مختصر منهاج القاصدين

المقدسي، نجم الدين

مُخْتََصَرُ مِنْهَاجِ القَاصِدِينْ تأليف الإِمَام الشَّيخ أَحمَد بن عبد الرحَّمن بن قَدامَة المَقْدِسي قدم له الأستاذ محمد أحمد دهمان عَلّق عَلَيه شعَيْب الأرنؤوط - عبد القادر الأرنؤوط الناشر مكتَبَةُ دَارِ البَيَانْ دمشق ص. ب 2854 هاتف 229045 التوزيع مؤسسة علوم القرآن للطِباعَةِ وَالنشر بيروت. ص. ب: 155136 دمشق. ص. ب: 4620

دمشق - بيروت 1398 هـ - 1978 م

مقدمات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الناشر الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد فهذا كتاب "مختصر منهاج القاصدين" للإِمام العلامة نجم الدين أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن أبي عمر بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي اختصره من كتاب "منهاج القاصدين" للإِمام عبد الرحمن بن الجوزي الذي اختصر المنهاج من كتاب "إِحياء علوم الدين" للإمام الغزالي، فجاء كتابنا هذا مختصراً للمختصر، وحوى دروساً رائعة في الأخلاق المقتبسة من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ويسر الانتفاع بها لكل من رضي بالله تعالى رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً، فهو على صغر حجمه غزير النفع، عميم الفائدة، جليل الأثر، تعاقب على دراسته والافادة منه طلبة العلم قديماً وحديثاً، ولذا فقد صح مني العزم على طبعه طبعة جديدة تأخذ حظها من التحقيق والضبط بما يتناسب مع مكانته الجليلة، فقد قمت بمقابلته على ثلاثة مخطوطات يملكها الأستاذ الفاضل محمد أحمد دهمان حفظه الله فقد قدمها لنا مشكوراً فقابلتها على مطبوعته من الكتاب التي نشرها أول مرة وعند الانتهاء من المقابلة دفعناه إلى الأستاذين شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط، اللذين عرفا بتخصصهما في علوم السنة النبوية الشريفة، فقاما بتعليق حواشيه واقتصرا على بيان الأحاديث الضعيفة وأما الأحاديث الصحيحة فلم يتعرضا لها. هذا وقد سبق لهذا الكتاب أن طبع قبل طبعتنا هذه ثلاث طبعات الأولى نشرها الأستاذ الشيخ محمد أحمد دهمان عام 1347 هـ، والثانية نشرتها مكتبة الشباب المسلم (دار الكتب العربية) بدمشق بالاشتراك مع المكتب الإِسلامي عام 1380 هـ،

حيث نظر فيها الشيخ عبد القادر الأرناؤوط. والثالثة نشرها المكتب الإسلامي بدمشق عام 1389 هـ بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط. وفي الختام لا يفوتني أن أزجي الشكر لكل من أشرف على تحقيقه وتصحيحه والتعليق عليه راجياً الله العلي القدير أن يدخر ثواب هذا الكتاب لكل من نظر فيه ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إِلا من أتى الله بقلب سليم، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ولا حول ولا قوة إِلا بالله العزيز الحكيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. دمشق في 1 ذي القعدة 1398. بشير عيون

مقدمة بقلم العلامة الشيخ محمد أحمد دهمان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة بقلم العلامة الشيخ محمد أحمد دهمان يعد كتاب "إحياء علوم الدين" للإِمام الغزالي القانون العام للمسلم التقي الصالح، ذلك أن مؤلفه قد حشد في كتابه من أنواع الأخلاق والأداب ما جرى على ذاكرته، ففسرها وحللها وحض عليها، وجرى مثل ذلك في الأخلاق والآداب المنحطة السيئة ففسرها وحللها وحض على التباعد عنها، فكان كتابه كتاب أخلاق وتربية جعله يمتاز في نوعه عن أمثاله من الكتب، وأحدث ظهوره ضجة كبيرة بين ناقد ومنتصر له، وينحصر النقد فيه في الأحاديث الموضوعة التي أوردها الغزالي فيه، وفي بعض الحكايات التي تقتل من شخصية الإِنسان إنسانيته وتجعله يهيم في كلمات وهمية لا تأتي بخير للإنسان، وكان في طليعة الناقدين له العالم الكبير عبد الرحمن بن الجوزي (510 - 597 هـ) فقد نقده نقداً مراً، ولكنه لم يكتف بالقول فقط بل عمد إلى أمر عملي، فرجع إلى الأحاديث الموضوعة فحذفها، وأثبت مكانها الأحاديث الصحيحة وعمد إلى الكلمات والألفاظ والحكايات التي لا طائل تحتها، فحذفها كما يقول ابن الجوزي كالكلام في الفناء. وسمى هذا الكتاب "منهاج القاصدين" ولكنه لم يخرج عن التخطيط الأول الذي وضعه الغزالي في كتابه "الإِحياء" وكان عملاً مفيداً جداً لم يكتف بالتهويل والتهويش، بل عمد إلى ما ينفع الناس ويفيد المجتمع وأصلح اصلاحاً حقيقياً ذا فائدة عظمى، ولكن كتاب "الإحياء" كان يحوي نقداً آخر هو في الدرجة الثانية بعد النقد الأول، فالغزالي ملأ كتابه بأبحاث فقهية جعلت الكتاب يتضخم ويدعو إلى التذمر من كبر حجمه، فجاء في القرن السابع أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، فخلصه من المسائل الفقهية، لأن موضعها كتب الفقه، وجعله كتاباً

ترجمة بنو قدامة

أخلاقياً تربوياً، فأصبح من السهل قراءة مثل هذا الكتاب، وأصبح يمثل عشر حجم الكتاب الأول. وفي سنة 1342 وقعت بيدي نسخة هذا الكتاب فأعجبت به ورأيت نشره فرصة سانحة للفائدة منه في المدارس الشرعية الدينية، ثم وقعت بيدي نسخة ثانية وثالثة، وهذا ما دعاني إلى أن أفكر في طبعه ونشره نظراً للفائدة المتوخاة منه، فطبعته، ولما تأسست الكلية الشرعية في دمشق عرضته على إدارتها وعمدتها فاستحسنت عملي وقررته في جميع مدارسها في دمشق وحلب وحمص وحماة ثم انتشر في جميع العالم الإسلامي. هذا وقد سمحت للسيد بشير عيون -صاحب مكتبة دار البيان بدمشق- أن يطبع هذا الكتاب طبعة متقنة تريح القارىء وتيسر له الانتفاع به، وأظن أنه قد حقق رغبتي، ونظراً لمرضي الشديد وضعف نظري، فقد قام الأستاذان شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط اللذين عرفا بتمكنهما من علوم السنة، وصناعة التحقيق بتعليق حواشيه، وبتخريج ما ورد فيه من الأحاديث الضعيفة، وبيان ضعفها فجزاهما الله تعالى خير الجزاء، ونفع بهما. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وإليك ترجمة: بنو قدامة في الحروب الصليبية كانت مقاطعة نابلس من نصيب أمير فرنسي ظالم كان اسمه باليان بن بارزان، وكان يعامل أهل مقاطعته أسوأ معاملة، فحينما يفرض جيرانه من الصليبيين على من تحت يده ديناراً أخذ هو من كل واحد منهم أربعة دنانير، وهكذا كانت معاملته في كل الأمور. وكان في قرية جَمَّاعيل -ويدعونها في عصرنا هذا جماعين- فقيه صالح يقرأ للناس دروس العلم ويعظهم في بعض الأحيان. وبلغ الأمير الفرنسي ما يقوم به الشيخ أحمد بن قدامة من هذه الدروس فعزم على قتله، وبلغ ذلك الشيخ أحمد بن قدامة فلم ير أمامه إلا الفرار إلى مدينة دمشق والالتجاء إلى ملكها نور الدين محمود بن زنكي وفي سنة 551 هـ فر الشيخ أحمد بن قدامة من جبل نابلس إلى مدينة دمشق مع بعض أقاربه، ونزل هو وأقاربه بمسجد خارج الباب الشرقي أحد أبواب دمشق في مسجد يقال له: "مسجد أبي صالح"، وأخذت الهجرات تتابع بعد ذلك وتنضم إليه في هذا المسجد، وكان هذا المسجد موقعه غير صحي وهواء تلك الجهة رديئاً وأصابهم الوباء، وأخذوا يتوفون الواحد تلو الواحد، وضاق صدر الشيخ

مختصر هذا الكتاب

أحمد بن قدامة من هذا الحادث، فأرسل رسلاً من جماعته يفتشون على محل هواؤه صحي، فدلهم أحد جماعته على سفح جبل قاسيون وذهبوا إليها فوجدوا موقعها حسناً. فذهبوا إلى الصالحية وبنوا المدرسة العمرية، وغربها بنوا داراً فسيحة تحيط بها غرف من جميع جهاتها دعيت تلك الدار "بدير الحنابلة" وكان هذان البناءان على ضفة نهر يزيد. وكان الناس يبرونهم ويهدونهم الطعام والملابس ويدعونهم بالصالحين فسموا بالصالحين وسمي لحف جبل قاسيون بالصالحية من ذلك الوقت. وأنشأ الناس فيها دوراً، فأصبحت بعد ذلك بليدة زاهرة جديدة. وأنجب الشيخ أحمد بن قدامة ولدين نجيبين أحدهما الشيخ أبو عمر والآخر موفق الدين. أما أبو عمر واسمه محمد فتولى شؤونهم الإدارية، وأنشأ الدير الحنبلي والمدرسة العمرية، ولد بجماعيل (528) هـ وتوفي بدمشق سنة (608) ودفن بالصالحية. أما موفق الدين، فاسمه عبد الله وهو الأخ الأصغر ولد سنة (541) بجماعيل وهاجر مع أبيه إلى دمشق، وسكن داراً قرب الجامع الأموي، ويقيم بهذا الجامع في قاعة الحنابلة قرب محرابهم، وهو مؤلف كتاب "المغني" الشهير بالفقه الحنبلي وغيره كثيراً من المؤلفات، وتوفي بدمشق سنة (620) ودفن في الصالحية قرب مقبرة أهله وله أولاد وبنات ماتوا في حياته وانقطع عقبه. وما خرج من العلماء من بني قدامة منهم من سلالة الشيخ أبي عمر. مختصِر هذا الكتاب: ورد في أول هذا الكتاب من نسخة (أ) بأن مؤلفه نجم الدين أبو العباس أحمد ابن عز الدين أبي عبد الله محمد بن شمس الدين أبي محمد عبد الرحمن بن شيخ الإسلام أبي عمر، وهذا ما يجعل هذه النسبة مشكوكاً فيها، فنجم الدين أبو العباس أحمد يعرف بابن شيخ خطيب الجبل -أي جبل الصالحية- وأبوه قاضي القضاة شيخ الجبل عبد الرحمن، وهو ابن شيخ الإسلام أبي عمر الذي بنى وأنشأ مدرسة العمرية في الصالحية ذات المكتبة القيمة الشهيرة، ولذلك ظهر لنا أن ما ورد في أول الكتاب من أن أباه عز الدين أبي عبد الله محمد هو خطأ، وأنه يجب حذفها لأن نجم الدين أبا العباس أحمد هو ابن قاضي القضاة عبد الرحمن بن أبي عمر، وهذا ما جعل التباساً لدى بعض

الناس بسبب هذه الزيادة، والمختصر نجم الدين أبو العباس أحمد هو معروف ومشهور ومترجم في كثير من الكتب، وهو مثبت بأن أباه عبد الرحمن ابن أبي عمر. وإليك صورة نسبه. هو نجم الدين بن الشيخ قاضي القضاة أبو العباس أحمد بن شيخ الإسلام شمس الدين عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الصالحي الحنبلي، ولد في شعبان سنة إحدى وخمسين وستمائة، وسمع الحديث ولم يبلغ أوان الرواية، وتفقه على والده وولي القضاء في حياة والده بإشارته. قال البرزالي: كان خطيب الجبل، وقاضي القضاة، ومدرس أكثر المدارس، وشيخ الحنابلة وكان فقيهاً فاضلاً، سريع الحفظ جيد الفهم كبير المكارم، شهماً شجاعاً، ولي القضاء ولم يبلغ ثلاثين سنة، فقام أتم قيام. وقال غيره: درس بدار الحديث الأشرفية بالسفح، وشهد فتح طرابلس مع السلطان الملك المنصور، وكان مليح البزة ذكياً مليح الدروس له قدرة على الحفظ ومشاركة جيدة في العلوم. توفي يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الأولى بمنزله بقاسيون ودفن عند أبيه وجده. وكان عمره ثمانية وثلاثين سنة. 28 شوال 1398 هـ - 1 تشرين الأول 1978 م محمد أحمد دهمان

[مقدمة المصنف]

رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الشيخ الإمام العالم الزاهد العابد الأوحد العلامة، نجم الدين أبو العباس أحمد، بن الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد العابد العلامة، عز الدين أبي عبد الله محمد، بن الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد العابد العلامة شيخ الإسلام مفتي الأنام، سيد العلماء والحكام، شمس الدين، أبي محمد عبد الرحمن، بن الشيخ الإمام العالم العامل العارف الزاهد الورع شيخ الإسلام، أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد ابن قدامة، المقدسي الحنبلي رضي الله عنه: الحمد لله الذي عم برحمته جميع العباد، وخص أهل طاعته بالهداية إلى سبيل الرشاد، ووفقهم بلطفه لصالح الأعمال، ففازوا ببلوغ المراد. أحمده حمد معترف بجزيل الإرفاد (¬1) وأعوذ به من وبيل الطرد والإبعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها ليوم المعاد. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، موضح طريق الهدى والسداد، قامع الجاحدين والملحدين من أهل الزيغ والعناد، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الأكرمين الأجواد، صلاة تبلغه بها نهاية الأمل والمراد. وبعد: فإني كنت وقفت مرة على كتاب: "منهاج القاصدين" للشيخ الإمام العالم الأوحد، جمال الدين ابن الجوزي، رحمه الله تعالى، فرأيته من أجل الكتب وأنفعها، وأكثرها فوائد، فحصل عندي بموقع، ورغبت في تحصيله ومطالعته، فلما ¬

_ (¬1) الإرفاد: الإعطاء والإعانة.

قال المصنف [ابن الجوزي] رحمة الله عليه - بعد فراغه من هذه الخطبة

تأملته ثانيا، وجدته فوق ما كان في نفسي، لكن رأيته كتابا مبسوطاً، فأحببت أن أعلِّق منه هذا المختصر الذي قد احتوى على أكثر مقاصده، وأجل مهماته وفوائده سوى ما ذكر في أوائله من مسائل ظاهرة تتعلق بالفروع، فإنها مشهورة في كتب الفقه المستفيضة بين الناس، إذ كان المقصود من الكتاب غير ذلك. ولم ألتزم فيه المحافظة على ترتيبه وذكر ألفاظه بعينها، بل ذكرت بعضها بالمعنى قصداً للاختصار، وربما ذكرت فيه حديثاً أو شيئاً يسيراً من غيره إن كان مناسباً له، والله تعالى أعلم. وأسأل الله الكريم أن ينفعنا به، ومن قرأه، أو سمعه، أو نظر فيه، وأن يجعله خالصاً لوجهه، وأن يختم لنا بخير، ويوفقنا لما يرضاه من القول والعمل والنية، وأن يسامحنا في تقصيرنا وتفريطنا، ولا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقه، فإنه حسبنا ونعم الوكيل (¬1). قال المصنف [ابن الجوزي] رحمة الله عليه - بعد فراغه من هذه الخطبة: أما بعد: فإني رأيتك أيها المريد الصادق، والعازم الجازم، قد وطنت نفسك على التخلي عن فضول الدنيا الشاغلة، وعزمت على الانقطاع إلى الأخرة، علماً منك أن مخالطة الخلق توجب التخليط، وإهمال المحاسبة للنفس أصل التفريط، وأن العمر إن لم يستدرك أدركه الفوت، وأن مراحل الأنفاس تسرع بالراكب إلى منزل الموت. فنظرت أي أنيس من الكتب تستصحبه في خلوتك، وتستنطقه في حال صمتك، فإذا ¬

_ (¬1) هذه الخطبة موجودة في نسخة (أ)، وفي نسخة (ب) بدلاً عنها الخطة المدرجة هنا وهي هذه بعد البسملة: "الحمد لله منبه الراقدين في غفلاتهم بمزعجات الايقاظ، ومنزه التائبين من هفواتهم بملاطفات الوعاظ، ومحدث العارفين في خلواتهم بأحلى الكلمات والألفاظ، ومحذر الزاهدين بأشرف شهواتهم تأدباً حتى فرقوا عن الظاهرين اللحاظ، وقاموا إلى محاربة النفوس قيام الليث لحرب المغتاظ، وحفظوا ما استحفظوا فحفظوا وإنما الحفظ للحفاظ. أحمده حمداً كثيراً فائت العدد دائم الألفاظ، وأصلي وأسلم على نبيه محمد الذي أعجز الفصحاء بما جاء به قساقيس يوم عكاظ، وعلى آله وأصحابه أهل اليقين والتقى والاستيقاظ، صلاة أتقي بها يوم البعث حر لظى والشواظ، ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ. قال مؤلفه عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي رحمه الله: سميت كتابي هذا: "منهاج القاصدين ومفيد الصادقين". وأسأل الله تعالى أن ينفعنا به ومن قرأه، أو سمعه، أو نظر فيه، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يختم لنا بخير ويوفقنا لما يرضيه من القول والعمل والنية، وأن يسامحنا في تقصيرنا وتفريطنا ولا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا إلى أحد من خلقه، فإنه حسبنا ونعم الوكيل.

أنت تؤثر كتاب "إحياء علوم الدين" وتزعم انفراده في جنسه، ونفاسته في نفسه. فاعلم أن في كتاب "الإحياء" آفات لا يعلمها إلا العلماء. وأقلها الأحاديث الباطلة الموضوعة والموقوفة، وقد جعلها مرفوعة، وإنما نقلها كما اقتراها لا أنه افتراها، ولا ينبغي التعبد بحديث موضوع، والاغترار بلفظ مصنوع. وكيف أرتضي لك أن تصلي صلوات الأيام ولياليها، وليس فيها كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكيف أوثر أن يطرق سمعك من كلام المتصوفة الذي جمعه (¬1) وندب إلى العمل به مالا حاصل له من الكلام في الفناء، والبقاء، والأمر بشدة الجوع، والخروج إلى السياحة في غير حاجة، والدخول في الفلاة بغير زاد، إلى غير ذلك مما قد كشفت عن عواره (¬2) في كتابي المسمى بـ "تلبيس إبليس (¬3) " وسأكتب لك كتاباً يخلو عن مفاسده، ولا يخل بفوائده، أغتمد فيه من النقول الأصح والأشهر، ومن المعنى الأثبت والأجود، وأحذف ما يصلح حذفه، وأزيد ما يصلح أن يزاد. ثم قال بعد ذلك [ابن الجوزي]: وإذ قد صح عزمك على العزلة لاستيفاء حق الحق من النفس، والأخذ على يدها، فليكن وكيلك عليها العلم، وكن باحثاً عن دقائق هواها لعلك تسلم، واحذر سبيل أحد رجلين: عالم عرف الجدال في الفقه واقتنع برئاسته، أو نال القضاء فسعى في حفظ منزلته، أو زخرف الوعظ فضيق أعين شبكته. أو زاهد يتقلب برأيه الفاسد في جهالته، ويتقرب بتقبيل يده واعتقاد بركته، ويعمل بهواه دون شرع الله وسنته. فهذان عادلان عن منهاج الصواب، مقتنعان بقشور الأعمال عن خالص اللباب، خادعان للمبتدئين بلامع السراب، وطريقهما بمعزل عن سنن السلف الصالح الذي هو جادة الاستقامة وطريق السلامة. ¬

_ (¬1) أي صاحب الإحياء. (¬2) العوار بالفتح: العيب وقد يضم. (¬3) طبع مكتبة دار البيان بدمشق بتحقيق الاستاذ خير الدين وانلي.

وسأدرج لك في هذا الكتاب إن شاء الله من أخبارهم ما يدل على آثارهم. وكتابنا هذا يحتاج إليه المنتهي، كما يفتقر إليه المبتدي، لأن فيه أسرار العبادات، والتحذير من آفات المعاملات. وقد جعله المصنف أربعة أرباع: الأول: ربع العبادات. والثاني: ربع العادات. والثالث: ربع المهلكات. والرابع: ربع المنجيات. وكل واحدة من هذه الأقسام الأربعة يشتمل على كتب، وأبواب، وفصول، فمن أقسام الربع الأول:

الربع الأول من الكتاب: ربع العبادات

الربع الأول من الكتاب: ربع العبادات كتاب العلم وفضله وما يتعلق به قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] قال ابن عباس رضى الله عنهما: للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة، ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وفى "الصحيحين" من حديث معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه فى الدين". وعن أبى أمامة رضى الله عنه قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلان: أحدهما: عابد، والآخر: عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله وملائكته، وأهل السموات والأرض، حتى النملة فى جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير" رواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح. وفى حديث آخر: "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر". وعن صفوان بن عسال رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب" رواه الإمام أحمد، وابن ماجة. قال الخطابي: في معنى وضعها أجنحتها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بسط الأجنحة.

الثاني: أنه بمعنى التواضع لطالب العلم. الثالث: أن المراد به النزول عند مجالس العلم وترك الطيران. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة" رواه مسلم. وروى عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام، كان بينه وبين الأنبياء فى الجنة درجة واحدة" (¬1)، وفيه أخبار كثيرة. وكان بعض الحكماء يقول: ليت شعري، أي شىء أدرك من فاته العلم، وأي شىء فات من أدرك العلم. ومن فضائل التعليم ما أخرجاه فى "الصحيحين" عن سهل بن سعد رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلى رضى الله عنه: "لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير من أن يكون لك حمر النعم". وقال ابن عباس: "إن الذى يعلم الناس الخير تستغفر له كل دابة حتى الحوت فى البحر". وروى نحو ذلك فى حديث مرفوع إلى النبى صلى الله عليه وآله وسلم. فإن قيل: ما وجه استغفار الحوت للمعلم؟ فالجواب: أن نفع العلم يَعُمُّ كل شىء حتى الحوت، فإن العلماء عرفوا بالعلم ما يحل ويحرم، وأوصوا بالإحسان إلى كل شىء حتى إلى المذبوح (¬2) والحوت، فألهم الله تعالى الكل الاستغفار لهم جزاءاً لحسن صنيعهم. وعن أبى موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب (¬3) أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي ¬

(¬1) حديث ضعيف رواه الدارمي 1/ 100 عن الحسن مرسلاً، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس مرفوعاً بنحوه، وفيه محمد بن الجعد وهو متروك. (¬2) في الهامش: كما في حديث "إن الله كتب الإحسان على كل شيء". (¬3) جمع أجدب وهى الأرض التي لا تنبت.

1 ـ فصل [طلب العلم فريضة]

قيعان (¬1) لا تمسك ماء ولاتنبت كلأ، فذلك مثل من َفقُه فى دين الله ونفعه الله بما بعثنى به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذى أرسلت به" أخرجاه فى "الصحيحين". فانظر رحمك الله إلى هذا الحديث ما أوقعه على الخلق، فإن الفقهاء أولي الفهم، كمثل البقاع التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ، لأنهم علموا وفهموا، وفرعوا وعلَّموا. وغاية الناقلين من المحدثين الذين لم يرزقوا الفقه والفهم، أنهم كمثل الأجادب التي حفظت الماء فانتفع بما عندهم، وأما الذين سمعوا ولم يتعلموا ولم يحفظوا، فهم العوام الجهلة. وقال الحسن رحمه الله: لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم. وقال معاذ بن جبل رضى الله تعالى عنه: تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاده، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس فى الوحدة، والصاحب فى الخلوة. وقال كعب رحمه الله: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: أن تعلم يا موسى الخير وعلمه للناس، فإني منور لمعلم الخير ومتعلمه قبورهم حتى لا يستوحشوا بمكانهم. 1 ـ فصل [طلبُ العلمِ فريضةُُ] قد روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" رواه أحمد فى "العلل" (¬2). قال المصنف رحمه الله تعالى: اختلف الناس فى ذلك. فقال الفقهاء: هو علم الفقه، إذ به يعرف الحلال والحرام. وقال المفسرون والمحدثون: هو علم الكتاب والسنة، إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها. ¬

_ (¬1) جمع قاع وهى الأرض المستوية. (¬2) وابن ماجه في "سننه" رقم (224) وهو حديث حسن بطرقه كما قال الحافظ المزي.

وقالت الصوفية: هو علم الإخلاص وآفات النفوس. وقال المتكلمون: هو علم الكلام. إلى غير ذلك من الأقوال التي ليس فيها قول مرضى، والصحيح أنه علم معاملة العبد لربه. والمعاملة التي كلفها على ثلاثة أقسام: اعتقاد، وفعل، وترك. فإذا بلغ الصبى، فأول واجب عليه تعلم كلمتي الشهادة وفهم معناها وإن لم يحصل ذلك بالنظر والدليل، لأن النبى صلى الله عليه وآله وسلم اكتفى من أجلاف العرب بالتصديق من غير تعلم دليل، فذلك فرض الوقت، ثم يجب عليه النظر والاستدلال. فإذا جاء وقت الصلاة وجب عليه تعلم الطهارة والصلاة، فإذا عاش إلى رمضان وجب عليه تعلم الصوم، فإن كان له مال وحال عليه الحول وجب عليه تعلم الزكاة، وإن جاء وقت الحج وهو مستطيع وجب عليه تعلم المناسك. وأما التروك: فهو بحسب ما يتجدد من الأحوال، إذ لا يجب على الأعمى تعلم ما يحرم النظر إليه، ولا على الأبكم تعلم ما يحرم من الكلام، فإن كان فى بلد يتعاطى فيه شرب الخمر ولبس الحرير، وجب عليه أن يعرف تحريم ذلك. وأما الاعتقادات: فيجب علمها بحسب الخواطر، فإن خطر له شك فى المعاني التي تدل عليها كلمتا الشهادة، وجب عليه تعلم ما يصل به إلى إزالة الشك. وإن كان فى بلد قد كثرت فيه البدع، وجب عليه أن يتلقن الحق، كما لو كان تاجراً فى بلد شاع فيه الربا، وجب عليه أن يتعلم الحذر منه. وينبغى أن يتعلم الإيمان بالبعث والجنة والنار. فبان بما ذكرنا أن المراد بطلب العلم الذى هو فرض عين: ما يتعين وجوبه على الشخص. فأما فرض الكفاية: فهو علم لا يُستغنى عنه فى قِوَام أمور الدنيا، كالطب إذ هو ضروري فى حاجة بقاء الأبدان على الصحة، والحساب، فإنه ضروري فى قسمة المواريث والوصايا وغيرها.

فهذه العلوم لو خلا البلد عمن يقوم بها حَرِجَ أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الباقين. ولا يُتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفاية، فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفاية، كالفلاحة والحياكة، بل الحجامة فإنه لو خلا البلد عن حَجَّام لأسرع الهلاك إليهم، فإن الذى أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله. وأما التعَّمق فى دقائق الحساب، ودقائق الطب وغير ذلك، فهذا يعد فضله، لأنه يستغنى عنه (¬1). وقد يكون بعض العلوم مباحاً، كالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار. وقد يكون بعضها مذموماً، كعلم السحر، والطلسمات، والتلبيسات. فأما العلوم الشرعية فكلها محمودة، وتنقسم إلى أصول، وفروع، ومقدمات ومتممات. فالأصول: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإجماع الأمة، وآثار الصحابة. والفروع: ما فهم من هذه الأصول من معان تنبهت لها العقول حتى فهم من اللفظ الملفوظ وغيره، كما فهم من قوله: "لا يقضى القاضي وهو غضبان" أنه لا يقضى جائعاً. والمقدمات: هي التي تجرى مجرى الآلات، كعلم النحو واللغة، فإنهما آلة لعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. والمتممات: كعلم القراءات، ومخارج الحروف، وكالعلم بأسماء رجال الحديث وعدالتهم وأحوالهم، فهذه دهى العلوم الشرعية، وكلها محمودة. ¬

(¬1) بل هو من الفروض الكفائية التي يجب على المسلمين أن يتقنوها، ولا تقوى شوكة المسلمين، ولا تقوم لهم قائمة إلا بالإسلام والعلم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

2 ـ فصل [في علم المعاملة]

2 ـ فصل [في علم المعاملة] فأما علم المعاملة وهو علم أحوال القلب، كالخوف، والرجاء، والرضى، والصدق، والإخلاص وغير ذلك، فهذا العلم ارتفع به كبار العلماء، وبتحقيقه اشتهرت أذكارهم، كسفيان [الثوري]، وأبى حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد. وإنما انحطت رتبة المسمين بالفقهاء والعلماء عن تلك المقامات، لتشاغلهم بصورة العلم من غير أخذ على النفس أن تبلغ إلى حقائقه وتعمل بخفاياه. وأنت تجد الفقيه يتكلم فى الِّظهار، واللِّعان، والسبع، والرمى، ويفرع التفريعات التي تمضى الدهور فيها ولا يحتاج إلى مسألة منها، ولا يتكلم فى الإخلاص، ولا يحذر من الرياء، وهذا عليه فرض عين، لأن في إهماله هلاكه، والأول فرض كفاية. ولو أنه سئل عن علة ترك المناقشة للنفس فى الإخلاص والرياء لم يكن له جواب. ولو سئل عن علة تشاغله بمسائل اللعان والرمى، لقال: هذا فرض كفاية، ولقد صدق، ولكن خفي عليه أن الحساب فرض كفاية أيضاً، فهلا تشاغل به، وإنما تبهرج عليه النفس، لأن مقصودها من الرياء والسمعة يحصل بالمناظرة، لا بالحساب. واعلم: أنه بدلت ألفاظ وحرفت، ونُقلت إلى معان لم يردها السلف الصالح. فمن ذلك: الفقه، فإنهم تصرفوا فيه بالتخصيص، فخصوه بمعرفة الفروع وعللها، ولقد كان اسم الفقه فى العصر الأول منطلقاً على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب. ولذلك قال الحسن [البصري] رحمه الله: إنما الفقيه الزاهد فى الدنيا، الراغب فى الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الوَرِع الكافُّ عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لهم. فكان إطلاقهم اسم الفقه على علم الآخرة أكثر، لأنه لم يكن متناولاً للفتاوى، ولكن كان متناولاً لذلك بطريق العموم والشمول، فثار من هذا التخصيص تلبيس بعث الناس على التجرد لعلم الفتاوى الظاهرة، والإِعراض عن علم المعاملة للآخرة.

اللفظ الثاني: العلم. فقد كان ذلك يطلق على العلم بالله تعالى وبآياته، آي: نعمه وأفعاله فى عباده، فخصوه وسموا به الغالب المناظر فى مسائل الفقه وإن كان جاهلاً بالتفسير والأخبار. اللفظ الثالث: التوحيد: وقد كان ذلك إشارة إلى أن ترى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع الالتفات إلى الأسباب والوسائط، فيثمر ذلك التوكل والرضى وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام فى الأصول، وذلك من المنكرات عند السلف. اللفظ الرابع: التذكير والذكر. قال تعالى: {وَذكَّرْ َفإنَّ الذَّكْرَى تْنَفعُ الُمْؤمنينَ} [الذاريات: 55]. وقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر" فتقلوا ذلك إلى القصص وما يحتوى عليه اليوم مجلس القاص من الشطح والطامات. ومن تشاغل فى وعظة بذكر قصص الأولين، فليعلم أن اكثر ما يحكى فى ذلك لا يثبت، كما ينقلون أن يوسف عليه السلام حل تكته، وأنه رأى يعقوب عاضا على يده، وأن داود جهز أوريا حتى قتل، فمثل هذا يضر سماعه. وأما الشطح والطامات: فمن أشد ما يؤذى العوام، لأنها تشمل على ذكر المحبة والوصال وألم الفراق، وعامة الحاضرين أجلاف، بواطنهم محشوة بالشهوات وحب الصور، فلا يحرك ذلك من قلوبهم إلا ما هو مستكن فى نفوسهم، فيشتعل فيها نار الشهوة، فيصيحون، وكل ذلك فساد. وربما احتوى الشطح على الدعاوى العريضة فى محبة الله تعالى، وفى هذا ضرر عظيم. وقد ترك جماعة من الفلاحين فلاحتهم، وأظهروا مثل هذه الدعاوى. اللفظ الخامس: الحكمة. والحكمة: العلم والعمل به. قال ابن قتيبة رحمة الله: لا يكون الرجل حكيما حتى يجمع العلم والعمل. وقد صار هذا الاسم يطلق فى هذا الزمان على الطبيب والُمنِّجم.

3 ـ فصل [في العلوم المحمودة]

3 ـ فصل [في العلوم المحمودة] وأعلم أن العلوم المحمودة تنقسم إلى قسمين: الأول: محمود إلى أقصى غاياته، وكلما كان أكثر كان أحسن وأفضل. وهو العلم بالله تعالى، وبصفاته، وأفعاله، وحكمته فى ترتيب الآخرة على الدنيا، فان هذا علم مطلوب لذاته، والتوصل به إلى سعادة الآخرة، وهو البحر الذى لا يدرك غوره وانما يحوم اُلمَحِّومون على سواحله وأطرافه بقدر ما تيسر لهم. والقسم الثاني: العلوم التي لا يحمد منها إلا مقدار مخصوص، وهى التي ذكرناها من فروض الكفايات، فان فى كل منها افتقاراً واقتصاراً واستقصاءاً. فكن أحد رجلين: إما مشغولاً بنفسك، وإما متفرغاً لغيرك بعد الفراغ من نفسك. وإياك أن تشتغل بما يصلح غيرك قبل إصلاح نفسك، واشتعل بإصلاح باطنك وتطهيره من الصفات الذميمة، كالحرص، والحسد، والرياء، والعجب، قبل إصلاح ظاهرك، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى فى ربع المهلكات. فان لم تتفرغ من ذلك فلا تشتغل بفروض الكفايات، فان فى الخلق كثيراً يقومون بذلك، فإن مهلك نفسه فى طلب صلاح غيره سفيه، ومثله مثل من دخلت العقارب تحت ثيابه وهو يذب الذباب عن غيره. فإن تفرغت من نفسك وتطهيرها، وما أبعد ذلك، فاشتغل بفروض الكفايات وراع التدريج فى ذلك. فابتدأ بكتاب الله عز وجل، ثم بسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بعلوم القرآن: من التفسير، ومن ناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، إلى غير ذلك. وكذلك فى السنة، ثم اشتغل بالفروع، وأصول الفقه وهكذا بقية العلوم على ما يتسع العمر ويساعد فيه الوقت. ولا تستغرق عمرك فى فن واحد منها طلباً للاستقصاء، فان العلم كثير، والعمر قصير، وهذه العلوم آلات يراد بها غيرها، وكل شىء يطلب لغيره فلا ينبغي أن ينسى فيه المطلوب.

4 ـ فصل [في عالم لم ينفعه علمه]

4 ـ فصل [في عَالمٍ لم ينفعه علمه] واعلم: أن المناظرة الموضوعة لقصد المغالبة والمباهاة منبع الأخلاق المذمومة، ولا يسلم صاحبها من كبر، لاحتقار المقصرين عنه، وعجب بنفسه لارتفاعه على كثير من نظرائه، ولا يسلم من الرياء، لأن جمهور مقصود المناظر اليوم علم الناس بغلبته، وإطلاق ألسنتهم بشكره ومدحه، فهو يُذِهبُ عمره فى العلوم التي تعين على المناظرة مما لا ينفع فى الآخرة، كحسن اللفظ، وحفظ النوادر. وقد روى فى الحديث عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه" (¬1). 5 ـ باب فى آداب المعلم والمتعلم وآفات العلم وبيان علماء السوء وعلماء الآخرة أما المتعلم فينبغي له تقديم طهارة النفسعن رذائل الأخلاق ومذموم الصفات. إذ العلم عبادة القلب. وينبغى له قطع العلائق الشاغلة، فان الفكرة متى توزعت قصرت عن إدراك الحقائق. وقد كان السلف يؤثرون العلم على كل شىء، فروى عن الإمام أحمد رحمه الله أنه لم يتزوج إلا بعد الأربعين. وأهديت إلى أبى بكر الأنبارى جارية، فلما دخلت عليه تفكر فى استخراج مسألة فعزبت عنه، فقال: أخرجوها إلى النخاس، فقالت: هل من ذنب؟ قال: لا، إلا أن قلبي اشتغل بك، وما قدر مثلك أن يمنعني علمي. وعلى المتعلم أن يلقى زمامه إلي المعلم اللقاء المريض زمامه إلي الطبيب، فيتواضع له، ويبالغ فى خدمته. وقد كان ابن عباس رضى الله عنه يأخذ بركاب زيد بن ثابت رضى الله عنه ويقول: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "الأوسط" وابن عدي في "الكامل" والبيهقي في "شعب الإيمان" وهو ضعيف جداً.

ومتى تكبر المتعلم أن يستفيد من غير موصوف بالتقدم فهو جاهل، لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها، وليدع رأيه لرأى معلمه فان خطأ المعلم أنفع للمتعلم من صواب نفسه. قال على رضى الله عنه: إن من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة، وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشير عنده بيدك، ولا تغمزن بعينك، ولا تكثر عليه السؤال، ولا تعينه فى الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تراجعه إذا امتنع، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشى له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطلبن عثرته، وان زل قبلت معذرته، ولا تقولن له: سمعت فلانا يقول كذا، ولا أن فلاناً يقول خلافك. ولا تصفن عنده عالماً، ولا تعرض من طول صحبته، ولا ترفع نفسك عن خدمته، وإذا عرضت له حاجة سبقت القوم إليها، فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شئ. وينبغى أن يحترز الخائض فى العلم فى مبدأ الأمر من الإصغاء إلى اختلاف الناس، فإن ذلك يحير عقله ويفتر ذهنه. وينبغى له أن يأخذ من كل شئ أحسنه. لأن العمر لا يتسع لجميع العلوم، ثم يصرف جُمَام قوته إلى أشرف العلوم، وهو العلم المتعلق بالآخرة، الذى به يكتسب اليقين الذى حصله أبو بكر الصديق رضى الله عنه، حتى شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر فى صدره" (¬1) فهذه وظائف المتعلم. وأما المعلم فعليه وظائف أيضاً: من ذلك الشفقة على المتعلمين، وأن يجريهم مجرى بنيه، ولا يطلب على إفاضة العلم أجراً، ولا يقصد به جزاءاً ولا شكراً، بل يعلم لوجه الله تعالى، ولايرى لنفسه منة على المتعلمين، بل يرى الفضل لهم إذ هيؤوا قلوبهم للتقرب إلى الله تعالى بزارعة العلم فيها، فهم كالذي يعير الأرض لمن يزرع فيها ¬

_ (¬1) خبر موضوع أورده ابن القيم رحمه الله في "المنار المنيف" ص 115 تحت قوله: ومما وضعه جهلة المنتسبين إلى السنة في فضائل الصديق رضى الله عنه. وقال: وهذا من كلام أبي بكر بن عياش، ونقله عنه ملا علي القاري في "الأسرار المرفوعة" ص 476 وأقره. وجاء في "المقاصد الحسنة" للسخاوي وغيره من كتب الموضوعات أنه من قول بكر بن عبدالله المزني.

6 ـ فصل في آفات العلم وبيان علماء السوء وعلماء الآخرة

فلا ينبغي أن يطلب المعلم الأجر إلا من الله تعالى. وقد كان السلف يمتنعون من قبول هدية المتعلم. ومنها أن لا يدخر من نصح المتعلم شيئاً، وأن يزجره عن سوء الأخلاق بطريق التعريض مهما أمكن، لا على وجه التوبيخ، فإن التوبيخ يهتك حجاب الهيبة. ومنها: أن ينظر فى فهم المتعلم ومقدار عقله، فلا يلقي إليه مالا يدركه فهمه ولا يحيط به عقله. فقد روي عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم" (¬1). وقال علي رضي الله عنه: إن هاهنا علماً لو وجدت له حملته. وقال الشافعي رحمه الله: أأنثر دراً بين سارحة النعم ... أأنظم منثوراً لراعية الغنم ومن منح الجهال علماً أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم ومنها: أن يكون المعلم عاملاً بعلمه. ولا يكذب قوله فعله. قال الله تعالى: {أَتَأْمُرونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُم وَأَنْتُم تَتْلُونَ الكَتابَ} [البقرة: 44] وقال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك. 6 ـ فصل في آفات العلم وبيان علماء السوء وعلماء الآخرة علماء السوء: هم الذين قصدهم من العلم التنعم بالدنيا، والتوصل إلى المنزلة عند أهلها. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من ¬

_ (¬1) لم يثبت شئ من هذا عن النبى صلى الله عليه وسلم، وقد روى البخاري في "صحيحه" 1/ 199 تعليقاً فى العلم: باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا قول علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله، قال الحافظ: وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، ومثله قول: عبد الله بن مسعود فيما رواه الإمام مسلم فى "صحيحه" 1/ 76 بشرح النووي: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.

الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" يعنى ريحها. وفى حديث آخر أنه قال: "من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فهو في النار" رواه الترمذي. وفى ذلك أحاديث كثيرة. وقال بعض السلف: أشد الناس ندامة عند الموت عالم مفرط. واعلم: أن المأخوذ على العالم أن يقوم بالأوامر والنواهي، وليس عليه أن يكون زاهداً ولا معرضاً عن المباحات، إلا أنه ينبغي له أن يتقلل من الدنيا مهما استطاع، لأنه ليس كل جسم يقبل التعلل، فإن الناس يتفاوتون. وروى أن سفيان الثوري رحمه الله كان حسن المطعم. وكان يقول: إن الدابة إذا لم يحسن إليها في العلف لم تعمل. وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يصبر من خشونة العيش على أمر عظيم والطباع تتفاوت. ومن صفات علماء الآخرة أن يعلموا أن الدنيا حقيرة، وأن الآخرة شريفة. وأنهما كالضرتين، فهم يؤثرون الآخرة، ولا تخالف أفعالهم أقوالهم، ويكون ميلهم إلى العلم النافع فى الآخرة، ويجتنبون العلوم التي يقل نفعها إيثاراً لما يعظم نفعه، كما روي عن شقيق البلخي رحمه الله أنه قال لحاتم: قد صحبتني مدة، فماذا تعلمت؟ قال: ثمانية مسائل: أما الأولى: فإني نظرت إلى الخلق، فإذا كل شخص له محبوب، فإذا وصل إلى القبر فارقه محبوبه، فجعلت محبوبي حسناتي لتكون في القبر معي. وأما الثانية: فإني نظرت إلى قوله تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] فأجهدتها فى دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله تعالى. وأما الثالثة: فإني رأيت كل من معه شئ له قيمة عنده يحفظه، ثم نظرت فى قوله سبحانه وتعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] فكلما وقع معي شئ له قيمة، وجهته إليه ليبقى لي عنده. وأما الرابعة: فإني رأيت الناس يرجعون إلى المال والحسب والشرف، وليست

بشئ، فنظرت فى قوله الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فعملت فى التقوى لأكون عنده كريماً. وأما الخامسة: فأنى رأيت الناس يتحاسدون، فنظرت فى قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32] فتركت الحسد. والسادسة: رأيتهم يتعادون، فنظرت فى قول الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] فتركت عدواتهم واتخذت الشيطان وحده عدواً. والسابعة: رأيتهم يذلون أنفسهم، فنظرت فى قول تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فاشتغلت بما له علي وتركت ما لى عنده. والثامنة: رأيتهم متوكلين على تجارتهم وصنائعهم وصحة أبدانهم، فتوكلت على الله تعالى. ... ومن صفات علماء الآخرة: أن يكونوا منقبضين عن السلاطين، محترزين من مخالطتهم. قال حذيفة رضى الله عنه: إياكم ومواقف الفتن. قيل: وما هي؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه. وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء، فاحذروا منه فإنه لص. وقال بعض السلف: إنك لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينك أفضل منه. ومن صفات علماء الآخرة: أن لا يسترعوا إلى الفتوى، وأن لا يفتوا إلا بما يتيقنون صحته. وقد كان السلف يتدافعون الفتوى حتى ترجع إلى الأول. وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى رحمه الله: أدركت فى هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما أحد يسأل عن حديث أو فتوى إلا وَدَّ أن أخاه كفاه ذلك. ثم قال آل الأمر إلى إقدام أقوام يدعون العلم اليوم، يقدمون على

الجواب في مسائل لو عرضت لعمر بن الخطاب رضى الله عنه لجمع أهل بدر. واستشارهم. ومن صفاتهم: أن يكون أكثر بحثهم فى علم الأعمال عما يفسدها ويكدر القلوب ويهيج الوساوس، فإن صور الأعمال قريبة سهلة، وإنما التعب فى تصفيتها. وأصل الدين: التوقي من الشر، ولا يصح أن يتوقى حتى يعرف. ومن صفاتهم: البحث عن أسرار الأعمال الشرعية، والملاحظة لحكمها. فان عجز عن الاطلاع على العلة كفاه التسليم للشرع. ومن صفاتهم: اتباع الصحابة وخيار التابعين، وتوقى كل محدث.

كتاب: الطهارة وأسرارها والصلاة وما يتعلق بها

كتاب: الطهارة وأسرارها والصلاة وما يتعلق بها اعلم: أن الطهارة لها أربع مراتب: الأولى: تطهير الظاهر من الأحداث والأنجاس والفضلات. والثانية: تطهير الجوارح من الذنوب والآثام. والثالثة: تطهير القلب من الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة. والرابعة: تطهير السر عما سوى الله تعالى، وهذا هو الغاية القصوى، فمن قويت بصيرته سمت إلى هذا المطلوب، ومن عميت بصيرته لم يفهم من مراتب الطهارة إلا المرتبة الأولى، فتراه يضيع أكثر زمانه الشريف فى المبالغة فى الاستنجاء وغسل الثياب، ظناً منه بحكم الوسوسة وقلة العلم أن الطهارة المطلوبة هي هذه فقط، وجهلاً بسير المتقدمين الذين كانوا يستغرقون الزمان فى تطهير القلوب ويتساهلون فى أمر الظاهر، كما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه توضأ من جرة نصرانية، وكانوا لا يكادون يغسلون أيديهم من الزُّهم (¬1) ويصلون على الأرض، ويمشون حفاة، ويقتصرون فى الاستجمار على الأحجار. وقد انتهى الأمر إلى قوم يسمون الرعونة (¬2) نظافة، فترى أكثر زمانهم يمضى فى تزيين الظواهر، وبواطنهم خراب محشوة بخبائث الكبر، والعجب، والجهل، والرياء والنفاق. ولو رأوا مقتصرا فى الاستجمار على الحجر، أو حافياً يمشى على الأرض، أو من يصلى عليها من غير حائل، أو متوضأ من آنية عجوز، لأنكروا عليه أشد الإنكار، ولقبوه بالقذر، واستنكفوا من مؤاكلته. فانظر كيف جعلوا البذاذة (¬3) التي هي من الإيمان قذارة، والرعونة نظافة، وصيروا المنكر معروفاً، والمعروف منكراً. لكن من قصد بهذه الطهارة النظافة ولم يسرف فى الماء، ولم يعتقد أن استعمال الماء الكثير أصل الدين، فليس ذلك بمنكر، بل هو فعل حسن. وليرجع فى معرفة الأنجاس والأحداث إلى كتب الفقه، فإن المقصود من هذا الكتاب الآداب. ¬

(¬1) الوسخ الدسم. (¬2) الحماقة. (¬3) رثاثة الهيئة، أراد التواضع فى اللباس وترك التبجح.

1 ـ فصل [في فضائل الصلاة]

وأما إزالة الفضلات فهي نوعان: [النوع الأول]: أوساخ تزال، كالذي يجتمع فى الرأس من الوسخ والدرن، فيستحب تنظيفه بالغسل والترجيل (¬1) والتدهين لإزالة الشعث، وكذلك ما يجتمع فى الأذن من الوسخ يستحب إزالته. ويستحب التسوك والمضمضة لإزالة ما على الاثنان واللسان من القلح (¬2)،وكذلك وسخ البراجم (¬3) والدرن الذى يجتمع على جميع البدن برشح العرق وغبار الطريق، وذلك يزيله الغسل. ولا بأس بدخول الحمام، فانه أبلغ فى الإزالة، وقد دخله جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن على داخله صيانة عورته من نظر الغير إليها ولمسه إياها. وينبغى للداخل إليه أن يتذكر بحرارته حر النار، فان فكرة المؤمن لا تزال تجول فى كل شئ من أمور الدنيا فيذكر به أمور الآخرة، لأن الغالب على المؤمن أمر الآخرة، وكل إناء ينضح بما فيه. ألا ترى أنه لو دخل إلى دار -معمورة- بَزَّاز، ونجار، وبناء، وحائك، رأيت البزاز ينظر إلى الفرش يتأمل قيمتها، والحائك ينظر إلى نسج الثياب، والنجار ينظر إلى سقف الدار والبناء ينظر إلى الحائط، فكذلك المؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن سمع صوتا هائلا تذكر نفخة الصور، وإن رأى نعيماً تذكر نعيم الجنة، وإن رأى عذاباً ذكر النار. ويكره دخول الحمام قريباً من الغروب وبين العشاءين، فانه وقت انتشار الشياطين. النوع الثاني من إزالة الفضلات: أجزاء تحذف، مثل قص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الأظافر. ويكره نتف الشيب، ويستحب خضابه. وبأبقى مراتب الطهارة يأتى فى ربع المهلكات والمنجيات إن شاء الله تعالى. 1 ـ فصل [في فضائل الصلاة] وأما الصلاة فإنها عماد الدين وغرة الطاعات. وقد ورد فى فضائل الصلاة أخبار ¬

(¬1) ترجيل الشعر، إرساله بمشط. (¬2) وسخ الأسنان. (¬3) عقد أصابع اليدين.

كثيرة مشهورة، ومن أحسن آدابها الخشوع. وقد روى عن عثمان [بن عفان] رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله". وله فى حديث أيضا عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه". وكان [عبد الله] ابن الزبير رضى الله عنهما إذا قام فى الصلاة كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذع حائط، وصلى يوماً فى الحِجْر (¬1) فجاء حجر قذافة (¬2) فذهب ببعض ثوبه فما انفتل. وقال ميمون بن مهران: ما رأيت مسلم ين يسار ملتفتاً فى صلاة قط، ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها، وإنه لفى المسجد يصلى فما التفت، وكان أهل بيته إذا دخل المنزل سكتوا، فإذا قام إلى الصلاة تكلموا وضحكوا. وكان على بن الحسن رضى الله عنهما إذا توضأ اصفر لونه، فقيل له: ما هذا الذى يعتادك عند الوضوء؟ فقال: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ وأعلم: أن للصلاة أركانا وواجبات وسنناً، وروحها النية والإخلاص والخشوع وحضور القلب، فان الصلاة تشتمل على أذكار ومناجاة وأفعال، ومع عدم حضور القلب لا يحصل المقصود بالأذكار والمناجاة، لأن النطق إذا لم يُعِربُ عما فى الضمير كان بمنزلة الهذيان، وكذلك لا يحصل المقصود من الأفعال، لأنه إذا كان المقصود من القيام الخدمة، ومن الركوع والسجود الذل والتعظيم، ولم يكن القلب حاضراً، لم يحصل المقصود، فان الفعل متى خرج عن مقصوده بقى صورة لا اعتبار بها، قال الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] والمقصود أن الواصل إلى الله سبحانه وتعالى هو الوصف الذى استولى على القلب حتى حمل على امتثال الأوامر المطلوبة، فلا بد من حضور القلب فى الصلاة، ولكن سامح الشارع فى غفلة تطرأ لأن حضور القلب فى أولها ينسحب حكمه على باقيها. ¬

(¬1) الحجر: حطيم الكعبة. (¬2) القذافة: المنجنيق.

والمعاني التي تتم بها حياة الصلاة كثيرة. المعنى الأول: حضور القلبكما ذكرنا، ومعناه أن يفرغ القلب من غير ما هو ملابس له، وسبب ذلك الهمة، فإنه متى أهمك أمر حضر قلبك ضرورة فلا علاج لإحضاره إلا صرف الهمة إلى الصلاة، وانصراف الهمة يقوى ويضعف بحسب قوة الإيمان بالآخرة واحتقار الدنيا، فمتى رأيت قلبك لا يحضر فى الصلاة، فاعلم أن سببه ضعف الإيمان، فاجتهد فى تقويته. والمعنى الثاني: التفهم لمعنى الكلام فإنه أمر وراء حضور القلب، لأنه ربما كان القلب حاضراً مع اللفظ دون المعنى، فينبغي صرف الذهن إلى إدراك المعنى بدفع الخواطر الشاغلة وقطع موادها، فان المواد إذا لم تنقطع لم تنصرف الخواطر عنها. والمواد، إما ظاهرة: وهى ما يشغل السمع والبصر، وإما باطنة: وهو أشد كمن تشعبت به الهموم فى أودية الدنيا، فإنه لا ينحصر فكره فى فن واحد، ولم يغنه غض البصر، لأن ما وقع فى القلب كاف فى الاشتغال به. وعلاج ذلك إن كان من المواد الظاهرة، بقطع ما يشغل السمع والبصر، وهو القرب من القبلة، والنظر إلى موضع سجوده، والاحتراز فى الصلاة من المواضع المنقوشة، وأن لا يترك عنده ما يشغل حسه، فإن النبى صلى الله عليه وآله وسلم لما صلى فى انبجانية (¬1) لها أعلام نزعها وقال: "إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي". وإن كان من المواد الباطنة، فطريق علاجه أن يرد النفس قهراً إلى ما يقرأ فى الصلاة ويشغلها به عن غيره، ويستعد لذلك قبل الدخول فى الصلاة، بأن يقضى أشغاله، ويجتهد فى تفريغ قلبه ويجدد على نفسه ذكر الآخرة وخطر القيام بين يدي الله عز وجل وهول المطلع، فان لم تسكن الأفكار بذلك، فليعلم أنه إنما يتفكر فيما أهمه واشتهاه، فليترك تلك الشهوات وليقطع تكل العلائق. واعلم: أن العلة متى تمكنت لا ينفعها إلا الدواء القوى، والعلة إذا قويت جاذبت المصلى وجاذبها إلى أن تنقضي الصلاة فى المجاذبة، ومثل ذلك كمثل رجل تحت شجرة أراد أن يصفو له فكره، وكانت أصوات العصافير تشوش عليه وفى يده ¬

(¬1) بكسر الياء ويروى بفتحها: كساء منسوب إلى منبج بكسر الياء: مدينة من أعمال حلب، وفتحت فى النسب وقيل: إلى موضع اسمه انبجان.

خشبة يطيرها بها، فما يستقر فكره حتى تعود العصافير فيشتغل بها، فقيل له: هذا شئ لا ينقطع، فإن أردت الخلاص فاقطع الشجرة، فكذلك شجرة الشهوة إذا علت وتفرقت أغصانها انجذبت أليها الأفكار كانجذاب العصافير إلى الأشجار والذباب إلى الأقذار، فذهب العمر النفيس فى دفع ما لا يندفع، وسبب هذه الشهوات التي توجب هذه الأفكار حب الدنيا. قيل لعامر بن عبد قيس رحمه الله: هل تحدثك نفسك بشيء من أمور الدنيا فى الصلاة؟ فقال: لأن تختلف الأسنة في أحبُّ إلي من أجد هذا. واعلم: أن قطع حب الدنيا من القلب أمر صعب وزواله بالكلية عزيز، فليقع الاجتهاد فى الممكن منه، والله الموفق والمعين. المعنى الثالث: التعظيم لله والهيبة، وذلك يتولد من شيئين: معرفة جلال الله تعالى وعظمته، ومعرفة حقارة النفس وأنها مستعبدة، فيتولد من المعرفتين: الاستكانة، والخشوع. ومن ذلك الرجاء: فانه زائد على الخوف، فكم من معظم ملكاً يهابه لخوف سطوته كما يرجو بره. والمصلى ينبغي أن يكون راجياً بصلاته الثواب، كما يخاف من تقصيره العقاب. وينبغى للمصلى أن يحضر قلبه عند كل شئ من الصلاة، فإذا سمع نداء المؤذن فليمثل النداء للقيامة ويشمر للاجابة، ولينظر ماذا يجيب، وبأي بدن يحضر. وإذا ستر عورته فليعلم أن المراد من ذلك تغطية فضائح بدنه عن الخلق، فليذكر عورات باطنه وفضائح سره التي لا يطلع عليها إلا الخالق، وليس لها عنه ساتر، وأنها يكفرها الندم، والحياء، والخوف. وإذا استقبل القبلة فقد صرف وجهه عن الجهات إلى جهة بيت الله تعالى، فصرف قلبه إلى الله تعالى أولى من ذلك، فكما أنه لا يتوجه إلى جهة البيت إلا بالانصراف عن غيرها، كذلك القلب لا ينصرف إلى الله تعالى إلا بالانصراف عما سواه. إذا كبرت أيها المصلى، فلا يكذبن قلبك لسانك، لأنه إذا كان فى قلبك أكبر من الله تعالى قد كذبت، فاحذر أن يكون الهوى عندك أكبر بدليل إيثارك موافقته على طاعة الله تعالى.

2 ـ فصل في آداب تتعلق بصلاة الجمعة ويوم الجمعة

فإذا استعذت، فاعلم أن الاستعاذة هي لجأ إلى لله سبحانه، فإذا لم تلجأ بقلبك كان كلامك لغواً، وتفهم معنى ما تتلو، وأحضر التفهم بقلبك عند قولك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، واستحضر لطفه عند قولك: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وعظمته عند قولك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} , وكذلك فى جميع ما تتلو. وقد روينا عن زرارة بن أبى أوفى رضى الله عنه أنه قرأ فى صلاته: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] فخر ميتاً، وما ذاك إلا لأنه صور تلك الحال فأثرت عنده التلف. واستشعر فى ركوعك التواضع، وفى سجودك الذل، لأنك وضعت النفس موضعها، ورددت الفرع إلى أصله بالسجود على التراب الذى خلقت منه وتفهم منه معنى الأذكار بالذوق. واعلم: أن أداء الصلاة بهذه الشروط الباطنة سبب لجلاء القلب من الصدأ، وحصول الأنوار فيه التي بها تتلمح عظمى المعبود، وتطلع على أسراره وما يعقلها إلا العالمون. فأما من هو قائم بصورة الصلاة دون معانيها، فانه لا يطلع على شئ من ذلك بل ينكر وجوده. 2 ـ فصل في آداب تتعلق بصلاة الجمعة ويوم الجمعة وهى نحو من خمسة عشر: أحدها: أن يستعد لها من يوم الخميس وفى ليلة الجمعة، بالتنظيف، وغسل الثياب، وإعداد ما يصلح لها. الثاني: الاغتسال فى يومها، كما فى الأحاديث فى "الصحيحين" وغيرهما. والأفضل فى الاغتسال أن يكون قبيل الرواح إليها. الثالث: التزين بتنظيف البدن، وقص الأظفار، والسواك، وغير ذلك مما تقدم من إزالة الفضلات، ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه. الرابع: التبكير إليها ماشياً. وينبغى للساعى إلى الجامع أن يمشى بسكون وخشوع، وينوى الاعتكاف في

المسجد إلى وقت خروجه. الخامس: أن لا يتخطى رقاب الناس ولا يفرق بين اثنين إلا أن يرى فرجة فيتخطى إليها. السادس: أن لا يمر بين يدي المصلى. السابع: أن يطلب الصف الأول، إلا أن يرى منكراً أو يسمعه فيكون له فى التأخر عذراً. الثامن: أن يقطع النفل من الصلاة والذكر عند خروج الإمام، ويشتغل بإجابة المؤذن، ثم بسماع الخطبة. التاسع: أن يصلى السنة بعد الجمعة إن شاء ركعتين، وإن شاء أربعاً، وإن شاء ستاً. العاشر: أن يقيم فى المسجد حتى يصلى العصر، وإن أقام إلى المغرب فهو أفضل. الحادى عشر: أن يراقب الساعة الشريفة التي فى يوم الجمعة بإحضار القلب وملازمة الذكر. واختلف في هذه الساعة، ففى أفراد مسلم من حديث أبى موسى رضى الله عنه: أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة. وفى حديث آخر: هي ما بين فراغ الإمام من الخطبة إلى أن تقضى الصلاة (¬1). وفى حديث جابر رضى الله عنه: أنها آخر ساعة بعد العصر. وفى حديث أنس رضى الله عنه قال: التمسوها ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. وقال أبو بكر الأثرم رحمه الله: لا تخلو هذه الأحاديث من وجهين: إما أن يكون بعضها أصح من بعض، وإما أن تكون هذه الساعة تنتقل فى الأوقات كتنقل ليلة القدر فى ليالي العشر. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (852) فى الجمعة: باب فى الساعة التي فى يوم الجمعة من حديث بن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أبى بردة بن أبى موسى، عن أبى موسى. وقد أعل بالانقطاع والاضطراب، أما الانقطاع، فلأن مخرمة بن بكير لم يسمع من أبية ... وأما الإضطراب، فقد رواه أبو إسحاق وواصل الأحدب ومعاوية بن قرة وغيرهم عن أبى بردة من قوله، وهؤلاء من أهل الكوفة وأبو بردة كوفى، فهم أعلم بحديثه من بكير المدني، وهم عدد وهو واحد، ولذا جزم الدارقطني بأن الموقوف هو الصواب، وحديث جابر أنها أخر ساعة بعدى العصر أخرجه أبو داود (1048) والنسائي 3/ 93،100 وسنده جيد، وصححه الحاكم 1/ 279 ووافقه الذهبى، وصححه أيضا النووي وحسنه الحافظ ابن حجر، ويشهد له حديث أنس الذى أورده المؤلف بعده.

الثاني عشر: أن يكثر من الصلاة على النبى صلى الله عليه وآله وسلم في هذا اليوم، فقد روى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من صلى على فى يوم الجمعة ثمانين مرة غفر الله ذنوب ثمانين سنة" (¬1). وإن أحب زاد فى الصلاة عليه الدعاء له، كقوله: "اللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه المقام المحمود الذى وعدته، اللهم اجز نبينا عنا ما هو أهله". وليضف إلى الصلاة الاستغفار، فانه مستحب فى ذلك اليوم. الثالث عشر: أن يقرأ سورة الكهف، فقد جاء فى حديث من رواية عائشة رضى الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أحدثكم بسورة ملأ عظمها ما بين السماء والأرض، ولكاتبها من الأجر مثل ذلك، ومن قرأها يوم الجمعة غفر له ما بينها وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، ومن قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله تعالى أي الليل (¬2) شاء" قالوا: بلى يا رسول الله: قال "سورة الكهف" (¬3). وروى فى حديث آخر: "أن من قرأها فى يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وفى الفتنة". ويستحب أن يكثر من قراءة القرآن فى يوم الجمعة، وأن يختم فيه أو فى ليلة الجمعة إن قدر. ¬

(¬1) أورده السخاوي في "القول البديع" ص 194 ونسبه للتيمي في "ترغيبه" وأبي الشيخ ابن حبان في بعض أجزائه، والديلمي في "مسنده" وسنده ضعيف ويغني عنه حديث أوس بن أوس مرفوعًا "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي" أخرجه أبو داود (1047) وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (550) والحاكم 1/ 278، ووافقه الذهبي. وحديث أبى بن كعب قلت: "يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعلك لك من صلاتي؟ قال: ما شئت، قلت: الربع؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير، قلت: النصف، قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير، قلت: الثلثين، قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير، قلت: النصف، قال ما شئت، وإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذاً تكفى همك. ويغفر لك ذنبك" أخرجه الترمذى (2459) وهو حديث صحيح خرجناه فى "جلاء الأفهام فى الصلاة على خير الأنام" لابن القيم طبع مكتبة دار البيان بدمشق. صفحة (45). (¬2) أي جزء من الليل. (¬3) قال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" ص 311 بعد أن ذكره: وهو حديث طويل موضوع. ويغني عنه الحديث الذي بعده.

3 ـ فصل فى ذكر النوافل

الرابع عشر: أن يتصدق فى يوم الجمعة بما أمكن، ولتكن صدقته خارج المسجد. ويستحب أن يصلى صلاة التسبيح فى يوم الجمعة. الخامس عشر: يستحب أن يجعل يوم الجمعة لأعمال الآخرة، ويكف عن جميع أشغال الدنيا. 3 ـ فصل فى ذكر النوافل اعلم: أن ما عدا الفرائض من الصلاة ثلاثة أقسام: سنن، ومستحبات، وتطوعات. ونعنى بالسنة: ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المواظبة عليه، كالرواتب عقيب الفرائض والوتر والضحى. ونعنى بالمستحب: ما ورد الخبر بفضله ولم ينقل بالمواظبة عليه، كالصلاة عند دخول المنزل والخروج منه. ونعنى بالتطوعات: ما وراء ذلك مما لم يرد به خبر، لكن العبد يتطوع بفعله، وتسمى هذه الأقسام الثلاثة: نوافل، لأن النفل هو زيادة، وهذه زيادة على الفرائض. واعلم: أن أفضل تطوعات البدن: الصلاة. وأقسام النوافل وفضائلها مشهورة مذكورة فى كتب الفقه وغيرها، لكن نذكر منها صلاة التسبيح، لأنها قد تخفى صفتها على بعض الناس. فروى عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال للعباس "يا عماه: ألا أعطيك، ألا أعلمك -وذكر الحديث إلى أن قال-: "تصلى أربع ركعات، تقرأ فى كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة فى أول ركعة وأنت قائم قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشراً، ثم ترفع رأسك عن الركوع فتقولها عشراً، ثم تهوى ساجداً فتقولها وأنت ساجد عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً قبل أن تقوم، فذلك خمس وسبعون، تفعل ذلك فى أربع ركعات إن استطعت أن تصليها

4 ـ فصل [فى أوقات النهي عن الصلاة]

في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل، ففى كل جمعة مرة، فإن لم تفعل، ففى كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففى كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففى عمرك مرة". 4 ـ فصل [فى أوقات النهي عن الصلاة] ولا يتطوع فى أوقات النهى بصلاة لا سبب لها كصلاة التسبيح، لأن النهى مؤكد فيها عن الصلاة، وهذه الأشياء ضعيفة فلا تقاومه. وأما ما له سبب، كتحية المسجد، وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحوها، فعلى روايتين. واعلم: أن النهى عن الصلاة فى الأوقات الثلاثة له ثلاثة أسرار. أحدها: ترك التشبه بعباد الشمس. الثاني: التحذير من السجود لقرن الشيطان، فإن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زلت الشمس فارقها، فإذا تضيفت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها. الثالث: إن سالكي طريق الآخرة مواظبون على العبادات، والمواظبة على نمط واحد يورث الملل، فإذا وقع المنع زاد النشاط، لأن النفس حريصة على ما منعت منه، فمنع الإنسان من الصلاة فى أوقات النهى، ولم يمنع من نوع آخر من التعبد، كالقراءة، والتسبيح لينتقل العابد من حال إلى حال، كما جعلت الصلاة متنوعة بين قيام وقعود وركوع وسجود، والله أعلم.

كتاب الزكاة وأسرارها وما يتعلق بها

كتاب الزكاة وأسرارها وما يتعلق بها الزكاة: أحد مباني الإسلام، وقد قرنها الله سبحانه وتعالى بالصلاة، فقال تعالى: {وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة} [البقرة: 43]. أما أنواع الزكاة، وأقسامها، وأسباب وجوبها، فظاهر مشهور في مظانه من كتب الفقه، وإنما نذكر هاهنا بعض الشروط والآداب. فمن الشروط أن يخرج المنصوص عليه، ولا يخرج القيمة في الصحيح، فإن من أجاز إخراج القيمة إنما تلمح سد الخلة فقط، وسد الخلة ليس هو كل المقصود بل بعضه، فإن واجبات الشرع ثلاثة أقسام: القسم الأول: تعبد محض، كرمي الجمار، فمقصود الشرع فيه الابتلاء، بالعمل ليظهر عبودية العبد بفعل ما لا يعقل له معنى، لأن ما يعقل معناه يساعد عليه الطبع ويدعو إليه، فلا يظهر خلوص العبودية به، بخلاف ما ذكرنا. والقسم الثاني: عكس ذلك، وهو ما لا يقصد منه التعبد، بل المقصود منه حضُّ محض، كقضاء دين الآدميين، ورد المغصوب ونحو ذلك، وكذلك لا تعتبر فيه النية ولا الفعل، بل كيفما وصل الحق إلى مستحقه حصل المقصود وسقط خطاب الشرع، فهذان قسمان لا تركيب فيهما. وأما القسم الثالث: فهو المركب، وهو أن يقصد منه الأمران جميعاً: امتحان المكلف، وحظ العباد، فيجتمع فيه تعبد رمى الجمار، وحظ رد الحقوق، فلا ينبغي أن ينسى أدق المعنيين وهو التعبد، ولعل الأدق هو الأهم، والزكاة من هذا القبيل، فحظ الفقير مقصود في سد الخلة، وحق التعبد مقصود الشرع في اتباع التفاصيل، وبهذا الاعتبار صارت الزكاة قرينة للصلاة والحج، والله أعلم. 1 ـ فصل في دقائق الآداب الباطنة في الزكاة اعلم: أن على مريد الآخرة في زكاته وظائف: الأولى: أن يفهم المراد من الزكاة، وهو ثلاثة أشياء: ابتلاء مدعى محبة الله تعالى بإخراج محبوبه، والتنزه عن صفة البخل المهل، وشكر نعمة المال.

الوظيفة الثانية: الإسرار بإخراجهالكونه أبعد من الرياء والسمعة، وفى الإظهار إذلال للفقير أيضاً، فان خاف أن يتهم بعدم الإخراج أعطى من لا يبالى من الفقراء بالأخذ بين الجماعة علانية، وأعطى غيره سراً. الوظيفة الثالثة: أن لا يفسدها المن والأذى، وذلك أن الإنسان إذا رأى نفسه محسناً إلى الفقير، منعماً بالإعطاء، ربما حصل منه ذلك، ولو حقق النظر لرأى الفقير محسناً إليه بقبول حق الله الذي هو طهرة له. وإذا استحضر مع ذلك أن إخراجه للزكاة شكر لنعمة المال، فلا يبقى بينه وبين الفقير معاملة. ولا ينبغي أن يحتقر الفقير لفقره، لأن الفضل ليس بالمال ولا النقص بعدمه. الوظيفة الرابعة: أن يستصغر العطية، فإن المستعظم للفعل معجب به. وقد قيل: لا يتم المعروف إلا بثلاث: بتصغيره، وتعجيله، وستره. الوظيفة الخامسة: أن ينتقى من ماله أحله وأجوده وأحبه إليه، أما الحل، فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً. وأما الأجود. فقد قال الله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]. وينبغى أن يلاحظ في ذلك أمرين: أحدهما: حق الله سبحانه وتعالى بالتعظيم له، فانه أحق من اختير له، ولو أن الإنسان قدم إلى ضيفه طعاماً رديئاً لأوغر صدره. والثاني: حق نفسه، فإن الذي يقدمه هو الذي يلقاه غداً في القيامة، فينبغي أن يختار الأجود لنفسه. وأما أحبه إليه، فلقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. وكان ابن عمر رضى الله عنهما إذا اشتد حبه لشيء من ماله قربه لله عز وجل وروى: أنه نزل الجحفة وهو شاك، فقال: إني لأشتهى حيتاناً، فالتمسوا له فلم يجدوا حوتا، فأخذته امرأته فصنعته ثم قربته إليه، فأتى بمسكين، فقال ابن عمر رضى الله عنه: خذه، فقال له أهله سبحان الله، قد عنيتنا ومعنا زاد نعطيه، فقال: إن عبد الله يحبه.

وروى أن سائلا وقف بباب الربيع بن خثيم رحمة الله عليه فقال: أطعموه سكراً، فقالوا: نطعمه خبزاً أنفع له فقال: ويحكم أطعموه سكراً، فإن الربيع يحب السكر. الوظيفة السادسة: أن يطلب لصدقته من تزكو به، وهم خصوص من عموم الأصناف الثمانية، ولهم صفات: الأولى: التقوى، فليخص بصدقته المتقين، فإنه يرد بها هممهم إلى الله تعالى. وقد كان عامر بن عبد الله بن الزبير يتخير العباد وهم سجود، فيأتيهم بالصرة فيها الدنانير والدراهم، فيضعها عند نعالهم بحيث يحسون بها ولا يشعرون بمكانه، فقيل له: ما يمنعك أن ترسل بها إليهم؟ فيقول: أكره أن يتمعر وجه أحدهم إذا نظر إلى رسول أو لقيني. الثانية: العلم، فإن في إعطاء العالم إعانة على العلم ونشر الدين، وذلك تقوية للشريعة. الثالثة: أن يكون ممن يرى الإنعام من الله وحده، ولا يلتفت إلى الأسباب إلا بقدر ما ندب إليه من شكرها، فأما الذي عادته المدح عند العطاء، فانه سيذم عند المنع. الرابعة: أن يكون صائناً لفقرة، ساترا لحاجته، كاتما للشكوى، كما قال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273]. وهؤلاء لا يحصلون في شبكة الطالب إلا بعد البحث عنهم، وسؤال أهل كل محلة عمن هذه صفته. الخامسة: أن يكون ذا عائلة، أو محبوساً لمرض أو دين، فهذا من المحصرين، والتصدق عليه إطلاق لحصره. السادسة: أن يكون من الأقارب وذوى الأرحام، فإن الصدقة عليهم صدقة وصلة، ولك من جمع من هذه الخلال خلتين أو أكثر، كان إعطاؤه أفضل على قدر ما جمع.

2 ـ فصل في آداب القابض

2 ـ فصل في آداب القابض لابد أن يكون آخذ الزكاة من الأصناف الثمانية، وعليه في ذلك وظائف. [الوظيفة الأولى]: أن يفهم أن الله تعالى إنما أوجب صرف الزكاة إليه ليكفيه ما أهمه، ويجعل همومه هماً واحداً في طلب رضى الله عز وجل. [الوظيفة الثاني] أن يشكر المعطى ويدعو له ويثنى عليه، وليكن ذلك بمقدار شكر السبب، فان من لم يشكر الناس لم يشكر الله، كما ورد في الحديث. ومن تمام الشكر أن لا يحتقر العطاء وإن قل، ولا يذمه، ويغطى ما فيه من عيب. وكما أن وظيفة الُمعطي الاستصغار فوظيفة المعطى الاستعظام، وكل ذلك لا يناقض رؤية النعمى من الله عز وجل. فإن من لا يرى الواسطة واسطة، فهو جاهل، وإنما المنكر أن يرى الواسطة أصلاً. الوظيفة الثالثة: أن ينظر فيما يعطاه، فان لم يكن حِلًّ لم يأخذه أصلاً، لأن إخراج مال الغير ليس بزكاة، وإن كان من شبهة تورع عنه، إلا أن يضيق عليه الأمر، فمن كان أكثر كسبه حراماً، فأخرج الزكاة ولم يعرف لما أخرجه مالك معين، كانت الفتوى فيه أن يتصدق به (¬1)، فيجوز لهذا الفقير أن يأخذ قدر حاجته عند ضيق الأمر عليه وعجزه عن الصافي. الوظيفة الرابعة: أن يتوقى مواقع الشبه في قدر ما يأخذ، فيأخذ القدر المباح له، ولا يأخذ أكثر من حاجته. فان كان غارماً لم يزد على مقدار الدين، أو غازياً لم يأخذ إلا مقدار ما يحتاج إليه، وإن أخذ بالمسكنة أخذ قدر حاجته دون ما يتسغنى عنه، وكل ذلك موكول إلى اجتهاده والورع ترك ما يريب. واختلف العلماء في قدر الغنى المانع من الزكاة، والصحيح فيه أن يكون له كفاية على الدوام، إما من تجارة، أو صناعة، أو أجر عقار، أو غير ذلك، وإن كان له بعض الكفاية أخذ ما يتممها، وإن لم يكن له ذلك أخذ ما يكفيه. وليكن ما يأخذه بقدر ما يكفى سنته ولا يزيد على ذلك، وإنما اعتبر بالسنة، لأنها ¬

_ (¬1) عبارة الغزالى: إذا ضاق الأمر عليه "أي الأخذ" وكان ما يسلم إليه لا يعرف له مالكاً معيناً فله أن يأخذ بقدر الحاجة، فإذا أخذ لم يكن أخذ زكاة، إذ لا يقع زكاة عن مؤديه وهو حرام.

3 ـ فصل في صدقة التطوع وفضلها وآدابها

إذا ذهبت جاء وقت الأخذ، وإذا أخذ الأكثر منها ضيق على الفقراء. 3 ـ فصل في صدقة التطوع وفضلها وآدابها أما فضائل الصدقة فهي كثيرة مشهورة: منها: ماروى البخاري من حديث ابن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر". وفى "الصحيحين" من رواية أبى هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال"من تصدق بعدل (¬1) تمرة من كسب طيب -ولا يصعد إلى الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربى أحدكم فلوه (¬2) حتى تكون مثل الجبل". وفى حديث آخر: " إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتقى ميتة السوء" (¬3). وفى حديث آخر: "تصدقوا فإن الصدقة فكاككم من النار" (¬4) وعن بريدة رضى الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما يخرج أحد شيئاً من الصدقة حتى يفك عنه لحى سبعين شيطاناً". وروى أن راهباً تعبد في صومعة ستين سنة، ثم نزل يوماً ومعه رغيف، فعرضت له امرأة فتكشفت له، فوقع عليها، فأدركه الموت وهو على تلك الحال، وجاء سائل فأعطاه الرغيف ومات، فجئ بعمل ستين سنة، فوضع في كفة وخطيئته في كفة، فرجحت بعمله، حتى جئ بالرغيف فوضع مع عمله، فرجح بخطيئته. وفى أفراد مسلم، من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه ¬

_ (¬1) أي بمثل. (¬2) أي المهر الصغير. وقيل: الصغير من أولاد ذوات الحافر. (¬3) سنده ضعيف، لكن في الباب ما هو صحيح عن أبي أمامة عند الطبراني بلفظ "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب". وعن أنس عند الحاكم بلفظ "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة". وعن أم سلمة عند الطبراني في "الأوسط". (¬4) إسناده ضعيف، تفرد به الحارث بن عمير وهو ضعيف أخرجه الطبرانى في "الأوسط" وأبو نعيم في "الحلية".

وآله وسلم أنه قال: "ما نقصت صدقة من مال". وروى عن عائشة رضى الله عنها أنهم ذبحوا شاة فقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: "ما بقى منها؟ " فقالت: ما بقى منها إلا كتفها، فقال: "بقى كلها إلا كتفها". وأما آدابها، فنحو ما تقدم في الزكاة. واختلفوا: أيما أفضل للفقير، أن يأخذ من الزكاة، أو من الصدقة. فقال قوم: من الزكاة أفضل، وقال آخرون من الصدقة أفضل. وأما أفضل الصدقة فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي الصدقة أفضل؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان" أخرجاه في "الصحيحين".

كتاب الصوم وأسراره ومهماته وما يتعلق به

كتاب الصوم وأسراره ومهماته وما يتعلق به أعلم: أن في الصوم خصيصة ليست فى غيره، وهى إضافته إلى الله عز وجل حيث يقول سبحانه (¬1): "الصوم لى وأنا أجزى به"، وكفى بهذه الإضافة شرفاً، كما شرف البيت بإضافته إليه فى قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26]. وإنما فضل الصوم لمعنيين: أحدهما: أنه سر وعمل باطن، لا يراه الخلق ولا يدخله رياء. الثاني: أنه قهر لعدو الله، لأن وسيلة العدو الشهوات، وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب، وما دامت أرض الشهوات مخصبة، فالشياطين يترددون إلى ذلك المرعى، وبترك الشهوات تضيق عليهم المسالك. وفى الصوم أخبار كثيرة تدل على فضله وهى مشهورة. 1 ـ فصل فى سنن الصوم يستحب السحور، وتأخيره، وتعجيل الفطر، وأن يفطر على التمر. ويستحب الجود في رمضان، وفعل المعروف، وكثرة الصدقة، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ويستحب دراسة القرآن، والاعتكاف فى رمضان: لا سيما فى العشر الأواخر، وزيادة الاجتهاد فيه. وفى "الصحيحين" من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: كان النبى صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل العشر [يعنى الأخير]، شد مئزره، وأحيا الليل، وأيقظ أهله. وذكر العلماء في معنى شد المئزر وجهين: أحدهما: أنه الإعراض عن النساء. الثاني: أنه كناية عن الجد والتشمير فى العمل. قالوا: وكان سبب اجتهاده فى العشر طلب ليلة القدر. ¬

(¬1) أي فى الحديث القدسي.

2 ـ بيان أسرار الصوم وآدابه

2 ـ بيان أسرار الصوم وآدابه وللصوم ثلاث مراتب: صوم العموم. وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. فأما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة. وأما صوم الخصوص: فهو كف النظر، واللسان، واليد، والرجل، والسمع، والبصر، وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص: فهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة، والأفكار المبعدة عن الله تعالى، وكفه عما سوى الله تعالى بالكلية، وهذا الصوم له شروح تأتى فى غير هذا الموضع. من آداب صوم الخصوص: غض البصر، وحفظ اللسان عما يؤذى من كلام محرم أو مكروه، أو ما لا يفيد، وحراسة باقي الجوارح. وفى الحديث من رواية البخارى، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه (¬1) ". ومن آدابه: أن لا يمتلئ من الطعام فى الليل، بل يأكل بمقدار، فانه ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطن. ومتى شبع أول الليل لم ينتفع بنفسه فى باقيه، وكذلك إذا شبع وقت السحر لم ينتفع بنفسه إلى قريب من الظهر، لأن كثرة الأكل تورث الكسل والفتور، ثم يفوت المقصود من الصيام بكثرة الأكل، لأن المراد منه أن يذوق طعم الجوع، ويكون تاركا للمشتهى. فأما صوم التطوع، فاعلم أن استحباب الصوم يتأكد فى الأيام الفاضلة، وفواضل الأيام بعضها يوجد فى كل سنة، كصيام ستة أيام من شوال بعد رمضان، وكصيام يوم عرفة، ويوم عاشوراء، وعشر ذي الحجة، والمحرم. وبعضها يتكرر في كل شهر، كأوله، وأوسطه، وآخره، فمن صام أول الشهر ¬

_ (¬1) المعنى أن الله لا يبالى بعلمه ولا ينظر إليه، لانه أمسك عما أبيح له فى غير وقت الصوم ولم يمسك عما حرم عليه فى سائر الأحايين.

وأوسطه وآخره فقد أحسن. غير أن الأفضل أن يجعل الثلاثة أيام البيض. وبعضها يتكرر في كل أسبوع وهو يوم الاثنين، ويوم الخميس. وأفضل صوم التطوع صوم داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وذلك يجمع الثلاثة معان: أحدها: أن النفس تعطى يوم الفطر حظها، وتستوفى فى يوم الصوم تعبدها، وفى ذلك جمع بين ما لها وما عليها، وهو العدل. والثاني: أن يوم الأكل يوم شكر، ويوم الصوم يوم صبر، والإيمان نصفان: شكر وصبر. والثالث: أنه أشق على النفس من المجاهدة، لأنها كلما أنست بحالة نقلت عنها. فأما صوم الدهر: ففى أفراد مسلم من حديث أبى قتادة رضى الله عنه أن عمر رضى الله عنه سأل النبى صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كيف بمن يصوم الدهر كله؟ فقال: "لا صام ولا أفطر -أو- لم يصم ولم يفطر" وهذا محمول على سرد الصوم فى الأيام المنهي عن صيامها: فأما إذا أفطر يومي العيدين وأيام التشريق فلا بأس بذلك. فقد روى عن هشام بن عروة رحمه الله أن أباه كان يسرد الصوم، وكانت عائشة رضى الله عنها تسرد. وقال أنس بن مالك رضى الله عنه، سرد أبو طلحة الصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعين عاماً. واعلم: أن من رزق فطنة، علم المقصود بالصوم، فحمل نفسه قد ما لا يعجزه عما هو أفضل منه. فقد كان ابن مسعود قليل الصوم، وكان يقول: إذا صمت ضعفت عن الصلاة وأنا أختار الصلاة على الصوم.

كتاب الحج وأسراره وفضائله وآدابه ونحو ذلك

وكان بعضهم إذا صام ضعف عن قراءة القرآن، فكان يكثر الفطر حتى يقدر على التلاوة، وكل إنسان أعلم بحاله وما يصلحه (¬1). كتاب الحج وأسراره وفضائله وآدابه ونحو ذلك ينبغي لمن أراد الحج أن يبدأ بالتوبة، ورد المظالم، وقضاء الديون، وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع، ويرد ما عنده من الودائع. ويستصحب من المال الحلال ما يكفيه لذهابه ورجوعه من غير تقتير، على وجه يمكنه معه التوسع بى الزاد، والرفق بالفقراء. ويستصحب ما يصلحه كالسواك، والمشط والمرآة، والمكحلة. ويتصدق بشئ قبل خروجه وإذا اكترى فليظهر للجمال كل ما يريد أن يحمله من قليل وكثير. وقد قال رجل لابن المبارك: احمل لى هذه الرقعة إلى فلان. فقال: حتى أستأذن الجمال. وينبغى أن يلتمس رفيقا صالحاً محباً للخير معيناً عليه، إن نسى ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن ضاق صدره صبره. وليؤمر الرفقاء عليهم أحسنهم خلقاً، وأرفقهم بالأصحاب، وإنما احتيج إلى التأمير لأن الآراء تختلف، فلا ينتظم التدبير، وعلى الأمير الرفق بالقوم، والنظر في مصالحهم، وأن يجعل نفسه وقاية لهم. وينبغى للمسافر تطيب الكلام، وإطعام الطعام، وإظهار محاسن الأخلاق، فإن السفر يخرج خفايا الباطن، ومن كان في السفر آذى هو مظنة الضجر حِسنَ الخلق، كان في الحضر أحسن خلقاً. ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في "التمهيد": كتب العمري العابد إلى مالك رحمه الله يحضه على الانفراد والعمل ويرغبه عن الاجتماع إليه في العلم، فكتب إليه مالك: إن الله تعالى قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له الصلاة. ونشر العلم وتعليمه من أشرف أعمال البر. وقد رضيت بما فتح الله عز وجل فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر، ويجب على كل منا أن يرضي بما قسم له والسلام.

1 ـ فصل في الآداب الباطنة والإشارة إلى أسرار الحج

وقد قيل: إذا أثنى على الرجل معاملوه بى الحضر ورفقاؤه في السفر فلا تشكوا في صلاحه. وينبغى له أن يودِّع رفقاءه وإخوانه المقيمين، ويلتمس أدعيتهم، ويجعل خروجه بكرة يوم الخميس، وليصل بى منزله ركعتين قبل الخروج منه ويستودع أهله وماله، ويستعمل الأدعية والأذكار والمأثورة عند خورجه من منزله، وفى ركوبه ونزوله، وهى مشهورة صفى كثير من الكتب في مناسك الحج، وكذلك جميع المناسك من الإحرام، والطواف والسعى، والوقوف بعرفة، وغير ذلك من أعمال الحج يأتى فيها بما ذكر من الأذكار والدعوات والآداب، وكل ذلك مستوفى في كتب الفقه وغيرها، فليطلب هناك. 1 ـ فصل في الآداب الباطنة والإشارة إلى أسرار الحج اعلم: أنه لا وصول إلى الله سبحانه وتعالى إلا بالتجرد والانفراد لخدمته، وقد كان الرهبان ينفردون في الجبال طلباً للأنس بالله، فجعل الحج رهبانية لهذه الأمة. فمن الآداب المذكورة، أن يكون خالياً في حجه من تجارة تشغل قلبه وتفرق همه، ليجتمع على طاعة الله تعالى، وأن يكون أشعث أغبر، رث الهيئة، غير مستكثر من الزينة. وينبغى أن يتجنب ركوب المحمل إلا من عذر، كمن لا يستمسك على الزاملة (¬1) فإن النبى صلى الله عليه وآله وسلم حج على راحلة وتحته رحل رث. وفى حديث جابر رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله عز وجل يباهي بالحاج الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادى، أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، أشهدكم أنى قد غفرت لهم". وقد شرف الله تعالى بيته وعظمه، ونصبه مقصداً لعباده، وجعل ما حوله حرماً له تفخيماً لأمره، وتعظيماً لشأنه، وجعل عرفة كالميدان على فنائه. واعلم: أن في كل واحد من أفعال الحج تذكرة للمتذكر، وعبرة للمعتبر. ¬

(¬1) هو البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع.

فمن ذلك: أن يتذكر بتحصيل الزاد زاد الآخرة من الأعمال، وليحذر أن تكون أعماله فاسدة من الرياء والسمعة فلا تصحبه ولا تنفعه، كالطعام الرطب الذي يفسد في أول منازل السفر، فيبقى صاحبه وقت الحاجة متحيراً، فإذا فارق وطنه ودخل البادية وشهد تلك العقبات، فليتذكر بذلك خروجه من الدنيا بالموت إلى ميقات القيامة وما بينهما من الأهوال. ومن ذلك: أن يتذكر وقت إحرامه وتجرده من ثيابه، إذا لبس المحرم الإحرام لبس كفنه، وأنه سيلقى ربه على جزى مخالف لزي أهل الدنيا، وإذا لبى فليستحضر بتلبيته إجابة الله تعالى إذ قال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، وليرج القبول، وليخش عدم الإجابة، وكذلك إذا وصل إلي الحرم ينبغي أن يكون الرجاء غالباً، لأن الكرم عميم، وحق الزائر مرعى، وذمام المستجير لا يضيع. ومن ذلك: إذا رأى البيت الحرام استحضر عظمته في قلبه، وشكر الله تعالى على تبليغه رتبة الوافدين إليه، وليستشعر عظمة الطواف به، فإنه صلاة، ويعتقد عند استلام الحجر أنه مبايع لله على طاعته، ويضم إلى ذلك عزيمته على الوفاء بالبيعة، وليتذكر بالتعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم لجأ المذنب إلى سيده وقرب المحب. وأنشد بعضهم في ذلك: ستور بيتك نيل الأمن منك وقد ... علقتها مستجيراً أيها الباري وما أظنك لما أن علقت بها ... خوفاً من النار تنجيني من النار وها أنا جار بيت أنت قلت لنا ... حجوا إليه وقد أوصيت بالجار ومن ذلك: إذا سعى بين الصفا والمروة، ينبغي أن يمثلها بكفتي الميزان، وتردده بينهما شفى عرصات القيامة، أو تردد العبد إلى باب دار الملك، إظهاراً لخلوص خدمته، ورجاء الملاحظة بعين رحمته، وطمعاً في قضاء حاجته. وأما الوقوف بعرفة: فاذكر بما ترى فيه من ازدحام الخلق، وارتفاع أصواتهم واختلاف لغاتهم موقف القيامة، واجتماع الأمم في ذلك الموطن، واستشفاعهم. فإذا رميت الجمار: فاقصد بذلك الانقياد للأمر، وإظهار الرق والعبودية، ومجرد الامتثال من غير حظ النفس.

وأما المدينة: فإذا لاحت لك فتذكر أنها البلدة التي اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وشرع إليها هجرته، وجعل فيها بيته، ثم مثل في نفسك مواضع أقدام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند تردده فيها، وتصور خشوعه وسكينته، فإذا قصدت زيارة القبر، فأحضر قلبك لتعظيمه، والهيبة له، ومثل صورته الكريمة في خيالك، واستحضر عظيم مرتبته في قلبك، ثم سلم عليه، واعلم انه عالم بحضورك وتسليمك، كما ورد في الحديث. ***

كتاب آداب القرآن الكريم وذكر وفضله

كتاب آداب القرآن الكريم وذكر وفضله أعظم فضائل القرآن الكريم أنه كلام الله عز وجل، وقد مدحه الله تعالى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]. وفى أفراد البخاري، من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". وعن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن لله عز وجل أهلين من الناس، قيل: من هم يارسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله (¬1) وخاصته" رواه النسائي. وفى حديث آخر، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يعذب الله قلباً وعى القرآن (¬2) ". وعن ابن عمر رضى الله عنهما، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فان منزلتك عن آخر آية تقرؤها" صححه الترمذى. وعن بريدة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر (¬3) وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وأنى لك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطى الملك (¬4) بيمينه، والخلد (¬5) بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والده ¬

_ (¬1) أي حفظة القرآن العاملون به، هم أولياء الله تعالى والمختصون به اختصاص أهل الإنسان، وليس من أهله من حفظ لفظه وضيع حدوده "قسطلاني". (¬2) لا يصح. (¬3) الهجر بالفتح والهجير: نصف النهار عند اشتداد الحر. (¬4) يريد القدرة والتصرف. (¬5) الدوام والخلود.

1 ـ فصل في آداب التلاوة

حلتين لا تقوم لهما الدنيا، فيقولان: بما كسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ واصعد بى درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما كان يقرأ، هذا كان (¬1) أو ترتيلاً (¬2) ". قال ابن مسعود رضى الله عنه: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون. ولا ينبغي أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا صخاباً (¬3) ولا حديداً. وقال الفضيل رحمه الله: حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي أن يلغو مع من يلغو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهو مع من يلهو، تعظيماً لله تعالى. ولا ينبغي أن يكون له إلى أحد حاجة، بل ينبغي أن تكون حوائج الناس إليه. وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: رأيت رب العزة بى المنام، فقلت: يا رب، ما أقرب ما يتقرب به إليك المتقربون؟ فقال: بكلامي يا أحمد، فقلت: يارب بفهم أو بغير فهم؟ فقال: بفهم وبغير فهم. 1 ـ فصل في آداب التلاوة ينبغي لقارئ القرآن أن يكون على وضوء، مستعملاً للأدب، مطرقاً غير متربع ولا متكئ، ولا جالس على هيئة المتكبر (¬4). وأفضل الأحوال: أن يقرأ في الصلاة قائماً، وأن يكون في المسجد. فأما مقدار القراءة، فقد اختلفت فيها عادات السلف، فمنهم من كان يختم كل يوم وليلة ختمة، ومنهم من كان يختم في اليوم والليلة أكثر رأيتهم ذلك، ومنهم من كان يختم ¬

_ (¬1) أي بسرعة. (¬2) أخرجه أحمد 5/ 348، والدارمى 2/ 450،451 من حديث أبى نعيم، ثنا بشير بن المهاجر، حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبية بريدة. وبشير بن المهاجر لين الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به، وباقي رجاله ثقات. (¬3) الصخب: شدة الصوت، والحديد: شديد الغضب. (¬4) ومن آياته أن يكون على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل، وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه إجلالاً للقرآن وأن يكون مصوناً عن الأكساب، شريف النفس، مترفعا عن الجبابرة والجفاة من أهل الدنيا متواضعاً لأهل الخير والمساكين، وأن يكون متخشعاً ذا سكينة "تبيان".

2 ـ فصل [في تحسين الصوت]

في ثلاث ختمة ومنهم من كان يختم في كل أسبوع، ومنهم من كان يختم في كل شهر، اشتغالا بالتدبر أو بنشر العلم، أو بتعليمه، أو بنوع من التعبد غير القراءة، أو بغيره من اكتساب الدنيا. وأولى الأمر: ما لا يمنع الإنسان من أشغاله المهمة، ولا يؤذيه في بدنه، ولا يفوته معه الترتيل والفهم. قال ابن عباس رضى الله عنهما: لأن أقرأ البقرة وآل عمران، وأرتلهما وأتدبرهما أحب إلى من أن اقرأ القرآن كله هذرمة (¬1) من وجد خلسة في وقت، فليغتنم كثرة القراءة ليفوز بكثرة الثواب، فقد كان عثمان رضى الله عنه يقرأ القرآن في ركعة يوتر بها، وكان الشافعي رحمه الله يختم في رمضان ستين ختمه. وأما الدوام: فليكن على قدر الإمكان، كما أشرنا إليه. واستحب بعضهم إذا ختم بالنهار أن يختم في ركعتي الفجر أو بعدهما، وإذا ختم بالليل أن يختم في ركعتي المغرب أو بعدهما ليستقبل بالختمة أول الليل وأول النهار. وقال ابن مسعود رضى الله عنه: من ختم القرآن فله دعوة مستجابة. وكان أنس رضى الله عنه إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا. 2 ـ فصل [في تحسين الصوت] ويستحب تحسين القراءة، وإذا لم يكن حسن الصوت حسنه ما استطاع، فأما القراءة بالألحان، فقد كرهها السلف. ويستحب الإسرار بالقراءة. وقد جاء في الحديث: "فضل قراءة السر على قراءة العلانية كفضل صدقة السر على صدقة العلانية" (¬2)، إلا أنه ينبغي أن يسمع نفسه. ولا بأس بالجهر في بعض الأوقات لمقصود صحيح، إما لتجويد الحفظ، أو ¬

(¬1) الهذرمة: السرعة في القراءة والكلام. (¬2) لم يرد بهذا اللفظ، وهو في معنى الحديث الصحيح "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة" أخرجه أبو داود (1333) والترمذي (2920) من حديث عقبة بن عامر، وإسناده صحيح، فإن إسماعيل ابن عياش رواه عن بحير بن سعد الحمصي وهو من أهل بلده وروايته عنهم مستقيمة.

ليصرف عن نفسه الكسل والنوم، أو ليوقظ الوسنان (¬1). فأما حكم القراءة في الصلاة، ومقدار ما يقرأ في صلاة الفرض، وموضع الجهر والإسرار فذلك معروف مشهور في كتب الفقه. ومن كان عنده مصحف ينبغي له أن يقرأ فيه كل يوم آيات يسيرة لئلا يكون مهجوراً. وينبغى لتالي القرآن العظيم أن ينظر كيف لطف الله تعالى بخلقه بى إيصال معاني كلامه إلى أفهامهم، وأن يعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر، وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه ويتدبر كلامه، فإن التدبر هو المقصود من القراءة، وإن لم يحصل التدبر إلا بترداد الآية، فليرددها، فقد روى أبو ذر رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قام ليلة بآية يرددها {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] وقام تميم الداري رضي الله عنه بآية وهي قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21] وكذلك قام بها الربيع بن خثيم رحمة الله عليه ليلة. وينبغى للتالي أن يستوضح من كل آية ما يليق بها، ويتفهم ذلك، فإذا تلا قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1] فليعلم عظمته ويتلمح قدرته في كل ما يراه. وإذا تلا: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58] فليتفكر في نطفة متشابهة الأجزاء، كيف تنقسم إلى لحم وعظم، وعرق وعصب، وأشكال مختلفة من رأس ويد، ورجل، ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات الشريفة كالسمع، والبصر، والعقل، وغير ذلك، فيتأمل هذه العجائب. وإذا تلا أحوال المكذبين فليستشعر الخوف من السطوة إن غفل عن امتثال الأمر. وليتخلى التالي من موانع الفهم، مثل أن يخيل الشيطان إليه أنه ما حقق تلاوة الحرف ولا أخرجه من مخرجه، فيكرره التال، فيصرف همته عن فهم المعنى. ومن ذلك أن يكون التالي مصراً على ذنب، أو متصفاً بكبر، أو مبتلى بهوى ¬

(¬1) الوسن: النعاس، والوسنان: كثير النعاس.

مطاع، فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصداه، فهو كالجرب على المرآة، يمنع من تجلى الحق، فالقلب مثل المرآة، والشهوات مثل الصدأ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة، والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل الجلاء للمرآة. وينبغى لتالي القرآن أن يعلم أنه مقصود بخطاب القرآن ووعيد، وأن القصص لم يرد بها السمر (¬1) بل العبر، فليتنبه لذلك، فحينئذ يتلو تلاوة عبد كاتبه سيده بمقصود. وليتأمل الكتاب ويعمل بمقتضاه، فإن مثل العاصي إذا قرأ القرآن وكرره، كمثل من كرر كتاب الملك وأعرض عن عمارة مملكته وما أمر به في الكتاب فهو مقتصر على دراسته، مخالف أوامره، فلو ترك الدراسة مع المخالفة كان أبعد من الاستهزاء واستحقاق المقت. وينبغى أن يتبرأ من حوله وقوته، وأن لا يلتفت إلى نفسه بعين الرضى والتزكية فإن من رأى نفسه بصورة التقصير، كان ذلك سبب قربه. ... ¬

(¬1) أي الحديث والخبر.

كتاب الأذكار والدعوات وغيرها

كتاب الأذكار والدعوات وغيرها اعلم: أنه ليس بعد تلاوة القرآن عبادة تؤدى باللسان أفضل من ذكر الله سبحانه وتعالى، ورفع الحوائج بالأدعية الخالصة إليه تعالى، ويدل على فضل الذكر قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (¬1) [آل عمران: 190] وقوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35]. وعن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إن الله عز وجل يقول: أنا مع عبدى ما ذكرني وتحركت بى شفتاه". وفي أفراد مسلم عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة (¬2) وذكرهم الله فيمن عنده (¬3) " وفى ذلك أحاديث كثيرة مذكورة في فضائل الأعمال. وعن أبى هريرة رضي الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما جلس قوم مجلساً فتفرقوا على غير ذكر الله عز وجل، إلا تفرقوا عن مثل جيفة الحمار، وكان ذلك المجلس عليهم حسرة يوم القيامة". وفى حديث آخر. "لا يجلس قوم مجلساً لا يذكرون الله عز وجل ولا يصلون على النبى صلى الله عليه وآله وسلم إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة". وأما فضيلة الدعاء: فقد روى أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ليس شئ أكرم على الله عز وجل من الدعاء" و "أشرف ¬

(¬1) قال ابن الجوزى في تفسير "زاد المسير" 1/ 527 بتحقيقنا طبع المكتب الإسلامي بدمشق: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} في الذكر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الذكر في الصلاة يصلى قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، هذا قول على وابن مسعود وابن عباس وقتادة. الثانى: أنه الذكر في الصلاة وغيرها، وهو قول طائفة من المفسرين. الثالث: أنه الخوف، فالمعنى: يخافون الله قياماً في تصرفهم، وقعوداً في دعتهم، وعلى جنوبهم في قيامهم. وتبين من هذا أن الآية ليس فيها مستدل لمن يجوز الرقص في حلقات الذكر. (¬2) السكينة: الوقار. (¬3) يعنى الملائكة المقربين: والمراد من العندية: الرتبة.

1 ـ فصل في الأوراد وفضلها وتوزيع العبادات على مقادير الأوقات

العبادة الدعاء (¬1) " و "من لا يسأل الله يغضب عليه". وفى حديث أخر: "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل". وللدعاء آداب: من ذلك أن يتحرى الأوقات الشريفة، كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الشهور، والجمعة من الإسبوع، والسحر من الليل. ومن الأوقات الشريفة بين الآذان والإقامة، وعقيب الصلوات، وعند نزول الغيث، وعند القتال في سبيل الله، وعند ختم القرآن، وفى السجود، وعند الإفطار، وعند حضور القلب ووجله. وعلى الحقيقة فإن شرف الأوقات يرجع إلى شرف الحالات، فإن وقت السحر وقت صفاء القلب وفراغه، وحالة السجود حالة الذل. ومن آداب الدعاء أن يدعو مستقبل القبلة ويرفع يديه ثم يمسح بهما وجهه، وأن يخفض صوته حال الدعاء. ومن آدابه أن يبدأ بذكر الله عز وجل، ثم يصلى على النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا يتكلف السجع في الدعاء. ومن آدابه وهو الأدب الباطن -وهو الأصل في الإجابة- التوبة ورد المظالم. 1 ـ فصل في الأوراد وفضلها وتوزيع العبادات على مقادير الأوقات أعلم: أنه إذا حصلت المعرفة لله سبحانه والتصديق بوعده، والعلم بقصر العمر، وجب ترك التقصير في هذا العمر القصير، والنفس متى وقفت على فن واحد حصل لها ملل، فمن التلطف نقلها من فن إلى فن، وقد قال الله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 25 - 26]، فهذا ونحوه مما ذكر من الآيات في ذلك يدل على أن الطريق إلى الله تعالى مراقبة الأوقات وعمارتها بالأوراد على الدوام، وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ¬

_ (¬1) اخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (713) ورجاله ثقات ألا أن فيه عنعنة الحسن.

