ عَارِيَةٌ مَحْضَةٌ، أَعَارَهُ إِيَّاهَا مَالِكُ الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَالْعَوَارِي مَرْدُودَةٌ إِلَى مَنْ تُرَدُّ إِلَيْهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا، {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 30] فَالْوَاحِدُ الْقَهَّارُ - سُبْحَانَهُ - أَبْطَلَ تِلْكَ الْعَارِيَةَ: أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لِلْمُعَارِ، كَمَا يُبَيِّنُ الْمُعِيرُ لِلْمُسْتَعِيرِ إِذَا اسْتَرَدَّ الْعَيْنَ الْمُعَارَةَ - وَقَدْ ظَنَّ الْمُسْتَعِيرُ أَنَّ الْمُعَارَ مِلْكُهُ -: أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَنَّهُ عَارِيَةٌ مَحْضَةٌ فِي يَدِهِ، وَالْمُعِيرُ - إِنْ أَبْطَلَ ظَنَّ الْمُسْتَعِيرِ مِنَ الْعَارِيَةِ - لَمْ يَبْطُلْ أَصْلُ الْعَارِيَةِ، وَلِهَذَا صَرَّحَ بِإِثْبَاتِهَا فِي أَوَّلِ الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا ضَاقَ بِهِ الْوَزْنُ عَنْ تَمَامِ الْمَعْنَى وَإِيْضَاحِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ، وَهُوَ أَوْلَى بِهَذَا الْإِمَامِ الْعَظِيمِ الْقَدْرِ مِمَّا يَظُنُّهُ بِهِ طَائِفَةُ الِاتِّحَادِيَّةِ وَالْحُلُولِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ كَلِمَاتُهُ الْمُجْمَلَةُ شُبْهَةً لَهُمْ، فَسُنَّتُهُ الْمُفَصَّلَةُ مُبْطِلَةٌ لِظَنِّهِمْ. وَلِكَلَامِهِ مَحْمَلٌ آخَرُ أَيْضًا، وَهُوَ: أَنَّهُ مَا وَحَدَّ اللَّهَ حَقَّ تَوْحِيدِهِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ وَيَسْتَحِقُّهُ لِذَاتِهِ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ أَعْظَمُ النَّاسِ تَوْحِيدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» وَفِي مِثْلِ هَذَا يَصْلُحُ النَّفْيُ الْعَامُّ، كَمَا يُقَالُ: مَا عَرَفَ اللَّهَ إِلَّا

اللَّهُ، وَلَا أَثْنَى عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَالْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ يَقُولُهَا اثْنَانِ، يُرِيدُ بِهَا أَحَدُهُمَا أَعْظَمَ الْبَاطِلِ، وَيُرِيدُ بِهَا الْآخَرُ مَحْضَ الْحَقِّ، وَالِاعْتِبَارُ بِطَرِيقَةِ الْقَائِلِ وَسِيرَتِهِ وَمَذْهَبِهِ، وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَيُنَاظِرُ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - رَاسِخًا فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، وَنَفْيِ التَّعْطِيلِ، وَمُعَادَاةِ أَهْلِهِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ كُتُبٌ مِثْلُ: كِتَابِ ذَمِّ الْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ طَرِيقَةَ الْمُعَطِّلَةِ وَالْحُلُولِيَّةِ وَالِاتِّحَادِيَّةِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بِقَوْلِهِ " تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ " أَيْ تَوْحِيدُهُ لِنَفْسِهِ: هُوَ التَّوْحِيدُ الْكَامِلُ التَّامُّ، الَّذِي لَا سَبِيلَ لِلْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، وَفَوْقَ مَا تَعْرِفُهُ الْعُقُولُ وَتَصِفُهُ الْأَلْسُنُ، وَهَذَا حَقٌّ، لَكِنْ جَفَتْ عِبَارَتُهُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: " وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ " وَمَحْمَلُهَا، كَمَا عَرَفْتَ: أَنَّ نَعْتَ الْخَلْقِ لَهُ دُونَ مَا هُوَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ وَالنُّعُوتِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ الْعِلْمُ الْمَخْلُوقُ، أَوْ تَنْطِقَ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَالْإِلْحَادُ الْمَيْلُ، وَهُوَ لَمْ يُرِدْ أَنَّ نَعْتَ النَّاعِتِينَ لَهُ إِلْحَادٌ وَكُفْرٌ، فَإِنَّهُ هُوَ قَدْ نَعَتَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي كُتُبِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُلْحِدًا بِذَلِكَ، فَنَعْتُ الْمَخْلُوقِ لَهُ مَائِلٌ عَنْ نَعْتِهِ لِنَفْسِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْإِلْحَادَ، الَّذِي هُوَ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَنَّ نَعْتَ الْمَخْلُوقِينَ لَهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ إِلْحَادٌ، وَالتَّوْحِيدُ الْحَقُّ هُوَ مَا نَعَتَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فَهُمْ لَمْ يَنْعَتُوهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا نَعَتُوهُ بِمَا أَذِنَ لَهُمْ فِي نَعْتِهِ بِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 159 - 160] فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْعِبَادُ إِلَّا الْمُرْسَلِينَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ - وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182] . فَنَخْتِمُ الْكِتَابَ بِهَذِهِ الْآيَةِ حَامِدِينَ لِلَّهِ مُثْنِينَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَبِمَا أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزِّ جَلَالِهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا. وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُوزِعَنَا شُكْرَ نِعْمَتِهِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِأَدَاءِ حَقِّهِ، وَأَنْ يُعِينَنَا عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ

وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ وَأَنْ يَجْعَلَ مَا قَصَدْنَا لَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي غَيْرِهِ - خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَنَصِيحَةً لِعِبَادِهِ. فَيَا أَيُّهَا الْقَارِئُ لَهُ لَكَ غُنْمُهُ وَعَلَى مُؤَلِّفِهِ غُرْمُهُ، لَكَ ثَمَرَتُهُ وَعَلَيْهِ تَبِعَتُهُ، فَمَا وَجَدْتَ فِيهِ مِنْ صَوَابٍ وَحَقٍّ فَاقْبَلْهُ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى قَائِلِهِ، بَلِ انْظُرْ إِلَى مَا قَالَ لَا إِلَى مَنْ قَالَ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَرُدُّ الْحَقَّ إِذَا جَاءَ بِهِ مَنْ يُبْغِضُهُ، وَيَقْبَلُهُ إِذَا قَالَهُ مَنْ يُحِبُّهُ، فَهَذَا خُلُقُ الْأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: اقْبَلِ الْحَقَّ مِمَّنْ قَالَهُ وَإِنْ كَانَ بَغِيضًا، وَرُدَّ الْبَاطِلَ عَلَى مَنْ قَالَهُ وَإِنْ كَانَ حَبِيبًا، وَمَا وَجَدْتَ فِيهِ مِنْ خَطَأٍ فَإِنَّ قَائِلَهُ لَمْ يَأْلُ جُهْدَ الْإِصَابَةِ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَتَفَرَّدَ بِالْكَمَالِ كَمَا قِيلَ: وَالنَّقْصُ فِي أَصْلِ الطَّبِيعَةِ كَامِنٌ ... فَبَنُو الطَّبِيعَةِ نَقْصُهُمْ لَا يُجْحَدُ وَكَيْفَ يُعْصَمُ مِنَ الْخَطَأِ مَنْ خُلِقَ ظَلُومًا جَهُولًا، وَلَكِنْ مَنْ عُدَّتْ غَلَطَاتُهُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِمَّنْ عُدَّتْ إِصَابَاتُهُ. وَعَلَى الْمُتَكَلِّمِ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرُ كَلَامِهِ عَنِ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ، وَغَايَتُهُ النَّصِيحَةَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ جَعَلَ الْحَقَّ تَبَعًا لِلْهَوَى فَسَدَ الْقَلْبُ وَالْعَمَلُ وَالْحَالُ وَالطَّرِيقُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» فَالْعِلْمُ وَالْعَدْلُ أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ، وَالظُّلْمُ وَالْجَهْلُ أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ الطَّوَائِفِ وَلَا يَتَّبِعَ هَوَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 15]

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ أَجْمَعِينَ.

§1/1