2 - بيان عدد أوراد الليل والنهار وترتيبها

خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، أي يخلف أحدهما الآخر ليتدارك في أحدهما ما فات في الآخر. 2 - بيان عدد أوراد الليل والنهار وترتيبها أوراد النهار سبعة، وأوراد الليل ستة، فلنذكر فضيلة كل ورد ووظيفته وما يتعلق به. الورد الأول من أوراد النهار: ما بين طلوع الفجر الثانى إلى طلوع الشمس، وهو وقت شريف، وقد أقسم الله تعالى به فقال: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18]. فينبغي للمريد إذا انتبه من النوم أن يذكر الله سبحانه وتعالى فيقول: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور". روى ذلك عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم من أفراد البخاري. وفى أفراد مسلم، من حديث ابن مسعود رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمسى قال: "أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر". وإذا أصبح قال ذلك أيضاً: "أصبحنا وأصبح الملك لله ... " إلى آخره، ويقول: "بسم الله الذى لا يضر مع اسمه شئ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم" ثلاث مرات، "رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً". فإذا صلى الفجر قال وهو ثان رجله قبل أن يتكلم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شئ قدير" عشر مرات. ويذكر سيد الاستغفار: "اللهم أنت ربى، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك،

وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك (¬1) بنعمتك على، وأبوء بذنبى، فاغفر لى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". ويقول: "أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وملة أبينا إبراهيم حنيفاً (¬2) مسلماً، وما كان من المشركين". ويدعو "اللهم أصلح لى ديني الذى هو عصمة أمري، وأصلح دنياي التي فيها ماشى، وأصلح لى آخرتى التي فيها معادى، واجعل الحياة زيادة لى في كل خير، واجعل الموت راحة لى من كل شر". ويدعو بدعاء أبى الدرداء: "اللهم أنت ربى، لا إله إلا أنت، عليك توكلت، وأنت رب العرش العظيم، أعلم أن الله على كل شئ قدير، وأن الله قد أحاط بكل شئ علماً. اللهم إني أعوذ بك من شر نفسى، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربى على صراط مستقيم". فهذه الأدعية لا يستغني المريد عن حفظها. وينبغى له قبل خروجه إلى صلاة الفجر أن يصلى السنة في منزله ثم يخرج متوجهاً إلى المسجد ويقول: " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا، فإني لم أخرج أشراً (¬3) ولا بطراً، ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت (¬4) ". فإذا دخل المسجد فليقل ما روى مسلم في "صحيحه" أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبى صلى الله عليه وآله وسلم ثم ليقل: اللهم افتح لى أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: "اللهم إني أسألك من فضلك"، ثم يطلب الصف الأول منتظراً للجماعة داعيا بنحو ما تقدم من الأذكار والأدعية. ¬

(¬1) أي اعترف لك. (¬2) أي: مائلاً من جميع الأديان إلى الإسلام. (¬3) أي: بطراً. (¬4) اسناده ضعيف من أجل عطية بن سعد العوفي، فقد ضعفه غير واحد من الأئمة، وهو في سنن ابن ماجه، (778) و"مسند أحمد" 3/ 21 من حديث أبي سعيد الخدري.

فإذا صلى الفجر استحب أن يمكث في مكانه إلى طلوع الشمس. فقد روى أنس رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة" (¬1). وليكن وظائف وقته أربعاً: الدعاء، الذكر، والقراءة، والفكر. وليأت بما أمكنه، وليتفكر في قطع القواطع، وشغل الشواغل عن الخير ليؤدى وظائف يومه، وليتفكر في نعم الله تعالى ليتوفر شكره. الورد الثانى: ما بين طلوع الشمس إلى الضحى، وذلك بمضي ثلاث ساعات من النهار، إذا فرض النهار اثنتي عشرة ساعة، وهو الربع، وهذا وقت شريف، وفيه وظيفتان: أحدهما: صلاة الضحى (¬2). والثانية: ما يتعلق بالناس من عيادة مريض، أو تشييع جنازة، أو حضور مجلس علم، أو قضاء حاجة مسلم. وإن لم يفعل شيئاً من ذلك تشاغل بالقراءة والذكر. الورد الثالث: من وقت الضحى إلى الزوال، والوظيفة في هذا الوقت، الأقسام الأربعة، وزيادة أمرين: أحدهما: الاشتغال بالكسب والمعاش، وحضور السوق، فإِن كان تاجراً فليتجر بصدق وأمانة، وإن كان صاحب صنعة، فليصنع بنصيحة وشفقة، ولا ينس ذكر الله تعالى في جميع أشغاله، وليقنع بالقليل. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي، قال: حديث حسن. (¬2) قال الغزالي في "الإحياء": فالمواظبة عليها من عزائم الأفعال وفواضلها، أما عدد ركعاتها، فأكثرها ما نقل فيه ثمان ركعات، روت أم هانىء أخت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى الضحى ثمان ركعات أطالهن وحسنهن، ولم ينقل هذا القدر غيرها، فأما عائشة رضى الله عنها، فإنها ذكرت أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله، فلم تحد الزيادة أي أنه كان يواظب على الأربعهَ لا ينقص عنها وقد يزيد زيادات، وروي في حديث مفرد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلى الضحى ست ركعات، وأما وقتها فقد روى علي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلى الضحى ستاً في وقتين إذا اشرقت الشمس وارتفعت قام وصلى ركعتين وهو أول الورد الثاني من أوراد النهار كما سيأتي، وإذا انبسطت الشمس وكانت في ربع السماء من جانب الشرق صلى أربعاً فالأول إنما يكون إذا ارتفعت الشمس قيد نصف رمح والثاني إذا مضى من النهار ربعه بإزاء صلاة العصر، فإن وقته أن يبقى من النهار ربعه والظهر على منتصف النهار، ويكون الضحى على منتصف ما بين طلوع الشمس إلى الزوال، كما أن العصر على منتصف ما بين الزوال إلى الغروب. وهذا أفضل الأوقات، ومن وقت ارتفاع الشمس إلى ما قبل الزوال وقت للضحى على الجملة.

والثاني: القيلولة، فإنها مما تعين على قيام الليل، كما يعين السحور على صيام النهار، فإن نام فليجتهد في الانتباه قبل الزوال بقدر الاستعداد للصلاة قبل دخول الوقت. واعلم: أن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة، فالاعتدال أن ينام من ذلك الثلث، وهو ثمان ساعات، فمن نام أقل من ذلك لم يأمن اضطراب بدنه، ومن نام أكثر من ذلك كثر كسله، فذا نام أكثر من ذلك فت الليل فلا وجه لنومه في النهار، بل من نقص منه استوفى ما نقص في النهار. الورد الرابع: ما بين الزوال إلى الفراغ من صلاة الظهر، وهو أقصر أوراد النهار وأفضلها، فينبغي له بى هذا الوقت إذا أذن المؤذن أن يجيبه بمثل قوله، ثم يقوم فيصلى أربع ركعات، ويستحب أن يطيلهن، فإن أبواب السماء تفتح حينئذ، ثم يصلى الظهر وسنتها، ثم يتطوع بعدها بأربع. الورد الخامس: ما بعد ذلك إلى العصر، فيستحب له في هذا الوقت الاشتغال بالذكر، والصلاة، وفنون الخير، ومن أفضل الأعمال انتظار الصلاة بعد الصلاة. الورد السادس: إذا دخل وقت العصر إلى أن تصفر الشمس، وليس في هذا الوقت صلاة سوى أربع ركعات بين الأذانين، ثم فرض العصر، ثم يتشاغل بالأقسام الأربعة التي سبق ذكرها في الورد الأول، والأفضل فيه تلاوة القرآن والتدبر والتفهم. الورد السابع: من اصفرار الشمس إلى أن تغرب، وهو وقت شريف. قال الحسن البصري رحمه الله: كانوا أشد تعظيماً للعشي من أول النهار، فيستحب في هذا الوقت التسبيح والاستغفار خاصة. وبالمغرب تنتهي أوراد النهار فينبغي أن يلاحظ العبد أحواله ويحاسب نفسه، فقد انقضت من طريقه مرحلة. وليعلم أن العمر أيام تنقضي جملتها بانقضاء آحادها. قال الحسن: يا ابن آدم، إنما أنت أيام، إذا مضى يومك مضى بعضك. وليتفكر هل ساوى يومه أمسه، فإن رأى أنه قد توفر على الخير في نهاره، فليشكر الله سبحانه وتعالى على التوفيق، فإن تكن الأخرى، فليتب وليعزم على تلافى ما سبق من التفريط في الليل، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وليشكر الله تعالى على صحة جسمه، وبقاء بقية من عمره يمكن فيها استدراك التقصير، وقد كان جماعة من السلف يستحبون أن لا ينقضي يوم إلا عن صدقة، ويجتهدون فيما أمكن من كل خير.

3 ـ ذكر أوراد الليل

3 ـ ذكر أوراد الليل الورد الأول: إذا غربت الشمس إلى وقت العشاء، فإذا غربت صلى المغرب واشتغل بإحياء ما بين العشاءين، فقد روى أنس رضى الله عنه في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16]. أن هذه الآية نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وعن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من صلى بعد المغرب ست ركعات ولم يتكلم فيما بينهن بسوء، عدلن له بعبادة اثنتي عشرة سنة". رواه الترمذى (¬1). الورد الثانى: من غيبوبة الشفق الأحمر إلى وقت النوم، يستحب أن يصلى بين الأذانين ما أمكنه، وليكن في قراءته: {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [السجدة: 1 - 2] و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [تبارك: 1]. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينام حتى يقرأهما. وفى حديث آخر، عن ابن مسعود رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة" (¬2). الورد الثالث: الوتر قبل النوم، إلا من كان عادته القيام بالليل، فإن تأخيره في حقه أفضل، قالت عائشة رضى الله عنها من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من أول الليل، وأوسطه، وآخره، فانتهى وتره إلى السحر. متفق عليه، ثم ليقل بعد الوتر: "سبحان الملك القدوس" ثلاث مرات. الورد الرابع: النوم، وإنما عددناه من الأوراد، لأنه إذا روعيت آدابه وحسن ¬

_ (¬1) رقم (435) وقال. هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث زيد بن حباب عن عمر بن أبي خثعم، وسمعت محمد ابن اسماعيل البخاري يقول: عمر بن عبد الله ابن أبي خثعم منكر الحديث وضعفه جداً. (¬2) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" وفي سنده أبو شجاع، قال الذهبي في "الميزان": نكرة لا يعرف، ثم أورد هذا الخبر من حديثه عن ابن مسعود، قال ابن الجوزي في "العلل" قال أحمد: هذا حديث منكر، وقال الزيلعي تبعاً لجمع: هو معلول من وجوه، أحدها: الانقطاع كما بينه الدارقطني وغيره، الثاني نكارة متنه، كما ذكره أحمد، الثالث: ضعف رواته كما قال ابن الجوزيَ، الرابع: اضطرابه وقد أجمع على ضعفه أحمد، وأبو حاتم، وابنه، والدارقطني، والبيهقي وغيرهم.

المقصود به احتسب عبادة. وقد قال معاذ رضى الله عنه: إني لأحتسب في نومتى كما أحتسب في قومتى. فمن أداب النوم: أن ينام على طهارة، لما روت عائشة رضى الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد أن ينام يتوضأ وضوءه للصلاة. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما: إن الأرواح يعرج بها في منامها إلى السماء فتؤمر بالسجود عند العرش، فما كان منها طاهراً سجد عند العرش، وما كان ليس بطاهر سجد بعيداً عن العرش. ومن آدابه أن يتوب قبل نومه، لأنه ينبغي لمن طهر ظاهره أن يطهر باطنه، لأنه ربما مات في نومه. ومنها: أن يزيل كل غش في قلبه لمسلم، ولا ينوى ظلمه، ولا يعزم على خطيئة إذا استيقظ. ومنها: أن لا يبيت من له شئ يوصى به إلا ووصيته مكتوبة عنده، لأن في "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما حق امرئ مسلم له شئ يوصى فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده". وينبغى له أيضا أن لا يبالغ فت تمهيد الفراش متنعماً بذلك، فإنه يزيد في النوم، فإن النبى صلى الله عليه وآله وسلم ثنى له فراشة فقال: "منعتني وطأته صلاتي الليلة". وينبغى أن لا ينام حتى يغلبه النوم، فقد كان السلف لا ينامون إلا غلبة. ومن آدابه أن يستقبل القبلة وأن يدعو بما ورد في الأحاديث في ذلك، أن ينام على جنبه الأيمن، فمما جاء في ذلك ما روى أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزارة، فإنه لا يدرى ما حدث بعده". فإذا وضع جنبه فليقل: "باسمك ربى وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت

نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها (¬1) بما تحفظ به عبادك الصالحين" أخرجاه في "الصحيحين". وفى "الصحيحين" أيضاً، من حديث عائشة، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه ثم نفخ فيهما وقرأ فيهما: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. وفيهما من حديث البراء بن عازب رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك آذى أرسلت، فإنك إن مت ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيراً". وعن على رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له ولفاطمة: "إذا أخذتما مضاجعكما أو أويتما إلى فراشكما، فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمداه ثلاثاً وثلاثين، وكبراه أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم" متفق عليه. وحديث أبى هريرة في حفظ زكاة رمضان مشهور، وفيه أن شيطاناً قال له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربه شيطان. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "أما إنه قد صدقك وهو كذوب". وفي أفراد مسلم أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافى له ولا مأوى". فإن استيقظ للتهجد، فليدع بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم ربنا لك الحمد، أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاءك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، ¬

(¬1) هذه إشارة إلى قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}.

والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لى ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت" وفى رواية: "وما أنت أعلم به منى، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت" متفق عليه. وليجتهد أن يكون آخر كلامه عند النوم ذكر الله تعالى، وأول ما يجرى على لسانه عند التيقظ ذكر الله تعالى، فهاتان علامتان على الإيمان. الورد الخامس من أوراد الليل: يدخل بمضي النصف الأول إلى أن يبقى من الليل سدسه، وذلك وقت شريف. قال أبو ذر رضى الله عنه: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي صلاة الليل أفضل؟ فقال: "نصف الليل أو جوف الليل، وقليل فاعله (¬1) " وروى أن داود عليه السلام قال: يا رب، أية ساعة أقوم لك؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا داود لا تقم أول الليل ولا آخرة، ولكن قم في شطر الليل حتى تخلو بى وأخلو بك، وارفع إلىَّ حوائجك. فإذا قام إلى التهجد، قرأ العشر آيات من آخر سورة {آل عمران}، كما روى في "الصحيحين" أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك، وليدع بما سبق من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم عند قيامه من الليل، ثم يستفتح صلاته بركعتين خفيفتين، لما روى أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " إذا قام أحدكم يصلى بالليل، فليبدأ بركعتين خفيفتين " رواه مسلم، ثم يصلى مثنى مثنى، وأكثر ما روى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يصلى من الليل ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، وأقلهن سبع. الورد السادس من الليل: السدس الأخير وهو وقت السحر، قال الله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18]. ¬

_ (¬1) أخرجه حميد بن زنجويه، ومحمد بن نصر المروزي في "قيام الليل" ص 35، وفي سنده أبو مسلم الجذمي لم يوثقه غير ابن حبان، لكن يتقوى بما روى الجماعة إلا البخاري من حديث أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ قال. "الصلاة في جوف الليل" وبما روى الترمذي (3574) وغيره من حديث عمرو بن عبسة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول. "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تعالى فى تلك الساعة فكن" وسنده حسن، وصححه الترمذي وابن خزيمة.

4 ـ فصل في اختلاف الأوراد باختلاف الأحوال

وفى الحديث: إن قراءة الرجل آخر الليل محضورة. وجاء طاووس إلى رجل وقت السحر فقالوا: هو نائم، فقال: ما كنت أرى أن أحداً ينام وقت السحر. فإذا فرغ المريد من صلاة السحر، فليستغفر الله عز وجل. وروى عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه كان يفعل ذلك. 4 ـ فصل في اختلاف الأوراد باختلاف الأحوال اعلم: أن السالك لطريق الآخرة لا يخلو من ستة أحوال: إما أن يكون عابداً، أو عالماً، أو متعلما، أو والياً، أو محترفاً، أو مستغرقا بمحبة الله عز وجل مشغولاً به عن غيره. الأول: العابد: وهو المنقطع عن الأشغال كلها إلى التعبد، فهذا يستعمل ما ذكرنا من الأوراد، وقد تختلف وظائفه، فقد كانت أحوال المتعبدين من السلف مختلفة، فمنهم من كان يغلب على حاله التلاوة، حتى يختم في يوم ختمة، أو ختمتين، أو ثلاثاً، وكان فيهم من يكثر التسبيح، ومنه من يكثر الصلاة، ومنه من يكثر الطواف بالبيت. فإن قيل: فما الأولى أن يصرف إليه أكثر الأوقات من هذه الأوراد؟ فاعلم أن قراءة القرآن في الصلاة قائما مع التدبر يجمع الجميع، ولكن ربما عسرت المواظبة على ذلك، والأفضل يختلف باختلاف حال الشخص، ومقصود الأوراد تزكية القلب وتطهيره، فلينظر المريد ما يراه أشد تأثيراً فيه فليواظب عليه، فإذا أحس بملل انتقل عنه إلى غيره. قال أبو سليمان الدارانى: فإذا وجدت قلبك في القيام فلا تركع، وإذا وجدته في الركوع فلا ترفع. الثانى: العالم: الذي ينتفع الناس بعلمه في فتوى، أو تدريس، أو تصنيف، أو تذكير، فترتيبه في الأوراد يخالف ترتيب العابد فإنه يحتاج إلى المطالعة في الكتب، والتصنيف والإفادة، فان استغرق الأوقات في ذلك، فهو أفضل ما يشتغل به بعد المكتوبات، وإنما نعنى بالعلم المقدم على العبادة الذي يرغب في الآخرة، ويعين على

سلوك طريقها، والأولى بالعالم أيضاً أن يقسم أوقاته، لأن استغراق الأوقات في العلم لا تصبر عليه النفس، فينبغي أن يخص ما بعد الصبح إلى طلوع الشمس بالأذكار والأوراد على ما ذكرنا، ثم ما بعد طلوع الشمس إلى الضحى في الإفادة والتعليم، فإن لم يكن عنده من يتعلم، صرف ذلك الزمان إلى التفكير في العلوم، فان صفاء القلب بعد الفراغ من الذكر وقبل الاشتغال بهموم الدنيا يعين على التفطن للمشكلات، ثم من ضحوة النهار إلى العصر للتصنيف والمطالعة، لا يترك ذلك إلا في وقت أكل، أو طهارة، أو مكتوبة، أو قيلولة، ومن العصر إلى اصفرار الشمس بسماع ما يقرأ عليه من تفسير، أو حديث، أو علم نافع، ومن الاصفرار إلى الغروب يشتغل بالاستغفار والتسبيح، فيكون ورده الأول من عمل اللسان، والثاني بى عمل القلب بالتفكير، والثالث في عمل العين واليد والمطالعة والنسخ، والرابع بعد العصر صفى عمل السمع لتتروح العين واليد، فان المطالعة والنسخ بعد العصر ربما أضرا بالعين. وأما الليل: فأحسن قسمة فيه قمسة الشافعي رحمه الله، فانه كان يقسمه ثلاثة أجزاء: الثلث الأول لكتابة العلم، والثاني للصلاة، والثالث للنوم، فأما الصيف، فربما لا يحتمل ذلك، إلا إذا كان أكثر النوم بالنهار. الثالث: حال المتعلم: فإن المتعلم أفضل من التشاغل بالأذكار والنوافل، وحكم المتعلم حكم العالم في ترتيب الأوراد، لكنه يشتغل بالاستفادة حين يشتغل العالم بالإفادة، وبالتعليق والنسخ حين يشتغل العالم بالتصنيف، فإن كان من العوام كان حضوره مجالس الذكر والعلم والوعظ أفضل من اشتغاله بالأوراد المتطوع بها. الرابع: الوالي: مثل الإمام، والقاضى، أو المتوفى للنظر في أمور المسلمين، فقيامه بحاجات المسلمين وأغراضهم على وفق الشرع وقصد الإخلاص أفضل من الأوراد المذكورة، لأنه عبادة يتعدى نفعها، فينبغي أن يقتصر في النهار على المكتوبات، ثم يستفرغ باقي الزمان في ذلك، ويقنع بأوراد الليل. الخامس: المحترف: وهو محتاج إلى الكسب له أو لعياله، فليس له أن يستغرق الزمان في التعبد، بل يجتهد في الكسب مع دوام الذكر، فإذا حصل له ما يكفيه عاود الأوراد. السادس: المستغرق بمحبة الله سبحانه: فهذا ورده بعد المكتوبات حضور القلب مع الله تعالى، وهو يحركه إلى ما يريد من ورده.

5 ـ باب في قيام الليل وفضله والأسباب الميسرة لقيامه ونحو ذلك

وينبغى أن يداوم على الأوراد، لقول النبى صلى الله عليه وآله وسلم: "أحب العمل إلى الله تعالى أدومه وإن قل". وكان النبى صلى الله عليه وآله وسلم عمله ديمة. 5 ـ باب في قيام الليل وفضله والأسباب الميسرة لقيامه ونحو ذلك قال الله تعالى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]. وقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: "عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم ومغفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم" وفى فضله أحاديث كثيرة. وقال الحسن البصري رحمه الله: لم أجد من العبادة شيئاً أشد من الصلاة في جوف الليل، فقيل له: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره. 6 ـ فصل في الأسباب الميسرة لقيام الليل اعلم: أن قيام الليل صعب إلا من وفق للقيام بشروطه الميسرة له. فمن الأسباب ظاهر، ومنها باطن. فأما الظاهر: فأن لا يكثر الأكل، كان بعضهم يقول: يا معشر المريدين لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فتناموا كثيراً، فتخسروا كثيراً. ومنها: أن لا يتعب نفسه بالنهار بالأعمال الشاقة. ومنها: أن لا يترك القيلولة بالنهار، فإنها تعين على قيام الليل. ومنها: أن يتجنب الأوزار. قال الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته. وأما الميسرات الباطنة: فمنها سلامة القلب للمسلمين، وخلوه من البدع، وإعراضه عن فضول الدنيا. ومنها: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل. ومنها: أن يعرف فضل قيام الليل.

ومن أشرف البواعث على ذلك الحب لله تعالى، وقوة الإيمان بأنه إذا قام ناجى ربه، وأنه حاضره ومشاهده، فتحمله المناجاة على طول القيام. قال أبو سليمان رحمه الله: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. وفى "صحيح مسلم" عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا آتاه إياه، وذلك كل ليلة". وإحياء الليل مراتب: أحدها: أن يحيى الليل كله، روى ذلك عن جماعة من السلف. الثانية: أن يقوم نصف الليل، وهو مروى أيضاً عن جماعة من السلف وأحسن الطريق في هذا أن ينام الثلث الأول من الليل، والسدس الأخير منه. المرتبة الثالثة: أن يقوم ثلث الليل، فينبغي أن ينام النصف الأول، والسدس الأخير، وهو قيام داود عليه السلام. ففى "الصحيحين": "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه"، ونوم آخر الليل حسن، لأنه يذهب آثار النعاس من الوجه بالغداة، ويقلل صفرته. المرتبة الرابعة: أن يقوم سدس الليل أو خمسه، والأفضل من ذلك ما كان في النصف الآخير، وبعضهم يقول: أفضله السدس الأخير. المرتبة الخامسة: أن لا يراعى التقدير، فان مراعاة ذلك صعب. ثم فيما يفعله طريقان: أحدهما: أن يقوم أول الليل إلى أن يغلبه النوم فينام، فإذا انتبه قام، فإذا غلبه النوم نام، وهذا من أشد المكابدة، وهو طريق جماعة من السلف. وفى "الصحيحين" من حديث أنس رضى الله عنه: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصلياً من الليل إلا رأيناه، وما كنا نشاء أن نراه نائماً إلا رأيناه. وكان عمر رضى الله عنه يصلى من الليل ما شاء الله، حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله، فيقول: الصلاة الصلاة.

7 ـ فصل [فيمن صعبت عليه الطهارة في الليل]

وقال الضحاك: أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الضجعة. الطريق الثانى: أن ينام أول الليل، فإذا أخذ حظه من النوم، وانتبه،، قام الباقي. قال سفيان الثوري: إنما هو أول نومة، فإذا انتبهت لم أقلها. -يعنى: لم ينم-. المرتبة السادسة: أن يقوم مقدار أربع ركعات أو ركعتين، فقد روينا عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "صلوا من الليل، صلوا أربعاً، صلوا ركعتين" (¬1) ... الحديث. وفى "سنن أبى داود" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا جميعاً ركعتين، كتبا ليلتئذٍ من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات". وكان طالحة بن مصرف يأمر أهله بقيام الليل، ويقول: صلوا ركعتين، فإن الصلاة في جوف الليل تحط الأوزار. فهذه طرق قسمة الليل، فليتخير المريد لنفسه ما يسهل عليه، فان صعب القيام عليه بى وسط الليل، فلا ينبغي أن يخل بإحياء ما بين العشاءين وورد السحر، ليكون قائماً في الطرفين وهذه مرتبة سابعة. 7 ـ فصل [فيمن صعبت عليه الطهارة في الليل] فأما من صعبت عليه الطهارة في الليل، وثقلت عليه الصلاة، فليجلس مستقبل القبلة وليذكر الله تعالة، وليدع مهما قدر. فان لم يجلس فليدع وهو مضطجع، ومن كان له ورد فغلبه النوم وفاته، فليأت به بعد صلاة الضحى. فقد ورد ذلك في الحديث. وليحذر من له عادة بقيام الليل أن يتركها، ففى "الصحيحين" أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعبد الله بن عمرو: "لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل. ¬

(¬1) إسناده ضعيف رواه البيهقي في شعب الإيمان وابن نصر في قيام الليل عن الحسن مرسلاً.

8 ـ فصل في بيان الليالي والأيام الفاضلة

8 ـ فصل في بيان الليالي والأيام الفاضلة أما الليالي المخصوصات بمزيد الفضل التي يستحب إحياؤها، فخمس عشرة ليلة ولا ينبغي للمريد أن يغفل عنهن، لأنه إذا غفل التاجر عن موسم الربح فمتى يربح؟ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! فمن هذه الليالي سبع في رمضان: الليلة السابعة عشرة، وهى التي كانت صبيحتها وقعة بدر، والست الباقية هن أوتار العشر [الأخير]، إذا فيهن تطلب ليلة القدر وأما الثمان الآخر: فأول ليلة من المحرم، وليلة عاشوراء، وليلة النصف من شعبان، وليلة عرفة، وليلتا العيدين (¬1). وقد ورد صلوات لبعض هذه الليالي وليس فيها ما يثبت. وأما الأيام الفاضلة فتسعة عشر يوماً: يوم عرفة، ويوم عاشوراء، ويوم سبع وعشرين من رجب، وهو أول يوم هبط فيه جبريل على النبى صلى الله عليه وآله وسلم ويوم سبع عشرة من رمضان كان فيه وقعة بدر، ويوم النصف من شعبان، ويوم الجمعة، ويوما العيدين، والأيام المعلومات وهى عشر ذي الحجة، والأيام المعدودات وهى أيام التشريق. ومن فواضل الأيام في الأسبوع: يوم الاثنين، والخميس، وأيام البيض. وفيها فضل كبير مذكور في فضائل الصوم. آخر كتاب الأوراد، وهو آخر ربع العبادات، وبالله التوفيق. ¬

(¬1) لم يثبت في إحياء ليلة من الليالي حديث صحيح إلا العشر الأخير من رمضان الذي فيه ليلة القدر.

الربع الثاني من الكتاب ربع العادات وفيه أبواب

الربع الثاني من الكتاب ربع العادات وفيه أبواب: باب في الأكل والاجتماع عليه والضيافة ونحو ذلك وآداب الأكل، منها ما هو قبله، ومنها ما هو مع الأكل، ومنها ما هو بعد الأكل. فمن القسم الأول: غسل اليدين قبل الأكل، كما ورد فى الحديث، لأنها لا تخلو من درن، ومن ذلك أن يوضع الطعام على السفرة الموضوعة على الأرض، فانه أقرب إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رفعه على المائدة، وهو أدنى إلى التواضع، ومن ذلك أن يجلس الجلسة على السفرة، فينصب رجله اليمنى، ويعتمد على اليسرى، وينوى بأكله أن يتقوى على طاعة الله تعالى ليكون مطيعاً بالأكل، ولا يقصد به التنعم فقط، وعلامة صحة هذه النية أخذ البلغة دون الشبع. قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه وثلث لنفسه". ومن ضرورة هذه النية أن لا يمد يده إلى الطعام إلا وهو جائع، وأن يرفع يده قبل الشبع، ومع فعل ذلك لم يكد يحتاج إلى طبيب، ومن ذلك أن يرضى بالموجود من الرزق، ولا يحتقر اليسير منه، وأن يجتهد فى تكثير الأيدى على الطعام ولو من أهله وولده. القسم الثانى: فى الآداب حالة الأكل: وهو أن يبدأ ببسم الله فى أوله، ويحمد الله تعالى فى آخره. ومن ذلك أن يأكل باليمنى ويصغر اللقمة ويجود مضغها، وأن لا يمد يده إلى أخرى حتى يبتلع الأولى، ولا يذم مأكولاً، ومن ذلك أن يأكل مما يليه، إلا أن يكون الطعام متنوعا كالفاكهة، وليأكل بثلاث أصابع، وإذا وقعت لقمة أخذها. ومن ذلك أن لا ينفخ فى الطعام الحار، ولا يجمع بين التمر والنوى فى طبق واحد، ولا يجمعه فى كفه، بل يضعه من فيه على ظهر كفه ثم يلقيه، وكذا كل ماله عجم وثفل، ولا يشرب الماء فى أثناء الطعام، فانه أجود فى باب الطب.

1 ـ فصل فيما يزيد من الآداب بسبب الاجتماع والمشاركة فى الأكل

ومن آداب الشرب أن يتناول الإناء بيمينه، وينظر فيه قبل الشرب، ويمص مصاً لاعبَّاَّ، فقد روى عن على رضى الله عنه: مصوا الماء مصاً ولا تعبوه عبا، فإن الكباد من العب. ولا يشرب قائماً، ويتنفس فى شربه ثلاثاً. ففى "الصحيحين" أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم كان يتنفس فى الإناء ثلاثاً. والمعنى يتنفس فى شربه فى الإناء، بأن يباعد الإناء عنه ويتنفس، لا أن يكون النفس فى الإناء. القسم الثالث: من آداب الأكل ما يستحب بعد الطعام، وهو أن يمسك قبل الشبع ويلعق أصابعه، وأن يسلت (1) القصعة، وليحمد الله، ففى الحديث عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليه، ويشرب الشربة فيحمده عليها"، ويغسل يده من الغمر (2). 1 ـ فصل فيما يزيد من الآداب بسبب الاجتماع والمشاركة فى الأكل من ذلك أن لا يبتدئ فى الأكل إلا إذا كان معه من يستحق التقدم لكبر سن أو زيادة فضل، إلا أن يكون هو المتبوع. ومنها أن لا يسكتوا على الطعام، بل يتكلمون بالمعروف، ويتحدثون بحكايات الصالحين فى الأطعمة وغيرها. ومن ذلك أن يقصد كل منهم الإيثار لرفيقه، ولا يحوج رفيقه إلى أن يقول له: كل، بل ينبسط ولا يتصنع بالانقباض. ومن ذلك أن لا ينظر إلى أصحابه حالة الأكل لئلا يستحيوا. ومن ذلك أن لا يفعل ما يستقذره من غيره، فلا ينفض يده فى القصعة، ولا يقدم إليها رأسه عند وضع اللقمة فى فيه، وإذا أخرج شيئاً من فيه ليرمى به، صرف وجهه عن

2 ـ فصل [فى تقديم الطعام إلى الإخوان]

الطعام وأخذه بيساره، ولا يغمس اللقمة الدسمة فى الخل، ولا الخل فى الدسمة، فقد يكرهه غيره، ولا يغمس بقية اللقمة التى أكل منها فى المرقة. 2 ـ فصل [فى تقديم الطعام إلى الإخوان] ويستحب تقديم الطعام إلى الإخوان، روى ذلك عن على رضى الله عنه قال: لأن أجمع إخوانى على صاع من الطعام أحب إلى من أن أعتق رقبة. وكان خيثمى رحمه الله يصنع الخبيص والطعام الطيب، فيدعو إبراهيم والأعمش ويقول: كلوا، فما صنعته إلا لكم. ويقدم ما حضر من غير تكلف، ولا يستأذنهم فى التقديم، بل يقدم من غير استئذان، ومن التكلف أن يقدم جميع ما عنده. ومن آداب الزائر أن لا يقترح طعاماً بعينه، وإن خير بين طعامين اختار أيسرهما، إلا أن يعلم أن مضيفه يسر باقتراحه، ولا يقصر عن تحصيل ذلك، فقد نزل الشافعى رحمه الله على الزعفرانى، وكان الزعفرانى يكتب كل يوم رقعة بما يطبخ من الألوان، ويسلمها إلى الجارية، فأخذ الشافعى الرقعة وألحق فيها لونا آخر، فلما علم الزعفرانى اشتد فرحه. 3 ـ فصل [لا تدخل على قوم يأكلون] ولا ينبغى لأحد إذا علم أن قوماً يأكلون أن يدخل عليهم، فإن صادفهم من غير قصد، فسألوه الأكل، نظر، فإن علم أنهم إنما سألوه حياء منه، فلا يأكل، وإن علم أنهم يحبون أكله معهم، جاز له أن يأكل. ومن دخل دار صديقه فلم يجده وكان واثقاً به عالماً أنه إذا أكل من طعامه سر بذلك، جاز له أن يأكل. 4 ـ فصل [في آداب الضيافة] ومن آداب الضيافة، أن يقصد بدعوته الأتقياء دون الفساق، وقال بعض السلف: لا تأكل إلا طعام تقى، ولا يأكل طعامك إلا تقى (¬1). ¬

_ (¬1) وفي الحديث: "لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي". رواه أبو داود (4832) والترمذي (2397) وسنده حسن، وصححه ابن حبان (2049) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

5 ـ فصل [في آداب إحضار الطعام]

وينبغى أن يقصد الفقراء دون الأغنياء. وينبغى أن لا يهمل أقاربه فى ضيافتهم، فان إهمالهم يوجب الإيحاش وقطيعة الرحم. وكذلك يراعى الترتيب فى أصدقائه ومعارفه، ولا يقصد بدعوته المباهاة والتفاخر، وبل استعمال السنة فى إطعام الطعام واستمالة قلوب الإخوان، وإدخال السرور على قلوب المؤمنين، ولا يدعو من يعلم أنه تشق عليه الإجابة، أو إذا حضر تأذى بالحاضرين بسبب من الأسباب. وأما آداب الإجابة، فان كانت دعوة عرس، فالإجابة عليها واجبة إذا دعاة المسلم فى اليوم الأول، وإن كانت لغيره فهى جائزة، ثم ينبغى أن لا يخص الغنى بالإجابة دون الفقير، ولا يمتنع من الدعوة لكونه صائماً، بل يحضر، فان كان تطوعاً وعلم أن فطره يسر أخاه المسلم فليفطر. فأما إن كان الطعام حراماً فليمتنع عن الإجابة، وكذلك إذا كان ثمة فرش محرمة، أو إناء محرم، أو مزمار أو صورة، وكذلك إذا كان الداعى ظالماً أو فاسفاً أو مبتدعاً أو مفاخراً بدعوته. وينبغي أن لا يقصد بالإجابة إلى الدعوة نفس الأكل، بل ينوى به الاقتداء بالسنة، وإكرام أخيه المؤمن، وينوى صيانة نفسه عمن يسئ به الظن، فربما قيل عنه إذا امتنع: هذا متكبر. وينبغى أن يتواضع فى مجلسه إذا حضر، ولا يتصدر، وإن عين له صاحب الدار مكاناً لم يتعده، ولا يكثر النظر إلى المكان الذى يخرج منه الطعام، فإنه دليل على الشره. 5 ـ فصل [في آداب إحضار الطعام] وأما إحضار الطعام فله خمسة آداب: الأول: تعجيله، فذلك من إكرام الضيف. الثانى: تقديم الفاكهة أولاً قبل غيرها، وذلك أصلح فى باب الطب، وقد قال الله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 20، 21]. ثم أفضل ما يقدم بعد الفاكهة اللحم، خصوصاً المشوى، ثم أفضل الطعام بعد اللحم الثريد، ثم الحلوى، وتتم هذه الطيبات بشرب الماء البارد، وتكملة الأمر صب

الماء الفاتر على اليد عند الغسل. الثالث: أن يقدم جميع الألوان الحاضرة. الرابع: أن لا يبادر رفعها بل يمكنهم من الاستيفاء حتى يرفعوا أيديهم. الخامس: أن يقدم من الطعام قدر الكفاية، فإن التقليل من الكفاية نقص فى المروءة. وينبغى أن يعزل لأهل البيت نصيبهم قبل تقديم الطعام، فإذا أراد الضيف الانصراف ينبغى أن يخرج معه إلى باب الدار، فإنه سنة، وذلك من إكرام الضيف ومن تمام الإكرام طلاقة الوجه، وطيب الحديث عند الدخول والخروج وعلى المائدة. وأما الضيف فينبغى أن يخرج طيب النفس وإن جرى في حقه تقصير، فذلك من حسن الخلق والتواضع، ولا يخرج إلا برضى صاحب المنزل وإذنه، ويراعى قلبه في قدر الإقامة. ***

كتاب النكاح وآدابه وما يتعلق به

كتاب النكاح وآدابه وما يتعلق به لا يختلف العلماء فى أن النكاح مستحب، مندوب إليه، كثير الفضائل، وفيه فوائد: منها: الولد، لأن المقصود بقاء النسل، وفيه فوائد محبة الله تعالى بالسعي لذلك، ليبقى جنس الإنسان. وفيه طلب محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى تكثير من به مباهاته. وفيه طلب التبرك بدعاء الولد الصالح والشفاعة بموت الولد الصغير (¬1). ومن فوائد النكاح: التحصن من الشيطان بدفع غوائل الشهوة. وفيه ترويح النفس، وإيناسها بمخالطة الزوجة. ومنها: تفريغ القلب عن تدبير المنزل، والتكفل به بشغل الطبخ والكنس والفراش وتنظيف الأواني وتهيئة أسباب العيش، فإن الإنسان يتعذر عليه أكثر ذلك مع الوحدة، ولو تكفل به لضاع أكثر أوقاته، ولم يتفرغ للعلم والعمل، فالمرأة الصالحة عون على الدين بهذه الطريقة، إذ اختلال هذه الأسباب شواغل للقلب. ومن فوائده أيضاً: مجاهدة النفس ورياضتها بالرعاية والولاية، والقيام بحقوق الأهل، والصبر على أخلاقهن، واحتمال الأذى منهن، والسعى فى إصلاحهن وإرشادهن إلى طريق الدين، والاجتهاد فى كسب الحلال لأجلهن، والقيام بتربية الأولاد، وكل هذه أعمال عظيمة الفضل، فإنها رعاية وولاية، وفضل الرعاية عظيم، وإنما يحترز منها من يخاف القصور عن القيام بحقها، ومقاساة الأهل والولد بمنزلة الجهاد فى سبيل الله عز وجل. وفى أفراد مسلم، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "دينار أنفقته فى سبيل الله، ودينار أنفقته فى رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أفضلها الذى أنفقته على أهلك". ¬

_ (¬1) انظر "تسلية أهل المصائب" للمنبجي الحنبلي. طبع دار البيان بدمشق.

1 ـ فصل [في آفات النكاح]

1 ـ فصل [في آفات النكاح] وفى النكاح آفات: أقواها: العجز عن طلب الحلال، فان ذلك يصعب، فربما امتدت يد المتزوج إلى ما ليس له. الثانية: القصور عن القيام بحقوق النساء، والصبر على أخلاقهن وأذاهن، وفى ذلك خطر، لأن الرجلَ راعٍ وهو مسؤول عن رعيته. الثالثة: أن يكون الأهل والولد يشغلونه عن ذكر الله عز وجل، فينقضي ليله ونهاره بالتمتع بذلك، فلا يتفرغ القلب للفكر فى الآخرة والعمل لها، فهذه مجامع الآفات، والفوائد، فالحكم على شخص واحد، بأن الأفضل له النكاح أو العزوبة مطلقاً مصروف على الإحاطة بمجامع هذه الأمور، بل ينبغي للمريد أن يعرض نفسه على هذه الأحوال، فإن انتفت عنه الآفات واجتمعت له الفوائد، بأن كان له مال حلال وحسن خلق، وهو مع ذلك شاب يحتاج إلى تسكين الشهوة، ومنفرد يحتاج إلى تدبير المنزل، فلا شك أن النكاح أفضل، وإن انتفت هذه الفوائد واجتمعت فيه الآفات، فتركه أفضل، وهذا فى حق من لم يحتج إلى النكاح، فإن احتاج إليه فانه يلزمه. 2 ـ فصل [فى طِيبِ العِشْرَةِ] ويعتبر فى المرأة لطيب العشرة أمور: أحدها: الدين، وهو الأصل، لقول النبى صلى الله عليه وآله وسلم: "عليك بذات الدين"، فإذا لم يكن لها دين أفسدت دين زوجها، وأَزْرَتْ به. وإن سلكت سبيل الغيرة لم يزل فى بلاء وتكدير عيش. الثاني: حُسْن الُخُلقِ، فإن سيئة الخلق ضررها أكثر من نفعها. الثالث: حُسْن الخَلْق، وهو مطلوب، إذ به يحصل التحصن، ولهذا أمر بالنظر إلى المخطوبة. وقد كان أقوام لا ينظرون فى الحُسْنِ، ولا يقصدون التمتع، كما روى أن الإمام أحمد رحمه الله اختار امرأة عوراء على أختها، إلا أن هذا يندر، والطباع على ضده.

3 ـ فصل في آداب المعاشرة والنظر فيما على الزوج وفيما على الزوجة

الرابع: خِفَّة المهر، وقد زوج سعيد بن المسيب ابنته بدرهمين. وقال عمر رضى الله عنه: لا تغالوا فى مهور النساء. وكما تكره المغالاة فى المهر من جهة المرأة، يكره السؤال عن مالها من جهة الرجل. قال الثوري: إذا تزوج الرجل وقال: أي شئ للمرأة؟ فاعلم أنه لص. الخامس: البكارة، لأن الشارع ندب إلى ذلك، ولأنها تحب الزوج وتألفه أكثر من الثيب، فيوجب ذلك الود، فان الطباع مجبولة على الأنس بأول مألوف، وهو أيضاً أكمل لمودته لها، لأن الطبع ينفر من التي مسها غيره. السادس: أن تكون ولوداً. السابع: النسب، وهو أن تكون من بيت دين وصلاح. الثامن: أن تكون أجنبية. وكما ينبغي للرجل أن ينظر فى المرأة، ينبغي للولى أن ينظر فى دين الرجل وأخلاقه وأحواله، لأنه تصير بالنكاح مرقوقة، ومتى زوجها من فاسق أو مبتدع، فقد جنى عليها وعلى نفسه. قال رجل للحسن: ممن أُزّوج ابنتي؟ قال: ممن يتقى الله، فإنه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لن يظلمها. 3 ـ فصل في آداب المعاشرة والنظر فيما على الزوج وفيما على الزوجة أما الزوج، فعليه مراعاة الاعتدال والأدب فى اثني عشر أمراً: الأول: الوليمة فإنها مستحبة. الثاني: حسن الخلق مع الزوجات. واحتمال الأذى منهن لقصور عقلهن. وفى الحديث الصحيح: "استوصوا بالنساء خيراً، فانهن خلقن من ضلع، وإن أعوج ما فى الضلع أعلاه، فان ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً". واعلم: أنه ليس حسن الخلق مع المرأة كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها،

والحلم على طيشها وغضبها، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففى "الصحيحين"، من حديث عمر رضى الله عنه أن أزواج النبى صلى الله عليه وآله وسلم كن يراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. والحديث مشهور. الثالث: أن يداعبها ويمازحها، وقد سابق عليه السلام عائشة رضى الله عنها، وكان يداعب نساءه صلى الله عليه وآله وسلم، وقال لجابر: "هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك". الرابع: أن يكون ذلك بقدر، ولا ينبسط فى الرعاية إلى أن تسقط هيبته بالكلية عند المرأة، بل ينبغي أن يقصد طريق الاقتصاد، وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه عتب على بعض عماله، فكلمته امرأة عمر رضى الله عنه فيه فقالت: يا أمير المؤمنين فيم وجدت عليه؟ قال: يا عدوة الله، وفيم أنت وهذا؟ إنما أنتِ لعبةُ يُلعب بكِ ثم تُتْركين. الخامس: الاعتدال فى الغيرة، وهو أن لا يتغافل عن مبادئ الأمور التي يَخشى غوائلها، ولا يبالغ فى إساءة الظن، وقد نهى النبى صلى الله عليه وآله وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلاً. السادس: الاعتدال فى النفقة والقصد دون الإسراف والتقتير، ولا ينبغي للرجل أن يستأثر عن أهله بالطعام الطيب، فان ذلك مما يوغر الصدر. السابع: أن يتعلم المتزوج من علم الحيض وأحكامه وما يدرى به كيف معاشرة الحائض، ويلقنها الاعتقاد الصحيح، ويزيل عن قلبها كل بدعة إن كانت، ويعلمها أحكام الصلاة والحيض والاستحاضة، فيعرفها أنها إذا انقطع دمها قبل المغرب بمقدار ركعة فعليها الظهر والعصر، وإذا انقطع دمها الصبح بمقدار ركعة فعليها قضاء المغرب والعشاء، وهذا لا يكاد النساء يراعينه. الثامن: إذا كانت له نسوة ينبغي أن يعدل بينهن، والعدل فى المبيت والعطاء، لا فى الحب والوطء، فإن ذلك لا يملكه، فان سافر وأراد استصحاب إحداهن أقرع بينهن، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. التاسع: النشوز، فإذا كان النشوز من المرأة، فله أن يؤدبها ويحملها على الطاعة قهراً، ولكنه ينبغي أن يتدرج فى تأديبها بتقديم الوعظ والتخويف، فإن لم ينفع

هجرها في المضجع، فولاّها ظهره أو انفرد عنها بالفراش، وهجرها فى الكلام فيما دون ثلاثة أيام، فإن لم ينفع ضربها ضرباً غير مُبَرّح، وهو أن لا يدمى جسماً، ولا يضرب لها وجهاً. العاشر: فى آداب الجماع، يستحب البداءة بالتسمية، والانحراف عن القبلة، وأن يتغطى هو أهله بثوب، وأن لا يكونا متجردين، وأن يبدأ بالملاعبة والضم والتقبيل. ومن العلماء من استحب الجماع يوم الجمعة، ثم إذا قضى وطره فليتمهل لتقضى وطرها، فان إنزالها ربما تأخر. ومن الآداب: أن تأتزر الحائض بإزار من حَقْويها إلى ما بين الركبة إذا أراد الاستمتاع بها، ولا يجوز وطؤها فى الحيض، ولا فى الدُّبُرِ، ومن أراد أن يجامع مرة ثانية فليغسل فرجة ويتوضأ. ومن الآداب: أن لا يحلق شعره، ولا يقلم أظافره، ولا يخرج دما وهو جنب، وأما الغزل فهو مباح مع الكراهة. الحادى عشر: فى آداب الولادة، وهى ستة: الأول: أن لا يكثر فرحه بالذكر وحزنه بالأنثى، فانه لا يدرى في أيهما الخير. الثاني: أن يؤذن فى أذن المولود حين يولد. الثالث: أن يسميه اسماً حسناً. وفى أفراد مسلم: "إن أحب أسمائكم إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن" ومن كان له اسم مكروه، استحب تبديله، فقد غير النبى صلى الله عليه وآله وسلم أسماء جماعة، وقد كره من الأسماء، أفلح، ونافع، ويسار، ورباح، وبركة، لأنه يقول: أهو ثمة؟ فيقال: لا. الرابع: العقيقة عن الذكر شاتان، وعن الأنثى شاة. الخامس: أن يحنكه بتمرة أو حلاوة. السادس: الختان. الثاني عشر: مما يتعلق بالزواج الطلاق، وهو أبغض المباحات إلى الله عز وجل فيكره للرجل أن يفاجئ به المرأة من غير ذنب، ولا يجوز للمرأة أن تلجئه إلى طلاقها، فإذا أراد الطلاق فليراع فيه أربعة أشياء.

الأول: أن يطلقها فى طُهْرٍ لم يُصبها فيه، لئلا تطول عليها العدة. الثاني: أن يقتصر على طلقة واحدة ليستفيد بها الرجعة إن ندم. الثالث: أن يتلطف فى الأمر فى الطلاق بإعطائها ما تتمتع به لينجبر الفاجع، فقد روى عن الحسن بن على رضى الله عنهما أنه طلق امرأة وبعث إليها بعشرة آلاف درهم، فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق. الرابع: أن لا يفشى سرها، وفى الحديث الصحيح فى أفراد مسلم "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه، ثم ينشر سرها". وروى عن بعض الصالحين أنه أراد طلاق امرأته فقيل له: ما الذى يريبك منها؟ فقال: العاقل لا يهتك سراً، فلما طلقها قيل له: لم طلقتها فقال: مالي ولامرأة غيري. فهذا كله فى بيان ما على الزوج. القسم الثاني: من آداب المعاشرة، ما على الزوجة لزوجها. عن أبى أُمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لو جاز لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" لعظم حقه عليها. وفى هذا القسم أحاديث كثيرة تدل على تأكيد حق الزوج على زوجته، وحقوقه عليها كثيرة، أهمها أمران: أحدهما: الستر والصيانة. الثاني: القناعة، وعلى هذا كان النساء فى السلف، كان الرجل إذا خرج من منزله يقوله له أهله: إياك وكسب الحرام، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار. ومن الواجب عليها: أن لا تفرط فى ماله، فإن أطعمت عن رضاه كان لها مثل أجره، وإن كان بغير رضاه، كان له الأجر وعليها الوزر. وينبغى لوالديها تأديبها قبل نقلها إلى الزوج لتعرف آداب العشرة، وينبغى للمرأة أن تكون قاعدة فى بيتها، لازمة لمغزلها، قليلة الكلام لجيرانها، كثيرة الانقباض حالة غيبة زوجها، تحفظه غائباً وحاضراً، وتطلب مسرّته فى جميع الأحوال، ولا تخونه فى نفسها ولا فى ماله، ولا تُوطئ فراشه من يكره، ولا تأذن فى بيته إلا باذنه، ولتكن همتها صلاح شأنها وتدبير بيتها، قائمة بخدمة الدار فى كل ما أمكنها، ولتكن مُقَدَّمة لحق زوجها على حق نفسها وحق جميع أقربائها. آخر كتاب النكاح. ***

كتاب آداب الكسب والمعاش وفضله وصحة المعاملة وما يتعلق بذلك

كتاب آداب الكسب والمعاش وفضله وصحة المعاملة وما يتعلق بذلك اعلم أن الله سبحانه وتعالى بلطيف حكمته جعل الدنيا دار تسبب واكتساب، تارة للمعاش، وتارة للمعاد، ونحن نورد آداب التجارات، والصناعات، وضرورة الاكتساب وأسبابها ونشرحها. 1 ـ فصل في الكسب والحث عليه قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11]، فذكره فى معرض الامتنان، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10] فجعلها نعمة، وطلب الشكر عليها، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]. وفى الحديث أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: "طلب الحلال جهاد" (¬1) و "إن الله ليحب العبد المحترف" (¬2) وفى أفراد البخارى أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبى الله داود كان يأكل من عمل يده". وفى حديث آخر: "أن زكريا عليه السلام كان نجاراً". قال ابن عباس رضى الله عنهما: كان آدم عليه السلام حراثاً، ونوح نجاراً، وإدريس خياطاً، وإبراهيم ولوط زرًّاعين، وصالح تاجراً، وداود زراداً، وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله عليهم رعاة. وأما الآثار فروى أن لقمان الحكيم قال لابنه: يا بنى استعن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة فى دينه، وضعف فى عقله، وذهاب ¬

_ (¬1) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" عن ابن عباس، وأبو نعيم في "الحلية" عن ابن عمر، وفي سنده محمد بن مروان السدي الصغير، قال في "الميزان" تركوه، واتهم بالكذب، وأورد له من منكراته هذا الحديث. (¬2) رواه الطبراني وابن عدي من حديث ابن عمر، وضعفه، ورواه البيهقي وقال: تفرد به أبو الربيع عن عاصم وليسا بالقويين، وقال ابن الجوزي: حديث لا يصح، قال في "الميزان". أشعث بن سعيد أبو الربيع السمان البصري، قال أحمد: مضطرب الحديث، ليس بذاك، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: لا يكتب حديثه، وقال الدارقطني: متروك، ثم أورد له من منكراته هذا الحديث.

مروءته، وأعظم من هذه الخصال استخفاف الناس به. وقيل لأحمد بن حنبل: ما تقول فى رجل جلس فى بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد: هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبى صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحى"، وقال حين ذكر الطير: "تغدو خماصاً وتروح بطاناً". وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يَتّجرون فى البر والبحر، ويعملون فى نخلهم، والقدوة بهم. وقال أبو سليمان الداراني: ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يتعب لك، ولكن أبدأ برغيفيك فاحرزهما ثم تعبد، فان قيل: قال أبوالدرداء: زاولت التجارة والعبادة فلم يجتمعا، فاخترت العبادة؟ فالجواب: أنا لا نقول: إن التجارة لا تراد لذاتها، بلا للاستغناء عن الناس، وإغناء العائلة، وإفاضة الفضل على الإخوان، فأما إن كان المقصود نفس المال وجمعه، والتفاخر ونحو ذلك، فهو مذموم، وليكن العقد الذى به الاكتسابجامعاً لأمور أربعة: الصحة، والعدل، والإحسان، والشفقة على الدين. الأمر الأول: فى الصحة، فان كان العقد بيعا، فله ثلاثة أركان: العاقد والمعقود عليه، واللفظ. الركن الأول: أما العاقد، فينبغي للتاجر أن لا يعامل المجنون، لأنه غير مكلف، فلا يصح بيعه، ولا يعامل العبد إلا أن يعلم أنه مأذون له، وكذلك الصبى لا يعامل إلا أن يكون قد أذن له الأب أو الوصى، فيصير بمنزلة العبد المأذون له، وعند الشافعي لا تصح عقود الصبى، ومعاملة الأعمى عندنا صحيحة، يصح بيعه وشراؤه، وعند الشافعي لا تصح. وأما الظَّلمة ومن أكثرُ مالِهِ حرامُ، فلا ينبغي أن يعامل إلا فى شئ يعرف أن عينه حلال. الركن الثاني: المعقود عليه، وهو المال المقصود نقله، ولا يجوز بيع الكلب، لأنه نجس العين. فأما البغل والحمار فيجوز بيعهما، سواء قلنا: إنهما طاهران أو نجسان، ولا يجوز بيع الحشرات، ولا بيع العود والمزمار، والصور

2 ـ فصل في العدل واجتناب الظلم في المعاملة

المصنوعة من الطين ونحوه، ولا يجوز بيع ما لا يقدر على تسليمه حِساً ولا شرعاً، وأما الحِسُ فكالطير فى الهواء، والعبد الآبق ونحوهما، وأما الشرع فكالمرهون، وبيع الأم دون الولد الصغير، أو الولد دون الأم، فهذا ممنوع تسليمه شرعاً. الركن الثالث: اللفظ، وهو الإيجاب والقبول، فان تقدم القبول للإيجاب لم يصح فى إحدى الروايتين، ويصح فى الأخرى، سواء كان بلفظ الماضي أو بلفظ الطلب، فان تبايعا بالمعاطاة، فظاهر كلام أحمد صحة البيع. وقال القاضي أبو يعلى: لا يصح ذلك إلا فى الأشياء اليسيرة، وهذا أصلح الأقوال، أعنى أن تكون المعاطاة فى الأشياء المْحَقرة دون النفيسة، لجريان العادات بذلك، وينبغى من طريق الورع أن لا يترك الإيجاب والقبول ليخرج عن شبهة الخلاف، وقد شدد الله تعالى فى أمر الربا، فينبغي أن يحذر من الوقوع فيه، وهو قسمان: ربا الفضل، وربا النسيئة، فينبغي أن يعرف ذلك وما يجرى فيه الربا، ويحتاج أيضاً أن يعرف شروط السلم، والإجارة والمضاربة، والشركة، فان المكاسب لا تنفك عن هذه العقود المذكورة. 2 ـ فصل في العدل واجتناب الظلم في المعاملة الأمر الثاني: وهو العدل، واجتناب الظلم فى المعاملة، ونعنى بالظلم ما يتضرر به الغير، وهو ينقسم إلى ما يعم ضرره وما يخص. الأول: الاحتكار، وهو منهي عنه لما فيه من غلاء السعر وتضييق الأقوات على الناس. وصفته: أن يستكثر من ابتياع الغلات فى الغلاء، ويتربص بها زيادة الأسعار، فأما إذا دخلت له غلة من ضيعته وحبسها، فليس محتكراً، وكذلك إذا كان الشراء فى حال الاتساع والرخص على صفة لا يضيق على الناس، وفى الجملة تكره التجارة فى القوت، لأنه قوام الآدمي. القسم الثاني: ما يخص ضرره، نحو أن يثنى على السلعة بما ليس فيها، أو يكتم بعض عيوبها فيضر بذلك المشترى. وقد قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: "من غشنا ليس منا" (¬1). ¬

_ (¬1) وأخرجه مسلم في "صحيحه" أيضاً (102) بلفظ "من غش ليس مني".

3 ـ فصل [في الإحسان بالمعاملة]

واعلم: أن الغش حرام فى البيوع، وفى الصناعات، وقد سئل الإمام أحمد عن رَفْو الثواب حتى لا يبين، فقال: لا يجوز لمن يبيعه أن يخفيه. وينبغى للتاجر أن يحقق الوزن، ولا يتخلّص فى هذا حتى يرجح إذا أعطى، وينقص إذا أخذ، ومتى خلط العلاّف الطعام تراباً ثم كاله فهو مطفف، وكذلك القصاب إدا خلط عظما لم تجر العادة بمثله. وقد نُهى عن النَّجَش، وهو أن يزيد فى السلعة من لا يريد شراءها ليغر المشترى، ونهى عن التصرية. 3 ـ فصل [في الإحسان بالمعاملة] الأمر الثالث: فى الإحسان بالمعاملة، وقد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان، فمن الإحسان المسامحة فى البيع، وأن لا يغبنه فى الربح بما لا يتغابن فى العادة، فأما أصل المغابنة فمأذون فيه، لأن البيع للربح، ولكن يراعى فيه التقريب، فإن بذل المشترى زيادة على الربح المعتاد لشدة رغبته وحاجته، فينبغي أن يمتنع البائع من قبول ذلك، فإن ذلك من الإحسان. ومن ذلك أنه إذا أراد استيفاء الثمن أو الدين، فيحسن تارة بالمسامحة وتارة بحط البعض، وتارة بالإنظار، وتارة بالتساهل، وتارة فى جودة النقد. ومن الإحسان: أن يقيل من يستقيله، فإنه لا يستقيل إلا متضرر بالبيع، والأحاديث تشهد بفضل هذه الأمور المذكورة، وما لصاحبها من الأجر والثواب. 4 ـ فصل [في شفقة التاجر على دينه] الأمر الرابع: فى شفقة التاجر على دينه فيما يخصه ويعم آخرته، لا ينبغي للتاجر أن يشغله معاشه عن معاده، بل يراعى دينه، وإنما تتم شفقته على دينه بمراعاة ستة أشياء: الأول: حسن النية فى التجارة، فلينو بها الاستعفاف عن السؤال، وكف الطمع عن الناس، والقيام بكفاية العيال، ليكون بذلك من جملة المجاهدين، ولينوا النصح للمسلمين.

5 ـ بيان الحلال والحرام

الثاني: أن يقصد القيام فى صناعته أو تجارته بفرض من فروض الكفايات، فإن الصناعة والتجارة لو تركت بطل المعاش، إلا أن من الصناعة ما هو مهم ومنها ما يستغني عنه لكونه متعلقاً بالزينة أو طلب التنعم، فليشتغل بصناعة مهمة، ليكون فى قيامه بها كافياً عن المسلمين مهماً، وليتجنب صناعة الصياغة، والنقش، وتشييد البنيان بالجص، وجميع ما يزخرف به، فانه مكروه. ومن المعاصي: خياطة الخياط القباء الديباج للرجل، ويكره أن يكون جزاراً، لأنه يوجب قساوة القلب، أو حجاماً، أو كناساً لما فيه مباشرة النجاسة، وفى معناه الدباغ. ولا يجوز أخذا الأجرة على تعليم القرآن، والعبادات، وفروض الكفايات. الثالث: أن لا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة، وسوق الآخرة المساجد، فينبغي أن يجعل أول النهار إلى وقت دخول السوق لآخرته، فيواظب على الأوراد، وقد كان صالحو السلف من التجار يجعلون أول النهار وآخره للآخرة، ووسطه للتجارة، وإذا سمع أذان الظهر والعصر، فينبغي أن يترك المعاش اشتغالاً بأداء الفرض. الرابع: أن يلازم ذكر الله تعالى فى السوق، ويشتغل بالتسبيح والتهليل. الخامس: أن لا يكون شديد الحرص على السوق والتجارة، فلا يكون أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها. السادس: أن لا يقتصر على اجتناب الحرام بل يتوقى مواقع الشبه ومواضع الريب، ولا يقف مع الفتاوى، بل يستفتي قلبه ما يحز في القلب. 5 ـ بيان الحلال والحرام اعلم: أن طلب الحلال فرض على كل مسلم، وقد ادعى كثير من الجهال عدم الحلال، وقالوا: لم يبق منه إلا الماء الفرات، والحشيش النبات، وماعدا ذلك فقد أفسدته المعاملات الفاسدة، فلما وقع لهم هذا، وعلموا أنه لا بد لهم من الأقوات توسعوا في الشبهة والحرام، وهذا من الجهل، وقلة العلم، فإن في "الصحيحين" من حديث النعمان بن بشير رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال:

6 ـ فصل في درجات الحلال والحرام

"الحلال بين، والحرام بين، وبينها أمور مشتبهات". ولما كانت هذه الدعوى من هؤلاء الجهال بدعة قد عم ضررها، واستطار فى الدين شررها، وجب كشف الغطاء عن فسادها بالإرشاد إلى مدرك الفرق بين الحلال والشبهة. ونحن نوضح ذلك في أقسام: القسم الأول: في فضيلة طلب الحلال، وذم الحرام، ودرجات الحلال والحرام. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، والطيبات: الحلال، فأمر بذلك قبل العمل، وقال في ذم الحرام: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، إلى غير ذلك من الآيات. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً" وذكر الحديث إلى قوله: "ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يارب يارب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذى بالحرام، فأنى يستجاب لذلك" رواه مسلم. وروي في ذلك غير حديث. وروى أن سعداً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تستجاب دعوته، فقال له "أطب طعمتك تستجب دعوتك" (¬1). وقد كان السلف ينظرون في الحلال ويدققون فيه، فأكل أبو بكر الصديق رضى الله عنه شيئاً من شبهة ثم قاءه (¬2). 6 ـ فصل في درجات الحلال والحرام أعلم: أن الحلال كله طيب، ولكن بعضه أطيب من بعض، والحرام كله خبيث، ولكن بعضه أخبث من بعض، كما أن الطيب يحكم على كل حلو بالحرارة، ¬

(¬1) قال العراقي في تخريج "الأحياء". رواه االطبراني في "الأوسط" من حديث ابن عباس، وفيه من لا أعرفه. (¬2) إنما فعل أبو بكر ذلك، لأنه كان من طعام الكهانة، وهو سحت خبيث.

7 ـ فصل [في درجات الورع]

ولكنه يقول: هذا حار في الدرجة الأولى، وهذا في الدرجة الثانية، وهذا في الثالثة، وهذا في الرابعة. مثال ذلك في الحرام المأخوذ بعقد فاسد، حرام ولكنه ليس في درجة المغصوب على سبيل القهر، بل المغصوب أغلظ، إذ فيه إيذاء الغير، وترك طريق الشرع في الاكتساب، وليس في العقود الفاسدة إلى ترك طريق التعبد فقط، وكذلك المأخوذ ظلما من فقير أو صالح أو يتيم، أخبث وأغلظ من المأخوذ من قوي أو غني أو فاسق. 7 ـ فصل [في درجات الورع] والورع له درجات أربع: الدرجة الأولى: وهى درجة العدول عن كل ما تقتضي الفتوى تحريمه، وهذا لا يحتاج إلى أمثلة. الدرجة الثانية: الورع عن كل شبة لا يجب اجتنابها، ولكن يستحب، كما يأتى في قسم الشبهات. ومن هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". الدرجة الثالثة: الورع عن بعض الحلال مخافة الوقوع في الحرام. الدرجة الرابعة: الورع عن كل ما ليس لله تعالى، وهو ورع الصديقين، مثال ذلك ما روى عن يحيى بن يحيى النيسابوري رحمة الله عليه أنه شرب دواءً، فقالت له امرأته: لو مشيت في الدار قليلاً حتى يعمل الدواء، فقال: هذه مشية لا أعرفها، وأنا أحاسب نفسي منذ ثلاثين سنة. فهذا رجل لم تحضره نية في هذه المشية تتعلق في الدين، فلم يقدم عليها، فهذا من دقائق الورع. والتحقيق فيه أن الورع له أول وغاية، وبينهما درجات في الاحتياط، فكلما كان الإنسان أشد تشديداً، كان أسرع جوازاً على الصراط، وأخف ظهراً، وتتفاوت المنازل في الآخرة بحسب تفاوت هذه الدرجات في الورع، كما تتفاوت دركات النار في حق الظلمة بحسب درجات الحرام، فإن شئت فزد في الاحتياط، وإن شئت فترخص، فلنفسك تحتاط وعليها تترخص. القسم الثاني: في مراتب الشبهات وتمييزها عن الحلال والحرام، وحديث النعمان بن بشير رضى الله عنه نص في هذه الأقسام الثلاثة، وهى الحلال والحرام وما

بينهما، والمشكل فيها هو المتوسط الذي لا يعرفه كثير من الناس، وهو الشبة. ونحن نكشف الغطاء عنها فنقول: الحلال المطلق الذي لا يتعلق بذاته صفة توجب تحريماً لعينه، ولا يتعلق بأسبابه ما يطرق إليه تحريماً أو كراهية. مثال ذلك الماء الذي يأخذه الإنسان من المطر قبل أن يقع على ملك أحد. الحرام المحض: ما فيه صفة محرمة، كالشدة في الخمر، والنجاسة في البول، أو حصل بسبب منهي عنه، كالمتحصل بالظلم والربا، فهذان الطرفان ظاهران، ويلتحق بهما ما تحقق أمره، ولكن يحتمل تغيره، ولم يكن لذلك الاحتمال سبب ظاهر يدل عليه، فإن صيد البر والبحر حلال، إلا أنه من صاد ظبية أو سمكة، فإنه يحتمل أن يكون قد ملكها صياد ثم أفلتت، وهذا الاحتمال لا يتطرق إلى ماء المطر المختطف من الهواء، فمساكنة ذلك الاحتمال في الصيد ورع الموسوسين، لأنه وهم مجرد لا دلالة عليه، فلو دل عليه دليل، مثل أن يجد الظبية جرحا لا يقدر عليه، إلا بعد الضبط، كالكى، ويحتمل أن يكون غيره، فهذا موضع الورع. وحد الشبهة ما تعارض فيه اعتقادان صدرا عن شيئين مقتضيين لاعتقادين. ومثالات الشبهة كثيرة، والمهم منها مثالان: المثال الأول: الشك في السبب المحلل أو المحرم، وينقسم إلى أربعة أنواع: النوع الأول: أن يكون الحلُّ معلوماً من قبل، ثم يقع الشك في المحلل، فهذه شبهة يجب اجتنابها، ويحرم الإقدام عليها، مثاله أن يرى صيداً فيجرحه فيقع في الماء فيصادفه ميتاً، ولا يدرى هل مات بالغرق أو بالجرح؟ فهذا حرام، لأن الأصل التحريم. النوع الثاني: أن يعرف الحل ويشك في المحرم، فيكون الأصل الحل، والحكم له، كما لو طار طائر، فقال رجل: إن كان هذا غراباً فامرأته طالق، وقال آخر: وإن لم يكن غراباً، فامرأته طالق، تم التبس الأمر، فإنا لا نقضي بالتحريم في واحد منها، ولكن الورع اجتنابهما وتطليقهما. النوع الثالث: أن يكون الأصل التحريم، ولكن طرأ ما يوجب التحليل بظن غالب فهو مشكوك فيه، والغالب حِلُه، مثاله أن يرمى إلى صيد فيغيب عنه ثم يدركه ميتاً وليس عليه أثر سوى سهمه، فهذا الظاهر فيه الحل، لأن الاحتمال إذا لم يستند إلى

دليل التحق بالوسوسة، فأما إن ظهر عليه أثر صدمة أو جراحة أخرى التحق بالنوع الأول. النوع الرابع: أن يكون الحل معلوماً، ولكن يغلب على الظن طريان المحرم بسبب معتبر في غلبة الظن شرعاً، مثاله أن يؤدى اجتهاده إلى نجاسة أحد الإناءين بالاعتماد على علامة معينة توجب عليه الظن، فتوجب تحريم شربه، كما أوجب منع الوضوء به. المثال الثاني: أن يختلط الحرام بالحلال، ويشتبه الأمر فيه. وذلك على أضرب: أحدها: إذا اختلطت ميتة بُمذكّاة، أو بعشرة من المذكيات، ونحو ذلك من العدد المحصور، ومثله أن تشتبه أخته بأجنبيات، فهذه شبهة يجب اجتنابها. الثاني: أن يختلط حرام محصور بحلال غير محصور، كما لو اشتبهت أخته أو عشر رضائع بنسوة بلد كبير، فلا يلزم بهذا اجتناب نكاح أهل البلد، بل له أن ينكح من شاء منهن، لأن في تحريمهن حرجا كبيراً، وكذلك من علم أن مال الدنيا خالطه حرام قطعاً، لم يلزمه ترك الشراء والأكل، لأن في ذلك حرجاً، وقد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أن في الناس من يرابى، وما تركو الدراهم بالكلية، وأن مِجَنَّاً سُرِقَ في زمانه، وما تركوا شراء مجن، فاجتناب هذا من ورع الوسوسة. الثالث: أن يختلط حرام لا يحصر بحلال لا يحصر، كحكم الأموال في زماننا هذا، فلا يحرم بهذا الاختلاط تناول شئ بعينه، إلا أن يقترن بتلك العين علامة تدل على أنه من الحرام نحو أن يأخذه من يد سلطان ظالم، فإن لم يكن له علامة، فتركه ورع، ولا يحرم ذلك، لأنه قد علم في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء بعده أن أثمان الخمور ودراهم الربا وغلول الغنيمة اختلطت بالأموال، وقد أدركت الصحابة نهب المدينة وتصرف الظلمة ولم يمنعوا من الشراء بالسوق، ولولا صحة ذلك لانسد باب جميع التصرفات فإن الفسق يغلب على الناس، لكن الأصل في الأموال الحل، وإذا تعارض اصل وغالب، ولا أمارة على الغالب، حكم بالأصل، كما قلنا في طين الشوارع وأواني المشركين، فقد توضأ عمر رضى الله عنه من جرة نصرانية، مع أن مشربهم الخمر ومطعمهم الخنزير ولا يحترزون من نجاسة، وكانت الصحابة تلبس الفراء المدبوغة والثياب المصبوغة.

ومن تأمل أحوال الدباغين والصباغين، علم غلبة النجاسة عليهم، فيدل ذلك على أنهم لم يكون يحترزون إلا من نجاسة مشاهدة، أو يكون عليها علامة، فأما الظن الذي يستفاد من رد الوهم إلى مجارى الأحوال، فلم يعتبروه، فان قيل قد كانوا يتوسعون في أمور الطهارة ويحترزون من شبهات الحرام، فما الفرق؟ قلنا: إن أردت أنهم كان يصلون مع النجاسة فباطل، وإن أردت انهم احترزوا من كل نجاسة وجب اجتنابها فصحيح، وأما تورعهم عن الشبه، فكان بطريق كف النفس عما ليس به بأس مخافة ما به بأس، والنفس تميل إلى الأموال كيف كانت بخلاف الأنجاس، وقد كانوا يمتنعون مما يشغل قلوبهم من الحلال، والله أعلم. القسم الثالث: من الكتاب: فى الحلال والحرام والبحث، والسؤال، والهجوم، والإهمال ومظانها. اعلم: أنه لو قدم لك الطعام أو أُهديت لك هدية، أو أردت أن تشترى شيئاً من شخص فليس لك أن تقول: هذا مما لا أتحقق حله، فأريد أن أفتش عنه وليس لك أن تترك البحث مطلقاً، بل السؤال واجب مرة، ومندوب مرة، ومكروه مرة. والقول الشافي فيه: أن مظنة السؤال الريبة، وهى تحصل إما من أمر يتعلق بالمال أو بصاحب المال، أما ما يتعلق بصاحب المال، فنحو أن يكون مجهولاً، وهو الذي ليس عليه قرينة تدل على ظلمة، كزِيَّ الأجناد، ولا على صلاحه. كثياب أهل العلم والزهد، فها هنا لا يجب السؤال ولا يجوز، لأن فيه هتك المسلم، وإيذاءه، ولا يقال لهذا: إنه مشكوك فيه، لأن المشكوك فيه هو الذي تحصل فيه الريبة بدلالة، مثل أن يكون على خِلقة الأتراك، وأهل البوادي المعروفين بالظلم، وقطع الطريق، فهذا يجوز معاملته، لأن اليد تدل على الملك، وهذه الدلالات ضعاف، إلا أن الترك من الورع. وأما ما يتعلق بالمال. فنحو أن يختلط الحرام بالحلال، كما إذا طرح فى السوق أحمال من طعام مغصوب فاشتراها أهل السوق، فإنه لا يجب على من يشترى فى تلك البلدة من السوق أن يسأل عما يشتريه، إلا أن يظهر أن أكثر ما في أيديهم حرام، فعند ذلك يجب السؤال، فإن لم يكن الأكثر حراماً كان التفتيش ورعاً غير واجب. وكذلك نقول في رجل له مال حلال خالطه حرام، مثل أن يكون تاجراً يعامل

معاملات صحيحة وُيرابي، فهذا إن كان الأكثر من ماله حراماً، لم تجز قبول ضيافته ولا هديته إلا بعد التفتيش، فإن ظهر أن المأخوذ من وجه حلال جاز، وإلا ترك، وإن كان الحرام أقل، فالمأخوذ شبهة، والورع تركه. واعلم: أن السؤال إنما يقع لأجل الريبة، فلا ينقطع إلا من حيث تنقطع الريبة المفضية له، بأن لا يكون المسؤول متهماً، فإن كان متهماً وعلمت أن له غرضاً في حضورك أو قبول هديته، فلا ثقة بقوله، وينبغى أن يسأل غيره. القسم الرابع: في باب الحلال والحرام، وكيفيه خروج التائب عن المظالم المالية. اعلم: أن من تاب وفى يده مال مختلط، فعليه تمييز الحرام وإخراجه، فإن كان معلوم العين، فأمره سهل، وإن كان ملتبساً مختلطاً، فإن كان من ذوات الأمثال، كالحبوب والنقود والأدهان، وكان معلوم القدر، ميز ذلك القدر، فإن أشكل فله طريقان: أحدهما: الأخذ بغالب الظن. والثاني: الأخذ باليقين، وهو الورع. فإذا أخرج المال، فإن كان له مالك معين، وجب صرفه إليه أو إلى وارثه، وإن كان لذلك المال زيادة ومنفعة، جمع ذلك كله وصرفه إليه، وإن يئس من معرفة المالك ولم يدر أمات عن وارث أم لا؟ فليتصدق به، وإن كان ذلك من مال الفيء والأموال المرصدة لمصالح المسلمين، صرف ذلك إلى القناطر والمساجد ومصالح طريق مكة وما ينتفع به كل من يمر من المسلمين. مسألة: إذا كان في يده مال حلال وشبهة، فليخص نفسه بالحلال، وليقدم قوته وكسوته على أجرة الحجَّام والزيت وإسجار التنور، وأصل هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم فى كسب الحجام: "اعلِفْهُ ناضِحَك". ولو كان في يد أبويه حرام، فليمتنع من مؤاكلتهما، فإن كان شبهة داراهما، فإن لم يقبلا تناول اليسير. وقد روى أن أم بشر الحافي ناولته تمرة فأكلها، ثم صعد الغرفة فقاءها.

8 ـ فصل [في أحوال من يخالط الأمراء والعمال والظلمة]

القسم الخامس: في إدرار السلاطين وصلاتهم، وما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة، ونحو ذلك. اعلم: أن من أخذ مالاً من السلطان فلا بد أن ينظر في مدخل ذلك إلى السلطان من أين هو، وفى صفته التي يستحق بها الأخذ، وفى المقدار الذي يأخذه، هل يستحقه؟ وقد تورع جماعة عن ذلك، وكان فيهم من يأخذه فيتصدق به. وأما في هذا الزمان، فالاحتراز عنه أولى، لأنه قد علم طريق الأخذ، ثم لا ينال إلا بالذل والسؤال والسكوت على الإنكار. وقد كان بعض السلف لا يأخذ، ويعلل بأن باقي المستحقين لم يأخذوا، وهذا ليس بشيء، لأنه يأخذ حقه ويبقى أولئك في مقام مظلوم، وليس المال مشتركاً. 8 ـ فصل [في أحوال من يخالط الأمراء والعمال والظلمة] اعلم: أن لك مع الأمراء والعمال والظلمة ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن تدخل عليهم وهى شرُّها. فقد روى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من أتى أبواب السلاطين افتتن" (¬1) "وما ازداد عبد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً" (¬2). وقال حذيفة: إياكم ومواقف الفتن، فقيل: وما مواقف الفتن؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه. وقال بعض الأمراء لبعض الزهاد: ألا تأتينا؟ فقال: أخاف إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتنا حرمتني، وليس في يدك ما أريده، ولا في صدى ما أخافك عليه، وإنما أتاك من أتاك ليستغني بك عمن سواك، وقد استغنيت عنك بمن أغناك غنى. فهذه الآثار تبين كراهية مخالطة السلاطين. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2859) والترمذي (2257)، والنسائي (4314) وأحمد 1/ 357 من حديث ابن عباس مرفوعًا بلفظ "من سكن البادية، جفا، ومن أتبع الصيد، غَفل، ومن أتى السلطان افتتن" وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه الترمذي (2860) من حديث أبي هريرة، وفي سنده مجهول.

وأيضاً فان الداخل على السلطان معرض لأن يعصى الله عز وجل، إما بفعله أو قوله أو سكوته. أما الفعل: فإن الدخول عليهم في غالب الأحوال يكون إلى أماكن مغصوبة، ولو فرض أنه في موضع غير مغصوب، ففى الغالب يكون ما تحته أو ما يظله من خيمة أو نحوها من ماله الحرام، والانتفاع بذلك حرام، ولو فرض ذلك حلالاً، فربما يقع في غيره من المحذورات، إما أن يسجد له، أو يتمثل له قائماً، ويخدمه، ويتواضع له بسبب ولايته التي هي آلة ظلمه. والتواضع للظالم معصية، بل من تواضع لغنى لأجل غناه لا لمعنى آخر يقتضي التواضع، ذهب ثلثا دينه، فكيف إذا تواضع للظالم؟! وتقبيل اليد له معصية، إلا أن يكون عند خوف، أو لإمام عادل، أو عالم يستحق ذلك، فأما غير ما ذكرنا، فلا يباح في حقهم إلا مجرد السلام. وأما القول: فهو أن يدعو للظالم، أو يثنى عليه، أو يصدقه فيما يقول من باطل بصريح قوله، أو بتحريك رأسه، أو باستبشار في وجهه، أو يظهر له الحب والموالاة والاشتياق إلى لقائه، والحرص على طول بقائه، فإنه في الغالب لا يقتصر على السلام، بل يتكلم ولا يعدو كلامه هذه الأقسام. وقد جاء في الأثر: "من دعا لظالم بطول البقاء، فقد أحب أن يعصى الله". ولا يجوز دعاؤه له إلا أن يقول: أصلحك الله، أو وفقك الله، أو نحو ذلك. وأما السكوت: فهو أن يرى في مجالسهم في الفرش الحرير، وأوانى الفضة، والملبوس المحرم على غلمانهم من الحرير، ونحو ذلك، فيسكت. وكل من رأى شيئاً من ذلك وسكت فهو شريك فيه، وكذا إذا سمع من كلامهم ما هو فحش وكذب وشتم وإيذاء، فإن السكوت عن ذلك كله حرام، لأنه يجب عليه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فإن قلت: إنه يخاف على نفسه، فهو معذور في السكوت. قلنا: صدقت، إلا أنه مستغن عن أن يعرض نفسه لارتكاب ما لا يباح إلا بعذر، لأنه لو لم يدخل ويشاهد، لم يجب عليه الأمر والنهى، وكل من علم بفساد فى مكان، وعلم أنه إذا حضر لم يقدر على إزالته، لم يجز له أن يحضر.

9 ـ فصل [في الدخول على الأمراء الظلمة بعذر]

9 ـ فصل [في الدخول على الأمراء الظلمة بعذر] فإن سلم مما ذكرنا، وهيهات، لم يسلم من فساد يتطرق إلى قلبه، لما يرى من توسعهم في التنعم، فيزدرى نعمة الله عليه، ثم يقتدي به غيره في الدخول، ويكون مكثراً لسواد الظلمة. وروى أن سعيد بن المسيب دعي إلى البيعة للوليد وسليمان ابني عبد الملك، فقال: لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار. فقالوا: ادخل من هذا الباب واخرج من الآخر، قال: لا والله لا يقتدي بى أحد من الناس، فجلد مائه وأُلْبِسَ المسُوح. فعلى ما بينا لا يجوز الدخول على الأمراء الظلمة إلا بعذرين: أحدهما: إلزامُ من جهتهم يُخاف من الخلاف فيه الأذى. والثاني: أن يدخل عليه السلطان زائراً، فجواب السلام لا بد منه. وأما القيام والإكرام، فلا يحرم مقابلةً له على إكرامه، فإنه بإكرام العلم والدين مستحق للحمد، كما أنه بالظلم مستحق للذم. فإن دخل عليه وحده، وقد رأى أن يقوم إعزازاً للدين فهو أولى وأمثل. ولا بأس بالقيام على هذه النية. وإن علم أن ذلك لا يورث فساداً في الرعية ولا يناله أذى من غضبه، فترك الإكرام بالقيام أولي، ثم يجب عليه أن ينصحه، ويُعّرفه تحريم ما يفعله مما لا يدرى أنه محرم. فأما إعلامه بتحريم الظلم وشرب الخمر، فلا فائدة فيه، بل عليه أن يخوفه من ركوب المعاصي مهما ظن أن التخويف يؤثر في قلبه، وعليه أن يرشده إلى المصالح. ومتى عرف طريقاً للشرع يحصل به غرض الظالم عرفه إياه. الحال الثالث: أن يعتزل عنهم فلا يراهم ولا يرونه، والسلامة في ذلك، ثم ينبغي أن يعتقد بغضهم على ظلمهم، فلا يُحبّ لقاءهم، ولا يثنى عليهم، ولا يستخبر

عن أحوالهم، ولا يقترب إلى المتصلين بهم، ولا يتأسف على ما يفوته بسبب مفارقتهم، كما قال بعضهم: إنما بيني وبين الملوك يوم واحد، إما يوم مضى فلا يجدون لذته، وأنا وإياهم في غدٍ على وجلٍ، وإنما هو اليوم، فما عسى أن يكون في اليوم؟! مسألة: إذا بعث إليك سلطان مالاً لتفرقه على الفقراء، وكان له مالك معين، لم يحل أخذه، وإن لم يكن له، كان حكمه أن يتصدق به كما سبق بيانه، ويتولى تفرقته على الفقراء. ومن العلماء من امتنع من أخذه، وإذا كان اكثر أموالهم الحرام، حرمت معاملتهم وما بنته الظلمة من القناطر والمساجد والسقايات، ينبغي أن ينظر فيه، فإن كانت تلك الأعيان التي بنيت بها لمالك معين، لم يجز العبور عليها إلا للضرورة، وإن لم يعرف مالكها جاز العبور عليها، والورع الامتناع، والله أعلم. ***

كتاب آداب الصحبة والأخوة ومعاشرة الخلق ونحو ذلك

كتاب آداب الصحبة والأخوة ومعاشرة الخلق ونحو ذلك اعلم أن الألفة ثمرة حسن الخلق، والتفرق ثمرة سوء الخلق، لأن حسن الخلق يوجب التحابب والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض والتدابر، ولا يخفى ما فى حسن الخلق من الفضل، والأحاديث دالة على ذلك. فقد روى من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما من شىء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن" رواه الترمذي وصححه. وفى حديث آخر: "إن أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة مساويكم أخلاقاً". وسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنه؟ فقال: "تقوى الله وحسن الخلق". وأما المحبة فى الله تعالى، ففى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله" فذكر منهم: "ورجلان تحابا فى الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه". وفي حديث آخر يقول الله عز وجل: "حقت محبتي للمتحابين فيَّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيَّ، وحققت محبتي للمتزاورين فيَّ". وفى حديث آخر: "أوثق عرى الإيمان، أن تحب فى الله وتبغض في الله"، والأحاديث فى ذلك كثيرة. واعلم: أن يحب فى الله ويبغض فى الله، فإنك إذا أحببت إنسانا لكونه مطيعاً للَّه، فإذا عصى الله أبغضته فى الله، لأن من أحب لسبب أبغض لوجود ضدده، ومن اجتمعت فيه خصال محمودة ومكروهة، فإنك تحبه من وجه وتبغضه من وجه. فينبغى أن تحب المسلم لأسلامه، وتبغضه لمعصيته، فتكون معه على حالة متوسطة بين الانقباض والاسترسال، فأما ما يجرى منه مجرى الهفوة التى يعلم أنه نادم عليها، فالأولى حينئذ الإغماض والستر، فإذا أصر على المعصية، فلا بد من إظهار أثر البغض بالإعراض عنه والتباعد، وتغليظ القول له على حسب غلظ المعصية وخفتها.

واعلم: أن المخالف لأمر الله تعالى على أقسام: أحدهما: أن يكون كافراً، فإن كان حربياً فهو مستحق للقتل والإرقاق، وليس بعد هذين إهانة، وإن كان ذمياً فلا يجوز إيذاؤه إلا بالإعراض عنه، والتحقير له بالاضطرار له إلى أضيق الطريق، وترك البداءة بالسلام. فإن سلم قيل له: وعليك. والأولى الكف عن مخالطته ومعاملته ومؤاكلته، ومن المكروه الاسترسال إليه والانبساط كما يفعل بالأصدقاء. القسم الثانى: المبتدع، فان كان ممن يدعو إلى بدعة، وكانت البدعة بحيث يكفر بها، فأمره أشد من الذمي، لأنه لا يقر بجزية ولا يسامح بعقد ذمة، وإن كان ممن لا يكفر بها، فأمر اشد من الذمى، لأنه لا يقر بجزية ولا يسامح بعقد ذمة، وإن كان ممن لا يكفر بها. فأمره بينه وبين الله تعالى أخف من أمر الكافر لا محالة، ولكن الأمر فى الإنكار عليه أشد منه على الكافر، لأن شر الكافر غير متعد، لأنه لا يلتفت إلي قوله، بخلاف المبتدع الذي يدعو إلى بدعته لأنه يزعم أن ما يدعو إليه حق، فيكون سبباً لغواية الخلق، فشره متعد، فإظهار بغضه والانقطاع عنه ومعاداته وتحقيره والتشنيع عليه ببدعته وتنفير الناس عنه أشد. فأما المبتدع العامى الذي لا يقدر أن يدعو ولا يخاف الاقتداء به، فأمره أهون، والأولى أن يتلطف به فى النصح، فإن قلوب العوام سريعة التقلب، فإن لم ينفع النصح وكان فى الإعراض عنه تقبيح لبدعته فى عينه، تأكد استحباب الإعراض عنه، وأن علم أن ذلك لا يؤثر لجمود طبعه ورسوخ اعتقاده فى قلبه، فالأعراض عنه أولى، لأن البدعة إذا لم يبالغ فى تقبيحها شاعت بين الخلق وعم فسادها. القسم الثالث: العاصي بفعله لا باعتقاده، فإن كانت بحيث يتأذى بها غيره، كالظلم والغضب وشهادة الزور والغيبة والنميمة ونحو ذلك، فالأولى الأعراض عنه وترك مخالطته والانقباض عن معاملته، وكذلك الحكم فيمن يدعو إلى الفساد، كالذى يجمع بين الرجال والنساء ويهيء أسباب الشرب لأهل الفساد، فهذا ينبغى إهانته ومقاطعته والإعراض عنه. فأما الذي يفسق فى نفسه بشرب خمر أو زنا أو سرقة أو ترك واجب، فالأمر فيه أخف، ولكنه فى وقت مباشرته إن صودف، وجب منعه بما يمتنع به، فإن كان النصح يرده وكان أنفع له، نصح وإلا أغلظ له.

1 ـ فصل في بيان الصفات المشروطة فيمن تختار صحبته

1 ـ فصل في بيان الصفات المشروطة فيمن تختار صحبته روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". وأعلم: أنه لا يصلح للصحبة كل أحد، ولابد أن يتميز المصحوب بصفات وخصال يرغب بسببها في صحبته، وتشترط تلك الخصال بحسب الفوائد المطلوبة من الصحبة، وهي إما دنيوية كالانتفاع بالمال والجاه، أو بمجرد الاستئناس بالمشاهدة والمحاورة، وليس ذلك غرضنا، وأما دينية، وتجتمع فيها أغراض مختلفة، منها الاستفادة بالعلم والعمل، ومنها الاستفادة من المال للاكتفاء به عن تضييع الأوقات في طلب القوت، ومنها الاستعانة في المهمات، فتكون عدة في المصائب وقوة في الأحوال، ومنها انتظار الشفاعة في الآخرة، كما قال بعض السلف: استكثروا من الإخوان، فإن لكل مؤمن شفاعة. فهذه فوائد تستدعى كل فائدة شروطاً لا تحصل إلا بها. وفى جملة، فينبغى أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال: أن يكون عاقلاً حسن الخلق غير فاسق ولا مبتدع ولا حريص على الدنيا. أما العقل، فهو رأس المال، ولا خير في صحبة الأحمق، لأنه يريد أن ينفعك فيضرك، ونعنى بالعاقل الذي يفهم الأمور على ما هى عليه، إما بنفسه، وإما أن يكون بحيث إذا أفهم فهم. وأما حسن الخلق، فلابد منه، إذ رب عاقل يغلبه غضب أو شهوة فيطيع هواه فلا خير في صحبته. وأما الفاسق، فإنه لا يخاف الله، ومن لا يخاف الله تعالى لا يؤمن غائلته ولا يوثق به. وأما المبتدع فيخاف من صحبته بسراية بدعته. قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يقليك منه، واعتزال عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى

2 ـ فصل في بيان ما على الإنسان لأخيه من الحقوق

الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى. قال يحيى بن معاذ: بئس الصديق تحتاج أن يقول له: اذكرنى في دعائك، وأن تعيش معه بالمداراة، أو تحتاج أن تعتذر إليه. ودخل جماعة على الحسن وهو نائم، فجعل بعضهم يأكل من فاكهة في البيت، فقال: رحمك الله، هذا والله فعل الإخوان. وقال أبو جعفر لأصحابه: أيدخل أحدكم يده في كم أخيه فيأخذ منه ما يريد؟ قالوا: لا، قال: فلستم بإخوان كما تزعمون. ويروى أن فتحاً الموصلي جاء إلى صديق له يقال له: عيسى التمار، فلم يجده في المنزل، فقال للخادمة: أخرجي لى كيس أخى، فأخرجته، فأخذ منه درهمين، وجاء عيسى إلى منزله فأخبرته الجارية بذلك، فقال: إن كنت صادقة، فأنت حرة، فنظر فإذا هى قد صدقت، فعتقت. 2 ـ فصل في بيان ما على الإنسان لأخيه من الحقوق الحق الأول: قضاء الحاجات والقيام بها، وذلك درجات: أدناها: القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة، لكن مع البشاشة والاستبشار. وأوسطها: القيام بالحوائج من غير سؤال. وأعلاها: تقديم حوائجه على حوائج النفس. وقد كان بعض السلف يتفقد عيال أخيه بعد موته أربعين سنة فيقضى حوائجهم. الحق الثاني: على اللسان بالسكوت تارة، وبالنطق أخرى. أما السكوت، فهو أن يسكت عن ذكر عيوبه في حضوره وغيبته، وعن الرد عليه ومماراته ومناقشته، وعن السؤال عما يكره ظهوره من أحواله. ولا يسأله إذا لقيه: إلى أين؟ فربما لا يريد إعلامه بذلك، وأن يكتم سره ولو بعد القطيعة، ولا يقدح في أحبابه وأهله، ولا يبلغه قدح غيره فيه. الحق الثالث: وينبغى أن يسكت عن كل ما يكرهه، إلا إذا وجب عليه النطق في

أمر بمعروف أو نهى عن منكر ولم يجد رخصة في السكوت، فإن مواجهته بذلك إحسان إليه في المعنى. واعلم: أنك إن طلبت منزهاً عن كل عيب لم تجد، ومن غلبت محاسنه على مساويه فهو الغاية. وقال ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات. وقال الفضيل: الفتوة: الصفح عن زلات الإخوان. وينبغى أن تترك إساءة الظن بأخيك، وأن تحمل فعله على الحسن مهما أمكن، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "وإياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث". واعلم: أن سوء الظن يدعو إلى التجسس المنهى عنه، وأن ستر العيوب والتغافل عنها سيمة أهل الدين. واعلم: أنه لا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأقل درجات الأخوة أن يعامل أخاه بما يحب أن يعامله به، ولا شك أنك تنتظر من أخيك أن يستر عورتك، وأن يسكت عن مساويك، فلو ظهر لك منه ضد ذلك اشتد عليك فكيف تنتظر منه مالا تعزم عليه له؟ ومتى التمست من الأنصاف مالا تسمح به دخلت في قول الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 2 - 3]. ومنشأ التقصير في ستر العورة والمغرى بكشفها الحقد والحسد. واعلم: أن من أشد الأسباب لإثارة الحقد والحسد بين الإخوان المماراة، ولا يبعث عليها إلا إظهار التميز بزيادة الفضل والعقل واحتقار المردود عليه، ومن مارى اخاه، فقد نسبه إلى الجهل والحمق، أو إلى الغفلة والسهو عن فهم الشىء على ما هو عليه. وكل ذلك استحقار، وهو يوغر الصدر ويوجب المعادة، وهو ضد الأخوة. الحق الرابع: على اللسان بالنطق، فإن الأخوة كما تقتضى السكوت عن المكروه، تقتضى النطق بالمحبوب، بل هو أخص بالأخوة، لأن من قنع بالسكوت صحب أهل القبور، وإنما يراد الإخوان ليستفاد منهم لا ليتخلص منهم، لأن السكوت معناه كف الأذى، فعليه أن يتودد إليه بلسانه، ويتفقده في أحواله، ويسأل عما عرض له، ويظهر شغل قلبه بسببه، ويبدى السرور بما يسر به.

وفى الصحيح من رواية الترمذي (¬1): "إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه". ومن ذلك أن يدعوه بأحب أسمائه إليه، قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: ثلاث يصفين لك ود أخيك: تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليك. ومن ذلك أن يثنى عليه بما يعرفه من محاسن أحواله عند من يؤثر الثناء عنده، وكذلك الثناء على أولاده وأهله وأفعاله، حتى في خلقه وعقله وهيئته وخطه وتصنيفه وجميع ما يفرح به من غير إفراط ولا كذب. وكذلك ينبغي أن تبلغه ثناء من أثنى عليه مع إظهار الفرح به، فإن إخفاء ذلك محض الحسد. ومن ذلك أن تشكره على صنيعه في حقك، وأن تذب عنه في غيبته إذا قصد بسوء، فحق الأخوة التشمير في الحماية والنصرة. وفى الحديث الصحيح: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"، ومتى أهمل الذب عن عرضه يكون قد أسلمه، ولك في ذلك معياران: أحدهما: أن تقدر أن الذي قيل فيه، قد قيل فيك وهو حاضر، فتقول ما تحب أن يقوله. الثاني: أن تقدر أنه حاضر وراء جدار يتسمع عليك، فما تحرك في قلبك من نصرته في حضوره ينبغى أن يتحرك في غيبته. ومن لم يكن مخلصاً في إخائه فهو منافق. ومن ذلك التعليم والنصيحة، فليس حاجة أخيك إلى العلم بأقل من حاجته إلى المال، وإذا كنت غنياً بالعلم فواسه وأرشده. وينبغى أن يكون نصحك إياه سراً، والفرق بين التوضيح والنصيحة الإعلان والإسرار، كما أن الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الأعضاء، فإن أغضيت لسلامة دينك ولما ترى فيه إصلاح أخيك بالإعضاء، فأنت مدار، وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن. ¬

(¬1) يريد أن الترمذي أخرجه بسند صحيح.

ومن ذلك: العفو عن الزلات، فإن كانت زلته في دينه فتلطف في نصحه مهما أمكن، ولا تترك زجره ووعظه، فإن أبى فالمصارمة: الحق الخامس: الدعاء للأخ في حياته وبعد موته بكل ما تدعو به لنفسك. وفى أفراد مسلم من حديث أبى الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل". وكان أبو الدرداء رضى الله عنه يدعو لخلق كثير من إخوانه يسميهم بأسمائهم. وكان أحمد بن حنبل رحمه الله يدعو في السحر لستة نفر. وأما الدعاء بعد الموت، فقال عمرو بن حريث: إذا دعا العبد لأخيه الميت، أتى بها ملك قبره، فقال: يا صاحب القبر الغريب، هذه هدية من أخ عليك شفيق. الحق السادس: الوفاء والإخلاص، ومعنى الوفاء: الثبات على الحب إلى الموت، وبعد موت الأخ مع أولاده وأصدقائه، وقد أكرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عجوزاً وقال: "إنها كانت تغشانا في أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان". ومن الوفاء أن لا يتغير على أخيه في التواضع وإن ارتفع شأنه واتسعت ولايته وعظم جاهه. واعلم: أنه ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الدين، فقد كان الشافعى رحمه الله آخى محمد بن عبد الحكم، وكان يقربه ويقبل عليه، فلما احتضر قيل له: إلى من نجلس بعدك يا أبا عبد الله؟ فاستشرف له محمد بن عبد الحكم وهو عند رأسه ليومئ إليه فقال: إلى أبى يعقوب البويطى، فانكسر لها محمد، ومع أن محمدا كان قد حمل مذهبه، لكن البويطى كان أقرب إلى الزهد والورع، فنصح الشافعى رحمه الله المسلمين وترك المداهنة، فانقلب ابن الحكم عن مذهبه، وصار من أصحاب مالك. ومن الوفاء أن لا يسمع بلاغات الناس على صديقه، ولا يصادق عدو صديقه. الحق السابع: التخفيف وترك التكليف [والتكليف] (¬1)، وذلك أن لا يكلف أخاه ¬

(¬1) زيادة من الإحياء

3 ـ فصل [جملة من آداب المعاشرة للخلق]

ما يشق عليه، بل يروح سره عن مهماته وحاجاته، ولا يستمد من جاهه ولا ماله، ولا يكلفه التفقد لأحواله والقيام بحقوقه والتواضع له، ويكون قصده بمحبته الله وحده، والتبرك بدعائه، والاستئناس بلقائه، والاستعانة على دينه، والتقرب إلى الله تعالى بالقيام بحقوقه، وتمام التخفيف طى بساط الاحتشام حتى لا يستحى منه فيما لا يستحى فيه من نفسه. قال جعفر بن محمد: أثقل إخواني عليَّ من يتكلف لي وأتحفظ منه، وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي. وقال بعض الحكماء: من سقطت كلفته دامت ألفته، ومن تمام هذا الأمر أن ترى الفضل من أكون معهم منزلة الخادم. 3 ـ فصل [جملة من آداب المعاشرة للخلق] ولنذكر في آخر هذا الباب جملة من آداب المعاشرة للخلق: فمن حسن المعاشرة أن تتوفر من غير كبر، وتتواضع في غير ذلة، وأن تلقى الصديق والعدو بوجه الرضى من غير ذل لهم ولا خوف منهم، وتتحفظ في مجالسك من تشبيك أصابعك، وإدخال إصبعك في أنفك، وكثرة بصاقك، والتثاؤب. أصغ إلى محدثك، ولا تسأله الإعادة، ولا تحدث بإعجابك بولدك وجاريتك، ولا تتصنع تصنع المرأة في التزيين، ولا تتبذل تبذل العبد. وخوف أهلك في غير عنف، ولن لهم من غير ضعف. ولا تهازل أمتك وعبدك، فيسقط وقارك، ولا تكثر الالتفات إلي ورائك. ولا تجالس السلطان، فإن فعلت فاحذر الذنوب والغيبة، وصن سره، واحذر المداعبة عنده، وتحفظ من الجشاء بحضرته والتخلل، وإن قربك فكن منه على حذر، وإن استرسل إليك فلا تأمن انقلابه عليك، وارفق به رفقك بالصبى، وكلمة بما يشتهيه، ولا تدخل بينه وبين أهله وحشمه. وإياك وصديق العافية. ولا تجعل مالك أكرم من عرضك.

4 ـ باب في حقوق المسلم والرحم والجوار والملك ونحو ذلك

وإذا دخلت مجلساً فأجلس فيما هو أقرب للتواضع. ولا تجلس على الطريق، فإذا جلست فغض البصر، وانصر المظلوم، وأرشد الضال. ولا تبصق في جهة القبلة ولا عن يمينك، ولكن عن يسارك تحت قدمك اليسرى. واحذر مجالسة العوام، فإن فعلت فعليك بالتغافل عما يجرى من سوء أخلاقهم وترك الخوض في حديثهم. واحذركثرة المزاح فإن اللبيب يحقد عليك في المزح، والسفيه يجترئ عليك. ... 4 ـ باب في حقوق المسلم والرحم والجوار والملك ونحو ذلك فمن حقوق المسلم: أن تسلم عليه إذا لقيته، وتجيبه إذا دعاك، وتشتمه إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتشهد جنازته إذا مات، وتبر قسمه، وتنصح له إذا استنصحك، وتحفظه بظهر الغيب إذا غاب، وتحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك. وجميع هذا منقول في الآثار. ومنها: أن لا تؤذى أحداً من المسلمين بقول ولا فعل، وأن تتواضع للمسلمين، فلا تتكبر عليهم، ولا تسمع بلاغات الناس بعضهم في بعض، ولا تبلغ بعضهم ما تسمع من بعض. ومنها: أن لا تزيد في الهجرة على ثلاثة أيام لمن تعرفه، للحديث المشهور في ذلك. وفى حديث آخر عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمناً فوق ثلاثة أيام، فإذا مرت به ثلاثة أيام فلقيه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام، فقد اشتركا في الأجر، وأن لم يرد عليه فقد برئ المسلم من الهجرة". واعلم: أن هذه الهجرة إنما هى فيما يتعلق بالدنيا، أما حق الدين، فإن هجران

أهل البدع والأهواء والمعاصى ينبغى أن تدوم، ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق. ومنها: أن يحسن إلى كل من يقدر أن يحسن إليه من المسلمين ما استطاع، وأن لا يدخل على أحد منهم إلا باذنه، ويستأذن ثلاثاً فإن لم يأذن انصرف. ومنها: أن يخالق الناس بخلق حسن، وذلك أن يعامل كلاً منهم بحسب طريقته، فإنه متى لقى الجاهل بالعلم، واللاهى بالفقه، والغبى بالبيان، أذى وتأذى. ومنها: أن يوقر المشايخ، ويرحم الصبيان، وأن يكون مع الخلق كافة طلق الوجه رقيقاً، وأن يفي لهم بالوعد، وينصف الناس من نفسه، ولا يأتى إليهم إلا ما يجب أن يؤتى إليه. قال الحسن: أوحى الله إلى آدم عليه السلام أربع كلمات، وقال: فيهن جماع الأمر لك ولولدك: واحدة لى، وواحدة لك، وواحدة بينى وبينك، وواحدة بينك وبين الخلق. فأما التى لى: فتعبدنى لا تشرك بى شيئاً. وأما التى لك: فعملك أجزيك به أفقر ما تكون إليه. وأما التى بينى وبينك: فعليك الدعاء وعلى الإجابة. وأما التى بينك وبين الناس: فتصحبهم بالذى تحب أن يصحبوك به. ومنها زيادة توقير ذوي الهيئات. ومنها: إصلاح ذات البين، وستر عورات المسلمين. واعلم: أنه من تأمل ستر الله تعالى على العصاة في الدنيا اقتدى بلطفه، فإنه جعل الشهادة في الزنى أن يشهد أربعة من العدول أنهم شهدوا ذلك كالميل في المكحلة، وهذا لا يتفق، ومن هذا أثر كرمه في الدنيا يرجى منه ذلك في الآخرة. ومنها: أن يتقى مواضع التهم، صيانة لقلوب الناس عن سوء الظن به، وألسنتهم عن غيبته. ومنها أن يشفع لكل من له حاجة من المسلمين إلى من له عنده منزلة، ويسعى في قضاء حوائجهم. ومنها: أن يبدأ بالسلام كل مسلم قبل أن يكلمه، ومن السنة المصافحة. فقد روى عن أنس رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما من

مسلمين التقيا، فأخذ أحدهما بيد صاحبه، إلا كان حقاً على الله عز وجل أن يحضر دعاءهما، وأن لا يفرق بين أيديهما حتى يغفر لهما". وفى حديث آخر: "إذا صافح المؤمن المؤمن نزلت عليهما مائة رحمة، تسعة وتسعون لأبشهما وأحسنهما خلقاً" (¬1). ولا بأس بتقبيل يد المعظم في الدين، ولا بأس بالمعانقة. وأما الخذي بالركاب لتوقير العلماء، فقد فعل ذلك ابن عباس بزيد بن ثابت رضى الله عنهما، والقيام على سبيل الإكرام لأهل الفضل حسن، وأما الانحناء فمنهى عنه. ومنها: أن يصون عرض أخيه المسلم ونفسه وماله عن ظلم الغير، ويناضل دونه وينصره. ومنها: أنه إذا ابتلى بذي شر، فينبغى أن يجامله ويتقيه، لحديث عائشة رضى الله عنها. وقال محمد بن الحنفية: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بداً، حتى يجعل الله عز وجل له فرجاً. ومنها: أن يجتنب مخالطة الأغنياء، ويختلط بالمساكين، ويحسن إلى الأيتام. ومنها: عيادة مرضاهم. ومن آداب العائد: أن يضع يده على المريض، يسأله كيف هو، ويخفف الجلوس، ويظهر الرقة، ويدعو له بالعافية، ويغض البصر عن عورات المكان. ويستحب للمريض أن يفعل ما أخرجه مسلم في أفراده، من حديث عثمان بن أبى العاص رضى الله عنه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ضع يدك على الذي يألمك من جسدك وقل: بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر". وجملة آداب المريض: حسن الصبر، وقلة الشكوى والتضجر، والفزع إلى ¬

_ (¬1) قال الحافظ العراقي: رواه البراز في "مسنده" والخرائطي في "مكارم الأخلاق" والبيهقي في "الشعب" وفي إسناده نظر.

5 ـ فصل في حقوق الأقارب والرحم

الدعاء، والتوكل على الله سبحانه. ومنها: أن يشيع جنائزهم، ويزور قبورهم. والمقصود من التشييع: قضاء حق المسلمين، والاعتبار. قال الأعمش: كنا نحضر الجنائز، فلا ندرى من نعزى لحزن القوم كلهم. والمقصود من زيارة القبور: الدعاء، والاعتبار، وترقيق القلب. ومن آداب تشييع الجنائز: المشي، ولزوم الخشوع، وترك الحديث، وملاحظة الميت، والتفكير في الموت، والاستعداد له. وأما حقوق الجار: فاعلم أن الجوار يقتضى حقاً وراء ما تقتضيه أخوة الإسلام فيستحق ما يستحقه كل مسلم وزيادة، وجاء في الحديث: "إن الجيران ثلاثة: جار له حق واحد. وجار له حقان: فالجار المسلم، له حق الإسلام، وحق الجوار. وأما الذي له حق واحد: فالجار المشرك" (¬1). واعلم: انه ليس حق الجوار كف الأذى فقط، بل احتمال الأذى والرفق، وابتداء الخير، وأن يبدأ جاره بالسلام، ولا يطيل مهم الكلام، ويعوده في المرض، ويعزيه في المصيبة، ويهنئه في الفرح، ويصفح عن زلاته، ولا يطلع إلى داره، ولا يضايقه في وضع الخشب على جداره، ولا في صب الماء في ميزابه، ولا في طرح التراب في فنائه، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف من عوراته، ولا يتسمع عليه كلامه، ويغض طرفه عن حرمه، ويلاحظ حوائج أهله إذا غاب. 5 ـ فصل في حقوق الأقارب والرحم وأما حقوق الأقارب والرحم، ففى الحديث الصحيح، من رواية عائشة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلنى وصله الله، ومن قطعنى قطعه الله". ¬

_ (¬1) أخرجه البزار، والحسن بن يوسف في "مسنديهما"، وأبو الشيخ في "كتاب الثواب" وأبو نعيم في "الحلية"، من حديث جابر، ورواه ابن عدي من حديث عبد الله بن عمرو، قال الحافظ العراقي: وكلاهما ضعيف.

باب العزلة

وفى حديث آخر من أفراد البخارى: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها". وفى حديث آخر من أفراد مسلم أن رجلاً قال: يارسول الله، إن لى قرابة أصلهم ويقطعونى، وأحسن إليهم ويسيئون إلى، وأحلم عنهم ويجهلون على، قال؛ "لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل، ولايزال معك من الله ظهير عليهم مادمت على ذلك". والمعنى أنك منصور عليهم، وقد انقطع احتجاجهم عليه بحق القرابة، كما ينقطع كلام من سف المل، وهو الرماد الحار. والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة في صلة الرحم، وفي حقوق الوالدين، وفي تأكد حق الأم. وأما حقوق الولد، فاعلم أنه لما كانت الطباع تميل إلى الولد لم يحتج إلي تأكيد الوصية به، إلا إنه قد يغلب هوى الوالد للولد، فيترك تعليمه وتأديبه. وقد قال الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]. قال المفسرون: معناه: علموهم وأدبوهم. وينبغى للوالد أن يحسن اسم ابنه، ويعق عنه (¬1)، فإذا بلغ سبع سنين أمره بالصلاة وختنه، فإذا بلغ زوجه. وأما حقوق المملوك، فأن يطعمه، ويكسوه، ولا يكلفه ما لا يطيق، ولا ينظر إليه بعين الازدراء، وأن يعفو عن زلله، وليتذكر الله عند زلل نفسه، فيعفو رجاء أن يعفو الله تعالى عنه. ... باب العزلة اختلف الناس في العزلة والمخالطة، أيتهما أفضل؟ مع أن كل واحدة منهما لا تنفك عن فوائد وغوائل، وأكثر الزهاد اختاروا العزلة. وممن ذهب إلي اختيار العزلة: سفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم، وداود ¬

_ (¬1) عق عن ولده: إذا ذبح عنه يوم سابعه عقيقه. وأصل العقيقة: الشعر الذي يكون على رأس الصبى حين يولد. أي: شاتين للذكر وشاة للأنثى. انظر كتاب "تحفة المودود بأحكام المولود" لابن قيم الجوزية بتحقيق الاستاذ عبد القادر الأرناؤوط طبع مكتبة دار البيان بدمشق.

الطائي، والفضيل، وبشر الحافي، في آخرين. وممن ذهب إلى استحباب المخالطة سعيد بن المسيب، وشريح، والشعبي، وابن المبارك في آخرين. ولكل طائفة فيما ذهبت إليه حجج، ونحن نشير إلى ذلك. أما حجة الأولين، فقد روى في "الصحيحين" من حديث أبي سعيد قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: "رجل يجاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره". وفي حديث عقبة بن عامر رضى الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: "املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك". وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: خذوا بحظكم من العزلة. وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لوددت أن بيني وبين الناس باباً من حديد، لايكلمنى أحد ولا أكلمه حتى ألقى الله سبحانه. وقال ابن مسعود رضى الله عنه: كونوا ينابيع العلم، مصابيح الليل، أحلاس البيوت (¬1) جدد القلوب (¬2) خُلقان (¬3) الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون على أهل الأرض. وقال أبو الدرداء رضى الله عنه: نعم صومعة المرء المسلم بيته، يكف لسانه وفرجه وبصره، وإياكم ومجالس الأسواق، فإنها تلهى وتلغى. وقال داود الطائى: فر من الناس كما تفر من الأسد. وقال أبو مهلهل: أخذ بيدي سفيان الثوري وأخرجني إلى الجبانة، فاعتزلنا ناحية، فبكى ثم قال: يا أبا مهلهل، إن استعطت أن لا تخالط في زمانك أحداً فافعل، وليكن همك مرمة (¬4) جهازك. ¬

(¬1) الأحلاس: جمع حلس، يقال: فلان حلس بيته: إذا كان يقيم فيه ولا يبرحه. (¬2) جدد القلوب: كناية عن عدم الفترة في العبادة. (¬3) خلقان: جمع خلق، يقول: ثوب خلق: إذا كان بالياً. (¬4) المرم: إصلاح ما فسد، ولم ما تفرق.

1 ـ فصل في ذكر فوائد العزلة وغوائلها وكشف الحق في فضلها

أما حجة من اختار المخالطة، فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم "، واحتجوا بأشياء غير ذلك ضعيفة لا تقوم بها حجة على ذلك، منها قول الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]، وهذا ضعيف، لأن المراد تفرق الآراء والمذاهب في أصل الشريعة، واحتجوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا هجرة فوق ثلاث " قالوا: والعزلة هجر بالكلية، وهذا ضعيف لأن المراد به قطع الكلام والسلام والمخالطة المعتادة. 1 ـ فصل في ذكر فوائد العزلة وغوائلها وكشف الحق في فضلها اعلم: أن اختلاف الناس في هذا أيضاً هو كاختلافهم في فضيلة النكاح والعزوبة، وقد ذكرنا أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فكذلك نقول فيما نحن فيه، فلنذكر أولاً فوائد العزلة وهى ست. الفائدة الأولى: الفراغ للعبادة، والاستئناس بمناجاة الله سبحانه، فإن ذلك يستدعى فراغاً، لا فراغ مع المخالطة، فالعزلة وسيلة إلى ذلك خصوصاً في البداية. قيل لبعض الحكماء: إلى أي شئ أفضى بهم الزهد والخلوة؟ قال: إلى الأنس بالله. وقال أويس القرني رضى الله عنه: ما كنت أرى أن أحداً يعرف ربه فيأنس بغيره. واعلم: أن من تيسر له بدوام الذكر الأنس بالله، أو بدوام الفكر تحقيق معرفة الله، فالتجرد لذلك أفضل من كل ما يتعلق بالمخالطة. الفائدة الثانية: التخلص بالعزلة عن المعاصيالتي يتعرض لها الإنسان غالباً بالمخالطة، وهى أربعة: أحدهما: الغيبة، فإن عادة الناس التمضمض بالأعراض والتفكه بها، فإن خالطتهم ووافقتهم أثمت وتعرضت لسخط الله تعالى، وإن سكت كنت شريكاً، فإن المستمع أحد المغتابين، وإن أنكرت أبغضوك واغتابوك فازدادوا غيبة إلى الغيبة، وربما

خرجوا إلى الشتم. الثانية: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن من خالط الناس لم يخل ع مشاهدة المنكرات، فإن سكت عصى الله، وإن أنكر تعرض لأنواع من الضرر، في العزلة سلامة من هذا. الثالثة: الرياء، وهو الداء العضال الذي يعسر الاحتراز منه، وأول ما في مخالطة الناس إظهار التشوق إليهم، ولا يخلو ذلك عن الكذب، إما في الأصل، وإما في الزيادة، وقد كان السلف يحترزون في جواب قول القائل: كيف أصبحت، وكيف أمسيت؟ كما قال بعضهم وقد قيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا. واعلم: أنه إذا كان سؤال السائل لأخيه: كيف أصبحت؟ لا يبعثه عليه شفقة ولا محبة، كان تكلفاً أو رياء، وربما سأله وفى القلب ضغن وحقد يورث أن يعلم فساد حاله، وفى العزلة الخلاص عن هذا، لأنه من لقي الخلق ولم يخالقهم بأخلاقهم، مقتوه واستثقلوه واغتابوه، ويذهب دينهم فيه، ويذهب دينه ودنياه في الانتقام منهم. الرابعة: مسارقة الطبع من أخلاقهم الرديئة، وهو داء دفين قلما ينتبه له العقلاء فضلاً عن الغافلين، وذلك أنه قل أن يجالس الإنسان فاسقاً مدة، مع كونه منكراً عليه في باطنه، إلا ولو قاس نفسه إلى ما قبل مجالسته لوجد فارقاً في النفور عن الفساد، لأن الفساد يصير بكثرة المباشرة هيناً على الطبع، ويسقط وقعه واستعظامه، ومهما طالت مشاهدة الإنسان الكبائر من غيره، احتقر الصغائر من نفسه، كما أن الإنسان إذا لاحظ أحوال السلف في الزهد والتعبد، احتقر نفسه، واستصغر عبادته، فيكون ذلك داعية إلى الاجتهاد، وبهذه الدقيقة يعرف سر قول القائل: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. ومما يدل على سقوط وقع الشيء بسبب تكرره ومشاهدته، أن أكثر الناس إذا رأوا مسلماً قد أفطر في رمضان، استعظموا ذلك، حتى يكاد يفضي إلى اعتقادهم فيه الكفر، وقد يشاهدون من يؤخر الصلاة عن أوقاتها، فلا ينفرون عنه نفورهم عن تأخير الصوم، مع أن ترك صلاة واحدة تخرج إلى الكفر، ولا سبب لذلك إلا أن الصلاة تتكرر، والتساهل فيها يكثر، وكذلك لو لبس الفقيه ثوباً حرير، أو خاتماً من ذهب، لاشتد إنكار الناس لذلك، وقد يشاهدونه يغتاب، فلا يستعظمون ذلك،

والغيبة أشد من لبس الحرير، ولكن لكثرة سماعها، ومشاهدة المغتابين، سقط عن القلوب وقعها، فافطن لهذه الدقائق واحذر مجالسة الناس، فانك لا تكاد ترى منهم إلا ما يزيد في حرصك على الدنيا، وفى غفلتك عن الآخرة، وتهون عليك المعصية، وتضعف رغبتك في الطاعات، فإن وجدت مجلساً يذكر الله فيه، فلا تفارقه فإنه غنيمة المؤمن. الفائدة الثالثة: الخلاص من الفتن والخصومات، وصيانة الدين عن الخوض فيها، فإنه قلما تخلو البلاد من العصبية والخصومات، والمعتزل عنهم سليم. وقد روى ابن عمر رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الفتن، ووصفها وقال: "إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم (¬1)، وخفت أماناتهم، فكانوا هكذا" وشبك بين أصابعه، فقلت: ما تأمرني؟ فقال: "الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ما تنكر، وعليك بأمر الخاصة، ودع أمر العامة". وقد روى غير ذلك من الأحاديث في معناه. الفائدة الرابعة: الخلاص من شر الناس، فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة، ومرة بالنميمة، ومرة بسوء الظن، ومرة بالتهمة، ومرة بالأطماع الكاذبة، ومن خالط الناس لم ينفك من حاسد وعدو، وغير ذلك من أنواع الشر التي يلقاها الإنسان من معارفه، وفى العزلة خلاص من ذلك، كما قال بعضهم: عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرنَّ من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب وقال عمر رضى الله عنه: في العزلة راحة من خلطاء السوء. وقال إبراهيم بن أدهم: لا تتعرف إلى من لا تعرف، وأنكر من تعرف. وقال رجل لأخيه: أصحبك إلى الحج؟ فقال: دعنا نعش في ستر الله، فإنا نخاف أن يرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه. وهذه فائدة أخرى في العزلة، وهى بقاء الستر على الدين والمروءة وسائر العورات. ¬

(¬1) يقال: مرجت عهودهم: إذا اختلطت، ومرج العهود: اضطرابها، وقلة الوفاء بها.

2 ـ فصل في آفات العزلة

الفائدة الخامسة: أن ينقطع طمع الناس عنك، وطمعك عنهم. أما طمعهم، فإن رضاهم غاية لا تدرك، فالمنقطع عنهم قاطع لطمعهم في حضور ولائمهم وإملاكاتهم (¬1)، وغير ذلك. وقد قيل: من عم الناس بالحرمان رضوا عنه كلهم. وأما انقطاع طمعك، فإن من نظر إلى زهرة الدنيا تحرك حرصه، وانبعث بقوة الحرص طمعه، ولا يرى إلا الخيبة في أكثر المطامع فيتأذى. وفى الحديث: "انظروا إلى من دونكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم". وقال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه: 131]. الفائدة السادسة: الخلاص من مشاهدة الثقلاء والحمقى، ومقاساة أخلاقهم، وإذا تأذى الإنسان بالثقلاء، لم يلبث، أن يغتابهم، فإن آذوه بالقدح فيه كافأهم، فانجر الأمر إلى فساد الدين، وفى العزلة سلامة من ذلك. 2 ـ فصل في آفات العزلة اعلم: أن من المقاصد الدينية والدنيوية ما يستفاد من الاستعانة بالغير، ولا يحصل ذلك إلا بالمخالطة. ومن فوائد المخالطة: التعلم والتعليم، والنفع والانتفاع، والتأديب والتأدب، والاستئناس والإيناس، ونيل الثواب في القيام بالحقوق، واعتياد التواضع، واستفادة التجارب من مشاهدة هذه الأحوال، والأحوال، والاعتبار بها، فهذه فوائد الخلطة، ولنفصلها: الفائدة الأولى: التعلم والتعليم، وقد ذكرنا فضلهما في كتاب العلم، فأما من تعلم الفرض ورأى أنه لا يتأتى منه الخوض في العلوم، ورأى الاشتغال بالعبادة، فليعتزل، وإن كان يقدر على التبرز في علوم الشرع فالعزلة في حقه قبل التعلم غاية الخسران ¬

(¬1) الملاك لأملاك: التزويج وعقد النكاح.

ولهذا قال الربيع بن خثيم: تفقه ثم اعتزل، والعلم أصل الدين، ولا خير في عزلة العوام. سئل بعض العلماء: ما تقول في عزلة الجاهل؟ فقال: خبال ووبال، فقيل له: فالعالم؟ فقال: مالك ولها، دعها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها (¬1). وأما التعليم، ففيه ثواب عظيم إذا صحت النية فيه، ومتى كان القصد إقامة الجاه والاستكثار من الأتباع، فهو هلاك الدين، وقد سبق ذلك في كتاب العلم، والغالب في هذا الزمان سوء القصد من المتعلمين، فيقتضي الدين الاعتزال عنه، ولا يحل كتمان العلم، ولا ينبغي أن يغتر بقول من قال: تعلمنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، فإنه أشار بهذه إلى علوم القرآن والحديث ومعرفة سير الأنبياء والصحابة، وذلك يتضمن التخويف والتحذير، وهو سبب لإثارة الخوف من الله سبحانه، فإن لم يؤثر في الحال أثر في المال، فأما علم الكلام وعلم الخلاف، فإنه لا يرد الراغب في الدنيا إلى الله تعالى، بل لا يزال صاحبة متمادياً في حرصه إلى آخر عمره. الفائدة الثانية: النفع والانتفاع، أما الانتفاع بالناس، فبالكسب والمعاملة، والمحتاج إلى ذلك مضطر إلى ترك العزلة، وأما إن كان معه ما يقنعه، فالعزلة أفضل، إلا أن يقصد التصديق بكسبه، فذلك أفضل من العزلة، إلا أن تكون العزلة مفيدة له معرفة الله تعالى والأنس به، عن كشف وبصيرة، لا عن أوهام وخيالات فاسدة. وأما النفع: فهو أن ينفع الناس، إما بماله أو ببدنه لقضاء حوائجهم، ومن قدر على ذلك مع القيام بحدود الشرع، فهو أفضل من العزلة إن كان لا يشتغل في عزلته إلا بنوافل الصلوات والأعمال البدنية، وإن كان ممن انفتح له طريق العمل بالقلب بدوام ذكر أو فكر، فذاك الذي لا يعدل به البتة. ¬

(¬1) شبه عزلة العالم بالإبل التي معها حذاؤها وسقاؤها، يريد أنها تقوى على المشي وقطع الأرض وقصد المياه ووردها ورعى الشجر والامتناع عن السباع المفترسة، شهت بمن كان معه في السفر حذاء وسقاء، وهكذا العزلة إذا كانت من العالم. فإنه يكون أميناً على نفسه من الشيطان والنفس الأمارة بالسوء. عدؤاها وسقاؤها.

والمجاهدة في تحمل أذاهم، وكسر النفس، وقهر الشهوة، وذلك أفضل من العزلة في حق من لم تتهذب أخلاقه. وينبغي أن يفهم أن الرياضة لا تراد لنفسها كما لا يراد ذلك من رياضة الدابة، بل المراد منها أن تتخذ مركباً تقطع عليه المراحل، والبدن مطيه يسلك بها طريق الآخرة، وفيها شهوات إن لم تكسر جمحت براكبها في الطريق، فمن اشتغل طول عمره بالرياضة كان كمن اشتغل طول عمره برياضة الدابة ولم يركبها، ولا يستفيد إلا الخلاص من عضها ورفسها، وهى لعمري فائدة، ولكن ليست معظم المقصود، قيل لراهب: يا راهب، فقال: لست براهب، إنما أنا كلب عقور، حبست نفسي حتى لا أعقر الناس، وهذا حسن بالإضافة إلى من يعقر، من يعقر، لكن لا ينبغي أن يقتصر عليه. وأما التأديب: فهو أن يؤدب غيره، ويتطرق إليه من دقائق الآفات ما يتطرق إلى نشر العلم على ما ذكره. الفائدة الرابعة: الاستئناس والإيناس، وقد يكون مستحباً كالاستئناس بأهل التقوى وقد يقصد به ترويح القلوب من كرب الوحدة، فينبغي أن يكون الاستئناس في بعض الساعات بمن لا يفسد بقيتها، وليحصل أن يكون حديثه عند اللقاء في أمور الدين. الفائدة الخامسة: في نيل الثواب وإنالته. أما الأول فبحضور الجنائز، وعيادة المرضى، وحضور الإملاكات، والدعوات، ففيها ثواب من جهة إدخال السرور على المؤمن. وأما الثاني: فهو أن يفتح بابه للناس ليعزوه أو يهنوه أو يعودوه، فإنهم ينالون بذلك ثواباً، وكذلك إن كان من العلماء فأذن لهم في زيارته. ولكن ينبغي أن يزن ثواب هذه المخالطات بآفاتها، فيرجح العزلة أو المخالطة، وقد كان أكثر السلف يؤثرون العزلة عليها. الفائدة السادسة: التواضع، ولا يقدر على ذلك في الوحدة، فقد يكون الكبر سبباً في اختياره العزلة، ويمنعه في المحافل التقصير في إكرامه وتقديمه، وربما ترفع عن مخالطتهم لارتفاع محله عند نفسه، أو نحو ذلك.

وعلامة من هذه صفته أن يحب أن يزار ولا يحب أن يزور، ويفرح بتقرب السلاطين والعوام إليه واجتماعهم على بابه، وتقبيل يده، فالعزلة بهذا السبب جهل، لأن التواضع لا يغض من منصب الكبير. فإذا عرفت فوائد العزلة وغوائلها تحققت أن الحكم عليها مطلقاً بالتفضيل نفياً وإثباتاً خطأ، بل ينبغي أن ينظر إلى الشخص وحاله، وإلى الخليط وحاله، وإلى الباعث على مخالطته، وإلى الفائت بسبب مخالطته من الفوائد، ويقاس الفائت بالحاصل، فعند ذلك يتبين الحق ويتضح الأفضل. فقد قال الشافعي رحمه الله: الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة للسوء، فكن بين القبض والبسط، ومن ذكر سوى هذا فهو قاصر، وإنما هو إخبار عن حاله، فلا يجوز أن يحكم بها على غيره المخالف له في الحال. فإن قيل: فما آداب العزلة؟ قلنا: ينبغي للمعتزل أن ينوى بعزلته كف شره عن الناس، ثم طلب السلامة من شر الأشرار، ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين، ثم تجريد الهمة لعبادة الله تعالى أبداً، فهذه آداب بينة. ثم ليكن في خلواته مواظباً على العلم والعمل، والذكر والفكر، فيجتنى ثمرة العزلة وليمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه وزيارته ليصفو وقته، وليكف عن السؤال عن أخبارهم، وعن الإصغاء إلى أراجيف البلد وما الناس مشغولون به، فإن جميع ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث في أثناء الصلاة، فوقع الأخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض، وليقنع باليسير من المعيشة، وإلا اضطره التوسع إلى مخالطة الناس. وليكن صبوراً على ما يلقاه من أذى الناس، ولا يصغي إلى الثناء عليه بالعزلة، ولا القدح فيه بترك الخلطة، فإن ذلك يؤثر في القلب فيقف عن السير في طريق الآخرة. وليكن له جليس صالح يستريح إليه ساعة عن كد المواظبة، ففى ذلك عون على بقية الساعات، ولا يتم الصبر في العزلة إلا بقطع عن الدنيا، ولا ينقطع طمعه إلا بقصر أمله، فيقدر أنه إذا أصبح لا يمسي، وإذا أمسى لا يصبح، فيسهل عليه صبر يوم.

وليكن كثير الذكر للموت ووحدة القبر متى ضاق عليه قلبه من الوحدة، وليتحقق أن من لم يحصل في قلبه من ذكر الله ومعرفته ما يأنس به، لم يطق وحشة الوحدة بعد الموت، وأن من انس بذكر الله ومعرفته لم يزل الموت أنسه، لأن الموت لا يهدم محل الأنس والمعرفة، كما قال الله تعالى في حق الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران: 169] وكل متجرد لله في جهاد نفسه، فهو شهيد، كما ورد عن بعض الصحابة أنه قال: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. ***

كتاب آداب السفر

كتاب آداب السفر السفر وسيلة إلى الخلاص من مهروب عنه، أو الوصول إلى مرغوب إليه. والسفر سفران: سفر بظاهر البدن عن الوطن، وسفر بسير القلب عن أسفل سافلين إلى ملكوت السماوات، وهذا أشرف السفرين، فإن الواقف على الحالة التى نشأ عليها عقيب الولادة، الجامد على ما تلقفه بالتقليد من الآباء، لازم درجة القصور، قانع برتبة النقص، ومستبدل بمتسع عرضه السماوات والأرض ظلمة السجن وضيق الحبس. ولم أر في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام إلا أن هذا السفر لما كان مقتحمه في خطر خطير، اندرست مسالكه. فأما سفر البدن: فهو أقسام، وله فوائد وآفات عظيمة، فإنه يضاهي النظر في العزلة والمخالطة، وقد ذكرنا منهاج ذلك. فالفوائد الباعثة عليه لا تخلو من هرب أو طلب، فالهرب إما من أمر له نكاية في الأمور الدنيوية، كالطاعون إذا ظهر ببلد، أو كخوف فتنة وخصومة، أو غلاء سعر. وإما أمر له نكاية في الدين، كمن ابتلى في بلده بجاه أو مال أو اتساع أسباب، فصده عن التجرد لله تعالى، فيؤثر الغربة والخمول ويجتنب السعة والجاه، وكمن يُدعى إلى بدعة أو إلى ولاية عمل لا تحل مباشرته، فيطلب الفرار منه. وأما المطلوب، فهو إما دنيوى كالمال والجاه، أو دينى كالعلم بأمور دينه، أو بأخلاقه في نفسه، أو بآيات الله في أرضه، وقلّ مذكور بالعلم محصل من زمان الصحابة رضى الله عنهم إلى زمانناً إلا وحصل العلم بالسفر وسافر لأجله. وأما علمه بنفسه وأخلاقه، فذلك أيضاً مهم، فإن سلوك الآخرة لا يمكن إلا بتحسين الخلق وتهذيبه، وإنما سمى السفر سفراً، أنه يسفر عن الأخلاق. وفى الجملة فالنفس في الوطن لا تظهر خبائث أخلاقهم لاستئناسها بما يوافق طبعها من المألوفات المعهودة، فإذا حملت وعثاء السفر، وصرفت عن مألوفاتها المعتادة، ولامتحنت بمشاق الغربة، انكشفت غوائلها، ووقع الوقوف على عيوبها.

1 ـ فصل [في السفر المباح]

وأما آيات الله في أرضه، ففى مشاهدتها فوائد للمستبصر: ففيها قطع متجاورات، وفيها الجبال والبرارى والقفار والبحار، وأنواع الحيوان والنبات، وما من شئ إلا وهو شاهد لله بالوحدانية، ومسبح بلسان ذلق لا يدركه إلا من ألقى السمع وهو شهيد. وإنما نعني بالسمع: سمع الباطن، فبه يدرك نطق لسان الحال، وما من ذرة في السماوات والأرض إلا ولها أنواع شاهدات لله سبحانه بالوحدانية. وقد ذكرنا أن فوائد السفر الهرب من الولاية والجاه وكثرة العلائق، لأن الدين لا يتم إلا بقلب فارغ عن غير الله، ولا يتصور فراغ القلب في الدنيا عن مهمات الدنيا والحاجات الضرورية، ولكن يتصور تخفيفها وتقليلها، وقد نجا المخفون وهلك المثقلون، والمخف الذي ليست الدنيا أكبر همه. 1 ـ فصل [في السفر المباح] ومن أقسام السفر أن يكون مباحاً، كسفر التفرج والتنزه، فأما السياحة في الأرض لا لمقصود، ولا إلى مكان معروف، فإنه منهى عنه. فقد روينا من حديث طاووس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا رهبانية، ولا تبتل، ولا سياحة في الإسلام" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرج الدارمي 2/ 133 من حديث سعد بن أبي وقاص قال: لما كان من أمر عثمان بن مظعون الذي كان ممن ترك النساء بعث، إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: "يا عثمان إني لم أومر بالرهبانية ... " وسنده قوي، وأخرج أحمد 6/ 226 من طريق عروة قال: دخلت امرأة عثمان بن مظعون على عائشة وهي باذة الهيئة، فسألتها: ما شأنك، فقالت: زوجي يقوم الليل، ويصوم النهار، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت عائشة ذلك له، فلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، فقال: "يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفما لك فيّ أسوة ... " ورجاله ثقات. وأخرج البخاري: 9/ 101، ومسلم (1402) من حديث سعد بن أبي وقاص أنه: "رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا" وقد ذم الله أهل الكتاب لابتداعهم الرهبانية، وأخبر أنه لم يشرعها لهم وإنما التزموها من تلقاء أنفسهم، قاصدين بذلك رضوان الله، لكنهم لم يقوموا بما التزموه حق القيام، فقال سبحانه {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} قال ابن كثير: وهذا ذم لهم من وجهين، أحدهما، الابتداع في دين الله مما لم يأمر به الله، والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة تقربهم إلى الله عز وجل. ولما قال أحد الثلاثة الذين أتوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، يسألونه عن عبادته: وقال: إني لا أتزوج النساء، غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" أخرجه البخاري في "صحيحه".

2 ـ فصل فيما لابد للمسافر منه

وقال الإمام أحمد بن حنبل: ما السياحة من الإسلام في شئ ولا من فعل النبيين ولا الصالحين. ولأن السفر يشتت القلب، فلا ينبغى للمريد أن يسافر إلا في طلب علم أو مشاهدة شيخ يقتدى به في سيرته. وللسفر آداب معروفة مذكورة في مناسك الحج وغيرها. من ذلك أن يبدأ برد المظالم، وقضاء الديون، وإعداد النفقة لمن تلزمه نفقته، ورد الودائع. ومنها: أن يختار رفيقاً صالحاً، ويودع الأهل والأصدقاء. ومنها: أن يصلي صلاة الاستخارة، وأن يكون يوم الخميس بكرة. ومنها: أن لا يمشى منفرداً، وأن يكون أكثر سيره بالليل، ولا يهمل الأذكار والدعية إذا وصل منزلاً أو علا نشزاً أو هبط وادياً. ومنها: أن يستصحب معه ما فيه مصلحته، كالسواك، والمشط، والمرآة، والمكحلة، ونحو ذلك. 2 ـ فصل فيما لابد للمسافر منه ينبغى له أن يتزود للدنيا والآخرة، أما زاد الدنيا، فالمطعم والمشرب وما يحتاج إليه. ولا ينبغى أن يقول: أخرج متوكلاً فلا أحمل زاداً، فهذا جهل، فإن حمل الزاد لا يناقض التوكل. وأما زاد الآخرة، فهو العلم الذي يحتاج إليه في طهارته وصلاته وعبادته، وتعلم رخص السفر، كالقصر والجمع والفطر، ومدة مسح السفر على الخفين والتيمم، والتنفل للماشى، وكل ذلك مذكور في كتب الفقه بشروط. ولابد للمسافر من معرفة ما يتجدد بسب السفر، وهو علم القبلة والأوقات، فمعرفة ذلك في السفر آكد من الحضر. ويستدل على القبلة بالنجوم والشمس والقمر والرياح والمياه والجبال والمجرة على ما هو مبين في موضعه، ويعتبر الجبال بأن وجودها جميعها مستقبلة البيت.

وأما المجرَّة فتكون أول الليل ممتدة على كتف المصلى اليسرى إلى القبلة، ثم يلتوى رأسها حتى تصير في آخر الليل على كتفى اليمنى، وتسمى المجرة: سُرُج السماء. وأما معرفة أوقات الصلوات، فلابد منها، ووقت الظهر يدخل بزوال الشمس، فلينصب المسافر عوداً مستقيماً، وليعلِّم علامات على رأس الظل، ولينظر، فإن رآه في النقصان علم انه لم يدخل وقت الظهر، فإذا أخذ في الزيادة علم أنه قد زالت الشمس ودخل الوقت، وهو أول وقت الظهر، وآخره إذا سرى ظل كل شئ مثله، ثم يدخل أول وقت على العصر، وآخره إلى أن يصير ظل كل شئ مثليه. وعن الإمام أحمد: أن آخره ما لم تصفر الشمس، ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى غروب الشمس، وباقى الأوقات معروفة. ***

كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعلم: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب العظم في الدين، وهو المهم الذي بعث الله به النبيين، ولو طوى بساطه، لاضمحلت الديانة، وظهر الفساد، وخربت البلاد. قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. [آل عمران: 104]، وفى هذه الآية بيانٌ أنه فرض على الكفاية لا فرض عين، لأنه قال: {ولتكن منكم أمة}، ولم يقل: كونوا كلكم آمرين بالمعروف، فإذا قام به من يكفى سقط عن الباقين، واختص الفلاح بالقائمين المباشرين له. وفى القرآن العظيم آيات كثيرة في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وعن النعمان بن بشير رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها مثل قوم ركبوا سفينة فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها، وأصاب بعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو خرقنا في نصينا خرقاً فاستقينا منه، ولم نؤذى من فوقنا، فإن تركوها وأمرهم هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً". 1 ـ فصل في مراتب الإنكار وبعض ما ورد فيه فقد جاء في الحديث المشهور من رواية مسلم، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". وفى حديث آخر: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". وفي حديث آخر: "إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له: أنت ظالم، فقد تُودِّع منهم". وقام أبو بكر رضى الله عنه، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس،

2 ـ فصل في أركانه وشروطه ودرجاته وآدابه ونحو ذلك

إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وإنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروا أوشك أن يعمهم الله بعذاب". وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم". 2 ـ فصل في أركانه وشروطه ودرجاته وآدابه ونحو ذلك اعلم: أن أركان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أربعة: أحدها: أن يكون المنكر مكلفاً مسلماً قادراً، وهذا شرط لوجوب الإنكار. فإن الصبي المميز، له إنكار المنكر، ويثاب على ذلك، لكن لا يجب عليه. وأما عدالة المنكر، فاعتبرها قوم وقالوا: ليس للفساق أن يحتسب، وإنما استدلوا بقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] وليس لهم في ذلك حجة. واشترط قوم كون المنكر مأذوناً فيه من جهة الإمام أو الوالي، ولم يجيزوا لآحاد الرعية الحسبة، وهذا فاسد، لأن الآيات والأخبار عامة تدل على أن كل من رأى منكراً فسكت عنه عصى، فالتخصيص بإذن الإمام تحكم. ومن العجب أن الروافض زادوا على هذا فقالوا: لا يجوز الأمر بالمعروف ما لم يخرج الإمام المعصوم، وهؤلاء أخس رتبة من أن يتكلموا، لكن جوابهم أن يقال لهم إذا جاءوا إلى القاضي طالبين حقوقهم: نصرتكم أمر بالمعروف، واستخراج حقوقكم من يد من ظلمكم نهى عن المنكر، ولم يجئ زمان ذلك لأن الإمام لم يخرج بعد. فإن قيل: بى الأمر بالمعروف إثبات سلطنة وولاية على المحكوم عليه، ولذلك لم يثبت للكافر على المسلم، مع كونه حقاً، فينبغي أن لا يثبت لآحاد الرعية إلا بتفويض من السلطان. قلنا: أما الكافر فممنوع من ذلك لما فيه من السلطة والعز، وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة.

واعلم أن الحسبة لها خمس مراتب: 1ـ التعريف: 2ـ والوعظ بالكلام اللطيف. الثالثة: السب والتعنيف، ولسنا نعنى بالسب الفاحشة، بل نقول له: يا جاهل يا أحمق، ألا تخاف من الله تعالى! ونحو ذلك. والرابعة: المنع بالقهر، ككسر الملاهي وإراقة الخمر. والخامسة: التخويف والتهديد بالضرب، أو مباشرة الضرب له حتى يمتنع عما هو عليه، فهذه المرتبة تحتاج إلى الإمام دون ما قبلها، لأنه ربما جر إلى فتنة. واستمرار عادات السلف على الحسبة للولد على الوالد، والعبد على السيد، والزوجة على الزوج، والرعية على الوالي؟. قلنا: أصل الولاية ثابت للكل، وقد رتبنا للحسبة خمس مراتب. فللولد من ذلك الحسبة بالتعريف، ثم بالوعظ والنصح باللطف. وله من الرتبة الخامسة: أن يكسر العود، ويريق الخمر، ونحو ذلك، وهذا الترتيب ينبغي أن يجرى في العبد والزوجة. وأما الرعية مع السلطان، فالأمر فيه أشد من الولد، فليس معه إلا التعريف والنصح. ويشترط كون المنكر قادراً على الإنكار، فأما العاجز، فليس عليه إنكار إلا بقلبه، ولا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسي، بل يلتحق به خوف مكروه يناله، فذلك في معنى العجز. وكذلك إذا علم أن إنكاره لا ينفع، فيقسم إلى أربعة أحوال: أحدها: أن يعلم أن المنكر يزول بقوله أو فعله من غير مكروه يلحقه، فيجب عليه الإنكار

الحالة الثانية: أن يعلم أن كلامه لا ينفع وأنه إن تكلم ضرب، فيرتفع الوجوب عنه. الحالة الثالثة: أن يعلم إن إنكاره لا يفيد، لكنه لا يخاف مكروهاً، فلا يجب عليه الأمر لعدم الفائدة، لكن يستحب لإظهار شعائر الإسلام والتذكير بالدين. الحالة الرابعة: أن يعلم أنه يصاب بمكروه، ولكن يبطل المنكر بفعله، مثل أن يكسر العود، ويريق الخمر، ويعلم أنه يضرب عقيب ذلك، فيرتفع الوجوب عنه، ويبقى مستحباً لقوله في الحديث: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". ولا خلاف أنه يجوز للمسلم الواحد أن يهجم على صفوف الكفار ويقاتل، وإن علم أنه يقتل، لكن إن علم أنه لا نكاية له في الكفار، كالأعمى يطرح نفسه على الصف، حرم ذلك، وكذلك لو رأى فاسقاً وحده وعنده قدح خمر وبيده سيف، وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب الخمر لضرب عنقه، لم يجز له الإقدام على ذلك، لأن هذا لا يؤثر في الدين أثراً يفديه بنفسه، وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر، وظهر لفعله فائدة، كمن يحمل في صف الكفار ونحوه. وإن علم المنكر أنه يضرب معه غيره من أصحابه، لم تجزله الحسبة، لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بإفضائه إلى منكر آخر، ليس ذلك من القدرة في شىء. ولسنا نعنى بالعلم في هذه المواضيع إلا غلبة الظن، فمن غلب على ظنه أنه يصيبه مكروه، لم يجب عليه الإنكار، وإن غلب على ظنه أنه لا يصيبه وجب، ولا اعتبار بحالة الجبان، ولا الشجاع المتهور، بل الاعتبار بالمعتدل الطبع، السليم المزاج. ونعنى بالمكروه: الضرب أو القتل، وكذلك نهب المال، والإشهار في البلد مع تسويد الوجه، فأما السب والشتم، فليس بعذر في السكوت، لأن الآمر بالمعروف يلقى ذلك في الغالب. الركن الثاني: أن يكون ما فيه الحسبة منكراً موجوداً في الحال ظاهراً، فمعنى كونه منكراً أن يكون محذور الوقوع في الشرع، والمنكر أعم من المعصية، إذ من رأى صبياً أو مجنوناً يزنى بمجنونة أو بهيمة، فعليه أن يمنعه. وقولنا: موجوداً في الحال، احتراز ممن شرب الخمر وفرغ من شربها، ونحو

ذلك، فإن ذلك ليس إلى الآحاد، وفيه أيضاً احتراز عما سيوجد في ثاني الحال، كمن يعلم بقرينه حاله أنه عازم على الشرب الليلة، فلا حسبة عليه إلا بالوعظ. وقولنا: ظاهراً، احتراز ممن تستر بالمعصية في داره وأغلق بابه، فإنه لا يجوز أن يتجسس عليه، إلا أن يظهر ما يعرفه من هو خارج الدار، كأصوات المزامير والعيدان، فلمن سمع ذلك أن يدخل ويكسر الملاهي، فإن فاحت رائحة الخمر، فالأظهر جواز الإنكار. ويشترط في إنكار المنكر أن يكون معلوماً كونه منكراً بغير اجتهاد، فكل ما هو في محل الاجتهاد، فلا حسبة فيه، فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله متروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه يسير النبيذ الذي ليس بمسكر. الركن الثالث: في المنكر عليه، ويكفى في صفته أن يكون إنساناً، ولا يشترط كونه مكلفاً كما بينا قبله من أنه ينكر على الصبي والمجنون. الركن الرابع: نفس الاحتساب، وله درجات وآداب. الدرجة الأولى: أن يعرف المنكر، فلا ينبغي له أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار، ولا يتعرض للشم ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يمس ما قد ستر بثوب ليعرف شكل المزمار، ولا أن يستخبر جيرانه بما يجرى، بل لو أخبره عدلان ابتداءً أن فلاناً يشرب الخمر، فله إذ ذاك أن يدخل وينكر. الدرجة الثانية: التعريف، فإن الجاهل يقدم على الشيء لا يظنه منكراً، فإذا عرف أقلع عنه، فيجب تعريفه باللطف، فيقال له: إن الإنسان لا يولد عالماً، ولقد كنا جاهلين بأمور الشرع حتى علمنا العلماء، فلعل قريتك خالية من أهل العلم. فكهذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء. ومن اجتنب محذور السكوت عن المنكر، واستبدل عنه محذور الإيذاء للمسلم مع الاستغناء عنه، فقد غسل الدم بالبول. الدرجة الثالثة: النهى بالوعظ والنصح والتخويف بالله، ويورد عليه الأخبار الواردة بالوعيد، ويحكي له سيرة السلف، ويكون ذلك بشفقة ولطف من غير عنف وغضب، وها هنا آفة عظيمة ينبغي أن يتوقاها، وهو أن العالم يرى عند التعريف عز نفسه بالعلم، وذل غيره بالجهل.

ومثال ذلك مثال من يخلص غيره من النار بإحراق نفسه، وهو غاية الجهل، ومذلة عظيمة، وغرور من الشيطان، ولذلك محك ومعيار، فينبغي أن يمتحن به المحتسب نفسه، أو باحتساب غيره عليه، أحب إليه من امتناعه باحتسابه، فإن كانت الحسبة شاقة عليه، ثقيلة على نفسه، وهو يود أن يكفى بغيره، فليحتسب، فإن باعثه هو الدين، وإن كان الأمر بالعكس، فهو متبع هوى نفسه، متوسل إلى إظهار جاهه بواسطة انكاره، فليتق الله وليحتسب أولاً على نفسه. وقيل لداود الطائي: أرأيت رجلاً دخل على هؤلاء الأمراء فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر؟ قال: أخاف عليه السوط. قيل: هو يقوى على ذلك، قال أخاف عليه السيف، قيل: هو يقوى على ذلك، قال أخاف عليه الداء الدفين: العجب. الدرجة الرابعة: السب والتعنيف بالقول الغليظ الخشن، وإنما يعدل إلى هذا عند العجز عن المنع باللطف، وظهور مبادئ الإصرار، والاستهزاء بالوعظ والنصح، ولسنا نعنى بالسب: الفحش والكذب، بل نقول له: يا فاسق، يا أحمق، يا جاهل، ألا تخاف الله، قال الله تعالى حاكية عن إبراهيم عليه السلام: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 67]. الدرجة الخامسة: التغيير باليد، ككسر الملاهى، وإراقة الخمر، وإخراجه من الدار المغصوبة، وفي الدرجة أدبان: أحدهما: أن لا يباشر التغيير ما لم يعجز عن تكليف المنكر علي ذلك، فإذا أمكنه أن يكلفه الخروج عن الأرض المغصوبة، فلا ينبغي أن يجره ولا يدفعه. والثاني: أن يكسر الملاهي كسراً يبطل صلاحيتها للفساد، ولا يزيد على ذلك ويتوقى في إراقة الخمور كسر الأواني إن وجد إليه سبيلاً، وإن لم يقدر إلا بأن يرمى ظروفها بحجر أو نحوه، فله ذلك، وتسقط قيمة الظرف، ولو ستر الخمر بيديه، فإنه يقصد بيديه بالضرب ليتوصل إلى إراقة الخمر، ولو كانت الخمر في قوارير ضيقة الرؤوس، بحيث أنه إذا اشتغل بإراقتها طال الزمان وأدركه الفساق فمنعوه، فله كسرها، لأن هذا عذر وكذلك إن كان يضيع الزمان في صبها، وتتعطل أشغاله، فله كسرها ولو لم يحذر من الفساق.

4 ـ فصل [في صفات المحتسب]

فإن قيل: فهلا يجوز الكسر زجراً، وكذلك الجر بالرجل في الإخراج من الدار المغصوبة زجراً؟ قلنا: إنما يجوز مثل ذلك للولاة، ولا يجوز لآحاد الرعية، لخفاء وجه الاجتهاد فيه. الدرجة السادسة: التهديد والتخويفكقوله: دع عنك هذا وإلا فعلت بك كذا وكذا، وينبغى أن يقدم هذا على تحقيق الضرب إذا أمكن تقديمه. والأدب في هذه الرتبة أن لا يهدد بوعيد لا يجوز تحقيقه، كقوله: لأنهبن دارك، ولأسبين زوجتك، لأنه إن قال ذلك عن عزم، فهو حرام، وإن قاله عن غير عزم، فهو كذب. الدرجة السابعة: مباشرة الضرب باليد والرجلوغير ذلك مما ليس فيه إشهار سلاح، وذلك جائز للآحاد بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة، فإذا اندفع المنكر فينبغي أن يكف. الدرجة الثامنة: أن لا يقدر على الإنكار بنفسه ويحتاج إلى أعوان يشهرون السلاح، فإنه ربما يستمد الفاسق أيضاً بأعوانه ويؤدى إلى القتال، فالصحيح أن ذلك يحتاج إلى إذن الإمام، لأنه يؤدى إلى الفتن وهيجان الفساد. وقيل: لا يشترط في ذلك إذن الإمام. 4 ـ فصل [في صفات المحتسب] (¬1) وقد ذكرنا آداب المحتسب مفصلة، وجملتها ثلاث صفات في المحتسب. العلم بمواقع الحسبة وحدودها ومواقعها، ليقتصر على حد الشرع. والثاني: الورع، فانه قد يعلم شيئاً ولا يعمل به لغرض من الأغراض. والثالث: حسن الخلق، وهو أصل ليتمكن من الكف، فإن الغضب إذا هاج لم يكف مجرد العلم والورع في قمعه ما لم يكن في الطبع خلق حسن. قال بعض السلف: لا يأمر بالمعروف إلا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به، حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى عنه. ¬

_ (¬1) انظر "الحسبة في الإسلام" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من منشورات مكتبة دار البيان بدمشق.

ومن الآداب: تقليل العلائق، وقطع الطمع عن الخلق لتزول المداهنة، فقد حكى عن بعض السلف أنه كان له سنور، وكان يأخذ لسنوره في كل يوم من قصاب في جواره شيئاً من الغدد. فرأى على القصاب منكراً، فدخل الدار فأخرج السنور، ثم جاءه فأنكر على القصاب، فقال: لا أعطيك بعد هذا شيئاً لسنورك، فقال: ما أنكرت عليك إلا بعد إخراج السنور وقطع الطمع منك، وهذا صحيح، فإن لم يقطع الطمع من الناس من شيئين لم يقدر على الإنكار عليهم. أحدهما: من لطف ينالونه به. والثاني: من رضاهم عنه وثنائهم عليه. وأما الرفق في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فمتعين، قال الله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44]. وروى أن أبا الدرداء رضى الله عنه مر على رجل قد أصاب ذنبا والناس يسبونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافكم، فقالوا: أفلا تبغضه؟ فقال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه، فهو أخي. ومر فتى يجر ثوبه، فهم أصحاب صلة بن أشيم أن يأخذوه بألسنتهم أخذاً شديداً، فقال صلة: دعوني أكفكم أمره، ثم قال: يا ابن أخي، إن لى إليك حاجة. قال ما هي؟ قال: أحب أن ترفع إزارك، قال نعم ونعمى عين (¬1)، فرفع إزاره، فقال صلة، لأصحابه: هذا كان أمثل مما أردتم، فإنكم لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم. وُدعي الحسن إلى عرس، فجئ بجام من فضة فيه خبيص، فتناوله وقلبه على رغيف، فأصاب منه، فقال رجل: هذا نهى في سكون. ... ¬

_ (¬1) أي قرة عين، يعني: أقر عينك بطاعتك واتباع أمرك.

باب المنكرات المألوفة في العادات وفى الإنكار على الأمراء والسلاطين، وأمرهم بالمعروف

باب المنكرات المألوفة في العادات وفى الإنكار على الأمراء والسلاطين، وأمرهم بالمعروف ولنذكر في ذلك فصلين: الفصل الأول: اعلم: أن المنكرات المألوفة في العادات لا يمكن حصرها، لكنا نشير إلى جمل يستدل بها على أمثالها، فمن ذلك: منكرات المساجد: مما يشاهد كثيراً في المساجد إساءة الصلاة بترك الطمأنينة في الركوع والسجود وكذلك كل ما يقدح في صحة الصلاة، من نجاسة على ثوب المصلى لايراها، أو انحراف عن القبلة بسبب عمى أو ظلام. ومن ذلك اللحن في القراءة. واشتغال المعتكف بإنكار هذه الأشياء وتعريفها أفضل له من نافلة يقتصر عليها. ومن ذلك: تراسيل (¬1) المؤذنين وتطويلهم مد كلماته. ومن ذلك: أن يكون على الخطيب ثوب حرير، أو بيده سيف مذهب. ومن ذلك: ما يجرى من القصاص في المساجد من الكذب، والأشياء المنهى عنها، كالخوض في الكلام الموجب للفتن، ونحو ذلك. ومن ذلك أن يكون الرجال مختلطين بالنساء، فينبغى إنكار ذلك عليهم. ومنها: الحلق يوم الجمعة لبيع الأدوية والأطعمة، والتعويذات، وقيام السؤال، وإنشادهم الأشعار، ونحو ذلك. فهذه منها ما هو حرام، ومنها ما هو مكروه. منكرات الأسواق: ومن ذلك: الكذب في المرابحة: وإخفاء العيب، فمن قال: اشتريت هذه السلعة بعشرة، ورابح درهاً، وكان كاذباً، فهو فاسق. ¬

(¬1) أي: إطالة ومط.

منكرات الشوراع

ويجب على من عرف ذلك أن يخبر المشترى بكذبه، فإن سكت مراعاة للبائع، كان شريكاً له في الخيانة. وكذلك إذا علم العيب، لزمه أن يبينه للمشترى، وكذلك التفاوت في الميزان والذراع، يجب على كل من عرفه تغييره، إما بنفسه، أو برفعه إلى الوالى حتى يغيره. ومنها: الشروط الفاسدة، واستعمال الربا، وبيع الملاهى، والصور المجسمة، ونحو ذلك. منكرات الشوراع: ومن ذلك بناء دكان متصلة بالأبنية المملوكة، وإخراج الأجنحة، وغرس الأشجار إذا كان ذلك يؤدى إلى تضييق الطريق والإضرار بالمارة، فأما وضع الحطب والطعام في الطريق بمقدار ما ينقل إلى البيوت فجائز، فإن ذلك يشترك الكافة في الحاجة إليه. ومن المنكرات: ربط الدواب على الطريق بحيث تضيق وتؤذى الناس، فيجب المنع من ذلك، إلا إذا كان بمقدار الحاجة للنزول والركوب. ومن ذلك: تحميل الدواب من الأحمال ما لا تطيق، وكذلك طرح الكناسة على جواد الطريق، وتبديد قشور البطيخ، أو رش الماء بحيث يخشى منه الزلق، والماء الذي يجتمع في ميزاب معين. فأما إن كان من المطر، فذلك على الولاة، وليس للآحاد في ذلك إلا الوعظ. منكرات الحمامات: من ذلك: صور الحيوانات على باب الحمام أو داخله، ويكفى في زوال ذلك أن تشوه وجوه الصور، بحيث يبطل تصويرها. ومن لم يقدر على الإنكار، لم يجزله الدخول إلا لضرورة، وليعدل إلى حمام آخر. ومن ذلك: كشف العورات، والنظر إليها، وكشف المدلك عن الفخذ، وما تحت السرة، لتنحيه الوسخ أو مس العورة. ومنها: غمس اليد والأواني النجسة في المياه القليلة، فإن فعل ذلك مالكى، لم ينكر عليه، بل يتلطف به، ويقول له: يمكنك أن لا تؤذينى بتفويت الطهارة عليَّ.

منكرات الضيافة

منكرات الضيافة: من ذلك: فرش الحرير للرجال، والبخور في مجمررة فضة أو ذهب، والشرب فيهما، استعمال ماء الورد منهما، وكذلك تعليق الستور وفيها الصور، وسماع القينات والأوتار، واطلاع النساء على الشباب الذين تخاف فتنتهم، فكل ذلك منكر يجب تغييره، ومن عجز عن تغييره لزمه الخروج. وأما الصور على النمارق والبسط، فليس بمنكر، وكذلك الفرش والحرير، والذهب للنساء، فانه جائز، ولا رخصة في تثقيب آذان الصبية لأجل تعليق حلق الذهب، فإن ذلك جرح مؤلم لا يجوز، وفى المخانق والأسورة كفاية عن ذلك والاستئجار على ذلك غير صحيح، والأجرة المأخوذة عليه حرام. ومن ذلك أن يكون في الضيافة مبتدع يتكلم في بدعته، فلا يجوز الحضور معه إلا لمن يقدر على الرد عليه، وإن لم يتكلم المبتدع جاز الحضور مع إظهار الكراهة له والإعراض عنه، وإن كان هناك مضحك بالفحش والكذب، لم يجز الحضور، ويجب الإنكار، فإن كان مزحاً لا كذب فيه ولا فحش، أبيح ما لم يقل من ذلك، فأما اتخاذه صناعة وعادة فيمنع منه. المنكرات العامة: من تيقن أن في السوق منكراً يجرى على الدوام، أو في وقت معين وهو قادر على تغييره، لم يجز له أن يسقط ذلك عنه بالقعود في بيته، بل يلزمه الخروج، فإن قدر على تغيير البعض لزمه. وحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه، فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات، ثم يعلم ذلك أهله وأقاربه، ثم يتعدى إلي جيرانه وأهل محلته، ثم إلي أهل بلده، ثم إلي السواد كذلك إلي أقصى العالم، فإن قام بذلك الأقرب، سقط عن الأبعد، وإلا خرج به كل قادر عليه. الفصل الثاني: في أمر الأمراء والسلاطين بالمعروف ونهيهم عن المنكر. وقد ذكرنا درجات الأمر بالمعروف، والجائز من ذلك مع السلاطين القسمان الأولان وهما: التعريف والوعظ، فأما تخشين القول، نحو: يا ظالم، يا من لا يخاف

الله، فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شرها إلى الغير، لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه، فهو جائز عند جمهور العلماء، والذى أراه المنع من ذلك، لأن المقصود إزالة المنكر، وحمل السلطان بالانبساط عليه على فعل المنكر أكبر من المنكر الذي قصد إزالته، وذلك أن أقرب السلاطين التعظيم، فان سمعو من آحاد الرعية: يا ظالم، يا فاسق، رأوا غاية الذل، لم يصبروا على ذلك. قال الإمام أحمد رحمه الله: لا تتعرضن بالسلطان، فان سيفه مسلول، فأما ما جرى من السلف من التعرض لأمرائهم، فانهم كانوا يهابون العلماء، فإذا انبسطوا عليهم احتملوهم في الأغلب. وقد جمعت مواعظ السلف للخلفاء والأمراء في كتاب " المصباح المضئ " وأنا أنتخب منه ها هنا حكايات. قال سعيد بن عامر لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: إنى موصيك بكلمات من جوامع الآلام ومعالمه: اخش الله في الناس، ولا تخش الناس في الله، ولا يخالف قولك فعلك، فإن خير القول ما صدقه الفعل، وأحب لقريب المسلمين وبعيدهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك، وخض الغمرات إلى الحق حيث علمته، ولا تخف في الله لومة لائم. قال: ومن يستطع ذلك يا أبا سعيد؟ قال: من ركب في عنقه مثل الذي ركب في عنقك. ... وقال قتادة: خرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه من المسجد ومعه الجارود، فإذا امرأة برزة على الطريق، فسلم عليها، فردت عليه، أو سلمت عليه، فرد عليها، فقال: هيه يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميراً في سوق عكاظ تصارع الصبيان، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الموت خشى الفوت، فبكى عمر رضى الله عنه، فقال الجارود: هيه، لقد تجرأت على أمير المؤمنين وأبكيتيه. فقال عمر: دعها، أما تعرف هذه؟ هى خولة بن حكيم التى سمع الله قولها من فوق سماواته، فعمر والله أحرى أن يسمع كلامها. ... ودخل شيخ من الأزد على معاوية، فقال: اتق الله يا معاوية، واعلم أنك كل يوم

يخرج عنك، وفى كل ليلة تأتى عليك لا تزداد من الدنيا إلا بعداً، ومن الآخرة إلا قرباً، وعلى إثرك طالب لا تفوته، وقد نصب لك علم لا تجوزه، فما أسرع ما تبلغ العلم، وما أوشك أن لحقك الطالب، وإنا وما نحن فيه وأنت زائل، والذى نحن صائرون إليه باق، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. ... ودخل سليمان بن عبد الملك المدينة، فأقام بها ثلاثاً، فقال: ما هاهنا رجل ممن أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدثنا؟ فقيل له: ها هنا رجل يقال له أبو حازم، فبعث إليه فجاء. فقال سليمان: يا أبا حازم، ما هذا الجفاء؟ قال أبو حازم: وأى جفاء رأيت منى؟ فقال له: أتاني وجوه المدينة كلهم ولم تأتنى؟! فقال: ما جرى بينى وبينك معرفة آتيك عليها. قال صدق الشيخ. يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلو من العمران إلى الخراب. قال: صدقت يا أبا حازم، فكيف القدوم على الله تعالى؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله فرحاً مسروراً، وأما المسئ فكالآبق يقدم على مولاه خائفاً محزوناً. فبكى سليمان وقال: ليت شعرى، ما لنا عند الله يا أبا حازم، فقال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله؟ قال: عند قوله {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13 - 14]. قال: يا أبا حازم، فأين رحمة الله؟ قال: {قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] قال: يا أبا حازم، من أعقل الناس؟ قال: من تعلم الحكمة وعلمها الناس. قال: فمن أحمق الناس؟ قال: من حط نفسه في هوى رجل وهو ظالم، فباع أخرته بدنيا غيره. قال: يا أبا حازم فما أسمع الدعاء؟ قال: دعاء المخبتين. قال: فما أزكى الصدقة؟ قال: جهد المقل. قال يا أبا حازم، ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: أعفني من هذا. قال سليمان نصيحة تلقيها. قال أبو حازم: إن ناساً أخذوا هذا الأمر عنوة من غير مشاورة المسلمين، ولا إجماع عن رأيهم، فسفكوا فيه الدماء على طلب الدنيا، ثم ارتحلوا عنه، فليت شعرى، ما قالوا؟ وما قيل لهم؟ فقال بعض جلسائهم؟ بئس ما قلت يا

شيخ، فقال أبو حازم: كذبت، إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه. قال سليمان: يا أبا حازم، أصبحنا تصيب منا ونصيب منك. قال: أعود بالله من ذلك. قال: ولم؟ قال: أخاف أن أركن إليكم شيئا قليلاً، فيذيقنى ضعف الحياة، وضعف الممات. قال. فأشر على، قال: اتق الله أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك. قال: يا أبا حازم، ادع لنا بخير. فقال: اللهم إن كان سليمان وليك فيسره للخير، وإن كان غير ذلك، فخذ إلى الخير بناصيته، فقال: يا غلام، هات مائة دينار ثم قال: خذ يا أبا حازم. قال لا حاجة لى به، لى ولغيرى في هذا المال أسوة، فإن واسيت بيننا وإلا فلا حاجة لى فيها، إنى أخاف أن يكون لما سمعت من كلامى. فكأن سليمان أعجب بأبى حازم، فقال الزهرى: إنه لجارى منذ ثلاثين سنة، ما كلمته قط، فقال أبو حازم: إنك نسيت الله فنسيتنى. قال الزهرى: أتشتمنى؟ قال سليمان: بل أنت شتمت نفسك، أما علمت أن للجار على الجار حقاً؟ قال أبو حازم: إن بنى إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفر بدينها منهم، فلما رأى ذلك قوم من أذلة الناس تعلموا العلم، وأتوا به الأمراء، واجتمع القوم على المعصية، فسقطوا وانتكسوا، ولو كان العلماء يصونون دينهم وعلمهم، لم تزل الأمراء تهابهم. قال الزهرى: كأنك إياى تريد وبى تعرض؟ قال: هو ما تسمع. ... وحكى أن أعرابيا دخل على سليمان بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، إنى مكلمك بكلام فاحتمله وإن كرهته، فإن وراءه ما تحب إن قبلته. قال: قل، قال: يا أمير المؤمنين، إنه قد أكتنفك رجال ابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوه فيك، خربوا الآخرة وعمروا الدنيا، فهم حرب للآخرة، سلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فانهم لم يألو الأمانة تضييعاً والأمة خسفاً، وأنت مسؤول عما اجترحوا، وليسوا بمسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فان أعظم الناس غبناً بائع آخرته بدنيا غيره. فقال سليمان: أما أنت فقد سللت لسانك، وهو أقطع من سيفك. فقال: أجل يا أمير المؤمنين، لك لا عليك. قال: فهل من حاجة في ذات نفسك؟ قال: أما خاصة دون عامة فلا، ثم قام

فخرج. فقال سليمان: لله دره ما أشرف أصله، وأجمع قلبه، وأذرب لسانه، وأصدق نيته، وأروع نفسه، هكذا فليكن الشرف والعقل. ... وقيل: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لأبى حازم: عظنى. فقال: اضطجع ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظر ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فخذ فيه الآن، وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن. ... وقال محمد بن كعب لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، إنما الدنيا سوق من الأسواق، منها خرج الناس بما يضرهم وما ينفعهم، وكم من قوم غرهم منها مثل الذي أصبحنا فيه، حتى أتاهم الموت فاستوعبهم فخرجوا منها ملومين لم يأخذوا منها لما أحبوا من الآخرة عدة، ولا لما كرهوا منها جنة، اقتسم ما جمعوا من لم يحمدهم، وصاروا إلى من لا يعذرهم فنحن محققون يا أمير المؤمنين أن ننظر إلى تلك الأعمال التى نغبطهم بها فنخلفهم فيها، وإلى الأعمال التى نتخوف عليهم فيها فنكف عنها، فاتق الله، وافتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانصر المظلوم، ورد الظالم. ثلاث من كن فيه استكمل الأيمان بالله عز وجل: إذا رضى لم يدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له. ... ودخل عطاء بن أبى رباح على هشام، فرحب به وقال: ما حاجتك يا أبا محمد؟ وكان عنده أشراف الناس يتحدثون، فسكتوا، فذكره عطاء بأرزاق أهل الحرمين وعطياتهم. فقال: نعم يا غلام اكتب لأهل المدينة وأهل مكة بعطاء أرزاقهم، ثم قال: يا أبا محمد هل من حاجة غيرها؟ فقال: نعم فذكره بأهل الحجاز، وأهل نجد، وأهل الثغور، ففعل مثل ذلك، حتى ذكره بأهل الذمة أن لا يكلفوا مالا يطيقون، فأجابه إلى ذلك، ثم قال له في آخر ذلك: هل من حاجة غيرها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، اتق الله في نفسك، فإنك خلقت وحدك، وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، لا والله ما معك ممن ترى أحد. قال: فأكب هشام يبكى، وقام عطاء. فلما كان عند الباب إذا رجل قد تبعه بكيس

ما تدرى ما فيه، أدراهم أم دنانير؟ وقال: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بهذا، فقال: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم خرج ولا والله ما شرب عندهم حسوة ماء فما فوقها. ... وعن محمد بن على قال: إنى لحاضر مجلس المنصور، وفيه ابن أبى ذئب، وكان والى المدينة والحسن بن زيد، فأتى الغفاريون فشكوا إلى أبى جعفر المنصور شيئاً من أمر الحسن بن زيد، فقال الحسن: يا أمير المؤمنين، سل عنهم ابن أبى ذئب. قال: فسأله عنهم، فقال: أشهد أنهم أهل الحطم في أعراض الناس. فقال أبو جعفر: قد سمعتم؟ فقال الغفاريون: يا أمير المؤمنين، فسله عن الحسن بن زيد. فسأله، فقال: أشهد أنه يحكم بغير الحق. فقال: قد سمعت يا حسن. قال يا أمير المؤمنين، سله عن نفسك. فقال: ما تقول في؟ قال: أو يعفينى أمير المؤمنين؟ فقال والله لتخبرنى. فقال أشهد أنك أخذت هذا المال من غير حقه، وجعلته في غير أهله. فوضع يده في قفا ابن أبى ذئب، وجعل يقول له: أما والله ولا أنا لأخذت أبناء فارس والروم والدليم والترك بهذا المكان منك. فقال ابن أبى ذئب: قد ولى أبو بكر وعمر فأخذا بالحق وقسما بالسوية، وأخذا بأقفاء فارس والروم، فخلاه أبو جعفر، وقال: والله لولا أنى أعلم أنك صادق لقتلتك، فقال: والله يا أمير المؤمنين إنى أنصح لك من ابنك المهدي. ... وعن الأوزاعي رحمه الله قال: بعث إلى المنصور وأنا بالساحل فأتيته، فلما وصلت إليه وسلمت عليه استجلسنى، ثم قال: ما الذي أبطأ بك يا أوزاعي؟ قلت: وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم. قلت: فانظر يا أمير المؤمنين أن تسمع شيئاً ثم لا تعمل به، فصاح بى الربيع وأهوى بيده إلى السيف، فانتهزه المنصور وقال: هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة، فطابت نفسى وانبسطت في الكلام، فقلت: يا أمير المؤمنين، حدثنى مكحول عن عطية بن بشر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أيما وال مات غاشاً

لرعيته حرم الله عليه الجنة". يا أمير المؤمنين، كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم، أحمرهم، وأسودهم ومسلمهم، وكافرهم، وكل له عليك نصيب من العدل، فكيف بك إذا انبعث منهم فئام وراء فئام (¬1)، ليس منهم أحد إلا هو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو ظلامة سقتها إليه. يا أمير المؤمنين، حدثنى مكحول عن زياد بن حارثة عن حبيب بن سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا إلى القصاص نفسه في خدش خدشه أعرابياً لم يتعمده، فأتاه جبريل فقال: يا محمد، إن الله تعالى لم يبعثك جباراً ولا متكبراً، فدعا ? الأعرابي، فقال: "اقتص مني"، فقال الأعرابي: قد أحللتك، بأبي أنت وأمى، وما كنت لأفعل ذلك أبداً، ولو أتيت على نفسى. فدعا له بخير. يا أمير المؤمنين، رض نفسك لنفسك، وخذ لها الأمان من ربك. يا أمير المؤمنين، إن الملك لو بقى لمن قبلك لم يصل إليك، وكذلك لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك. يا أمير المؤمنين، جاء في تأويل هذه الآية عن جدك {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]، قال الصغيرة: التبسم، والكبيرة الضحك، فكيف بما عملته الأيدى، وحصدته الألسن. يا أمير المؤمنين، بلغنى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة، لخشيت أن أسأل عنها، فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك؟ يا أمير المؤمنين، جاء في تأويل هذه الآية عن جدك: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] قال: إذا قعد الخصمان بين يديك، وكان لك في أحدهما هوى، فلا تتمنين في نفسك أن يكون الحق له فيفلج على صاحبه، فأمحوك من نبوتى، ثم لا تكون خليفتى، يا داود: إنما جعلت رسلى إلي عبادى رعاء كرعاء الإبل لعلمهم بالرعاية، ورفقهم بالسياسة، ¬

(¬1) الفئام: الجماعة الكثيرة من الناس، وتقول: بنو فلان فئام إلا أنهم لئام.

ليجبروا الكسر، ويدلوا الهزيل على الكلأ والماء. يا أمير المؤمنين، إنك قد بليت بأمر لو عرض على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه. يا أمير المؤمنين: حدثني يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن أبي عميرة الأنصاري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل رجلاً من الأنصار على الصدقة: فرآه بعد أيام مقيماً، فقال له: ما منعك من الخروج إلى عملك؟ أما علمت أن لك مثل أجر المجاهدين في سبيل الله؟ قال: لا. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما من والٍ يلي شيئاً من أمور الناس، إلا أتى يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، يوقف على جسر جهنم، ينتفض به ذلك الجسر انتفاضة تزيل كل عضو منه عن موضعه، ثم يعاد فيحاسب، فإن كان محسناً نجا بإحسانه، وإن كان مسيئاً انخرق به ذلك الجسر فهوى به في النار سبعين خريفاً". فقال له: ممن سمعت هذا؟ فقال: من أبي ذر وسلمان رضي الله عنهما، فأرسل إليهما عمر فسألهما، فقالا: نعم، سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال عمر: واعمراه من يتولاها (¬1) بما فيها؟ فقال أبو ذر رضي الله عنه: من سلت (¬2) الله أنفه، وألصق خده بالأرض، فأخذ المنديل -يعني المنصور- فوضعه على وجهه ثم بكى وانتحب حتى أبكاني. ثم قلت: يا أمير المؤمنين، قد سأل جدك العباس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إمارة على مكة والطائف أو اليمن، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عم نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها" (¬3) نصيحة منه لعمه وشفقة منه عليه، وأخبره أنه لا يغنى عنه من الله شيئاً إذا أوحى إليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] فقال: يا عباس، ويا صفية، ويا فاطمة، إنى لست أغنى عنكم من الله شيئاً، لى عملى ولكم عملكم، وقد قال عمر بن الخطاب: لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل، لا تأخذه في الله لومة لائم، وذكر تمام كلامه للمنصور، ثم قال: فهى نصيحة، والسلام عليك. ثم نهض فقال: إلى أين؟ فقال: إلى الوطن بأذن أمير المؤمنين. فقال: أذنت ¬

(¬1) أي الأمارة والولاية بسبب ما فيها من الخطر. (¬2) سلت أنفه. أجدعه. (¬3) انظر كتاب التوابين صفحة (167) بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط من منشورات دار البيان بدمشق.

لك، وشكرت لك نصيحتك، وقبلتها بقبولها، والله الموفق للخير، والمعين عليه، وبه أستعين، وعليه أتوكل، وهو حسبى ونعم الوكيل، فلا تخلنى من مطالعتك إياى بمثلها، فإنك المقبول القول غير المتهم في النصيحة. قلت: أفعل إن شاء الله. فأمر له بمال يستعين به على خروجه، فلم يقبله، وقال: أنا في غنى عنه، وما كنت لأبيع نصيحتى بعرض الدنيا كلها، وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في رده. ... ولما حج الرشيد قيل له: يا أمير المؤمنين، قد حج شيبان. قال: اطلبوه لى، فأتوه به، فقال: يا شيبان، عظنى، قال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل ألكن، لا أفصح بالعربية، فجئنى بمن يفهم كلامى حتى أكلمه. فأتى برجل يفهم كلامه، فقال له بالنبطية: قل له: يا أمير المؤمنين، إن الذي يخوفك قبل أن تبلغ المأمن، أنصح لك من الذي يؤمنك قبل أن تبلغ الخوف، قال له: أى شىء تفسير هذا؟ قال: قله: الذي يقول لك: اتق الله فإنك رجل مسؤول عن هذه الأمة، استرعاك الله عليها، وقلدك أمورها، وأنت مسؤول عنها، فاعدل في الرعية، واقسم بالسوية، وانفذ في السرية، واتق الله في نفسك، هذا الذي يخوفك، فإذا بلغت المأمن أمنت، هذا أنصح لك ممن يقول: أنتم أهل بيت مغفور لكم، وأنتم قرابة نبيكم وفى شفاعته، فلا يزال يؤمنك حتى إذا بلغت الخوف عطبت، قال: فبكى هارون حتى رحمه من حوله، ثم قال: زدنى، قال: حسبك. ... وعن علقمة بن أبى مرثد، قال: لما قدم عمر بن هبيرة العراق، أرسل إلى الحسن وإلى الشعبى، فأمر لهما ببيت، فكانا فيه نحواً من شهر، ثم دخل عليهما وجلس معظماً لهما، فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك يكتب إلى كتباً، أعرف أن في إنقاذها الهلكة، فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله، فهل تريان في متابعتى إياه فرجاً؟ فقال الحسن: يا أبا عمرو، أجب الأمير. فتكلم الشعبى، فانحط في أمر ابن هبيرة، كأنه عذره، فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ قال: أيها الأمير، فقد قال الشعبى ما قد سمعت. فقال: ما تقول أنت؟ قال: أقول: يا عمر بن هبيرة، ويوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله تعالى فظ غليظ لا يعصى الله ما أمره، فيخرجك

من سعة قصرك إلى ضيق قبرك. يا عمر بن هبيرة، إن تتق الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولن يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله تعالى. يا عمر بن هبيرة، لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك، فيغلق به باب المغفرة دونك. يا عمر بن هبيرة، لقد أدركت ناساً من صدر هذه الأمة، كانوا عن الدنيا وهى مقبلة عليهم أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهى مدبرة عنكم. يا عمر بن هبيرة، إنى أخوفك مقاماً خوفكه الله تعالى فقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14]. يا عمر بن هبيرة، إن تك مع الله في طاعته، كفاك يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصى الله وكلك الله إليه. فبكى عمر بن هبيرة وقام بعبرته. فلما كان من الغد أرسل إليهما باذنهما وجوائزهما، وأكثر فيها للحسن، وكان في جائزة الشعبى بعض الإقتار، فخرج الشعبى إلى المسجد، فقال: أيها الناس، من استطاع منكم أن يؤثر الله تعالى على خلقه، فليفعل، فوالذى نفسى بيده، ما علم الحسن شيئاً منه فجهلته، ولكنى أردت وجه ابن هبيرة، فأقصانى الله منه. ... ودخل محمد بن واسع رحمه الله على بلال بن أبى بردة في يوم حار وبلال في حبشة، وعنده الثلج، فقال له: يا أبا عبد الله، كيف ترى بيتنا هذا؟ قال: إن بيتك لطيب، والجنة أطيب منه، وذكر النار يلهى عنه. قال: ما تقول في القدر؟ قال: جيرانك أهل القبور، ففكر فيهم، فإن فيهم شغلاً عن القدر. قال: ادع الله لى. قال: وما نصنع بدعائى؟ وعلى بابك كذا وكذا يقولون: إنك ظلمتهم، يرفع دعاؤهم قبل دعائى، لا تظلم، ولا تحتاج لدعائى. ... فهذا مختصر من أخبار من وعظ الأمراء، فمن أراد الزيادة، فلينظر في "المصباح المضيء".

فصل في حكم السماع

وهذه كانت سير العلماء وعاداتهم في الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وقلة مبالاتهم بسطوات السلاطين إيثاراً لإقامة حق الله تعالى على تقاتهم (¬1)، إلا أن السلاطين كانوا يعرفون حق العلم وفضله فيصبرون على مضض مواعظ هؤلاء. والذى أراه الآن الهرب من السلاطين، فهو الأولى، فإن قدر لقاء، أقتنع بلطف الموعظة حسب. ولذلك سببان: أحدهما: يتعلق بالواعظ، وهو سوء قصده وميله إلى الدنيا والرياء، فلا يخلص له وعظه. والثانى: يتعلق بالموعوظ، فإن حب الدنيا قد شغل الأكثرين عن ذكر الآخرة، وتعظيمهم الدنيا أنساهم تعظيم العلماء، وليس لمؤمن أن يذل نفسه. ... آخر كتاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وذكر المصنف قبل ذلك كتاباً في السماع والوجد، فلنذكر شيئاً منه ها هنا مختصراً. فصل في حكم السماع اعلم: أن السماع الذي نعنى به الغناء من أكبر ما تطرق به إبليس إلى فساد القلوب، وغر به خلقاً لا يحصون من العلماء والزهاد، فضلاً عن العوام، حتى ادعوا حضور القلب مع الله عند سماع الأغانى المطربة، وظنوا أن ما أوجبه السماع من طرب القلوب وانزعاجها، وجد يتعلق بالآخرة. وإذا أردت أن تعرف الحق، فانظر في القرن الأول، هل فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً من ذلك أو أصحابه، ثم انظر إلى أقوال التابعين وتابعيهم، وفقهاء الأمة، كمالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد رحمهم الله، فكل القوم ذموا الغناء، حتى قال مالك: إذا اشترى جارية، فوجدها مغنية، كان له ردها، وسئل عن الغناء، قال: إنما يفعله الفساق. ¬

(¬1) كذا في الأصلين، ولعل الصواب: على أنفسهم أو حياتهم.

وسئل الإمام أحمد عن رجل مات وخلف ولداً وجارية مغنية، فاحتاج الصبي إلى بيعها، فقال: تباع على أنها ساذجة لا مغنية، فقيل له: إنها تساوى ثلاثين ألفاً إذا كانت مغنية، وإذا بيعت ساذجة ربما ساوت عشرين ديناراً، فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة. وقد أطبق الفقهاء على الزجر عن الغناء. ومن المتأخرين أبو الطيب الطبرى من كبار أصحاب الشافعى، وصنف كتاباً، وبالغ في النهى عنه، وإنما تعلق بإباحته قوم مفتونون، قالوا: قد أجازه قوم من السلف. وقد سمع أحمد بن حنبل قول قوال، فقال: لا بأس بهذا، فينبغى أن يتأمل الذي أفتى بجوازه ماهو، وليس إلا الأشعار الزهدية وما يشبهها، من غير ضرب بقضيب، أو آلة تطرب، ولا ضم إلى ذلك تصفيق ولا رقص. وعلى هذا يحمل حديث عائشة في الجاريتين المغنيتين لما غنتا بما تقاولته الأنصار يوم بعاث فإن ذلك لا يطرب. ومعلوم أنه لم يكن للأوائل ما أحدثه الأواخر من الدف والصنج والشبابة والشعر الرقيق، فإن هذه الأشياء تثير دفائن الهوى الكامنة في النفوس وتزعج، فيحسب الجاهل هذا الانزعاج معلقاً بالأبخرة، وهيهات. وليتهم قالوا: إن هذا مباح من اللهو فنستريح إليه، وإنما يظنونه قربة، ويسمون الطرب المخرج عن حد العقل وجداً، وربما أوجد الطرب مالا يحل، من تمزيق الثياب، والتخبط، وكل هذا بمعزل عن طريق السلف، وغير خاف أنه ضلال عن الجادة، فلا ينبغى للإنسان أن يغالط نفسه، وإنما الوجد الصحيح وجد القلب عند سماع القرآن والوعظ، فحينئذ يثور من الباطن خوف من الوعيد، وشوق من الوعد، وندم على التفريط، وجميع هذه الحركات الباطنة توجب سكون الظاهر، لا الجمز والتصفيق، ولم يضق علينا القرآن والوعظ وأشعار الزهد، حتى نحتاج في إحضار القلوب إلى باب الله تعالى أن نذكر سلمى وسعدى، ولا ننكر أنه قد يتفق في بعض تلك الأشعار ما يصح أن يوجد إشارة، إلا أن الأغلب منها إمالة القلوب إلى الهوى الدنيوى. ومثل من أراد أن يأخذ منها للآخرة، كمثل من قال: أنا أنظر إلى الأمرد المستحسن لأتعجب من صنعة القادر، فإنه قد أخطأ الطريق، لأن ما تستلبه الشهوة والطبع عند النظر يكدر طريق الفكر ويشغل عنه، فلذلك نمنعه ونقول: انظر إلى مالا مكدر فيه قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [ق: 6]. ومن قال: إنه لا يؤثر عندى ما يؤثر عند غيرى من انجذاب الطبع إلى الهوى، كان مدعياً ما يخالف

باب آداب المعيشة وأخلاق النبوة

الجبلة، فلا يلتفت إلى دعواه، وقد بالغت في الكشف عن هذا كله في كتابى المسمى بـ " تلبيس إبليس " فلم أر التطويل هاهنا، والله أعلم. باب آداب المعيشة وأخلاق النبوة اعلم: أن آداب الظواهر عنوان آداب البواطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، والأعمال نتائج الأخلاق، والآداب رشح المعارف، وسرائر القلوب هى مغارس الأفعال ومنابعها، وأنوار السرائر هى التى تشرق على الظواهر فتزينها وتحليها. ومن لم يخشع قلبه لم تخشع جوارحه، ومن لم يكن صدره مشكاة الأنوار الإلهية، لم يفض على ظاهره جمال الآداب النبوية. وقد أسلفنا جملة من الآداببما يغنى عن إعادتها هاهنا، لكن نقتصر في هذا الباب على شىء من آداب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخلاقه لنجمع مع جمع الآداب تأكيد الإيمان بمشاهدة أخلاقه الكريمة التى يشهد آحادها بأنه أكرم الخلق وأعلاهم مرتبة وأجلهم قدراً، فكيف بمجموعها؟. سئلت عائشة رضى الله عنه الله، عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، يغضب لغضبه ويرضى لرضاه، ولما كمل الله تعالى خلقه أثنى عليه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 5] فسبحان من أعطى ثم أثنى. وهذه جملة من محاسن أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم، وصفته: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحلم الناس، واسخي الناس، وأعطف الناس. وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخدم في مهنة أهله. وكان أشد حياء من العذراء في خدرها. وكان يجيب دعوة المملوك، ويعود المرضى، ويمشى وحده، ويردف خلفه، ويقبل الهدية، ويأكلها، ويكافئ عليها، ولا يأكل الصدقة، ولا يجد من الدقل (¬1) ما يملأ بطنه، ولم يشبع من خبز بر ثلاثة أيام تباعاً. وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع. ¬

(¬1) الدقل: أراد التمر.

وكان يأكل ما حضر، وما عاب طعاماً قط. وكان لا يأكل متكئاً، ويأكل مما يليه. وكان أحب الطعام إليه اللحم، ومن الشاة الكتف، ومن البقول الدباء، ومن الصبغ الخل، ومن التمر العجوة. وكان يلبس ما وجد، مرة برد حبرة، ومرة جبة صوف. ويركب تارة بعيراً وتارة بغلة، وتارة حماراً، ويمشى مرة راجلاً حافياً. وكان يحب الطيب، ويكره الريح الخبيثة. ويكرم أهل الفضل، ويتألف أهل الشرف. ولا يجفو على أحد، ويقبل معذرة المعتذر إليه. يمزح ولا يقول إلا حقاً، يضحك في غير قهقهة، لا يمضى عليه وقت في غير عمل لله تعالى، أو فيما لابد منه من صلاح نفسه. وما لعن امرأة ولا خادماً قط. وما ضرب أحداً بيده قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله. وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله. وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما، إلا أن يكون مأثماً أو قطيعة رحم، فيكون أبعد الناس منه. وقال أنس رضى الله عنه: خدمته عشر سنين، فما قال لى: أف قط، ولا قال لشىء فعلته: لم فعلته، ولا لشىء لم أفعله: لا فعلت كذا؟ ومن صفته في التوراة: محمد رسول الله، عبدى المختار، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. وكان من خلقه أنه يبدأ بالسلام من لقيه، ومن فاره بحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف. وما أخذ أحد يده فأرسل يده حتى يرسلها الآخذ. وكان يجلس حيث ينتهى به المجلس مختلطاً بأصحابه كأنه أحدهم، فيأتى الغريب فلا يدرى أيهم هو حتى يسأل عنه. وكان طويل السكوت، فإذا تلكم لم يسرد كلامه، بل يتثبت فيه ويكرره ليفهم. وكان يعفو مع القدرة، ولا يواجه أحداً بما يكره. وكان أصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، ومن رآه بديهة هابة، ومن خالطه معرفة أحبه، وكان أصحابه إذا تكلموا في أمر الدنيا تحدث

وأما معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم

معهم، وكانوا يتذاكرون أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم. وكان أشجع الناس. قال بعض أصحابه: البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن بالطويل البائن ولا بالقصير، كان ربعه من القوم. وكان أزهر اللون ولم يكن بالآدم. وكان رجل الشعر، ليس بالبسط ولا الجعد القطط، وكان شعره إلى شحمة أذنه. وكان واسع الجبهة، أزج الحواجب، أدعج العينين، أهدب الأشفار، أقنى العرنين، سهل الخدين، كث اللحية، كأن عنقه جيد دمية، عريض الصدر، سواء البطن والصدر، رحب الراحة، طويل الزندين، كفه ألين من الحرير صلى الله عليه وآله وسلم. وأما معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم: فإن من شاهد أحواله وسمع أخباره المشتملة على أخلاقه وأفعاله وآدابه وبدائع تدبيره لمصالح الخلق ومحاسن إشارته في تفصيل ظاهر الشرع الذي تعجز العقلاء والفصحاء عن إدراك أوائل دقائقها في طول أعمارهم، لم يبق عنده ريب في أن ذلك لم يكن محتسباً بحيلة وأنه لا يتصور ذلك إلا بالاستمداد من تأييد سماوى وقوة إلهية، وأن ذلك لا يصح لملبس ولا كذاب، بل كانت شمائله وأحواله شواهد قاطعة بصدقة. ومن أعظم معجزاته، وأوضح دلالته القرآن العزيز الذي عجز الخلائق عن الإِتيان بمثله، ومعجز كل نبي انقضى بذهابه، وهذا المعجز باق أبداً. ومن معجزاته انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وإطعامه الخلق الكثير من الطعام اليسير، ورميه بحصيات يسيرة فوصلت إلى أعين الخلق الكثير، وحنين الجذع إليه كما يحن العشار، وإخباره بالغائبات فكانت كما قال، ورد عين قتادة بيده فكانت أحسن عينيه، وتفل في عين على رضى الله عنه وهو أرمد فصح من وقته، إلى غير ذلك من المعجزات التى شاعت ولم يوجد سبيل إلى كتمانها، نسأل الله أن يوفقنا للاقتداء بأخلاقه وصفاته، إنه كريم مجيب، والحمد لله رب العالمين. ***

الربع الثالث: ربع المهلكات

الربع الثالث: ربع المهلكات كتاب شرح عجائب القلوب اعلم: أن أشرف ما في الإنسان قلبه، فإنه العالم بالله، العامل له، الساعي إليه، المقرب المكاشف، بما عنده، وإنما الجوارح أتباع وخدام له يستخدمها القلب استخدام الملوك للعبيد. ومن عرف قلبه عرف ربه، وأكثر الناس جاهلون بقلوبهم ونفوسهم، والله يحول بين المرء وقلبه، وحيلولته أن يمنعه من معرفته ومراقبته، فمعرفة القلب وصفاته أصل الدين، وأساس طريق السالكين. 1 ـ فصل [في مداخل إبليس في قلب الإنسان] اعلم: أن القلب بأصل فطرته قابل للهدى، وبما وضع فيه من الشهوة والهوى، مائل عن ذلك، والتطارد فيه بين جندي الملائكة والشياطين دائم، إلى أن ينفتح القلب لأحدهما، فيتمكن، ويستوطن، ويكون اجتياز الثاني اختلاساً كما قال تعالى {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 4] وهو الذي إذا ذكر الله خنس، وإذا وقعت الغفلة انبسط، ولا يطرد جند الشياطين من القلب إلا ذكر الله تعالى، فإنه لا قرار له مع الذكر. واعلم: أن مثل القلب كمثل حصن، والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن، ويملكه ويستولى عليه، ولا يمكن حفظ الحصن إلا بحراسة أبوابه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يعرفها، ولا يتوصل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله، ومداخل الشيطان وأبوابه صفات العبد، وهى كثيرة، إلا أنا نشير إلى الأبواب العظيمة الجارية مجرى الدروب التي لا تضيق عن كثرة جنود الشيطان. فمن أبوابه العظيمة: الحسد، والحرص، فمتى كان العبد حريصاً على شئ، أعماه حرصه وأصمه، وغطى نور بصيرته التي يعرف بها مداخل الشيطان. وكذلك إذا كان حسوداً فيجد الشيطان حينئذ الفرصة، فيحسن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته، وإن كان منكراً أو فاحشاً. ومن أبوابه العظيمة: الغضب، والشهوة، والحدة، فإن الغضب غول العقل، وإذا

ضعف جند العقل هجم حينئذ الشيطان فلعب بالإنسان. وقد روى أن إبليس يقول: إذا كان العبد حديداً، قلبنّاه كما يقلب الصبيان الكرة. ومن أبوابه: حب التزيين في المنزل والثياب والأثاث، فلا يزال يدعو إلى عمارة الدار وتزيين سقوفها وحيطانها، والتزين بالثياب، والأثاث، فيخسر الإنسان طول عمره في ذلك. ومن أبوابه: الشبع، فإنه يقوى الشهوة، ويشغل الطاعة. ومنها: الطمع في الناس، فإن من طمع في شخص، بالغ بالثناء عليه بما ليس فيه، وداهنه، ولم يأمره بالمعروف، ولم ينهه عن المنكر. ومن أبوابه: العجلة، وترك التثبت، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "العجلة من الشيطان، والتأني من الله تعالى" (¬1). ومن أبوابه: حب المال، ومتى تمكن من القلب أفسده، وحمله على طلب المال من غير وجهه، وأخرجه إلى البخل، وخوفه الفقر، فمنع الحقوق اللازمة. ومن أبوابه: حمل العوام على التعصب في المذاهب، دون العمل بمقتضاها. ومن أبوابه أيضاً: حمل العوام على التفكير في ذات الله تعالى، وصفاته، وفى أمور لا تبلغها عقولهم حتى يشككهم في أصل الدين. ومن أبوابه: سوء الظن بالمسلمين، فإن من حكم على مسلم بسوء ظنه، احتقره وأطلق فيه لسانه، ورأى نفسه خيراً منه، وإنما يترشح سوء الظن بخبث الظان، لأن المؤمن يطلب المعاذير للمؤمن، والمنافق يبحث عن عيوبه. وينبغى للإنسان أن يحترز عن مواقف التهم، لئلا يساء به الظن، فهذا طرف من ذكر مداخل الشيطان، وعلاج هذه الآفات سد مداخل بتطهير القلب من الصفات المذمومة، وسيأتي الكلام عن هذه الصفات، إن شاء الله تعالى مفصلاً. إذا قُلعت من القلب أصول هذه الصفات، بقى للشيطان بالقلب خطرات واجتيازات من غير استقرار، فيمنعه من ذلك ذكر الله تعالى، وعمارة القلب بالتقوى. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2013) في البر والصلة: باب ما جاء في التأني والعجلة من حديث سهل بن سعد الساعدي ولفظه "الأناة من الله، والعجلة من الشيطان" وفي سنده عبد المهيمن بن عباس وهو ضعيف.

2 ـ فصل [في ثبات القلوب على الخير]

ومثل الشيطان كمثل كلب جائع يقرب منك، فإن لم يكن بين يديك لحم وخبزه، فإنه ينزجر بأن تقول له: اخسأ، وإن كان بين يديك شئ من ذلك وهو جائع، لم يندفع عنك بمجرد الكلام، فكذلك القلب الخالي عن قوت الشيطان ينزجر عنه بمجرد الذكر. فأما القلب الذي غلب عليه الهوى، فإنه يرفع الذكر إلى حواشيه، فلا يتمكن الذكر من سويدائه، فيستقر الشيطان في السويداء. وإذا أردت مصداق ذلك، فتأمل هذا في صلاتك، وانظر إلى الشيطان كيف يحدث قلبك في مثل هذا الموطن، بذكر السوق، وحساب المعاملين، وتدبير أمر الدنيا. واعلم: أنه قد عفي عن حديث النفس، ويدخل في ذلك ما هممت به، ومن ترك ذلك خوفاً من الله تعالى كتبت له حسنة وإن تركه لعائق، رجونا له المسامحة، إلا أن يكون عزماً، فإن العزم على الخطيئة خطيئة، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: ما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه". وكيف لا تقع المؤاخذة بالعزم، والأعمال بالنية، وهل الكبر والرياء والعجب إلا أمور باطنة؟ ولو أن إنساناً رأى على فراشه أجنبية ظنها زوجته لم يأثم بوطئها، ولو رأى زوجته وظنها أجنبية أثم بوطئها، وكل هذا متعلق بعقد القلب. 2 ـ فصل [في ثبات القلوب على الخير] وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب اصرف قلبنا إلى طاعتك". وفى حديث آخر: "مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح" (¬1). واعلم: أن القلوب في الثبات على الخير والشر والتردد بينهما ثلاثة: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (88) من حديث أبي موسى الأشعري، وفي سنده يزيد الرقاشي وهو ضعيف، وأخرجه البغوي في "شرح السنة" (87) وسنده صحيح، رواه أحمد 4/ 408 بسندين صحيحين ولفظ الأول "مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن" ولفظ الثاني "إن هذا القلب كريشة بفلاة من الأرض تفيئها الريح ظهراً لبطن".

كتاب رياضة النفس وتهذيب الخلق ومعالجة أمراض القلوب

القلب الأول: قلب عَمُرَّ بالتقوى، وزكى بالرياضة، وطهر عن خبائث الأخلاق، فتتفرج فيه خواطر الخير من خزائن الغيب، فيمده الملك بالهدى. القلب الثاني: قلب مخذول، مشحون بالهوى، مندس بالخبائث، ملوث بالأخلاق الذميمة، فيقوى فيه سلطان الشيطان لاتساع مكانه، ويضعف سلطان الإيمان، ويمتلئ القلب بدخان الهوى، فيعدم النور، ويصير كالعين الممتلئة بالدخان، لا يمكنها النظر، ولا يؤثر عنده زجر ولا وعظ. والقلب الثالث: قلب يبتدئ فيه خاطر الهوى، فيدعوه إلى الشر، فيلحقه خاطر الإيمان فيدعوه إلى الخير. مثاله، أن يحمل الشيطان حملة على العقل، ويقوى داعي الهوى ويقول: أما ترى فلاناً وفلاناً كيف يطلقون أنفسهم في هواها، حتى يعد جماعة من العلماء، فتميل النفس إلى الشيطان، فيحمل الملك حملة على الشيطان، ويقول: هل هلك إلا من نسى العاقبة، فلا تغتر بغفلة الناس عن أنفسهم، أرأيت لو وقفوا في الصيف في الشمس ولك بيت بارد، أكنت توافقهم أم تطلب المصلحة؟ أفتخالفهم في حر الشمس، ولا تخالفهم فيما يؤول إلى النار؟ فتميل النفس إلى قول الملك، ويقع التردد بين الجندين، إلى أن يغلب على القلب ما هو أولى به، فمن خلق للخير يسر له، ومن خلق للشر يسر له: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه. ... كتاب رياضة النفس وتهذيب الخلق ومعالجة أمراض القلوب وذلك في فصول: أعلم: أن الخلق الحسن صفة من صفات الأنبياء والصديقين، وأن الأخلاق السيئة سموم قاتلة، تنخرط بصاحبها في سلك الشيطان، وأمراض تفوت جاه الأبد، فينبغي أن تعرف العلل ثم التشمير في معالجتها، ونحن نشير إلى جمل من الأمراض، وكيفية معالجتها في الجملة من غير تفصيل، فإن ذلك يأتى مبيناً إن شاء الله تعالى.

1 ـ الفصل الأول في فضيلة حسن الخلق وذم سوء الخلق

1 ـ الفصل الأول في فضيلة حسن الخلق وذم سوء الخلق وقد ذكر شئ من ذلك في آداب الصحبة. واعلم: أن الناس قد تكلموا في حسن الخلق متعرضين لثمرته لا لحقيقته، ولم يستوعبوا جميع ثمراته، بل ذكر كل منهم ما حضر في ذهنه، وكشف الحقيقة في ذلك أن يقال: كثيراً ما يستعمل حسن الخلق مع الخلق فيقال: فلان حسن بالخَلق والخُلق. أي حسن الظاهر والباطن، فالمراد بالخَلق: الصورة الظاهرة، والمراد بالخُلق: الصورة الباطنة، وذلك أن الإنسان مركب من جسد ونفس. فالجسد مدرك بالبصر، والنفس مدركة بالبصيرة، ولكل واحدة منها هيئة وصورة إما جميلة وإما قبيحة، والنفس المدركة بالبصيرة أعظم قدراً من الجسد المدرك بالبصر، ولذلك عظم الله سبحانه وتعالى أمره فقال: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص: 71 - 72]، فنبه على أن الجسد منسوب إلى الطين، والروح منسوب إليه سبحانه وتعالى، فالخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الأفعال جميلة سميت خلقاً حسناً، وإن كانت قبيحة سميت خلقاً سيئاً. وقد زعم بعض من غلبت عليه البطالة فاستثقل الرياضة، أن الأخلاق لا يتصور تغييرها، كما لا يتصور تغيير صورة الظاهر. والجواب: أنه لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لم يكن للمواعظ والوصايا معنى، وكيف تنكر تغيير الأخلاق ونحن نرى الصيد الوحشي يستأنس، والكلب يعلم ترك الأكل، والفرس تعلم حسن المشي وجودة الانقياد، إلا أن بعض الطباع سريعة القبول للصلاح، وبعضها مستصعبة. وأما خيال من اعتقد أن ما في الجبلة لا يتغير، فاعلم أنه ليس المقصود قمع هذه الصفات بالكلية، وإنما المطلوب من الرياضة رد الشهوة إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط، وأما قمعها بالكلية فلا، كيف والشهوة إنما خلقت لفائدة ضرورية في الجبلة، ولو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان، أو شهوة الوقاع لانقطع النسل، ولو انعدم الغضب بالكلية، لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه. وقد قال الله

تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] ولا تصدر الشدة إلا عن الغضب، ولو بطل الغضب لامتنع جهاد الكفار، وقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] ولم يقل: الفاقدين الغيظ. وكذلك المطلوب في شهوة الطعام الاعتدال دون الشره والتقلل: قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] إلا أن الشيخ المرشد للمريد إذا رأى له ميلاً إلى الغضب أو الشهوة، حسن أن يبالغ في ذمها على الطلاق ليرده إلى التوسط، ومما يدل على أن المراد من الرياضة الاعتدال أن السخاء خلق مطلوب شرعاً وهو وسط بين طرفي التقتير والتبذير وقد أثنى الله عليه بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. واعلم: أن هذا الاعتدال. تارة يحصل بكمال الفطرة منحة من الخلق، فكم من صبى يخلق صادقاً سخياً حليماً، وتارة يحصل بالاكتساب، وذلك بالرياضة، وهى حمل النفس على الأعمال الجالبة للخلق المطلوب، فمن أراد تحصيل خلق الجود فليتكلف فعل الجود من البذل ليصير ذلك طبعاً له. وكذلك من أراد التواضع تكلف أفعال المتواضعين، وكذلك جميع الأخلاق المحمودة فإن للعادة أثراً في ذلك، كما أن من أراد أن يكون كاتباً تعاطى فعل الكتابة، أو فقيهاً تعاطى فعل الفقهاء من التكرار، حتى ينعطف على قلبه صفة الفقه، إلا أنه لا ينبغي أن يطلب تأثير ذلك في يومين أو ثلاثة، وإنما يؤثر مع الدوام، كما لا يطلب في النمو علو القامة في يومين أو ثلاثة، وللدوام تأثير عظيم. وكما لا ينبغي أن يستهان بقليل الطاعات، فإن دوامها يؤثر، وكذلك لا يستهان بقليل من الذنوب. كما أن تعاطى أسباب الفضائل يؤثر في النفس ويغير طبعها، فكذلك مساكنة الكسل أيضاً يصير عادة، فيحرم بسببه كل خير. وقد تكتسب الأخلاق الحسنة بمصاحبة أهل الخير، فإن الطبع لص يسرق الخير والشر. قلت: ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل".

2ـ الفصل الثاني في بيان الطريق إلى تهذيب الأخلاق

2 ـ الفصل الثاني في بيان الطريق إلى تهذيب الأخلاق قد عرفت أن الاعتدال في الأخلاق هو الصحة في النفس، والميل عن الاعتدال سقم ومرض، فاعلم أن مثال النفس في علاجها كالبدن في علاجه، فكما أن البدن لا يخلق كاملاً، وإنما يكمل بالتربية والغذاء، كذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال، وإنما تكمل بالتزكية وتهذيب الأخلاق، والتغذية بالعلم. وكما أن البدن إذا كان صحيحاً، فشأن الطبيب العمل على حفظ الصحة، وإن كان مريضاً، فشأنه جلب الصحة إليه، كذلك النفس إذا كانت زكية طاهرة مهذبة الخلاق، فينبغي أن يسعى بحفظها وجلب مزيد القوة إليها، وإن كانت عديمة الكمال، فينبغي أن يسعى بجلب ذلك إليه. وكما أن العلة الموجبة لمرض البدن لا تعالج إلا بضدها، إن كانت من حرارة فبالبرودة وإن كانت من البرودة فبالحرارة، فكذلك الأخلاق الرذيلة التي هي من مرض القلب، علاجها بضدها، فيعالج مرض الجهل بالعلم، ومرض البخل بالسخاء، ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهى. وكما أنه لابد من احتمال مرارة الدواء، وشدة الصبر عن المشتهيات لصلاح الأبدان المريضة، فكذلك لابد من احتمال المجاهدة، والصبر على مداومة مرض القلب بل أولى، فإن مرض البدن يخلص منه بالموت، ومرض القلب عذاب يدوم بعد الموت أبداً. وينبغى للذي يطبُّ نفوس المريدين أن لا يهجم عليهم بالرياضة في فن مخصوص، حتى يعرف أخلاقهم وأمراضهم، إذ ليس علاج كل مريض واحداً، فإذا رأى جاهلاً بالشرع علمه، وإذا رأى متكبراً حمله على ما يوجب التواضع، أو شديد الغضب ألزمه الحلم. وأشد حاجة الرائض لنفسه، قوة العزم، فمتى كان متردداً بعد فلاحه، ومتى أحس من نفسه ضعف العزم تصبر، فإذا انقضت عزيمتها عاقبها لئلا تعاود، كما قال رجل لنفسه: تتكلمين فيما لا يعنيك؟ لعاقبنك بصوم سنة.

3ـ الفصل الثالث: في علامات مرض القلب وعوده إلى الصحة وبيان الطريق إلى معرفة الإنسان عيوب نفسه

3 ـ الفصل الثالث: في علامات مرض القلب وعوده إلى الصحة وبيان الطريق إلى معرفة الإنسان عيوب نفسه اعلم: أن كل عضو خلق لفعل خاص، فعلامة مرضه أن يتعذر منه ذلك الفعل، أو يصدر منه مع نوع من الاضطراب، فمرض اليد تعذر البطش، ومرض العين تعذر الإبصار، ومرض القلب أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلق لأجله، وهو العلم والحكمة والمعرفة، وحب الله تعالى وعبادته، وإيثار ذلك على كل شهوة. فلو أن الإنسان عرف كل شئ ولم يعرف الله سبحانه، كان كأنه لم يعرف شيئاً. وعلامة المعرفة: الحب، فمن عرف الله أحبه، وعلامة المحبة أن لا يؤثر عليه شيئاً من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئاً من المحبوبات فقلبه مريض، كما أن المعدة التي تؤثر أكل الطين على أكل الخبز -وقد سقطت عنها شهوة الخبز- مريضة. ومرض القلب خفي قد لا يعرفه صاحبه، فلذلك يغفل عنه، وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه، لأن دواءه مخالف الهوى، وإن وجد الصبر لم يجد طبيباً حاذقاً يعالجه، فإن الأطباء هم العلماء والمرض قد استولى عليهم والطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه، فلهذا صار الداء عضالاً، واندرس هذا العلم، وأنكر طب القلوب ومرضها بالكلية وأقبل الناس على أعمال ظاهرها عبادات وباطنها عادات فهذه علامة أصل المرض. وأما عافيته وعوده إلى الصحة بعد المعالجة، فهو أن ينظر إلى العلة، فإن كان يعالج داء البخل، فعلاجه بذل المال، ولكنه لا يسرف، ويصير إلى حد التبذير فيحصل داء آخر فيكون كمن يعالج البرودة بالحرارة الغالبة حتى تغلب الحرارة، فيكون داءً أيضاً، بل المطلوب الاعتدال. وإذا أرادت أن تعرف الوسط، فانظر إلى نفسك، فإن كان إمساك المال وجمعه ألذ عندك، وأيسر عليك من بذله لمستحقه، فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل، فعالج نفسك على البذل، وإن صار البذل للمستحق ألذ عندك، وأخف عليك من الإمساك فقد غلب عليك التبذير، فارجع إلى المواظبة على الامساك، ولا تزال تراقب نفسك،

وتستدل على خلقك بتيسير الأفعال وتعسيرها، حتى تنقطع علاقة قلبك عن المال فلا تميل إلى بذله ولا إمساكه، بل يصير عندك كالماء، فلا تطلب فيه إمساكه لحاجة محتاج، أو بذله لحاجة محتاج، فكل قلب صار كذلك، فقد جاء الله سليماً في هذا المقام. ويجب أن يكون سليماً على سائر الأخلاق حتى لا تكون له علاقة بشيء من الدنيا، حتى ترتحل النفس عن الدنيا منقطعة العلائق منها، غير ملتفته إليها، ولا متشوقة إلى أسبابها، فحينئذ ترجع إلى ربها رجوع النفس المطمئنة. ولما كان الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض، بل هو أدق من الشعر وأحد من السيف فلا جرم من استوى على هذا الصراط في الدنيا، جاز على مثل هذا الصراط في الآخرة، ولأجل عسر الاستقامة أمر العبد أن يقول في كل يوم مرات {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، ومن لم يقدر على الاستقامة، فليجتهد على القرب من الاستقامة فان النجاة بالعمل الصالح. ولا تصدر الأعمال الصالحة إلا عن الأخلاق الحسنة، فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه، وليشتغل بعلاج واحد بعد واحد، وليصبر ذو العزم على مضض هذا الأمر، فإنه سيحلو كما يحلو الفطام للطفل بعد كراهته له، فلو رد إلى الثدي لكرهه، ومن عرف قصر العمر بالنسبة إلى مدة حياة الآخرة حمل مشقة سفر أيام لتنعم الأبد، فعند الصباح يحمد القوم السُّرَى. واعلم: أن الله تعالى إذا أراد بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه، فمن كانت له بصيرة، لم تخف عليه عيوبه، وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن اكثر الناس جاهلون بعيوبهم، يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه. فمن أراد الوقوف على عيب نفسه فله في ذلك أربع طرق: الطريقة الأولى: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس، يعرف عيوب نفسه وطرق علاجها، وهذا قد عز في هذا الزمان وجوده، فمن وقع به، فقد وقع بالطبيب الحاذق فلا ينبغي أن يفارقه. الطريقة الثانية: أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً، وينصبه رقيباً على نفسه لينبهه على المكروه من أخلاقه وأفعاله.

4 ـ فصل [في شهوات النفوس]

وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا. وسأل سلمان رضى الله عنه لما قدم عليه من عيوبه، فقال: سمعت أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وان لك حلتين: حلة بالليل، وحلة بالنهار، فقال: هل بلغك غير هذا؟ قال: لا، قال: أما هذا فقد كفيتهما. وكان عمر رضى الله عنه يسأل حذيفة: هل أنا من المنافقين؟ وهذا لأن كل من علت مرتبته في اليقظة زاد اتهامه لنفسه، إلا أنه عز في هذا الزمان وجود صديق على هذه الصفة، لأنه قل في الأصدقاء من يترك المداهنة، فيخبر بالعيب أو يترك الحسد، فلا يزيد على قدر الواجب. وقد كان السلف يحبون من ينبههم على عيوبهم، ونحن الآن في الغالب أبغض الناس إلينا من يعرفنا عيوبنا. وهذا دليل على ضعف الإيمان، فإن الأخلاق السيئة كالعقارب، لو أن منبهاً نبهنا على أن تحت ثوب أحدنا عقرباً لتقلدنا له منة، واشتغلنا بقتلها، والأخلاق الرديئة أعظم ضرراً من العقرب على ما لا يخفى. الطريقة الثالثة: أن يستفيد معرفة نفسه من ألسنة أعدائه، فإن عين السخط تبدى المساوئ، وانتفاع الإنسان بعدو مشاجر يذكر عيوبه، أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يخفى عنه عيوبه. الطريقة الرابعة: أن يخالط الناس، فكل ما يراه مذموماً فيما بينهم، يجتنبه. 4 ـ فصل [في شهوات النفوس] وقد ذكرنا أن شهوات النفوس لم توضع إلا لفائدة، إذ لولا شهوة المطعم ما حصل تناول الغذاء، ولولا شهوة الجماع لانقطع النسل، وإنما المذموم فضول الشهوات وطغيانها، وثمة قوم لم يفهموا هذا القدر، فأخذوا يتركون كل ما تشتهيه النفس، وهذا ظلم لها بإسقاط حقها، فإن لها حقاً بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن لنفسك عليك حقاً" حتى إن قائلاً منهم يقول: لى كذا وكذا سنة اشتهي كذا فلا أتناوله، وهذا انحراف عن الحلِّ وخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه كان

5 ـ بيان علامات حسن الخلق

يتناول المشتهى من الحلو والعسل وغيرهما، فلا يلتفت إلى زاهد قل علمه، فحرم نفسه حظها من المشتهى على الإطلاق، فإنه إلى الظلم أقرب منه إلى العدل، وإنما يترك المشتهى إذا صعبت الطريق إليه، مثل أن لا يحصل إلا بوجه مكروه، أو يخاف من تناوله انحلال عزمه، فتطمع النفس في استدامته، أو يحذر من ذلك زيادة شبع، فيثقله عن عبادته، فأما تناوله في بعض الأوقات لتقوية النفس، فذلك كالطب للمريض، يمدح ولا يذم، ولا بأس بالرفق بالنفس لتقوى على السلوك. 5 ـ بيان علامات حسن الخلق ربما جاهد المريد نفسه حتى ترك الفواحش والمعاصي، ثم ظن أنه قد هذب خلقه، واستغنى عن المجاهدة، وليس كذلك، فإن حسن الخلق هو مجموع صفات المؤمنين، وقد وصفهم الله تعالى فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4] وقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112] وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 1 - 10]، وقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] إلى آخر السورة، فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات، فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق ووجود بعضها دون البعض يدل على البعض دون البعض فليشتغل بحفظ ما وجده وتحصيل ما فقده. وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المؤمن بصفات كثيرة، وأشار بها إلى محاسن الأخلاق. ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبداً حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وفيهما أيضا من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه

6 ـ فصل في رياضة الصبيان في أول النشوء

قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت". وفى حديث آخر: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً". ومن حسن الخلق: احتمال الأذى، ففى "الصحيحين" أن أعرابياً جذب رداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أثرت حاشيته في عاتقه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: يا محمد، مر لى من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء. وكان إذا آذاه قومه قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". وكان أويس القرني إذا رماه الصبيان بالحجارة يقول: يا إخوتاه، إن كان ولابد، فارموني بالصغار لئلا تدموا ساقي فتمعنوني من الصلاة. وخرج إبراهيم بن أدهم إلى بعض البرارى، فاستقبله جندي فقال: أين العمران؟ فأشار إلى المقبرة، فضرب رأسه فشجه، فلما أخبر أنه إبراهيم، جعل يقبل يده ورجله، فقال: إنه لما ضرب رأسي سألت الله له الجنة، لأني علمت أنى أوجر بضربه إياي فلم أحب أن يكون نصيبي منه الخير، ونصيبه منى الشر. وأجتاز بعضهم في سكة، فطرح عليه رماد من السطح، فجعل أصحابه يتكلمون. فقال: من استحق النار فصولح على الرماد، ينبغي له أن لا يغضب. فهذه نفوس ذللت بالرياضة، فاعتدلت أخلاقهم، ونقيت عن الغش بواطنها، فأثمرت الرضى بالقضاء، ومن لم يجد من نفسه بعض هذه العلامات التي وجدها هؤلاء، فينبغي أن يداوم الرياضة ليصل، فإنه بعد ما وصل. 6 ـ فصل في رياضة الصبيان في أول النشوء اعلم: أن الصبي أمانة عند والديه، وقلبه جوهرة ساذجة، وهى قابلة لكل نقش، فإن عود الخير نشأ عليه وشاركه أبواه ومؤدبه في ثوابه، وإن عود الشر نشأ عليه، وكان الوزر في عنق وليه، فينبغي أن يصونه ويؤدبه ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قرناء السوء، ولا يعوده التنعم، ولا يحبب إليه أسباب الرفاهية

فيضيع عمره في طلبها إذا كبر. بل ينبغي أن يراقبه من أول عمره، فلا يستعمل في رضاعة وحضانته إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال، فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه، فإذا بدت فيه مخايل التمييز وأولها الحياء، وذلك علامة النجابة وهى مبشرة بكمال العقل عند البلوغ، فهذا يستعان على تأديبه بحيائه. وأول ما يغلب عليه من الصفات شره الطعام، فينبغي أن يعلم آداب الأكل، ويعوده أكل الخبز وحده في بعض الأوقات لئلا يألف الإدام فيراه كالحتم، ويقبح عنده كثرة الأكل، بأن يشبه الكثير الأكل بالبهائم، ويحبب إليه الثياب البيض دون الملونة والإبريسم ويقرر عنده أن ذلك من شأن النساء والمخنثين، ويمنعه من مخالطة الصبيان الذين عودوا التنعم، ثم يشغله في المكتب بتعليم القرآن والحديث وأحاديث الأخبار، ليغرس في قلبه حب الصالحين، ولا يحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق. ومتى ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمول، فينبغي أن يكرم عليه، ويجازى بما يفرح به، ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال تغوفل عنه ولا يكاشف، فإن عاد عوتب سراً وخوف من اطلاع الناس عليه، ولا يكثر عليه العتاب، لأن ذلك يهون عليه سماع الملامة، وليكن حافظاً هيبة الكلام معه. وينبغى للأم أن تخوفه بالأب، وينبغى أن يمنع النوم نهاراً، فإنه يورث الكسل، ولا يمنع النوم ليلاً ولكنه يمنع الفرش الوطيئة لتتصلب أعضاؤه. ويتعود الخشونة في المفرش والملبس والمطعم. ويعود المشي والحركة والرياضة لئلا يغلب عليه الكسل. ويمنع أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه أبواه، أو بمطعمه أو ملبسه. ويعود التواضع والإكرام لمن يعاشره. ويمنع أن يأخذ شيئا من صبى مثله، ويعلم أن الأخذ دناءة، وأن الرفعة في الإعطاء. ويقبح عنده حب الذهب والفضة. ويعود أن لا يبصق في مجلسه ولا يتمخط، ولا يتثاءب بحضرة غيره، ولا يضع رجلا على رجل، ويمنع من كثرة الكلام.

7 ـ فصل [في شروط الرياضة]

ويعود أن لا يتكلم إلا جواباً، وأن يحسن الاستماع إذا تكلم غيره ممن هو أكبر منه، وأن يقوم لمن هو فوقه ويجلس بين يديه. ويمنع من فحش الكلام، ومن مخالطة من يفعل ذلك، فإن أصل حفظ الصبيان حفظهم من قرناء السوء. ويحسن أن يفسح له بعد خروجه من المكتب في لعب جميل، ليستريح به من تعب التأديب، كما قيل: روح القلوب تع الذكر. وينبغى أن يعلم طاعة والديه ومعلمه وتعظيمهم. وإذا بلغ سبع سنين أمر بالصلاة، ولم يسامح في ترك الطهارة ليتعود، ويخوف من الكذب والخيانة، وإذا قارب البلوغ، ألقيت إليه الأمور. وأعلم: أن الأطعمة أدوية، والمقصود منها تقوية البدن على طاعة الله تعالى، وأن الدنيا لا بقاء لها، وأن الموت يقطع نعيمها، وهو منتظر في كل ساعة، وأن العاقل من تزود لآخرته، فإن كان نشوؤه صالحاً ثبت هذا في قلبه، كما يثبت النقش في الحجر. قال سهل بن عبد الله: كنت ابن ثلاث سنين، وأنا أقوم بالليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، فقال لى خالي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ قلت: كيف أذكره؟ قال: قل بقلبك ثلاث مرات من غير أن تحرك لسانك: الله معي، الله ناظر إلى، الله شاهدى، فقلت ذلك ليالي، ثم أعلمته، فقال: قلها في كل ليلة إحدى عشر مرة. فقلت ذلك، فوقع في قلبي حلاوته، فلما كان بعد سنة، قال لى خالي: احفظ ما علمتك، ودم عليه إلى أن تدخل القبر، فلم أزل على ذلك سنين فوجدت له حلاوة في سري ثم قال لي خالي: يا سهل من كان الله معه، وهو ناظر إليه، وشاهد عليه، هل يعصيه؟ إياك والمعصية ومضيت إلى المكتب، وحفظت القرآن، وأنا ابن ست سنين أو سبع، ثم كنت أصوم الدهر، وقوتي من خبز الشعير، ثم بعد لك كنت أقوم الليل كله. 7 ـ فصل [في شروط الرياضة] واعلم: أن من شاهد الآخرة بقلبه مشاهدة يقين، أصبح بالضرورة مريداً لها،

زاهداً في الدنيا، فإن من كان معه خرزة، فرأى جوهرة نفيسة، لم يبق له رغبة في الخرزة، فإذا قيل له: بعها بالجوهرة، أسرع في ذلك. واعلم: أن من رزقه الله تعالى الانتباه لذلك، فإن عليه لسلوك الرياضة شرطاً لابد من تقديمه، ومعتصماً لابد من التمسك به، وحصناً لابد من التحصن به. فأما الشرط، فهو رفع الحجاب بترك الذنوب. وأما المعتصم، فشيخ يدله على الطريق لئلا تختطفه الشياطين في السبل. وأما الحصن، فالخلوة، وعليه من الوظائف مخالفه الهوى، وكثرة الذكر والاقتصاد في الأوراد. ومنتهى الرياضة أن يجد قلبه مع الله أبداً، ولا يمكن ذلك إلا بأن يخلو عن غيره، ولا يخلو إلا بطول المجاهد، فهذا منهاج رياضة المريد وترتيبه في التدريج، فأما تفصيل الرياضة في كل صفحه، فسيأتي إن شاء الله تعالى. ***

كتاب كسر الشهوتين: [شهوة البطن وشهوة الفرج]

كتاب كسر الشهوتين: [شهوة البطن وشهوة الفرج] شهوة البطن من أعظم المهلكات، وبها أُخرج آدم عليه السلام من الجنة، ومن شهوة البطن تحدث شهوة الفرج والرغبة في المال، ويتبع ذلك آفات كثيرة، كلها من بطر الشبع. وفى حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "المؤمن يأكل في معيً واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء". وفى حديث أخر: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، حسب ابن أدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشربه، وثلث لنفسه". وقال عقبة الراسبي: دخلت على الحسن وهو يتغذى، فقال: هلم، فقلت: أكلت حتى لا أستطيع، فقال: سبحان الله أو يأكل المسلم حتى لا يستطيع أن يأكل؟! ‍‍‍وقد بالغ جماعة من الزهاد في التقلل من الأكل والصبر على الجوع، وقد بينا عيب ما سلكوا في غير هذا الكتاب، ومقام العدل في الأكل رفع اليدين مع بقاء شىء من الشهوة، ونهاية المقام الحسن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه". فالأكل ‍‍في مقام العدل يصح البدن وينفى المرضى، وذلك أن يتناول الطعام حتى يشتهيه، ثم يرفع يده وهو يشتهيه، والدوام على التقلل من الطعام يضعف القوى، وقد قلل أقوام مطاعمهم حتى قصروا عن الفرائض، وظنوا بجهلهم أن ذلك فضيلة، وليس كذلك، ومن مدح الجوع، فإنما أشار إلى الحالة المتوسطة التي ذكرناها. وطريق الرياضة في كسر شهوة البطن أن من تعود استدامة الشبع، فينبغي له أن يقلل من مطعمه يسيراً مع الزمان، إلى أن يقف على حد التوسط الذي أشرنا إليه، وخير الأمور أوساطها، فالأولى تناول مالا يمنع من العبادات، ويكون سبباً لبقاء القوة، فلا يحس المتناول بجوع ولا شبع، فحينئذ يصح البدن، وتجتمع الهمة، ويصفو الفكر، ومتى زاد في الأكل أورثه كثرة النوم، وبلادة الذهن، وذلك بتكثير البخار في الدماغ حتى يغطى مكان الفكر، وموضع الذكر، ويجلب أمراضاً أخر. وليحذر من ترك شيئاً من الشهوات أن تتطرق إليه آفة الرياء، وقد كان بعضهم

يشترى الشهوة ويعلقها في بيته وهو زاهد فيها، يستر بها زهده، وهذا هو نهاية الزهد، الزهد في الزهد بإظهار ضده، وهو عمل الصديقين، لأنه يجرع نفسه كأس الصبر مرتين، والثانية أمر. وأما شهوة الفرج، فاعلم أن شهوة الوقاع سلطت على الآدمي لفائدتين: إحداهما: بقاء النسل، والثانية ليدرج لذة يقيس عليها لذات الآخرة، فإن ما لم يدرك جنسه بالذوق، لا يعظم إليه الشوق، إلا أنه إذ لم ترد هذه الشهوة إلى الاعتدال، جلبت آفات كثيرة، ومحناً، ولولا ذلك ما كان النساء حبائل الشيطان. وفى الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما تركت في الناس بعدى فتنة أضر على الرجال من النساء". وقال بعض الصالحين: لو ائتمنني رجل على بيت مال، لظننت أن أودى إليه الأمانة، ولو ائتمنني على زنجية أخلو بها ساعة واحدة، ما ائتمنت نفسي عليها. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يخلو رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان". وقد ينتهي الإفراط في هذه الشهوة، حتى تصرف همة الرجل إلى كثرة التمتع بالنساء فيشغله عن ذكر الآخرة، وربما آل إلى الفواحش، وقد تنتهي بصاحبها إلى العشق، وهو أقبح الشهوات، وأجدرها أن تستحيي منه، وقد يقع عند كثير من الناس عشق المال، والجاه، واللعب بالنرد، والشطرنج، والطنبور، ونحو ذلك، فتستولي هذه الأشياء على القلوب فلا يصبرون عنها. ويسهل الاحتراز عن ذلك في بدايات الأمور، فإن آخرها يفتقر إلى علاج شديد، وقد لا ينجح، ومثاله من يصرف عنان الدابة عند توجهها إلى باب تريد دخوله، فما أهون منعها يصرف عنانها، ومثال من يعالجه بعد استحكامه، مثال من يتركها حتى تدخل الباب وتجاوزه، ثم يأخذ بذنبها يجرها إلى وراء، وما أعظم التفاوت بين الأمرين!! ***

كتاب آفات اللسان

كتاب آفات اللسان آفاته كثيرة ومتنوعة، ولها في القلب حلاوة، ولها بواعث من الطبع، ولا نجاة من خطرها إلا بالصمت، فلنذكر أولاً فضيلة الصمت، ثم نتبعه الآفات مفصلة إن شاء الله تعالى. اعلم: أن الصمت يجمع الهمة ويفرغ الفكر. وفى الحديث، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من يضمن لى ما بين لحييه، وما بين رجليه أضمن له الجنة". وفى حديث آخر: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" (¬1). وفى حديث معاذ في آخره: "كف عليك هذا" فقلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم، ألا حصائد ألسنتهم؟ ". وفى حديث آخر: "من كف لسانه ستر الله عورته" (¬2). وقال ابن مسعود: ما شيء أحوج إلى طول سجن من لساني. وقال أبو الدرداء: أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعلت لك أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تتكلم به. وقال مخلد بن الحسين: ما تكلمت منذ خمسين سنة بكلمة أريد أن أعتذر منها. 1 ـ ذكر آفات الكلام: الآفة الأولى: الكلام فيما لا يعنى. واعلم: أن من عرف قدر زمانه، وأنه رأس ماله، لم ينفقه إلا في فائدة، وهذه ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبى الدنيا في "الصمت" من حديث أنس، وفى سنده على بن مسعدة، قال البخاري: فيه نظر، وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة. (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت" من حديث ابن عمر، وفيه هشام بن أبي إبراهيم قال الذهبي في "الميزان": مجهول، وباقي رجاله ثقات، ومع ذلك فقد حسن إسناده العراقي.

المعرفة توجب حبس اللسان عن الكلام فيما لا يعنى، لأنه من ترك الله تعالى واشتغل فيما لا يعنى، كان كمن قدر على أخذ جوهرة، فأخذ عوضها مدرة، وهذا خسران العمر. وفى الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعينه". وقيل للقمان الحكيم: ما بلغ من حكمتك؟ قال: لا أسأل عما كفيته، ولا أتكلم بما لا يعنيني. وقد روى أنه دخل على دواء عليه السلام وهو يسرد درعاً، فجعل يتعجب مما رأى، فأراد أن يسأله عن ذلك، فمنعته حكمته فأمسك، فلما فرغ داود عليه السلام، قام ولبس الدرع ثم قال: نعم الدرع للحرب. فقال لقمان: الصمت حكم وقليل فاعله. الآفة الثانية: الخوض في الباطل، وهو الكلام في المعاصي، كذكر مجالس الخمر، ومقامات الفساق. وأنواع الباطل كثيرة. وعن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن العبد ليتكلم بالكلمة يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب،. وقريب من ذلك الجدال والمراء وهو كثرة الملاحاة (¬1) للشخص لبيان غلطة وإفحامه، والباعث على ذلك الترفع. فينبغي للإنسان أن ينكر المنكر من القول، ويبين الصواب، فإن قبل منه وإلا ترك المماراة، هذا إذا كان الأمر معلقاً بالدين، فأما إذا كان في أمور الدنيا، فلا وجه للمجادلة فيه، وعلاج هذه الآفة بكسر الكبر الباعث على إظهار الفضل، وأعظم من المراء الخصومة، فإنها أمر زائد على المراء. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم". وهذه الخصومة نعنى بها الخصومة بالباطل أو بغير علم، فأما من له حق فالأولى أن يصدف (¬2) عن الخصومة، مهما أمكن لأنها، توغر الصدر، وتهيج الغضب الغضب، ¬

(¬1) يقال: لاحيته ملاحاة ولحاء: وفى المثل: من لاحاك فقد عاداك، وقولهم: لحاه الله، أي: قبحه ولعنه. (¬2) يصدف: يعرض.

وتورث الحقد، وتخرج إلى تناول العرض. الآفة الثالثة: التقعر في الكلام، وذلك يكون بالتشدق (¬1) وتكلف السجع. وعن أبى ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أبغضكم إلى وأبعدكم منى يوم القيامة مساويكم أخلاقاً الثرثارون (¬2) المتشدقون المتفيهقون (¬3) ". ولا يدخل في كراهة السجع والتصنع ألفاظ الخطيب، والتذكير من غير إفراط، ولا إغراب، لأن المقصود من ذلك تحريك القلوب، وتشويقها، ورشاقة اللفظ ونحو ذلك. الآفة الرابعة: الفحش والسب والبذاء (¬4)، ونحو ذلك، فإنه مذموم منهي عنه، ومصدره الخبث واللؤم. وفى الحديث: "إياكم والفحش، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ". " الجنة حرام على كل فاحش" (¬5). وفى حديث آخر: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء". واعلم: أن الفحش والبذاء هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وأكثر ما يكون ذلك في ألفاظ الجماع وما يتعلق به، فإن أهل الخير يتحاشون عن تلك العبارات ويكنون عنها. ومن الآفات: الغناء وقد سبق فيه كلام في غير هذا الموضوع. الآفة الخامسة: المزاح، أما اليسير منه، فلا ينهى عنه إذا كان صدقاً. فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقاً، فإنه قال لرجل: "يا ذا الأذنين"، وقال لآخر: "إنا حاملوك على ولد الناقة"، وقال للعجوز: "إنه لا يدخل الجنة عجوز" ثم قرأ: {إنا أنشأناهن إنشاء* فجعلناهن أبكاراً} [الواقعة: ¬

(¬1) وهو أن يلوى شدقه للتفصح. (¬2) الثرثرة: كثرة الكلام وترديده، يقال: ثرثر الرجل، فهو ثرثار مهذار. (¬3) قال الفراء: فلان يتفيهق في كلامه: وذلك إذا توسع فيه وتنطع، وأصله: الفهق، وهو الامتلاء، كأنه ملأ به فمه. (¬4) البذاء، بالمد: الفحش، وفلان يذىء اللسان من قوم أبذياء، والمرأة بذيئة. (¬5) أخرجه ابن أبي الدنيا وأبو نعيم في "الحلية" من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة.

35 - 36] (¬1)، وقال لأخرى: "زوجك الذي في عينيه بياض؟ " (¬2). فقد اتفق في مزاحه صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أشياء: أحدها: كونه حقاً. والثاني: كونه مع النساء والصبيان، ومن يحتاج إلى تأديبه من ضعفاء الرجال. والثالث: كونه نادراً، فلا ينبغي أن يحتج به من يريد الدوام عليه، فان حكم النادر ليس كحكم الدائم، ولو أن إنساناً دار مع الحبشة ليلاً ونهاراً ينظر إلي لعبهم واحتج بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف لعائشة وأذان لها أن تنظر إلى الحبشة، لكان غالطاً، لندور ذلك، فالإفراط بى المزاح والمداومة عليه منهي عنه، لأنه يسقط الوقار، ويوجب الضغائن والأحقاد، وأما اليسير كما تقدم، من نحو نوع مزاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن فيه انبساطاً وطيب نفس. الآفة السادسة: السخرية والاستهزاء، ومعنى السخرية: الاحتقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالشارة والإيماء، وكله ممنوع منه في الشرع، ورد النهى عنه في الكتاب والسنة. الآفة السابعة: إفشاء السر، وإخلاف الوعد والكذب في القول واليمين، وكل ذلك منهي عنه، إلا ما رخص فيه من الكذب لزوجته، وفى الحرب فإن ذلك يباح. وضابطه أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب، فهو فيه مباح إن كان هذا المقصود مباحاً. وإن كان المقصود واجباً، فهو واجب، فينبغي أن يحترز عن الكذب مهما أمكن. وتباح المعاريض، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن في المعاريض مندوحة عن الكذب" (¬3)، وإنما تصلح المعاريض عند الحاجة إليها، فأما مع غير الحاجة، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في "الشمائل" (240) مرسلا، واسنده ابن الجوزي في "الوفاء" من حديث أنس بسند ضعيف. (¬2) عزاه العراقي للزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح، ولم يذكر سنده ولا تكلم عليه بشيء. (¬3) أخرجه البيهقي وابن عدي من حديث عمران بن حصين مرفوعاً، وفي سنده داود بن الزبرقان وهو متروك وكذبه الأزدي، لكن رواه البخاري في "الأدب المفرد" (885) موقوفاً على عمران بن حصين بلفظ "إن في معاريض الكلام =

فمكروهة لأنها تشبه الكذب. فمن المعاريض ما روينا عن عبد الله بن رواحة رضى الله عنه أنه أصاب جارية له، فعلمت امرأته، فأخذت شفرة، ثم أتت فوافقته قد قام عنها، فقالت: أفعلتها؟ فقال: ما فعلت شيئاً، قالت، لتقرأن القرآن أو لأبعجنك بها، فقال رضى الله عنه: وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع يبيت يجافى جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع قالت: آمنت بالله وكذبت بصري. وكان النخعى إذا طلب قال للجارية: قولي لهم: اطلبوه في المسجد. الآفة الثامنة: الغيبة، وقد ورد الكتاب العزيز بالنهى عنها، وشبه صاحبها بآكل الميتة. وفى الحديث: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام". وعن أبى برزة الأسلمى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته". وفى حديث آخر: "إياكم والغيبة، فإن الغيبة أشد من الزنا، وإن الرجل قد يزنى ويشرب، ثم يتوب ويتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر الله له حتى يغفر صاحبه" (¬1). وقال على بن الحسين رضى الله عنهما: إياك والغيبة، فإنها إدام كلاب الناس والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة مشهورة. ومعنى الغيبة: أن تذكر أخاك الغائب بما يكره إذا بلغه، سواء كان نقصاً في ¬

_ = مندوحة عن الكذب" ورجاله ثقات. وأخرج أيضاً (884) من طريق أبي عثمان النهدي عن عمر قال: "أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب" والمعاريض والمعارض باثبات الياء وحذفها جمع معراض من التعريض بالقول، قال الجوهري: هو خلاف التصريح، وهو التورية بالشىء عن الشىء. (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الغيبة" وأبو الشيخ في "التوبيخ" عن جابر وأبي سعيد، وفي سنده عباد بن كثير وهو متروك.

بدنه، كالعمش، والعورة، والحول، والقرع، والطول، والقصر، ونحو ذلك. أو في نسبه، كقولك: أبوه نبطي، أو هندي أو فاسق، أو خسيس، ونحو ذلك. أو في خلقه كقولك، هو سئ الخلق بخيل متكبر ونحو ذلك. أو في ثوبه، كقولك: هو طويل الذيل، واسع الكم، وسخ الثياب. والدليل على ذلك، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الغيبة قال: "ذكرك أخاك بما يكره". قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول يا رسول الله؟ قال: "إن كان في أخاك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته". واعلم أن كل ما يفهم منه مقصود الذم، فهو داخل في الغيبة، سواء كان بكلام أو بغيره، كالغمز، والإشارة والكتابة بالقلم، فإن القلم أحد اللسانين. وأقبح أنواع الغيبة، غيبة المتزهدين المرائين، مثل أن يذكر عندهم إنسان فيقولون: الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان، والتبذل في طلب الحطام، أو يقولون: نعوذ بالله من قلة الحياء، أو نسأل الله العافية، فإنهم يجمعون بين ذم المذكور ومدح أنفسهم. وربما قالا أحدهم عند ذكر إنسان: ذاك المسكين قد بلى بآفة عظيمة، تاب الله علينا وعليه، فهو يظهر الدعاء ويخفى قصده. واعلم: أن المستمع للغيبة شريك فيها، ولا يتخلص من إثم سماعها إلا أن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه وإن قدر على القيام، أو قطع الكلام بكلام آخر، لزمه ذلك. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من أذل عنده مؤمن وهو يقدر أن ينصره أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق" (¬1). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من حمى مؤمناً من منافق يعيبه، بعث الله ملكاً يحمى لحمه يوم القيامة من نار جهنم" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أحمد والطبراني من حديث سهل بن حنيف، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف. (¬2) أخرجه أبو داود (4883) من حديث معاذ بن أسد الجهني، وفي سنده مجهول وضعيف.

2 ـ فصل في بيان الأسباب الباعثة على الغيبة وذكر علاجها

ورأى عمر بن عتبة مولاه مع رجل وهو يقع في آخر، فقال له: ويلك نزه سمعك عن استماع الخنا كما تنزه نفسك عن القول به، فالمستمع شريك القائل، إنما نظر إلى شر ما في وعائه فأفرغه في وعائك، ولو ردت كلمة سفيه في فيه لسعد بها رادها كما شقي بها قائلها. وقد وردت أحاديث في حق المسلم على المسلم، تقدمت في كتاب الصحبة. 2 ـ فصل في بيان الأسباب الباعثة على الغيبة وذكر علاجها أما الأسباب التي تبعث على الغيبة فكثيرة. منها: تشفى الغيظ، بأن يجرى من إنسان في حق آخر سبب يوجب غيظه، فكلما هاج غضبه تشفى بغيبة صاحبه. السبب الثاني: من البواعث على الغيبة موافقة الأقرانومجاملة الرفقاء ومساعدتهم، فإنهم إذا كانوا يتفكهون في الأعراض، رأى هذا أنه إذا أنكر عليهم أو قطع كلامهم استثقلوه ونفروا عنه، فيساعدهم ويرى ذلك من حسن المعاشرة. الثالث: إرادة رفع نفسه بتنقيص غيره، فيقول: فلان جاهل، وفهمه ركيك، ونحو ذلك، غرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه، ويريهم أنه أعلم منه. وكذلك الحسد في ثناء الناس على شخص وحبهم له وإكرامهم، فيقدح فيه ليقصد زوال ذلك. الرابع: اللعب والهزل، فيذكر غيره بما يضحك الناس به على سبيل المحاكاة، حتى إن بعض الناس يكون كسبه من هذا. وأما علاج الغيبة، فليعلم المغتاب أنه بالغيبة متعرض لسخط الله تعالى ومقته، وأن حسناته تنقل إلى المغتاب إليه، وإن لم يكن له حسنات نقل إليه من سيئات خصمه، فمن استحضر ذلك لم يطلق لسانه بالغيبة. وينبغى إذا عرضت له الغيبة أن يتفكر في عيوب نفسه، ويشتغل بإصلاحها، ويستحي أن يعيب وهو معيب، كما قال بعضهم: فإن عبت قوماً بالذي فيك مثله ... فكيف يعيب الناس من هو أعور

3 ـ فصل [في حصول الغيبة بسوء الظن]

وإذا عبت قوماً بالذي ليس فيهم ... فذلك عند الله والناس أكبر وإن ظن أنه سليم من العيوب، فليتشاغل بالشكر على نعم الله عليه، ولا يلوث نفسه بأقبح العيوب وهو الغيبة، وكما لا يرضى لنفسه بغيبة غيره له، فينبغي أن لا يرضاها لغيره من نفسه. فلينظر في السبب الباعث على الغيبة، فيجتهد على قطع، فإن علاج العلة يكون بقطع سببها. وقد ذكرنا بعض أسبابها، فيعالج الغضب بما سيأتي في كتاب الغضب، ويعالج موافقة الجلاس بأن يعلم أن الله تعالى يغضب على من طلب رضى المخلوقين بسخطه، بل ينبغي أن يغضب على رفقائه، وعلى نحو هذا معالجة البواقي. 3 ـ فصل [في حصول الغيبة بسوء الظن] وقد تحصل الغيبة بالقلب، وذلك سوء الظن بالمسلمين. والظن ما تركن إليه النفس ويميل القلب، فليس لك أن تظن بالمسلم شراً، إلا إذا انكشف أمر لا يحتمل التأويل فإن أخبرك بذلك عدل، فمال قلبك إلى تصديقه، كنت معذوراً، لأنك لو كذبته كنت قد أسأت الظن بالمخبر، فلا ينبغي أن تحسن الظن بواحد وتسيئه بآخر، بل ينبغي أن تبحث، هل بينهما عداوة وحسد؟ فتتطرق التهمة حينئذ بسبب ذلك، ومتى خطر لك خاطر سوء على مسلم، فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك، فلا يلقى إليك خاطر السوء خيفة من اشتغالك بالدعاء والمراعاة. وإذا تحققت هفوة مسلم، فانصحه في السر. واعلم: أن من ثمرات سوء الظن التجسس، فان القلب لا يقنع بالظن، بل يطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس، وذلك منهي عنه، لأنه يوصل إلى هتك ستر المسلم، ولو لم ينكشف لك، كان قلبك أسلم للمسلم. 4 ـ بيان الأعذار المرخصة في الغيبة وكفارة الغيبة اعلم: أن المرخص في ذكر مساوئ الغير، وهو غرض صحيح في الشرع، لا

يمكن التوصل إليه إلا به، وذلك يدفع إثم الغيبة، وهو أمور: أحدها التظلم، فإن للمظلوم أن يذكر الظالم إذا استدعاه إلى من يستوفى حقه. الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد الظالم إلى منهاج الصلاح. الثالث: الاستفتاء، مثل أن يقول للمفتى ظلمني فلان، أو أخذ حقى، فكيف طريقي في الخلاص، فالتعيين مباح، والأولى التعريض، وهو أن يقول: ما تقول في رجل ظلمه أبوه أو أخوه ونحو ذلك؟ والدليل على إباحة التعيين حديث هند حين قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الأمر الرابع: تحذير المسلمين، مثل أن ترى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق، وتخاف أن يتعدى إليه ذلك، فلك أن تكشف له الحال. وكذلك إذا عرفت من عبدك السرقة أو الفسق، فتذكر ذلك للمشترى. وكذلك المستشار في التزويج أو إيداع الأمانة، له أن يذكر ما يعرفه على قصد النصح للمستشير، لا على قصد الوقيعة، إذا علم أنه لا ينزجر إلا بالتصريح. الخامس: أن يكون معروفاً بلقب، كالأعرج، والأعمش، فلا إثم على من يذكره به، وإن وجد عن ذلك معدلاً كان أولى. السادس: أن يكون مجاهراً بالفسق، ولا يستنكف أن يذكر به. وقد روى عن النبي صلى اله عليه وآله وسلم أنه قال: " من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له" (¬1). وقيل للحسن: الفاجر المعلن بفجوره، ذكرى له بما فيه غيبة: قال: لا، ولا كرامة. وأما كفارة الغيبة، فاعلم أن المغتاب قد جنى جنايتين: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عدي وأبو الشيخ في الأعمال، وابن حبان في الضعفاء، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق"، والبيهقي في "السنن" و"الشعب" والديلمي، والخطيب، وابن عساكر، وفي سنده عندهم رواد بن الجراح اختلط بآخره فترك، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابعه عليه الناس، وقد ضعف حديثه هذا الحافظان البيهقي والعراقي.

إحداهما: على حق الله تعالى، إذ فعل ما نهاه عنه، فكفارة ذلك التوبة والندم. والجناية الثانية: على محارم المخلوق، فان كانت الغيبة قد بلغت الرجل، جاء إليه واستحله واظهر له الندم على فعله. وقد روى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه، من مال أو عرض، فليأته فليستحلها منه قبل أن يؤخذ وليس عنده درهم ولا دينار، فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته فأعطيها هذا، وإلا أخذ من سيئات هذا فألقى عليه". وإن كانت الغيبة لم تبلغ الرجل، جعل مكان استحلاله الاستغفار له، لئلا يخبره بما لا يعلمه، فيوغر صدره. وقد ورد في الحديث: "كفارة من اغتبت أن تستغفر له" (¬1). وقال مجاهد: كفارة أكلك لحم أخيك أن تثنى عليه وتدعو له بخير، وكذلك إن كان قد مات. الآفة التاسعة: من آفات اللسان النميمة، وفى الحديث ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يدخل الجنة قتات" وهو النمام. واعلم: أن النميمة تطلق في الغالب على نقل قول إنسان في إنسان، مثل أن يقول: قال فيك فلان كذا وكذا، وليست مخصوصة بهذا، بل حدها كشف ما يكره كشفه، سواء كان من الأقوال أو الأعمال، حتى لو رآه يدفن مالاً لنفسه فذكره فهو نميمة وكل من نقلت إليه النميمة، مثل أن يقال له: قال فيك فلان كذا وكذا أو فعل في حقك كذا، ونحو ذلك فعليه ستة أشياء: الأول: أن لا يصدق الناقل، لأن النمام فاسق مردود الشهادة. الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه. الثالث أن يبغضه في الله، فإنه بغيض عند الله. الرابع: أن لا يظن بأخيه الغائب السوء. الخامس: أن لا يحمله ما حكى له على التجسس والبحث، لقوله تعالى: {وَلَا ¬

(¬1) لا يصح، في سنده عنبسه بن عبد الرحمن القرشي قال: البخاري: تركوه، وقال أبو حاتم: كان يضع الحديث.

تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]. السادس: أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، فلا يحكى نميمته. ويروى أن سليمان بن عبد الملك قال لرجل: بلغني أنك وقعت فىَّ، وقلت كذا وكذا. فقال الرجل: ما فعلت، فقال سليمان: صدقت، اذهب بسلام. وقال يحيى بن أبى كثير: يفسد النمام في ساعة ما لا يفسد الساحر في شهر. وقد حكى أن رجلا ساوم بعبد، فقال مولاه: إني أبرأ منك من النميمة والكذب، فقال: نعم، أنت برئ منهما، فاشتراه. فجعل يقول لمولاه إن امرأتك تبغي وتفعل، وإنها تريد أن تقتلك، ويقول للمرأة: إن زوجك يريد أن يتزوج عليك ويتسرى، فان أردت أن أعطفه عليك، فلا يتزوج ولا يتسرى، فخذ الموسى واحلقي شعرة من حلقه إذا نام، وقال للزوج: إنها تريد أن تقتلك إذا نمت. قال فذهب فتناوم لها، فجاءت بموسى لتحلق شعرة من حلقه، فأخذ بيدها فقتلها، فجاء أهلها فاستعدوا عليه فقتلوه. الآفة العاشرة: كلام ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعادين، وينقل كلام كل واحد إلى الآخر، ويكلم كل واحد بكلام يوافقه، أو يعده أنه ينصره، او يثنى على الواحد في وجهه ويذمه عند الأخر. وفى الحديث: "إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه". واعلم: أن هذا فيمن لم يضطر إلى ذلك، فأما إذا اضطر إلى مداراة الأمراء جاز. قال أبو الدرداء رضى الله عنه: إنا لنكشر (¬1) في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم. ومتى قدر أن لا يظهر موافقتهم لم يجز له. الآفة الحادية عشرة: المدح، وله آفات: منها: ما يتعلق بالمادح، ومنها: ما يتعلق بالممدوح. فأما آفات المادح، فقد ¬

(¬1) التكشير: التبسم، والخبر علقه البخاري في "صحيحه" عن أبي الدرداء.

يقول مالا يتحققه، ولا سبيل للاطلاع عليه، مثل أن يقول: إنه ورع وزاهد، وقد يفرط في المدح فينتهي إلى الكذب، وقد يمدح من ينبغي لأن يذم. وقد روى في حديث: "إن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق" (¬1). وقال الحسن: من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله. وأما الممدوح، فإنه يحدث فيه كبراً أو إعجاباً، وهما مهلكان ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع رجلاً يمدح رجلاً: "ويلك، قطعت عنق صاحبك" .. الحديث وهو مشهور. وقد رُوِّينا عن الحسن قال كان عمر رضى الله عنه قاعداً ومعه الدرة والناس حوله، إذ أقبل الجارود، فقال رجل: هذا سيد ربيعة، فسمعها عمر رضى الله عنه ومن حوله، وسمعها الجارود، فلما دنا منه خفقه (¬2) بالدرة، فقال: مالي ولك يا أمير المؤمنين؟ قال: مالي ولك، أما سمعتها؟ قال: سمعتها، فمه؟ قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شئ فأحببت أن أطأطئ (¬3) منك، ولأن الإنسان إذا أثنى عليه بالخير رضى عن نفسه، وظن أنه قد بلغ المقصود، فيفتر عن العمل، ولهذا قال: "قطعت عنق صاحبك ... ". فأما إذا سلم المدح من هذه الآفات لم يكن به بأس، فقد أثنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أبى بكر وعمر رضى الله عنهما وغيرهما من الصحابة رضى الله عنهم. وعلى الممدوح أن يكون شديد الاحتراز من آفة الكبر والعجب والفتور عن العمل، ولا ينجو من هذه الآفات إلا أن يعرف نفسه، ويتفكر في أن المادح لو عرف منه ما يعرف من نفسه ما مدحه. وقد روى أن رجلاً من الصالحين أثنى عليه، فقال: اللهم إن هؤلاء لا يعرفوني وأنت تعرفني. الآفة الثانية عشرة: الخطأ في فحوى الكلام فيما يرتبط في أمور الدين، ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت" والبيهقي في "الشعب" من حديث أنس، وفي سنده أبو خلف الأعمى كذبه يحيى ابن معين، وقال أبو حاتم: منكر الحديث. (¬2) خفقه يخفقه، بضم الفاء وكسرها: ضربه. (¬3) أي أخفض منك وأطأ منك.

5 ـ فصل [لا تسأل عن صفات الله عز وجل]

لاسيما فيما يتعلق بالله تعالى، ولا يقدر على تقويم اللفظ بذلك إلا العلماء الفصحاء، فمن قصر في علم أو فصاحة، لم يخل كلامه عن الزلل، لكن يعفو الله عنه لجهله. مثال ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: "لا يقل أحدكم: ما شاء الله شئت، ولكن ليقل، ما شاء الله ثم شئت" (¬1)، وذلك لأن في العطف المطلق تشريكاً وتسوية، وقريب من ذلك إنكاره على الخطيب قوله: "ومن يعصهما فقد غوى" وقال: "ومن يعص الله ورسوله". وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يقل أحدكم: عبدى وأمتى، كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل، غلامي وجاريتي". وقال النخعى: إذا قال الرجل للرجل: يا حمار، يا خنزير، قيل له يوم القيامة: أرأيتني خلقته حماراً، أو أرأيتني خلقته خنزيراً. فهذا وأمثاله مما يدخل في الكلام، ولا يمكن حصره، ومن تأمل ما أوردناه في آفات اللسان، علم أنه إذا أطلق لسانه لم يسلم، وعند ذلك يعرف سر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من صمت نجا"، لأن هذه الآفات مهالك وهى على طريق المتكلم، فإن سكت سلم. 5 ـ فصل [لا تسأل عن صفات الله عز وجل] ومن آفات العوام سؤالهم عن صفات الله سبحانه وتعالى وكلامه. اعلم: أن الشيطان يخيل إلى العامي أنك بخوضك في العلم تكون من العلماء وأهل الفضل، فلا يزال يحبب إليه ذلك حتى يتكلم بما هو كفر وهو لا يدرى. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " يوشك الناس أن يسألوا، حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ " فسؤال العوام عن غوامض العلم أعظم الآفات، وبحثهم عن معاني الصفات مما يفسدهم لا مما يصلحهم، إذ الواجب عليهم التسليم، فالأولى بالعامي الإيمان بما ورد به القرآن، ثم التسليم لما جاء به الرسول من غير بحث، ¬

(¬1) وفى هذا الحديث دليل على أن المرء مؤاخذ بلفظه كما هو مؤاخذ بنيته، ولذا يجب على المسلم أن يخص الله بالعبادة والدعاء والتوكل والاستعانة، ولا يشرك معه غيره بذلك.

كتاب ذم الغضب والحقد والحسد

واشتغالهم بالعبادات، فإن اشتغالهم بالبحث عن أسرار العلم، كبحث سائمة الدواب عن أسرار الملك. ... كتاب ذم الغضب والحقد والحسد اعلم: أن الغضب شعلة من النار، وأن الإنسان ينزع فيه عند الغضب عرق إلى الشيطان اللعين، حيث قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] فإن شأن الطين السكون والوقار، وشأن النار التلظي والاشتعال، والحركة والاضطراب. ومن نتائج الغضب: الحقد والحسد، ومما يدل على ذم الغضب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرجل الذي قال له: أوصني، قال: "لا تغضب"، فردد عليه مراراً، قال: "لا تغضب". وفى حديث آخر أن ابن عمر رضى الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ماذا يبعدني من غضب الله عز وجل؟ قال: "لا تغضب". وفى المتفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". وعن عكرمة في قوله تعالى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] قال: السيد الذي يملك نفسه عند الغضب ولا يغلبه غضبه. وروينا أن ذا القرنين لقي ملكاً من الملائكة فقال: علمني علماً ازداد به إيماناً ويقيناً، قال: لا تغضب، فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب، فرد الغضب بالكظم، وسكنه بالتؤدة، وإياك والعجلة، فإنك إذا عجلت أخطأت حظك، وكن سهلاً ليناً للقريب والبعيد، ولا تكن جباراً عنيداً. وروينا أن إبليس لعنه الله بدا لموسى عليه السلام، فقال يا موسى: إياك والحدة، فإني ألعب بالرجل الحديد كما يلعب الصبيان بالكرة، وإياك والنساء، فإني لم انصب فخاً في نفسي قط أثبت في نفسي من فخ أنصبه بامرأة، وإياك والشح، فإني أفسد على الشحيح الدنيا والآخرة.

وكان يقال: اتقوا الغضب، فإنه يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل، والغضب عدو العقل. وحقيقة الغضب: غليان دم القلب لطلب الانتقام، فمتى غضب الإنسان ثارت نار الغضب ثوراناً يغلى به دم القلب، وينتشر بى العروق، ويرتفع إلى أعالي البدن، كما يرتفع الماء الذي يغلى في القدر، ولذلك يحمر الوجه والعين والبشرة وكل ذلك يحكى لون ما وراءه من حمرة الدم، كما تحكى الزجاجة لون ما فيها، وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه. فإن كان الغضب صدر ممن فوقه، وكان معه يأس من الانتقام، تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب، فصار حزناً، ولذلك يصفر اللون، وإن كان الغضب من نظير يشك فيه، تردد الدم بين انقباض وانبساط، فيحمر ويصفر ويضطرب، فالانتقام هو قوت لقوة الغضب. والناس في قوة الغضب على درجات ثلاث: إفراط، وتفريط، واعتدال. فلا يحمد الإفراط فيها، لأنه يخرج العقل والدين عن سياستهما، فلا يبقى للإنسان مع ذلك نظر ولا فكر ولا اختيار. والتفريط في هذه القوة أيضاً مذموم، لأنه يبقى لا حمية له ولا غيرة، ومن فقد الغضب بالكلية، عجز عن رياضة نفسه، إذ الرياضة إنما تتم بتسلط الغضب على الشهوة، فيغضب على نفسه عند الميل إلى الشهوات الخسيسة، ففقد الغضب مذموم، فينبغي أن يطلب الوسط بين الطريقين. واعلم: أنه متى قويت نار الغضب والتهبت، أعمت صاحبها، وأصمته عن كل موعظة، لأن الغضب يرتفع إلى الدماغ، فيغطى على معادن الفكر، وربما تعدى إلى معادن الحس، فتظلم عينه حتى لا يرى بعينه، وتسود الدنيا في وجهه، ويكون دماغه على مثال كهف أضرمت فيه نار، فاسود جوه، وحمى مستقره، وامتلأ بالدخان، وكان فيه سراج ضعيف فانطفأ، فلا يثبت فيه قدم، ولا تسمع فيه كلمة، ولا ترى فيه صورة، ولا يقدر على إطفاء النار، فكذلك يفعل بالقلب والدماغ، وربما زاد الغضب فقتل صاحبه. ومن آثار الغضب في الظاهر، تغير اللون، وشدة الرعدة في الأطراف، وخروج

1 ـ فصل في بيان الأسباب المهيجة للغضب وذكر علاج الغضب

الأفعال عن الترتيب، واستحالة الخلقة، وتعاطى فعل المجانين، ولو رأى الغضبان صورته في حال غضبه وقبحها لأنف نفسه من تلك الحال، ومعلوم أن قبح الباطن أعظم. 1 ـ فصل في بيان الأسباب المهيجة للغضب وذكر علاج الغضب قد عرفت أن علاج كل علة بحسم مادتها وإزالة أسبابها. فمن أسبابه: العجب، والمزاح، والمماراة، والمضادة، والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهذه الأخلاق رديئة مذمومة شرعاً، فينبغي أن يقابل كل واحد من هذه بما يضاده، فيجتهد على حسم مواد الغضب وقطع أسبابه. وأما إذا هاج الغضب فيعالج بأمور: أحدها: أن يتفكر في الأخبار الواردة في فضل كظم الغيظ، والعفو، والحلم، والاحتمال، كما جاء في البخاري من حديث ابن عباس رضى الله عنهما، أن رجلاً استأذن على عمر رضى الله عنه، فآذن له، فقال له: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل (¬1)، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر رضى الله عنه، حتى هم أن يوقع به (¬2). فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر رضى الله عنه حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل. الثاني: أن يخوف نفسه من عقاب الله تعالى، وهو أن يقول: قدرة الله على أعظم من قدرتي على هذا الإنسان، فلو أمضيت فيه غضبى، لم آمن أن يمضى الله عز وجل غضبه على يوم القيامة فأنا أحوج ما أكون إلى العفو. وقد قال الله تعالى في بعض الكتب: يا ابن آدم! اذكرني عند الغضب، أذكرك حين أغضب، ولا أمحقك فيمن أمحق. ¬

(¬1) أي: الكثير من العطية، يقال، عطاء جزل وجزيل. (¬2) أي ينزل به ما يسؤوه.

الثالث: أن يحذر نفسه عاقبة العداوة، والانتقام، وتشمير العدو في هدم أعراضه، والشماتة بمصائبه، فان الإنسان لا يخلو عن المصائب، فيخوف نفسه ذلك في الدنيا إن لم يخف من الآخرة وهذا هو تسليط شهوة على غضب ولا ثواب عليه، لأنه تقديم لبعض الحظوظ على بعض، إلا أن يكون محذوره أن يتغير عليه أمر يعينه على الآخرة، فيثاب على ذلك. الرابع: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضبعلى ما تقدم، وأنه يشبه حينئذ الكلب الضارى، والسبع العادي، وانه يكون مجانباً لأخلاق الأنبياء والعلماء في عادتهم، لتميل نفسه إلى الاقتداء بهم. الخامس: أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام، مثل أن يكون سبب غضبة أن يقول له الشيطان: إن هذا يحمل منك على العجز، والذلة والمهانة، وصغر النفس، وتصير حقيراً في أعين الناس، فليقل لنفسه: تأنفين من الاحتمال الآن، ولا تأنفين من خزي يوم القيامة والافتضاح إذا أخذ هذا بيدك وانتقم منك، وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس، ولا تحذرين من أن تصغري عند الله تعالى وعند الملائكة والنبيين. وينبغى أن يكظم غيظه، فذلك يعظمه عند الله تعالى، فماله وللناس؟ أفلا يجب أن يكون هو القائم يوم القيامة إذا نودي: ليقم من وقع أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا، فهذا وأمثاله ينبغي أن يقرره على قلبه. السادس: أن يعلم أن غضبه إنما كان من شىء جرى على وفق مراد الله تعالى، لا على وفق مراده، فكيف يقدم مراده على مراد الله تعالى، هذا ما يتعلق بالقلب. وأما العمل، فينبغي له السكون، والتعوذ، وتغيير الحال، وإن كان قائماً جلس، وإن كان جالساً اضطجع، وقد أمرنا بالوضوء أيضاَ عند الغضب، فهذه الأمور وردت في الأحاديث. أما الحكمة في الوضوء عند الغضب، فقد بينها في الحديث. كما روى أبو وائل قال: كنا عند عروة بن محمد، فكلمه رجل بكلام، فغضب غضباً شديداً فقام وتوضأ، ثم جاء فقال: حدثني أبى عن جدي عطية- وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق

2 ـ فصل في كظم الغيظ

من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ". وأما الجلوس والاضطجاع، فيمكن أن يكون إنما أمر بذلك ليقرب من الأرض التي منها خلق، فيذكر أصله فيذل، ويمكن أن يكون ليتواضع بذله، لأن الغضب ينشأ من الكبر، بدليل ما روى أبو سعيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر الغضب وقال: "من وجد شيئاً من ذلك، فليلصق خده بالأرض" (¬1). وقيل: غضب المهدى على رجل، فدعا بالسياط فلما رأى شبيب شدة غضبه، وإطراق الناس، فلم يتكلموا بشيء، قال: يا أمير المؤمنين، لا تغضبن لله بأشد مما غضب لنفسه، فقال: خلوا سبيله. 2 ـ فصل في كظم الغيظ قال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] فذكر ذلك في معرض المدح. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء". وروى عن عمر رضى الله عنه أنه قال: من اتقى الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يريد، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون. 3 ـ فصل في الحلم روى أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم" (¬2). "اطلبوا العلم، واطلبوا مع العلم السكينة والحلم، لينوا لمن تعلمون ولمن ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب البغدادي في "تاريخه" 1/ 127 وسنده حسن، وله شاهد من حديث معاوية رواه الطبراني في "الكبير" كما في "المجمع" 1/ 128 وسنده حسن في الشواهد. (¬2) أخرجه أحمد 3/ 61، والترمذيَ (2192) ضمن حديث مطول، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. لكن له طريق آخر يتقوى به أخرجه الخطيب البغدادي في "تاريخه" 9/ 127 بسند قابل للتحسين وشاهد بنحوه من حديث معاوية أخرجه الطبراني في "الكبير" كما في "المجمع" 1/ 128 وفي سنده رجل لم يسم.

تعلمون منه، ولا تكونوا من جبابرة العلماء، فيغلب جهلكم عليكم" (¬1). وقال صلى الله عليه وآله وسلم لأشج بن قيس (¬2): "إن فيك خلقين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة (¬3) ". وشتم رجل ابن عباس رضى الله عنه فلما قضى مقتله، فقال: يا عكرمة، انظر هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى. وأسمع رجل معاوية كلاماً شديداً فقيل له: لو عاقبته؟ فقال: إني لأستحي أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي. وأقسم معاوية نطعاً (¬4)، فبعث منها إلى شيخ من أهل دمشق فلم يعجبه فجعل عليه يميناً أن يضرب رأس معاوية، فأتى معاوية فأخبره، فقال له معاوية: أوف بنذرك وارفق بالشيخ. وجاء غلام لأبى ذر وقد كسر رجل شاة له، فقال له: من كسر رجل هذه؟ قال: أنا فعلته عمداً لأغيظك، فضربنى، فتأثم. فقال: لأغظين من حرضك على غيظي، فأعتقه. وشتم رجل عدى ابن حاتم وهو ساكت، فلما فرغ من مقالته قال: إن كان بقي عندك شئ فقل قبل أن يأتي شباب الحي، فإنهم إن سمعوك تقول هذا لسيدهم لم يرضوا. ودخل عمر بن عبد العزيز المسجد ليلة في الظلمة، فمر برجل نائم فعثر به، فرفع رأسه وقال: أمجنونٌ أنت؟ فقال عمر: لا، فهم به الحرس، فقال عمر: مه، إنما سألني أمجنون؟ فقلت: لا. ولقي رجل على بن الحسين رضى الله عنهما، فسبه، فثارت إليه العبيد، فقال: مهلاً، ثم أقبل على الرجل فقال: ما ستر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك ¬

(¬1) قال الحافظ العراقي: رواه ابن السني في "رياضة المتعلمين" بسند ضعيف. (¬2) هذا لقبه، واسمه: المنذر بن عائذ بن الحارث العصرى، بمهلتين مفتوحتين، نزل البصرة ومات فيها. (¬3) الأناة: الترفق والتنظر. (¬4) جاء في "القاموس" النطع بالكسر وبالفتح وبالتحريك: بساط من الأديم.

4 ـ فصل في العفو والرفق

عليها؟ فاستحى الرجل، فألقى عليه خميصة (¬1) كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرسول. وقال رجل لوهب بن منبه: إن فلاناً شتمك، فقال: ما وجد الشيطان بريداً غيرك. 4 ـ فصل في العفو والرفق أعلم: أن معنى العفو أن تستحق حقاً فتسقطه، وتؤدى عنه من قصاص أو غرامة، وهو غير الحلم والكظم. وقال الله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}. [آل عمران: 134] وقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وفى الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عقبة، ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك" (¬2). وروى أن منادياً ينادى يوم القيامة: ليقم من وقع أجره على الله؟ فلا يقوم إلا من عفا عمن ظلمه. وعن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى عليه مالا يعطي على العنف". وفى "الصحيحين" من حديث عائشة رضى الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إن الله عز وجل يحب الرفق في الأمر كله". وفى حديث آخر "من يحرم الرفق يحرم الخير". ¬

_ (¬1) الخميصة: كساء أسود مربع له علمان، فان لم يكن معلماً فليس بخميصة. (¬2) قال الحافظ العراقي: رواه ابن أبي الدنيا، والطبراني في "مكارم الأخلاق" والبيهقي في "الشعب" بإسناد ضعيف.

5 ـ باب في الحقد والحسد

5 ـ باب في الحقد والحسد اعلم: أن الغيظ إذا كظم لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن، فاحتقن فيه فصار حقداً. وعلامته دوام بغض الشخص واستثقاله والنفور منه، فالحقد ثمرة الغضب، والحسد من نتائج الحقد. وعن الزبير بن العوام رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء" (¬1). وفى "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، كونوا عباد الله إخواناً". وفى حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب (¬2) ". وفى حديث آخر أنه قال: "يطلع عليكم من هذا الفج (¬3) رجل من أهل الجنة، فطلع رجل، فسئل عن عمله، فقال: إني لا أجد لأحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه". وروينا أن الله تبارك وتعالى يقول: "الحاسد عدو نعمتي، متسخط لقضائي، غير راض بقسمتي بين عبادي". وقال ابن سيرين: ما حسدت أحداً على شئ من أمر الدنيا، لأنه إن كان من أهل الجنة، فكيف أحسده على شئ من أمر الدنيا، وهو يصير إلى الجنة، وإن كان من أهل النار، فكيف أحسده على شئ من أمر الدنيا، وهو يصير إلى النار. وقال إبليس لنوح عليه السلام: إياك والحسد، فإنه صيرني إلى هذه الحال. ¬

_ (¬1) ضعيف أخرجه أحمد والترمذي عن الزبير بن العوام. (¬2) أخرجه ابن ماجه (4210) من حديث أنس وفي سنده عيسى بن أبي عيسى الحناط وهو ضعيف، وأخرجه بنحوه أبو داود (4903). (¬3) الفج بالفتح: الطريق الواسع بين الجبلين، والجمع فجاج.

واعلم: أن الله تعالى إذا نعم على أخيك نعمة، فلك فيها حالتان: إحداها: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها، فهذا هو الحسد. والحالة الثانية: أن لا تكره وجودها ولا تحب زوالها، ولكنك تشتهى لنفسك مثلها، فهذا يسمى غبطة. قال المصنف رحمه الله: قلت: واعلم أنى ما رأيت أحداً حقق الكلام في هذا كما ينبغي، ولابد لى من كشفه فأقول: اعلم: أن النفس قد جلبت على حب الرفعة، فهي لا تحب أن يعلوها جنسها، فإذا علا عليها، شق عليها وكرهته، وأحبت زوال ذلك ليقع التساوي، وهذا أمر مركوز في الطباع. وقد روى أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ثلاث لا ينجو منهن أحد: الظن، والطِّيرة، والحسد، وسأحدثكم ما المخرج من ذلك، إذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ" (¬1). وعلاج الحسد، تارة بالرضى بالقضاء، وتارة بالزهد في الدنيا، وتارة بالنظر فيما يتعلق بتلك النعم من هموم الدنيا وحساب الآخرة، فيتسلى بذلك ولا يعمل بمقتضى ما في النفس أصلاً، ولا ينطق، فإذا فعل ذلك لم يضره ما وضع في جبلته. فأما من يحسد نبياً على نبوته، فيجب أن لا يكون نبياً، أو عالماً على علمه، فيؤثر أن يرزق ذلك أو يزول عنه، فهذا لا عذر له، ولا تجبل عليه إلا النفوس الكافرة أو الشريرة، فأما إن أحب أن يسبق أقرانه، ويطلع على ما لم يدركوه، فإنه لا يأثم بذلك، فإنه لم يؤثر زوال ما عندهم عنهم، بل أحب الارتفاع عنهم ليزيد حظه عند ربه، كما لو استبق عبدان إلى خدمة مولاهما، فأحب أحدهما أن يستبق. وقد قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] (¬2). وفى "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضى الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله عز وجل القرآن، فهو يقوم ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "ذم الحسد" من حديث أبي هريرة، وفيه يعقوب بن محمد الزهري، وموسى بن يعقوب الزمعي ضعفهما الجمهور. (¬2) يقال نافست في الشيء منافسة، ونفاساً: إذا رغبت فيه على وجه المباراة في الكرم، وتنافسوا فيه، أي: رغبوا.

به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه في الحق آناء الليل وآناء النهار". والحسد له أسباب: أحدها: العداوة، والتكبر، والعجب، وحب الرياسة، وخبث النفس، وبخلها، وأشدها: العداوة والبغضاء، فإن من آذاه إنسان بسبب من الأسباب، وخالفه في غرضه، أبغضه قلبه، ورسخ في نفسه الحقد. والحقد يقتضي التشفي والانتقام، فمهما أصاب عدوه من البلاء فرح بذلك، وظنه مكافأة من الله تعالى له، ومهما أصابته نقمة ساءه ذلك، فالحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقهما، وإنما غاية التقى أن لا يبغي، وأن يكره ذلك من نفسه، فأما أن يبغض إنساناً فيستوي عنده مسرته ومساءته، فهذا غير ممكن. وأما الكبر، فهو أن يصيب بعض نظرائه مالاً أو ولاية، فيخاف أن يتكبر عليه ولا يطيق تكبره، وأن يكون من أصاب ذلك دونه، فلا يحتمل ترفعه عليه أو مساواته. وكان حسد الكفار لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريباً من ذلك. قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وقال في حق المؤمنين: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] وقال في آية أخرى: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: 15] وقال: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34] فعجبوا وأنفوا من أن يفوز برتبة الرسالة بشر مثلهم فحسدوهم. وأما حب الرياسة والجاه، فمثاله أن الرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون، إذا غلب عليه حب الثناء، واستفزه الفرح بما يمدح به، من أنه أوحد العصر، وفريد الدهر في فنه، إذا سمع بنظير له في أقصى العالم، ساءه ذلك وأحب موته، أو زوال النعمة التي بها يشاركه في علم، أو شجاعة، أو عبادة، أو صناعة، أو ثروة، أو غير ذلك، وليس ذلك إلا لمحض الرياسة بدعوى الانفراد. وقد كان علماء اليهود ينكرون معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يؤمنون خوفاً من بطلان رئاستهم. وأما خبث النفس وشحها على عباد الله، فإنك تجد من الناس من لا يشتغل برئاسة

6 ـ فصل [في سبب كثرة الحسد]

ولا تكبر، وإذا وصف عند حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم عليه به، شق عليه ذلك، وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم، وتنغيص عيشهم، فرح به، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره، ويبخل بنعمة الله على عباده، كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته. وقد قال بعض العلماء: البخيل من يبخل بمال نفسه، والشحيح الذي يبخل بمال غيره، فهذا يبخل بنعمى الله على عباده الذين ليس بينهم وبينه عداوة ولا رابطة، وهذا ليس له سبب إلا خبث النفس ورداءة الطبع، وهذا معالجته شديدة، لأنه ليس له سبب عارض، فيعمل على إزالته، بل سببه خبث الجبلة، فيعسر إزالته، فهذه أسباب الحسد. 6 ـ فصل [في سبب كثرة الحسد] واعلم: أنما يكثر الحسد بين أقوام تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها، ويقع ذلك غالباً بين الأقران، والأمثال، والإخوة، وبنى العم، لأن سبب التحاسد توارد الأغراض على مقاصد يحصل فيها، فيثور التنافر والتباغض. ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد، والعابد يحسد العابد دون العالم، والتاجر يحسد التاجر، والإسكاف يحسد الإسكاف، ولا يحسد البزاز إلا أن يكون سبب آخر، لأن مقصد كل واحد من هؤلاء غير مقصد الآخر. فأصل العداوة التزاحم على غرض واحد، والغرض الواحد لا يجمع متباعدين، إذ لا رابطة بين شخصين في بلدين، ولا يكون بينهما محاسدة إلا من اشتد حرصه على الجاه، فإنه يحسد كل من في العالم ممن يساهمه في الخصلة التي يفاخر بها. ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا، فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين، وأما الآخرة، فلا ضيق فيها، فإن من احب معرفة الله تعالى، وملائكته، وأنبياءه، وملكوت أرضه وسماءه، لم يحسد غيره إذا عرف ذلك، لأن المعرفة لا تضيق على العارفين، بل المعلوم الواحد يعرفه ألف ألف عالم، ويفرح بمعرفة غيره، فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة، لأن مقصودهم معرفة الله سبحانه، وهو بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله، ولا ضيق فيما عند الله، لأن أجل ما عند الله من النعيم لذة لقائه، وليس فيه ممانعة ولا مزاحمة. ولا يضيق بعض الناظرين على

بعض، بل يزيد الأنس بكثرتهم، إلا أنه إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا. والفرق بين العلم والمال، أن المال لا يحل في يد ما لم يرتحل عن يد أخرى، والعلم مستقر في قلب العلم، ويحل في قلب غيره بتعليمه من غير أن يرتحل عن قلبه، ولا نهاية له، فمن عود نفسه الفكر في جلال الله وعظمته وملكه، وصار ذلك عنده ألذ من كل نعيم، لأنه لم يكن ممنوعاً عنه ولا مزاحماً فيه، فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق، لأن غيره لو عرف مثل معرفته لم ينقص من لذته، فقد عرفت أنه لا حسد إلا في المتوارد على مقصود يضيق عن الوفاء بالكل. ولهذا لا ترى الناس يتزاحمون على النظر إلى زينة السماء، لأنها واسعة الأقطار، وافيه بجميع الأبصار، فعليك إن كنت شفيقاً على نفسك أن تطلب نعيماً لا زحمة فيه، ولذة لا تتكدر، ولا يوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله تعالى وعجائب ملكوته، ولا ينال ذلك في المعرفة أيضاً، فإن كنت لا تشتاق إلى معرفة الله سبحانه، ولم تجد لذتها، وضعفت فيها رغبتك، فلست برجل، إنما هذا شأن الرجال، لأن الشوق بعد الذوق، ومن لم يذق لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك بقى من المحرومين. واعلم: أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل، والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف حقيقة أن الحسد ضرر عليك في الدين والدنيا، وأنه لا يضر المحسود في الدين ولا في الدنيا، بل ينتفع به، والنعمة لا تزول عن المحسود بحسدك، ولو لم تكن تؤمن بالبعث لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلاً أن تحذر من الحسد، لما فيه من ألم القلب مع عدم النفع، فكيف وأنت تعلم ما فيه من العذاب في الآخرة. وبيان قولنا: أن المحسود لا ضرر عليه في الدين ولا في الدنيا، بل ينتفع بحسدك في الدين والدنيا، لأن ما قدره الله من نعمة لا بد أن تدوم إلى اجله الذي قدره، ولا ضرر عليه في الأبخرة، لأنه لا يأثم هو بذلك، بل ينتفع به، لأنه مظلوم من جهتك. لا سيما إذا أخرجت الحسد إلى القول والفعل. وأما منفعته في الدنيا، فهو من أهم أغراض الخلق غم الأعداء، ولا عذاب أعظم مما أنت فيه من الحسد.

7 ـ باب في ذم الدنيا

فإذا تأملت ما ذكرنا، علمت أنك عدو لنفسك، وهو صديق لعدوك، فما مثلك إلا كمثل من يرمى حجراً عدوه ليصيب مقتله فلا يصيبه، ويرجع الحجر على حدقته اليمنى فيقلعها، فيزيد غضبه، فيعود ويرميه بحجر أشد من الأول، فيرجع الحجر على عينه الأخرى فيعميها، فيزداد غيظه، فيرميه الثالثة، فيعود الحجر على رأسه فيشدخه، وعدوه سالم يضحكك منه، فهذه الأدوية العلمية، فإذا تفكر الإنسان فيها، أخمدت نار الحسد في قلبه. وأما العمل النافع فيه، فهو أن يتكلف نقيض ما يأمر به الحسد فإذا بعثه على الحقد والقدح في المحسود، كلف نفسه المدح له، والثناء عليه، وإن حمله الكبر، ألزم نفسه التواضع له، وإن بعثه على كف الأنعام عنه، ألزم نفسه زيادة في الإنعام. وقد كان جماعة من السلف إذا بلغهم أن شخصاً اغتابهم، أهدوا إليه هدية. فهذه أدوية نافعة للحسد جداً، إلا أنها مرة، وربما يسهل شربها أن يعلم أنه إذا كلن لا يكون كل ما تريد، فأرد ما يكون، وهذا هو الدواء الكلى، والله أعلم. 7 ـ باب في ذم الدنيا الآيات الواردة في القرآن العزيز بعيب الدنيا، والتزهيد فيها، وضرب الأمثال لها كثيرة كقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} [آل عمران: 14 - 15]، وقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، وقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} الآية [يونس: 24]، وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} [الحديد: 20]، وقوله: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35]، وقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 29، 30]. وأما الأحاديث، ففى "الصحيحين" من رواية المستور بن شداد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع؟ ".

وفى حديث آخر: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" رواه مسلم. وفى حديث آخر: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء". رواه الترمذي وصححه. وفى حديث آخر: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها" (¬1). وروى أبو موسى، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " من أحب دنياه، أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما بقى على ما يفنى" (¬2). وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في ذم الدنيا كتاباً طويلاً فيه: أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، كالسم يأكله من لا يعرفها وهو حتفه، فاحذر هذه الدار الغرورة الخيالة الخادعة، وكن آثر ما تكون فيها، أحذر ما تكون لها، سرورها مشوب بالحزن، وصفوها مشوب بالكدر، فلو كان الخالق لم يخبر عنه خبراً، ولم يضرب له مثلاً لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عز وجل وعنه زاجر، وفيها واعظ، فما لها عند الله سبحانه قدر ولا وزن، وما نظر إليها منذ خلقها. ولقد عرضت على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مفاتيحها وخزائنها، لا ينقصها عند الله جناح بعوضة، فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه، زواها الله عن الصالحين اختياراً، وبسطها لإعدائه اغتراراً، أفيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها؟ ونسى ما صنع الله بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم حين شد على بطنه الحجر، والله ما أحد من الناس بسط له في الدنيا، فلم يخف أن يكون قد مكر به، إلا كان قد نقص عقله، وعجز رأيه وما امسك عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها، إلا كان قد نقص عقله وعجز رأيه. وقال مالك بن دينار: اتقوا السحارة، فإنها تسحر قلوب العلماء، يعنى الدنيا. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" من حديث جابر بسند ضعيف، لكن رواه ابن ماجه (4112)، والترمذي (2323) من حديث أبي هريرة بلفظ "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً" وسنده حسن، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الطبراني في "الأوسط". (¬2) رجاله ثقات لكنه منقطع أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم.

ومن أمثلة الدنيا: قال يونس بن عبيد: شبهت الدنيا كرجل نائم، فرأى في منامه ما يكره وما يحب، فبينما هو كذلك انتبه. ومثل هذا قولهم: الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا. والمعنى انهم ينتبهون بالموت وليس في أيديهم شئ مما ركنوا إليه وفرحوا به. قيل: إن عيسى عليه السلام رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء (¬1) عليها من كل زينة. فقال لها: كم تزوجت؟ قالت: لا أحصيهم. قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك؟ قالت: بل كلهم قتلت، فقال عيسى عليه السلام: بؤساً لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين، كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد، ولا يكونون منك على حذر. وروى ابن عباس رضى الله عنه قال: يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء (¬2) زرقاء أنيابها بادية، مشوه خلقها، فتشرف على الخلق، فيقال: هل تعرفون هذه؟ فيقولون نعوذ بالله من معرفة هذه. فيقال: هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها وبها تقاطعتم الأرحام، وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم تقذف في جهنم، فتنادى: يا رب أين أتباعي وأشياعي؟ فيقول: ألحقوا بها أتباعها وأشياعها. وعن أبى العلاء، قال: رأيت في النوم عجوزاً كبيرة عليها من كل زينة، والناس عكوف عليها متعجبون، ينظرون إليها، فقلت: أعوذ بالله من شرك. قالت: إن أحببت أن تعاذ من شرى فأبغض الدرهم. وقال بعضهم: رأيت الدنيا في النوم عجوزاً مشوهة الخلقة حدباء. مثال آخر: واعلم أن أحوالك ثلاث: حال لم تكن فيها شيئاً، وهي قبل أن توجد. وحال أخرى، وهى من ساعة موتك إلى ما لا نهاية له في البقاء السرمدي، فإن لنفسك وجوداً بعد خروجها من بدنك، إما في الجنة أو النار، وهو الخلود الدائم. وبين هاتين الحالتين حالة متوسطة، وهى أيام حياتك في الدنيا، فانظر إلى مقدار ¬

(¬1) ليس لها أسنان، وفى نسخه: صماء، وهى الداهية. (¬2) الشمط في الشعر: اختلافه بلونين من سواد وبياض، أو بياض شعر الرأس يخالط سواده.

ذلك، وأنسبه إلى الحالتين، تعلم أنه أقل من طرفه عين في مقدار عمر الدنيا. ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن لها، ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضرر وضيق، أو سعة ورفاهية، ولهذا لم يضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة وقال: "مالي وللدنيا؟ إنما مثلى ومثل الدنيا كراكب قال (¬1) تحت الشجرة، ثم راح وتركها". وقال عيس عليه السلام الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. هذا مثل واضح، فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة، والمهد هو الركن الأول على أول القنطرة، والحد هو الركن الثاني على آخر القنطرة. ومن الناس من قطع نصف القنطرة، ومن الناس من قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها، وكيفما كان فلابد من العبور، فمن وقف يبنى على القنطرة ويزينها وهو يستحث للعبور عليها، فهو في غاية الجهل والحمق. وقيل: مثال طالب الدنيا، مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شراباً ازداد عطشاً حتى يقتله. وكان بعض السلف يقول لأصحابه: انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول: انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم. مثال آخر: روى عن الحسن قال: بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إنما مثلى ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حتى إذ لم يدوروا ما سلكوا منها اكثر ما بقى، أنفذوا الزاد واخسروا الظهر، وابقوا بين ظاهراني المفازة، لا زاد ولا حمولة، فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك، إذ طلع عليهم رجل في حلة يقطر رأسه، فقالوا: إن هذا قريب عهد بريف، وما جاء هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء، علام أنتم؟ قالوا: على ما ترى. قال: عهودكم ومواثيقكم بالله. قال: فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله، ثم قال: يا هؤلاء، الرحيل. قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم، وإلى رياض ليست كرياضكم، فقال أكثر ¬

(¬1) من القيلولة، وهى النوم في الظهيرة.

8 ـ فصل في بيان حقيقة الدنيا والمذموم منها والمحمود

القوم: والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده، وما نصنع بعيش خير من هذا؟ وقالت طائفة قليلة: ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه؟ وقد صدقكم في أول حديثه، فوالله ليصدقنكم في آخره. قال: فراح فيمن اتبعه، وتخلف بقيتهم فنزل عدو، فأصبحوا بين أسير وقتيل" (¬1). وفى "الصحيحين" من حديث أبى موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما مثلى ومثل ما بعثتي الله به، كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعينى، وأنا النذير العريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم، فنجوا، وكذبته طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم. فصبحهم الجيش في مكانهم، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من حق". 8 ـ فصل في بيان حقيقة الدنيا والمذموم منها والمحمود قد سمع خلق كثير ذم الدنيا مطلقاً، فاعتقدوا أن الإشارة إلى هذه الموجودات التي خلقت للمنافع، فأعرضوا عما يصلحهم من المطاعم والمشارب. وقد وضع الله في الطباع توقان النفس إلى ما يصلحها، فكلما تاقت منعوها، ظناً منهم أن هذا هو الزهد المراد، وجهلا بحقوق النفس، وعلى هذا أكثر المتزهدين، وإنما فعلوا ذلك لقلة العلم، ونحن نصدع بالحق من غير محاباة فنقول: اعلم: أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان، فيها حظ، وهى الأرض وما عليها، فإن الأرض مسكن الأدنى، وما عليها ملبس ومطعم ومشرب ومنكح، وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى الله عز وجل، فإنه لا يبقى إلا بهذه المصالح، كما لا تبقى الناقة في طريق الحج إلا بما يصلحها، فمن تناول منها ما يصلحه على الوجه المأمور به مدح، ومن أخذ منها فوق الحاجة يكتنف الشره وقع في الذم، فإنه ليس للشره في تناول الدنيا وجه، لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى، ويشغل عن طلب الآخرة فيفوت المقصود، ويصير بمثابة من أقبل يعلف الناقة، ويرد لها الماء، ويغير عليها ¬

(¬1) هو مرسل، ونسبه العراقي لابن أبي الدنيا.

9 ـ باب في ذم البخل والحرص والطمع وذم المال ومدحه ومدح القناعة والسخاء، ونحو ذلك

ألوان الثياب، وينسى أن الرفقة قد سارت، فإنه يبقى في البادية فريسة للسباع هو وناقته. ولا وجه أيضاً للتقصير في تناول الحاجة، لأن الناقة لا تقوى على السير إلا بتناول ما يصلحها، فالطريق السليم هي الوسطى، وهى أن يؤخذ من الدنيا قدر ما يحتاج إليه من الزاد للسلوك، وإن كان مشتهىً، فإن إعطاء النفس ما تشتهيه عون لها وقضاء لحقها. وقد كان سفيان الثوري يأكل في أوقات من طيب الطعام، ويحمل معه في السفر الفالوذج. وكان إبراهيم بن أدهم يأكل من الطيبات في بعض الأوقات، فيقول: إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا فقدنا صبرنا صبر الرجال. ولينظر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته، فإنهم ما كان لهم إفراط في تناول الدنيا، ولا تفريط في حقوق النفس. وينبغى أن يتلمح حظ النفس في المشتهى، فإن كان في حظها حفظها وما يقيمها ويصلحها وينشطها للخير، فلا يمنعها منه، وإن كان حظها مجرد شهوة ليست متعلقة بمصالحها المذكورة فذلك حظ مذموم، والزهد فيه يكون. 9 ـ باب في ذم البخل والحرص والطمع وذم المال ومدحه ومدح القناعة والسخاء، ونحو ذلك اعلم: أن المال لا يذم لذاته بل يقع الذم لمعنى من الآدمي، وذلك المعنى إما شدة حرصه أو تناوله من غير حلة، أو حبسه عن حقه، أو إخراجه في غير وجهه، أو المفاخرة به، ولهذا قال الله تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28]. وفى "سنن الترمذي" عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه". وقد كان السلف يخافون من فتنة المال. وكان عمر رضى الله عنه إذا رأى الفتوح يبكى ويقول: ما حبس الله هذا عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وعن أبى بكر لشر أراده

10 ـ بيان في مدح المال

الله بهما، وأعطاه عمر إرادة الخير له. وقال يحيى بن معاذ: الدرهم عقرب، فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه، فإنه إن لدغك قتلك سمه. قيل: ما رقيته؟ قال: أخذه من حله ووضعه في حقه. وقال: مصيبتان للعبد في ماله عند موته لا تسمع الخلائق بمثلهما، قيل: ما هما؟ قال: يؤخذ منه كله، ويسأل عنه كله. 10 ـ بيان في مدح المال قد بينا أن المال لا يذم لذاته بل ينبغي أن يمدح، لأنه سبب للتوصل إلى مصالح الدين والدنيا، وقد سماه الله تعالى خيراً، وهو قوام الآدمي. قال الله تعالى في أول سورة النساء: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ (¬1) أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]. وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يكف به وجهه عن الناس، ويصل به رحمه، ويعطى منه حقه. وقال أبو إسحاق السبيعى: كانوا يرون السعة عوناً على الدين. وقال سفيان: المال في زماننا هذا سلاح المؤمنين. وحاصل الأمر؛ أن المال مثل حية فيها سم وترياق، فترياقه فوائده، وغوائله سمه، فمن عرف فوائده وغوائله، أمكنه أن يحترز من شره، ويستدر من خيره. أما فوائده، فتنقسم إلى دنيوية ودينية: أما الدنيوية، فالخلق يعرفونها، ولذلك تهالكوا في طلبها. وأما الدينية، فتنحصر في ثلاثة أنواع: أحدها: أن ينفقه على نفسه، إما في عبادة، كالحج والجهاد، وإما في الاستعانة على العبادة، كالمطعم والملبس والمسكن وغيرها من ضرورات المعيشة، فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر، لم يتفرغ القلب للدين والعبادة، وما لا يتوصل إلى العبادة إلا به، فهو عبادة، فأخذ الكفاية من الدنيا للاستعانة على الدين من الفوائد الدينية، ولا يدخل في هذا التنعم والزيادة على الحاجة، فإن ذلك من حظوظ الدنيا. ¬

(¬1) السفه: ضد الحلم، وأصله الخفة والحركة، والسفيه: الجاهل، والمراد هنا: الجهالة بموضع النفقة من الرجال والنساء والصبيان.

النوع الثاني: ما يصرفه إلى الناس، وهو أربعة أقسام أحدها: الصدقة، وفضائلها كثيرة ومشهورة. القسم الثاني: المروءة، ونعنى بها صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية وإعانة ونحو ذلك، وهذا من الفوائد الدينية، إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء. القسم الثالث: وقاية العرض نحو بذل المال لدفع هجو الشعراء، وثلب (¬1) السفهاء، وقطع ألسنتهم، وكف شرهم، فهو من الفوائد الدينية، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "وما وقى الرجل به عرضه فهو صدقة" (¬2). وهذا لأنه يمنع المغتاب من معصية الغيبة، ويحرز مما يثير كلامه من العداوة التي تحمل في الانتقام على مجاوزة حدود الشريعة. القسم الرابع: ما يعطيه أجراً على الاستخدام، فإن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لمهنة أسبابها كثيرة، ولو تولاها بنفسه ضاعت أوقاته، وتعذر عليه سلوك الآخرة بالفكر والذكر اللذين هما أعلى مقامات السالك، ومن لا مال له يفتقر إلى أن يتولى خدمة نفسه بنفسه، فكل ما يتصور أن يقوم به غيرك، ويحصل بذلك غرضك، فإن تشاغلك به غبن، لأن احتياجك إلى التشاغل بما لا يقوم به غيرك من العلم والعمل والذكر والفكر أشد. النوع الثالث: ما لا يصرفه الإنسان إلى معين، لكن يحصل عليه به خيراً عاماً، كبناء المساجد، والقناطر، والوقوف المؤبدة، فهذه جملة فوائد المال في الدين، سوى ما يتعلق بالحظوظ العاجلة، من الإخلاص من ذل السؤال، وحقارة الفقر، والعز بين الخلق، والكرامة في القلوب، والوقار. وأما غوائل المال وآفاته، فتنقسم أيضاً إلى دينية ودنيوية: أما الدينية فثلاث فئات: الأولى: أنه يجر إلى المعاصي غالباً، لأنه من استشعر القدرة على المعصية، ¬

_ (¬1) يقال: ثلبه: يثلبه بكسر اللام ثلباً: إذا لامه وعابه بالعيب وقال فيه وتنقصه. (¬2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" من حديث جابر، وصححه، لكن الذهبي رده بقوله: عبد الحميد ضعفوه، وقال في "الميزان": غريب جداً، وأورده الهيثمي في "المجمع" 3/ 136 من حديث جابر، ونسبه إلى أبي يعلى، وقال: وفي إسناده مسور بن الصلت وهو ضعيف.

انبعثت داعيته إليها. والمال نوع من القدرة يحرك داعيته إلى المعاصي، ومتى يئس الإنسان من المعصية، لم تتحرك داعيته إليها. ومن العصمة أن لا تجد، فصاحب القدرة إن اقتحم ما يشتهى هلك، وإن صبر لقي شدة في معاناة الصبر مع القدرة، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء. الثانية: أنه يحرك إلى التنعم في المباحات، حتى تصير له عادة وإلفاً، فلا يصبر عنها، وربما لم يقدر على استدامتها إلا بكسب فيه شبهة، فيقتحم الشبهات، ويترقى إلى آفات من المداهنة والنفاق، لأن من كثر ماله خالط الناس، وإذا خالطهم لم يسلم من نفاق وعداوة وحسد وغيبة، وكل ذلك من الحاجة إلى إصلاح المال. الثالثة: وهى التي لا ينفك عنها أحد، وهو أن يلهيه ماله عن ذكر الله تعالى، وهذا هو الداء العضال، فإن أصل العبادات ذكر الله تعالى، والتفكير في جلاله وعظمته، وذلك يستدعى قلباً فارغاً. وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكراً في خصومة الفلاحين ومحاسبتهم وخيانتهم، ويتفكر في منازعة شركائه في الحدود والماء، وأعوان السلطان في الخراج والأجراء على التقصير في العمارة ونحو ذلك. وصاحب التجارة يمسي ويصبح متفكراً في خيانة شريكه، وتقصيره في العمل، وتضيعه المال. وكذا سائر أصناف المال، حتى صاحب المال المجموع المكنوز يفكر في كيفية حفظه، وفى الخوف عليه. ومن له قوت يوم بيوم فهو في سلامة من جميع ذلك، وهذا سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا، من الخوف والحزن والهم والغم والتعب. فإذا ترياق المال أخذ القوت منه، وصرف الباقي إلى الخيرات، وما عدا ذلك سموم وآفات.

11 ـ بيان ذم الحرص والطمع ومدح القناعة واليأس

11 ـ بيان ذم الحرص والطمع ومدح القناعة واليأس واعلم: أن الفقر محمود، ولكن ينبغي للفقير أن يكون قانعاً، منقطع الطمع عن الخلق، غير ملتفت إلى ما في أيديهم، ولا حريص على اكتساب المال كيف كان، ولا يمكنه ذلك إلا بأن يقنع بقدر الضرورة من المطعم والملبس. وقد روى في "صحيح مسلم" عن عمرو بن العاص رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه". وقال سليمان بن داود عليهما السلام: قد جربنا العيش كله، لينه من شديده، فوجدناه يكفى منه أدناه. وفى حديث جابر رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "القناعة مال لا ينفذ" (¬1). وقال أبو حازم: ثلاث من كن فيه كمل عقله: من عرف نفسه، وحفظ لسانه، وقنع بما رزقه الله عز وجل. وقرأ بعض الحكماء: أنت أخو العز ما التحفت بالقناعة. أما الحرص، فقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "أيها الناس، أجملوا في الطلب، فإنه ليس للعبد إلا ما كتب له" ونهى عن الطمع فقال: "اجمع اليأس مما في أيدي الناس" (¬2). وقال بعضهم: لو قيل للطمع: من أبوك؟ قال: الشك في المقدور، ولو قيل له: ما حرفتك؟ قال: اكتساب الذل، ولو قيل له: ما غايتك؟ قال: الحرمان. وقيل: الطمع يذل الأمير، واليأس يعز الفقير. ¬

_ (¬1) قال في "كشف الخفاء": رواه الطبراني والعسكري عن جابر، وكذا القضاعي عن أنس، قال الحافظ الذهبي، اسناده واه كثيراً. (¬2) أخرجه ابن ماجه (4171) من حديث أبي أيوب، وفي سنده عثمان بن جبير قال الذهبي في "الطبقات": مجهول.

12 ـ بيان علاج الحرص والطمع والدواء الذي تكتسب به صفة القناعة

12 ـ بيان علاج الحرص والطمع والدواء الذي تكتسب به صفة القناعة اعلم: أن هذا الدواء مركب من ثلاثة أركان: الصبر، والعلم، والعمل، ومجموع ذلك خمسة أمور: الأول: الاقتصاد في المعيشة، والرفق في الإنفاق، فمن أراد اقناعة فينبغي أن يسد عن نفسه أبواب الخروج ما أمكنه، ويرد نفسه إلى ما لابد منه، فيقنع بأي طعام كان، وقليل من الإدام، وثوب واحد، ويوطن نفسه على ذلك، وإن كان له عيال، فيرد كل واحد إلى هذا القدر. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ما عال من اقتصد" (¬1) وفى حدث آخر: "التدبير نصف العيش" (¬2). وفى حديث آخر: "ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقير، والعدل في الرضى والغضب". الثاني: إذا تيسر له في الحال ما يكفيه، فلا يكون شديد الاضطراب لأجل المستقبل ويعينه على ذلك قصر الأمل، واليقين بأن رزقه لا بد أن يأتيه، وليعلم أن الشيطان يعده الفقر. وعن ابن مسعود رضى الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إن روح القدس نفث في روعى، أنه ليس من نفس تموت حتى تستكمل رزقها واجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله عز وجل، فإنه لا يدرك عند الله إلا بطاعته". وإذا انسد عنه باب كان ينتظر الرزق منه، فلا ينبغي أن يضطرب قلبه، فإن في الحديث: " أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب (¬3). الثالث: أن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء، وما في الطمع والحرص من الذل. ¬

_ (¬1) قال العراقي: رواه أحمد والطبراني من حديث ابن مسعود، ومن حديث ابن عباس. وكلاهما ضعيف. (¬2) رواه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أنس، وفيه خلاد بن عيسى جهله العقيلي ووثقه ابن معين. (¬3) أخرجه الديلمي من حديث أبى هريرة من رواية عمر بن راشد، وهو ضعيف جداً، وقال البيهقي: ضعيف بالمرة، وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات"، ورواه ابن حبان في "الضعفاء" من حديث علي بإسناد واه.

13 ـ فصل [في لزوم القناعة لمن فقد المال]

وليس في القناعة إلا الصبر عن المشتبهات والفضول، مع ما يحصل له من ثواب الآخرة، ومن لم يؤثر عزَّ نفسه عن شهوته، فهو ركيك العقل، ناقص الإيمان. الرابع: أن يكثر تفكره في تنعم اليهود والنصارى وأراذل الناس والحمقى منهم، ثم ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء والصالحين، ويسمع أحاديثهم، ويطالع أحوالهم، ويخير عقله بين مشابهة أراذل العالمين، أو صفوة الخلق عند الله تعالى، حتى يهون عليه الصبر على القليل والقناعة باليسير، وأنه إن تنعم بالأكل فالبهيمة أكثر أكلاً منه، وإن تنعم بالوطء فالعصفور أكثر سفاداً (¬1) منه. الخامس: أن يفهم ما في جمع المال من الخطر، كما ذكرنا في آفات المال، وينظر إلى ثواب الفقر، ويتم ذلك بأن ينظر أبداً من دونه في الدنيا، وإلى من فوقه في الدين، كما جاء في الحديث من رواية مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم". عماد الأمر: الصبر وقصر الأمل، وأن يعلم أن غاية صبره في الدنيا أيام قلائل لتمتع دائم، فيكون كالمريض الذي يصبر على مرارة الدواء لما يرجو من الشفاء. 13 ـ فصل [في لزوم القناعة لمن فقد المال] ينبغي لمن فقد المال أن يستعمل القناعة كما ذكرنا، ولمن وجده أن يستعمل السخاء والإيثار واصطناع المعروف، فإن السخاء أخلاق الأنبياء، وهو أصل من أصول النجاة. وعن جابر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " قال جبريل عليه السلام: قال الله عز وجل: الإسلام دين ارتضيته لنفسي، ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه" (¬2). وفى حديث آخر: عن ابن عباس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ¬

_ (¬1) أي نزواً. (¬2) قال العراقي: رواه الدارقطني في المستجاد، دون قوله "وحسن الخلق" بسند ضعيف، ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات"، وذكره بهذه الزيادة ابن عدي من رواية بقية عن يوسف بن السّفر عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة، ويوسف ضعيف.

قال: "تجافوا عن ذنوب السخي، فإن الله آخذ بيده كلما عثر" (¬1). وفى حديث آخر: "الجنة دار الأسخياء، وما جبل ولى الله إلا على السخاء" (¬2). وعن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بعبادة ولا بصيام، ولكن دخلوها بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للمسلمين" (¬3). وفى حديث آخر: "عليكم باصطناع المعروف، فإنه يمنع مصارع السوء". وقال ابن السماك: عجبت ممن يشترى المماليك بماله، كيف لا يشترى الأحرار بمعروفه؟! ومن حكايات الأسخياء: قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وأنه ما سئل شيئاً قط فقال: لا وأن رجلاً سأله، فأعطاه غنماً بين جبلين، فأتى الرجل قومه، فقال: يا قوم: أسلموا، فإن محمداً يعطى عطاء من لا يخشى الفقر. وقيل: كان لعثمان على طلحة رضى الله عنهما خمسون ألف درهم، فخرج إلى المسجد، فقال له طلحة: قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال: هو لك يا أبا محمد معونة على مروءتك. وجاء أعرابي إلى طلحة، فسأله، وتعرف إليه برحم، فقال: إن هذه الرحم ما سألني بها أحد قبلك، فأعطاه ثلاثمائة ألف درهم. وقال عروة: رأيت عائشة رضى الله عنها تقسم سبعين ألفا، وهى ترقع درعها. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "الأوسط" والخرائطي في "مكارم الأخلاق" وقال: "أقيلوا السخي زلته" وفيه ليث ابن أبي سليم، وهو ضعيف، وزاد الطبراني فيه وأبو نعيم من حديث ابن مسعود نحوه بإسناد ضعيف، ورواه ابن الجوزي في "الموضوعات" من طريق الدارقطني. (¬2) قال العراقي: رواه ابن عدي والدارقطني في "المستجاد" والخرائطي، قال الدارقطني: لا يصح، ومن طريقه رواه ابن الجوزي في "الموضوعات" وقال الذهبي: حديث منكر، ما أفته سوى جحدر. (¬3) قال العراقي: رواه الدارقطني في المستجاد، وأبو بكر بن لال في "مكارم الأخلاق" من حديث أنس، وفيه محمد بن عبد العزيز بن المبارك الدينوري، أورد ابن عدي له مناكير، وفي "الميزان": أنه ضعيف منكر الحديث، وروى الخرائطي في "مكارم الأخلاق" من حديث أبي سعيد نحوه، وفيه صالح المري، متكلم فيه.

وروى أنها قسمت في يوم ثمانين ألف بين الناس، فلما أمست قالت: يا جارية علىَّ فطوري، فجاءتها بخبز وزيت: فقالت لها أم درة: أما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشترى لنا بدرهم لحماً نفطر عليه!؟ فقالت: لو ذكرتني لفعلت. واشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة داره التي في السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل، سمع بكاء أهل خالد. فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ قالوا: يبكون على دراهم، قال: يا غلام: ائتهم، فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعاً. وبعث رجل إلى عبد الله أنه قد وصف لى لبن البقر، فابعث لى بقرة أشرب من لبنها. فبعث إليه بسبعمائة بقرة ورعاتها، وقال: القرية التي كانت ترعى فيها لك. ودخل على بن الحسن على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه، فجعل يبكى: فقال: ما شأنك؟ قال: على دين، قال: كم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار، أو بضعة عشر ألف دينار. قال: فهي عليَّ. وجاء رجل إلى معن، فسأله، فقال: يا غلام: ناقتي الفلانية وألف دينار، فدفعها إليه وهو لا يعرفه. وبلغنا عن معن أن شاعر أقام ببابه مدة فلم يتهيأ له لقاؤه، فقال لبعض خدمه: إذا دخل الأمير البستان فعرفني، قال: فلما دخل عرفه، فكتب الشاعر بيتاً على خشبة، وألقاها في الماء الذي يدخل البستان، فلما بصر معن بالخشية، أخذها، فإذا فيها مكتوب: أيا جود معن ناج معناً بحاجتي ... فما لى إلى معن سواك شفيع فقال من صاحب هذه؟ فدعا الرجل، فقال له: كيف قلت؟ فقاله، فأمر له بعشر بدر (¬1)، فأخذها ووضع الأمير الخشبة تحت بساطة فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط، وقرأ ما فيها ودعا الرجل، فدفع إليه مائة ألف درهم أخرى، فلما أخذها الرجل، خاف أن يعود فيستعيدها منه، فخرج، فما كان اليوم الثالث، قرأ ما فيها، فدعا الرجل فطلب فلم يوجد. فقال معن: حق على أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي درهم ولا دينار. ¬

(¬1) البدرة: كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم.

14 ـ فصل في البخل وذمه

ومرض قيس بن سعد بن عبادة، فاستبطأ إخوانه، فقيل له، إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً، ينادى: من كان عليه لقيس حق، فهو منه في حل، قال: فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده. وقام رجل إلى سعيد بن العاص يسأله، فأمر له بمائة ألف درهم، فبكى، فقال: سعيد: ما يبكيك؟ قال: أبكى على الأرض أن تأكل مثلك، فأمر له بمائة ألف أخرى. 14 ـ فصل في البخل وذمه عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق" (¬1). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً". وفى أفراد مسلم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجبن والبخل". وروى جابر رضى الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبنى سلمة: "من سيدكم؟ قالوا: جد بن قيس على أننا نبخله، قال: وأي داء أدوأ من البخل؟ بل سيدكم بشر بن البراء بن معرور" وهي أصح ما من ذكر عمرو بن الجموح، وغلط بعض الرواة، فقال: البراء بن معرور، البراء مات قبل الهجرة. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه". قال الخطابي: الشح في المنع أبلغ من البخل. وقال سلمان: إذا مات السخي، قالت الأرض والحفظة: رب تجاوز عن عبدك في الدنيا بسخائه، وإذا مات البخيل قالت: اللهم احجب هذا العبد عن الجنة، ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "الأدب المفرد" (282) والترمذي في "سننه" (1963) من حديث أبي سعيد الخدري وفي سنده صدقه بن موسى الدقيقي وهو ضعيف.

15 ـ فصل في فضل الإيثار وبيانه

كما حجب عبادك عما جعلت في يديه من الدنيا. وقال بعض الحكماء: من كان بخيلاً ورث ماله عدوه. ووصف أعرابي رجلاً فقال: لقد صغر في عيني لعظم الدنيا في عينه. وذم أعرابي قوماً فقال: يصومون عن المعروف ويفطرون على الفواحش. من حكايات البخلاء: روى عن ابن عباس رضى الله عنه قال: كان الحاجب رجلاً من أجل العرب، وكان بخيلاً، وكان لا يوقد ناراً بليل كراهة أن يراها راء فينتفع بضوئها، فإذا احتاج إلى إيقادها فأوقد ثم بصر بمستضيئ بها أطفأها. وقيل: كان مروان بن أبى حفصة من أبخل الناس، فخرج يريد المهدى، فقالت له امرأته: مالي عليك إن رجعت بالجائزة؟ قال: إن أعطيت مائة ألف درهم، أعطيتك درهماً، فأعطى ستين ألف درهم. فأعطاها أربعة دوانق. وقيل: كان بعض البخلاء موسراً كثير الأموال، وكان ينظر في دقائق الأشياء فاشترى شيئاً من الحوائج، ودعا حمالاً وقال: بكم تحمل هذه الحوائج؟ قال: بحبة: قال: أبخس. قال ما أقل من حبة؟ لا أدرى ما أقول. قال: نشترى بالحبة جزراً، فنجلس جميعاً فنأكله. 15 ـ فصل في فضل الإيثار وبيانه اعلم أن السخاء والبخل درجات: فأرفع درجات السخاء الإيثار، وهو أن تجود بالمال مع الحاجة إليه. وأشد درجات البخل، أن يبخل الإنسان على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال، ويمرض فلا يتداوى، ويشتهى الشهوة فيمنعه منها البخل. فكم بين من يبخل على نفسه مع الحاجة، وبين ما يؤثر على نفسه مع الحاجة، فالأخلاق عطايا يضعها الله عز وجل حيث يشاء. وليس بعد الإيثار درجة في السخاء. وقد أثنى الله تعالى على أصحاب رسول الله

16 ـ فصل [في حد البخل والسخاء]

صلى الله عليه وآله وسلم بالإيثار، فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 8] وكان سبب نزول هذه الآية قصة أبى طلحة، لما آثر ذلك الرجل المجهود بقوته وقوت صبيانه، وحكايته مشهورة. واستشهد باليرموك عكرمة بن أبى جهل، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وجماعة من بنى المغيرة، فأتوا بماءٍ وهم صرعى، فتدافعوه حتى ماتوا ولم يذقوه. أتى عكرمة بالماء فنظر إلى سهيل بن عمرو ينظر إليه، فقال: ابدأ بهذا، ونظر سهيل إلى الحارث ينظر إليه، فقال: ابدأ بهذا، وكل منهم يؤثر الآخر على نفسه بالشربة، فماتوا كلهم قبل أن يشربوا، فمر بهم خالد بن الوليد فقال: بنفسي أنتم. وأهدى إلى الرجل من الصحابة رضى الله عنه رأس شاة، فقال: إن أخي أحوج إليه منى، فبعث به إلى الرجل، فبعث به ذلك إلى آخر، حتى تداولته سبع أبيات، فرجع إلى الأول. خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له، فنزل على نخل لقوم فيها غلام أسود يعمل فيها، إذ أتى الغلام بقوته، فدخل الحائط كلب، فدنا من الغلام فرمى إليه قرصاُ فأكله، ثم رمى إليه قرصاً آخر فأكله، ثم رمى إليه ثالث فأكله، وعبد الله ينظر فقال: يا غلام! كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت، قال: فلم آثرت به هذا الكلب؟ قال: ماهى بأرض كلاب، جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت رده، قال: فما أنت صانع؟ قال: أطوي يومي هذا، فقال عبد الله بن جعفر: ألام على السخاء وهذا أسخى منى، فاشترى الحائط وما فيه من الآلات، واشترى الغلام وأعتقه ووهبه له. واجتمع جماعة من الفقراء في موضع لهم وبين أيديهم أرغفة معدودة لا تكفيهم فكسروا الرغفان، وأطفؤوا السراج، وجلسوا للأكل، فلما رفع الطعام، إذا هو بحاله، لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لأصحابه. 16 ـ فصل [في حد البخل والسخاء] وقد تكلم الناس في حد البخل والسخاء، فذهب قوم إلى أن حد البخل منع الواجب، وأن من أدى ما يجب عليه، فليس ببخيل، وهذا غير كاف، فإن من لم يسلم إلى عياله إلا القدر الذي يفرضه الحاكم، ثم يضايقهم في زيادة لقمة أو ثمرة فإنه

معدود من البخلاء، فالصحيح أن البراءة من البخل تحصل بفعل الواجب في الشرع واللازم بطريق المروءة مع طيب القلب بالبذل. فأما الواجب بالشرع، فهو الزكاة، ونفقة العيال. وأما اللازم بطريق المروءة، فهو ترك المضايقة، والاستقصاء عن المحقرات فإن ذلك يستفتح، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص، فقد يستقبح من الغنى ما لا يستقبح من الفقير، ويستقبح من الرجل المضايقة لأهله وأقاربه وجيرانه مالا يستقبح من الأجانب، فالبخيل الذي يمنع مالا ينبغي أن يمنع، إما بحكم الشرع أو لازم المروءة. ومن قام بواجب الشرع، ولازم المروءة، فقد تبرأ من البخل، لكن لا يتصف بصفة الجود مالم يبذل زيادة على ذلك. قال بعضهم: الجواد: هو الذي يعطى بلا من. وقيل: هو الذي يفرح بالإعطاء. فأما علاج البخل، فاعلم أن سبب البخل حب المال. ولحب المال سببان: أحدهما: حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل، وإن كان قصير الأمل وله ولد، فإنه يقوم مقام طول الأمل. الثاني: أن يحب عين المال، فمن الناس من معه ما يكفيه لبقية عمره لو اقتصر على ما جرت عادته به، ويفضل معه آلاف، ويكون شيخاً لا ولد له، ثم لا تسمح نفسه بإخراج الواجب عليه، ولا بصدقة تنفعه، ويعلم أنه إذا مات أخذه أعداؤه، أو ضاع إن كان مدفوناً، وهذا مرض لا يرجى علاجه. ومثال ذلك رجل أحب شخصاً، فلما جاء رسوله، أحب الرسول ونسى محبوبه واشتغل بالرسول، فإن الدنيا رسول مبلغ إلى الحاجات، فيحب الدنانير لذاتها، وينسى الحاجات، وهذا غاية الضلال. واعلم: أن علاج كل علة بمضادة سببها. فيعالج حب الشهوات بالقناعة والصبر، وطول الأمل بكثرة ذكر الموت. ويعالج التفات القلب إلى الولد، بأن من خلقه معه رزقه، وكم ممن لم يرث شيئا أحسن حالاً ممن ورث.

فليحذر أن يترك لولده الخير، ويقدم على الله بشر، فإن ولده إن كان صالحا فالله يتولاه، وإن فاسقاً فلا يترك ما يستعين به على المعاصي، وليردد على سمعه ما ذكرناه في ذم البخل ومدح السخاء. واعلم: أنه إذا كثرت المحبوبات في الدنيا، كثرت المصائب بفقدها، فمن عرف آفة المال لم يأنس به، ومن لم يأخذ منه إلا قدر حاجته، وأمسك ذلك لحاجته فليس ببخيل، والله أعلم. ***

كتاب ذم الجاه والرياء وعلاجهما وفضيلة الخمول وغير ذلك

كتاب ذم الجاه والرياء وعلاجهما وفضيلة الخمول وغير ذلك وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية". وهذه الشهوة الخفية يعجز عن الوقوف على غوائلها كبار العلماء، فضلاً عن عامة العباد، وإنما يبتلى بها العلماء والعباد المشمرون عن ساق الجد لسلوك سبيل الآخرة، فإنهم لما قهروا نفوسهم وفطموها عن الشهوات، وحملوها بالقهر على أسباب العبادات، لم تطمع في المعاصي الظاهرة، الواقعة على الجوارح، فاستراحت إلى التظاهر بالعلم والعمل، ووجدت مخلصاً من شدة المجاهدة في لذة القبول عند الخلق، ونظرهم إليها بعين الوقار والتعظيم، فأصابت النفس في ذلك لذة عظيمة، فاحتقرت فيها ترك المعاصي، فأحدهم يظن أنه مخلص لله عز وجل، وقد أثبت في ديوان المنافقين، وهذه مكيدة عظيمة لا يسلم منها إلا المقربون. ولذلك قيل: آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة، وإذا كان هو الداء الدفين، الذي هو أعظم شبكة للشياطين، وجب شرح القول في سببه، وحقيقته وأقسامه. اعلم: أن أصل الجاه هو حب انتشار الصيت والاشتهار، وذلك خطر عظيم، والسلامة في الخمول. وأهل الخير لم يقصدوا الشهرة، ولم يتعرضوا لها ولا لأسبابها، فإن وقعت من قبل الله تعالى، فروا عنها، وكانوا يؤثرون الخمول، كما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه خرج من منزله، فتبعه جماعة، فالتفت إليهم وقال: علام تتبعونى؟ فوالله لو علمتم ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان. وفى لفظ آخر أنه قال: ارجعوا، فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع. وكان أبو العالية رحمه الله إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام. وكان خالد بن معدان رحمه الله إذا عظمت حلقته، قام وانصرف كراهة الشهرة. وقال الزهري رحمه الله: ما رأينا الزهد في شىء أقل منه في الرياسة، نرى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال، فإذا نوزع الرياسة، حامى عليها وعادى.

القسم الأول من الكتاب

قال رجل لبشر الحافي رحمه الله: أوصني، فقال: أخمل ذكرك، وطيب مطعمك. وقال: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب في الدنيا أن يعرفه الناس. وقد روى في "صحيح مسلم" أن عمر بن سعد انطلق إلى أبيه سعد وهو في غنم له خارجاً عن المدينة، فلما رآه قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما أتاه قال: يا ابت أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره وقال: اسكت، إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إن الله يحب العبد التقى الغنى الخفي". وعن أبى أمامة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضاً في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً، فصبر على ذلك" ثم نقر بيده، فقال: "عجلت منيته، قلت بواكيه، قل تراثه" حديث حسن. وكان ابن مسعود رضى الله عنه يوصى أصحابه، فيقول: كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في السماء، وتخفون على أهل الأرض. فإن قيل: هذا فيه فضيلة الخمول، وذم الشهرة وأي شهرة أكثر من شهرة الأنبياء، وأئمة العلماء. قلنا: المذموم طلب الإنسان الشهرة، وأما وجودها من جهة الله تعالى من غير طلب الإنسان فليس بمذموم، غير أن في وجودها فتنة على الضعفاء، فإن مثل الضعيف كالغريق القليل الصنعة في السباحة، إذا تعلق به أحد غرق وغرقه، فأما السابح النحرير، فإن تعلق الغرقى به سبب لنجاتهم وخلاصهم. 1 ـ فصل [في أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا] واعلم: أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا، ومعنى المال ملك الأعيان المنتفع بها، ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها، وطاعتها، والتصرف فيها.

2 ـ بيان علاج حب الجاه

فالجاه هو قيام المنزلة في قلوب الناس، وهو اعتقاد القلوب نعتاً من نعوت الكمال في هذا الشخص، إما من علم أو عبادة، أو نسب أو قوة، أو حسن صورة، أو غير ذلك مما يعتقده الناس كمالاً فبقدر ما يتعقدون له من ذلك، تذعن قلوبهم لطاعته، ومدحه وخدمته، وتوقيره. فبهذا يبين أن الجاه محبوب بالطبع وأنه أبلغ من حب المال، لأن المال لا يتعلق الغرض بعينه، بل لكونه وسيلة إلى المحبوبات، فاشتراك الجاه والمال في السبب اقتضى الاشتراك في المحبة، والجاه في ذلك أرجح من المال. واعلم: أن من الجاه ما يحمد وما يذم، لأن من المعلوم أنه لابد للإنسان من مال لضرورة المطعم والملبس ونحوهما، فكذلك لابد له من جاه لضرورة المعيشة مع الخلق، لأن الإنسان لا يخلو من الحاجة إلى سلطان يحرسه، ورفيق يعينه، وخادم يخدمه، فحبه ذلك ليس بمذموم، لأن الجاه وسيلة إلى الأغراض، كالمال. والتحقيق في هذا أن لا يكون المال والجاه محبوبين لأعيانهما، ومتى طلب الإنسان قيام جاهه لأجل صفة هو متصف بها لغرض صحيح، كقول يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] أو قصد إخفاء عيب من عيوبه لئلا نزول منزلته، كان ذلك مباحاً، فإن طلب المنزلة باعتقادهم فيه صفة ليست فيه، كالعلم، والورع، والنسب، فذلك محظور. وكذلك لو حسن الصلاة بين أيديهم ليعتقدوا فيه الخشوع. فإنه يكون مرائياً بذلك، فلا يجوز تملك القلوب بتزوير، ولا تملك المال بتلبيس. 2 ـ بيان علاج حب الجاه اعلم: أن من غلب على قلبه حب الجاه، صار مقصور الهم على مراعاة الخلق، مشغوفاً بالتردد إليهم، والمرآة لهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم، وذلك بذر النفاق، وأصل الفساد، لأن كل من طلب المنزلة في قلوب الناس اضطر أن ينافقهم بإظهار ما هو خال عنه، ويجر ذلك إلى المراءاة بالعبادات واقتحام المحظورات، والتوصل إلى اقتناص القلوب.

3 ـ فصل [في عدم الاكتراث بذم الناس]

ولذلك شبه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حب المال والشرف وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين أرسلا في غنم. فحب الجاه إذاً من المهلكات، يجب علاجه وعلاجه مركب من علم وعمل، أما الأول، فهو أن يعلم أن السبب الذي لأجله أحب الجاه، هو كمال القدوة على أشخاص الناس وقلوبهم، وذلك إذا صفا وسلم يكون في آخره الموت فينبغي أن يتفكر في نفسه في الأخطار والآفات اللاحقة لأصحاب الجاه في الدنيا، من تطرق الحسد إليهم، وقصدهم بالإيذاء، فتراهم خائفين على الدوام من زوال جاههم، محترزين من تغيير منزلتهم في القلوب. والقلوب أشد تغيراً من القدرة في غليانها، فالاشتغال بمراعاة ذلك غموم عاجلة، مكدرة لحفظ الجاه، فلا يفي مرجو الدنيا بمخوفها، فضلاً عما يفوت في الآخرة، فهذا من حيث العلم. وأما العلاج من حيث العمل، فهو إسقاط الجاه من قلوب الخلق بأفعال توجب ذلك، كما روى أن بعض الملوك قصد زيارة رجل زاهد، فلما قرب منه، استدعى طعامه وبقلاً ولبناً وجعل يأكل بشره، ويعظم اللقمة فلما نظر إليه الملك سقط من عينه. ولما أريد إبراهيم النخعى على القضاء لبس قميصاُ أحمر وقعد في السوق. واعلم: أن انقطاع الزاهد عن الناس يوجب جاهاً له عندهم، فإذا خاف من تلك الفتنة، فليخالطهم على وجه السلامة، وليمش في الأسواق، وليشتر حاجته ويحملها، وليقطع طمعه من دنياهم، وقد تم مراده. وكان بشر الحافي يجلس إلى عطار، وكانوا يراعون نواميس المتزهدين اليوم. 3 ـ فصل [في عدم الاكتراث بذم الناس] واعلم: أن أكثر الناس إنما هلكوا لخوف مذمة الناس، وحب مدحهم، فصارت حركاتهم كلها على ما يوافق رضى الناس، رجاء المدح، وخوفاً من الذم، وذلك من المهلكات، فوجبت معالجته. وطريق ذلك أن ننظر إلى الصفة التي مدحت بها، إن كانت موجودة فيك فلا

يخلو: إما أن يكون مما يفرح به كالعلم والورع، أو مما لا يصلح أن يفرح به، كالجاه والمال. أما الأول: فينبغي أن يحذر من الخاتمة، فإن الخوف منها شغل عن الفرح بالمدح، ثم إن كنت تفرح بها على رجاء حسن الخاتمة، فينبغي أن يكون فرحك بفضل الله عليك بالعلم والتقوى لا بمدح الناس. وأما القسم الثاني، وهو المدح بسبب الجاه والمال، فالفرح بذلك، كالفرح بنبات الأرض الذي يصير عن قريب هشيماً، ولا يفرح بذلك إلا من قل عقله، وإن كنت خالياً عن الصفة التي مدحت بها، ففرحك بالمدح غاية الجنون. وقد ذكرنا آفات المدح فيما تقدم في كتاب آفات اللسان، فلا ينبغي أن تفرح به، بل تكرهه، كما كان السلف يكرهونه، ويغضبون على فاعله. وعلاج كراهية الذم يفهم من علاج حب المدح، فإنه ضده، والقول الوجيز فيه أن من ذمك، إما أن يكون صادقاً فيما قال، قاصداً للنصح لك، فينبغي أن تتقلد منته، ولا تغضب، فإنه قد أهدى إليك عيوبك، وإن لم يقصد بذلك النصح، فإنه يكون قد جنى هو على دينه، وانتفعت بقوله، لأنه عرفك ما لم تكن تعرف، وذكرك من خطاياك ما نسيت، وإن افترى عليك بما أنت منه بريء، فينبغي أن تتفكر في ثلاثة أشياء: أحدها: أنك إن خلوت من ذلك العيب لم تخل من أمثاله، فما ستر الله عز وجل عليك من عيوبك أكثر، فاشكره إذ لم يطلعه على عيوبك ودفعه عنك فذكر ما أنت عنه بريء. الثاني: أن ذلك كفارات لذنوبك. الثالث: أنه جنى على دينه، وتعرض لغضب الله عليه، فينبغي أن يسأل الله العفو عنه، كما روى أن رجلاً شج إبراهيم بن أدهم، فدعا له بالمغفرة وقال: صوت مأجور بسببه، فلا أجعله معاقباً بسببي، وقد تقدمت هذه الحكاية في فضل الحلم.

القسم الثاني من الكتاب في بيان الرياء وحقيقته وأقسامه وذمه ونحو ذلك

القسم الثاني من الكتاب في بيان الرياء وحقيقته وأقسامه وذمه ونحو ذلك وقد ورد ذم الرياء في الكتاب والسنة، من ذلك قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 4 - 6] وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] وأما الأحاديث، فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: "من عمل عملاً أشرك فيه غيرى، فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء". وفى حديث آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: يا رسول الله: وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذ جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، هل تجدون عندهم خيراً". وقال بشر الحافي: لأن أطلب الدنيا بمزمار أحب إلى من أن أطلبها بالدين. واعلم: أن الرياء مشتق من الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع، فالمرائي يرى الناس ما يطلب به الحظوة عندهم وذلك أقسام: الأول: الرياء في الدين، وهو أنواع: أحدهما: أن يكون من جهة البدن، بإظهار النحول والصفار، ليريهم بذلك شدة الاجتهاد، وغلبة خوف الآخرة، وكذلك يرائي بتشعث الشعر، ليظهر أنه مستغرق في هم الدين، لا يتفرغ لتسريح شعره. ويقرب من هذا خفض الصوت، وإغارة العينين، وذبول الشفتين، ليدل بذلك على أنه مواظب على الصوم، ولهذا قال عيسى بن مريم عليه السلام: إذا صام أحدكم

فليدهن رأسه، ويرجل شعره. وذلك لما يخاف على الصائم من آفات الرياء، فهذا الرياء من جهة البدن لأهل الدين. وأما أهل الدنيا، فيراؤون بإظهار السمن، وصفاء اللون، واعتدال القامة، وحسن الوجه، ونظافة البدن. النوع الثاني: الرياء من جهة الزي، كالإطراق حالة المشي، وإبقاء أثر السجود على الوجه، وغلظ الثياب، ولبس الصوف، وتشمير الثياب كثيراً، وتقصير الأكمام، وترك الثوب مخرقاُ غير نظيف. ومن ذلك لبس المرقعة، والثياب الزرق، تشبهاً بالصوفية مع الإفلاس من صفاتهم في الباطن. ومنه التقنع فوق العمامة، لتنصرف إليه الأعين بالتمييز بتلك العادة. وهؤلاء طبقات، منهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاح، بإظهار التزهد بلبس الثياب المخرقة الوسخة الغليظة، ليرائي بذلك، ولو كلف هذا أن يلبس ثوباً وسطاً نظيفاً مما كان السلف يلبسونه، لكان عنده بمنزلة الذبح، لخوفه أن يقول الناس: قد بدا له من الزهد، وقد رجع عن تلك الطريقة. وطبقة أخرى: يطلبون القبول عند أهل الصلاح، وعند أهل الدنيا من الملوك والأمراء والتجار، فلو لبسوا الثياب الفاخرة لم تقبلهم القراء أهل الصلاح، ولو لبسوا المخرقة الدنية لازدرتهم الملوك والأغنياء، فهم يريدون الجمع بين قبول أهل الدين والدنيا، فيطلبون الأثواب الرقيقة، والأكسية الرفيعة والفوط الرفيعة فيلبسونها، وأقل قيمة ثوب أحدهم قيمة ثوب الغنى، ولونه وهيئته لون ثياب الصلحاء، فيلتمسون القبول عند الفريقين. وهؤلاء لو كلفوا لبس خشن أو وسخ، لكان عندهم كالذبح، خوفاً من السقوط في أعين الملوك والأغنياء، ولو كلفوا لبس الرقيق ورفيع الكتان الأبيض ونحو ذلك، لعظم

ذلك عليهم، خوفاً من أن تنحط منزلتهم عند أهل الصلاح، وكل مراء بزي مخصوص ثقل عليه الانتقال إلى ما دونه أو فوقه خوفاً من المذمة. وأما أهل الدنيا، فمراءاتهم بالثياب النفيسة، والمراكب الحسنة، وأنواع التجميل في الملبس والمسكن وأثاث البيت، وهم في بيوتهم يلبسون الثياب الخشنة، ويشتد عليهم أن يروا بتلك المنزلة. النوع الثالث: الرياء بالقول، ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والآثار، لأجل المحاورة، وإظهار غزارة العلم والدلالة على شدة العناية بأحوال السلف، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، وإظهار الغضب للمنكرات بين الناس، وخفض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن، ليدل بذلك على الخوف والحزن ونحو ذلك. وأما أهل الدنيا، فمراءاتهم بحفظ الأشعار والأمثال والتفاصح في الكلام ونحو ذلك. النوع الرابع: الرياء بالعمل، كمرآة المصلى بطول القيام، وتطويل الركوع والسجود، وإظهار الخشوع، ونحو ذلك. وكذلك بالصوم والغزو والحج والصدقة ونحو ذلك. وأما أهل الدنيا فمراءاتهم، بالتبختر، والاختيال، وتحريك اليدين، وتقريب الخطى، والأخذ بأطراف الذيل، وإمالة العطفين، ليدلوا بذلك على الحشمة. النوع الخامس: المراءاة بالأصحاب والزائرين، كالذي يتكلف أن يستزير عالماً أو عابداً، ليقال: إن فلاناً قد زار فلاناً، وإن أهل الدين يترددون إليه، ويتبركون به، وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ، ليقال: لقي شيوخاً كثيرة، واستفاد منهم، فيباهى بذلك، فهذه مجامع ما يرائي به المراؤون، يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد.

ومنهم من يطلب مجرد الجاه، وكم من عابد اعتزل في جبل، وراهب انزوى إلى دير، مع قطع طمعهم من مال الناس، لكنه يحب مجرد الجاه. ومنهم من يكون قصده المال، ومنهم من قصده الثناء وانتشار الصيت. فإن قيل: هل الرياء حرام، أم مكروه، أم مباح؟ فالجواب: أن فيه تفصيلاً، وهو إما أن يكون بالعبادات، أو بغيرها، فان كان الرياء بالعبادات، فهو حرام، فإن المرائي بصلاته وصدقته وحجته، ونحو ذلك، عاص آثم، لأنه يقصد بذلك غير الله تعالى المستحق للعبادة وحده، فالمرائي بذلك في سخط الله. وأما إن كان بغير العبادات، فهو كطلب المال على ما تقدم، لا يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد، ولكن كما يمكن كسب المال بتلبيسات وأسباب محظورة، فكذلك الجاه، وكما أن كسب قليل من المال وهو الذي طلبه يوسف عليه السلام في قوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] ولا نقول بتحريم الجاه وإن كثر، إلا إذا حمل صاحبه على ما لا يجوز على نحو ما ذكرنا في المال. وأما سعة الجاه من غير حرص على طلبه، ومن غير اغتمام بزواله وإن زال، فلا ضرر فيه، إذ لا جاه أوسع من جاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلماء الدين بعده، ولكن انصراف الهمم إلى طلب الجاه نقصان في الدين، ولا يوصف بالتحريم. وتحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس، إنما هو ليراه الناس، وكذلك كل تجمل لأجلهم لا يقال: إنه منهي عنه. وقد تختلف المقاصد بذلك، فإن أكثر الناس يحبون أن لا يروا بعين نقص في حال. وفى أفراد مسلم، من حديث ابن مسعود رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله

1 ـ فصل [في أن أبواب الرياء بعضها أشد من بعض]

وسلم أنه قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل: إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسنة، ونعله حسنة، فقال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس". ومن الناس من يؤثر إظهار نعمة الله عليه، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك. 1 ـ فصل [في أن أبواب الرياء بعضها أشد من بعض] واعلم: أن بعض أبواب الرياء أشد من بعض، لأنه درجات. أشدها وأغلظها أن لا يكون مراده بالعبادة الثواب أصلاً، كالذي يصلى بين الناس، ولو انفرد لم يصل. الدرجة الثانية: أن يقصد الثواب مع الرياء قصداً ضعيفاً بحيث لو كان خالياً لم يفعله، فهو قريب من القسم الأول في كونهما ممقوتين عند الله تعالى. الدرجة الثالثة: أن يكون قصد الرياء، وقصد الثواب متساويين، بحيث لو انفرد كل واحد منهما عن الآخر لم يبعثه على العمل، فهذا قد أفسد مثل ما اصلح، ولا يسلم من الإثم. الرابعة: أن يكون إطلاع الناس عليه مقوياً لنشاطه، ولو لم يطلع عليه أحد لم يترك العبادة، فهذا يثاب على قصده الصحيح، ويعاقب على قصده الفاسد، وقريب من ذلك الرياء بأوصاف العبادة لا بأصلها، كالذي يصلى وغرضه تخفيف الركوع والسجود ولا يطيل القراءة، فإذا رآه الناس أحسن ذلك فهذا أيضاً من الرياء المحظور، لأنه يتضمن تعظيم الخلق، ولكنه دون الرياء بأصول العبادات. 2 ـ بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل اعلم أن الرياء جلي وخفي. فالجلي: هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه.

وأخفى منه قليلاً رياء لا يبعث على العمل بمجرده، لكن يخفف العمل الذي أريد به وجه الله تعالى، كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف نشط له وسهل عليه. وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا في التسهيل، لكنه مع ذلك مستبطن في القلب، ومتى لم يؤثر الدعاء في العمل لم يكن أن يعرف إلا بالعلامات، وأجلى علاماته أنه يسر باطلاع الناس على طاعته، فرب عبد مخلص يخلص العمل، ولا يقصد الرياء بل يكرهه، ويتم العمل على ذلك، لكن إذا اطلع الناس عليه سره ذلك وارتاح له، وروح ذلك عن قلبه شدة العبادة، فهذا السرور يدل على رياء خفي منه يرشح السرور، ثم إذا استشعر تلك اللذة بالاطلاع لم يقابل ذلك بكراهة، بل قد يتحرك حركة خفيفة، ويتكلف أن يطلع عليه بالتعريض لا بالتصريح. وقد يخفى، فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضاً ولا تصريحاً، ولكن بالشمائل كإظهار النحول، والصفار، وخفض الصوت، ويبس الشفتين وآثار الدموع وغلبة النعاس الدالة على طول التهجد. وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع عليه، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدؤوه بالسلام، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وينشطوا في قضاء حوائجه، ويسامحوه في المعاملة، ويوسعوا له المكان، فان قصر في ذلك مقصر، ثقل ذلك على قلبه، كأن نفسه تتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها. ومتى لم يكون وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق، لم يكن خالياً عن شوب خفي من الرياء، وكل ذلك يوشك أن يقص الأجر، ولا يسلم منه إلا الصديقون. وقد روينا عن وهب بن منبه، أن رجلاً من العباد قال لأصحابه: إنا قد فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان، وأنا نخاف أن يكون قد دخل علينا في أمرنا من هذا الطغيان أكثر مما دخل على الأهل الأموال في أموالهم، إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه، وإن كان له حاجة أحب أن تقضى لمكان دينه: وإن اشترى شئياً أحب أن يرخص له لمكان دينه، فبلغ ذلك ملكهم، فركب في موكبه، فإذا السهل والجبل قد امتلأ من الناس، فقال العابد: ما هذا؟ قيل: هذا الملك، فقال لصاحبه: ائتني بطعام، فأتاه

ببقل وزبيب وقلوب الشجر، فجعل يحشو شدقيه ويأكل أكلاً عنيفاً، فقال الملك: أين صاحبكم؟ فقالوا: هذا، كيف أنت؟ قال: كالناس، فقال الملك ما عند هذا خير، وانصرف عنه، فقال: الحمد لله الذي صرفه عنى وهو لى لائم. ولم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفى، يجتهدون في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة، ويحرصون على إخفائها أعظم ما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم، كل ذلك رجاء أن يخلص عملهم ليجازيهم الله تعالى في القيامة بإخلاصهم. وشوائب الرياء الخفى كثيرة لا تنحصر، ومتى أدرك الإنسان من نفسه تفرقة بين أن يطلع على عبادته أو لا يطلع، ففيه شعبة من الرياء، ولكن ليس كل شوب محبطاً للأجر ومفسداً للعمل، بل فيه تفصيل. فإن قيل: فما ترى أحداً ينفك عن السرور إذا عرفت طاعته، فهل جميع ذلك مذموم؟ فالجواب: أن السرور ينقسم إلى محمود ومذموم. فالمحمود: أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله، ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله تعالى أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله، فيسر بحسن صنع الله ونظره له ولطفه به، حيث كان يستر الطاعة والمعصية، فأظهر الله سبحانه عليه الطاعة، وستر عليه المعصية، ولا لطف أعظم من ستر القبيح، وإظهار الجميل، فيكون فرحه بذلك، لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم، أو يستدل بإظهار الله الجميل، وستر القبيح عليه في الدنيا، أنه كذلك يفعل به في الآخرة، فإنه قد جاء معنى ذلك في الحديث. فأما إن كان فرحه باطلاع الناس عليه لقيام منزلته عندهم، حتى يمدحوه ويعظموه ويقضوا حوائجه، فهذا مكروه مذموم. فإن قيل: فما وجه حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيسره، فإذا اطلع عليه، أعجبه، فقال: "له أجران: أجر السر، وأجر العلانية". فالجواب: أن هذا الحديث ضعيف، وقد رواه الترمذي، وفسره بعض أهل العلم بأن معناه: أن يعجبه ثناء الناس عليه بالخير، لقوله عليه السلام: "أنتم شهداء الله في الأرض".

3 ـ فصل في بيان ما يحبط العمل من الرياء وما لا يحبط

وقد روى في أفراد مسلم من حديث أبى ذر رضى الله عنه قال: قيل: يارسول الله أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن". فأما إذا أعجبه ليعلم الناس منه الخير ويكرموه عليه، فهذا رياء. 3 ـ فصل في بيان ما يحبط العمل من الرياء وما لا يحبط إذا ورد على العبد وراد الرياء، فلا يخلو: إما أن يكون ورد بعد فراغه من العبادة أو قبله، فان ورد عليه بعد الفراغ سرور بالظهور من غير إظهار منه، فهذا لا يحبط العمل، لأنه قد تم على نعت الإخلاص فلا ينعطف ما طرأ عليه بعده، لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره والتحديث به، فأما إن تحدث به بعد تمامه وأظهره، فهذا مخوف، والغالب عليه أنه كان في قلبه وقت مباشرة العمل نوع رياء، فإن سلم من الرياء نقص أجره، فإن بين عمل السر والعلانية سبعين درجة. وأما إذا ورد الرياء قبل الفراغ من العبادة، كالصلاة التي عقدها على إخلاص فإن كان مجرد سرور، لم يؤثر في العمل، وإن كان رياء باعثاً على العمل، مثل أن يطيل الصلاة ليرى مكانه، فهذا يحبط الأجر. وأما ما يقارن العبادة، مثل أن يبتدئ الصلاة على قصد الرياء، فإن أتمها على ذلك لم يعتد بها، وإن ندم فيها على فعله، فالذي ينبغي له أن يبتدئها، والله أعلم. وأما ما يقارن العبادة، مثل أن يبتدئ الصلاة على قصد الرياء، فإن أتمها على ذلك لم يعتد بها، وإن ندم فيها على فعله، فالذي ينبغي له أن يبتدئها، والله أعلم. 4 ـ باب في دواء الرياء وطريقة معالجة القلب فيه قد عرفت أن الرياء محبط للأعمال، وسبب لمقت الله تعالى، وأنه من المهلكات، ومن هذا حاله، فجدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته. وفى معالجته مقامان: أحدهما: في قلع عروقه وأصوله التي منها انشعابه. والثاني: في دفع ما يخطر منه في الحال.

المقام الأول: اعلم أن أصل الرياء حب الجاه والمنزلة، وإذا فصل، رجع إلى ثلاثة أصول. وهى حب لذة الحمد، والفرار من ألم الذم، والطمع فيما في أيدي الناس. ويشهد لذلك ما في "الصحيحين" من حديث أبى موسى رضى الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فقال يارسول الله، أرأيت الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله". فمعنى قوله: "يقاتل شجاعة" أي: ليذكر ويحمد، ومعنى قوله "يقاتل حمية" أي: يأنف أن يقهر أو يذم، ومعنى: "يقاتل رياء" أي: ليرى مكانه، وهذه هو لذة الجاه والمنزلة في القلوب. وقد لا يشتهى الإنسان الحمد، ولكنه يحذر من الذم، كالجبان بين الشجعان، فإنه يثبت ولا يفر لئلا يذم. وقد يفتى الإنسان بغير علم حذراً من الذم بالجهل، فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك إلى الرياء. وعلاجه أن الإنسان إِنما يقصد الشيء ويرغب فيه إذا ظن أنه خير له ونافع، إما في الحال أو المآل، فإن علم أنه لذيذ في الحال ضارٌّ في المآل، سهل عليه اجتنابه وقطع عنه الرغبة، كمن يعلم أن العسل لذيذ، ولكن إِذا بان أن فيه سماً، أعرض عنه، فكذلك طريق هذه الرغبة أن تعلم ما فيها من المضرَّة، فإِن الإِنسان متى عرف مضرة الرياء وما يفوته من صلاح قلبه، ومن المنزلة في الآخرة، وما يتعرض له من العذاب والمقت والخزي، هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق، فإنَّ رضى الناس غاية لا تدرك، فكل ما يرضى به فريق يسخط به فريق، ومن طلب رضاهم في سخط الله، سخط الله عليه وأسخطهم عليه. ثم أي غرض له في مدحهم وإيثار ذم الله له لأجل مدحهم؟ ولا يزيد مدحهم رزقاً ولا أجلاً، ولا ينفعه يوم فقره وفاقته. وكذلك ذمهم لمَ يحذر منه؟ ولا يضره ذمهم شيئاً ولا يجعل أجله، ولا يؤخر رزقه، فإن العباد كلهم عجزة، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فإِذا قرر هذا في نفسه، فترت رغبته في الرياء، وأقبل على الله تعالى بقلبه، فإن العاقل لا يرغب فيما يضره ويقل نفعه.

5 ـ فصل في بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات وبيان الرخصة في كتمان الذنوب، وكراهة اطلاع الناس على الذنب وذمهم له

وأما الطمع فيما في أيدي الناس، فيزيله بأن يعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإِعطاء، وأنه لا رازق سواه، ومن طمع في الخلق لم يخل من الذل والخيبة، وإن وصل إلى المراد، لم يخل من المنة والمهانة، فكيف يترك ما عند الله برجاء كاذب ووهم فاسد. ومن الدواء النافع أن يعود نفسه إخفاء العبادات، وإغلاق الأبواب دونها، كما تغلق الأبواب دون الفواحش، فإنه لا دواء في الرياء مثل إخفاء الأعمال، وذلك يشق في بداية المجاهدة، فإذا صبر عليه مدة بالتكلف، سقط عنه ثقله، وأمده الله بالعون، فعلى العبد المجاهدة، ومن الله التوفيق. المقام الثاني: في دفع العارض من الرياء أثناء العبادة، وذلك لا بد من تعلمه أيضاً، فإن من جاهد نفسه، وقلع مغارس الرياء من قلبه بالقناعة وإسقاط نفسه من أعين الناس، واحتقار مدحهم وذمهم، فإن الشيطان لا يتركه في أثناء العبادة، بل يعارضه بخطرات الرياء، فإذا خطر له معرفة الخلق بعبادته واطلاعهم عليها، دفع ذلك بأن يقول: مالك وللخلق علموا أو لم يعلموا، والله عالم بحالك، فأي فائدة في علم غيره؟ فإن هاجت الرغبة إلى آفة الحمد، ذكرها آفات الرياء والتعرض للمقت، فيقابل تلك الرغبة بكراهة المقت، فإن معرفة اطلاع الناس تثير شهوة، ومعرفة آفة الرياء تثير كراهة. 5 ـ فصل في بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات وبيان الرخصة في كتمان الذنوب، وكراهة اطلاع الناس على الذنب وذمهم له أما الأول، فاعلم أن في إسرار الأعمال فائدة لإخلاص والنجاة من الرياء، وفي الإظهار فائدة الاقتداء، وترغيب الناس في الخير. ومن الأعمال ما لا يمكن الإسرار به كالحج والجهاد. والمظهر للعمل ينبغي أن يراقب قلبه، حتى لا يكون فيه حب الرياء الخفي، بل ينوي الاقتداء به، ولا ينبغي للضعيف أن يخدع نفسه بذلك، فإن مثال الضعيف مثل الغريق الذي يحسن سباحة ضعيفة، فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم، وأقبل

عليهم حتى تشبثوا به، فهلكوا وهلك معهم. فأما من قوي وتم إخلاصه، وصغر الناس في عينه، واستوى عنده مدحهم وذمهم، فلا بأس بالإظهار له، لأن الترغيب في الخير خير. وقد روي ذلك عن جماعة من السلف أنهم كانوا يظهرون شيئاً من أحوالهم الشريفة ليقتدي بهم، كما قال بعضهم لأهله حين احتضر: لا تبكوا علي، فإني ما لفظت بخطيئة منذ أسلمت. وقال أبو بكر بن عياش رحمه الله لابنه: إياك أن تعصي الله تعالى في هذه الغرفة، فإني ختمت فيها اثني عشر ألف ختمة. ونحو ذلك كثير من كلامهم، والله أعلم. وأما الرخصة في كتمان الذنوب، فربما ظن ظان أن كتمان الخطايا رياء، وليس كذلك فإن الصادق الذي لا يرائي إذا وقعت منه معصية، كان له سترها، لأن الله يكره ظهور المعاصي ويحب سترها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات، فليستتر بستر الله عز وجل" (¬1). فهذا وإن عصى بالذنب، لم يخل قلبه عن محبة ما أحبه الله عز وجل، وهذا ينشأ عن قوة الإيمان. وينبغي أن يكره ظهور الذنب من غيره أيضاً، فهذا أثر الصدق فيه. ومن ذلك أن يكره ذم الناس له، من حيث إن ذلك يشغل قلبه وعقله عن طاعة الله تعالى، فإن الطبع يتأذى بالذم، وبهذه العلة أيضاً ينبغي أن يكره المدح إذا كان يشغله عن الله تعالى، ويستغرق قلبه، ويصرفه عن الذكر، فإن هذا أيضاً من قوة الإيمان. ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 383 من حديث ابن عمر مرفوعاً بلفظ "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها، فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبدلنا صفحته، نقم عليه كتاب الله تعالى" واسناده صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

6 ـ فصل [في ترك الطاعات خوفا من الرياء]

6 ـ فصل [في ترك الطاعات خوفاً من الرياء] فأما ترك الطاعات خوفاً من الرياء، فإن كان الباعث له على الطاعة غير الدين، فهذا ينبغي أن يترك، لأنه معصية لا طاعة فيه. وإن كان الباعث على ذلك الدين، وكان ذلك لأجل الله تعالى خالصاً، فلا ينبغي أن يترك العمل، لأن الباعث الدين. وكذلك إذا ترك العمل خوفاً من أن يقال: إنه مراءٍ، فلا ينبغي ذلك، لأنه من مكائد الشيطان. قال إبراهيم النخعي: إذا أتاك الشيطان وأنت في الصلاة فقال: إنك مراءٍ، فزدها طولاً. وأما ما روي عن بعض السلف أنه ترك العبادة خوفاً من الرياء، كما روي عن إبراهيم النخعي أن إنساناً دخل عليه وهو يقرأ في المصحف، فأطبق المصحف وترك القراءة، وقال: لا يراني هذا أني أقرأ كل ساعة، فيحمل هذا علي أنهم أحسوا من نفوسهم بنوع تزين فقطعوا. 7 ـ فصل في بيان ما يصح من نشاط العبد بسبب رؤية الخلق وما لا يصح قد يبيت الرجل مع المتهجدين، فيصلون أكثر الليل، وعادته قيام ساعة، فيوافقهم، أو يصومون فيصوم، ولولاهم ما انبعث هذا النشاط. فربما ظن ظان أن هذا رياء، وليس كذلك على الإطلاق، بل فيه تفصيل، وهو أن كل مؤمن يرغب في عبادة الله تعالى، ولكن تعوقه العوائق، فإن الإنسان إذا كان في منزله تمكن من النوم على فراش وطيء وتمتع بزوجته، فإذا بات في مكان غريب، اندفعت هذه الشواغل، وحصلت له أسباب تبعث على الخير، منها مشاهدة العابدين. وقد يعسر عليه الصوم في منزله لكثرة المطاعم، بخلاف غيره، ففي مثل هذه الأحوال ينتدب الشيطان للصد عن الطاعة، ويقول: إذا عملت غير عادتك كنت مرائياً فلا ينبغي أن يلتفت إليه، وإنما ينبغي أن ينظر إلى قصده الباطن، ولا يلتفت إلى وسواس الشيطان.

ويختبر أمره بأن يمثل القوم في مكان يراهم ولا يرونه، فإن رأى نفسه تسخو بالتعبد فهو لله، وإن لم تسخ كان سخاؤها عندهم رياء، وقس على هذا. فهذه جملة آفات الرياء، فكن بحاثاً عنها، وتفقد نيتك، فإن الرياء أخفى من دبيب النمل. وينبغي للمريد أن يلزم قلبه القناعة بعلم الله في جميع طاعته. وإنما يقنع بذلك من خاف الله ورجاه، ولا ينبغي أن يؤيس نفسه من الإخلاص بأن يقول: إنما يقدر على الإخلاص الأقوياء، وأنا من المخلطين، فيترك المجاهدة في تحصيل الإخلاص، لأن المخلط إلى ذلك أحوج. قال إبراهيم بن أدهم: تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان: دخلت على صومعته فقلت له: منذ كم أنت في صومعتك هذه؟ قال منذ سبعين سنة، قلت: ما طعامك؟ قال: كل ليلة حمصة، قلت: فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة؟ قال: ترى (الدير) الذي بحذائك؟ قلت: نعم، قال: إنهم يأتوني في كل سنة يوماً واحداً فيزينون صومعتي ويطوفون حولها يعظموني بذلك، فكلما تثاقلت نفسي عن العبادة، ذكرتها عز تلك الساعة، فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة، فاحتمل ياحنيفي جهد ساعة لعز الأبد، فوقر في قلبي المعرفة، فقال: أزيدك؟ قلت: نعم، قال: أنزل عن الصومعة، فنزلت فأدلى إلي ركوة فيها عشرين حمصة، ثم قال لي: ادخل الدير، فقد رأوا ما أدليت إليك، فلما دخلت الدير، اجتمعت النصارى فقالوا: يا حنيفي، ما الذي أدلى إليك الشيخ؟ قلت: شيئاً من قوته. قالوا: وما تصنع به؟ نحن أحق به، ساوم به، قلت: عشرون ديناراً، فأعطوني عشرين ديناراً، فرجعت إلى الراهب، فقال: أخطأت، لو ساومتهم عشرين ألفاً لأعطوك، هذا عز من لا يعبده، فانظر كيف يكون عز من يعبده، يا حنيفي أقبل على عبادة ربك. فقد بان بهذا أن استشعار النفوس عز العظمة في القلوب يكون باعثاً إلى الخلوة، فهذه آفة عظيمة، وعلامة سلامته منها أن يكون الخلق عنده والبهائم بمثابة واحدة، ويكون عمله عمل من ليس على الأرض غيره، فإذا خطرت خطرات ضعيفة ردها الله، والله تعالى أعلم. ***

كتاب ذم الكبر والعجب وهما فصلان

كتاب ذم الكبر والعجب وهما فصلان: 1 ـ الفصل الأول في الكبر: قال الله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] وقال: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23]. وفى الحديث الصحيح من أفراد مسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". وفي "الصحيحين" عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "قالت النار: أوثرت بالمتكبرين". وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صورة الذر، يطؤهم الناس لهوانهم على الله عز وجل". وقال سفيان بن عيينة رحمة الله: من كانت معصيته في شهوة، فارج له التوبة، فإن آدم عليه السلام عصى مشتهيا فغفر له، فإذا كانت معصيته من كبر، فاحش عليه اللعنة، فإن إبليس عصى مستكبراً فلعن. وفي "الصحيحين": أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقال أبو بكر: يارسول الله إن أحد شقي إزاري ليسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لست ممن يصنعه خيلاء". واعلم: أن الكبر خلق باطن تصدر عنه أعمال هي ثمرته، فيظهر على الجوارح، وذلك الخلق هو رؤية النفس على المتكبر عليه، يعنى يرى نفسه فوق الغير في صفات الكمال، فعند ذلك يكون متكبراً.

وبهذا ينفصل عن العجب، فان العجب لا يستدعى غير المعجب، حتى لو قدر أن يخلق الإنسان وحده تصور أن يكون معجباً، ولا يتصور أن يكون متكبراً، إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوقه، فإن الإنسان متى رأى نفسه بعين الاستعظام، حقر من دونه وازدراه، وصفة هذا المتكبر، أن ينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير استجهالاً واستحقاراً. وآفة الكبر عظيمة، وفيه يهلك الخواص، وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء. وكيف لا تعظم آفته، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. وإنما صار حجاباً دون الجنة، لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين، لأن صاحبه لا يقدر أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، فلا يقدر على التواضع، ولا على ترك الحقد والحسد والغضب، ولا على كظم الغيظ وقبول النصح، ولا يسلم من الازدراء بالناس واغتيابهم. فما من خلق ذميم إلا وهو مضطر إليه. ومن شر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم، وقبول الحق، والانقياد له. وقد تحصل المعرفة للمتكبر، ولكن لا تطاوعه نفسه على الانقياد للحق، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47] {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10] وآيات كثيرة نحو هذا، وهذا تكبر على الله وعلى رسوله. وقد تقدم أن التكبر على العباد هو احتقارهم واستعظام نفسه عليهم، وذلك أيضاً يدعو إلى التكبر على أمر الله تعالى، كما حمل إبليس كبره على آدم عليه السلام أن امتنع من امتثال أمر ربه في السجود. وقد شرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكبر فقال: "الكبر: بطر الحق وغمط الناس". ومعنى غمط الناس: الازدراء بهم، واستحقارهم. ويروى: غمص الناس بمعنى غمط الناس.

1 ـ فصل [في تقسيم آفات الكبر]

1 ـ فصل [في تقسيم آفات الكبر] واعلم: أن العلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاثة درجات: الأولى: أن يكون الكبر مستقراً في قلب الإنسان منهم، فهو يرى نفسه خيراً من غيره، إلا أنه يجتهد ويتواضع، فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروسة، إلا أنه قد قطع أغصانها. الثانية: أن يظهر لك بأفعاله من الترفع في المجالس، والتقدم على الأقران، والإنكار على من يقصر في حقه، فترى العالم يصعر (¬1) خده للناس، كأنه معرض عنهم، والعابد يعيش ووجهه كأنه مستقذر لهم، وهذان قد جهلا ما أدب الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، حين قال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]. الدرجة الثالثة: أن يظهر الكبر بلسانه، كالدعاوى والمفاخر، وتزكية النفس، وحكايات الأحوال في معرض المفاخرة لغيره، وكذلك التكبر بالنسب، فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه عملاً. قال ابن عباس: يقول الرجل للرجل: أنا أكرم منك، وليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى. قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13}. وكذلك التكبر بالمال، والجمال، والقوة، وكثرة الأتباع، ونحو ذلك، فالكبر بالمال أكثر ما يجرى بين الملوك والتجار ونحوهم. والتكبر بالجمال أكثر ما يجرى بين النساء، ويدعوهن إلى التنقص والغيبة وذكر العيوب. وأما التكبر بالأتباع والأنصار، فيجرى بين الملوك بالمكاثرة بكثرة الجنود، وبين العلماء بالمكاثرة بالمستفيدين. وفي الجملة فكل ما يمكن أن يعتقد كمالاً، فإن لم يكن في نفسه كمالاً، أمكن أن ¬

_ (¬1) صعر خده وصاعره: أي أماله من الكبر، ومنه قوله تعالى (ولا تصعر خدك للناس) وقول المتلمس: وكنا إذا الجار صعر خده ... أقمنا له من خده فتقوما

يتكبر به، حتى إن الفاسق قد يفتخر بكثرة شرب الخمرة والفجور، لظنه أن ذلك كمال. واعلم: أن التكبر يظهر في شمائل الإنسان، كصعر وجهه، ونظره شزراً، وإطراق رأسه، وجلوسه متربعاً ومتكئاً، وفى أقواله، حتى في صوته ونغمته، وصيغة إيراده الكلام، ويظهر ذلك أيضاً في مشيه وتبختره، وقيامه وقعوده وحركاته وسكناته وسائر تقلباته. ومن خصائل المتكبر، أن يحب قيام الناس له. والقيام على ضربين: قيام على رأسه وهو قاعد، فهذا منهي عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبواً مقعده من النار". وهذه عادة الأعاجم والمتكبرين. الثاني: قيام عند مجيء الإنسان، فقد كان السلف لا يكادون يفعلون ذلك. قال أنس: لم يكن شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك. وقد قال العلماء: يستحب القيام للوالدين والإمام العادل، وفضلاء الناس، وقد صار هذا كالشعار بين الأفاضل، فإذا تركه الإنسان في حق من يصلح أن يفعل في حقه، لم يأمن أن ينسبه إلى إهانته، والتقصير في حقه، فيوجب ذلك حقداً. واستحباب هذا في حق القائم لا يمنع الذي يقام له أن يكره ذلك، ويرى أنه ليس بأهل لذلك. ومن خصال المتكبر: أن لا يمشى إلا ومعه أحد يمشى خلفه. ومنها أن لا يزور أحداً تكبراً على الناس. ومنها أن يستنكف من جلوس أحد إلى جانبه أو مشيه معه. وقد روى أنس رضى الله عنه قال: كانت الأمة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتنطلق به في حاجتها. وقال ابن وهب: جلست إلى عبد العزيز بن أبى رواد، وإن فخذى لتمس فخذه

2 ـ بيان معالجة الكبر واكتساب التواضع

فنحيت نفسي عنه، فأخذ ثيابي فجرني إليه وقال: لم تفعلون بى ما تفعلون بالجبابرة، وإني لا أعرف منكم رجلا شراً منى؟ ‍! ومنها أن لا يتعاطى بيده شغلاً في بيته، وهذا بخلاف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومنها أن لا يحمل متاعه من سوقه إلى بيته، وقد اشترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً وحمله. وكان أبو بكر رضى الله عنه يحمل الثياب إلي السوق يتجر فيها. واشترى عمر رضى الله عنه لحماً فعلقه بيده وحمله إلى بيته. واشترى على رضى الله عنه تمراً فحمله في ملحفة، فقال له قائل: أحمل عنك؟ قال: لا، أبو العيال أحق أن يحمل. وأقبل أبو هريرة رضى الله عنه يوماً من السوق وقد حمل حزمة حطب، وهو يومئذ خليفة مروان، فقال لرجل: أوسع الطريق للأمير. ومن أراد إن ينفى الكبر، ويستعمل التواضع، فعليه بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد سبقت الإشارة إليها في كتاب "آداب المعيشة". ... 2 ـ بيان معالجة الكبر واكتساب التواضع واعلم: أن الكبر من المهلكات، ومداواته فرض عين، ولك في معالجته مقامان: الأول: في استئصال أصله وقطع شجرته، وذلك بأن يعرف الإنسان نفسه ويعرف ربه، فإنه إذا عرف نفسه حق المعرفة، علم أنه أذل من كل ذليل، ويكفيه أن ينظر في أصل وجوده بعد العدم من تراب، ثم من نطفة خرجت من مخرج البول، ثم من علقة، ثم من مضغة، فقد صار شيئاً مذكوراً، بعد أن كان جماداً لا يسمع ولا يبصر، ولا يحس ولا يتحرك، فقد ابتدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوته، وبفقره قبل غناه. وقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 18 و 19] ثم امتن عليه بقوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20]، وبقوله:

{فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الدهر: 2] فأحياه بعد الموت، وأحسن تصويره، وأخرجه إلى الدنيا، فأشبعه وأرواه، وكساه وهداه وقواه. فمن هذا بدايته، فأي وجه لكبره وفخره؟ على أنه لو دام له الوجود على اختياره لكان لطغيانه طريق، بل قد سلط عليه الأخلاط المتضادة، والأمراض الهائلة، بينما بنيانه قد تم، إذ هو قد وهى وتهدم، لا يملك الشيء لنفسه ضراً ولا نفعاً، بينها هو يذكر الشيء فينساه، ويستلذ بشيء فيرديه، ويروم الشيء فلا يناله، ثم لا يأمن أن يسلب حياته بغتة. هذا أوسط حاله، وذاك أول أمره، وأما آخر أمره، فالموت الذي يعده جماداً كما كان، ثم يلقى في التراب فيصير جيفة منتنه، وتبلى أعضاؤه، وتنخر عظامه، ويأكل الدود أجزاؤه، ويعود تراباً يعمل منه الكيزان، ويعمر منه البنيان، ثم بعد طول البلى تجمع أجزاؤه المتفرقة، ويحضر عرصة القيامة، فيرى أرضاً مبدلة، وجبالاً مسيرة، وسماءً منشقة، ونجوماً منكدرة، وشمساً مكورة، وأحوالاً مظلمة، وجحيماً تزفر، وصحائف تنشر، ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14]. فيقول: وما كتابي؟ فيقال: كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تفرح بها وتتكبر بنعيمها ملكان يحصيان ما تنطق به وتعمل من قليل وكثير، وقيام وقعود، وأكل وشرب، وقد نسيت ذلك، وأحصاه الله تعالى، فهلم إلى الحساب عليه، وأعد جواباً به، وإلا فأنت تساق إلى النار، فما لمن هذه حاله التكبر؟ فإن صار إلى النار، فالبهائم أحسن حالاً منه، لأنه تعود إلى التراب، ومن هذا حاله وهو على شك من العفو عن أخطائه، كيف يتكبر؟! ومن الذي يسلم من ذنب يستحق به العقوبة، وما مثله إلا كمثل رجل جنى على ملك جناية استحق أن يضرب لأجلها ألف سوط، فحبس في السجن ليخرج فيعاقب، وهو منتظر أن يدعى به لذلك. أفتراه يتكبر على أهل السجن؟ وهل الدنيا إلا سجن، وهل المعاصي إلا موجبة للعقاب؟. وأما معرفة ربه، فيكفيه أن ينظر في آثار قدرته وعجائب صنعته، فتلوح له العظمة، وتظهر له المعرفة، فهذا هو العلاج القالع لأصل الكبر. ومن العلاج العملي التواضع بالفعل لله تعالى ولعباده، وذلك بالمواظبة على استعمال خلق المتواضعين، وقد تقدمت الإشارة إلى طريقة رسول الله صلى الله عليه

وآله وسلم، وما كان عليه من التواضع والأخلاق الجميلة. المقام الثاني: فيما يعرض من التكبر بالأنساب، فمن اعتراه الكبر من جهة النسب، فليعلم أن هذا تعزز بكمال غيره، ثم يعلم أباه وجده، فإن أباه القريب نطفة قذرة، وأباه البعيد تراب، ومن اعتراه الكبر بالجمال، فلينظر إلى باطنه نظر العقلاء، ولا ينظر إلى ظاهره نظر البهائم، ومن اعتراه من جهة القوة، فليعلم أنه لو آلمه عرق، عاد أعجز من كل عاجز، إن حمى يوم تحلل من قوته ما لا يود في مدة، وإن شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته، وبقة لو دخلت في أذنه لأقلقته. ومن تكبر بسبب الغنى، فإذا تأمل خلقاً من اليهود، وجدهم أغنى منه، فأف لشرف تسبق به اليهود ويستلبه السارق في لحظة، فيعود صاحبه ذليلاً. ومن تكبر بسبب العلم، فليعلم أن حجة الله على العالم آلد من الجاهل، وليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده، فإن خطره أعظم من خطر غيره، كما أن قدره أعظم من قدر غيره. وليعلم أيضاً أن الكبر لا يليق بالله سبحانه، وأنه إذا تكبر صار ممقوتاً عند الله تعالى بغيضاً عنده. وقد أحب الله منه أن يتواضع، وكذلك كل سبب يعالجه بنقيضه ويستعمل التواضع. واعلم: أن هذا الخلق كسائر الأخلاق له طرفان ووسط: فطرفه الذي يميل إلى الزيادة تكبراً. وطرفه الذي يميل إلى النقصان يمسي تخاسساً ومذلة. والوسط يمسي تواضعاً، وهو المحمود وهو أن يتواضع من غير مذلة، فخير الأمور أوساطها، فمن تقدم على أقرانه فهو متكبر، ومن تأخر عنهم، فهو متواضع، لأنه قد وضع شيئاً من قدره، فأما إذا أدخل على العالم إسكاف أو نحوه، فتنحى له عن مجلسه أو أجلسه فيه، ثم قدم له نعله ومشى معه إلى الباب، فقد تخاسس وتذلل، فذلك غير محمود، بل المحمود العدل، وهو أن يعطى كل ذي حق حقه، لكن تواضعه للسوقة بالرفق في السؤال واللين في الكلام، وإجابة الدعوة، والسعى في الحاجة، ولا يحقره، ولا يستصغره، والله أعلم.

2 ـ الفصل الثاني في العجب

2 ـ الفصل الثاني في العجب: روى عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "بينما رجل يتبختر في بردين وقد أعجبته نفسه، خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل (¬1) فيها إلى يوم القيامة". وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه". وروى عن ابن مسعود أنه قال: الهلاك في شيئين: العجب والقنوط. وإنما جمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالطلب والتشمير، والقانط لا يطلب، والمعجب يظن أنه قد ظفر بمراده فلا يسعى. قال مطرف رحمه الله: لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً، أحبُ إلى من أن أبيت قائما وأصبح معجباً. واعلم: أن العجب يدعو إلى الكبر، لأنه أحد أسبابه، فيتولد من العجب الكبر، ومن الكبر الآفات الكثيرة، وهذا مع الخلق. فأما مع الخالق، فإن العجب بالطاعات نتيجة استعظامها، فكأنه يمن على الله تعالى بفعلها، وينسى نعمته عليه بتوفيقه لها، ويعمى عن آفاتها المفسدة لها. وإنما يتفقد آفات الأعمال من خاف ردها دون من رضيها وأعجب بها. والعجب إنما يكون بوصف كمال من علم أو عمل، فإن انضاف إلى ذلك أن يرى حقاً له عند الله إدلالاً، فالعجب، يحصل باستعظام ما عجب به، والإدلال يوجب توقع الجزاء، مثل أن يتوقع إجابة دعائه وينكر رده. 1 ـ فصل في علاج العجب اعلم أن الله سبحانه هو المنعم عليك بإيجادك وإيجاد أعمالك، فلا معنى لعجب عامل بعمله، ولا عالم بعلمه، ولا جميل بجماله، ولا غنى بغناه، إذ كل ذلك من فضل الله تعالى، وإنما الآدمي محل لفيض النعم عليه، وكونه محلاً له نعمة أخرى. ¬

(¬1) أي: يغوص في الأرض حين يخسف به، والجلجلة: الحركة مع الصوت.

فان قلت: إن العمل حصل بقدرتك ولا يتصور العمل إلا بوجودك ووجود عملك وإرادتك وقدرتك فمن أين قدرتك، وكل ذلك من الله تعالى لا منك، فإن كان العمل بالقدرة فالقدرة مفتاحه، وهذا المفتاح بيد الله تعالى، وما لم تعط المفتاح لا يمكنك العمل كما لو قعدت عند خزانة مغلقة لم تقدر على ما فيها إلا أن تعطى مفتاحها. وفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل". واعلم: أن العجب يكون بالأسباب التي يقع بها الكبر، وقد سبق ذكرها وعلاجها. ومن ذلك العجب بالنسب، كما يتخيل الشريف أنه ينجو بشرف آبائه، وعلاجه أن يعلم أنه متى خالف آباءه، وظن أنه ملحق بهم، فقد جهل، وإن اقتدى بهم، فإنه لم يكن العجب من أخلاقهم، بل الخوف والإزراء على النفس. وإنما شرفوا بالطاعة المحمودة، لا بنفس النسب. قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يا فاطمة، لا أغنى عنك من الله شيئاً". فإن قلت: إنما يرجو الشريف أن يشفع فيه ذوو قرابته. فالجواب: أن كل المسلمين يرجون الشفاعة، وقد يشفع في الشخص بعد إحراقه بالنار، وقد يقوى الذنب فلا تنجى الشفاعة. وفي "الصحيحين" من حديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا ألفين (¬1) أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله، أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك". ومثل المنهمك في الذنوب اعتماداً على رجاء الشفاعة، كمثل المريض المنهمك في الشهوات، اعتماداً على طبيبه الحاذق المشفق، وذلك جهل، فإن اجتهاد الطبيب، ينفع بعض الأمراض لا كلها. ¬

(¬1) أي، لا أجد ولا ألفى، يقال: ألفيت الشيء: إذا وجدته

ويوضح هذا أن سادات الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يخافون من الآخرة، فكيف يتكل من ليس في مثل مراتبهم؟! ومن ذلك العجب بالرأي الخطأ، كما قال الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]. وعلاج هذا أشد من علاج غيره، فإن هذا متى كان معجباً برأيه لم يصغ إلى نصح ناصح، وكيف يترك ما يعتقده نجاة؟! وإنما علاجه في الجملة أن يكون متهماً لرأيه أبداً، لا يغتر به، إلا أن يشهد له قاطع من كتاب، أو سنة أو دليل عقلي جامع لشروط الأدلة، ولن يعرف ذلك إلا بمجالسة أهل العلم وممارسة الكتاب والسنة. والأولى لمن يتفرغ لاستغراق العمر في العلم أن لا يخوض في المذاهب، ولكن يقف عند اعتقاد الجمل، وأن الله سبحانه واحد لا شريك له، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، وأن رسول الله صادق فيما جاء به ويؤمن بما جاء به القرآن من غير بحث ولا تنقير، ويصرف زمنه في التقوى، وأداء الطاعات، فمتى خاض في المذاهب ورام ما لا يصل إلى معرفته، هلك. ***

كتاب الغرور وأقسامه ودرجاته

كتاب الغرور وأقسامه ودرجاته ومن الناس من غرته الدنيا، فقال: النقد خير من النسيئة، والدنيا نقد، والآخرة نسيئة، وهذا محل التلبيس، فإن النقد لا يكون خيراً من النسيئة، إلا إذا كان مثل النسيئة، ومعلوم أن عمر الإنسان بالإضافة إلى مدة الآخرة ليس بجزء من ألف جزء إلى أن ينقطع النفس، وإنما أراد من قال: النقد خير من النسيئة، إذا كانت النسيئة مثل النقد، وهذا غرور الكفار. فأما ملابسو المعاصي مع سلامة عقائدهم، فإنهم قد شاركوا الكفار في هذا الغرور، لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة، إلا أن أمرهم أسهل من أمر الكفار، من جهة أن أصل الإيمان يمنعهم من عقاب الأبد. ومن العصاة من يغتر، فيقول: إن الله كريم، وإنما نتكل على عفوه، وربما اغتروا بصلاح آبائهم. وقد قال العلماء: من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف شيئاً هرب منه، ومن رجا الغفران مع الاصرار، فهو مغرور. وليعلم أن الله تعالى مع سعة رحمته شديد العقاب، وقد قضى بتخليد الكفار في النار، مع أنه لا يضره كفرهم، وقد سلط الأمراض والمحن على خلق من عباده في الدنيا، وهو سبحانه قادر على إزالتها، ثم خوفنا من عقابه، فكيف لا نخاف؟! فالخوف والرجاء سائقان يبعثان على العمل، وما لا يبعث على العمل فهو غرور. يوضح هذا أن رجاء أكثر الخلق يحملهم على البطالة، وإيثار المعاصي. والعجب أن القرن الأول عملوا وخافوا، ثم أهل هذا الزمان أمنوا مع التقصير واطمأنوا، أتراهم عرفوا من كرم الله تعالى ما لم يعرف الأنبياء والصالحون. ولو كان هذا الأمر يدرك بالمنى، فلم تعب أولئك وكثر بكاؤهم؟! وهل ذم أهل الكتاب بقوله: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف: 169]، إلا لمثل هذا الحال؟! وأما من اغتر بصلاح آبائه، فهلا يذكر قصة نوح عليه السلام مع ابنه، وإبراهيم عليه السلام مع أبيه، ومحمد مع عمه صلى الله عليه وآله وسلم وعلى سائر النبيين.

1 ـ فصل [الاغترار واقع بالعلماء والعباد]

ويقرب من هذا الغرور، غرور أقوام لهم طاعات ومعاصي، إلا أن معاصيهم أكثر، وهم يظنون أن حسناتهم ترجح، فترى الواحد منهم يتصدق بدرهم ويكون قد تناول من الغصب أضعاف ذلك، ولعل الذي تصدق به من المغصوب، ويتكل على تلك الصدقة، وما هو إلا كمن وضع درهما في كفه وألفاً في أخرى، ثم رجا أن يرجح الدرهم بآلف. ومنهم من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه، وسبب ذلك أنه يحفظ عدد حسناته، ولا يحاسب نفسه على سيئاته، ولا يتفقد ذنوبه، كالذي يستغفر الله ويسبحه مائة مرة في اليوم ثم يظل طول النهار يغتاب المسلمين، ويتكلم بما لا يُرضى، فهو ينظر في فضائل التسبيح والاستغفار، ولا ينظر في عقوبة الغيبة والكلام المنهي عنه. 1 ـ فصل [الاغترار واقع بالعلماء والعباد] ويقع الاغترار في الأغلب في حق أربعة أصناف: العلماء، والعباد، والمتصوفة، والأغنياء. الصنف الأول: العلماء: فأما أهل العلم، فالمغترون منهم فرق: منهم فرق أحكموا العلوم الشرعية والعقلية، وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي، وإلزامهم الطاعات، واغتروا بعلمهم، وظنوا أنهم من الله بمكان، ولو نظر هؤلاء بعين البصيرة، علموا أن علم المعاملة لا يراد به إلا العمل، ولولا العمل لم يكن له قدر. قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] ولم يقل: قد أفلح من تعلم كيف يزكيها، فإن تلا عليه الشيطان فضائل أهل العلم، فليذكر ما ورد في العالم الفاجر، كقوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176]، و {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]. ومنهم فرقة أخرى أحكموا العلم والعمل الظاهر، ولم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا الصفات المذمومة منها، كالكبر والحسد والرياء، وطلب العلو، وطلب الشهوة، فهؤلاء زينوا ظاهرهم، وأهملوا بواطنهم، ونسوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".

فتعاهدوا الأعمال، ولم يتعاهدوا القلوب، والقلب هو الأصل، إذ لا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم. ومثال هؤلاء كمثل رجل زرع زرعاً، فنبت معه حشيش يفسده، فامر بقلعه، أخذ يجز رؤوسه وأطرافه ويترك أصوله، فلم تزل أصوله تقوى. وفرقة أخرى علموا أن هذه الأخلاق الباطنة مذمومة، إلا أنهم بعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها، وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك، وإنما يبتلى بذلك العوام دون من بلغ مبلغهم من العلم، فإذا ظهر عليهم مخايل الكبر والرياسة. قال أحدهم: ما هذا بكبر، وإنما هو طلب عز الدين، وإظهار شرف العلم، وإرغام المبتدعين، فإني لو لبست الدون من الثياب، وجلست في الدون من المجالس، شمتت بى أعداء الدين، وفرحوا بذلى، وفى ذلي ذل الإسلام، وينسى الغرور، وأن إبليس هو الذي سول له هذا بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا يتواضعون ويؤثرون الفقر والمسكنة. وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه لما قدم الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره، ونزع خفيه وأمسكهما، وخاض الماء، ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: لقد صنعت اليوم صنعاً عظيماً عند أهل الأرض، فصك في صدره وقال: أوه لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة. إنكم كنتم أذل وأحقر الناس، فأعزكم الله برسوله، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله (¬1). وفى رواية عنه: لما قدم الشام، استقبله الناس وهو على بعيره. قيل له: لو ركبت برذوناً تلقى به عظماء الناس ووجوههم؟ فقال عمر رضى الله عنه: لا أراكم هاهنا، إنما الأمر من هاهنا -وأشار بيده إلى السماء- خلوا سبيل جملي. ثم العجب من مغرور يطلب عز الدنيا بالثياب الرفيعة، والخيول الفارهة ونحو ذلك، وإذا خطر له خاطر الرياء قال: إنما غرضي بهذا إظهار العلم والعمل، لاقتداء الناس بى ليهتدوا إلى الدين، ولو كان هذا قصده لفرح باقتداء الناس بغيره كما يفرح باقتدائهم به، لأن من كان قصده صلاح الخلق يفرح بصلاحهم على يد من كان، ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 82، وإسناده صحيح.

وكذلك من يدخل منهم على سلطان، ويتودد إليه، ويثنى عليه، ويتواضع له ويقول: إنما غرضي بهذا أن أشفع في مسلم عنه الضرر، والله يعلم أنه لو أظهره لبعض أقرانه قبول عند السلطان لثقل عليه ذلك. وقد ينتهي غرور بعضهم أنه يأخذ من مالهم الحرام ويقول: هذا مال لا ملك له، وهو لمصالح المسلمين، وأنت إمام من أئمتهم، فيغير بهذا التلبيس من جهة نظره إلى نفسه. وربما كان دجالاً من الدجالين من جهة قوله: هذا مال لا ملك له. وغاية الأمر وقوع الاختلاط في الأموال، وذلك لا يمنع كونهما حراماً، وقد يكون عالماً بمن أخذ منه المال. وفرقة أخرى أحكموا العلم، وطهروا جوارحهم وزينوها بالطاعات، وتفقدوا قلوبهم بتصفيتها من الرياء والحسد والكبر ونحو ذلك، ولكن بقيت في زوايا القلب خفايا من مكائد الشيطان وخدع النفس لم يفطنوا لها وأهملوها، فترى أحدهم يسهر ليله وينصب (¬1) نهاره في جمع العلوم وترتيبها وتحسين ألفاظها، ويرى أن باعثه على ذلك الحرص على إظهار دين الله تعالى، وربما كان الباعث لذلك طلب الذكر وانتشار الصيت، ولعله لا يخلو في تصنيفه من الثناء على نفسه، إما صريحاً بالدعاوى الطويلة العريضة، وإما ضمناً بالطعن في غيره ليبين في طعنه في غيره أنه أفضل من ذلك الغير، وأعظم منه علماً. فهذا وأمثاله من خفايا العيوب التي لا يفطن لها إلا الأكياس الأقوياء، ولا مطمع فيه لأمثالنا من الضعفاء، إلا أن أقل الدرجات أن يعرف الإنسان عيوب نفسه، ويحرص على صلاحها. ومن سرته حسنته وساءته سيئته، فهو مرجو أمره، بخلاف من يزكى نفسه ويظن أنه من خيار الخلق. فهذا غرور الذين حصلوا العلوم المهمة، فكيف بالذين قنعوا من العلوم بما لا يهمهم وتركوا المهم. فمنهم من اقتصر على علم الفتاوى في الحكومات والخصومات وتفاصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لصلاح المعايش، وربما ضيعوا الأعمال الظاهرة وارتكبوا بعض المعاصي من الغيبة والنظر إلى ما لا يحل، والمشى إلى ما لا يجوز، ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والحسد والرياء وجميع المهلكات، فهؤلاء مغرورون من وجهين: أحدهما من حيث العمل، والآخر من حيث العلم ¬

_ (¬1) أي يتعب.

ومثالهم مثال المريض إذا تعلم نسخة الدواء واشتغل بتكراره وتعليمه، لا بل مثلهم مثل من به علة البرسام وهو مشرف على الهلاك، فاشتغل بتعلم دواء الاستحاضة، وجعل يكرر ذلك، وذلك غاية الغرور. وسبب غروره ما سمع في النقل من تعظيم الفقه، ولم يدر أن الفقه هو الفقه عن الله تعالى، ومعرفة صفاته المخوفة والمرجوة، ليستشعر القلب الخوف ويلازم التقوى. وقد قال الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} الآية [التوبة: 122]. والذي يحصل له الإنذار غير هذا العلم، فان مقصود هذا العلم حفظ الأموال بشروط المعاملات، وحفظ الأبدان بالأموال، ودفع القتل والجراحات والمال في طريق الله تعالى آلة، والبدن مركب. وإنما العلم المهم معرفة سلوك الطريق، وقطع عقابات القلب التي هي من الصفات المذمومة، فهي الحجاب بين العبد وبين الله تعالى. ومثال من اقتصر على ذلك، كمثل من اقتصر في سلوك الحج على علم خرز الراوية والخف، ولا شك أنه لابد من ذلك: ولكن ليس من الحج في شئ. ومن هؤلاء من اقتصر على علم الخلاف، ولم يهمه إلا طريق المجادلة، والإلزام، والإفحام، ودفع الحق لأجل الغلبة، فهو أسوأ حالاً ممن ذكر قبلهم، وجميع دقائق الجدل في الفقه بدعة لم يعرفها السلف. وأما أدلة الأحكام، فيشتمل عليها علم المذهب، وهى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وأما حيل الجدل، من الكسر، والقلب، وفساد الوضع والتركيب، والتعدية فإنما أبدعت لإظهار الغلبة والإفحام. وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم الكلام والمجادلة في الأهواء، والرد على المخالفين. ثم هؤلاء طائفتان: ضالة، ومحقة، فالضالة التي تدعو إلى غير السنة، والمحقة التي تدعو إلى السنة، والغرور شامل لجميعهم. أما الضالة، فاغترارها ظاهر، وأما المحقة فاغترارها من حيث إنها ظنت أن الجدال أهم الأمور، وأفضل القربات في دين الله تعالى، وزعمت أنه لا يتم لا حد دينه

ما لم يبحث، وأن من صدق الله ورسوله من غير تحرير دليل، فليس بكامل الإيمان، فلهذا الظن الفاسد قطعوا أعمارهم في تعلم الجدل والبحث عن المقالات، وعميت بصائرهم، فلم يلتفتوا إلى القرن الأول، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهد لهم بأنهم خير الخلق، وأنهم قد أدركوا كثيراً من البدع والهوى، فلم يجعلوا أعمارهم ودينهم عرضاً للخصومات والمجادلات، ولم يشتغلوا بذلك عن تفقد قلوبهم وجوارحهم، بل لم يتكلموا فيه إلا لضرورة رد الضلال، فان رأوه مصراً على بدعته هجروه من غير مماراة ولا جدل. وقد روى في الحديث: "ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل". وفرقة أخرى اشتغلوا بالوعظ، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب، من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإخلاص، وهم يظنون أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات وهم منفكون عنها أنهم من أهلها، فهؤلاء يدعون إلى الله وهم هاربون منه، فهم أعظم الناس غرة. ومن هؤلاء من يعدل عن المنهاج الواجب في الوعظ إلى الشطح وتلفيق كلام خارج عن قانون الشرع والعقل طلباً للأغراب. ومنهم من يستشهد بأشعار الوصال والفراق، وغرضهم أن يكثر الصياح مجالسهم والتواجد، ولو على أغراض فاسدة، فهؤلاء شياطين الإنس. ومنهم فرقة استغرقوا أوقاتهم في سماع الحديث، وجمع رواياته، وأسانيده الغريبة والعالية، فهم أحدهم أن يدور البلاد، ويرى الشيوخ ليقول: أنا أروى عن فلان، ولقيت فلاناً، ولى من الإسناد ما ليس لغيري. ومنهم فرقة اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر، وزعموا أنهم علماء الأمة، وأذهبوا أعمارهم في دقائق النحو واللغة، ولو عقلوا لعلموا أن مضيع عمره في معرفة لغة العرب كالمضيع عمره في معرفة لغة الترك، وإنما فارقتها لغة العرب لأجل ورود الشريعة بها، فيكفى من اللغة على الغريبين: غريب القرآن، والحديث، ومن النحو ما يقوم به اللسان. فأما التعمق إلى درجات لا تتناهى، فذلك يشغل عما هو أجود منه وألزم.

الصنف الثاني: أرباب التعبد والعمل، وهم فرق

ومثال التعمق في ذلك، مثال من ضيع عمره في تصحيح مخارج الحروف في القرآن، مقتصراً على ذلك، وذلك غرور، لأن المقصود من الحروف المعاني، وإنما الحروف ظروف وأدوات، ومن احتاج إلى شرب السكنجبين لإزالة الصفراء، فضيع عمره في تحسين القدح الذي يشرب فيه، فهو مغرور، والسعيد من أخذ من كل شئ من هذا حاجته المهمة لا غير، وتجاوز إلى العمل، واجتهد فيه وفى تصفيته من الشوائب، فهذا هو المقصود. وفرقة أخرى عظم غرورهم، فوضعوا الحيل في دفع الحقوق، وظنوا أن ذلك ينفعهم، بل ذلك غرور، فان الإنسان إذا ألجأ زوجته إلى أن تبرئه من حقها لم يبرأ فيما بينه وبين الله تعالى. وكذلك هبة الرجل مال الزكاة في آخر الحول لزوجته، واتهابه مالها لإسقاط الزكاة، ونحو ذلك من أنواع الحيل. الصنف الثاني: أرباب التعبد والعمل، وهم فرق: فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالنوافل الفضائل، وربما تعمقوا في استعمال الماء حتى خرجوا إلى الوسوسة في الوضوء، فترى أحدهم لا يرضى بالماء المحكوم له بالطهارة شرعاً، بل يقدر الاحتمالات البعيدة في التنجس، ولا يقدر ذلك في مطعمه، فلو انقلب هذا الاحتياط من الماء إلى المطعم، لكان أشبه بسير السلف، فإن عمر رضى الله عنه توضأ من جرة نصرانية مع ظهور احتمال النجاسة، وكان مع هذا يدع أنواعاً من الحلال خوفاً من الوقوع في الحرام. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ من مزادة مشركة (¬1). ثم منهم من يخرج إلى الإسراف في الماء، ويطول به الأمر، حتى تضيع الصلاة ويخرج وقتها. ومنهم من غلبت عليه الوسوسة في تكبيرة الإحرام في الصلاة، حتى ربما فاتته ركعة مع الإمام. ¬

(¬1) الخبر مطولاً في البخاري 1/ 379، 384 من حديث عمران، وفيه أن أحد الصحابة كانت قد أصابته جنابة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم إناء من ماء أخذه من مزادة مشركة، وقال له: اذهب فأفرغه عليك.

ومنهم من يتوسوس في إخراج حروف الفاتحة وسائر الأذكار من مخارجها، فلا يزال يحتاط في التشديدات، والفرق بين الضاد والظاء فوق الحاجة، ونحو ذلك، بحيث يهتم بذلك حتى لا يتفكر فيما سواه، ويذهل عن معنى القرآن والاتعاظ به، وهذا من أٌقبح أنواع الغرور فان الخلق لم يتكلفوا من تحقيق مخارج الحروف في تلاوة القرآن إلا بما جرت به العادة في الكلام. ومثال هؤلاء مثال من حمل رسالة إلى سلطان، فأخذ يؤدى الرسالة بالتأنق في مخارج الحروف وتكراره، وهو غافل عن مقصود الرسالة ومراعاة حرمة المجلس، فما أحراه بالطرد والتأديب. وفرقة أخرى اغتروا بقراءة القرآن، فهم يهذونه هذاً، وربما ختموا في اليوم مرتين، فلسان أحدهم يجرى به وقلبه يتردد في أودية الأمانى، ولا يتفكر في معاني القرآن ولا يتعظ بمواعظه، ولا يقف عند أوامره ونواهيه، فهذا مغرور يظن أن المقصود من القرآن التلاوة فقط. ومثال ذلك، مثال عبد كتب إليه مولاه كتاباً يأمره فيه وينهاه، فلم يصرف عنايته إلى فهمه والعمل به، بل اقتصر على حفظه وتكراره، ظاناً أن ذلك هو المراد منه، مع مخالفته أمر مولاه ونهيه. ومنهم من يلتذ بصوته بالقرآن، معرضاً عن معانيه، فينبغي أن يتفقد قلبه فيعرف هل التذاذه بالنظم، أو بالصوت، وبالمعاني. وفرقة أخرى اغتروا بالصوم وأكثروا منه، وهم لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة والفضول، ولا بطونهم من الحرام عند الإفطار، ولا خواطرهم عن الرياء. ومنهم من اغتر بالحج، فيخرج إليه من غير خروج عن المظالم، وقضاء الديون، واسترضاء الوالدين، وطلب الزاد الحلال، وقد يفعلون ذلك بعد سقوط فرض الحج، ويضيعون في الطريق العبادة والفرائض ويعجزون عن طهارة الثوب والبدن، ولا يحترزون من الرفث والخصام، وهم مع ذلك يظنون انهم على خير وهم مغرورون. وفرقة أخرى أخذوا في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ونسوا أنفسهم. ومنهم من يؤم في مسجد، ولو تقدم عليه أورع منه وأعلم، ثقل عليه.

الصنف الثالث: المتصوفة

ومنهم من يؤذن ويظن أن ذلك لله، ولو أذن غيره في غيبته، أشتد عليه ذلك وقال: قد زاحمني في مرتبتي. ومنهم من يجاور بمكة أو المدينة وقلبه متعلق ببلاده، وقول الناس: فلان مجاور بمكة أو المدينة، ثم إنه يجاور ويطمع في أوساخ الناس، وقد يجمع ذلك ويشح به ويجتمع له جملة من المهلكات. وما من عمل إلا وفيه آفات، فمن لم يعرفها وقع فيها، ومن أراد أن يعرفها، فلينظر في كتابنا هذا، فينظر في آفات الرياء الحاصل في العبادات من الصوم والصلاة وفى جميع القربات في الأبواب المرتبة في هذا الكتاب، وإنما الغرض الآن الإشارة إلى مجامع ما سبق. وفرقة أخرى زهدت في المال، وقنعت بالدون من اللباس والطعام، وقنعت من المسكن بالمساجد، فظنت أنها أدركت رتبة الزهاد، وهم مع هذا شديدو الرغبة في الرياسة والجاه، فقد تركوا أهون الأمرين وباؤوا بأعظم المهلكين. وفرق أخرى حرصت على النوافل، ولم تعتن بالفرائض، فترى أحدهم يفرح بصلاة الضحى وصلاة الليل، ولا يجد للفريضة لذة. ولا يحرص على المبادرة إليها في أول الوقت، وينسى قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: "ما تقرب المتقربون إلا بمثل أداء ما افترضت عليهم" (¬1). الصنف الثالث: المتصوفة. والمغرورون منهم فرق: فرقة منهم اغتروا بالزي والنطق والهيئة، فتشبهوا بالصادقين من الصوفية بالظاهر، ولم يتعبوا أنفسهم في المجاهدة والرياضة، ثم هم يتكالبون على الحرام والشبهات ¬

_ (¬1) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري 11/ 292، 296 من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن الله تعالى قال: من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشىء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" والمراد بالولي: العالم المواظب على طاعة الله ورسوله، المخلص في عبادته، وقد اتفق العلماء ممن يعتد بقوله أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته. وقال أبو سليمان الخطابي: هذه أمثال، والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، وتيسير المحبة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه، ويحفظه عن مواقعة ما يكره الله من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره، ومن البطش فيما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله.

وأموال السلاطين ويمزق بعضهم أعراض بعض إذا اختلفوا في غرض، وهؤلاء غرورهم ظاهر. ومثالهم مثال عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال من المقاتلين تثبت أسماؤهم في الديوان، ويقطع كل واحد منهم قطراً من أقطار الأرض، فاشتاقت نفسها إلى ذلك، فلبست درعاً ووضعت على رأسها مغفراً، وتعلمت من رجز الأبطال أبياتاً، وتعلمت زيهم وجمع شمائلهم، ثم توجهت إلى العسكر، فكتب اسمها في ديوان الشجعان، فلما حضرت في ديوان العرض، أمرت بتجريد المغفر والدرع لينظر ما تحته وتمتحن بالمبارزة، فلما جردت إذا هي عجوز ضعيفة زمنة، فقيل لها: جئت تستهزئين بالملك وأهل حضرته، خذوها وألقوها بين أيدي الفيل، فألقيت إليه. فهكذا يكون حال المدعين التصوف في القيامة إذا كشف عنهم الغطاء، وعرضوا على الحاكم الأكبر الذي ينظر إلى القلب لا إلى المرقعات والزي. وفرقة أخرى ادعت علم المعرفة، ومشاهدة الحق، ومجاورة المقامات والأحوال، والوصول إلى القرب، ولا يعرفون من تلك الأمور إلا الأسماء، فترى أحدهم يرددها ويظن أن ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين، فهو ينظر إلى الفقهاء والمحدثين وأصناف العلماء بعين الازدراء، فضلاً عن العوام، حتى إن بعض العامة يلازمهم الأيام الكثيرة، ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة، ويرددها كأنه يتكلم عن الوحى، ويحتقر في ذلك جميع العلماء والعباد، ويقول: إنهم محجوبون عن الله، وإنه هو الواصل إلى الحق، وإنه من المقربين، وهو عند الله من الفجار المنافقين، وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين، لم يحكم علماً ولم يهذب خلقاً، ولم يراقب قلباً سوى اتباع الهوى وحفظ الهذيان. وفرقة منهم طووا بساط الشرع، ورفضوا الأحكام، وسووا بين الحلال والحرام، وبعضهم يقول: إن الله مستغن عن عملي فلم أتعب نفسي؟ وبعضهم يقول: لا قدر للأعمال بالجوارح، وإنما النظر إلى القلوب، وقلوبنا والهة بحب الله تعالى، وواصلة إلى معرفته، وإنما نخوض في الدنيا بأبداننا، وقلوبنا عاكفة في الحضرة الربانية، فنحن مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب، ويزعمون انهم قد تراقوا عن رتبة العوام، واستغنوا عن تهذيب النفس بالأعمال البدنية، وأن الشهوات

الصنف الرابع: أرباب الأموال

لا تصدهم عن طريق الله تعالى لقوتهم فيها، ويرفعون أنفسهم عن درجة الأنبياء، لأن الأنبياء عليهم السلام كانوا يبكون على خطيئة واحدة سنين. وأصناف غرور أهل الإباحة لا تحصى، وكل ذلك أغاليط ووساوس، خدعهم الشيطان بها، لاشتغالهم بالمجاهدة قبل إحكام العلم، من غير اقتداء بشيخ صاحب علم ودين صالح للاقتداء به. ومنهم فرقة أخرى جاوزوا هذه الطريق، واشتغلوا بالمجاهدة، وابتدؤوا بسلوك الطريق وانفتح لهم باب المعرفة، فلما استنشقوا مبادئ ريح المعرفة، تعجبوا منها وفرحوا بها وأعجبهم غريبها، فتقيدت قلوبهم بالالتفات إليها والتفكر فيها، وكيفية انفتاح بابها عليهم وانسداده عن غيرهم، وكل ذلك غرور، لأن عجائب طريق الله سبحانه وتعالى ليس لها نهاية. ولو وقف مع كل أعجوبة وتقيد بها، قصرت خطاه وجره الوصل إلى القصد، وكان مثاله مثال من قصد ملكاً، فرأى على بابه روضة فيها أزهار لم يكن رأى مثلها، فوقف ينظر إليها حتى فاته الوقت الذي يمكن فيه لقاء الملك. الصنف الرابع: أرباب الأموال: وهم فرق: ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وما يظهر للناس ويكتبون أسماءهم عليها ليتخلد ذكرهم، ويبقى بعد الموت أثرهم، ولو كلف أحدهم أن ينفق ديناراً ولا يكتب اسمه في الموضع الذي أنفق عليه لشق عليه، ولولا أنه يريد وجه الناس لا وجه الله، لما شق عليه ذلك، فإن الله يطلع عليه، سواء كتب اسمه أو لم يكتبه. وبعضهم يصرف المال في زخرفة المساجد، وتزيينه بالنقوش التي هي منهي عنها وشاغلة للمصلين، فإن المقصود من الصلاة الخشوع وحضور القلب، وذلك يفسد قلوب المصلين. فأما إن كان المال الذي صرفه في ذلك حراماً، كان أشد في الغرور. قال مالك بن دينار رحمه الله: أتى رجل مسجداً، فوقف على الباب وقال، مثلى لا يدخل بيت الله، فكتب في مكانه صديقاً. فبهذا ينبغي أن تعظم المساجد، وهو أن يرى تلويث المسجد بدخوله فيه بنفسه

جناية على المسجد، لا أن يرى تلويث المسجد بالحرام، أو بزخرف الدنيا منه على الله تعالى، فغرور هذا من حيث أنه يرى المنكر معروفاً. وفرقة أخرى يحفظون الأموال ويمسكونها بخلاً، ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا تحتاج إلى نفقة المال، كالصيام والصلاة وختم القرآن، وهم مغرورون لأن البخل مهلك، وقد استولى على قلوبهم، فهم محتاجون إلى قمعه بإخراج المال، فقد اشتغلوا عنه بفضائل لا تجب عليهم. ومثالهم مثال من دخلت في ثوبه حية، فاشتغل عنها بطبخ السكنجبين لتسكن به الصفراء. ومنهم من لا تسمح نفسه إلا بأداء الزكاة فقط، فيخرج الرديء من المال، أو يعطى من الفقراء من يخدمه، ويتردد في حاجاته، أو من يحتاج إليه في المستقبل أو من له فيه غرض. ومنهم من يسلم من ذلك إلى بعض الأكابر ليفرقه، لينال بذلك عنده منزلة ويقوم بحوائجه، وكل ذلك مفسد للنية وصاحبه مغرور، لأنه يطلب بعبادة الله تعالى عوضاً عن غيره. وفرقة أخرى من أرباب الأموال وغيرهم، اغتروا بحضور مجالس الذكر، وظنوا أن نفس الحضور يغنيهم عن العمل والاتعاظ، وليس كذلك، لأن مجلس الذكر إنما فضل لكونه مرغباً في الخير، وكل ما يراد لغيره إذا لم يوصل إلى ذلك الغير فلا وقع له، وربما سمع أحدهم التخويف، فلا يزيد على قوله: يا سلام سلم، أو أعوذ بالله، ويظن أنه قد أتى المقصود. ومثال هذا كمثل مريض يحضر عند الأطباء فيسمع ما يجرى، أو الجائع يحضر عند من يصف له الأطعمة اللذيذة، ثم ينصرف فلا يغنى ذلك عنه. فكذلك سماع وصف الطاعات دون العمل بها، فكل وعظ لم يغير منك صفة تتغير بها أفعالك، فهو حجة عليك. فإن قيل: فما ذكرته من مداخل الغرور أمر لا يكاد يخلص منه. فالجواب: أن مدار أمر الآخرة على معنى واحد، وهو تقويم القلب، ولا يعجز

عن ذلك إلا من لم تصدق نيته، فإن الإنسان لو اهتم بأمر الآخرة كما يهتم بأمر الدنيا لنالها. وقد فعل ذلك السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان. ويستعان على التخلص من الغرور بثلاثة أشياء. العقل: وهو النور الأصلي الذي يدرك به الإنسان حقائق الأشياء. والمعرفة: التي يعرف بها الإنسان نفسه وربه ودنياه وأخرته. وفى كتاب المحبة، وشرح عجائب القلب، والتفكر، وكتاب الشكر إشارات إلى وصف النفس، ووصف جلال الله سبحانه. ويستعين على معرفة الدنيا والآخرة بما ذكر في كتاب "ذم الدنيا" وكتاب "ذكر الموت"، فإذا حصلت هذه المعارف، ثار من القلب بمعرفة الله تعالى حب الله، وبمعرفة الآخرة حب شدة الرغبة فيها، وبمعرفة الدنيا شدة الرغبة عنها، فيصير أهم أموره إليه ما يوصله إلى الله تعالى، وينفعه في الآخرة، وإذا غلبت هذه الإرادة على قلب، صحت نيته في الأمور كلها، واندفع عنه كل غرور. فإذا غلب حب الله تعالى على قلبه لمعرفته به وبنفسه، واحتاج إلى الأمر الثالث وهو العلم، ونعنى به العلم بكيفية سلوك الطريق إلى الله تعالى وآفاتها، والعلم بما يقربه منه ويهديه، وجميع ذلك في كتابنا هذا. فيعرف من ربع العبادات والعادات ما هو محتاج إليه، وما هو مستغن عنه، ويتأدب بأدب الشرع. ويعرف من ربع المهلكات جميع العقبات المانعة من طريق الله تعالى، وهى الصفات المذمومة في الخلق. ويعرف من ربع المنجيات الصفات المحمودة التي لابد أن توضح خلفاً من المذمومة بعد محوها، فإذا أحاط بجميع ذلك، أمكنه الحذر من الأنواع التي أشرنا إليها من الغرور، والله أعلم. وإذا فعل جميع ذلك ينبغي أن يكون خائفاً أن يخدعه الشيطان، ويدعوه إلى الرياسة ويخاف عليه أيضاً من الأمن من مكر الله تعالى.

ولذلك قيل: والمخلصون على خطر عظيم (¬1). وقال الإمام احمد رحمه الله للشيطان حين قال له عند الموت: فُتَّني. فقل: لا بعد. فلا ينبغي أن يفارق الخوف قلوب الأولياء أبداً. نسأل الله تعالى السلامة من الغرور، وحسن الخاتمة، إنه قريب مجيب. آخر الغرور. وبه تم ربع المهلكات، ونشرع الآن في ربع المنجيات. ¬

_ (¬1) قطعة من خبز موضوع طالما تردد على ألسنة القصاص الذين لا يكفون عن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفظه بتمامه كما أورده العجلوني في "كشف الخفاء": "الناس كلهم موتى، إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم غرقى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم" وبعضهم يرويه: هلكى في الكل، ونقل عن الصغاني قوله: وهذا حديث مفترى ملحون.

الربع الرابع: ربع المنجيات كتاب التوبة وذكر شروطها وأركانها وما يتعلق بذلك

الربع الرابع: ربع المنجيات كتاب التوبة وذكر شروطها وأركانها وما يتعلق بذلك اعلم: أن الذنوب حجاب عن المحبوب، والانصراف عما يبعد عن المحبوب واجب. وإنما يتم ذلك بالعلم والندم والعزم، فإنه متى لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن المحبوب، لم يندم على الذنوب، ولم يتوجع بسبب سلوكه طريق البعد، وإذا لم يتوجع لم يرجع. وقد أمر الله تعالى بالتوبة فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَميعاً أَيُّها المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفْلِحُونِ} [النور: 31] وقال سبحانه: {يَا أَيُّها الذينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى الله تَوْبَةً نَصُوحاً} الآية [التحريم: 8]. وقال: {إِنَّ الله يُحِبُّ التَوَّابينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ} [البقرة: 222]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرَّة". وفى "الصحيحين" من حديث ابن مسعود رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دَوِّيةٍ (¬1) مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته، عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته". والأحاديث في هذا كثيرة، والإجماع منعقد على وجوب التوبة، لأن الذنوب مهلكات مبعدات عن الله تعالى، فيجب الهرب منها على الفور. والتوبة واجبة على الدوام، فإن الإنسان لا يخلو عن معصية، لو خلا عن معصية بالجوارح لم يخل عن الهم بالذنب بقلبه، وإن خلا عن ذلك، لم يخل عن وسواس ¬

(¬1) الدو والدوي والدوية: الفلاة المستوية الواسعة البعيدة الأطراف، وربما قالوا: داوية

1 ـ فصل في بيان أقسام الذنوب

الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله تعالى، لو خلا عنه لم يخل عن غفلة وقصور في العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص، ولا يسلم أحد من هذا النقص، وإنما الخلق يتفاوتون في المقادير، وأما أصل ذلك، فلا بد منه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إنه ليغان على قلبي، فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة". ولذلك أكرمه الله تعالى بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] فأما غيره فكيف يكون حاله؟ ومتى اجتمعت شروط التوبة كانت صحيحة مقبولة، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25]. وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر". والأحاديث في ذلك كثيرة. 1 ـ فصل في بيان أقسام الذنوب أعلم: أن للإنسان أخلاقاً وأوصافاً كثيرة، لكن تنحصر مثارات الذنوب في أربع صفات: أحدها: صفات ربوبية، ومنها يحدث الكبر والفخر، وحب المدح والثناء، والعز وطلب الاستعلاء ونحو ذلك، وهذه ذنوب مهلكات، وبعض الناس يغفل عنها، فلا يعدها ذنوباً. الثانية: صفات شيطانية، ومنها يتشعب الحسد، والبغي والحيل والخداع والمكر، والغش والنفاق والأمر بالفساد ونحو ذلك. الثالثة: الصفات البهيمية، ومنها يتشعب الشر والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، فيتشعب من ذلك الزنى واللواطة والسرقة، وأخذ الحطام لأجل الشهوات. الرابعة: الصفات السبعية، ومنها يتشعب الغضب والحقد، والتهجم على الناس بالقتل والضرب، وأخذ الأموال، وهذه الصفات لها تدرج في الفطرة. فالصفة البهيمية هي التي تغلب أولاً، ثم تتلوها الصفة السبعية ثانياً، فإذا اجتمعت هاتان، استعملتا العقل في الصفات الشيطانية، من المكر والخداع والحيل، ثم تغلب الصفات الربوبية.

فهذه أمهات الذنوب ومنابعها، ثم تتفجر الذنوب من هذه المنابع إلى الجوارح، فبعضها في القلب، كالفكر، والبدعة، والنفاق، وإضمار السوء، وبعضها في العين، وبعضها في السمع، وبعضها في اللسان، وبعضها في البطن والفرج، وبعضها في اليدين والرجلين، وبعضها على جميع البدن، ولا حاجة إلى تفاصيل ذلك فإنه واضح. ثم الذنوب تنقسم إلى ما يتعلق بحقوق الآدميين، وإلى ما بين العبد وبين ربه. فما يتعلق بحقوق العباد، فالأمر فيه أغلظ، والذي بين العبد وبين ربه، فالعفو فيه أرجى وأقرب، إلا أن يكون شركاً والعياذ بالله، فذلك الذي لا يغفر. وقد روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله. فأما الديوان الذي لا يغفره الله تعالى، فالشرك. قال الله تعالى {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72]. وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله عز وجل، يغفر ذلك، ويتجاوز إن شاء. وأما الديوان الذي لا يترك منه شيئاً، فظلم العباد بعضهم بعض، فالقصاص لا محالة". قسمة أخرى: اعلم: أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد كثر الاختلاف فيها، واختلفت الأحاديث في عدد الكبائر. والأحاديث الصحاح في ذكرها خمسة. الأول: حديث أبى هريرة رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا يا رسول الله: وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".

الثاني: حديث ابن مسعود رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سئل أي الذنب أكبر؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك". الثالث: حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين". الرابع: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: قول الزور -أو قال- شهادة الزور". الخامس: حديث أبى بكرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرت عنده الكبائر قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور" فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. وقت اختلفت العلماء فيها على أقوال كثيرة، والأحاديث في الكبائر لا تدل على حصرها فيها، ولعل الشارع قصد الإبهام ليكون الناس على وجل من الذنوب، لكن يعرف من الأحاديث أجناس الكبائر، ويعرف أيضاً أكبر الكبائر. فأما أصغر الصغائر، فلا سبيل إلى معرفته، وقد تكلم العلماء في عدد الكبائر، فروى عن ابن مسعود رضى الله عنه: وهي أربع: وروى عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه قال: هي سبع. وكان ابن عباس رضى الله عنهما إذا بلغه قول عمر: إنها سبع، قال: هي إلى سبعين أقرب منها إلى سبع. وقال أبو صالح عن ابن عباس: هي ما أوجب الحد في الدنيا. وعن ابن مسعود أن الكبائر من فاتحة النساء إلى قولة: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31]. وقال سعيد بن جبير وغيره: هي كل ذنب أوعد الله عليه النار. وقال أبو طالب المكي: الكبائر سبع عشرة جمعتها من جملة الأخبار. أربعة في القلب: الشرك، والإصرار على المعصية، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله تعالى.

2 ـ فصل في كيفية توزع الدرجات في الآخرة على الحسنات والسيئات في الدنيا

وأربعة في اللسان: شهادة الزور، وقذف المحصنات، واليمين الغموس، والسحر. وثلاثة في البطن: شرب الخمر، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا. واثنتان في الفرج: الزنا واللواطة. واثنتان في اليدين: القتل والسرقة. وواحدة في الرجلين: الفرار من الزحف. واحدة في جميع البدن، وهى عقوق الوالدين. وهذا يمكن أن يزاد عليه، وينقص منه، فإن ضرب اليتيم وتعذيبه أكبر من أكل ماله، والله أعلم. 2 ـ فصل في كيفية توزع الدرجات في الآخرة على الحسنات والسيئات في الدنيا اعلم: أن الناس يتفاوتون في الآخرة، كما يتفاوتون في الدنيا، وينقسمون إلى أربعة أقسام: هالكين، ومعذبين، وناجين، وفائزين. ومثال ذلك أن يستولي ملك من الملوك على إقليم، فيقتل بعض أهله، ويعذب بعضهم ولا يقتلهم، ويخلى بعضهم، فهم الناجون، ويخلع بعضهم وهم الفائزون. وإذا كان الملك عادلاً، فلا يقسمهم كذلك إلا باستحقاق، ولا يقتل إلا جاحداً لاستحقاق الملك، معانداً له في أصل الولاية، ولا يعذب إلا من قصَّر في خدمته مع الاعتراف له بالملك، ولا يخلى إلا معترفا له بالملك، ولم يقصر، ولا يخلع إلا على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة، وكل واحد من هذه الأقسام يتفاوتون في النعيم والتعذيب على حسب أحوالهم، ويشهد لذلك ما ورد في الحديث أن من الناس من يمر على الصراط كالبرق الخاطف، ومنهم من يبقى في النار سبعة آلاف سنة، وبين اللحظة وسبعة آلاف سنة تفاوت كثير. وأما اختلاف العذاب بالشدة، فلا نهاية لأعلاه، وأدناه التعذيب بالمناقشة في الحساب، كما أن الملك قد يعذب بعض المقصرين في الأعمال بالمناقشة في

الحساب، ثم يعفو، وقد يضرب بالسياط أو يعذب بغيرها من أنواع العذاب. وتفاوت منازل أهل السعادة على نحو ذلك في النعيم، فهذه الأمور الكلية معلومة بالنقل ونور المعرفة. فأما من جهة التفصيل، فنقول: كل من أحكم أصل الإيمان، واجتنب جميع الكبائر، أحسن جميع الفرائض ولم يكن منه إلا صغائر متفرقة لا يصر عليها، فيشبه أن يعفى عنه، فقد نص القرآن على اجتناب الكبائر مكفر للصغائر. وهذا إما أن يلتحق بالمقربين، أو أصحاب اليمين، وذلك بحسب إيمانه، ويقينه، فإن قل أو ضعف، دنت منزلته، وإن كثر وقوى، علت منزلته. ثم إن المقربين يتفاوتون بحسب تفاوت معرفتهم بالله تعالى، ودرجات العارفين في المعرفة لا تنحصر، لأن بحر المعرفة لا ساحل له، وإنما يغوص فيه الغواصون بقدر قواهم، فأعلى درجات أصحاب اليمين، أدنى درجات المقربين، هذا حال من اجتنب الكبائر وأدى الفرائض. فأما من ارتكب، أو أهمل أركان الإسلام، فإنه إن تاب توبة نصوحاً قبل قرب الأجل، التحق بمن لم يرتكب، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والثوب المغسول كالذي لم يتسخ أصلاً. فأما إن مات قبل التوبة، فأمره خطر، إذ ربما يكون موته على الإصرار سبباً لتزلزل إيمانه، فيختم له بسوء الخاتمة، لا سيما إذا كان إيمانه تقليداً فإنه قابل للانحلال بأدنى شك وخيال، والعارف الموقن أبعد من أن يخاف عليه سوء الخاتمة. ثم إن عذاب الميت عن غير توبة يكون بحسب قبح الكبائر ومدة الإصرار. ثم ينزل البله المقلدون الجنة، وينزل العارفون المستبصرون أعلى عليين، وما ذكرناه من مراتب العباد في المعاد حكم ظاهر الأسباب، يضاهى حكم الطبيب على مريض بأنه يموت لا محالة، ولا يقبل إصلاح العلاج، وعلى مريض آخر بأن عارضه خفيف، وعلاجه هيَّن، فإن ذلك ظن يصيب غالباً، وقد تثوب إلى الهلاك نفسه من حيث لا يشعر الطبيب، وقد يساق إلى ذي العارض الخفيف أجله من حيث لا يطلع عليه، وذلك لأسرار الله تعالى الخفية، وفى أرواح الأحياء غموض للأسباب التي رتبها المسبب، وليس في قوة البشر الوقوف على كنهها، وكذلك الفوز والهلاك في الآخرة لهما أسباب خفية ليس في قوة

3 ـ فصل في بيان ما تعظم به الصغائر من الذنوب

البشر الاطلاع عليها، وكذلك يجوز العفو عن المعاصي وإن كثرت سيئاته، والغضب على المطيع وإن كثرت طاعاته الظاهرة، فإن الاعتماد على التقوى، والتقوى في القلب، وأحوال القلب قد تخفى على صاحبه، فكيف على غيره؟ وأما الناجون، ونعنى بالنجاة السلامة فقط دون السعادة والفوز، وهم قوم لم يخدموا فيخلع عليهم، ولم يقصروا فيعذبوا، ويشبه أن يكون هذا حال المجانين، وأولاد الكفار، والذين لم تبلغهم الدعوة، فلم يكن لهم معرفة، ولا جحود، ولا طاعة ولا معصية، ويصلح أن يكونوا على الأعراف. وأما الفائزون، فهم العارفون، وهم المقربون والسابقون، وهؤلاء الذين لم تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين، وليس حرصهم على الجنة، بل على لقاء الله سبحانه وتعالى والنظر إليه. ومثالهم مثال المحب، فإنه في تلك الحال غافل عن نفسه، لا يحس بما يصيبه في بدنه، ولا همَّ له سوى محبوبه، فهؤلاء الواصلون إلى قرة أعين، ولا تخطر على قلب بشر، فهذا القدر كافي بيان توزيع الدرجات على الحسنات. 3 ـ فصل في بيان ما تعظم به الصغائر من الذنوب اعلم: أن الصغيرة تكبر بأسباب: منها الإصرار والمواظبة. وفى الحديث من رواية ابن عباس رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار" (¬1). واعلم: أن العفو عن كبيرة قد انقضت ولم يتبعها مثلها، أرجى من العفو عن صغيرة يواظب عليها العبد. ومثال ذلك قطرات من الماء تقع على حجر متواليات، فإنها تؤثر فيه، ولو جمعت تلك القطرات في مرة وصبت عليه لم تؤثر، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم "أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل". ¬

_ (¬1) رواه أبو الشيخ ومن طريقه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث سعيد بن سليمان سعدويه، عن أبي شيبة الخراساني، عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس .. وأبو شيبة الخراساني قال البخاري: لا يتابع على حديثه، وقال الذهبي في "الميزان": أتى بخبر منكر رواه عنه سعدويه، فذكره وقد ذكره ابن المنذر في تفسيره من قول ابن عباس.

ومن الأسباب التي تعظم الصغائر أن يستصغر الذنب، فإن الذنب كلما استعظمه العبد، صغر عند الله تعالى، وكلما استصغره العبد، كبر عند الله تعالى، فإن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه وكراهيته له. قال ابن مسعود رضى الله عنه: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا. أخرجاه في "الصحيحين". وإنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله تعالى، فإذا نظر إلى عظمة من عصى، رأى الصغيرة كبيرة. وفى البخاري من حديث أنس رضى الله عنه: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الموبقات". وقال بلال بن سعد رحمه الله: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت. ومن الأسباب أن يفرح بالصغيرة ويتمدح بها، كما يقول: أما رأيتني كيف مزَّقت عرض فلان، وذكرت مساويه حتى خجلته، أو يقول التاجر: أما رأيت كيف روجت عليه الزائف، وكيف خدعته وغبنته، فهذا وأمثاله تكبر به الصغائر. ومنها أن يتهاون بستر الله تعالى وحلمه عنه وإمهاله إياه ولا يدرى أن ذلك قد يكون مقتاً ليزداد بالإهمال إثماً. ومنها أن يأتى الذنب ثم يذكره بمحضر من غيره، وفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره الله عليه، ويصبح يكشف ستر الله عنه". ومنها أن يكون المذنب عالماً يُقتدي به، فإذا علم منه الذنب، كبر ذنبه، كلبسه الحرير، ودخوله على الظلمة مع ترك الإنكار عليهم، وإطلاق اللسان في الأعراض، واشتغاله من العلوم بما لا يقصد منه إلا الجاه، كعلم الجدل، فهذه ذنوب يتبع العالم

4 ـ فصل في شروط التوبة

عليها، فيموت ويبقى شره مستطيراً في العالم، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه. وفى الحديث: "ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ". فعلى العالم وظيفتان: إحداهما: ترك الذنب، والثانية: إخفاؤه إذا أتاه. وكما تتضاعف أوزار العلماء إذا أُتبعوا على الذنوب، كذلك تتضاعف حسناتهم إذا أُتبعوا على الخير. وينبغى للعالم أن يتوسط في ملبسه ونفقته، وليكن إلى التقلل أميل، فإن الناس ينظرون إليه. وينبغى له الاحتراز مما يقتدي به فيه، فإنه متى ترخص في الدخول على السلاطين وجمع الحطام، فاقتدى به غيره، كان الإثم عليه، وربما سلم هو في دخوله، ولم يفهموا كيفية سلامته. وقد رأينا أن ملكاً كان يُكْرِهُ الناس على أكل لحم الخنزير، فجيء برجل عالم، فقال له حاجب الملك: قد ذبحت له جدياً فكل منه، فلما دخل قرب إليه فلم يأكل، فأمر بقتله، فقال له الحاجب: ألم أقل لك إنه جدى، فقال: ومن أين يعلم حالي من يقتدي بى. 4 ـ فصل في شروط التوبة واعلم: أن التوبة عبارة عن ندم يورث عزماً وقصداً، وذلك الندم يورث العلم بأن تكون المعاصي حائلا بين الإنسان وبين محبوبه. والندم هو توجع القلب عنده شعوره بفراق المحبوب، وعلامته طول الحزن والبكاء، فإن من استشعر عقوبة نازلة بولده أو من يعزُّ عليه، طال بكاؤه، واشتدت مصيبته، وأي عزيز أعز عليه من نفسه؟ وأي عقوبة أشد من النار؟ وأي سبب أدل على نزول العقوبة من المعاصى؟ وأى خبر أصدق من رسول الله؟ ولو أخبره طبيب أن ولده لا يبرأ من مرضه لاشتد في الحال حزنه، وليس ولده بأعز من نفسه، ولا الطبيب أعلم من

الله ورسوله، ولا الموت بأشد من النار، ولا المرضى أدل على الموت من المعاصي على سخط الله، والتعرض بها للنار. وينبغى للتائب أن يتفقد ما عليه من صلاة فائتة، أو بغير شرطها؟ مثل أن يكون صلاها في ثوب نجس، أو بنية غير صحيحة، لجهله بذلك، فيقضيها كلها. وكذلك إن كان عليه صوم، أو زكاة، أو حج، أو غير ذلك من الموجبات، يقضيها كلها، ويفتش على ذلك ويتداركه. وأما المعاصى، فينبغى أن يفتش من أول بلوغه عن معصية صدرت منه، وينظر فيها، فما كان من ذلك فيما بينه وبين الله تعالى، فالتوبة منه الندم والاستغفار. ثم ينظر إلى مقادير ذنوبه، فيطلب لكل معصية منه حسنة تناسبها، فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات. قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أتبع السيئة الحسنة تمحها". مثال ما ذكرنا: أن يكفر سماع الملاهي بسماع القرآن ومجالس الذكر، ويكفر مسح المصحف بغير طهارة بإكرامه وكثرة القراءة فيه، وإن أمكنه أن يكتب مصحفاً ويقفه فليفعل، ويكفِّر شرب الخمر بالتصدق بالشراب الحلال. وعلى هذا فاسلك سبيل المضادة، فإن الأمراض إنما تعالج بضدها، فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى. وأما مظالم العباد، ففيها أيضاً معصية الله تعالى، لأنه نهى عن ظلم العباد، فالظالم لهم قد ارتكب نهيه تعالى، فيتدارك ذلك بالندم والعزم على ترك مثل ذلك في المستقبل، والإتيان بالحسنات المضادة لتلك المظالم كما تقدم في القسم الأول. فيقابل إيذاء الناس بالإحسان إليهم، ويكفر غصب الأموال بالتصدق بماله الحلال، ويكفر تناول أعراضهم بالثناء على أهل الدين، ويكفر قتل النفوس بالعتق. هذا فيما يتعلق بحق الله تعالى، فإذا فعل ذلك، لم يكفه حتى يخرج من مظالم العباد. ومظالمهم إما في النفوس، أو الاموال، أو الأعراض، أو إيذاء القلوب. أما الأول: فإنه إذا قتل خطأ أو أوصل الدية إلى مستحقيها، إما منه أو من عاقلته، وإن قتل عمداً، وجب عليه القصاص بشروطه، فعليه أن يبذل نفسه لولى الدم، إن

5 ـ فصل [في شروط التوبة]

شاء قتله، وإن شاء عفا عنه، ولا يجوز له إخفاء أمره، بخلاف ما لو زنا، أو سرق، أو شرب الخمر، أو باشر ما يجب فيه حد لله تعالى، فإنه لا يلزمه فى التوبة أن يفضح نفسه، بل عليه أن يستر نفسه، فإن رفع أمره إلى الولي حتى أقام عليه الحد، وقد ذلك موقعه وكانت توبته صحيحة مقبولة عند الله تعالى، بدليل قصة ماعز والغامدية. وكذلك حد القذف، لابد فيه من تحكيم المستحق فيه. الثاني: المظالم المتعلقة بالأموال، نحو الغضب، والخيانة، والتلبيس فى المعاملات، فيجب عليه رد ذلك إلى أصحابه والخروج منه. وليكتب إلى أصحاب المظالم، وليؤدِّ إليهم حقوقهم، ويستحلهم، فإن كثر ظلمه بحيث لا يقدر على أدائه، فليفعل ما يقدر عليه من ذلك، ولم يبق له طريق إلا الاستكثار من الحسنات، لتؤخذ منه في القصاص يوم القيامة فتوضع فى موازين أرباب المظالم، فإنها إن تفي بذلك أخذ من سيئاتهم، فتوضع فوق سيئاته. هذا حكم المظالم الثابتة فى الذمة والأموال الحاضرة، فإن كان عنده أموال من شئ من ذلك لم يعرف مالكه ولا ورثته، تصدق به عنه، وإن اختلط الحلال بالحرام، عرف قدر الحرام بالاجتهاد، وتصدق بمقداره. الثالث: الجناية على الأعراض، وإيذاء القلوب، فعليه أن يطلب كل واحد منهم، وليستحله، وليعرفه قدر الجناية، فإن الاستحلال المبهم لا يكفى، وربما لو عرف ذلك لم تطب نفسه بالإحلال، إلا أن تكون تلك الجناية إذا ذكرت كثر الأذى، كسبته إلى عيب من خفايا عيوبه، أو كزنى بجارته، فليجتهد فى اللطف به والإحسان إليه، ثم ليستحله مبهماً، ولابد أن يبقى فى مثل ذلك مظلمة تجبر بالحسنات يوم القيامة، وكذلك من مات من هؤلاء فإنه يفوت أمره، ولا يتدارك إلا بكثير الحسنات، لتؤخذ منه عوضاً يوم القيامة، ولا خلاص إلا برجحان الحسنات. 5 ـ فصل [في شروط التوبة] ومن شروط التوبة الصحيحة العزم على أن لا يعود فى المستقبل إلى تلك الذنوب، ولا إلى أمثالها، ويعزم على ذلك عزماَ مؤكداً.

6 ـ بيان أقسام العباد في دوام التوبة

مثال ذلك المريض الذي يعلم أن الفاكهة تضر في مرضه، فيعزم عزماً جزماً أن لا يتناول شيئاً من الفاكهة ما دام في مرضه ذلك، فإن هذا العزم يتأكد في الحال وإن كان يتصور أن تغلبه الشهوة في ثاني الحال، ولكن لا يكون تائباً ما لم يتأكد عزمه في الحال، ولا يتصور أن يتم ذلك للتائب في أول مرة إلا بالعزلة، والصمت وقلة الأكل والنوم، وإحراز قوتٍ حلال، ويترك الشبهات والشهوات من المأكولات والملبوسات. قال بعضهم: من صدق في ترك الشهوة، وجاهد نفسه فيها سبع مرات، لم يبتل بها، وقال: من تاب من ذنب واستقام سبع سنين، لم يعد إليه أبداً. 6 ـ بيان أقسام العباد في دوام التوبة الناس في التوبة أربع طبقات: الطبقة الأولى: تائب يستقيم على التوبة إلى آخر عمره، ويتدارك ما فرّط من أمره، ولا يحدِّث نفسه بالعودة إلى ذنوبه، إلا الزلات التي لا ينفك عنها البشر في العادات، فهذه هي الاستقامة في التوبة، وصاحبها هو السابق بالخيرات. وتسمى هذه التوبة: النصوح، وتسمى هذه النفس: المطمئنة، وهؤلاء يختلفون منهم من سكنت شهوته تحت قهر المعرفة ففتر نزاعها، ومنهم من تنازعه نفسه وهو ملئ بمجاهدتها. الطبقة الثانية: تائب قد سلك طريق الاستقامة في أمهات الطاعات وكبائر الفواحش، إلا أنه لا ينفك عن ذنوب تعتريه، لا عن عمد، ولكنه يبتلى بها في مجارى أحواله من غير أن يقدم عزماً على الإقدام عليها، وكلما أتى شيئاً منها لام نفسه، وندم وعزم على الاحتراز من أسبابها، فهذه هي النفس اللوامة لأنها تلوم صاحبها على ما يستهدف له من الأحوال الذميمة، فهذه رتبة عالية أيضاً، وإن كانت نازلة عن الطبقة الأولى، وهى أغلب أحوال التائبين، لأن الشر معجون بطينة الآدمى، فقلما ينفك عنه، وإنما غاية سعيه أن يغلب خيره شره، حتى يثقل ميزانه، فترجح حسناته، فأما إن تخلو كفة السيئات، فبعيد. وهؤلاء لهم حسن الوعد من الله سبحانه وتعالى، إذ قال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32] والى هذه الرتبة الإشارة

7 ـ فصل [فيما ينبغي للتائب فعله]

بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله يحب المؤمن المُفتّن التواب" (¬1). الطبقة الثالثة: أن يتوب ويستمر على الاستقامة مدة، ثم تغلبه شهوته في بعض الذنوب، فيقدم عليها لعجزه عن قهر الشهوة، إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات، وترك جملة من الذنوب مع القدرة عليها والشهوة لها، وإنما قهرته شهوة واحدة أو شهوتان، وهو يود لو أقدره الله على قمعها، وكفاه شرها، فإذا انتهت ندم، لكنه يعد نفسه بالتوبة عن ذلك الذنب، فهذه هي النفس المسؤولة، وصاحبها من الذين قال الله تعالى فيهم: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} فأمر هذا من حيث مواظبته على الطاعات وكراهيته لما يتعاطاه مرجو لقوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] وعاقبته خطرة من حيث تأخيره وتسويفه، فربما يختطف قبل التوبة، فإن الأعمال بالخواتيم، فعلى هذا يكون الخوف من الخاتمة، وكل نفس يمكن أن يتصل به الموت، فتكون الخاتمة، فليراقب الأنفاس، وليحذر وقوع المحذور. الطبقة الرابعة: أن يتوب ويجرى مدة على الاستقامة، ثم يعود إلى الذنوب منهمكاً من غير أن يحدث نفسه بالتوبة، ومن غير أن يتأسف على فعله، فهذا من المصرين، وهذه النفس هي الأمارة بالسوء، ويخاف على هذا سوء الخاتمة. فإن مات هذا على التوحيد، فإنه يرجى له الخلاص من النار، ولو بعد حين، ولا يستحيل أن يشمله عموم العفو بسبب خفي لا يطلع عليه، إلا أن التعويل على هذا لا يصلح، فإن من قال: إن الله تعالى كريم، وخزائنه واسعة، ومعصيتي لا تضره، ثم تراه يركب البحار في طلب الدينار، فلو قيل له: فإذا كان الحق كريماً فاجلس في بيتك لعله يرزقك، استجهل قائل هذا وقال: إنما الأرزاق بالكسب فيقال له: هكذا النجاة بالتقوى. 7 ـ فصل [فيما ينبغي للتائب فعله] وقد ذكرنا أن التائب ينبغي له أن يأتى بحسنات تضاد ما عمل من السيئات، ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" رقم (605) و (810) من حديث علي رضي الله عنه، وفي سنده أبو عبد الله مسلمة الرازي لا يعرف وأبو عمرو البجلى، واسمه عبيدة بن عبد الرحمن، قال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به يروي الموضوعات عن الثقات وعبد الملك بن سفيان الثقفي مجهول. والمفتن بفتح التاء المشددة، أي: الممتحن بالذنب.

8 ـ فصل في دواء التوبة وطريق علاج حل عقد الإصرار

لتمحوها وتكفرها، والحسنات المكفرة تكون بالقلب واللسان والجوارح على حسب السيئات، فما كان بالقلب، فنحو التضرع والتذلل، وأما اللسان، الاعتراف بالظلم والاستغفار، مثل أن يقول: رب ظلمت نفسي فاغفر لي. روى في الحديث، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما من رجل يذنب ذنباً، فيتوضأ ويحسن الوضوء، ثم يصلى ركعتين، ويستغفر الله عز وجل، إلا غفر له". وأما الجوارح فبالطاعات، والصدقات، وأنواع العبادات. 8 ـ فصل في دواء التوبة وطريق علاج حل عقد الإصرار اعلم: أنه لا يقف على الدواء من لا يقف على الداء، إذ لا معنى بالدواء إلا مناقضة أسباب الداء، ولا يبطل الشيء إلا بضده، وسبب الإصرار الغفلة والشهوة، ولا تضاد الغفلة إلا بالعلم، ولا تضاد الشهوة إلا بالصبر على قطع الأسباب المحركة للشهوة. الغفلة رأس الخطايا، فلا دواء إذاً للتوبة إلا بمعجون يعجن من حلاوة العلم ومرارة الصبر، كما يجمع في السكنجبين حلاوة السكر وحموضة الخل، فيحصل بمجموعهما قمع الصفراء. والأطباء لهذا المرض هم العلماء، لأنه مرض القلوب ومرض القلوب أكثر من مرض الأبدان، وإنما صار مرضها أكثر لأمور: أحدها: أن المريض لا يدرى أنه مريض. الثاني: أن عاقبته غير مشاهدة في هذا العالم، بخلاف مرض الأبدان، فإن عاقبته مشاهد ينفر الطبع عنه، وما بعد الموت غير مشاهد، فقلّت النفرة عن الذنوب وإن علمها مرتكبها، فلذلك تراه يتكل على فضل الله في مرض القلب، ويجتهد في علاج البدن من غير اتكال. الأمر الثالث: وهو الداء العضال فقد الطبيب، فإن الأطباء هم العلماء، وقد مرضوا في هذه الأعصار، لأن الداء المهلك هو حب الدنيا، وقد غلب هذا الداء على

الأطباء، فلم يقدروا على تحذير الخلق استنكافاً من أن يقال لهم: فما لكم تأمرون بالعلاج وتنسون أنفسكم؟ فبهذا السبب عم الداء وانقطع الدواء. فإن قيل: فما ينبغي للواعظ سلوكه من الخلق؟ فالجواب: أن ذلك يطول، لكنا نشير إلى الأعمال النافعة في ذلك، وهى أربعة أنواع: الأول: أن يذكر ما في القرآن العزيز من الآيات المخوفة للمذنبين، وما ورد في الأخبار والآثار من ذلك، ويمزج ذلك بمدح التائبين. النوع الثاني: حكايات الأنبياء عليهم السلام، والسلف الصالح، وما أصابهم من المصائب بسبب الذنوب، كحال آدم عليه السلام، وما لقي في عصيانه الإخراج من الجنة، وما جرى لداود وسليمان ويوسف عليهم السلام، ولم يورد القرآن هذه الأشياء إلا للاعتبار. وكان من سعادتهم معالجتهم بذلك، والأشقياء يمهلون ليزدادوا إثما، ولأن عذاب الآخرة أشد، فينبغي أن يكثر من هذا على أسماع المصرين، فإنه نافع في تحريك دواعي التوبة. النوع الثالث: أن يقرر عندهم، أن تعجل العقوبة في الدنيا متوقع، وأن كل ما يصيب العبد من المصائب، فهو سبب جناياته، فرب عبد يتساهل في أمر الآخرة يخاف عقوبة الدنيا أكثر لفرط جهله، والذنوب قد يتعجل في الدنيا شؤمها، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" (¬1). وقال الفضيل بن عياض: إنى لأعصى الله، فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي. وقال أبو سليمان الداراني: الاحتلام عقوبة، ولا يفوت أحداً صلاة إلا بذنب يذنبه. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 5/ 277 و 280 و 282، وابن حبان (1090) والحاكم 1/ 493، وابن ماجة (4022) والطحاوي في "مشكل الآثار" 4/ 169 من حديث ثوبان رضى الله عنه وتمامه: "ولا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر وفي سنده جهالة أو انقطاع، لكن لقوله: "ولا يرد القدر إلا الدعاء ... " شاهد يحسن به.

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن المؤمن إذا أذنب كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر، صقل قلبه، وذلك الران الذي ذكر الله عز وجل في كتابه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحسن رحمه الله: الحسنة نور في القلب، وقوة في البدن، والسيئة ظلمة في القلب، ووهن في البدن. النوع الرابع: ذكر ما ورد من العقوبات في آحاد الذنوب، كشرب الخمر، والزنى، والقتل، والكبر، والحسد، والغيبة. وينبغى أن يكون طبيباً يعلم الداء، ويدرى كيف يصنع الدواء، فإن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أوصني، قال: "لا تغضب". وقال آخر: أوصني، فقال: "عليك باليأس مما في أيدي الناس". فكأنه تخايل في الأول مخايل الغضب، وفى الثاني مخايل الطمع. وهذا الذي ذكرنا هو علاج الغفلة، فيبقى علاج الشهوة، وطريق علاجها يؤخذ مما ذكرنا في كتاب " رياضة النفس " ولابد من الصبر، فإن المريض إنما يطول مرضه لتناوله ما يضره، وإنما يحمله على ذلك شدة شهوته، أو غفلته أو مضرته، فلابد من مرارة الصبر، وكذلك يعالج الشهوة في المعاصي، كالشاب مثلاً إذا غلبته شهوة، فصار لا يقدر على حفظ عينه وقلبه وجوارحه في السعى وراء الشهوة، فينبغي أن يستحضر المخوفات التي جاءت في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا اشتد خوفه تباعد عن الأسباب المهيجة للشهوة. والذي يهيج الشهوة من خارج، هو حضور المشتهى، والنظر إليه، وعلاجه: الجوع والصوم الدائم، وكل ذلك لا يتم إلا بصبر، ولا يصبر إلا عن خوف، ولا يخاف إلا عن علم، ولا يعلم إلا عن بصيرة، فأول الأمر حضور مجالس الذكر، والاستماع بقلب مجرد عن الشواغل، ثم التفكر فيما قيل، فينبعث الخوف، ويسهل الصبر، وتتيسر الدواعي لطلب العلاج، وتوفيق الحق سبحانه من وراء ذلك كله. فإن قيل: ما بال الإنسان يقع في الذنب مع علمه بقبح عواقبه؟ فعن ذلك أجوبة: منها: أن العقاب الموعود ليس بحاضر.

ومنها: أن المؤمن إذا أذنب لابد أن يعزم على التوبة، وقد وعد أن التوبة تجبر ما فعل، وطول الأمل غالب على الطباع، فلا يزال يسوف بالتوبة، فلما رجا التوبة أقبل على الذنب. ومنها: أنه يرجو عفو الله عنه، وعلاج هذه الأسباب أن يفكر في نفسه أن كل ما هو آتٍ قريب، والمسوف يبنى الأمر على ما ليس إليه، وهو البقاء، فلعله لا يبقى، وإن بقى فربما لا يقدر على الترك غداً كما يقدر عليه اليوم، وهل عجز عن الحال إلا لغلبة الشهوة وهى غير مفارقة له غداً؟ بل يتأكد بالاعتياد، ومن هذا هلك المسوفون، لأنهم يظنون الفرق بين المتماثلين، وما مثال المسوف إلا مثال من احتاج إلى قلع شجرة، فرآها قوية لا تنقطع إلا بمشقة شديدة، فقال: أؤخرها سنة ثم أعود إليها، وهو لا يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها، وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه، فالعجب من عجزه مع قوته عن مقاومتها في حال ضعفها، كيف ينظر الغلبة إذا ضعف وقويت. وأما انتظار عفو الله تعالى، فعفو الله سبحانه ممكن، إلا أن الإنسان ينبغي له الأخذ بالحزم، وما مثال ذلك إلا كمثل رجل أنفق أمواله كلها، وترك نفسه وعياله فقراء ينتظر من الله تعالى أن يرزقه العثور على كنز في خربة، وهذا ممكن إلا أن صاحبه ملقب بالأحمق، والله سبحانه وتعالى أعلم. ***

كتاب الصبر والشكر

كتاب الصبر (¬1) والشكر وهو شطران: الأول: فضل الصبر وحقيقته وأقسامه ونحو ذلك. وقد ذكر الله تعالى الصبر في القرآن في نحو من تسعين موضعاً، وأضاف إليه أكثر الخيرات والدرجات وجعلها ثمرة له، فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24]. وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137]. وقال: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96] وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. فما من قربة إلا أجرها بتقدير وحساب إلا الصبر، ولأجل كون الصوم من الصبر قال الله تعالى (¬2): "الصوم لى وأنا أجزى به". وقد وعد الله الصابرين بأنه معهم، وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم، فقال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] والآيات في هذا كثيرة. وأما الأحاديث، ففى "الصحيحين" من حديث أبى سعيد رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما أعطى أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر" وفى حديث آخر: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد" (¬3). وقال الحسن: الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله عزَّ وجل إِلا لعبد كريم عنده. وكان بعض العارفين في جيبه رقعة يخرجها كل ساعة فيطالعها، وفيها: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]. واعلم: أن الصبر من خاصية الإنسان، ولا يتصور في البهائم لنقصانها، وغلبة الشهوات عليها من غير شئ يقابلها، ولا يتصور الصبر أيضاً في الملائكة لكمالها، فإن الملائكة جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية، ولم تسلط عليهم شهوة صارفة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصدها عن حضرة الجلال. ¬

_ (¬1) انظر من منشورات دار البيان بدمشق كتاب "تسلية أهل المصائب" للمنبجي الحنبلي. (¬2) أي في الحديث القدسي. (¬3) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث علي مرفوعاً وهو ضعيف جداً، وروي عنه موقوفاً بسند ضعيف أيضاً.

1 ـ فصل [في أقسام الصبر]

وأما الإنسان فإنه يخلق في ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة، لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة، ثم شهوة النكاح، وليس له قوة الصبر، فإذا تحرك العقل وقوى، ظهرت مبادئ إشراق نور الهداية عند سن التمييز، ولكنها هداية قاصرة لا مرشد لها إلى المصالح الآخرة، فإذا عقد بمعرفة الشرع تلمح ما يتعلق بالآخرة وكثر سلاحه، إلا أن الطبع يقتضي ما يحب، وباعث الشرع والعقل يمنع، والحرب بينهما قائمة، ومعركة هذا القتال قلب العبد، فالصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوات، فإن ثبت حتى قهر الشهوة التحقق بالصابرين، وإن ضعف حتى غلبت الشهوة ولم يصبر على دفعها، التحق بأتباع الشياطين، وإذا ثبت أن الصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقاومة الهوى، فهذه المقاومة من خاصية الآدميين. 1 ـ فصل [في أقسام الصبر] اعلم أن الصبر على ضربين: أحدهما: بدني، كتحمل المشاق بالبدن، وكتعاطي الأعمال الشاقة من العبادات أو من غيرها. الضرب الآخر: هو الصبر النفساني على مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى، وهذا الضرب إن كان صبراً عن شهوة البطن والفرج، سمى عفة، وإن كان الصبر في قتال، سمى شجاعة، وإن كان في كظم غيظ سمى حلماً، وإن كان في نائبة مضجرة، سمى سعة صدر، وإن كان في إخفاء أمر سمى كتمان سر، وإن كان في فضول عيش سمى زهداً، وإن كان صبراً على قدر يسير من الحظوظ سمى قناعة. وأما المصيبة، فإنه يقتصر فيها على اسم الصبر، فقد بان بما ذكرنا أن أكثر أخلاق الإيمان داخلة في الصبر، وإن اختلفت الأسماء باختلاف المتعلقات. ثم اعلم أن العبد لا يستغني عن الصبر في كل حال من الأحوال، وذلك أن جميع ما يلقى العبد في الدنيا لا يخلو من نوعين: النوع الأول: ما يوافق هواه من الصحة، والسلامة والمال، والجاه، وكثرة العشيرة،

والأتباع، وجميع ملاذ الدنيا، فالعبد محتاج إلى الصبر في جميع هذه الأمور، فلا يركن إليها، ولا ينهمك في التلذذ بها، ويراعى حق الله تعالى في ماله بالإنفاق، وفى بدنه بالمعونة للحق. ومتى لم يضبط نفسه عن الانهماك في الملاذ والركون إليها، أخرجه ذلك إلى البطر والطغيان، حتى قال بعض العارفين: المؤمن يصبر على البلاء، ولا يصبر على العافية إلا صدِّيق. وقال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه: ابتلينا بالضراء فصبرانا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر. ولذلك قال الله تعالى: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9] وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]. فالرجل كل الرجل من يصبر على العافية، وهذا الصبر متصل بالشكر، فلا يتم إلا بالقيام بحق الشكر، وإنما كان الصبر على السراء شديداً، لأنه مقرون بالقدرة، والجائع عند غيبة الطعام أقدر على الصبر منه عند حضور الطعام اللذيذ. النوع الثاني المخالف للهوى وهو ثلاثة أقسام: أحدها: الطاعات، فيحتاج العبد إلى الصبر عليها، لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية. ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة، ومنا ما يكره بسبب البخل كالزكاة، ومنها ما يكره بسببها جميعاً كالحج والجهاد. ويحتاج المريد إلى الصبر على طاعته في ثلاثة أحوال: حال قبل العبادة، وهى تصحيح النية، والإخلاص والصبر على شوائب الرياء، وحال في نفس العبادة، وهى أن لا يغفل عن الله تعالى في أثناء العبادة، ولا يتكاسل عن تحقيق الآداب والسنن، فيلازم الصبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ من العمل.

الحالة الثالثة بعد الفراغ من العمل: وهى الصبر عن إفشائه، والتظاهر به لأجل الرياء والسمعة، وعن كل ما يبطل عمله، فمن لم يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى أبطلها. القسم الثاني: الصبر عن المعاصي، وما أحوج العبد إلى ذلك. ثم إن كان الفعل مما تيسر فعله، كمعاصي اللسان من الغيبة، والكذب والمراء ونحوه، كان الصبر عليه أثقل، فترى الإنسان إذا لبس حريراً استنكر ذلك، ويغتاب أكثر نهاره، فلا يستنكر ذلك. ومن لم يملك لسانه في المحاورات، ولم يقدر على الصبر، لم ينجه إلا العزلة. القسم الثالث: ما لا يدخل تحت الاختبار: كالمصائب، مثل موت الأحبة، وهلاك الأموال، وعمى العين، وزوال الصحة، وسائر أنواع البلاء، فالصبر على ذلك من أعلى المقامات، لأن سنده اليقين. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "من يرد الله به خيراً يصب به". وقريب من هذا القسم، الصبر على أذى الناس، كالذي يؤذى بقول أو فعل أو جناية على نفسه أو ماله، والصبر على ذلك يكون بترك المكافآت. والصبر على أذى الناس من أعلى المراتب، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]. وقال {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] وقال: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "الصبر ثلاثة: صبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، فمن صبر عن المصيبة حتى يردها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الأخرى كما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتبت له ستمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش، ومن صبر على المعصية كتب الله له تسعمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش مرتين" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبى الدنيا في "فضل الصبر" وأبو الشيخ في "الثواب" من حديث علي رضي الله عنه وسنده ضعيف.

2 ـ فصل [في آداب الصبر]

والأحاديث في فضائل الصبر كثيرة، منها: ما أخرجناه في "الصحيحين" عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله عز وجل بها عنه، حتى الشوكة يشاكها". وفى حديث آخر: "ما يصيب المسلم من وصب ولا نصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه". أخرجاه في "الصحيحين". وفى حديث آخر: "لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة، في جسده وفى ماله وفى ولده، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة". وفى حديث سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال "الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشى على الأرض وليس عليه خطيئة" قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: قال الله تعالى: " إذا وجهت إلى عبد من عبادي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل، استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً، أو أنشر له ديواناً" (¬1). 2 ـ فصل [في آداب الصبر] ومن آداب الصبر استعماله في أول صدمة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" حديث صحيح. ومن الآداب الاسترجاع عند المصيبة، لحديث أم سلمة رضى الله عنها وهو من رواية مسلم. ومن الآداب سكون الجوارح واللسان، فأما البكاء فجائز. قال بعض الحكماء: الجزع لا يرد الفائت، ولكن يسر الشامت. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عدي في "الكامل" والديلمي في مسند الفردوس، والحكيم الترمذي في النوادر من حديث أنس بن مالك، وسنده ضعيف كما قال الحافظ العراقي.

ومن حسن الصبر أن لا يظهر أثر المصيبة على المصاب، كما فعلت أم سليم امرأة أبى طلحة لما مات ابنها، وحديثها مشهور في "صحيح مسلم". وقال ثابت البنانى: مات عبد الله بن مطرف، فخرج مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن، فغضبوا، وقالوا: يموت عبد الله، ثم تخرج في ثياب من هذه مدهنا؟! قال: أفأستكين لها، وعدني ربى تبارك وتعالى ثلاث خصال، كل خصلة منها أحب إلى من الدنيا وما فيها. قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156 و 157]. وقال مطرف: ما شىء أعطى به في الآخرة قدر كوز من ماء، إلا وددت أنه أخذ منى في الدنيا. وكان صلة بن شيم في مغزىً له ومعه ابنه، فقال: أي بنى! تقدم فقاتل حتى أحتسبك، فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم فقتل، فاجتمع النساء عند أمه معاذة العدوية، فقالت: مرحباً إن كنتن جئتن تهنئننى، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن. وإذا كانت المصيبة مما يمكن كتمانها، فكتمانها من نعم الله عز وجل الخفية. وروى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين، فيقول: انظروا ما يقوله لعواده، فإن هو حمد الله تعالى إذا دخلوا عليه، رفعا ذلك إلى الله تعالى وهو أعلم. فيقول: لعبدي إن أنا توفيته أن ادخله الجنة، وإن أنا شفيته أن أبدله لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفر عنه خطاياه" (¬1). وقال على رضى الله عنه: من اجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك، ولا تذكر مصيبتك. وقال الأحنف: لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة، ما ذكرتها لأحد. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 940: باب ما جاء في أجر المريض من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ورجاله ثقات إلا أنه مرسل، ووصله ابن عبد البر من طريق عباد بن كثير عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري، وعباد بن كثير ليس بالقوي.

3 ـ فصل في بيان دواء الصبر وما يستعان به عليه

وقال رجل للإمام أحمد: كيف تجدك يا أبا عبد الله؟ قال: بخير في عافية. فقال له: حممت البارحة؟ قال: إذا قلت لك: أنا في عافية فحسبك، لا تخرجني إلى ما أكره. وقال شقيق البلخى: من شكي مصيبة به إلى غير الله، لم يجد في قلبه لطاعة الله حلاوة أبداً. وقال بعض الحكماء: من كنوز البر كتمان المصائب، وقد كانوا يفرحون بالمصائب نظراً إلى ثوابها، وحكاياتهم مشهورة في ذلك. منها: ما روى أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لما مات دفنه عمر، وسوى عليه ثم استوى قائماً، فأحاط به الناس، فقال: رحمك الله بابني! قد كنت براً بأبيك، والله ما زلت منذ وهبك الله لى مسروراً بك، ولا والله ما كنت قط أشد بك سروراً، ولا أرجى بحظي من الله تعالى فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيرك الله إليه. فإن قيل: إن كان المراد من الصبر عدم كراهية المصائب، فلا قدرة للآدمي على ذلك، وإن كان الفرح بوجودها كما حكيتم، فهو أبعد. والجواب: أن الصبر لا يكون إلا عن محبوب أو على مكروه، ولا ينهى عما لا يدخل تحت الكسب، وهو انزعاج الباطن، وإنما ينهى عن المكتسب، كشق الجيوب، ولطم الخدود، والقول باللسان، فأما ما ذكرنا من فرح بعضهم، فذلك فرح شرح لا طبعي، إذ الطبع لابد له من كراهة المصائب. ومثال هذا رجل مريض له شربة لمرضه، فسعى في طلب حوائجها، وأنفق عليها مالاً، فلما تمت، فرح بتمامها وتناولها لما يرجو لها من العافية، فأما طبعه، فما زالت عنه كراهة التناول أصلاً. ولو أن ملكاً قال لرجل فقير: كلما ضربتك بهذا العود اللطيف ضربة أعطيتك ألف دينار، لأحب كثرة الضرب، لا لأنه لا يؤلم، ولكن لما يرجوا من عاقبة، وإن أنكاه الضرب، فكذلك السلف تلمحوا الثواب، فهان عليهم البلاء. 3 ـ فصل في بيان دواء الصبر وما يستعان به عليه اعلم أن الذي أنزل الداء أنزل الدواء ووعد بالشفاء، فالصبر وإن كان شاقاً فتحصيله ممكن بمعجون العلم والعمل، فمنهما تركب الأدوية لأمراض القلوب كلها،

فيحتاج كل مرض إلى علم وعمل يليق به، فإن العلل إذا اختلفت اختلف العلاج، إذ معنى العلاج: مضادة العلة. ونضرب لك مثالاً، فنقول: إذا افتقر الإنسان إلى الصبر عن شهوة الجماع، وقد غلبت عليه بحيث لا يملك فرجه ولا عينه ولا قلبه، فعلاج ذلك بثلاثة أشياء: أحدها: مواظبة الصوم، والاقتصار عند الإفطار على قليل من الطعام. الثاني: قطع أسباب المهيجة، فإنه إنما يهيج بالنظر، والنظر بالقلب، والقلب يحرك الشهوة، ودواء هذا العزلة، والاحتراز عن مظان وقوع البصر على الصور المشتهاة، فان النظر سهم مسموم من سهام إبليس، ولا يمنع عنه إلا غمض الجفن أو الهرب. الثالث: تسلية النفس بالمباح من جنس المشتهى، وذلك بالنكاح، وكل ما يشتهيه الطبع من الحرام، ففى المباحات غنية عنه، وهذا هو العلاج الأرفع في حق أكثر الناس، لأن قطع الغذاء يضعف، ولا يقمع الشهوة بخلاف هذا. وينبغى للإنسان أن يعود نفسه المجاهدة، فإن من عَّود نفسه مخالفة الهوى، غلبها متى أراد. واعلم: أن أشد أنواع الصبر والمجاهدة، كف الباطن من حديث النفس، وإنما يشتد ذلك على من تفرغ واعتزل، فان الوساوس لا تزال تجاذبه، ولا علاج لهذا إلا قطع العلائق، وجعل الهم هماً واحداً، وصرف الفكر إلى ملكوت السموات والأرض وعجائب صنع الله تعالى، وجميع أبواب معرفة الله تعالى، حتى إذا استولى ذلك على قلبه، دفع اشتغاله مجاذبة الشيطان ووسواسة، وإن لم يكن له سير الباطن فلا ينجيه إلا الأوراد المتواصلة، من القراءة، والأذكار، والصلوات، ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضور، فإن الفكر الباطن هو الذي يستغرق القلب دون الأوراد الظاهرة، فهذا الذي يمكن أن ينال بالاكتساب والجهد. فأما مقادير ما ينكشف، ومبالغ ما يرد من لطف الله تعالى من الأحوال والأعمال، فذلك يجرى مجرى الصيد، وهو بحسب الرزق، فقد يقل الجهد، ويكثر الصيد، وقد يطول الجهد ويقل الصيد، والمعلوم وراء هذا الاجتهاد على جذبه من جذبات الرحمن عز وجل، فإنها توازى أعمال الثقلين، وليس ذلك اختيار العبد، بل

الشطر الثاني من الكتاب

اختياره أن يتعرض لتلك الجذبة، بأن يقلع عن قلبه جواذب الدنيا، فان المجذوب إلى أسفل سافلين، لا يجذب إلى أعلى عليين، وكل منهوم بالدنيا هو منجذب إليها، فقطع العلائق الجاذبة، هو المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها" (¬1). فالذي علينا تفريغ المحل، والانتظار لنزول الرحمة، كالذي يصلح الأرض وينقيها من الحشيش، ويضع فيها البذر، وكل ذلك لا ينفع إلا بمطر، ولا يدرى متى يقدر الله أسباب المطر، إلا أنه يثق بفضل الله تعالى أنه لا يخلى سنة عن مطر، وكذلك قلما تخلو سنة وشهر ويوم عن جذبة من الجذبات ونفحة من النفحات. فينبغي أن يكون العبد قد طهر القلب من حشيش الشهوات، وبذر الإرادة والإخلاص، وعرضه لمهاب ريح الرحمة، وكما يقوى انتظار الأمطار في أوقات الربيع عند ظهور الغيم، كذلك انتظار تلك النفحات في الأوقات الشريفة، وعند اجتماع الهم ونشاط القلوب، كيوم عرفة، ويوم الجمعة، وفى رمضان. والهمم والأنفاس أسباب لاستدرار رحمة الله تعالى بحكمته وتقديره. ... الشطر الثاني من الكتاب 4 ـ في الشكر وفضله وذكر النعم وأقسامها ونحو ذلك قال الله تعالى: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145] وقال الله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] وقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] وقطع بالمزيد مع الشكر فقال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] مع كونه وقف أشياء كثيرة غيره على المشيئة كقوله: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة: 28] وقوله: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41] وقوله: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 212] {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 15]. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني من حديث محمد بن مسلمة، وفيه من لا يعرف.

5 ـ فصل [في كون الشكر بالقلب واللسان والجوارح]

ولما عرف إبليس قدر الشكر في الطعن على بنى آدم: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17]. وروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم قام حتى تفطرت قدماه، فقالت عائشة رضى الله عنها: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: "أفلا أكون عبداً شاكراً". وعن معاذ رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم: "إنى أحبك فقل: اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". 5 ـ فصل [في كون الشكر بالقلب واللسان والجوارح] والشكر يكون بالقلب، واللسان، والجوارح. أما بالقلب، فهو إظهار الشكر لله بالتحميد. وأما بالجوارح، فهو استعمال نعم الله في طاعته، والتوقى من الاستعانة بها على معصيته، فمن شكر العينين أن تستر كل عيب تراه لمسلم، ومن شكر الأذنين أن تستر كل عيب تسمعه، فهذا يدخل في جملة شكر هذه الأعضاء. والشكر باللسان: إظهار الرضى عن الله تعالى، وهو مأمور به. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "التحدث بالنعم شكر، وتركها كفر" (¬1). وروى أن رجلين من الأنصار التقيا، فقال أحدهما لصاحبه: كيف أصبحت؟ فقال: الحمد لله. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "قولوا هكذا". وروى أن رجلاً سلم على عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فرد عليه، ثم قال له عمر: كيف أصبحت؟ قال: أحمد الله، فقال عمر: ذاك الذي أرادت. وقد كان السلف يتساءلون، ومرادهم استخراج الشكر لله، فيكون الشاكر مطيعاً، والمستنطق مطيعاً. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 4/ 278 من حديث النعمان بن بشير: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر "من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس، لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب" وسنده حسن.

6 ـ فصل [في فعل الشكر لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه الله]

وقال أبو عبد الرحمن الحبلى: إن الرجل إذا سلم على الرجل، وسأله كيف أصبحت؟ فقال له الآخر: أحمد الله إليك، قال: يقول الملك الذي عن يساره للذي عن يمينه: كيف تكتبها؟ قال: أكتبه من الحامدين. فكان أبو عبد الرحمن إذا سئل: كيف أصبحت؟ يقول: أحمد الله إليك والى جميع خلقه. 6 ـ فصل [في فعل الشكر لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه الله] اعلم: أن فعل الشكر وترك الكفران، لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه الله تعالى، إذ معنى الشكر استعمال نعمة في محابه، ومعنى الكفران نقيض ذلك، إما بترك الاستعمال، أو استعماله فيما يكرهه. ولتمييز ما يحبه الله فيما يكرهه مدركان: أحدهما: السمع، ومستنده الآيات. والثاني: بصيرة القلب، وهو النظر بعين الاعتبار، وهذا الأخير عسير عزيز، ولذلك أرسل الله تعالى الرسل، وسهل بهم الطرق على الخلق، ومعرفة ذلك تبنى على معرفة جميع أحكام الشرع في. أفعال العباد، فمن لا يطلع على حكم الشرع في جميع أفعاله، لم يمكنه القيام بحق الشكر أصلاً. وأما الثاني: وهو النظر بعين الاعتبار، فهو إدراك حكمة الله تعالى في كل موجود خلقه: إذ ما خلق الله تعالى شيئاً في العالم إلا وفيه حكمة، وتحت الحكمة مقصود، وذلك المقصود هو المحبوب. وتلك الحكمة منقسمة إلى جلية وخفية. أما الجلية، فكالعلم بأن الحكمة في خلق الشمس أن يحصل الليل والنهار، فيكون النهار معاشاً، والليل سباتاً، فتتيسر الحركة عند الأبصار، والسكون عند الاستتار، فهذا من جملة حكم الشمس، لا كل الحكمة فيها، كذلك معرفة الحكمة في الغيم ونزول الأمطار. وأما الحكمة في خلق الكواكب، فخفية لا يطلع عليها كل الخلق، وقد يطلعون على بعض ما فيها من الحكم، نحو كونها زينه للسماء، وجميع أجزاء العالم لا تخلو منه ذرة عن حكمة، وكذلك أعضاء الحيوان، منها ما تبين حكمته بياناً ظاهراً، كالعلم، بأن العين للإبصار، واليد للبطش، والرجل للمشى.

فأما الأعضاء الباطنة، كالمرارة، والكلية والكبد، وآحاد العروق، والأعصاب وما فيها من التجاويف والرقة والغلظة، فلا يعرف الحكمة فيها كل الناس، والذين يعرفونها إنما يعرفون منها قدراً يسيراً بالنسبة إلي علم الله تعالى، فكل من استعمل شيئاً في جهة غير الجهة التي خلق لها ذلك الشيء على غير الوجه الذي أريد به، فقد كفر نعمة الله تعالى فيه، فمن ضرب غيره بيده بغير حق، فقد كفر نعمة الله تعالى في اليد لأنها خلقت ليدفع بها عن نفسه ما يؤذيه، ويتناول ما ينفعه، لا ليؤذى بها غيره، وكذلك العين إذا نظر بها إلى محرم، فقد كفر نعمتها، ونعمة الشمس أيضاً، إذا الإبصار يتم بها، فالعين والشمس خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه، ويبقى بهما ما يضره فيهما. واعلم: أن المراد من خلق الخلق وخلق الدنيا وأسبابها، أن يستعين بها الخلق على الوصول إلى الله تعالى، ولا أنس إلا بدوام الذكر، ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر، ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن، ولا يبقى البدن إلا بالأرض والماء والهواء، ولا يتم ذلك إلا بخلق السماء والأرض وخلق جميع الأعضاء الباطنة والظاهرة، وكل ذلك لأجل البدن، والبدن مطية النفس، والراجع إلى الله هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة، ولذلك قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فكل من استعمل شيئاً في غير طاعة الله، فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها، لإقدامه على تلك المعصية. ولنذكر مثالاً واحداً للحكم الخفية التي ليست في غاية الخفاء، حتى يعتبر بها، ويعلم طريق الشكر والكفران على النعم، فيقول: من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير اللذين بهما قوام الدنيا، وهما حجران لا منفعة في أعينهما، ولكن يضطر الخلق إليهما، من حيث كل إنسان يحتاج إلى أعيان كثيرة، في مطعمه، ومشربه، وملبسه، ومركبه، وسائر حاجاته، وقد يعجز عما يحتاج إليه، ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك قدراً من الزعفران مثلاً وهو يحتاج إلى جمل يركبه، وآخر يملك الجمل، وربما استغنى عنه، ويحتاج إلى الزعفران، فلا بد بينهما من معاوضة، ولابد في مقدار العوض من تقدير، إذا لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل، حتى يعطى مثله في الوزن والصورة.

وكذا من يشترى داراً بثياب، أو عبداً بخف، أو دقيقاً بحمار، فهذه الأشياء لا تناسب بينهما، فخلق الله تعالى الدراهم والدنانير، حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال، حتى تقدر بهما، فيقال: هذا الجمل يساوى مائة، وهذا القدر من الزعفران يساوى مائة، فحصل التساوي بينهما حينئذ، وإنما أمكن التعديل بينهما بالنقدين، إذ لا غرض في أعيانهما، فإنه لو كان في أعيانهما فرض لم ينتظم الأمر، فخلقهما الله لتداولها الأيدي، ويكون حاكمين بين الأموال بالعدل، وجعلهما عزيزين في أنفسهما، ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكهما، فكأنه ملك كل شئ. إذا عرفت حكمتهما، فكل من عمل فيهما عملاً يخالف المقصود منهما، ولا يليق بحكمتهما، فقد كفر نعمة الله فيهما، فمن كنزهما فقد أبطلهما وأبطل الحكمة فيهما، ومنع الأيدى من تداولهما. ولما كان كثير من الخلق عاجزين عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة على صفحات الموجودات بخط إلهي لا يدرك بعين البصر، بل بعين البصيرة، أخبرهم الله تعالى بكلام سمعوه بواسطة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم، فقال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]. وكل من اتخذ الدراهم والدنانير آنية، فقد كفر نعمة الله فيهما، لأنه أسوأ حالاً ممن كنزهما. ومثال ذلك من استعمل حاكم البلد في الحياكة والكنس والأعمال التي يقوم بها أخس الناس، وذلك أن الحديد والنحاس والخزف وغيرها يقوم مقام الذهب والفضة من كونهما قيم الأشياء، فمن لم تنكشف له هذه الحكمة بالرحمة الإلهية قيل له: "من شرب في إناء ذهب أوفضة، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم" وكذلك كل من عامل بالربا في الدراهم والدنانير، فقد أخرجهما عن مقصودهما، فهذا مثال لحكمة خفية من حكم النقدين. فينبغي أن تعتبر شكر النعمة وكفرها بهذا المثال في غيره من جميع أمورك، في حركتك، وسكونك، ونطقك، وسكوتك في كل فصل صادر منك، إما شكراً أو

7 ـ فصل في بيان النعم وحقيقتها وأقسامها

عكسه، وهو الكفر وبعض ذلك تصفه بالكراهة، وبعضه بالحظر. ومن ذلك أن الله تعالى خلق لك يدين، جعل إحداهما أقوى من الأخرى، فاستحقت بمزيد القوة رجحاناً وشرفاً على الأخرى، وقد أحوجك من أعطاك اليدين إلى أعمال، بعضها شريفة، كأخذ المصحف، وبعضها خسيسة، كإزالة النجاسة، فإذا أخذت المصحف باليسار، وأزلت النجاسة باليمين، فقد عكست المقصود، وخصصت الشريف بما هو خسيس، فظلمته. وكذلك في الرجلين، إذا ابتدأت باليسرى في لبس الخف، فقد ظلمت اليمنى، لأن الخف وقاية الرجل، وقس على ذلك. وكذلك نقول: من كسر غصناً من شجرة لغير حاجة مهمة وغرض صحيح، فقد خالف الحكمة في خلق الأشجار، لأنها خلقت للمنفعة بها، فإن كان كسره لغرض صحيح، فلا بأس، وإن فعل ذلك في ملك غيره، فهو ظالم، وإن كان محتاجاً، إلا أن يأذن صاحبه. 7 ـ فصل في بيان النعم وحقيقتها وأقسامها اعلم: أن كل مطلوب يسمى نعمة، ولكن النعمة في الحقيقة هي السعادة الأخروية، وتسمية ما عداها نعمة تجوز، والأمور كلها بالإضافة إلينا تنقسم أربعة أقسام: أحدهما: ما هو نافع في الدنيا والآخرة جميعاً، كالعلم، وحسن الخلق، وهو النعمة الحقيقية. الثاني: ما هو ضار فيهما جميعاً، وهو البلاء حقيقة. القسم الثالث: ما ينفع في الحال، ويضر في المآل، كالتلذذ، واتباع الشهوات، فهو بلاء عند ذوى الأبصار، والجاهل يظنه نعمة. ومثاله: الجائع إذا وجد عسلاً فيه سم، فأنه يعده نعمة إن كان جاهلاً، فإذا علم ذلك عدة بلاًء. القسم الربع: الضار فىالحال، النافع في المآل، وهو نعمة عند ذوى الألباب، بلاء عند الجهال. ومثاله: الدواء الشنيع مذاقه في الحال، الشافي في المآل من الأسقام، فالصبى

8 ـ فصل في بيان كثرة نعم الله تعالى وتسلسلها وخروجها عن الحصر والإحصاء

الجاهل، إذا كلف شربه ظنه بلاء، والعاقل يعده نعمه، وكذلك إذا احتاج الصبي إلى الحجامة، فإن الأب يدعوه إليها ويأمره بها، لما يلحظ في عاقبتها من الشفاء، والأم تمنعه من ذلك لفرط حبها وشفقتها، لكونها جاهلة بالمصلحة في ذلك، فالصبي يتقلد من أمه بجهله، ويأنس إليها دون أبيه، ويقدر أباه عدواً، ولو عقل لعلم أن الأم هي العدو الباطن في صورة صديق، لأن من منعها إياه من الحجامة يسوقه إلى أمراض أشد من ألم الحجامة، فالصديق الجاهل شر من العدو العاقل، وكل إنسان صديق نفسه، ولكن النفس صديق جاهل، فلذلك تعمل بما لا يعمل العدو. 8 ـ فصل في بيان كثرة نعم الله تعالى وتسلسلها وخروجها عن الحصر والإحصاء اعلم: أن النعم تنقسم إلى ما هو غاية مطلوبة لذاتها، وإلى ما هو مطلوب لأجل الغاية. أما الغاية فهي سعادة الآخرة، ويرجع حاصلها إلى أربعة أمور: بقاء لا فناء له، وسرور لا غم فيه، وعلم لاجهل معه، وغنى لا فقر بعده، وهى السعادة الحقيقية. وأما القسم الثاني: فهو الوسائل إلى السعادة المذكورة، وهى أربعة أقسام: أعلاها: فضائل النفس، كالإيمان، وحسن الخلق. الثاني: فضائل البدن، من القوة والصحة ونحوهما. الثالث: النعم المطيفة للبدن، من المال والجاه والأهل. الرابع: الأسباب التي جمع بينها وبين ما يناسب الفضائل، من الهداية والإرشاد، والتسديد، والتأييد، وكل هذه نعم عظيمة. فإن قيل: ما وجه الحاجة لطريق الآخرة إلى النعم الخارجة في المال والجاه ونحوهما؟ قلنا: هذه الأشياء جارية مجرى الجناح المباح، والآلة المستعملة للمقصود. أما المال، فإن طالب العلم إذا لم تكن معه كفاية، كان كساع إلى الهيجاء بغير سلاح، ولأنه يبقى مستغرق الأوقات في طلب القوت، فيشغله عن تحصيل العلم، وعن الذكر، والفكر، ونحو ذلك.

9 ـ فصل [من نعم الله الأسباب التي يتم بها الأكل]

وأما الجاه فيه يدفع عن نفسه الذل والضيم، ولا ينفك عن عدو يؤذيه، وظالم يهوش عليه، فيشغل قلبه، وقلبه رأس ماله، وإنما تدفع هذه الشواغل بالعز والجاه. وأما الصحة والقوة وطول العمر ونحوها، فهي نعم، إذ لا يتم علم ولا عمل إلا بذلك. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثر من الناس: الصحة، والفراغ". ولما سئل: من خير الناس؟ قال: "من طال عمره وحسن عمله". وأما المال والجاه، وإن كانا نعمتين، فقد ذكرنا ما فيهما من الآفات فيما تقدم، وأنهما ليسا بمذمومين على الإطلاق. وأما الهداية والرشد والتسديد والتأييد، فلا خفاء في كونهما من أعظم النعم، فلا يستغني أحد عن الحاجة إلى التوفيق، ولذلك قيل: إذا لم يكن عون الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده 9 ـ فصل [من نعم الله الأسباب التي يتم بها الأكل] واعلم: أنا قد ذكرنا جملة من النعم، وجعلنا صحة البدن نعمة واحدة من النعم الواقعة في الرتبة الثانية، فلو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمت هذه النعمة، لم نقدر عليها، ولكن الأكل أحد أسباب الصحة، فلنذكر شيئاً من جملة الأسباب التي يتم بها الأكل على سبيل التلويح، لا على سبيل الاستقصاء، فنقول: من جملة نعم الله عليك أن خلق لك آلة الإحساس، وآلة الحركة في طلب الغذاء، فانظر إلى ترتيب حكمة الله تعالى في الحواس الخمس، التي هي آلة للإدراك. فأولهما: حاسة اللمس، وهو أول حس يخلق للحيوان، وأنقص درجات الحس أن يحس بما يلاصقه، فإن الإحساس بما يبعد منه أتم لا محالة، فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك، فخلق لك الشم تدرك الرائحة من بعيد، ولكن لا تدرى من أي ناحية جاءت الرائحة، فتحتاج أن تطوف كثيراً حتى تعثر على الذي شممت رائحته،

وربما لم تعثر، فخلق لك البصر لتدرك به ما بعد عنك، وتدرك جهته فتقصدها بعينها، إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصاً، إذ لا تدرك بذلك ما وراء الجدار والحجاب، فربما قصدك عدو بينك وبينه حجاب، وقرب منك قبل أن يكشف الحجاب، فتعجز عن الهرب، فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من وراء الحجرات عند جريان الحركات، ولا يكفى ذلك، لو لم يكن لك حسن الذوق، إذ به تعلم ما يوافقك وما يضرك، بخلاف الشجرة، فإنه يصب في أصلها كل مائع، ولا ذوق له فتجذبه، وربما يكون ذلك سبب جفافها، ثم أكرمك الله تعالى بصفة أخرى، هي أشرف من الكل، وهو العقل، فبه تدرك الأطعمة ومنفعتها، وما يضر في المآل، وبه تدرك طبخ الأطعمة وتأليفها وإعداد أسبابها، فتنتفع به في الأكل الذي هو سبب صحتك، وهو أدنى فوائد العقل، والحكمة الكبرى فيه معرفة الله تعالى، وما ذكرنا من الحواس الخمس الظاهرة فهي بعض الحركات، ولا تظن أننا استوفينا شيئاً من ذلك، فإن البصر واحد من الحواس، والعين آلة له، وقد ركبت العين من عشر طبقات مختلفة، بعضها رطوبات، وبعضها أغشية مختلفة، لكل واحد من الطبقات العشر صفة، وصورة، وشكل، وهيئة، وتدبير، وتركيب، لو اختلت طبقة واحدة أو صفة واحدة لاختل البصر، وعجز عنه الأطباء كلهم، فهذا في حس واحد، وقس حاسة السمع وسائر الحواس، ولا يمكن أن يستوفى ذلك في مجلدات، فكيف ظنك بجميع البدن؟! ثم انظر بعد ذلك في خلق الإرادة والقدرة، وآلات الحركة في أصناف النعم، وذلك أنه لو خلق لك البصر حتى تدرك به الطعام، ولم يخلق لك في الطبع شوق إليه وشهوة تستحثك على الحركة، كان البصر معطلاً، فكم من مريض يرى الطعام وهو أنفع الأشياء له، ولا يقدر على تناوله لسقوط شهوته، فخلق الله لك شهوة الطعام وسلطها عليك، كالمتقاضى الذي يضطرك إلى تناول الغذاء. ثم إن الشهوة لو لم تسكن عند أخذ مقدار الحاجة من الطعام، لأسرفت وأهلكت نفسك، فخلق لك الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها، وكذلك القول في شهوة الوقاع لحكمة بقاء النسل. ثم خلق لك الأعضاء التي هي آلات الحركة في تناول الغذاء وغيره، منها اليدان،

وهما مشتملتان على مفاصل كثيرة لتتحرك في الجهات وتمتد وتنثني، ولا تكون كخشبة منصوبة. ثم جعل رأس اليد عريضاً، وهو الكلف، وقسمه خمسة أقسام، وهى الأصابع وجعلها مختلفة في الطول والقصر، ووضعها في صفين، بحيث يكون الإبهام في جانب، ويدور على الأصابع البواقى، ولو كانت مجتمعة متراكمة، لم يحصل تمام الغرض، ثم خلق لها أظافر، وأسند إليها رؤوس الأصابع، لتقوى بها، ولتلتقط بها بعض الأشياء الدقيقة التي لا تحويها الأصابع، ثم هب أنك أخذت الطعام باليد، فلا يكفيك حتى يصل إلى باطنك، فجعل لك الفم واللحيين، خلقهما من عظمين، وركب فيهما الأسنان، وقسمها بحسب ما يحتاج إليه الطعام، فبعضها قواطع كالرباعيات، وبعضها يصلح للكسر كالأنياب، وبعضها طواحن كالأضراس، وجعل اللحى الأسفل متحركاً حركة دورية، واللحى الأعلى ثابتاً لا يتحرك، فانظر إلى عجيب صنع الله تعالى، وإن كل رحى صنعها الخلق يثبت منها الحجر الأسفل ويدور الأعلى، إلا هذه الرحى التي هي من صنع الله سبحانه وتعالى، فإنه يدور منها الأسفل على الأعلى، إذ لو دار الأعلى خوطر بالأعضاء، الشريفة التي يحتوى عليها. ثم انظر كيف أنعم الله عليك بخلق اللسان، فإنه يطوف في جوانب الفم، ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة، كالمجرفة التي ترد الطعام إلى الرحى، هذا مع ما فيه من عجائب قوة النطق. ثم هب أنك قطعت الطعام وعجنته وهو يابس، فلا تقدر على الابتلاع إلا بأن ينزلق إلى الحلق بنوع رطوبة. انظر كيف خلق الله تعالى تحت اللسان عيناً يفيض منها اللعاب، وينصب بقدر الحاجة حتى ينعجن به الطعام. ثم هذا الطعام المطحون المعجون من يوصله إلى المعدة وهو في الفم، فإنه لا يمكن إيصاله باليد، فهيأ الله تعالى المريء (¬1) والحنجرة، وجعل رأسها طبقات ينفتح لأخذ الطعام، ثم ينطبق وينضغط حتى يقلب الطعام، فيهوى في دهليز المريء إلى المعدة، فإذا ورد الطعام إلى المعدة وهو خبز وفاكهة مقطعة، فلا يصلح أن يصير لحماً ¬

_ (¬1) قال في "القاموس": والمريء، كأمير: مجرى الطعام والشراب، وهو رأس المعدة والكرش اللاصق بالحلقوم.

10 ـ فصل [في عجائب الأغذية والأدوية]

وعظماً ودماً على هذه الهيئة حتى يطبخ طبخاً تاماً، فجعل الله المعدة على هيئة قدر يقع فيه الطعام، فتحتوى عليه وتغلق عليه الأبواب، وينضج بالحرارة التي تتعدى إليها من الأعضاء الأربعة، وهى الكبد من جانبها الأيمن، والطحال من جانبها الأيسر، والثرب (¬1) من أمامها، ولحم الصلب من خلفها، فينضج الطعام ويصير مائعاً متشابهاً يصلح للنفوذ في تجاويف العروق، ثم ينصب الطعام من العروق إلى الكبد، فيستقر فيها ريثما يصلح له نضج آخر. ثم يتفرق في الأعضاء ويبقى منه ثقل ثم يندفع. ولو استوفينا الكلام في ذلك لطال. وفى الآدمي من العضلات والعروق ما لا يحصى، مختلف بالصغر والكبر والدقة والغلظ، ولا شئ منها إلا وفيه حكمة، وكل ذلك من الله سبحانه، ولو سكن من جملتها عرق متحرك أو تحرك عرق ساكن، لهلكت يا مسكين. فانظر إلى نعم الله تعالى عليك، لتقوى على الشكر، فإنك لا تعرف من نعمة الله تعالى إلا نعمة الأكل، وهى أخسها، ثم لا تعرف منها إلا أنك تجوع وتأكل، والبهيمة أيضاً تعرف أنها تجوع وتأكل، وتتعب فتنام، وتشتهى فتجامع، وإذ لم تعرف أنت من نفسك إلا ما يعرف الحمار، فكيف تقوم بشكر الله؟! ‍‍ وهذا الذي رمزنا إليه على الإيجاز قطرة من بحر نعم الله تعالى، فقس على ذلك. وجملة ما عرفنا وعرفه الخلق كلهم من نعم الله تعالى بالإضافة إلى ما لم يعرفوه، أقل من قطرة في بحر. قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34 والنحل: 17]. 10 ـ فصل [في عجائب الأغذية والأدوية] واعلم: أن الأطعمة كثيرة مختلفة، والله تعالى في خلقها عجائب لا تحصى، وهى تنقسم إلى أغذية وأدوية وفواكه وغيرها: فنتكلم عن بعض الأغذية، فنقول: إذا كان عندك شئ من الحنطة، فلو أكلتها ¬

(¬1) الثرب: شحم رقيق يغطى الكرش والأمعاء

لفنيت وبقيت جائعاً، فما أحوجك إلى عمل ينمى به حب الحنطة ويتضاعف حتى يفي بتمام حاجتك، وهو زرعها، وهو أن تجعلها في أرض فيها ماء يمتزج ماؤها بالأرض فيصير طيناً، ثم لا يكفى الماء والتراب، إذ لو تركت في الأرض ندية صلبة، لم تنبت لفقد الهواء، فيحتاج إلى تركها إلى أرض متخلخلة يتغلغل الهواء فيها، ثم الهواء لا يتحرك إليه بنفسه، فيحتاج إلى ريح تحرك الهواء، وتصرفه بقهر على الأرض، حتى ينفذ فيها، ثم كل ذلك لا يغنى، فيحتاج إلى حرارة الربيع والصيف، فإنه لو كان في البرد المفرط لم ينبت. ثم انظر إلى الماء الذي يحتاج إليها هذه الزراعة كيف خلقه الله تعالى؟ فجر العيون وأجرى منها الأنهار، ولما كان بعض الأرض مرتفعاً لا يناله الماء، أرسل إليها الغيوم، وسلط عليها الرياح لتسوقها بإذنه إلى أقطار العالم، وهى سحب ثقال، ثم يرسله على الأرض مدراراً في وقت الحاجة. وانظر كيف خلق الله الجبال حافظة للماء، تنفجر منها العيون تدريجاً، فلو خرجت دفعة واحدة لغرقت البلاد وهلك الزرع وغيره. وانظر كيف سخر الشمس وخلقها، مع بعدها عن الأرض، مسخنة لها في وقت دون وقت، ليحصل البرد عند الحاجة إليه، والحر عند الحاجة إليه. وخلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب، كما جعل من خاصية الشمس التسخين فهو ينضج الفواكه بتقدير الحكيم الخبير، وكل كوكب خلق في السماء، فهو مسخر لنوع فائدة، كما سخرت الشمس والقمر، ولا يخلو كل واحد منها عن حكم كثيرة لا تفي قوة البشر بإحصائها، وكذلك الشمس والقمر، فيهما حكم آخر غير ما ذكرنا لا تحصى. ولما كانت كل الأطعمة لا توجد في كل مكان، سخر الله تعالى التجار، وسلط عليهم الحرص على جمع المال، مع أنه لا يغنيهم في غالب الأمر شئ، بل يجمعون الأموال، فإما أن تغرق بها السفن أو تنهبها قطاع الطرق، أو يموتون في بعض البلاد، فتأخذها السلاطين، وأحسن أحوالها أن يأخذها ورثتهم، وهم أشد أعدائهم لو عرفوا، فانظر كيف سلط الله عليهم الأمل والغفلة، حتى يقاسوا الشدائد في طلب الريح في ركوب البحار، وركوب الأخطار، فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من أقصى

الشرق والغرب إليك. واعلم: أن الخلق لم يقصروا عن شكر النعمة إلا للجهل والغفلة، فإنهم منعوا بذلك عن معرفة النعم، ولا يتصور شكر النعمة إلا بعد معرفتها، ثم إن عرفوا نعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول أحدهم بلسانه: الحمد لله، والشكر لله، ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن تستعمل النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها، وهى طاعة الله تعالى. أما الغفلة عن النعم فلها أسباب: أحدها: أن الناس لجهلهم لا يعدون ما يعم الخلق في جميع أحوالهم نعمة، فلذلك لا يشكرون على جملة ما ذكرناه، من النعم، لأنها عامة للخلق، فلا يعده نعمة، فلا تراهم يشكرون الله على روح الهواء، ولو أخذ بمخنقهم لحظة حتى انقطع الهواء عنهم ماتوا، ولو حبسوا في حمام أو بئر ماتوا غماً، فإن ابتلى أحدهم بشيء من ذلك ثم نجا، قدر ذلك نعمة يشكر الله عليها، وهذا غاية الجهل، إذ صار شكرهم موقوفاً على أن تسلب عنهم النعمة، ثم ترد إليهم في بعض الأحوال، فالنعم في جميع الأحوال أولى بالشكر، فلا ترى البصير يشكر صحة البصر إلا أن يعمى، فإذا أعيد بصره أحس بالنعمة وشكرها حينئذ وعدها نعمة، وهو مثل عبد السوء يضرب دائماً، فإذا ترك ضربه ساعة، شكر وتقلد ذلك منة، وإن ترك ضربه أصلا، غلبه البطر وترك الشكر، فصار الناس لا يشكرون إلا على المآل الذي يتطرق الاختصاص إليه م حيث الكثرة والقلة، وينسون جميع نعم الله تعالى عليهم. كما روى أن بعضهم شكا فقره إلى بعض أرباب البصيرة، وأظهر شدة اغتمامه بذلك، فقال له: أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم؟ قال لا، قال: أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف درهم؟ قال: لا، قال: أيسرك أنك أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفاً؟ قال: لا، قال: أيسرك أنك مجنون ولك عشرة آلاف؟ قال: لا، قال: أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفاً. وحكى عن بعض الفقراء أنه اشتد به الفقر حتى ضاق به ذرعاً، فرأى في المنام كأن قائلاً يقول له: أتود أن أنسيناك سورة الأنعام ولك ألف دينار؟ قال: لا، قال: فسورة هود؟ قال: لا، قال: فسورة يوسف؟ قال: لا، قال فمعك قيمة مائة ألف دينار وأنت تشكو؟ فأصبح وقد سرى عنه.

ودخل ابن السماك على الرشيد في عظة. فبكى ثم دعا بماء في قدح فقال: يا أمبر المؤمنين، لو منعت هذه الشربة إلا بالدنيا وما فيها، أكنت تفديها بها، قال: نعم، قال فاشرب رياً، بارك الله فيك. فلما شرب، قال له: يا أمير المؤمنين، أرأيت لو منعت إخراج هذه الشربة منك إلا بالدنيا وما فيها، أكنت تفتدى ذلك؟ قال: نعم قال فما تصنع بشيء شربة ماء خير منه! وهذا يبين أن نعمة الله على العبد في شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلها، ثم تسهيل خروج الحدث من أعظم النعم، وهذه إشارة وجيزة إلى النعم الخاصة. اعلم: أن ما من عبد إلا إذا أمعن النظر رأى من نعم الله نعماً كثيرة لا يشاركه فيها عموم الناس، بل قد يشاركه في ذلك كثير منهم، من ذلك العقل، فما من عبد إلا وهو راضٍ عن الله سبحانه في عقله، يعتقد أنه أعقل الناس، وقلما يسأل الله العقل، وإذا كان ذلك اعتقاده، فيجب عليه أن يشكر الله تعالى على ذلك. ومن ذلك الخلق، فإنه ما من عبد إلا ويرى من غيره عيوباً يكرهها، وأخلاقاً يذمها، ويرى نفسه بريئاً منها، فينبغي أن يشكر الله تعالى على ذلك، حيث أحسن خلقه وابتلى غيره. ومن ذلك أن ما من أحد إلا وهو يعرف من بواطن أمور نفسه وخفايا أركانها ما هو منفرد به، ولو كشف الغطاء عنه حتى أطلع عليه أحد من الخلق لافتضح، فكيف لو اطلع الناس كافة؟ فلم لا يشكر الله بستره الجميل على مساويه، حيث أظهر الجميل وستر القبيح. ولننزل إلى طبقة أعم من هذا القبيل، فنقول: ما من عبد إلا وقد رزقه الله تعالى في صورته، أو أخلاقه أو صفاته، أو أهله، أو ولده، أو مسكنه أو بلده، أو رفيقه أو أقاربه، أو جاهه، أو سائر محابه، أموراً، لو سلب ذلك وأعطى ما خصص به من ذلك غيره، لكان لا يرضى به، وذلك مثل أن جعله مؤمناً لا كافراً، وحياً لا جماداً، وإنساناً لا بهيمة، وذكراً لا أنثى، وصحيحاً لا مريضاً، وسليماً لا معيباً، فإن كل هذه خصائص. فإن كان لا يرى أن يبدل حاله بحال غيره، مثل أن يعرف شخصاً يرتضى لنفسه حاله بدلاً عن حال نفسه، إما على الجملة، أو في أمر خاص، فإن الله عليه نعماً ليست

له على أحد من عباده سواه، وإن كان يرى انه يبدل حال نفسه بحال بعضهم دون بعض، فلينظر إلى عدد المغبوطين عنده، فإنه يراه عنده لا محالة أقل من غيرهم، فيكون من دونه في الحال أكثر بكثير ممن فوقه، فما باله ينظر فوقه ولا ينظر إلى من دونه؟! وفى "الصحيحين" عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه". وقد رواه الترمذي بلفظ آخر: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فإنه أجدر أن تزدروا نعمة الله عليكم" (¬1). فإن من اعتبر حال نفسه، وفتش على ما خص به، وجد لله تعالى نعماً كثيرة، لا سيما من خص الإيمان، والقرآن، والعلم، والسنة، ثم الفراغ، والصحة والأمن وغير ذلك. وقد روى في بعض الأحاديث "من قرأ القرآن فهو غني". وفي لفظ: "القرآن غنى لا فقر بعده، ولا غنى دونه" (¬2). وفى حديث آخر: "من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها". وقال بعضهم: إذا ما القوت يأتي لـ ... كَ والصحة والأمن وأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن فإن قيل: فما علاج القلوب الغافلة عن شكر نعم الله تعالى؟ فالجواب: أما القلوب المبصرة، فتتأمل ما رمز إليه من أصناف نعم الله عز وجل، وأما القلوب البليدة التي لا تعد النعمة نعمة إلا إذا نزل بها البلاء، فسبيل صاحبها أن ¬

_ (¬1) وهو في مسلم أيضاً 4/ 2275 ونصه: "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله" قال أبو معاوية وهو أحد الرواة "عليكم". (¬2) رواه أبو يعلى والطبراني من حديث أنس رضى الله عنه وفى مسنده يزيد بن أبان الرقاشي، وهو ضعيف، قال الدراقطني: ورواه أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن الحسن مرسلاً، وهو أشبه بالصواب.

11 ـ فصل في بيان اجتماع الصبر والشكر على وجه واحد

ينظر أبداً إلى من دونه، ويفعل ما كان يفعله بعض القدماء، فإنه كان يحضر دار المرضى ليشاهد أنواع البلاء عليهم، ثم يتأمل صحته وسلامته، ويشاهد الجناة الذين يقتلون وتقطع أيديهم وأرجلهم ويعذبون، فيشكر الله على سلامته من تلك العقوبات، ويحضر المقابر، فيعلم أن أحب الأشياء إلى الموتى أن يردوا إلى الدنيا، ليتدارك من عصا عصيانه، وليزيد في الطاعة من أطاع، فإن يوم القيامة يوم التغابن، فإذا شاهد المقابر، وعلم أحب الأشياء إليهم، فليصرف بقية عمره في طاعة الله تعالى وشكره في الإمهال، بأن يصرف العمر إلى ما خلق لأجله، وهو التزود للآخرة. ومما ينبغي أن تعالج به القلوب البعيدة عن الشكر أن يعرف أن النعمة إذا لم تشكر زالت. كان الفضيل رحمه الله تعالى يقول: عليكم بمداومة الشكر على النعم، فقل نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم. 11 ـ فصل في بيان اجتماع الصبر والشكر على وجه واحد لعلك تقول: قد ذكرت أن لله تعالى في كل موجود نعمة، وهذا يشير إلى أن البلاء لا وجود له أصلاً، فما معنى الصبر، وإن كان البلاء موجوداً، فما معنى الشكر على البلاء؟ وكيف يجتمع الصبر والشكر؟! فإن الصبر يستدعى ألماً والشكر يستدعى فرحاً، وهما متضادان. فاعلم أن البلاء موجود، كما أن النعمة موجودة، وأنه ليس كل بلاء يأمر بالصبر عليه، مثل الكفر، فإنه بلاء، ولا معنى للصبر عليه، وكذا المعاصي، إلا أن الكافر لا يعلم أن كفره بلاء، فيكون كمن به علة، وهو لا يتألم بها، بسبب غشيته، والعاصي يعرف عصيانه، فعليه ترك المعصية، وكل بلاء يقدر الإنسان على دفعه لا يأمن الصبر عليه، فلو ترك شرب الماء مع العطش حتى عظم ألمه، لم يأمر بالصبر على ذلك، بل يأمر بإزالة الألم، وإنما يكون الصبر على ألم ليس إلى العبد إزالته، فإذن يرجع الصبر في الدنيا إلى ما ليس ببلاء مطلق، بل يجوز أن يكون نعمة من وجهه، فلذلك يتصور أن يجتمع عليه وظيفة الشكر ووظيفة الصبر، فإن الغنى مثلاً يجوز أن يصير سبب هلاك الإنسان، حتى يقصد قتله بسبب ماله، والصحة أيضاً كذلك، فما من نعمة من نعم الدنيا إلا ويجوز أن تصير بلاء وقد يكون على العبد في بعض الأمور

بلاء وفيه نعمة. مثال ذلك. جهل الإنسان بأجله، فإنه نعمة عليه، إذ لو عرفه تنغص عليه العيش، وطال بذلك غمه، وكذلك جهله بما يضمره بعض الناس له، إذ لو اطلع عليه لطال ألمه وحقده وحسده واشتغاله بالانتقام، وكذلك جهله بالصفات المذمومة من غيره، إذ لو عرف منه ذلك، أبغضه وآذاه، فكان ذلك وبالاً عليه. ومن ذلك إبهام القيامة، وليلة القدر، وساعة الجمعة، وكل ذلك نعمة، لأن الجهل يوفر الدواعي على الطلب والاجتهاد، فهذه وجوه نعم الله تعالى في الجهل، فكيف في العلم؟! وقد قلنا: إن لله سبحانه في كل موجود نعمة، حتى إن الآلام قد تكون نعمة في حق المتألم، وقد تكون نعمة في حق غيره، كألم الكفار في النار في الآخرة، فإنه نعمة في حق أهل الجنة، إذ لو لم يعذب قوم، ما عرف المتنعمون قدر نعيمهم، وإنما يتضاعف فرح أهل الجنة إذا ذكروا ألم أهل النار، ألا ترى أن أهل الدنيا لا يشتد فرحهم بنور الشمس، مع شدة حاجتهم إليها مع أنها عامة ومبذولة، ولا بالنظر إلى زينة السماء، وهى أحسن من كل نبت، لأنها عامة، فلذلك لم يشعروا بها، ولم يفرحوا بسببها، فإذا صح قولنا: إن الله تعالى لم يخلق شيئاً إلا وفيه حكمة ونعمة، إما على جميع العباد، أو على بعضهم، ففى خلق الله تعالى البلاء نعمة أيضاً، إما على المبتلى، أو على غيره، فيجتمع على العبد وظيفة الشكر والصبر في كل حالة لا توصف بأنها بلاء مطلق، ولا نعمة مطلقة، فإن الإنسان قد يفرح بالشيء الواحد من وجه، ويغتم به من وجه آخر، فيكون الصبر من حيث الاغتمام، والشكر من حيث الفرح. واعلم: أن في كل فقر، ومرض، وخوف، وبلاء في الدنيا، خمسة أشياء ينبغي أن يفرح العاقل بها، ويشكر عليها: أحدها: أن كل مصيبة ومرض يتصور أن يكون عليها أكثر منها، لأن مقدورات الله تعالى لا تتناهى، فلو أضعفها الله عز وجل على العبد، فما كان يمنعه؟ فليشكر إذ لم يكن أعظم. الثاني: أن المصيبة لم تكن في الدين. قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: ما ابتليت ببلاء إلا كان لله تعالى علىّ فيه أربع

نعم، إذ لم يكن في ديني، وإذ لم يكن أعظم، وإذ لم أحرم الرضا به، وإذ أرجو الثواب عليه. قال رجل لسهل بن عبد الله: دخل اللص بيتي وأخذ متاعي، فقال: اشكر الله تعالى، لو دخل الشيطان قلبك فأفسد إيمانك، ماذا كنت تصنع؟ ومن استحق أن يضربك مائة سوط، فاقتصر على عشرة فهو مسحق للشكر. الثالث: أن ما من عقوبة إلا كان يتصور أن تؤخره إلى الآخرة، ومصائب الدنيا يتسلى عنها فتخفف، ومصيبة الآخرة دائمة، وإن لم تدم، فلا سبيل إلى تخفيفها، ومن عجلت عقوبته في الدنيا لم يعاقب ثانياً، كذا ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفى "صحيح مسلم": "إن كل ما يصاب به المسلم يكون كفارة له، حتى النكبة ينكبها، والشوكة يشاكها". الرابع: أن هذه المصيبة كانت مكتوبة عليه في أم الكتاب، ولم يكن بد من وصولها إليه، فقد وصلت واستراح منها، فهي نعمة. الخامس: أن ثوابها أكثر منها، فإن مصائب الدنيا طرق إلى الآخرة، كما يكون المنع من أسباب اللعب نعمة في حق الصبى، فإنه لو خلى واللعب، لكان يمنعه، ذلك من العلم والأدب، فكان يخسر طول عمره، وكذلك المال والأهل والأقارب والأعضاء، قد تكون سبباً لهلاكه، فالملحدون غداً يتمنون أن لو كانوا مجانين وصبياناً، ولم يتصرفوا بعقولهم في دين الله تعالى، فما من شئ من هذه الأسباب يوجد من العبد، إلا ويتصور أن يكون له في ذلك خبرة دينية، فعليه أن يحسن الظن بالله عز وجل، ويقدر الخيرة فيما أصابه، ويشكر الله تعالى عليه، فإن حكمة الله تعالى واسعة، وهو أعلم بمصالح العباد منهم، وغداً يشكره العباد على البلاء إذا رأوا ثوابه، كما يشكر الصبي بعد البلوغ أستاذه وأباه على ضربه وتأديبه، إذ رأى ثمرة ما استفاد من التأديب. والبلاء تأديب من الله تعالى، ولطفه بعباده أتم وأوفى من عناية الآباء بالأولاد .. وفى الحديث: "لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له". وأيضاً، فاعلم أن رأس الخطايا المهلكة حب الدنيا، ورأس أسباب النجاة التجافي بالقلب عنها، ومواتاة النعم على وفق المراد من غير امتزاج ببلاء ومصيبة تورث

طمأنينة القلب إلى الدنيا والأنس بها، فإذا كثرت المصائب انزعج القلب عن الدنيا ولم يسكن إليها، فصارت سجناً له، فكانت نجاته منها غاية المراد كخلاص المسجون من السجن. وأما التألم فهو ضروري وذلك يضاهى فرحك بمن يحجمك أو يسقيك دواء نافعاً بلا أجر فإنك تتألم وتفرح، فتصبر على الألم، وتشكر على سبب الفرح، فمن عرف هذا تصور منه أن يشكر على البلاء، ومن لا يؤمن أن ثواب المصيبة أكثر منها لم يتصور منه الشكر على المصيبة. وقد روى أن أعرابياً عزى ابن عباس رضى الله عنه بأبيه فقال: اصبر نكن بك صابرين فإنما ... صبر الرعية عند صبر الرأس خير من العباس صبرك بعده ... والله خير منك للعباس فقال ابن عباس رضى الله عنهما: ما عزاني أحد أحسن من تعزيته. وقد سبق ذكر أنواع البلاء، وثواب الصبر عليها. فإن قال قائل: الأخبار الواردة في فضل الصبر تدل على أن البلاء في الدنيا خير من النعيم، فهل لنا أن نسأل الله عز وجل البلاء؟ فالجواب: أنه لا وجه لذلك، فإن في الحديث من رواية أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاد رجلاً من المسلمين صار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "هل كنت تدعو بشيء أو تسأله؟ " قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة، فعجله لى في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه، فهلا قلت: اللهم آتتا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". ومن حديث أنس رضى الله عنه أيضاً، أن رجلاً قال: يا نبى الله: أي الدعاء أفضل؟ قال: "سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة" ثم أتاه الغد، فقال يا رسول الله، أي الدعاء أفضل؟ قال: "سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة" ثم أتاه اليوم الثالث، فقال: "سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، فإن أعطيت العفو والعافية في الدنيا والآخرة فقد أفلحت". وفى "الصحيحين" انه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تعوذوا بالله من جهد

12 ـ فصل في بيان أيهما أفضل الصبر أم الشكر

البلاء، ودرك الشفاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء". وقال مطرف: لأن أعافى فأشكر، أحب إليَّ من أن ابتلى فأصبر. 12 ـ فصل في بيان أيهما أفضل الصبر أم الشكر واختلف الناس: هل الصبر أفضل من الشكر، أو بالعكس؟ وفى ذلك كلام طويل، ذكره المصنف رحمه الله، وتلخيص القول فيه: أن لكل واحد من الصبر والشكر درجات. فأقل درجات الصبر، ترك الشكوى مع الكراهة، ووراءها المرضى، وهو مقام وراء الصبر، ووراء ذلك الشكر على البلاء وهو وراء الرضى. ودرجات الشكر كثيرة، فإن حياء العبد مع تتابع نعم الله عليه شكر، ومعرفته بالصبر عن الشكر شكر، والمعرفة بعظيم حلم الله وستره شكر، والاعتراف بأن النعم ابتداء من الله بغير استحقاق شكر، والعلم بأن الشكر نعمة من نعم الله شكر، وحسن التواضع في النعم والتذلل فيها شكر، وشكر الوسائط شكر، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا يشكر الله من لا يشكر الناس" وقلة الاعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر، وتلقى النعم بحسن القبول واستعظام صغيرها شكر، فما يندرج من الأعمال والأقوال تحت اسم الشكر والصبر لا ينحصر، وهى درجات مختلفة، فكيف يمكن إجمال القول بتفضيل أحدهما على الآخر؟ لكن نقول: إذا أضيف إلى الشكر الذي هو صرف المال إلى الطاعة، فالشكر أفضل، لأنه تضمن الصبر أيضاً، وفيه فرح بنعمة الله عز وجل، وفيه احتمال ألم في صرفه إلى الفقراء، وترك صرفه إلى التنعيم المباح، فهو أفضل من الصبر بهذا الاعتبار. وأما إذا كان شكر المال ألا يستعين به على معصية، بل يصرفه إلى التنعيم المباح، فالصبر هنا أفضل من الشكر، والفقير الصابر أفضل من الممسك ماله الصارف له في المباحات، لأن الفقير قد جاهد نفسه وأحسن الصبر على بلاء الله تعالى، وجميع ما ورد من تفضيل أجزاء الصبر على الشكر، إنما أريد به هذه الرتبة على الخصوص، لأن

السابق إلى إفهام الناس، من نعمة الأموال، والغنى بها، والسابق من الإفهام من الشكر أن يقول الإنسان: الحمد لله، فإذن الصبر الذي يعتمده العامة أفضل من هذا الشكر الذي يفهمونه، ومتى لحظت المعنى الذي ذكرناه، علمت بأن لكل واحد من القولين وجهاً في بعض الأحوال، فرب فقير صابر أفضل من غنى شاكر كما ذكر، ورب غنى شاكر أفضل من فقير صابر، وذلك هو الغنى الذي يرى نفسه مثل الفقير الذي لا يمسك لنفسه من المال إلا قدر الضرورة، ويصرف الباقي في الخيرات، أو يمسكه على اعتقاده أنه خازن للمحتاجين، وإنما ينتظر حاجة تسنح حتى يصرف إليها، وإذا صرفه لم يصرفه لطلب جاه ولا تقليد منه، فهذا أفضل من الفقير الصابر، والله سبحانه وتعالى أعلم. ***

كتاب الرجاء والخوف

كتاب الرجاء والخوف اعلم: أن الرجاء والخوف جناحان، بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع طريق الآخرة كل عقبة كؤود، ولابد من بيان حقيقتهما وفضيلتهما وسببهما، وما يتعلق بذلك، ونحن نذكرهما في شطرين: الأول: في الرجاء. والثاني: في الخوف. الشطر الأول: الرجاء. واعلم: أن الرجاء من جملة مقامات السالكين وأحوال الطالبين، وإنما يسمى الوصف مقاماً إذا ثبت وأقام، فإن كان عارضاً سريع الزوال سمى حالاً، كما أن الصفرة تنقسم إلى ثابتة، كصفرة الذهب، وإلى سريعة، كصفرة الوجل، وإلى ما بينهما كصفرة المرض، وكذلك صفات القلب تنقسم إلى هذه الأقسام، وإنما سمى غير الثابت حالاً، لأنه يحول عن القلب. واعلم: أن كل ما يلاقيك من محبوب أو مكروه ينقسم إلى موجود في الحال وإلى موجود فيما مضى. فالأول: يسمى وجداً وذوقاً وإدراكاً. والثانى: يسمى ذكراً وإن كان قد خطر ببالك شئ في الاستقبال، وغلب على قلبك، سمى انتظاراً وتوقعاً، فإن كان المنتظر محبوباً، سمى رجاء، وإن كان مكروهاً، سمى خوفاً. فالرجاء: هو ارتياح لانتظار ما هو محبوب عنده، ولكن ذلك المتوقع لابد له من سبب حاصل، فإن لم يكن السبب معلوم الوجود ولا معلوم الانتفاء، سمى تمنياً، لأنه انتظار من غير سبب، ولا يطلق اسم الرجاء والخوف إلا على ما يتردد فيه، فأما ما يقطع به فلا، إذ لا يقال: أرجو طلوع الشمس وأخاف غروبها، لأن ذلك مقطوع به عند طلوعها وغروبها، ولكن يقال: أرجو نزول المطر وأخاف انقطاعه. وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض، والإيمان كالبذر فيه، والطاعات جارية مجرى تنقية الأرض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار ومساقى الماء إليها. وإن القلب المستغرق بالدنيا، كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر. ويوم القيامة هو يوم الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع، ولا ينمو زرع إلا من بذر

الإيمان، وقل أن ينفع مع خبث القلب وسوء أخلاقه، كما لا ينمو البذر في الأرض السبخة. فينبغي أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع، فكل من طلب أرضاً طيبة، وألقى فيها بذراً جيداً غير مسوس ولا عفن، ثم ساق إليها الماء في أوقات الحاجة، ونقَّى الأرض من الشوك والحشيش وما يفسد الزرع، ثم جلس ينتظر من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة، إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته، فهذا يسمى انتظاره رجاء. فأما إن بذر في أرض سبخة صلبة مرتفعة لا يصل إليها الماء ولم يتعاهدها أصلاً، ثم انتظر الحصاد، فهذا يسمى انتظاره حمقاً وغروراً، لا رجاء. وإن بث البذر في أرض طيبة، ولكن لا ماء لها، وأخذ ينتظر مياه الأمطار، سمى انتظاره تمنياً لا رجاء. فإذن اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد، ولم يبق إلا ما ليس إلى اختياره، وهو فضل الله سبحانه، بصرف الموانع المفسدات، فالعبد إذا بث بذر الإيمان، وسقاه ماء الطاعات، وطهر القلب من شوك الأخلاق الرديئة، وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت، وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة، كان انتظاره لذلك رجاءً محموداً باعثاً على المواظبة على الطاعات والقيام بمقتضى الإيمان إلى الموت، وإن قطع بذر الإيمان عن تعهده بماء الطاعات أو ترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق، وانهمك في طلب لذات الدنيا، ثم انتظر المغفرة، كان ذك حمقاً وغروراً. قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف: 169] وذم القائل: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36]. وروى شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله عز وجل الأماني" (¬1). وقال معروف الكرخى رحمه الله: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه خذلان وحمق. ولذلك ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2461) وأحمد 4/ 124، وابن ماجة (4260) وفي سنده أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني وهو ضعيف كان قد سرق بيته، فاختلط، وأخرجه الحاكم 1/ 57، وصححه على شرط البخاري، فتعقبه الذهبي بقوله: لا والله أبو بكر واه.

1 ـ فصل في فضيلة الرجاء

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218]. المعنى: أولئك الذين يستحقون أن يرجوا، ولم يرد به تخصيص وجود الرجاء، لأن غيرهم أيضاً قد يرجو ذلك. واعلم: أن الرجاء محمود، لأنه باعث على العمل، واليأس مذموم، لأنه صارف عن العمل، إذ من عرف أن الأرض سبخة، وأن الماء مغور، وأن البذر لا ينبت، ترك تفقد الأرض، ولم يتعب في تعاهدها. وأما الخوف، فليس بضد الرجاء، بل رفيق له، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وحال الرجاء يورث طريق المجاهدة بالأعمال، والمواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال، ومن آثاره التلذذ بدوام الإقبال على الله عز وجل، والتنعم بمناجاته، والتلطف في التملق له، فإن هذه الأحوال لابد أن تظهر على كل من يرجو ملكاً من الملوك، أو شخصاً من الأشخاص، فكيف لا يظهر ذلك في حق الله سبحانه وتعال؟ فمتى لم يظهر، استدل به على حرمان مقام الرجاء، فمن رجا أن يكون مراداً بالخير من غير هذه العلامات، فهو مغرور. 1 ـ فصل في فضيلة الرجاء روى في "الصحيحين" من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدى بي" وفى رواية أخرى "فليظن بى ما شاء". وفى حديث آخر من رواية مسلم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله". وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: أحبنى، وأحب من يحبنى، وحببنى إلى خلقي. قال: يارب: كيف أحببك إلى خلقك؟ قال: اذكرني بالحسن الجميل، واذكر آلائي وإحساني. وعن مجاهد رحمه الله قال: يؤمر بالعبد يوم القيامة إلى النار، فيقول: ما كان هذا ظني فيقول: ما كان ظنك؟ فيقول: أن تغفر لى، فيقول: خلو سبيله.

2 ـ فصل في دواء الرجاء والسبب الذي يحصل به

2 ـ فصل في دواء الرجاء والسبب الذي يحصل به اعلم: أن دواء الرجاء يحتاج إليه رجلان: إما رجل قد غلب عليه اليأس حتى ترك العبادة. وإما رجل غلب عليه الخوف حتى أضر بنفسه وأهله. فأما العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة، فلا ينبغي أن يستعمل في حقه إلا أدوية الخوف، فإن أدوية الرجاء تقلب في حقه سموماً، كما أن العسل شفاء لمن غلبت عليه البرودة، مضر لمن غلبت عليه الحرارة. ولهذا يجب أن يكون واعظ الناس متلطفاً، ناظراً إلى مواضع العلل، معالجاً كل علة بما يليق بها، وهذا الزمان لا ينبغي أن يستعمل فيه مع الخلق أسباب الرجاء، بل المبالغة في التخويف، وإنما يذكر الواعظ فضيلة أسباب الرجاء إذا كان مقصوده استمالة القلوب إليه، لإصلاح المرضى. وقد قال على رضى الله عنه: إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم مكر الله. إذا عرفت هذا، فاعلم أن من أسباب الرجاء، ما هو من طريق الاعتبار، ومنها ما هو من طريق الأخبار. أما الاعتبار، فهو أن يتأمل جميع ما ذكرناه من أصناف النعم في كتاب الشكر، فإذا علم لطائف الله تعالى بعباده في الدنيا، وعجائب حكمته التي راعاها في فطرة الإنسان، وأن لطفه الإلهي لم يقصر عن عباده في دقائق مصالحهم في الدنيا، ولم يرض أن تفوتهم الزيادات في الرتبة، فكيف يرضى سياقتهم إلى الهلاك المؤبد؟! فإن من لطف في الدنيا يلطف في الآخرة، لأن مدبر الدارين واحد. وأما استقراء الآيات والأخبار، فمن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]. وقال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 4]. وأخبر تعالى أنه أعد النار لأعدائه، وإنما خوف بها أولياءه، فقال: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر: 16]. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]. وقال:

{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 14 - 16]. وقال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6]. ومن الأخبار ما روى أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إن إبليس قال لربه عز وجل: بعزتك وجلالك، لا أبرح أغوى بنى آدم ما دامت الأروح فيهم. فقال الله عز وجل: فبعزتي وجلالى، لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني" (¬1). وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون فيغفر لهم" رواه مسلم. وفى "الصحيحين" من حديث عائشة رضى الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "سدودا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل أحداً الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله منه برحمته". وفى "الصحيحين" من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يقول الله عزل وجل يوم القيامة: يا آدم: قم فابعث بعث النار فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك. يارب: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ يشيب المولود، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2]. فشق ذلك على الناس، حتى تغيرت وجوههم، وقالوا: يارسول الله! وأينا ذلك الواحد؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون، ومنكم واحد" فقال الناس: الله أكبر. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " والله إنى لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة. والله إنى لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، والله إنى لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة. فكبر الناس، فقال: "ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض". فانظر كيف جاء بالتخويف، فلما أزعج جاء باللطف، ومتى اطمأنت القلوب إلى ¬

(¬1) أخرجه أحمد 3/ 29، 76 والحاكم من حديث أبى سعيد الخدرى وفيه أدراج عن أبى الهيثم وهو ضعيف في روايته عنه. وأخرجه أحمد 3/ 41 من طريق آخر ورجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعا.

الشطر الثاني من الكتاب

الهوى، فينبغي أن تزعج فإذا اشتد قلقها، ينبغي أن تسكن ليعتدل الأمر. وقال ابن مسعود رضى الله عنه: ليغفر الله عز وجل يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر. وروى أن مجوسياً استضاف إبراهيم الخليل عليه السلام فلم يضفه وقال: إن أسلمت، أضفتك، فأوحى الله تعالى إليه: يا إبراهيم منذ تسعين سنة أطعمه على كفره فسعى إبراهيم عليه السلام خلفه، فرده وأخبره في الحال، فتعجب من لطف الله تعالى. فأسلم. فهذه الأسباب التي تجتلب بها روح الرجاء إلى قلوب الخائفين واليائسين. فأما الحمقى المغرورون، فلا ينبغي أن يسمعوا شيئاً من ذلك، بل يسمعون ما سنورده في أسباب الخوف، فإن أكثر الناس لا يصلحون إلا على ذلك، كعبد السوء الذي لا يستقيم إلا بالعصا. الشطر الثاني من الكتاب في 3ـ الخوف وحقيقته وبيان درجاته وغير ذلك اعلم: أن الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال. مثال ذلك، من جنى على ملك جناية، ثم وقع في يده، فهو يخاف القتل، ويجوز العفو، ولكن يكون تألم قلبه بحسب قوة علمه بالأسباب المفضية إلى قتله، وتفاحش جنايته، وتأثيرها عند الملك، وبحسب ضعف الأسباب يضعف الخوف. وقد يكون الخوف لا عن سبب جناية، بل عن صفة المخوف وعظمته وجلاله، إذ قد علم أن الله سبحانه، لو أهلك العالمين لم يبال، ولم يمنعه مانع، فبحسب معرفة الإنسان بعيوب نفسه، وبجلال الله تعالى واستغنائه، وأنه لا يسأل عمل يفعل، يكون خوفه. وأخوف الناس أعرفهم بنفسه وبربه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا أعرفكم بالله، وأشدكم له خشية" (¬1). وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري 10/ 437، ومسلم (2356) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً فترخص فيه، فبلغ ذلك ناساً من أصحابه فكأنهم كرهوه، وتنزهوا فبلغه ذلك، فقام خطيباً، فقال: "ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه، وتنزهوا عنه، فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم خشية له".

4 ـ فصل [الخوف سوط الله تعالى]

الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وإذا كملت المعرفة، أثرت الخوف، ففاض أثرت الخوف، ففاض أثره على القلب، ثم ظهر على الجوارح والصفات بالنحول والاصفرار والبكاء والغشى، وقد يفضي إلى الموت، وقد يصعد إلى الدماغ فيفسد العقل. وأما ظهور أثره على الجوارح، فبكفها عن المعاصي، وإلزامها الطاعات، تلافياً لما فرط، واستعداداً للمستقبل. قال بعضهم: من خاف أدلج. وقال آخر: ليس الخائف من بكى، إنما الخائف من ترك ما يقدر عليه. ومن ثمرات الخوف، أنه يقمع الشهوات، ويكدر اللذات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العسل مكروهاً عند من يشتهيه إذ علم أن فيه سماً، فتحترق الشهوات بالخوف، وتتأدب الجوارح، ويذل القلب ويستكين، ويفارقه الكبر والحقد والحسد، ويصير مستوعب الهم لخوفه، والنظر في خطر عاقبته، فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة، والمجاهدة، والضنة بالأنفاس واللحظات، ومؤاخذة النفس في الخطرات والخطوات والكلمات، ويكون حاله كحال من وقع في مخالب سبع ضار لا يدرى أيغفل عنه فيفلت، أو يهجم عليه فيهلكه، ولا شغل له إلا ما وقع فيه، فقوة المراقبة والمحاسبة بحسب قوة الخوف، وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله تعالى، وصفاته، وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال. وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره في الأعمال، أن يمنع المحظورات، فإن منع ما يتطرق إليه إمكان التحريم، سمى ورعاً، وإن انضم إليه التجرد والاشتغال بذلك عن فضول العيش، فهو الصدق. 4 ـ فصل [الخوف سوط الله تعالى] اعلم: أن الخوف سوط الله تعالى يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل، لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى. والخوف، له إفراط، وله اعتدال، وله قصور. والمحمود من ذلك الاعتدال، وهو بمنزلة السوط للبهيمة فإن الأصلح للبهيمة أن لا تخلو عن سوط، وليس المبالغة في الضرب محمودة ولا التقاصر عن الخوف أيضاً محمود، وهو كالذي يخطر بالبال عند سماع آية، أو سبب هائل، فيورث البكاء، فإذا

5 ـ بيان أقسام الخوف

غاب ذلك السبب عن الحس، رجع القلب إلى الغفلة، فهو خوف قاصر قليل الجدوى، ضعيف النفع، وهو كالقضيب الضعيف الذي يضرب به دابة قوية فلا يؤلمها ألماً مبرحاً، فلا يسوقها إلى المقصد، ولا يصلح لرياضتها، وهذا هو الغالب على الناس كلهم، إلا العارفين والعلماء، أعنى العلماء بالله وبآياته، وقد عز وجودهم. وأما المرتسمون برسوم العلم، فإنهم أبعد الناس عن الخوف. وأما القسم الأول، وهو الخوف المفرط، فهو كالذي يقوى ويجاوز حد الاعتدال حتى يخرج إلى اليأس والقنوط، فهو أيضاً مذموم، لأنه يمنع من العمل، وقد يخرج المرض والوله والموت، وليس ذلك محموداً، وكل ما يراد لأمر، فالمحمود منه ما يفضي إلى المراد المقصود منه، وما يقصر عنه أو يجاوزه، فهو مذموم، وفائدة الخوف الحذر، والورع، والتقوى، والمجاهدة والفكر، والذكر، والتعبد وسائر الأسباب التي توصل إلى الله تعالى، وكل ذلك يستدعى الحياة، مع صحة البدن وسلامة العقل، فإذا قدح في ذلك شىء، كان مذموماً. فإن قيل: فما تقول فيمن مات من الخوف؟ فالجواب: أنه ينال لموته على تلك الحال مرتبة لا ينالها لو مات من غير خوف، إلا أنه لو عاش وترقى إلى درجات المعارف والمعاملة، كان أفضل، فإن أفضل السعادة طول العمر في طاعة الله تعالى، فكل ما أبطل العمر والعقل والصحة فهو نقصان وخسران. 5 ـ بيان أقسام الخوف اعلم: أن مقامات الخائفين تختلف، فمنهم من يغلب على قلبه خوف الموت قبل التوبة، ومنهم من يغلب عليه خوف الاستدراج بالنعم، أو خوف الميل عن الاستقامة، ومنهم من يغلب عليه خوف سوء الخاتمة. وأعلى من هذا خوف السابقة، لأن الخاتمة فرع السابقة، والله تعالى يرفع من يشاء من غير وسيلة، ويضع من يشاء من غير وسيلة، لا يسأل عما يفعل. وقد قال: "هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي". ومن أقسام الخائفين، من يخاف سكرات الموت وشدته، أو سؤال منكر ونكير، أو عذاب القبر. ومنهم من يخاف هيبة الوقوف بين يدي الله تعالى، والخوف من المناقشة والعبور على الصراط، والخوف من النار وأهوالها، أو حرمان الجنة، أو الحجاب عن الله سبحانه

6 ـ فصل في فضيلة الخوف والرجاء وما ينبغي أن يكون الغالب منهما

وتعالى، وكل هذه الأسباب مكروهة في أنفسها، مخوفة. فأعلاها رتبة خوف الحجاب عن الله تعالى، وهو خوف العارفين، وما قبل ذلك خوف الزاهدين والعابدين. 6 ـ فصل في فضيلة الخوف والرجاء وما ينبغي أن يكون الغالب منهما فضيلة كل شىء بقدر إعانته على طلب السعادة، وهى لقاء الله تعالى، والقرب منه، فكل ما أعان على ذلك فهو فضيلة. قال الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]. وقال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]. وفى الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إذا اقشعر جلد العبد من مخافة الله عز وجل تحاتت عنه ذنوبه، كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها" (¬1). وفى حديث آخر: "لن يغضب الله على من كان فيه مخافة" (¬2) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله عز وجل: "وعزتي وجلالى، لا أجمع على عبدى خوفين، ولا أجمع له أمنين، إن أمنني في الدنيا، أخفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا، أمنته يوم القيامة" (¬3). وعن ابن عباس رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "عينان لا تمسهما النار أبداً: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله". واعلم: أن قول القائل: أيما أفضل الخوف، أو الرجاء؟ كقوله: أيما أفضل الخبز أو الماء؟ وجوابه: أن يقال الخبز للجائع أفضل، والماء للعطشان أفضل، فإن اجتمعا، نظر إلى الأغلب، فإن استويا، فهما متساويان، والخوف والرجاء دواء أن يداوى بهما القلوب، ففضلهما بحسب الداء الموجود، فإن كان الغالب على القلب الأمن من مكر الله، فالخوف أفضل، وكذلك إن كان الغالب على العبد المعصية، وإن كان الغالب ¬

_ (¬1) رواه الطبراني والبيهقي من حديث العباس رضي الله عنه بسند ضعيف كما قال الحافظ العراقي. (¬2) لم نجده. (¬3) أخرجه ابن حبان (2494) من حديث أبي هريرة، وسنده حسن.

عليه اليأس والقنوط، فالرجاء أفضل. ويجوز أن يقال مطلقاً: الخوف أفضل، كما يقال: الخبز أفضل من السكنجبين لأن الخبز يعالج به مرض الجوع، والسكنجبين يعالج به مرض الصفراء، ومرض الجوع أغلب وأكثر، فالحاجة إلى الخبز أكثر، فهو أفضل بهذا الاعتبار، لأن المعاصي والاغترار من الخلق أغلب. وإن نظرنا إلى موضع الخوف والرجاء فالرجاء أفضل لأن الرجاء يستقي من بحر الرحمة، والخوف يستقي من بحر الغضب. وإما المتقي، فالأفضل عنده اعتدال الخوف والرجاء، ولذلك قيل: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه، لاعتدلا. قال بعض السلف: لو نودي: ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلاً واحداً، لخشيت أن أكون أنا ذلك الرجل. ولو نودي: ليدخل النار كل الناس إلا رجلاً واحداً، لرجوت أن أكون أنا ذلك الرجل. وهذا ينبغي أن يكون مختصاً بالمؤمن المتقى. فإن قيل: كيف اعتدال الخوف والرجاء في قلب المؤمن، وهو على قدم التقوى؟ فينبغي أن يكون رجاؤه أقوى. فالجواب: أن المؤمن غير متيقن صحة عملهن فمثله مثل من بذر بذراً ولم يجرب جنسه في أرض غريبة، والبذر الإيمان، وشروط صحته دقيقة، والأرض القلب، وخفايا خبثه وصفائه من النفاق، وخبايا الأخلاق غامضة، والصواعق أهوال سكرات الموت، وهناك تضطرب العقائد، وكل هذا يوجب الخوف عليه، وكيف لا يخاف المؤمن؟ وهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه يسأل حذيفة رضى الله عنه: هل أنا من المنافقين؟ وإنما خاف أن تلتبس حاله عليه، ويستتر عيبه عنه، فالخوف المحمود هو الذي يبعث على العمل، ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا. وأما عند نزول الموت، فالأصلح للإنسان الرجاء، لأن الخوف كالسوط الباعث على العمل، وليس ثمة عمل، فلا يستفيد الخائف حيئنذ إلا تقطيع نياط (¬1) قلبه، والرجاء في هذه الحال يقوى قلبه، ويحبب إليه ربه، فلا ينبغي لأحد أن يفارق الدنيا ¬

(¬1) النياط: عرق علق به القلب من الوتين.

7 ـ فصل في بيان الدواء الذي يستجلب به الخوف

إلا محباً لله تعالى، محباً، للقائه، حسن الظن به. وقد قال سليمان التيمي عند الموت لمن حضره: حدثني بالرخص، لعلى ألقى الله وأنا أحسن الظن به. 7 ـ فصل في بيان الدواء الذي يستجلب به الخوف وذلك يحصل بطريقين: أحدهما أعلى من الآخر. مثاله أن الصبي إذا كان في بيت، فدخل عليه سبع، أو حية، ربما لم يخف منه، وربما مد يده إلى الحية ليأخذها يلعب بها، ولكن إذا كان معه أبوه فهرب منها وخافها، هرب الصبي، وخاف موافقة لأبيه، فخوف الأب عن معرفة، وخوف الولد من غير معرفة، بل هو تقليد لأبيه. فإذا عرفت هذا، فاعلم أن الخوف من الله تعالى على مقامين: أحدهما: الخوف من عذابه، وهذا خوف عامة الخلق، وهو حاصل بالإيمان بالجنة والنار، وكونها جزاءين على الطاعة والمعصية، ويضعف هذا الخوف بسبب ضعف الإيمان، أو قوة الغفلة. وزوال الغفلة يحصل بالتذكر، والتفكر في عذاب الآخرة، ويزيد بالنظر إلى الخائفين ومجالستهم، أو سماع أخبارهم. المقام الثاني: الخوف من الله تعالى، وهو خوف العلماء العارفين. قال الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 3]. وصفاته سبحانه تقتضي الهيبة والخوف، فهم يخافون البعد والحجاب. قال ذو النون: خوف النار عند خوف الفراق، كقطرة في بحر، ولعامة الناس حظ من هذا الخوف، ولكن بمجرد التقليد، فهو يضاهى خوف الصبي من الحية، تقليداً لأبيه، فلذلك يضعف، فإن العقائد التقليدية ضعيفة في الغالب، إلا إذا قويت بمشاهدة أسبابها المولدة لها على الدوام، وبالمواظبة على مقتضاها في تكثير الطاعات، واجتناب المعاصي، فإذا ارتقى العبد إلى معرفة اله تعالى، خافه بالضرورة، ولا يحتاج إلى علاج يجلب الخوف إلى قلبه، بل يخاف بالضرورة.

من قصر، فسبيله أن يعالج نفسه بسماع الأخبار والآثار، فيطالع أحوال الخائفين وأقوالهم، ويسبب عقولهم ومناصبهم إلى مناصب الراجين المغرورين، فلا يتمارى في أن الاقتداء لهم أولى، لأنهم الأنبياء والعلماء والأولياء. وفى "صحيح مسلم" من حديث عائشة رضى الله عنها، قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار. فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يدرك الشر ولم يعمله، قال: "أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله عز وجل خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم". ومن أعجب ما ظاهره الرجاء وهو شديد التخويف، قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] فإنه علق المغفرة على أربعة شروط، يبعد تصحيحها. ومن المخوفات قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر: 1، 2] ثم ذكر بعدها أربعة شروط، بها يقع الخلاص من الخسران. وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. ومعلوم أنه لو كان الأمر مستأنفاً لامتدت الأطماع في التحيل، فأما ما حق في القدم، فلا يمكن تداركه فليس إلا التسليم، لولا أن الله تعالى لطف بعارفيه، وروح قلوبهم بالرجاء، لاحترقت من نار الخوف. وقال أبو الدراء رضى الله عنه: ما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه عند الموت إلا سلبه. ولما حضرت سفيان الثوري الوفاة، جعل يبكى، فقال له رجل: يا أبا عبد الله: أراك كثير الذنوب، فرفع شيئاً من الأرض وقال: والله لذنوبي أهون عندي من هذا، ولكن أخاف أن أسلب الإيمان قبل الموت. وكان سهل رحمه الله تعالى يقول: المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي، والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر.

ويروى أن نبياً من الأنبياء، شكا إلى الله تعالى الجوع والعرى، فأوحى الله عز وجل إليه: عبدى، أما رضيت أن عصمت قلبك أن يكفرني حتى تسألني الدنيا؟! فأخذ التراب فوضعه على رأسه وقال: بلى قد رضيت، فاعصمني من الكفر. فإذا كان هذا خوف العارفين من سوء الخاتمة مع رسوخ أقدامهم، فكيف لا يخاف ذلك الضعفاء؟! ولسوء الخاتمة أسباب تتقدم على الموت، مثل البدعة، والنفاق، والكبر، ونحو ذلك من الصفات المذمومة، ولذلك اشتد خوف السلف من النفاق. قال بعضهم: لو أعلم أنى برى من النفاق، كان أحب إلى مما طلعت عليه الشمس، ولم يريدوا بذلك نفاق العقائد، إنما أرادوا نفاق الأعمال، كما ورد في الحديث الصحيح: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان". وسوء الخاتمة على رتبتين: إحداهما أعظم، وهو أن يغلب على القلب والعياذ بالله شك، أو جحود عند سكرات الموت وأهواله، فيقتضي ذلك العذاب الدائم. والثانية دونها، وهى أن يسخط الأقدار، ويتكلم بالاعتراض، أو يجوز في وصيته، أو يموت مصراً على ذنب من الذنوب. وقد روى أن الشيطان لا يكون في حال أشد على ابن آدم من حال الموت، يقول لأعوانه: دونكم هذا، فإنه إن فاتكم اليوم لم تلحقوه. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه كان يدعو: "اللهم إنى أعوذ بك أن يتخبطنى الشيطان عند الموت" (¬1). قال الخطابي: وذلك أن يستولي على الإنسان حينئذ، فيضله ويحول بينه وبين التوبة أو يمنعه الخروج من مظلمة، أو يؤيسه من رحمة الله ويكره إليه الموت، فلا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1552) والنسائي 8/ 282 من حديث أبي اليسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: "اللهم إني أعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من التردي، وأعوذ بك من الحرق والغرق والهدم وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً وأعوذ بك أن أموت لديغاً" وسنده قوي، وصححه الحاكم.

يرضى بقضاء الله عز وجل. والأسباب التي تفضي إلى سوء الخاتمة لا يمكن انحصارها على التفصيل، لكن يمكن الإشارة إلى مجامع ذلك. أما الختم على الشك والجحود، فسببه البدعة، ومعناها أن يعتقد في ذات الله تعالى، أو صفاته، أو أفعاله خلاف الحق، إما تقليداً، أو برأيه الفاسد، فإذا انكشف الغطاء عند الموت، بان له بطلان ما اعتقده، فيظن أن جميع ما اعتقده هكذا لا أصل له. ومن اعتقد في الله سبحانه وصفاته اعتقاداً مجملاً على طريق السلف من غير بحث ولا تنقر، فهو بمعزل عن هذا الخطر إن شاء الله تعالى. وأما الختم على المعاصي، فسببه ضعف الإيمان في الأصل، وذلك يورث الانهماك في المعاصى، والمعاصى مطفئة لنور الإيمان، وإذا ضعف الإيمان ضعف حب الله تعالى، فإذا جاءت سكرات الموت، ازداد ذلك ضعفا، لاستشعاره فراق الدنيا، فإن السبب الذي يفضي إلى مثل هذا الخاتمة، وهو حب الدنيا، والركون إليها، مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله، فمن وجد في قلبه حب الله تعالى، أغلب من حب الدنيا، فهو أبعد من هذا الخطر، وكل من مات على محبة الله تعالى، قدم به قدوم العبد المحسن المشتاق إلى مولاه، فلا يخفى ما يلقاه من الفرح والسرور بمجرد القدوم، فضلاً عما يستحقه من الإكرام. ومن فارقه الروح في حال، خطر بباله فيها لإنكار على الله سبحانه في فعله، أو كان مصراً على مخالفته، قدم على الله قدوم من قدم به قهراً، فلا يخفى ما يستحقه من النكال. فمن أراد طريق السلامة، تزحزح عن أسباب الهلاك، على أن العلم بتقليب القلوب وتغيير الأحوال، يقلقل قلوب الخائفين. وقد ورد في "الصحيحين" من حديث سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، وإنه لمن أهل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنه وإنه من أهل النار". وروى: "إن العبد إذا عرج بروحه إلى السماء، قالت الملائكة: سبحان الله! نجا هذا العبد من الشيطان: يا ويحه! كيف نجا"؟!

8 ـ ذكر خوف الملائكة عليهم السلام

وإذا عرفت معنى سوء الخاتمة، فاحذر أسبابها، وأعد ما يصلح لها، وإياك والتسويف بالاستعداد، فان العمر قصير، كل نفس من أنفاسك بمنزلة خاتمتك، لأنه يمكن أن تخطف فيه روحك، والإنسان يموت على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه. واعلم: أنه لا يتيسر لك الاستعداد بما يصلح، إلا أن تقنع بما يقيمك، وترفض طلب الفضول، وسنورد عليك من أخبار الخائفين ما نرجو أن يزيل بعض القساوة من قلبك، فانك متحقق أن الأنبياء والأولياء كانوا أعقل منك، فتفكر في اشتداد خوفهم، لعلك تستعد لنفسك. 8 ـ ذكر خوف الملائكة عليهم السلام قال الله تعالى في صفتهم: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]. وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إن لله ملائكة ترعد فرائصهم من مخافته" (¬1). وذكر تمام الحديث. وبلغنا أن من حملة العرش من تسيل عينيه مثل الأنهار، فإذا رفع رأسه قال: سبحانك ما تخشى حق خشيتك، فيقول الله: لكن الذين يحلفون باسمي كاذبين لا يعلمون ذلك. وعن جابر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لما كان ليلة أسرى بى، رأيت جبريل عليه السلام كالشن (¬2) البالي من خشية الله تعالى". وبلغنا أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكى فقال: له: "ما يبكيك، قال: ما جفت لى عين منذ خلق الله جهنم مخافة أن أعصيه، فليقيني فيها". وعن يزيد الرقاشي قال: إن لله تعالى ملائكة حول العرش تجرى أعينهم مثل الأنهار إلى يوم القيامة، يميدون كأنما تنفضهم الريح من خشية الله تعالى، فيقول لهم ¬

(¬1) لم نجده. (¬2) الشن: القربة الخلق.

9 ـ ذكر خوف الأنبياء عليهم السلام

الرب عز وجل: يا ملائكتي ما الذي يخيفكم وأنتم عندى؟ فيقولون: يارب! لو أن أهل الأرض اطلعوا من عزتك وعظمتك على ما اطلعنا عليه، ما أساغوا طعاماً ولا شراباً، ولا انبسطوا في فرشهم، ولخرجوا إلى الصحارى يخورون كما تخور البقر. وقال محمد بن المنكدر: لما خلقت النار، طارت أفئدة الملائكة من أماكنها، فلما خلق آدم عادت. وروي أنه لما ظهر من إبليس ما ظهر، طفق جبريل وميكائيل يبكيان، فأوحى الله تعالى إليهما: "ما هذا البكاء؟ قالا: يارب! ما نأمن من مكرك. فقال تعالى: هكذا فكونا". 9 ـ ذكر خوف الأنبياء عليهم السلام قال وهب: بكى آدم عليه السلام على الجنة ثلاثمائة عام، وما رفع رأسه إلى السماء بعد ما أصاب الخطيئة. وقال وهيب بن الورد: لما عاتب الله تعالى نوحاً عليه السلام في ابنه فقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] بكى ثلاثمائة عام حتى صار تحت عينيه أمثال الجداول من البكاء. وقال أبو الدرداء رضى الله عنه: كان يسمع لصدر إبراهيم عليه السلام إذا قام إلى الصلاة أزيز من بعد خوفاً من الله عز وجل. وقال مجاهد: لما أصاب داود عليه السلام الخطيئة، خر لله ساجداً أربعين يوماً حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطى رأسه، ثم نادى يارب: قرح الجبين، وجمدت العين، وداود لم يرجع إليه في خطيئته شىء، فنودي: أجائع أنت فتطعم؟ أم مريض فشفى؟ أم مظلوم فتنصر، فنحب نحيباً هاج كل شىء نبت، فعند ذلك غفر له. وقيل: كان داود عليه السلام يعود الناس يظنون أنه مريض، وما به إلا شدة الفرق من الله عز وجل. وكان عيسى عليه السلام إذا ذكر الموت يقطر جلده دماً.

10 ـ ذكر خوف نبينا صلى الله عليه وآله وسلم

وبكى يحيى بن زكريا عليهما السلام حتى بدت أضراسه، فاتخذت أمه قطعين من لبود فألصقتها بخدية. 10 ـ ذكر خوف نبينا صلى الله عليه وآله وسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قط مستجمعاً ضاحكاً، حتى أرى لهواته (¬1) إنما كان يبتسم، وكان إذا رأى غيماَ وريحاً عرف ذلك في جهه، فقلت: يارسول الله: الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت الكراهه في وجهك! فقال: "يا عائشة: مايؤمننى أن يكون فيه عذاب؟ قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا" أخرجاه في "الصحيحين". وكان صلى الله عليه وآله وسلم يصلى ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. 11 ـ ذكر خوف أصحابه رضى الله عنهم روينا عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه كان يمسك لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. وقال: ياليتنى كنت شجرة تعضد ثم تؤكل. وكذلك قال طلحة وأبو الدرداء وأبو ذر رضى الله عنهم. وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يسمع آية فيمرض فيعاد أياماً. وأخذ يوما تبنة من الأرض فقال: باليتني كنت هذه التبنة، ياليتنى لم أك شيئاً مذكوراً، ياليت أمي لم تلدني. وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء. وقال عثمان رضى الله عنه: وددت أني إذا مت لا أبعث. وقال أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه: وددت أنى كنت كبشاً فذبحني أهلي، فأكلوا لحمى، وحسوا مرقي. وقال عمران بن حصين: ياليتنى كنت رماداً تذروه الرياح. ¬

(¬1) اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق، أو ما بين منقطع أصل اللسان إلى منقطع القلب من أعلى القسم، جمعها: لهوات، ولهيات.

12 ـ ذكر خوف التابعين ومن بعدهم

وقال حذيفة رضى الله عنه: وددت أن لى إنساناً يكون في مالي، ثم أغلق علىَّ بابى، فلا يدخل على أحد حتى ألحق بالله عزَّ وجل. وكان مجرى الدمع في خد ابن عباس رضى الله عنه كالشراك البالي. وقالت عائشة رضى الله عنها: ياليتنى كنت نسياً منسياً. وقال على رضى الله عنه: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم. لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله تعالى، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله عز وجل، مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين. 12 ـ ذكر خوف التابعين ومن بعدهم قال هرم بن حيان: وددت والله أنى شجرة أكلتني ناقة، ثم قذفتني بعراً، ولم أكابد الحساب يوم القيامة، إنى أخاف الداهية الكبرى. وكان على بن الحسين إذا توضأ اصفَّر وتغير، فيقال: ما لك؟ فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ وكان محمد بن واسع يبكى عامة الليل لا يكاد يفتر. وكان عمر بن عبد العزيز إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، ويبكى حتى تجرى دموعه على لحيته. وبكى ليلة فبكى أهل الدار، فلما تجلب عنهم العبرة قالت فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ قال: ذكرت منصرف القوم من بين يدي الله تعال، فريق في الجنة، وفريق في السعير. ثم صرخ وغشى عليه. ولما أراد المنصور بيت المقدس، نزل براهب كان ينزل به عمر بن عبد العزيز فقال له: أخبرني بأعجب ما رأيت من عمر. فقال: بات ليلة على سطح غرفتي هذه وهو من رخام، فإذا أنا بماء يقطر من الميزاب، فصعدت فإذا هو ساجد، وإذا دموع عينه تنحدر من الميزاب. وقد روينا عن عمر بن العزيز وفتح الموصلي أنهما بكيا الدم.

وقال إبراهيم بن عيسى اليشكرى: دخلت على رجل بالبحرين قد اعتزال الناس، وتفرغ لنفسه، فذاكرته شيئاً من أمر الآخر، وذكر الموت. قال: فجعل يشهق حتى خرجت نفسه. وقال مسمع: شهدت عبد الواحد بن زيد وهو يعظ، فمات يومئذ في ذلك المجلس أربعة أنفس. وكان يزيد بن مرشد يبكى كثيراً ويقول: والله لو تواعدني ربى أن يسجنني في الحمام، لكان حقي أن لا أفتر من البكاء، فكيف وقد تواعدني أن يسجنني في النار إن عصيته؟! وقال السري السقطي: إنى لأنظر كل يوم إلى أنفى مخافة أن يكون قد اسود وجهي. فهذه مخاوف الملائكة والأنبياء والعلماء والأولياء، ونحن أجدر بالخوف منهم، ولكن ليس الخوف بكثرة الذنوب ولكن بصفاء القلوب وكمال المعرفة، وإنما أمنا لغلبة جهلنا وقوة قساوتنا، فالقلب الصافي تحركه أدنى مخافة، والقلب الجامد تنبو عنه كل المواعظ. قال بعض السلف: قلت لراهب: أوصني، فقال: إن استطعت أن تكون بمنزلة رجل قد احتوشته السباع والهوام، فهو خائف حذر يخاف أن يغفل فيفترسنه، أو يسهو فينهشنه، فهو مذعور فافعل. قلت: زدني. فقال: الظمآن يجزيه من الماء أيسره. وما ذكره هذا الراهب من تقدير شخص احتوشته السباع والهوام، فهو حقيقة في حق المؤمن، فان من نظر إلى باطنه بنور بصيرته، رآه مشحوناً بالسباع والهوام، كالغضب، والحقد، والحسد، والكبر، والعجب، والرياء، وغير ذلك، وكلهن ينهشه ويفترسنه إن سها عنهن، إلا أنه محجوب عن مشاهدتها، فإذا انكشف الغطاء ووضع في القبر، عاينها متمثلة حيات وعقارب يلدغنه، وإنما هي صفاته الحاضرة الآن، فمن أراد أن يقهرها قبل الموت ويقتلها فليفعل، وإلا فليوطن نفسه على لدغها لصميم قلبه، فضلاً عن ظاهر بشرته والسلام. أخر كتاب الخوف. ***

كتاب الزهد والفقر

كتاب الزهد والفقر اعلم: أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وبعضها أسباب كل طاعة، وقد سبق ذم الدنيا في ربع المهلكات، ونحن نذكر الآن فضل البغض لها والزهد فيها، فإنه رأس المنجيات. ومقاطعتها إما أن تكون بانزوائها عن العبد ويسمى ذلك فقراً، وإما بانزواء العبد عنها، ويسمى ذلك زهداً، ولكل واحد منهما درجة في نيل السعادات، وحظ في الإعانة على الفوز والنجاة. ونحن نذكر الفقر، والزهد، ودرجاتهما، وأقسامهما، وما يتعلق بهما في شطرين: الشطر الأول من الكتاب في الفقر: اعلم: أن الفقير إلى الشيء هو المحتاج إليه، وكل موجود سوى الله تعالى فهو فقير، لأنه محتاج إلى دوام الموجود، وذلك مستفاد من فضل الله تعالى. وأما فقر العبد بالإضافة إلى أصناف حاجاته فلا يحصر، ومن جملة حاجاته ما يتوصل إليه بالمال، ثم يتصور أن يكون له خمسة أحوال عند فقرة: الأولى: أن يكون بحيث لو أتاه المال لكرهه وتأذى به، وهرب من أخذه بغضها له واحترازاً من شره وشغله، وصاحب هذه الحالة يسمى زاهداً. الحالة الثانية: أن يكون بحيث لا يرغب فيه رغبة يفرح بحصوله، ولا يكرهه كراهه يتأذى بها، وصاحب هذه الحالة يسمى راضياً. الثالثة: أن يكون وجود المال أحب إليه من عدمه لرغبة له فيه، ولكن لم يبلغ من رغبته أن ينهض لطلبه، بل إن أتاه عفواً أو صفواً أخذه وفرح به، وإن افتقر إلى تعب في طلبه لم يشتغل به. وصاحب هذه الحالة يسمى قانعاً. الرابعة: أن يكون تركه للطلب لعجزه، وإلا فهو راغب فيه، لو وجد سبيلاً إلى طلبه بالتعب لطلبه، وصاحب هذه الحالة يسمى الحريص. الخامسة: أن يكون مضطراً إلى ما قصده من المال، كالجائع، والعاري الفاقد للمأكول والملبوس. ويسمى صاحب هذه الحالة مضطراً، كيفما كانت رغبته في الطلب ضعيفة أو قوية.

1 ـ فصل في فضيلة الفقر وتفضيل الفقر على الغنى

وأعلى هذه الخامسة: الحالة الأولى، وهى: الزهد، ووراءها حالة أخرى أعلى منها، وهى أن يستوي عنده وجود المال وعدمه، فإن وجده لم يفرح به، ولم يتأذ إن فقده، كما روينا عن عائشة رضى الله عنها أنها جاءها مال في غرارتين (¬1)،ففرقته في يومها، فقالت لها جاريتها: أما استطعت أن تشترى لنا مما قسمت لحماً بدرهم نقطر عليه؟ فقالت: لو ذكريني لفعلت. فمن هذه حاله لو كانت الدنيا بحذافيرها في يده لم تضره، إذ هو يرى الأموال في خزانة الله تعالى، لا في يد نفسه. وينبغى أن يسمى صاحب هذه الحالة المستغنى، لأنه غنى عن عند فقد المال وجوده جميعاً، ومتى كان الزاهد في الدنيا لا يرغب في وجودها، ولاعدمها، فهو في غاية الكمال. قال أحمد بن أبى الحواري لأبى سليمان الدارانى: قال مالك بن دينار للمغيرة: اذهب إلى البيت فخذ الزكاة التي أهديتها لى، فإن الشيطان يوسوس لى أن اللص قد أخذها، فقال أبو سليمان: هذا من ضعف الزهد، هو قد زهد في الدنيا ما عليه من أخذها. فالهرب من المال والزهد فيه في حق الضعفاء كمال، فآما في حق الأنبياء والأقوياء، فسواء عليهم وجوده وعدمه. وقد يظهر القوى النفار من المال ليقتدي به الضعفاء في الترك، والله أعلم. 1 ـ فصل في فضيلة الفقر وتفضيل الفقر على الغنى أما الآيات فقد قال الله تعالى في معرض المدح في حق الفقراء: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 273]. وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}. . . الآية [الحشر: 8]. وأما الأخبار فكثيرة، منها: قول صلى الله عليه وآله وسلم: " قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء، إلا أن أصحاب الجد محبوسون " وذكر تمام الحديث. وهو في "الصحيحين". ¬

(¬1) الغرارة: الجوالق وهو وعاء توضع به الدراهم. جمعها: غرائر.

وفيهما من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً". وفيهما من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض. وفي أفراد مسلم من حديث عمر رضي الله عنه قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يظل اليوم يتلوي ما يجد دقلا (¬1) يملأ بطنه. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام" وقال الترمذي: حديث صحيح. وقال صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة رضي الله عنها: "إياك ومجالسة الأغنياء" (¬2). وقال: "يؤتى بالعبد يوم القيامة فيعتذر الله عز وجل إليه كما يعتذر الرجل إلى الرجل في الدنيا، فيقول: وعزتي وجلالى ما زويت الدنيا عنك لهوانك على، ولكن لما أعددت لك من الكرامة. اخرج يا عبدى إلى هذه الصفوف، فمن أطعمك أو كساك يريد بذلك وجهي، فخذ بيده فهو لك" (¬3). وقيل لموسى عليه السلام: إذا رأيت الفقر مقبلاً، فقل: مرحباً بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى مقبلاً فقل: ذنب عجلت عقوبته. وقال أبو الدرداء: حساب ذي الدرهمين أشد حساباً من ذي الدرهم. وكان الفقراء يتقدمون في مجلس الثوري على الأغنياء. وجاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم بعشرة آلاف درهم فلم يقبلها، وقال: تريد أن تمحو اسمي من ديوان الفقراء!؟ لا أفعل. ¬

_ (¬1) الدقل: أردأ التمر. (¬2) أخرجه الترمذي (1781) من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "إذا أردت اللحوق بي، فليكفك من الدنيا كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تستخلقي ثوباً حتى ترقيعه" وفي سنده صالح بن حسان النضري متروك اتفقوا على ضعفه. (¬3) حديث لا يصح انظر "شرح الأحياء" 9/ 278، 279.

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "طوبى لمن هدى إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً، وقنع بما آتاه عز وجل". وقد ذكرنا في القناعة وذم الحرص والطمع في كتاب ذم المال ما يغنى عن الإعادة، ولا يقدر على ذلك إلا بعد القوة الصبر. وأما التفضيل بين الغنى والفقير، فظاهر النقل يدل على تفضيل الفقير، ولكن لابد من تفصيل، فنقول: إنما يتصور الشك والخلاف في فقير صابر ليس بحريص بالإضافة إلى غنى شاكر ينفق ماله في الخيرات، أو فقير حريص مع غنى حريص، إذ لا يخفى أن الفقير القانع الحريص، فإن كان متمتعاً بالمال في المباحات، فالفقير القنوع أفضل منه. وكشف الغطاء في هذا أن ما يراد لغيره، ولا يرد لعينه، ينبغي أن يضاف إلى مقصوده، إذ به يظهر فضله، والدنيا ليست محذورة لعينها، بل لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى، والفقر ليس مطلوباً لعينه، ولكن لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى، وعدم التشاغل عنه. وكم من غنى لا يشغله عن الله تعالى، كسليمان عليه السلام، وكذلك عثمان [بن عفان] وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما. وكم من فقير شغله فقره عن المقصود، وصرفه عن حب الله تعالى والأنس به، وإنما الشاغل له حب الدنيا، وإذا لا يجتمع معه حب الله تعالى، فإن المحب للشيء مشغول به، سواء كان في فراقه، أو في وصاله، بل قد يكون شغله في الفراق أكثر. والدنيا معشوقة الغافلين، فالمحرم منها مشغول بطلبها، والقادر عليها مشغول بحفظها والتمتع بها. وإن أخذت الأمر باعتبار الأكثر، فالفقير عن الخطر أبعد، لأن فتنة السراء أشد من فتنة الضراء، ومن العصمة أن لا تجد، ولما كان ذلك طبع الآدميين إلا القليل منهم، جاء الشرع بذم الغنى وفضل الفقر. وقد تقدم ما يدل على فضله. ومن ذلك ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "التقى مؤمنان على باب الجنة: مؤمن غنى، ومؤمن فقير، كانا في الدنيا، فأدخل الفقير الجنة، وحبس الغنى ما شاء الله تعالى أن يحبس، ثم أدخل

2 ـ فصل في آداب الفقير في فقره

الجنة، فلقيه الفقير، فقال: أي أخي: ماذا حبسك؟ والله لقد احتبست حتى خفت عليك، فقال:: أي أخي حبست بعدك محبسا قطيعاً كريهاً، وما وصلت إليك حتى سال منى العرق ما لو ورده ألف بعير كلها آكلة حمض، لصدرت عنه رواءً" (¬1). واعلم: أن فراق المحبوب شديد، فإذا أحببت الدنيا، كرهت لقاء الله تعالى، فيكون قدومك بالموت على ما تكرهه، وفراقك لما تحبه، وكل من فارق محبوباً كان أذاه في فراقه بقدر حبه له وأنسه به، فينبغي أن تحب من لا يفارقك، وهو الله تعالى، ولا تحب الدنيا التي تفارقك. 2 ـ فصل في آداب الفقير في فقره ينبغي له أن لا يكون كارهاً لما ابتلاه الله به من الفقر. وأرفع من هذا أن يكون راضياً فرحاً، ويكون متوكلاً على الله سبحانه، واثقاً به ومتى عكس الحال، وكان يشكو إلى الخلق، ولا يشكو إلى الله تعالى، كان الفقر عقوبة في حقه، فلا ينبغي له إظهار الشكوى، بل يظهر التعفف والتجمل. قال الله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273]. وينبغى للفقير أن لا يتواضع لغنى لأجل غناه، ولا يرغب في مجالسته. وينبغى له أيضاً أن لا يفتر عن العبادة بسبب فقره، ولا يمنع بذلك ما فضل عنه، فإن ذلك جهد المقل. روى أبو ذر رضى الله عنه قال: قلت: يارسول الله: أي الصدقة أفضل؟ قال: "جهد من مقل إلى فقير في السر" (¬2). 3 ـ بيان آدابه في قبول العطاء إذا جاءه بغير سؤال ينبغي أن يلاحظ فيما جاءه ثلاثة أمور: نفس المال، وغرض المعطى، وغرضه في الأخذ. الأول: أما في نفس المال، فينبغي أن يكون خالياً عن الشبهات كلها، فان كان ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 1/ 304، وفي سنده مجهول. (¬2) أخرجه أحمد 5/ 178 و 179 و 265 وفي سنده علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف.

4 ـ فصل في بيان تحريم السؤال من غير ضرورة وآداب الفقير المضطر في السؤال

فيه شبهة فليحترز عن أخذه. وقد تقدم في كتاب الحلال والحرام درجات الشبهة، وما يجب اجتنابه، وما يستحب. وأما غرض المعطى، فلا يخلو، إما أن يكون طلباً للمحبة، وهو الهدية، فلا بأس بقبولها إذا لم تكن رشوة ولم يكن فيها منة. الثاني: أن يكون غرض المعطى الثواب، وهو الزكاة والصدقة، فعليه أن ينظر في صفات نفسه، هل هو مستحق أم لا؟ فان اشتبه عليه فهو محل شبهة، وإن كان صدقة، فكان المعطى إنما يعطيه لدينه، فلينظر إلى باطنه، فإن كان مقارناً لمعصية في السر، يعلم أن المعطى لو علم بذلك، لنفر طبعه ولما تقرب إلى الله بالصدقة عليه، لم يأخذه كما لو أعطاه لظنه أنه عالم لم يكن. الثالث: أن يكون غرض المعطى الشهرة والرياء والسمعة، فينبغي أن يرد عليه قصده الفاسد، ولا يأخذه، لأنه إذا قبله يكون معينا له على قصده الفاسد. وأما غرضه في الأخذ، فلينظر أهو محتاج إليه أو مستغن عنه؟ فان كان مستغنياً لم يأخذه، وإن كان محتاجاً إليه، وقد سلم من الشبة والآفات التي ذكرناها، فالأفضل له الأخذ، لما روى عن عمر رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل، فخذه، ومالا فلا تتبعه نفسك" أخرجاه في "الصحيحين". وفى حديث آخر: "من جاءه من أخيه معروف من غير إسراف ولا مسألة، فليقبله ولا يرده، فإنما هو رزق ساقه الله إليه". 4 ـ فصل في بيان تحريم السؤال من غير ضرورة وآداب الفقير المضطر في السؤال اعلم: أنه قد ورد في السؤال أحاديث في النهى عنه، وفى الترخيص فيه. أما الترخيص: فكقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "للسائل حق وإن جاء على

فرس" (¬1): وفى بعض الأحاديث: "ردوا السائل ولو بظلف محرق". ولو كان السؤال حراماً، لما جاز إعانة المعتدى على عدوانه، والإعطاء إعانة. وأما أحاديث النهى عن السؤال: فروى ابن عمر رضى الله عنهما: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله عز وجل وليس في وجهه مزعة لحم" أخرجاه في "الصحيحين". وفيهما أيضاً: أنه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر التعفف عن المسألة فقال: "اليد العليا خير من اليد السفلي". واليد العليا المعطية، والسفلي السائلة. وفى حديث ابن مسعود رضى الله عنه: أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:" من سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو كدوحاً في وجهه" إلى آخره. وهو حديث حسن، وفى المعنى أحاديث كثيرة. وكشف الغطاء في هذا أن نقول: السؤال في الأصل حرام، لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور: أحدها: الشكوى. والثاني: إذلال نفسه، وما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. والثالث: إيذاء المسؤول غالباً. وإنما يباح السؤال في حال الضرورة والحاجة المهمة القريبة من الضرورة، أما المضطر، فهو كسؤال الجائع عند خوفه على نفسه موتاً أو مرضاً، وكسؤال العاري الذي ليس له ما يواريه. وأما المحتاج حاجة مهمة فهو كمن له جبة ولا قميص تحتها في الشتاء، فهو يتأذى بالبرد تأذيا لا ينتهي إلى حد الضرورة، فكذلك من يقدر على المشي لكن بمشقة، يجوز له أن يسأل أجرة يكترى بها للركوب، وتركه أولى، ومن وجد الخبز وهو محتاج إلى الأدم، فله أن يسأل مع الكراهة، وكذلك إذا سأل المحمل من هو قادر على الراحلة. وينبغى في مثل هذه المسألة أن يظهر الشكر لله تعالى، ولا يسأل سؤال محتاج، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1730) وأبو داود (1665) وفي سنده يعلى بن أبي يحيى لم يوثقه غير ابن حبان، ومع ذلك فقد جود إسناده الحافظان العراقي والسخاوي وغيرهما، وانظر "ذيل القول المسدد" 68، 70، فقد بسط القول في الكلام عليه.

5 ـ بيان أحوال السائلين

بل يقول: أنا مستغن بما أملكه، وإنما النفس تطالبني، فيخرج بهذا عن حد الشكوى لله تعالى. وينبغى أن يسأل أباه أو قريبه أو صديقه الذي لا ينقص بذلك في عينه، أو السخي الذي أعد ماله للمكارم، فيخرج بذلك من الذل. وإن أخذ ممن يعلم أنه إنما أعطاه حياءً، لم يجز له الأخذ، ويجب رده إلى صاحبه. ولا يجوز للفقير أن يسأل إلا مقدار ما يحتاج إليه، من بيت يكنه، وثوب يستره، وطعام يقيمه. ويراعى في هذه الأشياء ما يدفع الزمان من غير تنوق (¬1) في شئ من ذلك، فإن كان يعلم أنه يجد من يسأله كل يوم، لم يجز أن يسأل أكثر من قوت يومه وليلته، وإن خاف أن لا يجد من يعطيه، أو خاف أن يعجز عن السؤال، أبيح له السؤال أكثر من ذلك. ولا يجوز له في الجملة أن يسأل فوق ما يكفيه لسنته، وعلى هذا يتنزل الحديث المروى في تقدير الغنى بخمسين درهماً، فإنها تكفى المنفرد المقتصد لسنة، فأما ذو العائلة فلا. 5 ـ بيان أحوال السائلين كان بشر الحافي يقول: الفقراء ثلاثة: فقير لا يسأل، وإن أعطى لا يأخذ، فهذا من الروحانيين. وفقير لا يسأل، إن أعطى أخذ، فذاك من أهل حظيرة القدس. وفقير إذا احتاج سأل، فكفارة مسألته صدقه في السؤال. قال الشيخ جمال الدين رحمه الله: قلت: وفصل الخطاب أنه متى قدر الفقير على دفع الزمان من غير سؤال، لم يجز له أن يسأل، فإن كان يندفع على مضض، نظرت، فإن كان مثله لا يحتمل، ولا يخاف منه التلف، فالسؤال مباح وتركه فضيلة، وإن كان ¬

(¬1) التنوق في الأمر: التأنق فيه.

الشطر الثاني من الكتاب

مثله لا يحتمل، وجب عليه أن يسأل. قال سفيان الثوري رحمه الله: من جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار. ... الشطر الثاني من الكتاب: 6ـ وفيه بيان حقيقة الزهد وفضيلته وذكر درجاته وأقسامه ونحو ذلك اعلم: أن الزهد في الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين، والزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، وشرط المرغوب عنه أن يكون مرغوبا فيه بوجه من الوجوه، فمن رغب عن شئ ليس مرغوباً فيه ولا مطلوباً في نفسه، لم يسم زاهداً، كمن ترك التراب لا يسمى زاهداً. وقد جرت العادة بتخصيص اسم الزاهد بمن ترك الدنيا، ومن زهد في كل شئ سوى الله تعالى، فهو الزاهد الكامل، ومن زهد في الدنيا مع رغبته في الجنة ونعيمها، فهو أيضاً زاهد، ولكنه دون الأول. واعلم: أنه ليس من الزهد ترك المال، وبذله على سبيل السخاء والقوة، واستمالة القلوب، وإنما الزهد أن يترك الدنيا للعلم بحقارتها بالنسبة إلى نفاسة الآخرة. ومن عرف أن الدنيا كالثلج يذوب، والآخرة كالدر يبقى، قويت رغبته في بيع هذه بهذه. وقد دل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77] وقوله: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 69]. ومن فضيلة الزهد قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131]. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من أصبح وهمه الدنيا، شتت الله عليه أمره، وفرق عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له،

7 ـ فصل في درجات الزهد وأقسامه

ومن أصبح وهمه الآخرة، جمع الله له همه، وحفظ عليه ضيعته، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهو راغمة". وقال الحسن: يحشر الناس عراة ما خلا أهل الزهد، وقال: إن أقواما أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب، فأهينوها، فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها. وقال الفضيل: جعل الشر كله في بيت، وجعل مفتاحه حب الدنيا، وجعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا. وكان بعض السلف يقول: الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، والرغبة فيها تكثر الهم والحزن. 7 ـ فصل في درجات الزهد وأقسامه من الناس من يزهد في الدنيا وهو لها مشتهٍ، لكنه يجاهد نفسه، وهذا يسمى: المتزهد، وهو مبدأ الزهد. الدرجة الثانية: أن يزهد فيها طوعا لا يكلف نفسه ذلك، لكنه يرى زهده ويلتفت إليه، فيكاد يعجب بنفسه، ويرى أنه قد ترك شيئاً له قدر لما هو أعظم قدراً منه، كما يترك درهما لأخذ درهمين، وهذا أيضاً نقصان. الدرجة الثالثة: وهى العليا أن يزهد طوعاً، ويزهد في زهده، فلا يرى أنه ترك شيئاً، لأنه عرف أن الدنيا ليست بشئ، فيكون كمن ترك خرقة، وأخذ جوهرة فلا يرى ذلك معاوضة، فإن الدنيا بالإضافة إلى نعيم الآخرة، أحسن من خرقة بالإضافة إلى جوهرة، فهذا هو الكمال في الزهد. واعلم: أن مثل من ترك الدنيا، مثل من منعه عن باب الملك كلب على بابه، فألقى إليه لقمة من خبز فشغله بذلك ودخل، فقرب من الملك، أفتراه يرى لنفسه يداً عند الملك بلقمة ألقاها إلى كلبه في مقابلة ما قد ناله؟ فالشيطان كلب في باب الله عز وجل، ويمنع الناس من الدخول، مع أن الباب مفتوح، والحجاب مرفوع، والدنيا كلقمة، فمن تركها لينال عز الملك، فكيف يلتفت إليها؟ ثم إن نسبتها، أعنى ما سلم لكل شخص منها ولو عمر ألف سنة بالإضافة

8 ـ فصل في بيان تفصيل فيما هو من ضروريات الحياة

إلى نعيم الآخرة، أقل من لقمة بالإضافة إلي ملك الدنيا، لأن الفاني لا نسبة له إلى الباقي، كيف ومدة العمر قصيرة ولذات الدنيا مكدرة؟ وأما أقسام الزهد بالإضافة إلى المرغوب فيه، فعلى ثلاث درجات: أحدها: الزهد للنجاة من العذاب، والحساب، والأهوال التي بين يدي الآدمي، وهذا زهد الخائفين. الدرجة الثانية: الزهد للرغبة في الثواب، والنعيم الموعود به، وهذا زاهد الراجين فإن هؤلاء تركوا نعيماً لنعيم. الدرجة الثالثة: وهى العليا. وه أن لا يزهد في الدنيا للتخلص نم الآلام، ولا للرغبة في نيل اللذات، بل لطلب لقاء الله تعالى وهذا زهد المحسنين العارفين، فإن لذة النظر إلى الله سبحانه وتعالى بالإضافة إلى لذات الجنة، كلذة ملك الدنيا، والاستيلاء عليها، بالإضافة إلى لذة الاستيلاء على عصفور واللعب به. 8 ـ فصل في بيان تفصيل فيما هو من ضروريات الحياة والضروريات المهمات سبعة أشياء: المطعم، والملبس، والمسكن، وأثاثه، والمنكح، والمال، والجاه. فأما الأول: -وهو المطعم- فاعلم أن همة الزاهد منه ما يدفع به الجوع مما يوافق بدنه من غير قصد الالتذاذ. وفى الحديث: "إن عباد الله ليسوا بالمتنعمين". وقالت عائشة رضى الله عنها لعروة: كان يمر بنا هلال، وهلال، ما يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار. قال: قلت: يا خالة: فعلى أي شئ كنتم تعيشون؟ قالت: على الأسودين: الماء والتمر. والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة. وقد كان كثير من الزهاد يخشنون المطعم، وكان فيهم من لا يطيق ذلك، فكان الثوري حسن المطعم، وربما حمل في سفرته اللحم المشوي والفالوذج.

وفى الجملة فالزاهد يقصد ما يصلح به بدنه، ولا يزيد في التنعم، إلا أن الأبدان تختلف، فمنها ما لا يحمل التخشن. وقد يدخر بعض الناس الزاد الحلال بتقوته، فلا يخرجه ذلك من الزهد، فقد كان السبتي يعمل من السبت إلى السبت ويتقوته. وورث داود الطائى عشرين ديناراً، فأنفقها في عشرين سنة. الثاني: الملبس، فالزاهد يقتصر فيه على ما يدفع الحر والبرد، ويستر العورة، ولا بأس أن يكون فيه نوع تجمل، لئلا يخرجه التقشف إلى الشهرة. وكان أكثر لباس السلف خشناً، فصار لبس الخشن شهرة. وقد روى عن أبى بردة قال: أخرجت إلينا عائشة رضى الله عنها كساء ملبداً، وإزاراً غليظاً، وقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذين. أخرجاه في "الصحيحين". وعن الحسن قال: خطب عمر رضى الله عنه وهو خليفة، وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة. الثالث: المسكن، فللزاهد فيه ثلاث درجات. أعلاها: أن لا يطلب موضعاً خاصاً لنفسه، بل يقنع بزوايا المساجد، كأصحاب الصفة. وأوسطها: أن يطلب موضعاً خاصاً لنفسه، مثل كوخ في سعف، أو خص وما أشبه ذلك. وأدناها: أن يطلب حجرة مبنية. ومتى طلب السعة وعلو السقف، فقد جاوز حد الزهد في المسكن. وقد توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يضع لبنة على لبنة. قال الحسن: كنت إذا دخلت بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نلت السقف. وفى الحديث: "إن المسلم ليؤجر في كل شئ ينفقه إلا في شئ يجعله في هذا التراب".

وقال إبراهيم النخعى رحمه الله: إذا كان البنيان كفافاً، فلا أجر ولا وزر. وفى الجملة: إن كل ما يراد للضرورة فلا ينبغي أن يجاوز حد الزهد. الرابع: أثاث البيت، فينبغي للزاهد أن يقتصر فيه على الخزف، ويستعمل الإناء الواحد في مقاصده، فيأكل في القصعة، ويشرب فيها، ومن خرج إلى كثرة العدد في الآلة، أو في نفاسة الجنس، خرج عن الزهد. ولينظر إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ففى "صحيح مسلم" من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مضطجع على حصير، وإذا الحصير قد أثر على جنبه، فنظرت في خزانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أنا بقبضة من شعير، نحو الصاع. وفى رواية البخاري: فوالله ما رأيت شيئاً يرد البصر. والحديث مشهور في "صحيح مسلم" (¬1). وقال على رضى الله عنه: تزوجت فاطمة وما لى ولها فراش إلا جلد كبش، كنا ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح بالنهار، ومالي خادم غيرها، ولقد كانت تعجن، وإن قصتها (¬2) لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذي بها. ودخل رجل على أبى ذر رضى الله عنه، فجعل يقلب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر‍‍‍‍? ما أرى في بيتك متاعاً، ولا أثاثا. فقال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا. فقال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا، فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه. الخامس: المنكح، لا معنى للزهد في أصل النكاح، ولا في كثرته. قال سهل بن عبد الله: حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النساء. وكان على رضى الله عنه من أزهد الصحابة، وكان له أربعة نسوة، وبضع عشرة سرية. وكان أبو سليمان الدارانى يقول: كل ما شغلك عن الله، من أهل، ومال، وولد، فهو مشؤوم. وكشف الغطاء عن ذلك أن نقول: من غلبت عليه شهوته وخاف على نفسه، تعين عليه النكاح، فأما من لا يخاف، فهل النكاح في حقه أفضل أو التعبد؟ فيه اختلاف بين ¬

_ (¬1) انظر "صحيح مسلم" رقم (1479) في الزهد: باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن. (¬2) القصة، بالضم: شعر الناصية.

9 ـ فصل في بيان علامات الزهد

العلماء. والناس مختلفون فيه منهم من يقصد النكاح لطلب النسل ويمكنه الكسب الحلال للعائلة، فلا يقدح ذلك في دينه، ولا يتشتت قلبه، بل يجمع النكاح همه، ويكف بصره، ويرد فكره، فهذا غاية في الفضيلة، وعليه يحمل حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحال على رضى الله عنه، ومن جرى مجراهما، ولا التفات إلى قول من يرى الزهد بترك الالتذاذ بالنكاح، فإن ذلك يقع ضمناً وتبعاً للمقصود. وقد كان بعض السلف يختار المرأة الدون على الجميلة، وذلك محمول على أن تلك تكون إلى الدين أميل، والنفقة عليها أقل، والاهتمام بأمرها يسير، بخلاف المستحسنة، فإنها تشتت القلب، وتشغله، وتريد زيادة في النفقة، وربما لم يكن. وقد قال مالك بن دينار، يعمد أحدهم فيتزوج ديباجة الحي فتقول: أريد مرطاً (¬1) فتمرط دينه. السادس: المال: وهو ضروري في المعيشة، فالزاهد يقتصر منه على ما يدفع به الوقت، وكان في الصالحين من يتشاغل بالتجارة ويقصد بها العفاف. وكان حماد بن سلمة إذا فتح حانوته وكسب حبتين، قام. وكان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت، وخلف أربعمائة دينار، وقال: إنما تركتها لأصون بها عرضي وديني. السابع: الجاه، ولابد للإنسان من جاه حتى في قلب خادمه، واشتغال الزاهد بالزهد يمهد له الجاه في القلب، فينبغي أن يتحرز من شر ذلك. وفى الجملة فإن الحوائج الضرورية ليست من الدنيا، وكان كثير من السلف يعرض لهم بالمال الحلال، فيقولون: لا نأخذه، نخاف أن يفسد علينا ديننا. 9 ـ فصل في بيان علامات الزهد وقد تظن أن تارك المال زاهد، وليس كذلك، فإن ترك المال، وإظهار التخشن، سهل على من أحب المدح بالزهد، فكم من راهب قد لازم الدير، وقلل المطعم، ¬

_ (¬1) المرط بكسر الميم: واحد المروط، وهى أكسية من صوف أو خز كان يؤتزر بها، وقوله "تمرط دينه" أي: تذهب به، من قولهم: مرط الشعر: إذا نتفه.

وقواه على ذلك حسب المحمدة، كما سبق ذكره في كتاب الرياء. ولابد من الزهد في فضول الأموال والجاه جميعاً، حتى يكمل الزهد في حظوظ النفس، فأول معرفة الزهد مشكل. وقد قال ابن المبارك: أفضل الزهد إخفاء الزهد، وينبغى أن يعول في هذا على ثلاث علامات. الأولى: أن لا يفرح بموجود، ولا يحزن بمفقود، كما قال تعالى {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] وهذا علامة الزهد في المال. الثاني: أن يستوي عنده ذامه ومادحه، وهذه علامة الزهد في الجاه. الثالث: أن يكون أنسه بالله، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة. فأما محبة الدنيا ومحبة الله تعالى، فهما في القلب كالماء والهواء في القدح، إذا دخل الماء خرج الهواء، فلا يجتمعان. قيل لبعضهم: إلام أفضى بهم الزهد؟ قال: إلى الأنس بالله. قال يحيى بن معاذ: الدنيا كالعروس، ومن يطلبها ماشطتها (¬1)، والزاهد يسخم (¬2) وجهها، وينتف شعرها، ويخرق ثوبها، والعارف مشتغل بالله تعالى عنها. فهذا الإمام أردنا ذكره من حقيقة الزهد وحكامه. وإذا كان الزهد لا يتم إلا بالتوكل فلنشرع في بيانه إن شاء الله تعالى. ... ¬

(¬1) الماشطة: التي تحس المشط وحرفتها ومعناها هنا: تزينها. (¬2) يقال: سخم الله وجهه: أي سوده من السخمة وهى السواد.

كتاب التوحيد والتوكل

كتاب التوحيد والتوكل بيان فضيلة التوكل قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122]. وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. وفى الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أنه يدخل الجنة من أمته سبعون ألفاً لا حساب عليهم، ثم قال: "هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون". أخرجاه في "الصحيحين". وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وسلم يقول: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً". وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم إني أسألك التوفيق لمحابك من الأعمال، وصدق التوكل عليك، وحسن الظن بك" (¬1). والتوكل يبتنى على التوحيد، والتوحيد طبقات: منها أن يصدق القلب بالوحدانية المترجم عنها قولك، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، فيصدق بهذا اللفظ، لكن من غير معرفة دليل، فهو اعتقاد العامة. الثانية: أن يرى الأشياء المختلفة، فيراها صادرة عن الواحد، وهذا مقام المقربين. الثالثة: أن يرى الإنسان إذا انكشف عن بصيرته أن لا فاعل سوى الله، لم ينظر إلى غيره، بل يكون منه الخوف وله الرجاء وبه الثقة وعليه التوكل، لأنه في الحقيقة هو الفاعل وحده، فسبحانه والكل مسخرون له، فلا يعتمد على المطر في خروج الزرع، ولا على الغيم في نزول المطر، ولا على الريح في سير السفينة، فإن الاعتماد على ذلك جهل بحقائق الأمور. ومن انكشفت له الحقائق، علم أن الريح لا تتحرك ¬

(¬1) ضعيف أخرجه أبو نعيم في "الحلية" عن الأوزاعي مرسلا، والحكيم الترمذي عن أبى هريرة.

1 ـ فصل في بيان أحوال التوكل وأعماله وحده ونحو ذلك

بنفسها، ولا بد لها من محرك. فالتفات العبد في النجاة إلى الريح يضاهى التفات من أخذ لتضرب عنقه، فوقع له الملك بالعفو عنه، فأخذ يشتغل بذكر الحبر والكاغد والقلم الذي كتب به التوقيع، ويقول: لولا هذا القلم ما تخلصت، فيرى نجاته من القلم لا من محرك القلم، وهذا غاية الجهل. ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه، شكر الكاتب دون القلم، وكل المخلوقات في قهر تسخير الخالق أبلغ من القلم في يد الكاتب، فسبحان مسبب الأسباب الفعال لما يريد. 1 ـ فصل في بيان أحوال التوكل وأعماله وحده ونحو ذلك اعلم: أن التوكل مأخوذ من الوكالة، يقال: وكل فلان أمره إلى فلان، أي فوض أمره إليه، واعتمد فيه عليه. فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الموكل، ولا يتوكل الإنسان على غيره إلا إذا اعتقد فيه أشياء: الشفقة، والقوة، والهداية. فإذا عرفت هذا، فقس عليه التوكل على الله سبحانه، وإذا ثبت في نفسك أنك لا فاعل سواه واعتقدت مع ذلك أنه تام العلم والقدرة والرحمة، وأنه ليس وراء قدرته قدرة، ولا وراء علمه علم، ولا وراء رحمته رحمة، اتكل قلبك عليه وحده لا محالة، ولم يلتفت إلى غيره بوجه، فإن كنت لا تجد هذه الحالة من نفسك فسببه أحد أمرين: إما ضعف اليقين بأحد هذه الخصال. وإما ضعف القلب باستيلاء الجبن عليه، وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة علية، فإن القلب قد ينزعج ببقاء الوهم وطاعته له من غير نقصان في اليقين، فإنه من كان يتناول عسلاً، فشبه بين يديه بالعذرة، ربما نفر طبعه منه، وتعذر عليه تناوله. ولو كلف العاقل أن يبيت مع الميت في قبر أو فراش أو بيت، نفر طبعه من ذلك، وإن كان متيقنا كونه ميتاً جماداً في الحال، ولا ينفر طبعه عن سائر الجمادات، وذلك جبن في القلب، وهو نوع ضعف قلما يخلو الإنسان منه، وقد يقوى ذلك حتى يصير مرضاً، حتى يخاف أن يبيت في البيت وحده مع غلق الباب وإحكامه. فإذا لا يتم التوكل إلا بقوة القلب، وقوى اليقين جميعاً، فإذا انكشف لك معنى

2 ـ فصل في بيان أعمال المتوكلين

التوكل، وعلمت الحالة التي تسمى توكلاً، فاعلم أن تلك الحالة لها في القوة والضعف ثلاث درجات: الأولى: ما ذكرناه، وهو أن يكون حاله في حق الله تعالى الثقة بكفالته وعنايته، كحاله في الثقة بالوكيل. الدرجة الثانية: وهى أقوى، أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل مع أمه فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى سواها، ولا يعتمد إلا إياها، وإن نابه أمر كان أول خاطر يخطر على قلبه، وأول سابق إلى لسانه: يا أماه. فمن كان تألهه إلى الله، ونظره إليه، واعتماده عليه، كلف به كما يكلف الصبي بأمه، فيكون متوكلاً حقاً. والفرق بين هذا وبين الأول، أن هذا متوكل قد فني في توكله عن توكله، إذا لا يلتفت إلى غير المتوكل عليه، ولا مجال في قلبه لغيره. وأما الأول، فهو متوكل بالتكليف والكسب، وليس فانيا عن توكله، بل له التفات إليه، وذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده. الدرجة الثالثة: وهى أعلى منهما، أن يكون بين يدي الله تعالى مثل الميت بين يدي الغاسل، لا يفارقه إلا أنه لا يرى نفسه ميتاً، وهذا يفارق حال الصبي مع أمه فإنه يفزع إلى أمه، ويصيح ويتعلق بذيلها. وهذه الأحوال توجد في الخلق، إلا أن الدوام يبعد، ولاسيما المقام الثالث. 2 ـ فصل في بيان أعمال المتوكلين قد يظن بعض الناس أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة، وكلحم على وضم (¬1)،وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع. والشرع قد أثنى على المتوكلين، وإنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه إلى مقاصده، وسعى العبد إما أن يكون لجلب نفع مفقود كالكسب، أو حفظ موجود ¬

(¬1) الوضم: كل شئ يجعل عليه اللحم من خشب أو بارية يوفى به من الأرض قال رشيد بن رميض العنزي: ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر الوضم

كالادخار، وإما لدفع ضرر لم ينزل، كدفع الصائل، أو لإزالة ضرر قد نزل، كالتداوى من المرض، فحركات العبد لا تعدو هذه الفنون الأربعة. الفن الأول: في جلب المنافع، فنقول: الأسباب التي بها تجلب المنافع على ثلاث درجات. أحدها: سبب مقطوع به كالأسباب التي ارتبطت بها المسببات بتقدير الله تعالى ومشيئته ارتباطاً مطرداً لا يختلف، مثاله، أن يكون الطعام بين يديك وأنت جائع، فلا تمد يدك إليه وتقول: أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي، ومد اليد إلى الطعام سعى، وكذلك مضغه وابتلاعه، فهذا جنون محض، وليس من التوكل في شئ، فإنك إذا انتظرت أن يخلق الله فيك شبعاً دون أكل الطعام، أو يخلق في الطعام حركة إليك، أو يسخر ملكاً ليمضغه ويوصله إلى معدتك، فقد جهلت سنة الله. وكذلك لو لم تزرع، وطمعت أن يخلق الله تعالى نباتاً من غير بذر، أو تلد الزوجة من غير وقاع، فكل ذلك جنون، وليس التوكل في هذا المقام ترك العمل، بل التوكل فيه بالعلم والحال. أما العلم: فهو أن تعلم أن الله تعالى خلق الطعام، واليد، والأسباب، وقوة الحركة، وأنه الذي يطعمك ويسقيك. وأما الحال، فهو أن يكون قلبك واعتمادك على فضل الله تعالى، لا على اليد والطعام، لأنه ربما جفت يدك، وبطلت حركتك، وربما سلط الله عليك من يغلبك على الطعام، فمد اليد إلى الطعام لا ينافى التوكل. الدرجة الثانية: الأسباب التي ليست متيقنة، لكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها. مثاله من يفارق الأمصار، ويخرج مسافرا إلى البوادي التي لا يطرقها الناس إلا نادراً، ولا يستصحب معه شيئاً من الزاد، فهذا كالمجرب على الله تعالى، وفعله منهي عنه، وحمله للزاد مأمور به، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سافر تزود واستأجر دليلاً إلى المدينة. الدرجة الثالثة: ملابسة الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة، كالذي يستقصي في التدبيرات الدقيقة في تفصيل الاكتساب ووجوهه، فمتى كان قصده صحيحاً وفعله لا يخرج عن الشرع، لم يخرج عن التوكل، لكنه ربما دخل

في أهل الحرص إذا طلب فضول العيش. وترك التكسب ليس من التوكل في شئ، إنما هو من فعل البطالين الذين آثروا الراحة، وتعللوا بالتوكل. قال عمر رضى الله عنه: المتوكل الذي يلقى حبه في الأرض ويتوكل على الله. الفن الثاني: في التعرض للأسباب بالادخار، ومن وجد قوتاً حلالاً يشغله كسب مثله عن جمع همه، فادخاره إياه لا يخرجه عن التوكل، خصوصاً إذا كان له عائلة. وفى "الصحيحين" من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبيع نخل بنى النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم. فإن قيل: فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً أن يدخر، فالجواب: أن الفقراء كانوا عنده كالضيف، فما كان ينبغي أن يدخر فيجوعون، بل الجواب: أن حال بلال وأمثاله من أهل الصفة كان مقتضاها عدم الادخار، فإن خالفوا كان التوبيخ على الكذب في دعوى الحال لا على الادخار الحلال. الفن الثالث: مباشرة الأسباب الدافعة للضرر. ليس من شرط التوكل ترك الأسباب الدافعة للضرر، فلا يجوز النوم في الأرض المسبعة (¬1)، أو مجرى السيل، أو تحت الجدار الخراب، فكل ذلك منهي عنه. وكذلك لا ينقض التوكل لبس الدرع، وإغلاق الباب، وشد البعير بالعقال. وقال الله تعالى {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]. وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يارسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: "اعقلها وتوكل". ويتوكل في ذلك كله على المسبب لا على السبب، ويكون راضيا بكل ما يقضى الله عليه ومتى عرض له إذا سرق متاعه أنه لو احترز لم يسرق، أو أخذ يشكو ما جرى عليه، فقد بان بعده عن التوكل. وليعلم أن القدر له كالطبيب، فإن قدم إليه الطعام فرح، وقال: لولا أنه علم أن ¬

(¬1) أرض مسبعة: أي ذات سباع.

الغذاء ينفعني ما قدمه، وإن منعه فرح، وقال: لولا أنه علم أن الغذاء يؤذيني لما منعني. واعلم: أن كل من لا يعتقد في لطف الله تعالى ما يعتقده المريض في الطبيب الحاذق الشفيق، لم يصح توكله، فإن سرق متاعه رضى بالقضاء، وأحل الآخذ، شفقة على المسلمين. فقد شكا بعض الناس إلى بعض العلماء أنه قطع عليه الطريق، وأخذ ماله، فقال: إن لم يكن غمك كيف صار في المسلمين من يفعل هذا أكثر من غمك بمالك، فما نصحت المسلمين. الفن الرابع: السعي في إزالة الضرر، كمداواة المريض ونحو ذلك. اعلم: أن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إلى مقطوع به، كالماء المزيل لضرر العطش، والخبز المزيل لضرر الجوع، فهذا القسم ليس تركه من التوكل في شئ. القسم الثاني: أن يكون مظنوناً، كالفصد، والحجامة، وشرب المسهل، ونحو ذلك. فهذا لا يناقض التوكل، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تداوى وأمر بالتداوى. وقد تداوى خلق كثير من المسلمين، وامتنع عنه أقوام توكلاً، كما روى عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه قيل له: ألا ندعو لك طبيباً؟ فقال: رآني الطبيب. قيل: فما قال لك؟ قال: إنى فعال لما أريد. قال المصنف رحمه الله: والذي ننصره أن التداوي أفضل، وتحمل حال أبى بكر رضى الله عنه أنه قد تداوى ثم أمسك بعد انتفاعه بالدواء، أو يكون قد علم قرب أجله بأمارات. واعلم: أن الأدوية أسباب مسخرة بإذن الله تعالى. القسم الثالث: أن يكون السبب موهوماً، كالكى، فيخرج عن التوكل، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف المتوكلين بأنه لا يكتوون. وقد حمل بعض العلماء الكي المذكور في قوله: "لا يكتوون" على ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، فإنهم كانوا يكتوون ويسترقون في زمن العافية لئلا يمرضوا، فإن

النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرقى الرقية بعد نزول المرض، وقد كوى أسعد بن زرارة رضى الله عنه. وأما شكوى المريض، فهي مخرجة عن التوكل، وقد كانوا يكرهون أنين المريض، لأنه يترجم عن الشكوى، فكان الفضيل يقول: أشتهي مرضا بلا عواد. وقال رجل للإمام أحمد: كيف أنت؟ قال: بخير. قال حممت البارحة؟ قال: إذا قلت لك: أنا بخير، فلا تخرجني إلى ما أكره. فأما إذا وصف المريض للطبيب ما يجده، فإنه لا يضره. وقد كان بعض السلف يفعل ذلك، ويقول: إنما أصف قدرة الله في، ويتصور أن يصف ذلك لتلميذ يقويه على الضراء ويرى ذلك نعمة، فيصف ذلك كما يصف النعمة شكراً لها، ولا يكون ذلك شكوى. وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إنى أوعك كما يوعك رجلان منكم". آخر التوكل.

كتاب المحبة والشوق والأنس والرضى

كتاب المحبة والشوق والأنس والرضى اعلم: أن المحبة لله تعالى هي الغاية القصوى من المقامات، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها، كالشوق، والأنس، والرضى، ولا قبل المحبة، مقام إلا وهو من مقدماتها، كالتوبة، والصبر، والزهد وغيرها. واعلم: أن الأمة مجمعة على أن الحب لله ولرسوله فرض، ومن شواهد المحبة قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] وهذا دليل على إثبات الحب لله، وإثبات التفاوت فيه. وفى الحديث الصحيح: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الساعة فقال: "ما أعددت لها؟ " قال: يا رسول الله: ما أعددت لها من كثرة صلاة ولا صيام، إلا أنى أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المرء مع من أحب، وأنت مع من أحببت"، فما فرح المسلمون بعد الإسلام فرحهم بها. وروى أن ملك الموت جاء إلى الخليل عليه السلام ليقبض روحه، فقال له: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله إليه: هل رأيت حبيبا يكره لقاء حبيبه؟ فقال: يا ملك الموت اقبض. وقال الحسن البصري رحمه الله: من عرف ربه أحبه، ومن أحب غير الله تعالى، لا من حيث نسبته إلى الله، فذلك لجهله وقصوره عن معرفته، فأما حب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فذلك لا يكون إلا عن حب الله تعالى، وكذلك حب العلماء والأتقياء، لأن محبوب المحبوب محبوب، بل إن ما يفعل المحبوب محبوب، ورسول الله المحبوب محبوب، وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل، ولا محبوب في الحقيقة عند ذوى البصائر إلا الله تعالى، ولا مستحق للمحبة سواه. وإيضاح ذلك يرجع إلى أسباب: أحدها: أن الإنسان يحب نفسه، وبقاءه، وكماله، ودوام وجوده، ويكره ضد ذلك من الهلاك والعدم والنقصان، وهذا جبلة كل حي لا يتصور أن ينفك عنها. وهذا

يقتضي غاية المحبة لله عز وجل، فإن الإنسان إذا عرف ربه، عرف قطعاً أن وجوده ودوامه وكماله من الله، وأنه المخترع له، الموجد لذاته بعد أن كان عدماً محضاً لولا فضل الله عليه بإيجاده، وهو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل ولذلك قال الحسن البصري: من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا، زهد فيها. وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه، ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه. السبب الثاني: أن الإنسان بالطبع يحب من أحسن إليه ولاطفه وواسه، وانتدب لنصرته وقمع أعدائه، وأعانه على جميع أغراضه، فإنه محبوب عنده لا محالة. وإذا عرف الإنسان حق المعرفة علم أن المحسن إليه هو الله سبحانه وتعالى فقط. وأنواع إحسانه لا يحيط به حصر، كما قال تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34، والنحل: 18]. وقد أشرنا إلى طرف من ذلك في كتاب الشكر، ولكنا نبين أن الإحسان من الناس غير متصور إلا بالمجاز، وأن، المحسن في الحقيقة هو الله تعالى. بيان ذلك أنا نفرض أن شخصاً أنعم عليك بجميع خزائنه وما يملك، ومكنك فيها لتتصرف كيف شئت، فإنك تظن أن هذا الإحسان منه، وهو غلط، فإنه إنما تم إحسانه بماله، وبقدرته على المال، وبداعيته الباعثة له على صرف المال. فمن الذي أنعم بخلقه وخلق ماله وخلق إرادته وداعيته؟ ومن الذي حببك إليه، وصرف وجهه إليك وألقى في نفسه أن صلاح دينه ودنياه في الإحسان إليك، ولولا ذلك ما أعطاك، فكأنه صار مقهوراً في التسليم لا يستطيع مخالفته. فالمحسن هو الذي اضطره وسخره لك، فهو جار مجرى خازن أمير أمره أن يسلم إلى الإنسان خلعة خلعها عليه الأمير، فإن الخازن لا يرى محسناً بتسليم خلعة الأمير، لأنه مضطر إلى طاعته، ولو خلاه الأمير ونفسه لما سلم ذلك. وكذلك كل محسن لو خلاه الله ونفسه، لم يبذل حبه من ماله حتى يسلط الله عليه الدواعي، ويلقى في نفسه أن حظه في بذل ذلك فيبذله. فينبغي للعارف أن لا يحب إلا الله، إذا الإحسان من غيره محال. السبب الثالث: أن المحسن في نفسه وإن لم يصل إليك إحسانه محبوب في الطباع، فإنه إذا بلغك عن ملك من الملوك أنه عالم عادل عابد رفيق بالناس، متلطف بهم وهو في

قطر بعيد، فإنك تحبه، وتجد في نفسك ميلاً كثيراً إليه. فهذا حب المحسن من حيث إنه محسن، فضلا عن أن يكون محسناً إليك. وهذا ما يقتضي حب الله تعالى، بل يقتضي أن لا يحب غيره، إلا بحيث أن يتعلق منه بسبب، فإنه سبحانه هو المحسن إلى الكل كافة، بإيجادهم وتكميلهم بالأعضاء والأسباب التي هي من ضروراتهم وترفيههم، إلى غير ذلك من النعم التي لا تحصى، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34، والنحل: 18]. فكيف يكون غيره محسناً؟ وذلك المحسن حسنة من حسنات قدرته، فمن عرف هذا لم يحب إلا الله تعالى. وكذلك نقول: كل من كان متصفاً بالعلم، أو بالقدرة أو كان متنزهاً عن الصفات الرذيلة، فإن ذلك يوجب له المحبة. فصفات الصديقين الذين تحبهم القلوب طبعاً، ترجع إلى علمهم بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وشرائع أنبيائه، إلى قدرتهم على إصلاح نفوسهم والى تنزيههم عن الرذائل والخبائث ولمثل هذه الصفات تحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإذا نسبت هذه الصفات إلى صفات الله تعالى، وجدتها مضمحلة بالنسبة إلى صفاته سبحانه وتعالى. أما العلم، فإن علم الأولين والآخرين من علم الله تعالى الذي يحيط بالكل، حتى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. وقد خاطب الخلق كلهم فقال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. ولو أجتمع أهل السموات والأرض، على أن يحيطوا بعلمه وحكمته في تفصيل خلق نملة، لم يطلعوا على عشر عشر ذلك، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، والقدر اليسير الذي علمه الخلق كلهم، بتعليمه، علموه. ففضل علم الله سبحانه على علم الخلائق كلهم خارج عن النهاية، إذ معلوماته لا نهاية لها. وأما صفة القدرة، فهي أيضاً صفة كمال، فإذا نسبت قدرة الخلق كلهم إلى قدرة الله تعالى، وجدت أعظم الأشخاص قوة، وأوسعهم ملكاً، وأقواهم بطشاً، وأجمعهم للقدرة على سياسة نفسه وسياسة غيره، غاية قدرته أن يقدر على بعض صفات نفسه، وعلى بعض امتحان الإنس في بعض الأمور، وهو مع ذلك لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى، ولا على حفظ لسانه من الخرس، ولا آذانه من الصمم، ولا بدنه من المرض، ولا يقدر

1 ـ فصل في بيان أن أجل اللذات وأعلاها معرفة الله سبحانه والنظر إلى وجهه الكريم وأنه لا يتصور أن يؤثر على ذلك لذة أخرى إلا من حرم هذه اللذة

على ذرة من ذرات المخلوقات. وما هو قادر عليه من نفسه وغيره، فليست قدرته من نفسه، بل الله خالقه وخالق قدرته وخالق أسبابه والممكن له من ذلك. ولو سلط بعوضة على أعظم ملك وأقوى شخص لأهلكته، فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه. قال الله تعالى في حق أعظم ملوك الأرض ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 84] فلم يكن جميع ملكه وسلطانه إلا بتمكين الله تعالى، فنواصي الخلق جميعهم في قبضته وقدرته، إن أهلكهم لم ينقص من ملكه وسلطانه ذرة، وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعبأ بخلقه، فلا قادر إلا هو، فله الكمال والعظمة والبهاء والكبرياء والقهر والاستيلاء. فإن تصور أن تحب قادراً لكمال قدرته وعظمته وعلمه، فلا يستحق ذلك سواه، ولا يتصور كمال التقديس والتنزيه إلا له سبحانه، فهو الواحد الذي لا ند له، الفرد الذي لا ضد له، الصمد الذي لا منازع له، الغنى الذي لا حاجة له، القادر الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وكمال معرفة العارفين الاعتراف بالعجز عن معرفته، وهو المستحق لكمال المحبة استحقاقاً لا يساهم فيه أصلاً. 1 ـ فصل في بيان أن أجل اللذات وأعلاها معرفة الله سبحانه والنظر إلى وجهه الكريم وأنه لا يتصور أن يؤثر على ذلك لذة أخرى إلا من حرم هذه اللذة اعلم: أن اللذات تابعة للإدراكات، والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوة غريزة لذة، ولم تخلق هذه الغرائز عبثاً، بل لأمر من الأمور، وهو مقتضاها بالطبع، فغريزة شهور الطعام خلقت لتحصيل الغذاء الذي به القوام، ولذة البصر والسمع في الإبصار والإسماع. وكذلك في القلب غريزة تسمى النور الإلهي، وقد تسمى العقل، وتسمى البصيرة الباطنة، وتسمى نور الإيمان واليقين، وهذه الغريزة خلقت ليعلم بها حقائق الأمور كلها بطبعها، فمقتضى طبعها العلم والمعرفة، وذاك لذتها.

وليس يخفى أن العلم والمعرفة، ولو في شئ خسيس يفرح به، وأن من ينسب إلى الجهل ولو في شئ خسيس يغتم به. وكل ذلك لفرط لذة العلم، وما يستشعره من كمال ذاته. فان العلم من أحسن الصفات ومنتهى الكمال، ولذلك يرتاح الإنسان بطبعه إذا أثنى عليه بالذكاء، وغزارة العلم، ثم ليس لذة العلم بالحراثة والخياطة كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمر الخلق، ولا لذة العلم بالشعر والنحو، كلذة العلم بالله تعالى وملائكته وملكوت السموات والأرض، بل لذة العلم بقدر شرف العلم، وشرف العلم بقدر شرف المعلوم، فبهذا استبان أن ألذ المعارف وأشرفها، وشرفها بحسب شرف المعلوم، فإن كان في المعلومات ما هو الأجل والأكمل والأشرف والأعظم، فالعلم به ألذ العلوم لا محالة وأشرفها. وليت شعري، هل في الوجود شئ أجل وأعلى وأشرف وأكمل وأعظم من خالق الأشياء كلها ومكملها. ومزينها ومبديها ومعيدها ومدبرها ومرتبها؟ ‍‍‍‍‍‍ وهل يتصور أن يكون حضرة في الملك والكمال والجمال والبهاء والجلال أعظم من الحضرة الربانية التي لا يحيط بجلالها وكمالها وعجائب أمورها وصف الواصفين؟! ‍ فينبغي أن تعرف أن لذة المعرفة أقوى من جميع اللذات المدركة بالحواس الخمس، فإن المعاني الباطنة أغلب على ذوى الكمال من اللذات الظاهرة. فلو خير الرجل بين لذة أكل الدجاج السمين واللوزينج، وبين لذى الرياسة، وقهر الأعداء، ونيل درجة الاستيلاء، فان كان المخير خسيس الهمة ميت القلب شديد الشهوة البهيمية اختار اللحم والحلواء، وإن كان علي الهمة، كامل العقل، فإنه يختار الرياسة، ويهون عليه الجوع والصبر على ضرورة القوت أياماً. فاختياره للرياسة دليل على أنه ألذ عنده من المطعومات الطيبة، وكما أن لذة الرياسة أغلب اللذات على من جاوز نقصان الناقص الهمة، فلذة معرفة الله سبحانه وتعالى والنظر إلى أسرار الأمور الإلهية ألذ من الرياسة التي هي أعلى اللذات الغالبة على الخلق وهذا لا يعرفه إلا من ذاق اللذتين جميعاً، فإنه لا محالة يؤثر التبتل والتفرد والفكر والذكر، وينغمس في بحار المعرفة، ويترك الرياسة، ويحتقر الخلق، لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته، وكون ذلك مشوباً بالكدر، مقطوعاً بالموت. وتعظم عنده معرفة الله سبحانه وتعالى، ومطالعة صفاته وأفعاله، ونظام مملكته، فإنها خالية عن الزاحمات والمكدرات، متسعة للمتواردين عليها، لا تضيق عنهم، فلا يزال

العارف بمطالعتها في جنة عرضها السموات والأرض، يرتع في رياضتها، ويقطف من ثمارها، ويكرع من حياضها، وهو آمن من انقطاعها، إذ هي أبدية سرمدية، لا يقطعها الموت، لأن الموت لا يهدم محل معرفة الله تعالى، إذ محلها الروح، وإنما الموت يغير أحوالها، أما أن يعدمها فلا. والعارفون درجات عند الله تعالى متفاوتون، لا يدخل تفاوت درجاتهم تحت الحصر، وهذه الأمور لا تدرك إلابالذوق، والحكاية فيها قليلة الجدوى. فهذا القدر ينبهك على أن معرفة الله تعالى ألذ الأشياء، وأنه لا لذة فوقها ولهذا قال أبو سليمان الدارانى رحمه الله: إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله عز وجل خوف النار ولا رجاء الجنة، فكيف تشغلهم الدنيا عن الله تعالى؟! ‍ وقال بعض أصحاب معروف: قلت له: أي شئ أهاجك على العبادة؟ فسكت. فقلت: ذكر الموت؟ فقال: وأي شئ الموت؟ قلت: ذكر القبر. فقال وأي شئ القبر؟ قلت: خوف النار ورجاء الجنة؟ فقال: وأي شئ هذا؟ إن ملكاً هذا كله بيده، إن أحببته أنساك جميع ذلك، وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع ذلك. وقال أحمد بن الفتح: رأيت بشر بن الحارث في منامى، فقلت له: ما فعل معروف الكرخى؟ فحرك رأسه ثم قال: هيهات، حالت بيننا وبينه الحجب، إن معروفا لم يعبد الله شوقاً إلى جنته ولا خوفاً من ناره، وإنما عبده شوقاً إليه، فرفعه الله إلى الرفيق الأعلى، ورفع الحجب بينه وبينه. فمتى حصلت محبة الله تعالى لشخص، صار قلبه مستغرقاً بها، ولا يلتفت إلى جنة، ولا يخاف من نار، فإنه قد بلغ النعيم الذي ليس فوقه نعيم. قال بعضهم: وهجره أعظم من ناره ... ووصله أطيب من جنته وإنما أراد بهذا لذة القلب في معرفة الله تعالى. وأنها مفضلة على لذة الأكل والشرب والنكاح، فإن الجنة معدن تمتع الحواس، وأما القلب فلذته في لقاء الله تعالى فقط. واعلم: أن لذة النظر في الآخرة تزيد على المعرفة في الدنيا، وقد اقتضت سنة الله تعالى أن النفس ما دامت محجوبة بعوارض البدن، ومقتضى الشهوات وما يغلب عليها من الصفات البشرية، ولا تنتهي إلى المشاهدة، بل هذه الحياة حجاب عنها بالضرورة، كحجاب الأجفان عن رؤية الإبصار.

2 ـ فصل في بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى وتفاوت الناس في الحب وبيان السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة الله تعالى

والقول في سبب كونه حجابا يطول، فإذا ارتفع الحجاب بالموت، بقيت النفس وفيها نوع تلوث بالدنيا، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وقد صفوا عن الأكدار، تجلى لهم الحق سبحانه وتعالى على قدر معرفتهم في الدنيا. فكل من لا يعرف الله تعالى في الدنيا، لا يراه في الآخرة. وما يستأنف لأحد في الآخرة مالم يصحبه في الدنيا، ولا يحصد أحد ما زرع، ولا يموت المرء إلا على ما عاش عليه، فما صحبه من المعرفة هو الذي يتنعم به بعينه، إلا أنه ينقلب مشاهدة بكشف الغطاء، فتضاعف اللذة، والعيش عيش الآخرة. {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64]. وعيش الآخرة بقدر المعرفة، ولهذا جاء في الحديث: "خير الناس من طال عمره وحسن عمله" وذلك لأن المعرفة إنما تكمل وتكثر وتتسع في العمر الطويل بمداومة الفكر والذكر، والمواظبة على المجاهدة، والانقطاع عن علائق الدنيا، والتجرد للطلب، فقد عرفت بما ذكرنا معنى المحبة، ومعنى لذة المعرفة، ومعنى الرؤية ولذتها، ومعنى كونها ألذ من سائر اللذات عند أهل الكمال. 2 ـ فصل في بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى وتفاوت الناس في الحب وبيان السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة الله تعالى واعلم: أن أسعد الناس وأحسنهم حالاً في الآخرة أقواهم حباً لله تعالى، فإن الآخرة معناه القدوم على الله تعالى، ودرك سعادة لقائه. وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه، وتمكن من مشاهدته من غير منغص ولا مكدر، إلا أن هذا النعيم على قدر المحبة، فكلما ازداد الحب ازدادت اللذة. وأصل الحب لا ينفك عن مؤمن، لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة، وأما قوة الحب واستيلاؤه، فذلك ينفك عنه الأكثرون، وإنما يحصل ذلك بشيئين: أحدهما: قطع علائق الدنيا، وإخراج حب غير الله من القلب، فأحد أسباب ضعف حبه، قوه حب الدنيا، وبقدر ما يأنس القلب بالدنيا ينقص أنسه بالله، والدنيا

والآخرة ضرتان، وسبيل قطع الدنيا عن القلب سلوك طريق الزهد، وملازمة الصبر والانقياد إليهما بزمام الخوف والرخاء، وما ذكرناه من المقامات كالتوبة والصبر والشكر والزهد والخوف وغير ذلك. السبب الثاني لقوة المحبة: معرفة الله تعالى، فإذا حصلت المعرفة تبعتها المحبة، ولا يوصل إلى هذه المعرفة بعد انقطاع شواغل الدنيا من القلب إلا الفكر الصافي، والذكر الدائم، والتشمير في الطلب، والاستدلال عليها بأفعاله سبحانه: وأقل أفعاله الأرض وما عليها، بالإضافة إلى الملائكة وملكوت السموات. والشمس على ما يرى من صغر حجمها مثل الأرض مائة ونيفاً وستين مرة، فانظر إلى صغر الأرض بالإضافة إليها، ثم انظر إلى صغر الشمس بالإضافة إلى فلكها الذي هي مركوزة فيه وهى في السماء الرابعة (¬1) والسماء الرابعة صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها من السموات، ثم السموات السبع في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة، والكرسي في العرش كذلك. ثم انظر إلى الآدمي المخلوق من التراب هو جزء من الارض، وإلى سائر الحيوانات، وإلى صغره بالإضافة إلى الأرض، واصغر ما تعرفه من الحيوانات البعوض، فانظر فيه بعقل حاضر، كيف خلقه الله عز وجل على شكل الفيل الذي هو أعظم الحيوانات، وزاده الجناحين، وانظر كيف شق سمعه وبصره، وخلق في باطنه من أعضاء الغذاء وآلاته، ودبره في سائر أحواله، من القوى الجاذبة والدافعة والهاضمة، وانظر كيف خلق له الطيران، يطير إذا طلب، وجعل له خرطوماً محددا يمص به الدم. وانظر إلى النحل في تناولها الأزهار من الأنوار، واحترازها عن الأقذار، وطاعتها إلى كبيرها، حتى إنه يقتل كل ما ورد عليه وقد أكل مستقذراً، والى اختيارها الشكل المسدس، فلا تبنى بيتاً مربعاً، ولا مستديراً، ولا مخمساً، بل مسدساً لخاصيته في الشكل المسدس، فإن أوسع الأشكال وأحواها المستدير وما يقرب منه، فإن المربع تخرج منه الزوايا ضائعة، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة، فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة، فلا شكل في الأشكال ذوات الزوايا ¬

_ (¬1) لم يثبت في هذا خبر تصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما ضرب من الاجتهاد الإنساني الذي يخضع للمقاييس العلمية الدقيقة، ويحكم عليها بموجبها من صواب أو خطأ.

يقرب في الاحتواء من المستدير، ثم تتراص الجملة منه، بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة إلى المسدس، فانظر كيف الهمه الله تعالى ذلك على صغر حجمه وضعفه، فاعتبر بهذه اللمعة اليسيرة من محقرات الحيوانات، فالنظر في هذا وأشباهه تزداد المعرفة به، فتزداد المحبة. وأما السبب في تفاوت الناس في الحب. فاعلم أن الناس مشتركون في أصل الحب، لكنهم يتفاوتون لتفاوت المعرفة، فكثير من الناس ليس لهم من معرفة الله إلا الصفات والأسماء التي قرعت أسماعهم، والعالم البصير يطالع تفصيل صنع الله تعالى حتى يرى ما يبهر عقله، فتزداد عظمة الله في قلبه، فيزداد حباً له، وتجر هذه المعرفة التي هي معرفة عجائب صنع الله تعالى إلى بحر لا ساحل له. وأما السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة الله تعالى، فاعلم أن كل من صنع شيئاً دل المصنوع على وجود صانعه، وعلى علمه وحياته وقدرته دلالة جلية ظاهرة، وإن كانت هذه الصفات لا تدرك بشيء من الحواس الخمس. فوجود الله سبحانه وتعالى وقدرته وعلمه وسائر صفاته يشهد له بالضرورة كل ما نشاهد من حجر وشجر ومدر ونبات وحيوان وأرض وسماء وكوكب وبر وبحر، بل أول شاهد علينا أنفسنا وأجسامنا، وتقلب أحوالنا وتغير قلوبنا، وجميع أطوارنا في حركاتنا وسكناتنا. وجميع ما في العالم شواهد ناطقة، وأدلة شاهدة بوجود خالقها ومدبرها ومصرفها ومحركها، ودالة على علمه وقدرته وحياته ولطفه وحكمته وعظمته وجلاله، إذ كل ذرة تنادى بلسان حالها: إنه ليس وجودها بنفسها، وإنها تحتاج إلى موجد لها، لكن عقولنا بالنسبة إلى إدراك الحضرة الإلهية، كالخفاش بالنسبة إلى النهار، فإنه لضعف بصره يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار، وليس عدم إبصاره بالنهار لخفائه، بل لشدة ظهوره واستنارته وضعف أعين الخفاش، فكذلك عقولنا ضعيفة عن إدراك الحضرة الإلهية، فسبحان من احتجب بإشراق نوره، واختفى به عن البصائر والأبصار، فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله سبحانه وتعالى، وانضم إلى ذلك أيضاً أن المدركات الشاهدة لله تعالى، إنما يدركها الإنسان في حال الصبا قبل حضور العقل عنده، ثم تبدو فيه غريزة العقل قليلاً قليلاً، وهو مستغرق الهم، مشغول به، وقد أنس بمدركاته وألفها، فسقط وقعها عن قلبه بطول الأنس.

3 ـ فصل في بيان معنى الشوق إلى الله تعالى

وكذلك إذا رأى فجأة حيواناً غريباً، أو نباتاً، أو فعلاً من أفعال الله تعالى عجيباً خارقا للعادة، انطلق لسانه بالتعجب، فقال: سبحان الله! سبحان الله! وهو يرى طول النهار نفسه، وجميع أعضائه، وجميع الحيوانات المألوفة، وكلها شواهد قاطعة، فلا يحس بشهادتها لطول الأنس بها. ولو فرض أن أعمى بلغ عاقلاً، ثم انقشعت غشاوة عينه، فامتد بصره إلى السماء والأرض، والأشجار، والنبات، والحيوان دفعة واحدة، لخيف على عقله أن ينبهر، لعظم عجبه من مشاهدة هذه العجائب، وشهادتها لخالقها، فهذا وأمثاله من الأسباب مع الانهماك في الشهوات، وهو الذي سد على الخلق في سبيل الاستضاءة بنور المعرفة، والسباحة في بحارها الواسعة، والله أعلم وأحكم. 3 ـ فصل في بيان معنى الشوق إلى الله تعالى قد تقدم الكلام في المحبة وإثباتها بالأدلة، وأن الشوق ثمرة من ثمارها، فإن أحب شيئاً اشتاق إليه. واعلم: أن الشوق لا يتصور إلا لشيء أدرك من وجه ولم يدرك من وجه. فأما ما لا يدرك أصلاً، فلا يشتاق إليه، وكمال الإدراك بالرؤية، وإنما يكون ذلك في الآخرة. واعلم: أن الأمور الإلهية لا نهاية لها، وإنما يكشف لكل عبد من العباد بعضها، ويبقى أمور لا نهاية لها، والعارف يعلم وجودها، وكونها معلومة لله تعالى، ويعلم أن ما غاب عن علمه من المعلومات أكثر مما حضر، فلا يزال العبد متشوقاً إلى أن يحصل له اصل المعرفة، وينتهى الشوق الأول في الدار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ومشاهدة، ولا يتصور أن يسكن قلب المشتاق في الدنيا. وكان إبراهيم ابن أدهم من المشتاقين، فقال يوماً يارب! إن كنت أعطيت أحداً من المحبين لك ما يسكن به قلبه قبل لقائك فأعطني، فقد أضر بى القلق. قال: فرأيته عز وجل في النوم، فقال: يا إبراهيم! أما استحييت منى؟! تسألني أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائي، وهل يسكن قلب المشتاق قبل لقاء حبيبه؟ فقلت: يا رب: تهت في حبك فلم أدر ما أقول، فهذا الشوق يسكن في الآخرة. وأما غير ذلك مما هو

4 ـ فصل في بيان محبة الله تعالى للعبد ومعناها وبيان علامات محبة العبد لله تعالى

معلوم لله فلا نهاية له، فلا يتضح للعبد ولا يحط به، فهو مشغول بلذة ما ظهر له، ولا يزال النعيم واللذة متزايدين حتى يشغل عن الإحساس بالشوق إلى ما وراء ذلك، فهذا القدر من أنوار البصائر كاشف لحقائق الشوق ومعانيه. ومن شواهد الأخبار، ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علم رجلا دعاء، وأمره أن يتعاهد به أهله كل يوم، فذكر فيه: "أسألك اللهم الرضى بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، وشوقاً إلى لقائك". وفى التوراة: يقول الله تعالى: طال شوق الأبرار إلى لقائي، وأنا إلى لقائهم أشد شوقاً. وفى بعض ما أوحى الله عز وجل إلى بعض عباده: إن لى عباداً من عبادى، يحبونى وأحبهم، وأشتاق إليهم ويشتاقون إلى، ويذكروني وأذكرهم، فان حذوت طريقهم أحببتك، وإن عدلت عنهم مقتك. قال: يا رب! وما علامتهم؟ قال: يرعون الظلال بالنهار، كما يراعى الراعي الشفيق غنمه؟ ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنهم الليل، واختلط الظلام، وفرش الفرش، وخلال كل حبيب بحبيبه، نصبو أقدامهم، وافترشوا وجوههم، وناجوني بكلامي، وتملقونى بإنعامي، فبين صارخ وباك، وبين متأوه وشاك، وبين قائم وقاعد، وبين راكع وساجد، بعيني ما يتحملون من أجلى، وبسمعي ما يشكون من حبي. 4 ـ فصل في بيان محبة الله تعالى للعبد ومعناها وبيان علامات محبة العبد لله تعالى وأما محبة الله تعالى للعبد، فاعلم: أن شواهد القرآن متظاهرة على ذلك كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة 222]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا}، الآية [الصف: 4] ونبه على أنه لا يعذب من يحبه، لأنه رد على من ادعى أنه حبيبه بقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] وشرط للمحبة غفران الذنوب فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران، 31].

وفى الحديث الصحيح، من رواية أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تعالى يقول: "ما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه"، إلى أخره. وهو حديث مشهور. ومن علامة حب الله تعالى للعبد، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه" (¬1). ومن أقوى العلامات، حسن التدبير له، يربيه من الطفولة على أحسن نظام، ويكتب الإيمان في قلبه، وينور له عقله، فيتبع كل ما يقربه، وينفر عن كل ما يبعد عنه، ثم يتولاه بتيسير أموره، من غير ذل للخلق، ويسدد ظاهره وباطنه، ويجعل همه هماً واحداً، فإذا زادت المحبة، شغله به عن كل شىء. وأما محبة العبد لله تعالى، فاعلم: أن المحبة يدعيها كل أحد، فما أسهل الدعوى وأعز المعنى، فلا ينبغي أن يغتر الإنسان بتلبيس الشيطان، وخداع النفس إذا ادعت محبة الله تعالى، مالم يمتحنها بالعلامات، ويطالبها بالبراهين، فمن العلامات حب لقاء الله تعالى في الجنة، فإنه لا يتصور أن يحب القلب محبوباً إلا ويحب لقاءه ومشاهدته، وهذا لا ينافى كراهة الموت، فإن المؤمن يكره الموت، ولقاء الله بعد الموت. ومن السلف من أحب الموت، ومنهم من كرهه، إما لضعف محبته، أو لكونها مشوبة بحب شيء من الدنيا، أو لأنه يرى ذنوبه فيحب أن يبقى ليتوب. ومنهم من يرى نفسه في ابتداء مقام المحبة، فسكره عجلة الموت قبل أن يستعد للقاء الله تعالى، وهذا كمحب يصله الخبر بقدوم حبيبه عليه، فيحب أن يتأخر قدومه ساعة ليهيئ له داره، ويعدل له أسبابه، فيلقاه كما يهواه، فارغ القلب عن الشواغل، خفيف الظهر عن العوائق، فالكراهة بهذا السبب لا تنافى كمال المحبة، وعلامة هذا: الدؤوب في العمل، واستغراق الهم في الاستعداد. ومنها أن يكون مؤثراً ما أحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه، فيجتنب ¬

_ (¬1) قطعة من حديث أخرجه الترمذي (2398) من حديث أنس بلفظ "إن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضى، فله الرضى، ومن سخط فله السخط" وفى الباب عن عبد الله بن مغفل عند الطبرانى والحاكم، وعن عمار بن ياسر عند الطبرانى، وعن أبى هريرة عند ابن عدى، فهو صحيح بها.

اتباع الهوى، ويعرض عن دعة الكسل، ولا يزال مواظباً على طاعة الله تعالى متقرباً إليه بالنوافل. ومن أحب الله فلا يعصيه، إلا أن العصيان لا ينافى أصل المحبة، إنما يضاد كمالها، فكم من إنسان يحب الصحة ويأكل ما يضره، وسببه أن المعرفة قد تضعف والشهوة قد تغلب، فيعجز عن القيام بحق المحبة، ويدل على ذلك حديث نعيمان أنه كان يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيحده (¬1) إلى أن أتى به يوماً، فحده فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله" فلم تخرجه المعصية عن المحبة، وإنما تخرجه عن كمال المحبة. ومن العلامات أن يكون مستهتراً بذكر الله تعالى، لا يفتر عنه لسانه، ولا يخلو عنه قلبه، فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره بالضرورة، ومن ذكر ما يتعلق به. فعلامة حب الله تعالى حب ذكره، وحب القرآن الذي هو كلامه، وحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]. وقال بعض السلف: كنت قد وجدت حلاوة المناجاة، فكنت أدمن قراءة القرآن، ثم لحقني فترة فانقطعت، فرأيت في المنام قائلا يقول: إن كنت تزعم حبي ... فلم هجرت كتابي أما تدبرت ما فيـ ... ـه من لطيف عتابي ومنها أن يكون أنسه بالخلوة، ومناجاة الله تعالى، وتلاوة كتابه، فيواظب على التهجد، ويغتنم هدوء الليل وصفاء الوقت بانقطاع العوائق، فان أقل درجات الحب التلذذ بالخلوة بالحبيب، والتنعم بمناجاته. روى أن عابداً عبد الله غيضة دهراً، فنظر إلى طائر قد عشش في شجرة يأوى إليها، ويصفر عندها. فقال: لو حولت مسجدي إلى تلك الشجرة كنت آنس بصوت ¬

_ (¬1) أي يقيم عليه الحد وهو نعيمان بن عمرو بن رفاعة، وكان كثير المزح.

هذا الطائر، ففعل، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم: قل لفلان العابد: استأنست بمخلوق، لأحطنك درجة لا تنالها بشيء من عملك أبداً. فإذن علامة المحبة، كمال الأنس بمناجاة المحبوب، وكمال التنعيم بالخلوة، وكمال الاستيحاش من كل ما ينقض عليه الخلوة. ومتى غلب الحب والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرة عين تدفع جميع الهموم، بل يستغرق الحب والأنس قلبه، حتى لا يفهم أمور الدنيا، مالم تتكرر على سمعه مراراً، مثل العاشق الولهان. ومنها أن يتأسف على ما يفوته من ذكر الله تعالى، ويتنعم بالطاعة، لا يستثقلها، ويسقط عنه تعبها. قال ثابت البنانى رحمة الله: كابدت الصلاة عشرين سنه، وتنعمت بها عشرين سنه. وقال الجنيد: علامة المحبة دوام النشاط، والدؤوب بشهوة يفتر بدنه ولا يفتر قلبه، وكل هذا موجود المثال في المشاهدات، فإن المحب لا يستثقل السعي في مراد محبوبه، ويستلذ خدمته بقلبه، إن كان شاقاً على بدنه، وكل حب قاهر لا محالة، فمن كان محبوب أحب إليه من الكسل، ترك الكسل في خدمته، وإن كان أحب إليه من المال، ترك المال في حبه. ومنها أن يكون شفيقاً على جميع عباد الله، رحيما بهم، شديداً على أعدائه، كما قال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يصرفه عن الغضب له صارف، فهذه علامات المحبة، فمن اجتمعت فيه فقد تمت محبته، وصفا في الآخرة شرابه. ومن امتزج بحبه حب غير الله، تنعم في الآخرة بقدر حبه، فيمزج شرابه بشيء من شراب المقربين، كما قال عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} إلى قوله: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 25 - 28] فقوبل الخالص بالصرف، والمشوب بالمشوب. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8].

5 ـ فصل في بيان معنى الأنس بالله والرضى بقضاء الله عز وجل

ومنها أن يكون في حبه خائفاً بين الهيبة والتعظيم، فإن الخوف لا يضاد المحبة، ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبة ليست لغيرهم، وبعضها أشد من بعض، فأولها خوف الإعراض، وأشد منه خوف الحجاب، وأشد منه خوف الإبعاد. ومنها كتمان الحب، واجتناب الدعوى، والتوقى من إظهار الوجد والمحبة، تعظيماً للحبوب، وإجلالاًله، وهيبة وغيره على سره، فإن الحب سر من أسرار الحبيب. وقد يقع المحب في دهش وسكر، فيظهر عليه الحب من غير قصد، فهو في ذلك معذور، كما قال بعضهم. ومن قلبه مع غيره كيف حاله ... ومن سره في جفنه كيف يكتم 5 ـ فصل في بيان معنى الأنس بالله والرضى بقضاء الله عز وجل اعلم: أن من غلب عليه حال الأنس لم تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة، لآن الأنس بالله يلازمه التوحش من غيره، ويكون أثقل الأشياء على القلب كل ما يعوق عن الخلوة. قال عبد الواحد بن زيد: قلت لراهب: لقد أعجبتك الخلوة، فقال: لو ذقت حلاوة الخلوة لا ستوحشت إليها من نفسك، قلت: متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله تعالى؟ قال: إذا صفا الود، خلصت المعاملة. قلت: متى يصفو الود؟ قال: إذا اجتمع الهم، فصار هماً واحداً في الطاعة. فإن قيل: ما علامة الأنس؟ قيل: علامته الخاصة ضيق الصدر عن معاشرة الخلق، والتبرم بهم، وإن خالط، فهو كمنفرد غائب مخالط بالبدن، منفرد بالقلب. واعلم: أن الأنس إذا دام وغلب واستحكم، قد يثمر نوعاً من الانبساط والإدلال، وقد يكون ذلك منكراً في الصورة، لما فيه من الجراءة وقلة الهيبة، وإن كان محتملاً ممن أقيم مقام الأنس. وأما إذا صدر ممن لا يفهم ذلك المقام، أشرف به على صاحبه على الكفر، وذلك كما يروى عن أبى حفص أنه كان يمشى يوماً، فاستقبله رجل مدهوش (¬1) فقال: مالك؟ قال: ضل حماري، ولا أملك غيره، فوقف ¬

_ (¬1) أي: متحير، من دهش الرجل يدهش: إذا تحير.

أبو حفص وقال: وعزتك لا أخطو خطوة ما لم ترد عليه حماره، فظهر الحمار. وروى عن برخ العابد أنه خرج يستقى فقال: يارب: أنت بالبخل لا ترمى، أنفذ ما عندك، اسقنا الساعة. ولا يستبعد أن يحتمل من شخص ما لم يحتمل من غيره. وأما الرضى بقضاء الله تعالى، فهو من أعلى مقامات المقربين، وهو من ثمار المحبة، وحقيقته غامضة، ولا ينكشف الأمر فيه إلا لمن يفهمه عن الله تعالى. ومن فضائل الرضى ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا أراد الله بعبد خيراً أرضاه بما قسم له". وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود: إنك لن تلقاني بعمل هو أرضى لى عنك، ولا أحط لوزرك من الرضى بقضائي. ونظر علي بن أبى طالب رضى الله عنه إلى عدى بن حاتم كئيباً، فقال: ياعدى: مالي أراك كئيباً حزيناً؟ فقال: وما يمنعني فقد قتل ابناي، وفقئت عيني فقال: يا عدى! من رضى بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله. ودخل أبو الدرداء رضى الله عنه على رجل وهو يموت وهو يحمد الله تعالى، فقال أبو الدرداء: أصبت، إن الله عز وجل إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به. وقال ابن مسعود رضى الله عنه: إن الله تعالى بقسطه وعمله جعل الروح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط. وقال علقمة في قوله عز وجل: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] قال: هي المصيبة تصيب الرجل، فيعلم أنها من عند الله، فيسلم لها ويرضى. وقال أبو معاوية الأسود في قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قال: الرضى والقناعة. وفى الأخبار السالفة (¬1): أن نبياً من الأنبياء شكا إلى ربه عز وجل الجوع والفقر عشر سنين، فما أجيب إلى ما أراد، ثم أوحى الله إليه: كم تشكو؟ هكذا كان بدؤك عندي في أم الكتاب قبل أن أخلق السماوات والأرض، وهكذا سبق لك منى، وهكذا قضيت ¬

_ (¬1) في الأصول: وفى الحديث.

6 ـ فصل [يتصور الرضى فيما يخالف الهوى]

عليك قبل أن أخلق الدنيا، أفتريد أن أعيد خلق الدنيا من أجلك؟ أم تريد أن أبدل ما قدرت لك؟ فيكون ما تحب فوق ما أحب، ويكون ما تريد فوق ما أريد، وعزتي وجلالى، لئن تلجلج هذا في صدرك مرة أخرى لأمحونك من ديوان النبوة. وفي "زبور داود" عليه السلام: هل تدرى من أسرع الناس مراً على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي وألسنتهم رطبة من ذكرى. وقال داود عليه السلام: يارب! أي عبادك أبغض إليك؟ قال: عبد استخارتي في أمر، فخرجت له، فلم يرض. وقال عمر بن العزيز: ما بقى لى سرور إلا في مواقع القدر. وقيل له: ما تشتهى؟ فقال: ما يقضى الله عز وجل. وقال الحسن: من رضى بما قسم له، وسعه، وبارك الله فيه، ومن لم يرض لم يسعه، ولم يبارك له فيه. وقال عبد الواحد بن زيد: الرضى باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين. وقال بعضهم: لن يرد الآخرة أرفع درجات من الراضين عن الله تعالى على كل حال، فمن وهب له الرضى، فقد بلغ أفضل الدرجات. وأصبح أعرابي وقد مات له أباعر كثيرة، فقال: لا والذي أنا عبد في عبادته ... لولا شماتة أعداء ذوى إحن ما سرني أن إبلي في مباركها ... وأن شيئاً قضاه الله لم يكن 6 ـ فصل [يتصور الرضى فيما يخالف الهوى] ويتصور الرضى فيما يخالف الهوى. وبيان ذلك إذا جرى على الإنسان الألم، فتارة يحس به ويدرك ألمه، ولكنه يكون راضياً به، راغباً في زيادته بعقله، وإن كان كارها له بطبعه لما يوصله من الثواب. مثاله أن يلتمس من الحجام الحجامة والفصد، فإنه يدرك ألم ذلك، إلا أنه راض به، وراغب فيه ومتقلد منه الحجام.

وكذلك كل من يسافر في طلب الربح، فإنه يدرك مشقة السفر، لكن حبه لثمرة سفره طيب عنده تلك المشقة، وجعله راضياً بها، وكل من أصابه بلية من الله تعالى وكان له يقين، فانه يتوقع الأجر فوق ما فاته، فيرضى بما أصابه، ويشكر الله تعالى عليه، ويجوز أن يغلبه الحب، بحيث يكون حظ المحب في مراد محبوبه، ويبطل الإحساس بالألم لفرط الحب، وليس ذلك بعجيب، فان الرجل المحارب في حال غضبة أو خوفه، تصيبه الجرحات ولا يحس بها، ولا يشعر بها في تلك الحال، وذلك لأن قلبه مستغرق، وإذا كان القلب مستغرقاً بأمر من الأمور لم يدرك ما عداه، وذلك موجود في المشاهدات. قال الجنيد رحمة الله: سألت سرياً: هل يجد المحب ألم البلاء؟ قال: لا. وقد روينا عن خلق كثير من أهل البلاء، أنهم كانوا يقولون: لو قطعنا إرباً إرباً، ما ازددنا له إلا حباً. وقد تقدم أن فرط الحب يزيل إحساس الألم، وهو متصور في حب الخلق، كما حكى بعضهم. قال: كان في جيراننا رجل له جارية يحبها، فاعتلت، فجلس يصلح لها حساء (¬1)، فبينا هو يحرك القدر، قالت: أوه، فدهش وسقطت الملعقة من يده، وجعل يحرك القدر بيده حتى تساقطت أصابعه وهو لا يعلم. ويؤيد هذا قصة النسوة حين شاهدن يوسف عليه السلام، فإنهن قطعن الأيدي، وما أحسن بألم، فقد بان بما ذكرنا أن الرضى بما يخالف الهوى ليس مستحيلاً، وإذا كان ذلك ممكناً في حق الخلق وحظوظهم، كان ممكنا في حق الله سبحانه، وحظوظ الآخرة بطريق الأولى. وإمكان ذلك في ثلاثة أوجه: أحدهما: علم المؤمن بأن تدبير الله تعالى خير من تدبيره. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ما قضى الله لمؤمن من قضاء إلا كان خيراً له". وعن مكحول قال: سمعت ابن عمر رضى الله عنه يقول: إن الرجل يستخير الله فيختار له، فيسقط فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو قد خير له. ¬

_ (¬1) بالفتح والمد: طعام يتخذ من دقيق وماء ودهن، وقد يحلى ويكون رقيقاً يحسى.

وعن مسروق قال: كان رجل بالبادية له كلب وحمار وديك، فالديك يوقظ للصلاة، والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل خباءهم، والكلب يحرسهم. فجاء الثعلب فأخذ الديك، فحزنوا فقال الرجل: عسى أن يكون خيراً، ثم جاء ذئب فخرق بطن الحمار، فحزنوا، فقال، الرجل: عسى أن يكون خيراً، ثم أصبحوا ذات يوم، فنظروا فإذا قد سبي من حولهم وبقوا هم، وإنما أخذ أولئك بما كان عندهم من الصوت والجلبة، ولم يكن عند أولئك شىء يجلب، قد ذهب كلبهم وحمارهم وديكهم. وعن سعيد بن المسيب قال: قال لقمان لابنه: يابنى: لا ينزلن بك أمر رضيته أو كرهته، إلا جعلت في الضمير أن ذلك خير لك. قال: أما هذه فلا أقدر أن أعطيكها دون أن أعلم ما قلت أنه كما قلت. قال: يابنى: فإن الله قد بعث نبياً هلم حتى نأتيه، فعنده بيان ما قلت لك. قال: اذهب بنا إليه، فخرج على حمار وابنه على حمار، وتزودوا ما يصلحهما، ثم سارا أياماً وليالى، حتى تلقهما مفازة، فأخذا أهبتهما ودخلاها، فسارا ما شاء الله أن يسيرا، حتى تعالى النهار واشتد الحر ونفد الماء والزاد، فاستبطآ حماريهما، فنزلا يمشيان، فبينما هما كذلك، إذ نظر لقمان أمامه، فإذا هو بسواد ودخان، فقال في نفسه: السواد شجر، والدخان عمران وناس، فبينما هما كذلك يشهدان، إذ وطئ ابن لقمان على عظم على الطريق، فدخل في باطن قدمه حتى ظهر من أعلاها، فخر مغشياً عليه، فحانت من لقمان التفاتة، فإذا هو بابنه صريع، فوثب إليه فضمه إلى صدره، واستخرج العظم بأسنانه، وشق عمامة كانت عليه فعصب رجله، ثم نظر إلى وجه ابنه فذرفت عيناه فقطرت قطرة من دموعه على خد الغلام فانتبه لها، فنظر إلى أبيه يبكى، فقال يا أبت: أنت تبكى وأنت تقول هذا خير لي، فكيف ذلك وأنت تبكى؟! وقد نفذ الطعام والشراب وبقيت أنا وأنت في هذا المكان. قال: أما بكائي يابنى، فوددت أنى افتديتك بجميع حظي من الدنيا، ولكنى والد ومنى رقة الوالد. وأما قولك: كيف يكون هذا خيراً لى؟ فلعل ما صرف عنك أعظم مما ابتليت به، ولعل ما ابتليت به أيسر مما صرف عنك، فبينما هو يحاوره، إذ نظر لقمان أمامه، فلم ير الدخان والسواد، فقال في نفسه: لم أر شيئاً، ثم قال: قد رأيت، ولكن لعله أن يكون قد أحدث ربى بما رأيت شيئاً، فبينما هو يتفكر في ذلك، إذا نظر فإذا هو بشخص قد أقبل على فرس أبلق، عليه ثياب بيض، يمسح الهواء مسحاً. فلم يزل يرمقه بعينيه حتى كان منه قريباً، فتوارى عنه ثم صاح به

7 ـ فصل [في أن الدعاء لا يناقض الرضى]

فقال: أنت لقمان؟ قال: نعم. قال: ما قال لك ابنك هذا السفيه؟ قال: يا عبد الله من أنت؟، ما لي أسمع كلامك ولا أرى لك وجهك؟ قال أنا جبريل، لا يراني إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، لولا ذلك لرأيتني، فما قال لك ابنك هذا السفيه؟ قال: أما علمت ذلك؟ فقال جبريل: مالي بشيء من أمركما علم، إلا أن حفظتكما أتوني، وقد أمرني ربى تعالى بخسف هذه المدينة وما فيها ومن يليها، فأخبروني أنكما تريدان هذه المدينة، فدعوت ربى أن يحسبكما عنى بما شاء، فحبسكما عنى بما ابتلى به ابنك، ولولا ذلك لخسف بكما مع من خسف به، ثم مسح جبريل عليه السلام بيده على قدم الغلاف، فاستوى قائماً، ومسح يده على الذي كان فيه الطعام فامتلأ طعاماً، ومسح على الذي كان فيه ماء فامتلأ ماء، ثم حملهما وحماريهما فرحل بهما كما يرحل الطير، فإذا هما في الدار التي خرجا منها بعد أيام وليالى. الوجه الثاني: الرضى بالألم، لما يتوقع من الثواب المدخر، كما تقدم من الرضى بالفصد والحجامة وشرب الأدوية انتظاراً للشفاء. الوجه الثالث: الرضى به لا لحظ وراءه، بل لكونه مراد المحبوب، فيكون ألذ الأشياء عنده ما فيه رضى محبوبه، ولو كان في ذلك هلاك نفسه، كما قال بعضهم: فما لجرح إذا أرضاكم ألم. وقد سبق أن الحب يستولي بحيث يدهش عن إدراك الألم، ولا ينبغي أن ينكر ذلك من فقده من نفسه، لأنه إنما فقده لفقد سبية، وهو فرط حبه، ومن لم يذق طعم الحب لم يعرف عجائبه، ولعمري إن من فقد السمع أنكر لذة الألحان والنغمات، فمن فقد القلب، فلابد أن ينكر هذه اللذات التي لا مظنة لها سوى القلب. 7 ـ فصل [في أن الدعاء لا يناقض الرضى] واعلم: أن الدعاء لا يناقض الرضى، كذلك كراهة المعاصي ومقت أهلها وأسبابها، والسعى في إزالتها. أما الدعاء، فقد تعبدنا الله تعالى به، وقد أثنى الله تعالى على بعض عباده بقوله: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] ودعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيره

من الأنبياء والصالحين معلوم. وأما إنكار المعاصي وعدم الرضى بها، فقد تعبدنا الله تعالى به، وذم الراضي به، وكذلك بغض الكفار والفجار، والإنكار عليهم، وشواهد ذلك في القرآن والأخبار كثيرة جداً. فإن قيل: فقد وردت الأخبار بالرضى بقضاء الله تعالى، فإن كانت المعاصي بغير قضاء الله تعالى، فهو محال، وإن كانت بقضائه، فكراهتها كراهة لقضائه، فكيف الجمع بين هذين الحالين. فاعلم أن هذا مما يلتبس على القاصرين على الوقوف على أسرار العلم، حتى التبس على قوم، فرأوا السكوت عن الإنكار مقاما من مقامات الرضى، وسموه حسن الخلق، وهو جهل محض، بل نقول: الرضى والكراهه يتضادان، إذا تواردا على شىء واحد، من جهة واحدة، على وجه واحد. فأما إذا رضيت بشيء من وجه، وكرهته من وجه آخر، فليس ذلك بمتضاد، نحو أن يموت عدوك الذي هو أيضاً عدو لبعض أعدائك، وساع في إهلاكه، فتكره موته من حيث إنه مات عدو عدوك، وترضاه من حيث إنه عدوك، وكذلك للمعصية وجهان: وجه إلى الله تعالى، من حيث إنها اختياره وإرادته، فترضى بها من هذا الوجه تسليماً للملك إلى مالك الملك. ووجه إلى العبد من حيث سلط عليه أسباب البعد والمقت، فهو من هذا الوجه منكر ومذموم، ولا ينكشف هذا إلا بمثال، فلنفرض محبوباً من الخلق قال بين يدي محبة: إنى أريد أن أميز بين من يحبني ويبغضني، وأنصب لذلك معياراً صادقاً، وهو أنى أقصد إلى فلان فأضربه ضرباً شديداً يضطره ذلك إلى الشتم لى، حتى إذا شتمني أبغضته واتخذته عدواً، فكل من أحبه علمت أنه أيضاً عدو لى، وكل من أبغضه علمت أنه محبي وصديقى، ثم فعل ذلك وحصل مراده من الشتم الذي هو سبب البغض، وحصل البغض الذي هو سبب العداوة، فحق على كل من هو صادق في محبته أن يقول: أما تدبيرك في ضرب هذا الشخص وأذاه، فأنا محب له، فإنه رأيك وتدبيرك وفعلك، وأما شتمه إياك من حيث نسبته إلى هذا الشخص، فإنه عدوان منه وتهجم عليك، فأنا كاره له من حيث نسبته إليه إذ كان حقه أن يصبر ولا يشتم، فكذلك تسليط الله سبحانه وتعالى دواعي الشهوة والمعاصي على العبد، وبغضه على عصيانه.

8 ـ باب في النية والإخلاص والصدق

فواجب على كل عبد محب لله أن يبغض من أبغضه الله عز وجل، ويعادى من عاداه وأبعده عن حضرته، وإن اضطره بقهره وقدرته إلى معاداته ومخالفته، فإنه بعيد مطرود، والمبعد عن درجات القرب ينبغي أن يكون بغيضاً إلى جميع المحبين، موافقة لمحبوبهم، بإظهار الغضب على من أظهر المحبوب الغضب عليه بإبعاده. وبهذا يتقرر جميع ما وردت به الأخبار من البغض في الله والحب في الله، والتشديد على الكفار والتغليظ عليهم، والمبالغة في مقتهم، مع الرضى بقضاء الله تعالى، من حيث إنه قضاؤه، وهذا كله يستمد من سر القدر الذي لا رخصة في إفشائه، وهو أن الخير والشر كلاهما داخلان في المشيئة والإدارة، ولكن الشر مراد مكروه، والخير مراد مرضى به. والأولى السكوت والتأدب بأدب الشرع، والوقوف مع ما تعبد به الخلق، من الجمع بين الرضى بقضاء الله تعالى ومقت المعاصي، والله تعالى أعلم. ومما يتعلق بالمحبة. قيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: لو يعلم المدبرون عنى كيف انتظاري لهم، ورفقي بهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم، لماتوا شوقاً إلى، وتقطعت أوصالهم من محبتي. يا داود: هذه إرادتي في المدبرين عنى، فكيف إرادتي في المقبلين على؟ يا داود أحوج ما يكون العبد إلى إذا استغنى عنى، وأجل ما يكون عندي إذا رجع إلي. وكانت امرأة متعبدة تقول: والله لقد سئمت الحياة، حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته شوقاً إلى الله تعالى، وحباً للقائه. فقيل لها: فعلى ثقة أنت من عملك؟ قالت: لا، ولكنى لحبى إياه وحسن ظني به، أفتراه يعذبني وأنا أحبه؟ ... 8 ـ باب في النية والإخلاص والصدق اعلم: أنه قد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان وأنوار القرآن أنه لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة.

9 ـ الفصل الأول في النية وحقيقتها وفضلها وما يتعلق بذلك

فالناس كلهم هلكى، إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم (¬1). فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير تحقيق هباء. قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وليت شعرى، كيف تصلح نية من لا يعرف حقيقة النية؟ أو كيف يخلص من صحح النية إذا لم يعرف حقيقة الإخلاص؟ ‍ أو كيف يطالب المخلص نفسه بالصدق إذا لم يتحقق معناه؟ فالوظيفة الأولى على كل عبد أراد طاعة الله تعالى، أن يعلم النية أولاً، لتحصل له المعرفة، ثم يصححها بالعمل بعد فهم حقيقة الصدق والإخلاص اللذين هما وسيلتان للعبد إلى النجاة. ونحن نذكر ذلك في ثلاثة فصول: 9 ـ الفصل الأول في النية وحقيقتها وفضلها وما يتعلق بذلك قال الله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] والمراد بالإرادة: النية. وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه". وعن أبى موسى الأشعرى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". أخرجاهما في "الصحيحين". وعن جابر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لقد خلفتم بالمدينة رجالاً، ما قطعتم وادياً، ولا سلكتم طريقاً، إلا شاركوكم في الأجر، حبسهم المرض" أخرجه مسلم، وأخرجه البخاري من حديث أنس. ¬

_ (¬1) انظر صفحة (250) حول هذا الكلام.

10 ـ واعلم أن الأعمال تنقسم إلى ثلاثة أقسام

وفى "الصحيحين" من حديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من هم بحسنة فعملها كتبت له حسنة". وعن أبى كبشة الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مثل هذه الأمة مثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فهو يعمل به في ماله ينفقه في حقه. ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، وهو يقول: لو كان لى مثل مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فهما في الأجر سواء. ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط فيه، ينفقه في غير حقه. ورجل لم يؤته مالاً ولا علماً، فيقول: لو كان لى مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل. قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: فهما في الوزر سواء". وعن أبى عمران الجوني قال: تصعد الملائكة بالأعمال، فينادى الملك: ألق تلك الصحيفة، قال: فتقول الملائكة: ربنا قال خيراً وحفظناه عليه. فيقول تبارك وتعالى: إنه لم يرد به وجهي. قال: وينادى الملك: اكتب لفلان كذا وكذا، مرتين. فيقول: يارب: إنه لم يعمله، فيقول عز وجل: إنه قد نواه. وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى، والورع عما حرم الله تعالى، وصدق النية فيما عند الله تعالى. وكان بعضهم يقول: دلوني على عمل لا أزال به عاملاً لله تعالى، فقيل له: انو الخير، فانك لا تزال عاملاً وإن لم تعمل، فالنية تعمل وإن عدم العمل، فانه من نوى أن يصلى بالليل فنام، كتب له ثواب ما نوى أن يفعله. وقد جاء في الحديث: "ما من رجل يكون له ساعة من الليل يقومها، فينام عنها إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة تصدق بها عليه". وقد جاء في الحديث " نية المؤمن خير من عمله" (¬1). والنية، والإدارة، والقصد، عبارات متواردة على معنى واحد. 10 ـ واعلم أن الأعمال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: المعاصى، فلا تتغير عن موضعها بالنية، مثل من يبنى مسجداً ¬

_ (¬1) قال الحافظ السخاوى في "المقاصد الحسنة": قال البيقهى: إسناده ضعيف. قال ابن دحية: لا يصح.

بمال حرام يقصد بذلك الخير، فان النية لا تؤثر فيه، فان قصد الخير بالشر شر آخر، فان الخيرات إنما تعرف كونها خيرات بالشرع، فكيف يمكن أن يكون الشر خيراً، هيهات!. واعلم: أن من تقرب من السلاطين ببناء المساجد والمدارس بالمال الحرام، كان كتقرب علماء السوء بتعليم العلم للسفهاء والأشرار المشغولين بالفسق، فان هؤلاء إذا تعلموا كانوا قطاع طريق الله تعالى، يتكالبون على الدنيا، ويتبعون الهوى، ووبال ذلك راجع إلى معلمهم، إذ علم فساد نياتهم ومقاصدهم. ومن هذا القبيل تعلم القصاص القصص، فان مقاصد أكثرهم معروفة، وقصدهم اجتلاب الدنيا، وأخذ الأموال كيف اتفق، فتعليمهم إعانة على الفساد، فقد علمت أن الطاعة تنقلب معصية بالقصد. وأما المعصية، فلا تنقلب طاعة بالقصد أصلاً بل إذا انضاف إليها قصد خبيث تضاعف وزرها وعظم وبالها. القسم الثاني: الطاعات، وهى مرتبطة بالنيات في أصل صحتها، وفى تضاعف فضلها، وأما الأصل، فهو أن ينوى عبادة الله تعالى لا غير، فإن نوى الرياء صارت معصية. وأما تضاعف الفضل، فبكثرة النيات الحسنة، فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوى بها خيرات كثيرة، فيكون له بكل نية ثواب، إذ كل واحدة منها حسنة، ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها. مثال ذلك القعود في المسجد، فإنه طاعة، ويمكن أن ينوى بها نيات كثيرة: منها أن ينوى بدخوله انتظار الصلاة، ومنها الاعتكاف وكف الجوارح، فإن الاعتكاف كف، ومنها دفع الشواغل الصارفة عن الله تعالى بالانقطاع إلى المسجد، وإلى ذكر الله تعالى فيه، ونحو ذلك، فهذا طريق تكثير النيات، فقس على ذلك سائر الطاعات، إذ ما من طاعة إلا وتحتمل نيات كثيرة. القسم الثالث: المباحات، فما من شىء من المباحات إلا ويتحمل نية أو نيات، وتصير بها قربات، وينال بها معالي الدرجات، فما أعظم خسران من يغفل عنها ويتعاطاها تعاطى البهائم المهملة. ولا ينبغي أن يحتقر العبد الخطرات واللحظات، فكل ذلك يسأل عنه في القيامة،

لم فعله؟ وما الذي قصد به؟ مثال ما ينوى به القربة من المباحات إن يتطيب، وينوى بالطيب اتباع السنه، واحترام المسجد، ودفع الروائح الكريهة التي تؤذى مخالطيه. وقال الشافعي رحمه الله: من طاب ريحه زاد عقله. وكذلك معالجة رأسه تزايد فطنته وذكاءه، فيسهل عليه إدراك مهمات دنيه. وقال بعض السلف: إنى لا ستحب أن يكون لى في كل شىء نية، وحتى في آكلي وشربي ونومي ودخولي الخلاء، وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى، لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب من مهمات الدين، فمن قصد من الأكل التقوى على العبادة، ومن النكاح تحصين دينه، وتطييب قلب أهله، والتوصل إلى ولد يعبد الله بعده، أثيب على ذلك كله، ولا تحتقر شيئاً من حركاتك وكلماتك، وحاسب نفسك قبل أن تحاسب، وصحح قبل أن تفعل ما تفعله، وانظر في نيتك فيما تتركه أيضاً. واعلم: أن النية هي انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أنه مصلحة لها، إما في الحال أو المآل، وربما سمع بعض الجهال ما أوصينا به من تحسين النية، فقال عند أكله: نويت أن آكل لله، أو عند قراءته: نويت أن أقرأ لله، وظن أن ذلك نية، وليس كذلك، إنما النية انبعاث القلب، وتجرى مجرى الفتوح من الله تعالى، وليست النية داخلة تحت الاختيار، فقد تتيسر في بعض الأوقات، وقد تتعذر، وإنما تتيسر له في الغالب لمن قلبه يميل إلى الدين دون الدنيا. والناس في النيات على أقسام: منهم من يكون عمله للطاعة إجابة لباعث الخوف. ومنهم من يكون عمله إجابة لباعث الرجاء. وثمة مقام أرفع من هذين، وهو أن يعمل الطاعة على نية جلال الله تعالى لاستحقاقه الطاعة والعبودية، وهذه لا تتيسر لراغب في الدنيا، وهى أعز النيات وأعلاها، وقليل من يفهمها، فضلاً عن أن يتعاطاها، وصاحب هذا المقام لا يجاوز ذكر الله تعالى والفكر في جلاله حباً له. وقد حكى أحمد بن خضرويه أنه رأى رب العزة في منامه، فقال له: كل الناس يطلبون منى، وأبو يزيد يطلبني. وغرضنا أن هذه النيات متفاوتة في الدرجات ومن غلب على قلبه منها، فربما لم

11 ـ الفصل الثاني في الإخلاص وفضيلته وحقيقته ودرجاته

يتيسر له العدول إلى غيرها، ومن حضرت له نية في المباح، ولم تحضر في فضيلة فالمباح أولى، وانتقلت الفضيلة إليه. مثال ذلك أن تحضره نية الأكل والنوم ليتقوى بذلك على العبادة ويريح بدنه ولم تنبعث نيته في الحال إلى الصلاة والصوم، فالأكل والنوم أفضل، بل لو ملّ العبادة لكثرة مواظبته عليها، وعلم أنه لو رفه ساعة مباح عاد نشاطه، فذلك أفضل من التعبد حينئذ. قال علي عليه السلام: روحوا القلوب، واطلبوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان. وقال بعضهم: روحوا القلوب تعي الذكر. وهذه دقائق لا تدركها إلا بممارسة العلماء، فإن الحاذق في الطب قد يعالج المحرور باللحم مع حرارته، ويستبعد ذلك القاصر في الطب، وإنما يبتغى به أن تعود قوته ليتحمل المعالجة، وكذلك الخبير بالقتال، قد يفر من بين يدي قرنه حيلة منه، ليستجره إلى مضيق، فسلوك طريق الله تعالى كله حرب مع الشيطان، ومعالجة للقلب، والمبصر الموفق يقف في تلك الطريق على لطائف من الحيل يستبعدها الضعفاء، فلا ينبغي لهم ما خفي عليهم، بل يسلمون لأصحاب الأحوال إلى أن ينكشف لهم أسرار ذلك، أو ينالوا ذلك المقام. 11 ـ الفصل الثاني في الإخلاص وفضيلته وحقيقته ودرجاته قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 4]، وقال: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] وغير ذلك من الآيات. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل رضى الله عنه: "أخلص دينك يكفك القليل من العمل" (¬1). ¬

(¬1) ضعيف أخرجه ابن أبى الدنيا في "الإخلاص" والحاكم في "المستدرك" من حديث معاذ، وفيه ضعف وانقطاع.

وفى حديث أنس رضى الله عنه أنه قال: "إذا كان يوم القيامة جاءت الملائكة بصحف مختمة، فيقول الله عز وجل: ألقوا هذا، واقبلوا هذا، فتقول الملائكة: وعزتك ما كتبنا إلا ما كان، فيقول: إن هذا كان لغيري، ولا أقبل اليوم إلا ما كان لى". وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الملائكة يرفعون عمل العبد فيكثرونه ويزكونه، فيوحي الله تعالى إليهم، أنتم حفظة على عمل عبدى، وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدى لم يخلص في عمله، فاجعلوه في سجين، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه، فيوحي الله إليهم: إنكم حفظة على عمل عبدى، وأنا رقيب على ما في نفسه فضاعفوه واجعلوه في عليين". ويروى عن الحسن قال: كانت شجرة تعبد من دون الله، فجاء إليها رجل فقال: لأقطعن هذه الشجرة، فجاء إليها ليقطعها غضباً لله، فلقيه الشيطان في صورة إنسان فقال: ما تريد؟ قال: أريد أن أقطع الشجرة التي تعبد من دون الله، قال: إذا أنت لم تعبدها، فما يضرك من عبدها؟ قال: لأقطعنها، فقال له الشيطان: هل لك بما هو خير لك من ذلك لا تقطعها ولك ديناران إذا أصبحت عند وسادتك، قال فمن لى بذلك؟ قال: أنا لك، فرجع فأصبح فوجد عند وسادته دينارين، ثم أصبح بعد فلم يجد شيئاً، فقام غضبان ليقطعها، فتمثل له الشبطان في صورته، فقال ما تريد؟ قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله، قال كذبت، مالك إلى قطعها سبيل، فذهب ليقطعها، فضرب به الأرض وخنقه حتى كاد يقتله، ثم قال له أتدرى من أنا؟ فأخبره أنه الشيطان، وقال: جئت أول مرة غضباً لله، فلم يكن لى عليك سبيل، فخدعتك بالدينارين فتركتها، فلما فقدتهما جئت غضباً للدينارين فسلطت عليك. وكان معروف الكرخى يضرب نفسه ويقول: يا نفسي أخلصي وتخلصي. وقال أبو سليمان: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى. وحكى أن رجلاً كان يخرج في زي النساء، فيحضر حيث يحضرون من عرس، أو مأتم، فاتفق أنه حضر يوماً موضعاً فيه مجمع النساء، فسرقت درة، فصاحوا، أغلقوا الباب حتى نفتش، ففتشوا واحدة واحدة حتى بلغت النوبة إلى الرجل وإلى امرأة معه، فدعا الله بالإخلاص وقال: إن نجوت من هذه الفضيحة لا أعود إلى مثل هذا، فوجدت الدرة مع تلك المرأة فصاحوا: أطلقوا الحرة، فقد وجدنا الدرة.

12ـ بيان حقيقة الإخلاص

12 ـ بيان حقيقة الإخلاص اعلم: أن كل شئ يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه، سمى إخلاصاً. والإخلاص يضاده الإشراك، فمن ليس مخلصاً فهو مشرك، إلا أن الشرك درجات. فالإخلاص في التوحيد يضاده الشرك في الإلهية. والشرك منه جلى، ومنه خفي، وكذلك الإخلاص، وقد ذكرنا درجات الرياء فيما تقدم في بابه، وإنما نتكلم الآن فيمن انبعث لقصد التقرب، ولكن أمتزج بهذا الباعث باعث آخر، إما من الرياء، أو من غيره من حظوظ النفس. ومثال ذلك، أن يصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب، أو يعتق عبدً ليتخلص من مؤونته وسوء خلقه، أو يحج ليصح مزاجه بحركة السفر، أو للتخلص من شر يعرض له، أو يغزو ليمارس الحرب ويتعلم أسبابها، أو يصلى بالليل وله غرض في دفع النعاس عن نفسه ليراقب رحله أو أهله، أو يتعلم العلم ليسهل عليه طلب ما يكفيه من المال، أو يشتغل بالتدريس ليفرح بلذة الكلام، ونحو ذلك، فمتى كان باعثه التقرب إلى الله تعالى ولكن أنضاف إليه خاطر من هذه الخواطر حتى صار العمل أخف عليه بسبب من هذه الأمور، فقد خرج عمله عن حد الإخلاص. والإنسان قلما ينفك فعل من أفعاله، وعبادة من عباداته عن شئ من هذه الأمور، فلذلك قيل: من سلم له من عمره لحظة واحدة خالصة لوجه الله تعالى، نجا، وذلك لعزة الإخلاص، وعسر تنقية القلب من هذه الشوائب، لأن الخالص هو الذي لا باعث عليه إلا طلب التقرب من الله تعالى. قيل لسهل: أي شئ أشد على النفس؟ قال: الإخلاص، إذ ليس لها فيه نصيب. واعلم: أن الشوائب المكدرة للإخلاص متفاوتة، بعضها جلى، وبعضها خفي، وقد ذكرنا درجات الرياء في بابه. ومن الرياء ما هو أخفى من دبيب النمل، فليطلب هناك، وحاصله أن مادام العامل

13 ـ فصل في حكم العمل المشوب واستحقاق الثواب به

يفرق بين مشاهدة الإنسان والبهيمة في حالة من العمل، فهو خارج عن صفو الإخلاص، ولا يسلم من الشيطان إلا من دق نظره وسعد بعصمة الله تعالى وتوفيقه. وقد قيل: ركعتان من عالم أفضل من سبعين ركعة من جاهل، وأريد به العالم بدقائق آفات الأعمال حتى يخلص عنها، والجاهل ينظر إلى ظاهر العبادة، وقيراط من الذهب الذي يرتضيه الناقد خير من دينار يرتضيه الغر الغبي. 13 ـ فصل في حكم العمل المشوب واستحقاق الثواب به أما العمل الذي لا يريد به إلا الرياء فهو على صاحبه لا له، وهو سبب للعقاب، كما أن العمل الخالص لوجه الله تعالى سبب للثواب. ولا إشكال في هذين القسمين، وإنما النظر في العمل المشوب الممتزج بشوب الرياء وحظوظ النفس. وقد اختلف الناس في ذلك، هل يقتضي ثواباً أو عقاباً، أو لا يقتضي شيئاً أصلاً؟ وليس تخلو الأخبار عن تعارض في ذلك. والذي يتضح لنا فيه -والعلم عند الله تعالى- أن ننظر إلى قدر قوة البواعث، فإن كان الباعث الديني مساوياً للباعث النفساني تقاوما وتساقطاً، وصار العمل لا له ولا عليه، وإن كان باعث الرياء أقوى، ضر وأوجب العقاب، لكن عقابه دون عقاب من تجرد للرياء، وإن كان الباعث الديني أقوى من الآخر، فله ثواب بقدر ما فضل من قوته، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]. ويشهد لما ذكرنا إجماع الأمة على أن من خرج حاجاً ومعه تجارة، صح حجه وأثيب عليه، وقد امتزج به حظ من حظوظ النفس، إلا أنه متى كان الحج هو المحرك الأصلى، لم ينفك السفر عن ثواب، وكذلك الغازي إذا قصد الغزو والغنيمة ويكون قصد الغنيمة على سبيل التبع، حصل له الثواب، ولكنه لا يساوى ثواب من لا يلتفت إلى الغنيمة أصلاً، والله تعالى أعلم.

14 ـ الفصل الثالث في الصدق وحقيقته وفضله

14 ـ الفصل الثالث في الصدق وحقيقته وفضله عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً" رواه البخاري ومسلم. وقال بشر الحافي: من عامل الله بالصدق، استوحش من الناس. واعلم أن لفظ الصدق قد يستعمل في معان: أحدهما: الصدق في القول: فحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه، ولا يتكلم إلا بالصدق، والصدق باللسان هو أشهر أنواع الصدق وأظهرها. وينبغى أن يحترز عن المعاريض، فإنها تجانس الكذب إلا أن تمس الحاجة إليها، وتقتضيها المصلحة في بعض الأحوال، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد غزوة ورَّى بغيها لئلا ينتهي الخبر إلى الأعداء فيتهيؤوا لقتاله، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس بكاذب من أصلح بين اثنين فقال خيراً، أو نمى خيراً". وينبغى أن يراعى معنى الصدق في ألفاظه التي يناجى بها ربه، كقوله: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، فإن كان قلبه منصرفاً عن الله مشغولاً بالدنيا فهو كاذب. الثاني: الصدق في النية والإرادة، وذلك يرجع إلى الإخلاص، فإن مازج عمله شوب من حظوظ النفس، بطل صدق النية، وصاحبه يجوز أن يكون كاذباً كما في حديث الثلاثة: العالم، والقارئ، والمجاهد. لما قال القارئ: قرأت القرآن إلى آخره، إنما كذبه في إرادته ونيته، لا في نفس القراءة، وكذلك صاحباه. الثالث: الصدق في العزم والوفاء به. أما الأول: فنحو أن يقول: إن آتاني الله مالاً تصدقت بجميعه، فهذه العزيمة قد تكن صادقة، وقد يكون فيها تردد.

وأما الثاني: فنحو أن يصدق في العزم وتسخو النفس بالوعد، لأنه لا مشقة فيه إلا إذا تحققت الحقائق، وانجلت العزيمة، وغلبت الشهوة، ولذلك قال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] وقال في آية أخرى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إلى قوله {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77]. الرابع: الصدق في الأعمال، وهو أن تستوي سريرته وعلانيته، حتى لا تدل أعماله الظاهرة من الخشوع ونحوه على أمر في باطنه، ويكون الباطن بخلاف ذلك. قال مطرف: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته قال الله عز وجل: هذا عبدى حقاً. الخامس: الصدق في مقامات الدين، وهو أعلى الدرجات، كالصدق في الخوف والرجاء والزهد والرضى والحب والتوكل، فإن هذه الأمور لها مبادئ ينطلق عليها الاسم بظهورها، ثم لها غايات وحقائق، فالصادق المحقق من نال حقيقتها، وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمى صاحبه صادقاً، قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .. } إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]. ولنضرب للخوف مثلاً فنقول: ما من عبد يؤمن بالله إلا وهو خائف من الله خوفاً يطلق عليه الاسم وهو غير بالغ إلى درجة الحقيقة، ألا تراه إذا خاف سلطاناً كيف يصفر ويرتعد خوفاً من وقوع المحذور، ثم إنه يخاف النار ولا يظهر عليه شئ من ذلك عند فعل المصيبة، ولذلك قال عامر بن عبد قيس: عجبت للجنة نام طالبها، وعجبت للنار نام هاربها. والتحقيق في هذه الأمور عزيز جداً، فلا غاية لهذه المقامات حتى نال تمامها، ولكن لكل حظ بحسب حاله، إما ضعيف وإما قوى، فإذا قوى سمى صادقاً، وإذا علم الله من عبد صدقاً صغى له، والصادق في جميع هذه المقامات عزيز، وقد يكون للعبد صدق في بعضها دون بعض. ومن علامات الصدق كتمان المصائب والطاعات جميعاً وكراهة اطلاع الخلق على ذلك.

15 ـ باب في المحاسبة والمراقبة

15 ـ باب في المحاسبة والمراقبة قال الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 30] وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] وقال: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] وقال: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 6 - 8] فاقتضت هذه الآيات وما أشبهها خطر الحساب في الآخرة. وتحقق أرباب البصائر أنهم لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة لأنفسهم وصدق المراقبة، فمن حاسب نفسه في الدنيا، خف في القيامة حسابه، وحسن منقبله، ومن أهمل المحاسبة دامت حسراته، فلما علموا أنهم لا ينجيهم إلا الطاعة وقد أمرهم الله تعالى بالصبر والمرابطة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] فرابطوا أنفسهم أولاً بالمشارطة، ثم المراقبة، ثم بالمحاسبة، ثم بالمعاقبة، ثم بالمجاهدة، ثم بالمعاتبة، فكانت لهم في المرابطة ست مقامات، وأصلها المحاسبة، ولكن كل حساب يكون بعد مشارطة ومراقبة، ويتبعه عند الخسران المعاتبة والمعاقبة، ولابد من شرح ذلك المقام. المقام الأول: المشارطة اعلم: أن التاجر كما يستعين بشريكه في التجارة طلباً للربح، ويشارطه ويحاسبه، كذلك العقل يحتاج إلى مشاركة النفس، ويوظف عليها الوظائف، ويشرط عليها الشروط، ويرشدها إلى طريق الفلاح، ثم لا يغفل عن مراقبتها، فإنه لا يأمن خيانتها وتضييعها رأس المال، ثم بعد الفراغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها، فإن هذه التجارة ربحها الفردوس الأعلى، فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم من تدقيقه بكثير من أرباح الدنيا، فحتم على ذي عزم آمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه، والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها، فإن كل

نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها. فإذا فرغ العبد من فريضة الصبح، ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة نفسه فيقول للنفس: ما لى بضاعة إلا العمر، فإذا فني منى رأس المال وقع اليأس من التجارة، وطلب الربح، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه، وأخر أجلى، وأنعم على به، ولو توفانى لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا حتى أعمل فيه صالحاً، فاحسبي يا نفس أنك قد توفيت ثم رددت، فإياك أن تضيعي هذا اليوم، وأعلمي أن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، وأن العبد ينشر له بكل يوم أربع وعشرون خزانة مصفوفة، فيفتح له منها خزانة، فيراها مملوءة نوراً من حسناته التي عملها في تلك الساعة، فيحصل له من السرور، بشاهدة تلك الأنوار ما لو وزع على أهل النار لأدهشتهم عن الإحساس بألم النار، ويفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة يفوح ريحها ويغشاه ظلامها، وهى الساعة التي عصا الله تعالى فيها، فيحصل له من الفزع والخزى ما لو قسم على أهل الجنة لنغص عليهم نعيمهم، ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسوؤه ولا يسره، وهى الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من المباح، ويتحسر على خلوها، ويناله ما نال القادر على الربح الكثير إذا أهمله حتى فاته، وعلى هذا تعرض عليه خزائن أوقاته طول عمره فيقول لنفسه، اجتهدي اليوم في أن تعمري خزانتك، ولا تدعيها فارغة، ولا تميلي إلى الكسل والدعة والاستراحة، فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك. قال بعضهم: هب أن المسيء قد عفي عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين؟ فهذه وصيته في نفسه وفي أوقاته، ثم يستأنف لها وصية أخرى في أعضائه السبعة، وهى: العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل، وتسليمها إلى النفس، فإنها رعايا خادمة لها في هذه التجارة المخلدة، بها يتم أعمالها، ويعملها أن أبواب جهنم سبعة على عدد هذه الأعضاء، فتعيين تلك الأبواب لمن عصى الله تعالى بهذه الأعضاء، فيوصيها بحفظها عن معاصيها. أما العين فيحفظها عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، أو إلى مسلم بعين الاحتقار، وعن كل فضول مستغنى عنه، ويشغلها بما فيه تجارتها وربحها، وهو النظر إلى ما خلقت له من عجائب صنع الله تعالى بعين الاعتبار، والنظر إلى أعمال الخير للاقتداء والنظر إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومطالعة كتب الحكم للاتعاظ والاستفادة.

المقام الثاني: المراقبة

وهكذا ينبغي أن يتقدم إلى كل عضو بالوصية، بما يليق به، ولا سيما اللسان والبطن، وقد ذكرنا آفات اللسان فيما تقدم، فيشغله بما خلق له، من الذكر والتذكير، وتكرار العلم والتعليم، وإرشاد عباد الله تعالى إلى طريق الله، وإصلاح ذات البين، إلى غير ذلك من الخير. وأما البطن، فيكلفه ترك الشرة، واجتناب الشبهات والشهوات، ويقتصر على قدر الضرورة، ويشترط على نفسه إذا خالفت شيئاً من ذلك أن يعاقبها بالمنع من شهوات البطن، ليفوتها أكثر مما نالت بشهوتها، وهكذا في جميع الأعضاء، واسقصاء ذلك يطول، وكذلك ما تخفى طاعات الأعضاء ومعاصيها. ثم يستأنف وصيتها في وظائف العبادات التي تتكرر في اليوم والليلة، في النوافل التي يقدر عليها، وعلى الاستكثار منها، وهذه شروط يفتقر إليها كل يوم إلى أن تتعود النفس ذلك، فيستغني عن المشارطة، ولكن لا يخلو كل يوم من حادثة لها حكم جديد لله تعالى عليه في ذلك حق، ويكثر هذا على من يشتغل بشيء من أعمال الدنيا، من ولاية أو تجارة أو نحو ذلك، إذ قل أن يخلو يوم عن واقعة جديدة يحتاج إلى أن يقضى حق الله فيها، فعليه أن يشرط نفسه الاستقامة فيها، والانقياد للحق. وعن شداد بن أوس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على [الأماني] " (¬1). وقال عمر رضى الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيؤوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] المقام الثاني: المراقبة: إذا أوصى الإنسان نفسه، وشرط عليها ما ذكرناه، لم يبق إلا المراقبة لها وملاحظتها، وفى الحديث الصحيح في تفسير الإحسان، لما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " أرد بذلك استحضار عظمة الله ومراقبته في حال العبادة. ¬

(¬1) ضعيف وقد تقدم.

المقام الثالث: المحاسبة بعد العمل

قيل: دخل الشبلى على ابن أبى الحسين النوري (¬1) وهو قاعد ساكن، لا يتحرك من ظاهر شئ، فقال له: ممن أخذت هذه المراقبة والسكون؟ فقال: من سنور كانت لنا، إذا أرادت الصيد رابطت رأس الحجر حتى لا يتحرك لها شعرة. وينبغى أن يراقب الإنسان نفسه قبل العمل وفى العمل، هل حركه عليه هوى النفس أو المحرك له هو الله تعالى خاصة؟ فإن كان الله تعالى، أمضاه وإلا تركه، وهذا هو الإخلاص. قال الحسن: رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر. فهذه مراقبة العبد في الطاعة وهو أن يكون مخلصاً فيها، ومراقبته في المعصية تكون بالتوبة والندم والإقلاع، ومراقبته في المباح تكون بمراعاة الأدب، والشكر على النعم، فإنه لا يخلو من نعمة لابد له من الشكر عليها، ولا يخلو من بلية لابد من الصبر عليها، وكل ذلك من المراقبة. وقال وهب من منبه في حكمة آل داود: حق على العاقل أن لا يشغل عن أربع ساعات، ساعة يناجى فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه على نفسه، وساعة يخلو بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ولا يحرم، فإن هذه الساعة عون على الساعات وإجمام للقوة. وهذه الساعة التي هو مشغول فيها بالمطعم والمشرب، لا ينبغي أن تخلو عن عمل هو أفضل الأعمال، وهو الذكر والفكر، فإن الطعام الذي يتناوله فيه من العجائب ما لو تفكر فيه كان أفضل من كثير من أعمال الجوارح. المقام الثالث: المحاسبة بعد العمل: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] وهذه إشارة إلى المحاسبة بعد العمل، ولذلك قال عمر رضى الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا. وقال الحسن: المؤمن قوّام على نفسه، يحاسب نفسه، وقال: إن المؤمن يفجؤه ¬

(¬1) في النسخ المخطوطة "الثوري" وهو تصحيف.

المقام الرابع: معاقبة النفس على تقصيرها

الشيء يعجبه فيقول: والله إنى لأشتهيك وإنك لمن حاجتى، ولكن والله ما من حيلة إليك، هيهات حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا، ما لى ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً إن شاء. إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا، يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفى بصره، وفى لسانه، وفى جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله. واعلم: أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه، كذلك ينبغي أن يكون له ساعة يطالب فيها نفسه في آخر النهار، ويحاسبها على جميع ما كان منها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم. ومعنى المحاسبة أن ينظر في رأس المال، وفى الربح، وفى الخسران لتتبين له الزيادة من النقصان، فرأس المال في دينه الفرائض، وربحه النوافل والفضائل، وخسرانه المعاصي، وليحاسبها أولاً على الفرائض، وإن ارتكب معصية اشتغل بعقابها ومعاقبتها ليستوفى منها ما فرط. قيل: كان توبة بن الصمة بالرقة، وكان محاسباً لنفسه، فحسب يوماً فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: يا ويلتا! ألقى الملك بأحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب! كيف وفى كل يوم عشرة آلاف ذنب!! ثم خر مغشياً عليه فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: يا لها ركضة إلى الفردوس الأعلى! فهكذا ينبغي للعبد أن يحاسب نفسه على الأنفاس وعلى معصية القلب والجوارح في كل ساعة، فإن الإنسان لو رمي بكل معصية يفعلها حجراً في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي وهى مثبتة {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}. المقام الرابع: معاقبة النفس على تقصيرها: اعلم: أن المريد إذا حاسب نفسه فرأى منها تقصيراً، أو فعلت شيئاً من المعاصي فلا ينبغي أن يمهلها، فإنه يسهل عليه حينئذ مفارقة الذنوب ويعسر عليه فطامها، بل ينبغي أن يعاقبها عقوبة مباحة كما يعاقب أهله وولده. وكما روى عن عمر رضى الله عنه: أنه خرج إلى حائط له، ثم رجع وقد صلى

المقام الخامس: المجاهدة

الناس العصر، فقال: إنما خرجت إلى حائطي، ورجعت وقد صلى الناس العصر، حائطي صدقة على المساكين. قال الليث: إنما فاتته الجماعة، وروينا عنه أنه شغله أمر عن المغرب حتى طلع نجمان، فلما صلاها أعتق رقبتين. وحكى أن تميم الداري رضى الله عنه نام ليلة لم يقم يتهجد فيها حتى أصبح، فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع. ومرَّ حسان بن سنان بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه فقال: تسألين عما لا يعنيك! لأعاقبنك بصوم سنة، فصامها. فأما العقوبات بغير ذلك مما لا يحل، فيحرم عليه فعله، مثال ذلك: ما حكى أن رجلاً من بنى إسرائيل، وضع يده على فخذ امرأة، فوضعها في النار حتى شلت، وأن آخر حوّل رجله لينزل إلى امرأة، ففكر وقال: ماذا أردت أن أصنع؟ فلما أراد أن يعيد رجله قال: هيهات رجل خرجت إلى معصية الله لا ترجع معى، فتركها حتى تقطعت بالمطر والرياح، وأن آخر نظر إلى امرأة فقلع عينيه، فهذا كله محرم، وإنما كان جائزاً في شريعتهم، وقد سلك نحو ذلك خلق من أهل ملتنا، حملهم على ذلك الجهل بالعلم، كما حكى عن غزوان الزاهد: أنه نظر إلى امرأة، فلطم عينه حتى نفرت. وروينا عن بعضهم: أنه أصابته جنابة وكان البرد شديداً، وأنه وجد في نفسه توقفاً عن الغسل، فآلي ألا يغتسل إلا في مرقعته، ألا ينزعها ولا يعصرها، فكانت شديدة الكثافة تزيد على عشرين رطلاً. وقد ذكرت كثيراً من هذا الفن الصادر عن المتعبدين على الجهل في كتابي المسمى بـ "تلبيس إبليس" المقام الخامس: المجاهدة: وهو أنه إذا حاسب نفسه، فينبغي إذا رآها قد قارفت معصية أن يعاقبها كما سبق، فإن رآها تتوانى بحكم الكسل بى شئ من الفضائل، أو ورد من الأوراد، فينبغي أن يؤدبها بتثقيل الأوراد عليها، كما ورد عن ابن عمر رضى الله عنه أنه فاتته صلاة في جماعة، فأحيا الليل كله تلك الليلة، وإذا لم تطاوعه نفسه على الأوراد، فإنه يجاهدها ويكرهها ما استطاع. وقال ابن المبارك: إن الصالحين كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً، وإن

المقام السادس: في معاتبة النفس وتوبيخها

أنفسنا لا تواتينا إلا كرهاً. ومما يستعان به عليها أن يسمعها أخبار المجتهدين، وما ورد في فضلهم، ويصحب من يقدر عليه منهم، فيقتدي بأفعاله. قال بعضهم: كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى وجه محمد بن واسع وإلى اجتهاده؟ فعملت على ذلك اسبوعاً. وقد كان عامر بن عبد قيس يصلى كل يوم ألف ركعة. وكان الأسود بن يزيد يصوم حتى يخضر ويصفر، وحج مسروق فما نام إلا ساجداً، وكان داود الطائى يشرب الفتيت مكان الخبز، ويقرأ بينهما خمسين آية، وكان كرز بن وبرة يختم كل يوم ثلاث ختمات، وكان عمر بن عبد العزيز وفتح الموصلي يبكيان الدم، وصلى أربعون نفساً من القدماء الفجر بوضوء العتمة، وجاور أبو محمد الحريري سنة فلم ينم ولم يتكلم، ولم يستند إلى حائط، ولم يمد رجله، فقال له أبو بكر الكتاني: بم قدرت على هذا؟ قال: علم صدق باطني فأعانني على ظاهري. ودخلوا على زحلة العابدة فكلموها بالرفق بنفسها فقالت: إنما هي أيام مبادرة، فمن فاته اليوم شئ لم يدركه غداً والله يا إخوتاه! لأصلين لله ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له في أيام حياتي، ولأبكين ما حملت الماء عيناي. ومن أراد أن ينظر في سير القوم، ويتفرج في بساتين مجاهداتهم، فلينظر في كتابي المسمى بـ "صفة الصفوة" فإنه يرى من أخبار القوم ما يعد نفسه بالإضافة إليهم من الموتى، بل من أخبار المتعبدات من النسوة ما يحتقر نفسه عند سماعه. المقام السادس: في معاتبة النفس وتوبيخها: قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته. وقال أنس رضى الله عنه: سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه ودخل حائطاً فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك. وقال البخترى بن حارثة: دخلت على عابد فإذا بين يديه نار قد أججها وهو يعاتب نفسه، فلم يزل يعاتبها حتى مات. وكان بعضهم يقول إذا ذكر الصالحون: فأف لى وتف.

واعلم: أن أعدى عدوٍ لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أمرت بتقويمها وتزكيتها وفطامها عن مواردها، وأن تقودها بسلاسل الدهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت، ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن لزمها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن عن تذكيرها. وسبيلك أن تقبل عليها، فتقرر عندها جهلها وغباوتها وتقول: يا نفس، ما أعظم جهلك، تدعين الذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقاً، أما تعلمين أنك صائرة إلى الجنة أو النار؟ فكيف يلهو من لا يدرى إلى أيتهما يصير؟! وربما اختطف في يومه أو في غده! أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب، وأن الموت يأتى بغتة من غير موعد، ولا يتوقف على سن دون سن، بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة، وإن لم يكن الموت فجأة كان المرض فجأة، ثم يفضي إلى الموت. فمالك لا تستعدين للموت وهو قريب منك؟! يا نفس، إن كانت جرأتك على معصية الله تعالى لاعتقادك أن الله لا يراك فما أعظم كفرك، وإن كانت مع علمك باطلاعه عليك، فما أشد رقاعتك، وأقل حياءك! ألك طاقة على عذابه؟ جربى ذلك بالقعود ساعة في الحمام، فاطلبي الشهوات الباقية الصافية عن الكدر، ورب أكلة منعت أكلات. وما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء ثلاثة أيام ليصح ويتهيأ لشربه طول العمر؟ فما مقتضى العقل في قضاء حق الشهوة؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر، بل أقل من لحظة بالإضافة إلى عمر الدنيا. وليت شعري! ألم الصبر عن الشهوات أشد وأطول، أم النار في الدركات؟ فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة، كيف يطيق ألم العذاب في الآخرة؟ أشغلك حب الجاه؟ أما بعد ستين سنه أو نحوها، لا تبقين أنت ولا من كان لك عنده جاه. هلا تركت الدنيا لخسة شركائها، وكثرة عنائها وخوفاً من سرعة فنائها؟ أتستبدلين بجوار رب العالمين صف النعال في صحبة الحمقى؟ قد ضاع أكثر البضاعة، وقد بقيت من العمر صبابة، ولو استدركت ندمت على ما ضاع، فكيف إذا أضفت الأخير إلى الأول؟ اعملي في أيام قصار لأيام طول، وأعدى الجواب للسؤل. أخرجي من الدنيا خروج الأحرار قبل أن تكون خروج اضطرار إنه من كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر. تفكري في هذه

16 ـ باب التفكر

الموعظة، فإن عدمت تأثيرها، فابكي على ما أصبت به فمستقى الدمع من بحر الرحمة. ... 16 ـ باب التفكر قد أمر الله سبحانه بالتفكر والتدبر في كتاب العزيز، وأثنى على المتفكرين بقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191] وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3]. وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله" (¬1). قال أبو الدرداء رضى الله عنه: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. وقال وهب بن منبه: ما طالت فكرة امرئ قط إلا فهم، وما فهم إلا علم، وما علم إلا عمل. وقال بشر الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه. وقال الفريابى في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 147]، قال: أمنع قلوبهم من التفكر في أمري. وكان داود الطائى على سطح في ليلة قمراء، فتفكر في ملكوت السموات والأرض، فوقع في دار جار له، فوثب عرياناً وبيده السيف، فلما رآه قال: يا داود، ما الذي ألقاك؟ قال: ما شعرت بذلك. وقال يوسف بن أسباط: إن الدنيا لم تخلق لينظر إليها، بل لينظر بها إلى الآخرة. وكان سفيان من شدة تفكره يبول الدم. وقال أبو بكر الكتاني. روعة عند انتباهة من غفلة، وانقطاع عن حظ نفساني، وارتعاد من خوف قطيعة، أفضل من عبادة الثقلين. ¬

(¬1) أخرجه الطبرانى في "الأوسط" والبيهقى في "الشعب" وابن أبى الدنيا في "التفكير"، وأبو الشيخ في "العظمة" وفى سنده الوزاع بن نافع، قال النسائي: متروك، وقد أورد الذهبى هذا الحديث من منكراته، وانظر شرح الإحياء: 10/ 162.

17 ـ بيان مجارى الفكر وثمراته

17 ـ بيان مجارى الفكر وثمراته واعلم: أن الفكر قد يجرى في أمر يتعلق بالدين، وقد يجرى في أمر يتعلق بغيره، وإنما عرضنا ما يتعلق بالدين، وشرح ذلك يطول. فلينظر الإنسان في أربعة أنواع: الطاعات، والمعاصي، والصفات المهلكات، والصفات المنجيات. فلا تغفل عن نفسك، ولا عن صفاتك المباعدة عن الله، والمقربة إليه. وينبغى لكل مريد أن تكون له جريدة يثبت فيها جملة الصفات المهلكات، وجملة الصفات المنجيات، وجملة المعاصي والطاعات، ويعرض ذلك على نفسه كل يوم. ويكفيه من المهلكات النظر في عشرة، فإنه إن سلم منها سلم من غيرها، وهى: البخل، والكبر، والعجب، والرياء، والحسد، وشدة الغضب، وشره الطعام، وشره الوقاع، وحب المال، وحب الجاه. ومن المنجيات عشرة: الندم على الذنوب، والصبر على البلاء، والرضى بالقضاء والشكر على النعماء، واعتدال الخوف والرجاء، والزهد في الدنيا والإخلاص في الأعمال، وحسن الخلق مع الخلق، وحب الله تعالى، والخشوع. فهذه عشرون خصلة: عشرة مذمومة، وعشرة محمودة، فمتى كفى من المذمومات واحدة خط عليها في جريدته، وترك الفكر فيها، وشكر الله تعالى على كفايته إياها. وليعلم أن ذلك لم يتم ألا بتوفيق الله تعالى وعونه، ثم يقبل على التسعة الباقية، وهكذا يفعل حتى يخط على الجميع. وكذلك يطالب نفسه بالاتصاف بالصفات المنجيات، فإذا اتصف بواحدة منها، كالتوبة والندم مثلاً، خط عليها واشتغل بالباقي، وهذا يحتاج إليه المريد المشمر. فأما أكثر الناس من المعدودين في الصالحين، فينبغي أن يثبتوا في جرائدهم المعاصي الظاهرة، كأكل الشبهات، وإطلاق اللسان بالغيبة والنميمة، والمراد، والثناء على النفس، والإفراط في موالاة الأولياء، ومعاداة الأعداء، والمداهنة في ترك الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، فإن أكثر من يعد نفسه من جوه الصالحين لا ينفك عن جملة من هذه المعاصي في جوارحه، ومالم تطهر الجوارح من الآثام، لا يمكن الاشتغال بعمارة القلب وتظهيره.

18 ـ فصل [في أن التفكر في ذات الله ممنوع منه]

وكل فريق من الناس يغلب عليهم نوع من هذه الأمور، فينبغي أن يكون تفقدهم لها وتفكيرهم فيها. مثاله العالم الورع فإنه لا يخلو في غالب الأمر من إظهار نفسه بالعلم، وطلب الشهرة، وانتشار الصيت، إما بالتدريس، أو بالوعظ. ومن فعل ذلك، فقد تصدى لفتنة عظيمة لا ينجو منها إلا الصديقون. وربما ينتهي العلم بأهل العلم إلى أن يتغايروا كما يتغاير النساء وكل ذلك من رسوخ الصفات المهلكات في سر القلب التي يظن العالم النجاة منها، وهو مغرور فيها. ومن أحس من نفسه هذه الصفات، فالواجب عليه الانفراد والعزلة، وطلب الخمول والمدافعة للفتاوى، فقد كان الصحابة يتدافعون الفتاوى، وكل منهم يود لو أن أخاه كفاه. وعند هذا ينبغي أن يتقى شياطين الإنس، فإنهم قد يقولون: هذا سبب لاندراس العلم، فليقل لهم: دين الإسلام مستغن عنى، ولو مت لم ينهدم الإسلام، وأنا غير مستغن عن إصلاح قلبى، فليكن فكر العالم في التفطن لخفايا هذه الصفات من قلبه، نسأل الله أن يصلح فساد قلوبنا وأن يوفقنا لما يرضاه عنا. 18 ـ فصل [في أن التفكر في ذات الله ممنوع منه] قد تقدم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله" فالتفكر في ذاته سبحانه ممنوع منه، وذلك أن العقول تتحير في ذلك، فإنه أعظم من أن تمثله العقول بالتفكير، أو تتوهمه القلوب بالتصوير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. فأما التفكر في مخلوقات الله تعالى، فقد ورد القرآن بالحث على ذلك كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ... الآيات [آل عمران: 190]. وقوله {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]. ومن آيات الله تعالى الإنسان المخلوق من نطفة، فيتفكر الإنسان في نفسه، فإن في خلقة من العجائب الدالة على عظمة الله تعالى بالتدبر في نفسه، فقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]. وقد تقدم في كتاب الشكر الكلام على

بعض خلق الإنسان فليطلب هناك. ومن آياته الجواهر المودعة في الجبال، والمعادن من الذهب والفضة والفيروزج ونحوها، وكذلك النفط والكبريت والقار وغيرها. ومن آياته البحار العظيمة العميقة المكتنفة لأقطار الأرض، التي هي قطع من البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض. ولو جمع المكشوف من الأرض، من البراري، والجبال، لكان بالإضافة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وفى البحر عجائب أضعاف ما نشاهده في البر. وانظر كيف خلق اللؤلؤ، ودورة في صدفة تحت الماء، وانظر كيف أنبت المرجان في صم الصخور تحت الماء، وكذلك ما عداه من العنبر وأصناف ما يقذفه البحر، وانظر إلى عجائب السفن كيف أمسكها الله تعالى على وجه الماء، وسيرها في البحار تسوقها الرياح وأعجب من ذلك الماء، فإنه حياة كل ما على الأرض من حيوان ونبات، فلو احتاج العبد إلى شربة ماء، ومنع منها لبذل جميع خزائن الدنيا في تحصيلها لو ملك ذلك، ثم إذا شربها ومنع خروجها، لبذل جميع خزائن الأرض في إخراجها، فلا يغفل العبد عن هذه النعمة. ومن آياته الهواء وهو جسم لطيف لا يرى بالعين، ثم انظر إلى شدته وقوته، وانظر إلى عجائب الجو، وما يظهر فيه من الغيوم والرعد والبرق والمطر والثلج والبرد والشهب والصواعق، وغير ذلك من العجائب. وانظر إلى الطير تسبح بأجنحتها بالهواء كما يسبح حيوان البحر في الماء، ثم انظر إلى السماء وعظمها وكواكبها وشمسها وقمرها، وما فيها كوكب إلا ولله فيه حكمة في لونه وشكله وموضعه، وانظر إلى إيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل، وانظر مسير الشمس، كيف اختلف في الصيف والشتاء والربيع والخريف. وقد قيل: إن الشمس مثل الأرض مائة ونيفاً وستين مرة، وإن أصغر كوكب في السماء مثل الأرض ثمان مرات، فإذا كان هذا قدر كوكب واحد، فانظر إلى كثرة الكواكب، والى السماء التي فيها الكواكب، والى إحاطة عينك بذلك مع صغرها، والعجب منك أنك تدخل بيت غنى مزخرف مموه بالذهب، فلا ينقطع تعجبك منه، ولا تزال تذكره وأنت تنظر إلى هذا البيت العظيم، وإلى أرضه وسقفه وعجائبه وأمتعته وبدائع نقوشه، ثم لا تلتفت إلى نحوه بقلبك، ولا تتفكر في بناء خالقك، فلقد نسيت نفسك وربك، واشتغلت ببطنك وفرجك، فما مثلك في غفلتك إلا كمثل نملة تخرج

19 ـ باب في ذكر الموت وما بعده وما يتعلق به

من بيتها الذي حفرته في حائط قصر الملك، فتلقى أختها فتتحدث معها في حديث بيتها، وكيف بنته وما جمعت فيه، ولا تذكر قصر الملك ولا من فيه. فهكذا أنت في غفلتك، فما تعرف من السماء إلا ما تعرفه النملة من سقف بيتك. فهذا بيان معاقد الجمل التي يجول فيها فكر المتفكرين، والأعمار تقصر، والعلوم تقل عن الإحاطة ببعض المخلوقات، إلا أنك كلما استكثرت من معرفة عجائب المصنوعات، كانت معرفتك بجلال الصانع أتم. فتفكر فيما أشرنا إليه ها هنا مع ما قدمناه من الإشارة في كتاب الشكر. فمن نظر في هذه الأشياء من حيث إنها فعل الله وصنعه، استفاد المعرفة بجلال الله تعالى وعظمته، ومن قصر النظر عليها من حيث تأثير بعضها في بعض، لا من حيث ارتباطها بمسبب الأسباب، شقي. نعوذ بالله من تأثير بعضها في بعض الجهال، ومن الركون إلى أسباب الضلال، ولا وجه للتفكر فيما لا نراه من الملائكة والجن، فلذلك عدلنا عنه إلى ما نراه والله أعلم. ... 19 ـ باب في ذكر الموت وما بعده وما يتعلق به اعلم: أن المنهمك في الدنيا المكب في غرورها، يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت فلا يذكره، وإن ذكره كرهه ونفر منه، ثم الناس إما منهمك، أو تائب مبتدىء، أو عارف منتبه. فأما المنهمك فلا يذكره، وإن ذكره فيذكره لتأسف على دنياه، ويشتغل بذمه، وهذا لا يزيده ذكر الموت من الله تعالى إلا بعداً. وأما التائب، فإنه يكثر ذكر الموت لينبعث به من قلبه الخوف والخشية، فيفي بتمام التوبة، وربما يكره الموت خيفة أن يختطفه قبل تمامها أو قبل إصلاح الزاد، وهو معذور في كراهة الموت. ولا يدخل بهذا تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كره لقاء الله كره الله لقاءه " فإنه إنما يخاف لقاء الله لقصور وتقصيره، فهو كالذي يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلاً بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه، فلا يعد كارهاً للقائه، وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له، لا شغل له سواه، وإلا التحق بالمنهمك في الدنيا. وأما العارف، فإنه يذكر الموت دائماً، لأنه موعد لقاء الحبيب، وهو لا ينسى

20 ـ باب ما جاء في فضل ذكر الموت

موعد لقاء حبيبه. هذا في غالب الأمر يستبطئ مجيء الموت، ويحبه ليتخلص من دار العاصين، وينتقل إلى جوار رب العالمين، كما قال بعضهم: حبيب جاء على فاقة. فإذن: التائب معذور في كراهة الموت، وهذا معذور في حب الموت وتمنيه، وأعلى منهما من فوض أمره إلى الله تعالى، فصار لا يختار لنفسه موتاً ولا حياة، بل تكون الأشياء إليه أحبها إلى مولاه، فهذا قد انتهى بفرط الحب والولاء إلى مقام التسليم والرضى، وهو الغاية والمنتهى. وعلى كل حال، ففى ذكر الموت ثواب وفضل، فإن المنهمك في الدنيا قد يستفيد بذكر الموت التجافى عن الدنيا، لأن ذكره ينغص عليه نعيمه ويكدره. 20 ـ باب ما جاء في فضل ذكر الموت عن أبى هريرة رضى الله عنه رضى الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت". وعن أنس رضى الله عنه: أن رجلاً ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأحسنوا عليه الثناء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "كيف كان ذكر صاحبكم للموت؟ " قالوا: ما كنا نسمعه يذكر الموت. قال: "فإن صاحبكم ليس هناك" (¬1). وعن ابن عمر رضى الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل: "أي المؤمنين أكيس، قال: أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم استعداداً له أولئك هم الأكياس" (¬2). وقال الحسن البصري: فضح الموت الدنيا، فلم يترك لذي لب فيها فرحاً، وما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت الدنيا عليه، وهان عليه جميع ما فيها. وكان ابن عمر رضى الله إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، وكان يجمع كل ليلة الفقهاء، فيتذكرون الموت والقيامة ثم يبكون، حتى كأن بين أيدهم جنازة. ¬

(¬1) نسبة العراقي في "تخريج الإحياء" إلى ابن أبى الدنيا في "الموت" بإسناد ضعيف. (¬2) ضعيف أخرجه ابن ماجة (4295) من حديث ابن عمر، وفى سنده مجهولان.

وكان حامد القيصري يقول: كلنا قد أيقن الموت، وما نرى له مستعداً، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً، كلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفاً، فلا تفرحون؟ وما عسيتم تنتظرون؟! الموت، فهو أول وارد عليكم من أمر الله بخير أو بشر، فيا إخوتاه! سيروا إلى ربكم سيراً جميلاً. وقال شميط بن عجلان: من جعل الموت نصب عينيه، لم يبال بضيق الدنيا ولا بسعتها. واعلم: أن خطر الموت عظيم، وإنما غفل الناس عنه لقلة فكرهم وذكرهم له، ومن يذكره منهم إنما يذكره بقلب غافل، فلهذا لا ينجع فيه ذكر الموت، والطريق في ذلك أن يفرغ العبد قلبه لذكر الموت الذي هو بين يديه، كالذي يريد أن يسافر إلى مفازة مخطرة، أو يركب البحر، فإنه لا يتفكر إلا في ذلك. وأنفع طريق في ذلك ذكر أشكاله وأقرانه الذين مضوا قلبه، فيذكر موتهم ومصارعهم تحت الثرى. قال ابن مسعود رضى الله عنه: السعيد من وعظ بغيره. وقال أبو الدرداء رضى الله عنه: إذا ذكر الموتى، فعد نفسك كأحدهم. وينبغى أن يكثر دخول المقابر، ومتى سكنت نفسه إلى شىء في الدنيا، فليتفكر في الحال أنه لا بد من مفارقته، ويقصر أمله. وقد روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. وفى حديث آخر "إن أخوف ما أخاف على أمتي: الهوى وطول الأمل، فأما الهوى فيضل عن الحق، وأما طول الأمل فينسى الآخرة" (¬1). وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: "أكلكم يحب أن يدخل الجنة؟ " قالوا: نعم يارسول الله؟ قال: "قصروا الأمل، وأثبتوا آجالكم بين أبصاركم، واستحيوا من الله عز وجل حق حيائه (¬2) ". ¬

(¬1) أخرجه ابن عدى والحاكم عن جابر وسنده ضيف، وانظر شرح الإحياء 10/ 237. (¬2) ضعيف رواه ابن أبى الدنيا في "قصر الأمل" عن الحسن مرسلا.

وعن أبى زكريا التيمى قال: بينما سليمان بن عبد الملك في المسجد الحرام، إذا أتى بحجر منفوش، فطلب من يقرأه، فإذا فيه: ابن آدم! لو رأيت قرب ما بقى من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك، وإنما يلقاك ندمك لو قد زلت بك قدمك، وألمك أهلك وحشمك، فبان منك الوالد والنسب، فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة يوم الحسرة والندامة. واعلم: أن السبب في طول الأمل شيئان: أحدهما: حب الدنيا، والثاني: الجهل. أما حب الدنيا فإن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكل من ذكره شيئاً دفعه عن نفسه، والإنسان مشغول بالأماني الباطلة، فيمنى نفسه أبدأ بما يوافق مراده من البقاء في الدنيا، وما يحتاج إليه من مال وأهل ومسكن وأصدقاء وسائر أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفاً على هذا الفكر، فيلهو عن ذكر الموت، ولا يقدر قربه. فإن خطر له الموت في بعض الأحوال والحاجة إلى الاستعداد له، سوف بذلك ووعد نفسه، وقال: الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب. وإذا كبر قال: إلى أن تصير شيخاً، وإن صار شيخاً، قال: إلى أن يفرغ من بناء هذه الدار، وعمارة هذه الضيعة، أو يرجع من هذه السفرة. فلا يزال يسوف ويؤخر، ولا يحرص في إتمام شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال، وهكذا على التدريج يؤخر يوماً بعد يوم، ويشتغل بشغل بعد شغل، إلى أن تختطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسرته. وأكثر صياح أهل النار من "سوف" يقولون: واحسرتاه! من "سوف". وأصل هذه الأماني كلها، حب الدنيا والأنس بها، والغفلة عن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أحبب ما شئت فإنك مفارقه". السبب الثاني: الجهل، وهو أن الإنسان يعول على شبابه، ويستبعد قرب الموت مع الشباب، أو ليس يتفكر المسكين في أن مشايخ بلده لو عدوا كانوا أقل من العشر؟ وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر، والى أن يموت شيخ قد يموت ألف صبى وشباب وقد يغتر بصحته، ولا يدرى أن الموت يأتى فجأة، وإن استبعد ذلك، فإن

21 ـ فصل [في تفاوت الناس في طول الأمل]

المرض يأتى فجأة، وإذا مرض لم يكن الموت بعيداً، ولو تفكر وعلم أن الموت ليس له وقت مخصوص، من صيف وشتاء وربيع وخريف وليل ونهار، ولا هو مقيد بسن مخصوص، من شاب وشيخ أو كهل أو غيره، لعظم ذلك عنده واستعد للموت. 21 ـ فصل [في تفاوت الناس في طول الأمل] والناس متفاوتون في طول الأمل تفاوتاً كثيراً، منهم من يأمل البقاء إلى زمان الهرم، ومنهم من لا ينقطع أمله بحال، ومنهم من هو قصير الأمل، فروى عن أبى عثمان النهدى أنه قال: بلغت ثلاثين ومائه سنه، وما من شىء إلا قد عرفت فيه النقصان إلا أملى فإنه كما هو. وحكى في قصر الأمل أن امرأة حبيب أبى محمد قالت: كان يقول لى- يعنى أبا محمد- إن مت اليوم فأرسلي إلى فلان يغسلني ويفعل كذا، واصنعي كذا وكذا، فقيل لها: أرى رؤيا؟ قالت: هكذا يقول كل يوم. وعن إبراهيم بن سبط قال: قال لى أبو زرعة: لأقولن لك قولاً ما قلته لأحد سواك: ما خرجت من المسجد منذ عشرين سنه، فحدثتني نفسي أن أرجع إليه. وقيل لبعضهم: ألا تغسل قميصك؟ قال: الأمر أعجل من ذلك. وعن محمد بن أبى توبة قال: أقام معروف الصلاة ثم قال لى: تقدم، فقلت: إنى إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرها، فقال معروف: أنت تحدث نفسك أنك تصلى صلاة أخرى؟ نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل. فهذه أحوال الزهاد في قصر الأمل، وكلما قصر الأمل، جاد العمل، لأنه يقدر أن يموت اليوم، فستعد استعداد ميت، فإذا أمسى شكر الله تعالى على السلامة، وقدر أنه يمون تلك الليلة فيبادر إلى العمل. وقد ورد الشرع بالحث على العمل والمبادرة إليه ففى "صحيح البخاري" عن ابن عباس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ". وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل وهو يعظه: "اغتنم

22 ـ فصل في ذكر شدة الموت وما يستحب من الأحوال عنده

خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك". وقال عمر رضى الله عنه: التؤدة في كل شىء خير، إلا ما كان من أمر الآخر. وكان الحسن يقول: عجباً لقوم أمروا بالزاد، ونودي فيهم بالرحيل، وحبس أولهم على آخرهم، وهم قعود يلعبون. وقال سحيم مولى بنى تميم: جلست إلى عبد الله بن عبد الله، فأوجز في صلاته، ثم أقبل على وقال: أرحني بحاجتك، فإني أبادر. فقلت: وما تبادر؟ قال: ملك الموت. وكان يصلى كل يوم ألف ركعة. وكانوا يبادرون بالأعمال غاية ما يمكن، فكان ابن عمر يقوم في الليل فيتوضأ ويصلى، ثم يغفى إغفاء الطير، ثم يقوم يصلى، يفعل ذلك مراراً. وكان عمير بن هانئ يسبح كل يوم مائه ألف تسبيحه، وقال أبو بكر بن عياش: ختمت القرآن في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة. 22 ـ فصل في ذكر شدة الموت وما يستحب من الأحوال عنده اعلم: أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب، ولا هول سوى الموت، لكان جديراً أن ينغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره، وتطول فيه فكرته. والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، فانتظر أن يدخل عليه جندي يضربه خمس ضربات، لكدرت عليه عيشه ولذته، وهو في كل نفس بصدد أن يدخل عليه ملك الموت بسكرات النزع، وهو غافل عن ذكر ذلك، وليس لهذا سبب إلا الجهل والغرور. اعلم: أن الموت أشد من ضرب السيف، وإنما يصيح المضروب، ويستغيث لبقاء قوته، وأما الميت عند موته، فإنه ينقطع صوته من شدة ألمه، لأن الكرب قد بالغ فيه، وغلب على قلبه وعلى كل موضع منه، وضعفت كل جارحة فيه، فلم يبق فيه قوة لاستغاثة، ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح والاستغاثة. وتجذب الروح من جميع العروق، ويموت كل عضو من أعضائه تدريجاً، فتبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، حتى تبلغ الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره إلى الدنيا وأهلها، ويغلق دونه باب

التوبة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله يقبل التوبة من العبد مالم يغرغر". وقد روى أن الملكين الموكلين بالعبد يتراءيان له عند الموت، فإن كان صالحاً أثنيا عليه، وقالا: جزاك الله خيراً، وإن كان صحبهما بشر، قالا: لا جزاك الله خيرا (¬1). عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله عز وجل وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله، فإذا مات قالا: قد مات، أتأذن لنا أن تصعد إلى السماء؟ قال: فيقول الله تعالى: إن سمائي مملؤة من ملائكتي يسبحوني. فيقولون: فتأذن لنا فنقيم في الأرض؟ فيقول الله تعالى: إن أرضى مملوءة من خلقي، يسبحوني. فيقولان: فأين تقيم؟ فيقول: قوما على قبر عبدى، فسبحاني واحمداني وكبراني وهللاني، واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة". وفى "الصحيحين" من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شىء أحب إليه مما أمامه، وأما صاحب النار الذي ختم له بسوء فهو يبشر بها وهو في تلك الأهوال". وقد كان كثير من السلف يخافون سوء الخاتمة، وقد ذكر ذلك في كتاب الخوف، وهو لائق بهذا المكان، نسأل الله أن يرحمنا برحمته التي وسعت كل شىء، وأن يلطف بنا، وأن يختم لنا بخير إنه جواد كريم. وأما ما يستحب من الأحوال عند المحتضر، فأن يكون قلبه يحسن الظن بالله تعالى، ولسانه ينطق بالشهادة، والسكون من علامات اللطف، وهو أمارة على أنه قد رأى الخير، وقد روى أن روح المؤمن تخرج رشحاً. ويستحب تلقينه: لا إله إلا الله، كما جاء في الحديث الصحيح من رواية مسلم: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله". وينبغى للملقن أن يرفق به، ولا يلح عليه. وقد جاء في حديث آخر: "احضروا موتاكم، ولقنوهم لا إله إلا الله، وبشروهم بالجنة، فإن الحليم العليم من الرجال والنساء يتحير عند ذلك المصرع، وإن إبليس عدو الله أقرب ما يكون من العبد في ذلك الموطن" (¬2). وذكر الحديث إلى آخره. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبى الدنيا عن وهيب بن الورد بلاغاً. (¬2) ضعيف أخرجه أبو نعيم في "الحلية".

23 ـ باب ذكر وفاة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين رضى الله عنهم

وفي الحديث الصحيح: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله". وروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على رجل وهو يموت فقال: "كيف تجدك؟ " قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي. فقال: "ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو، وأمنه من الذي يخاف". والرجاء عند الموت أفضل، لأن الخوف سوط يساق به، وعند الموت يقف البصر، فينبغي أن يتلطف به، ولأن الشيطان يأتي حينئذ يسخط العبد على الله فيما يجرى عليه، ويخوفه فيما بين يديه، فحسن الظن أقوى سلاح يدفع به العدو. وقال سليمان التيمى لابنه عند الموت: يا بني! حدثني بالرخص، لعلي ألقى الله تعالى وأنا أحسن الظن به. 23 ـ باب ذكر وفاة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين رضى الله عنهم اعلم: أن في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة في كل أحواله، ومعلوم أنه ليس في المخلوقين أحد أحب إلى الله تعالى منه، ولم يؤخره الله تعالى حين انقضى أجله. وقد لقي صلى الله عليه وآله وسلم من الموت شدة، فروى البخاري في "صحيحه" من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركوة أو علبة فيه ماء، فجعل يدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات". وفى "صحيح البخاري" من حديث أنس رضي الله عنه قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أبتاه! فقال لها: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم". وروى ابن مسعود قال: اجتمعنا في بيت أمنا عائشة رضي الله عنها، فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدمعت عيناه، فنعى إلينا نفسه وقال: مرحباً، حياكم الله بالسلام، حفظكم الله، ورعاكم الله، جمعكم الله، نصركم الله، وفقكم

الله، نفعكم الله، رفعكم الله، سلمكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، وأستخلفه عليكم ". قلنا: يا رسول الله: متى أجلك؟ قال: " قد دنا الأجل، والمنقلب إلي الله، والى سدرة المنتهى وجنة المأوى، والفردوس الأعلى ". قلنا: يا رسول الله، ففيم نكفنك؟ قال: " في ثيابي هذه إن شئتم، أو يمنية، أو بياض " فقلنا: يا رسول الله! من يصلي عليك؟ وبكينا، فقال: " مهلاً، رحمكم الله، وجزاكم عن نبيكم خيراً، إذا غسلتموني وكفنتموني، فضعوني على سريري هذا على شفير قبرى، ثم اخرجوا عني ساعة، فإن أول من يصلي عليّ خليلي وحبيبي جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت، ثم ملائكة كثيرة، ثم ادخلوا عليّ فوجاً فوجاً، فصلوا عليّ وسلموا تسليماً، ولا تؤذوني بتذكية، ولا برنة، ولا بصيحة، وليبدأ بالصلاة عليّ رجال أصحابي، وعلى من تابعني على ديني إلى يوم القيامة، ألا واني أشهدكم أنى قد سلمت على كل من دخل في الإسلام" (¬1). ولقد دخل عليه جبريل قبل موته بثلاثة أيام فقال: يا محمد؟ إن الله أرسلني إليك يسألك عما هو أعلم به منك، يقول: كيف تجدك؟ فقال: "أجدنى يا جبريل مغموماً، وأجدنى مكروباً" ثم أتاه في اليوم الثاني، فأعاد الكلام، وأعاد عليه الجواب، ثم جاءه في اليوم الثالث وأعاد عليه الكلام، فأعاد عليه الجواب، فإذا ملك الموت يستأذن، فقال جبريل: يا أحمد! هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، فقال: "ائذن له"، فدخل، فوقف بين يديه وقال: إن الله أرسلني إليك: وأمرني أن أطيعك، فإن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وتفعل يا ملك الموت؟ " قال: كذلك أمرت أن أطيعك. فقال جبريل: يا أحمد! إن الله قد اشتاق إليك. فقال: "فامض لما أمرت به يا ملك الموت"، فقال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله، هذا آخر موطني في الأرض إنما كنت حاجتي من الدنيا (¬2). فتوفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستنداً إلى صدر عائشة رضى الله عنها في ¬

(¬1) حديث ضعيف جداً رواه ابن سعد في "الطبقات" والطبراني في "الدعاء" والواحدي في "التفسير" بسند واه جداً. انظر "شرح الإحياء" 10/ 290، 291. (¬2) أخرجه الطبرانى من حديث الحسين بن على وفى سنده عبد الله بن ميمون القداح، قال أبو حاتم: متروك، وقال البخاري: ذاهب الحديث، وقال ابن حبان: لا يجوز أن يحتج بما انفرد به.

24ـ وفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه

كساء ملبد، وإزار غليظ، وقامت فاطمة رضى الله عنها تندب وتقول: يا أبتاه! أجاب ربا دعاه، يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه، يا أبتاه! من ربه ما أدناه، فلما دفن قالت: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! وقال أبو بكر رضى الله عنه: لما رأيت نبينا متجدلا ... ضاقت عليَّ بعرضهن الدور وارتعت روعه مستهام والهٍ ... والعظم منى واهن مكسور أعتيق ويحك إن حبك قد ثوى ... وبقيت منفرداً وأنت حسير يا ليتنى من قبل مهلك صاحبى ... غيبت في جدث عليَّ صخور 24 ـ وفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه روى أبو المليح أن أبا بكر رضى الله عنه لما حضرته الوفاة أرسل إلى عمر رضى الله عنه فقال: إنى أوصيك بوصية، إن أنت قبلت عنى: إن لله عز وجل حقاً بالليل لا يقلبه بالنهار، وإن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه في الآخرة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقلت ذلك عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه في الآخرة باتباعهم الباطل، وخفته عليهم في الدنيا، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً. ألم تر أن الله أنزل آيه الرجاء عند آية الشدة، وآية الشدة عند آية الرجاء، ليكون العبد راغباً راهباً لا يلقى بيديه إلى التهلكه، ولا يتمنى على الله غير الحق. فإن أنت حفظت وصيتي هذه، فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، ولا بد لك منه، وإن أنت ضيعت وصيتي هذه فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت، ولا بد لك منه ولست تعجزه. وقيل: لما احتضر جاءت عائشة رضى الله عنها فتمثلت بهذا البيت:

25ـ وفاة عمر بن الخطاب رضى الله عنه

لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر (¬1) فكشف عن وجهه وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]. انظروا ثوبي هذين، فاغسلوهما وكفنوني فيهما فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت. 25 ـ وفاة عمر بن الخطاب رضى الله عنه وعن ابن عمر قال: كان رأس عمر في حجري بعد ما طعن، وكان مرضه الذي توفى فيه، فقال: ضع خدي على الأرض، فقلت: وما عليك إن كان في حجري أم على الأرض؟ وظننت أن ذلك تبرم به، فلم أفعل، فقال: ضع خدي على الأرض لا أم لك، ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربى. وروى أنه لما طعن وحمل إلى بيته، وجاء الناس يثنون عليه، جاء رجل شباب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى من الله لك، صحبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، فقال: وودت أن ذلك كان كفافاّ، لا لى ولا على، ثم قال: يا عبد الله بن عمر، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: عمر يقرأ عليك السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن عند صاحبيه. فمضى وسلم واستأذن عليها، ثم دخل فوجدها قاعدة تبكى، فقالت: عمر يقرأ عليك السلام، ويستأذن أن يدفن عند صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه اليوم على نفسي. فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما وراءك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، قد أذنت. قال: الحمد لله، ما كان شىء أحب إلى من ذلك، فإذا أنا مت فاحملوني، ثم سلم، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فان أذنت لي، فأدخلوني، وإن ردتني، فردوني إلى مقابر المسلمين. وفى أفراد مسلم من حديث المسور بن مخرمة، أن عمر قال: والله لو أن لى طلاع (¬2) ¬

(¬1) الحشرجة: الغرغرة عند الموت وتردد النفس، والفاعل محذوف، أي: الروح: ولم يذكر لدلالة الكلام عليه، ومنه قولة تعالى و {بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} أي. بلغت الروح الحلقوم. (¬2) طلاع الشيء: ملؤه. قال أوس بن حجر يصف قوساً: كتوم طلاع الكف لا دون ملثها ... ولا عجها عن موضع الكف أفضلا

26ـ وفاة عثمان بن عفان رضى الله عنه

الأرض ذهباً، لا فتديت به من عذاب الله قبل أن أراه. وفى خبر آخر: والله لو أن لى ما طلعت عليه الشمس أو غربت، لا فتديت به من هول المطلع. 26 ـ وفاة عثمان بن عفان رضى الله عنه عن نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان رضي الله عنه، قالت: لما كان اليوم الذي قتل فيه عثمان، ظل في اليوم الذي قبله صائماً، فلما كان عند إفطاره، سألهم الماء العذاب فلم يعطوه، فنام ولم يفطر، فلما كان وقت السحر أتيت جارات لى على أجاجير متصلة، فسألتهم الماء العذب، فأعطوني كوزاً من ماء، فأتيته فحركته فاستيقظ، فقلت: هذا ماء عذب، فرفع رأسه فنظر إلى الفجر، فقال: إنى قد أصبحت صائماً، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على من هذا السقف ومعه ماء عذب، فقال: "اشرب يا عثمان"! فشربت حتى رويت، ثم قال: "ازدد"، فشربت حتى نهلت، ثم قال: "إن القوم سينكرون عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا" قال: فدخلوا عليه من يومه فقتلوه. وعن العلاء بن الفضيل، عن أبيه، قال: لما قتل عثمان بن عفان رضى الله عنه فتشوا خزانته، فوجدوا فيها صندوقاً مقفلا ففتحوه، فوجدوا فيه حقة فيها ورقة مكتوب فيها: هذه وصية عثمان، بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، عليها نحيا، وعليها نموت، وعليها نبعث إن شاء الله تعالى. 27 ـ وفاة علي بن أبى طالب رضى الله عنه عن الشعبي، قال: لما ضرب على رضى الله عنه تلك الضربة، قال: ما فعل بضاربي؟ قالوا: أخذناه، قال: أطعموه من طعامى، واستقوه من شرابي، فإن أنا عشت رأيت فيه رأيي، وإن أنا مت فاضربوه ضربة واحدة لا تزيدوه عليها، ثم أوصى الحسن أن يغسله وقال: لا تغالي في الكفن، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

28 ـ ذكر كلمات نقلت عن جماعة عند موتهم من الصحابة وغيرهم وذكر زيارة القبور ونحو ذلك

يقول: "لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً"، امشوا بى المشيتين لا تسرعوا بى، ولا تبطئوا، فإن كان خيراً عجلتمونى إليه، وإن كان شراً ألقيتمونى عن أكتافكم. وروى أنه لما كانت الليلة التي أصيب فيها على رضى الله عنه أتاه ابن التياح حين طلع الفجر يؤذنه بالصلاة وهو مضطجع متثاقل، فعاد الثانية وهو كذلك، ثم عاد الثالثة فقام يمشى وهو يقول: أشدد حيازيمك للموت ... فإن الموت لا قيك (¬1) ولا تجزع من الموت ... وإن حل بناديك فلما بلغ الباب الصغير شد عليه عبد الرحمن بن ملجم فضربه. 28 ـ ذكر كلمات نقلت عن جماعة عند موتهم من الصحابة وغيرهم وذكر زيارة القبور ونحو ذلك لما نزل الموت بالحسن بن على رضى الله عنهما قال: أخرجوا فراشي إلى صحن الدار، فأخرج فقال: اللهم إنى أحتسب نفسي عندك، فإني لم أصب بمثلها. وقد ذكرنا ما تقدم من كلام الخلفاء الأربعة رضى الله عنهم. وروى أن معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة قال: انظروا هل أصبحنا؟ فأتى فقيل: لم تصبح، حتى أتى في بعض ذلك، فقيل له: لقد أصبحنا، فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها النار، ثم قال: مرحباً بالموت زائر مغيب، وحبيب جاء على فاقة، اللهم إنى كنت أخافك وأن اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنى لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار (¬2) ولا لغرس الأشجار، ولكن لطول ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. وقال أبو مسلم: جئت أبا الدرداء وهو يجود بنفسه ويقول: ألا رجل يعمل لمثل ¬

(¬1) قال المبرد في "الكامل" ص 923 بعد إنشاده: والشعر إنما يصح بأن تحذف "اشدد" فتقول: خيازيمك للموت ... فإن الموت لا قيك ولكن الفصحاء من العرب يزيدون ما يمليه المعنى، ولا يعتدون به في الوزن. والحيزوم: ما اشتمل عليه الصدر، وجمعه حيازيم، ويقال للرجل: أشدد حيازيمك لهذا الأمر، أي وطن نفسك عليه. (¬2) كريت النهر: حفرته.

مصرعي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه؟ ثم قبض رحمه الله. وبكى سليمان الفارسي عند موته، فقيل له، ما يبكيك؟ فقال: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون زاد أحدنا كزاد الراكب، وحولي هذه الأزواد. وقيل: إنا كان حوله إجانة وجفن ومطهرة. وروى المزني قال: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ولا أدرى أروحى تصير إلى الجنة فأهنئها، أم إلى النار فأعزيها، ثم أنشد يقول: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا مني بعفوك سلماً تعاظمي ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربى كان عفوك أعظما وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منة وتكرماً قيل: كان أبو الدرداء رضى الله عنه يقعد إلى القبور، فقيل له ذلك، فقال أجلس إلى قوم يذكروني معادى، وإن غبت لم يغتابوني. وقال ميمون بن مهران: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى، ثم أقبل على فقال: يا ميمون، هذه قبور آبائي بنى أمية، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصاب الهوام مقيلاً في أبدانهم، ثم بكى وقال: والله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور، وقد أمن من عذاب الله تعالى. وتستحب زيارة القبور، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة" ومن زار قبراً فليستقبل وجه الميت، وليقرأ شيئاً من القرآن ويهديه له، ولتكن الزيارة يوم الجمعة. وقد روى أنه لما مات عاصم الجحدرى رآه رجل من أهله في المنام بعد موته بسنتين فقال له: ألست قد مت؟ قال: بلى. قال: وأين أنت: قال عاصم: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابى، نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى أبى بكر بن عبد الله المزني نتلاقى أخباركم، قال: قلت له: أجسامكم أم

أرواحكم؟ قال: هيهات ‍ بليت الأجسام، وإنما تتلاقى الأرواح. قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله، ويوم السبت إلى طلوع الشمس. قلت: وكيف ذلك دون الأيام كلها؟ قال: لشرف يوم الجمعة وعظمه. وحكى عثمان بن سواد الطفاوى وكانت أمه من العابدات، وكان يقال لها: راهبة، قال: لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء وقالت: يا ذخرى ويا ذخيرتي ومن عليه اعتمادي في حياتي وبعد مماتي، لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني في قبرى. قال: فماتت، فكنت آتيها كل جمعة وأدعو لها، وأستغفر لها ولأهل القبور، فرأيتها ليلة في منامي فقلت لها: يا أماه ‍‍‍? كيف أنت؟ قالت: يا بنى ‍‍‍? إن الموت لكرب شديد، وأنا بحمد الله في برزخ محمود، يفترش فيه الريحان، ويتوسد فيه السندس والإستبرق إلى يوم النشور. فقلت: ألك حاجة؟ قالت: نعم، لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا فإني لأسر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك، فيقال لى: يا راهبة! هذا ابنك قد أقبل، فأسر ويسر بذلك من حولي من الأموات. وعن أنس بن منصور قال: كان رجل يختلف إلى الجنائز فيشهد الصلاة عليها، فإذا أمسى وقف على باب المقابر فقال: آنس الله وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن سيئاتكم، وقبل حسناتكم، ولا يزيد على هؤلاء الكلمات، قال ذلك الرجل: فأمسيت ذات ليلة، ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو، فبينا أنا نائم إذا أنا بخلق كثير قد جاؤوني فقلت: من أنتم؟ وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر، إنك كنت عودتنا منك هدية. فقلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعوا بها. قلت: فإني أعود لذلك، فما تركتها بعد. وقال بشار بن غالب: رأيت رابعة في منامى، وكنت كثير الدعاء لها، فقالت لى: يا بشار ? هداياك تأتينا على أطباق من نور، مخمرة بمانديل الحرير. قلت: وكيف ذلك؟ قالت: هكذا دعاء الأحياء إذا دعوا للموتى واستجيب لهم، جعل ذلك الدعاء على أطباق النور، وخمر بمناديل الحرير، ثم أتى به إلى الذي دعي له من الموتى، فقيل له، هذه هدية فلان إليك.

29 ـ فصل [في حقيقة الموت]

29 ـ فصل [في حقيقة الموت] والذي تدل عليه الآيات والأخبار أن حقيقة الموت، هو مفارقة الروح للجسد، وأن الروح تكون بعد ذلك باقية، إما معذبة أو منعمة، فإن الروح قد تتألم بنفسها بأنواع الحزن والغم، وتتنعم بأنواع الفرح والسرور من غير تعلق لها بالأعضاء فكل ما هو وصف للروح بنفسها، يبقى معها بعد مفارقة الجسد، وكل ما هو لها بواسطة الأعضاء يتعطل بموت الجسد إلى أن تعاد الروح إلى الجسد. ولا يبعد أن تعاد الروح إلى الجسد في القبر، ولا يبعد أن تؤخر إلى يوم البعث، والله سبحانه أعلم بما حكم به على كل عبد من عباده. فمعنى الموت انقطاع تصرف الروح عن البدن، وخروج البدن عن أن يكون آلة لها، وسلب الإنسان عن أمواله وأهله بإزعاجه إلى عالم آخر لا يناسب هذا العالم. فإن كان له بالدنيا شئ يفرح به، ويستريح اليه، عظمت حسرته عليه بعد الموت، وإن كان لا يفرح إلا بذكر الله تعالى والأنس به، عظم نعيمه وتمت سعادته إذا خلى بينه وبين محبوبه، وقطعت عنه العوائق والشواغل، لأن جميع شواغل الدنيا شاغلة عن ذكر الله تعالى. وينكشف للميت بالموت ما لم يكن مكشوفاً في حال الحياة، كما ينكشف للمتيقظ ما لم يكن مكشوفاً له عند النوم، والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وأول ما ينكشف له ما يضره وما ينفعه من حسناته وسيئاته، وقد كان ذاك مسطوراً في كتاب مطوي في سر قلبه، وكان يشغله عن الاطلاع عليه شواغل الدنيا، فلما انقطعت انكشفت له جميع أعماله، فلا ينظر إلى سيئة إلا ويتحسر عليها تحسراً يؤثر أن يخوض غمرة النار للخلاص من تلك الحسرة، وكل ذلك ينكشف له عند الموت، وهذه آلام تهجم على العاصي قبل الدفن، نسأل الله العافية. ومما يدل على أن الروح لاتنعدم بالموت، قول تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. قال مسروق: سألنا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه عن هذه الآية فقال: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، وذكر تمام الحديث. وجاء في قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]. أخبر أنهم

30 ـ فصل في ذكر القبر

يعذبون بعد الموت. وفى "الصحيحين" عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن أحدكم إذا مات، عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة". وقد تقدم أن الإنسان إذا انكشفت له سيئاته تحسر لها وتألم تألماً عظيماً، فأما المؤمن، فقال عبد الله بن عمر: مثل المؤمن حيث تخرج نفسه مثل رجل كان في سجن فأخرج منه، فهو يتفسح في الأرض، ويتقلب فيها. وهو صحيح، فإن المؤمن ينكشف عليه عقيب الموت من فضل الله وكرامته ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن، فيكون محبوس في بيت مظلم فتح له باب إلى بستان واسع الأكناف، فيه أنواع الأشجار، فلا يسره الرجوع إلى الدنيا كما لا يسره العود إلي بطن أمه. وقال مجاهد: إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعد لتقر بذلك عينه. 30 ـ فصل في ذكر القبر روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار" (¬1). وروى أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يقول القبر للميت حين يوضع فيه: ويحك يا ابن آدم! ما غرك؟! ألم تعلم أنى بيت الظلمة، وبيت الوحدة، وبيت الدود؟ " (¬2). وروى الترمذي عن أبى سعيد قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصلاه، فرأى ناساً كأنهم يكثرون، فقال: "أما إنكم لو أكثرتم من ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى، فأكثروا ذكر هاذم اللذات الموت، فإنه لم يأت على القبر يوم إلا يتكلم فيقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحدة، أنا بيت التراب، أنا بيت الدود. فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحباً وأهلاً، أما إن كنت لأحب من يمشى على ظهري إلي، فإذ وليتك اليوم وصرت إلي، فسترى صنيعي بك، فيتسع له مد البصر، ويفتح له باب إلى الجنة، وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر: لا ¬

(¬1) أخرجه الطبرانى في "الأوسط" من حديث أبى هريرة وفى سنده محمد بن أيوب بن سويد الرملي وهو ضعيف. (¬2) أخرجه أبو يعلى والطبراني في "الكبير"، وفى سنده أبو بكر بن أبى مريم، وهو ضعيف كان قد سرق بيته فاختلط.

مرحبا ولا أهلا، أما إن كن لأبعض من يمشى على ظهري إلي، فإذا وليتك اليوم، وصرت إلى، فسترى صنيعي بك، قال: فيلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه"، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصابعه، فأدخل بعضها في بعض قال: " ويقيض له سبعون تنيناً، لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئاً ما بقيت الدنيا، فينهشنه ويخدشنه، حتى يفضي به إلى الحساب، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار" (¬1) وقال كعب: إذا وضع الرجل الصالح في قبره، احتوشته أعماله الصالحة، الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والصدقة. وقال وتجئ ملائكة العذاب من قبل رجليه فتقول الصلاة: إليكم عنه فلا سبيل لكم عليه، فقد أطال بى القيام لله عز وجل، قال: فيأتونه من قبل رأسه، فيقول الصيام: لا سبيل لكم عليه فقد أطال بى الصيام، قال: فيأتونه من قبل جسده، فيقول الحج والجهاد: إليكم عنه، فقد أنصب نفسه وأتعب بدنه، وحج وجاهد لله عز وجل، لا سبيل لكم عليه، فيأتونه من قبل يديه، فتقول الصدقة، كم من صدقة خرجت من هاتين اليدين حتى وضعت في يد الله ابتغاء وجهه، فلا سبيل لكم عليه، قال: فيقال له: هنيئاً طبت حياً، وطبت ميتاً، قال: وتأتيه ملائكة الرحمة، فتفرشه فراشاً في الجنة ودثاراً من الجنة، فيفسح له في قوة مد بصره، ويؤتى بقنديل من الجنة، يستضئ بنوره إلى يوم يبعثه الله من قبره. وعن أنس بن مالك أن نبى الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقولان: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله عز وجل به مقعداً في الجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فيراهما جميعاً وأما الفاجر أو المنافق فقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول لا أدرى كنت أقول ما يقول الناس، فيقال له: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطارق من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين" أخرجاه في "الصحيحين". ¬

(¬1) أخرج الترمذي (2462) وفى سند عبيد الله الوصافى وهو ضعيف وكذا شيخه فيه وهو عطية العوفى لكن قوله "اكثروا ذكر هادم اللذات الموت" صحيح بشواهده.

31 ـ فصل في أحوال الميت من وقت نفخة الصور إلى حين الاستقرار في الجنة أو النار

وفيهما من حديث أسماء بنت أبى بكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أوحى إلىّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل -أو قال قريباً من- فتنة المسيح الدجال، يقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله ... " وذكر باقي الحديث. وعن ابن عباس قال: لما أخرجت جنازة سعد بن معاذ وسوينا عليها، التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "ما من أحد من الناس إلا وله ضغطة في قبره، ولو كان منفلتاً منها أحد لانفلت سعد بن معاذ" وذكر باقي الحديث. وعن عبد الله الصنعانى قال: رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته بأربع ليال، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: تقبل منى الحسنات، وتجاوز عن السيئات. قلت: وما كان بعد ذلك؟ قال: وهل يكون من الكريم إلا الكرم، غفر لى ذنوبي وأدخلني الجنة، قلت: بم نلت الذي نلت؟ قال: بمجالس الذكر، وقولي الحق، وصدقي في الحديث، وطول قيامي في الصلاة، وصبري على الفقر، قلت: منكر ونكير حق؟ قال: أي والله الذي لا إله إلا هو، لقد أقعداني وسألاني: من ربك؟ وما دينك، ومن نبيك؟ فجعلت أنفض لحيتي البيضاء من التراب، وقلت: مثلى يسأل؟! أنا يزيد بن هارون الواسطى، كنت في دار الدنيا ستين سنة أعلم الناس، فقال أحدهما: صدق هو يزيد بن هارون، نم نومة العروس، فلا روعة عليك بعد اليوم. وقال المروزى: رأيت أحمد بن حنبل في النوم في روضة، وعليه حلتان خضروان، وعلى رأسه تاج من النور، وإذا هو يمشى مشية لم أكن أعرفها له، فقلت يا أحمد: ما هذه المشية التي لم أكن أعهدها لك؟ فقال: هذه مشية الخدام في دار السلام. فقلت: وما هذا التاج الذي أراه على رأسك؟ فقال: إن ربى عز وجل أوقفني وحاسبني حساباً يسيراً، وكساني وحباني وقربني، وأنا أنظر إليه، وتوجني بهذا التاج وقال لى: يا أحمد هذا تاج الوقار توجتك به، كما قلت: القرآن كلامي غير مخلوق. 31 ـ فصل في أحوال الميت من وقت نفخة الصور إلى حين الاستقرار في الجنة أو النار قد أشرنا إلى أهوال القبر، وأشد من ذلك نفخ الصور والبعث والحساب ونصب

الميزان والصراط، وهذه أهوال يجب الإيمان بها، وينبغى تطويل الفكر فيها، وجمهور الناس لم يتمكن من قلوبهم الإيمان بالآخرة، ولو أن الإنسان لم يشاهد توالد الحيوانات، ثم قيل له: إن صانعاً يصنع من هذه النطفة القذرة مثل هذا الآدمي المتصور العاقل المتكلم، لاشتد نفور طبعه عن التصديق بذلك، فخلفه على ما قيل من العجائب، يزيد على بعثه وإعادته. وكيف ينكر ذلك من قدرة الله تعالى وحكمته من يشاهد البداية؟ فإن كان في إيمانك ضعف، فقوة الإيمان بالنظر إلى النشأة الأولى، فإن الثانية مثلها وأسهل منها، وإن كنت قوى الإيمان بها، فأشعر قلبك تلك المخاوف والأخطار، وأكثر فيها التفكير والاعتبار، وليحثك ذلك على الجد والتشمير، وأول ما يقرع أسماع الموتى صوت إسرافيل حين ينفخ ذلك في الصور، فصور نفسك وقد قمت ذاهلاً مبهوتاً شاخصاً نحو النداء. قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51]. عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كيف أنعم وصاحب الصور قد حنى جبهته، وأصغى بسمعه، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ في الصور فينفخ؟ " قال المسلمون: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا "حسبنا الله ونعم الوكيل، وتوكلنا على الله" ثم انظر كيف يحشر الناس يوم القيامة، فيساقون بعد البعث حفاة عراة إلى أرض المحشر، وهى قاع ليس فيها ربوة يختفي الإنسان بفنائها. وفى "الصحيحين" قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النَّقي". ثم تفكر في ازدحام الناس، وقرب الشمس من رؤوسهم، وشدة العرق، مع ما في القلوب من القلق. وفى الحديث: "إن العرق يأخذ الناس على قدر أعمالهم". وتفكر يا مسكين في سؤال ربك لك عن أعمالك بغير واسطة، فقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله". وعن أبى برزة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا

32 ـ ذكر جهنم أعاذنا الله منها

تزول قدما عبد حتى يسأل: عن عمره فيما أفناه، وعن عمله فيما عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه". وعن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر رضى الله عنه، إذ عرض له رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " إن الله عز وجل يدنى المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، قال: ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] أخرجاه في "الصحيحين". وفى "الصحيحين" من حديث أبى سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يضرب جسر على جهنم فأكون أول من يجوز؟ ". وفيهما أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم، قالوا: يا رسول الله ما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة، عليها خطاطيف وكلاليب وحسك، يمر المؤمنين عليه كالطرف، وكالبرق الخاطف، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش، حتى يمر آخرهم يسحب سحباً". 32 ـ ذكر جهنم أعاذنا الله منها (¬1) عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً، فسمعنا وجبة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفاً، فالآن انتهى إلى قعرها" رواه مسلم. وفى "الصحيحين" عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، ¬

(¬1) اقرأ كتاب "التخويف من النار وحال أهل البوار" للحافظ بن رجب الحنبلي منشورات مكتبة دار البيان بدمشق.

قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً، كلها مثل حرها". وفى أفراد مسلم، من حديث ابن مسعود رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها". وعن أبى الدرداء رضى الله عنه قال: يلقى على أهل النار الجوع، فيعدل عندهم ما فيه من العذاب، فيستغيثون بالطعام، فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصة بالشراب، فيستغيثون بالشراب، فيغاثون بالحميم، ينالونه بكلاليب من حديد، فإذا دنا منهم شوى وجوههم، وإذا دخل بطونهم قطع ما في بطونهم، فيطلبون إلى خزنة جهنم، أن {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} فيجيبونهم {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 49] فيقولون سلوا مالكاً: فيقولون {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فيقول: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فيقول عز وجل {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 107 - 108] فعند ذلك ييأسون من كل خير، ويأخذون في الشهيق والويل والثبور. وتفكر في حياتها وعقاربها، ففى الحديث: "إن حياتها أمثال أعناق البخت، وعقاربها كالبغال الموكفة". وعن الحسن: أن النار تأكلهم كل يوم سبعين ألف مرة ثم يعودون كما كانوا. واعلم: أن صفة جهنم تطول، وأيسر اليسير من ذلك ينبغي أن يكفى في التخويف، فإن كنت مؤمناً بهذا فانتبه لنفسك، وخف ما بين يديك، فإن الله لا يجمع على عبد خوفين، ولسنا نعنى بالخوف رقة النساء فتبكى ساعة ثم تترك العمل، وإنما نريد خوفاً يمنع عن المعاصي، ويحث على الطاعة، فأما خوف الحمقى الذين اقتصروا على سماع الأهوال، وأن يقولوا: استعنا بالله، نعوذ بالله، يا رب سلم، وهم مع ذلك مصرون على القبائح، والشيطان يسخر بهم كما يسخر ممن قصده سبع ضار وهو إلى جانب حصن فيقول: أعوذ بالله من هذا، وهو لا يدخل الحصن ولا يبرح مكانه.

33 ـ[فصل في محبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم]

33 ـ[فصل في محبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم] وكن في الدنيا محباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حريصاً على تعظيم سنته، لعله يشفع فيك في الآخرة، فإن له شفاعة يتقدم فيها على الأنبياء كلهم، ويسأل الله في أهل الكبائر من أمته فينجيهم، واستكثر من الإخوان الصالحين، فلكل مؤمن شفاعة، ولا تحملنك العزة على التواني وتسمى ذلك رجاءً، فإن من رجا شيئاً طلبه، واحترز من المظالم، فإن من كانت عليه مظالم ومات قبل ردها، فإن غرماءه يحيطون به يوم القيامة فهذا يقول ظلمني: وهذا يقول: استهزأ بى، وهذا يقول: أساء جواري، وهذا يقول غشنى، فلا خلاص لك من أيديهم، فإذا توهمت الخلاص قيل: لا ظلم اليوم. وعن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يخلص المؤمنون يوم القيامة من النار، فيسحبون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة". وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أتدرون ما المفلس"؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: "إن المفلس من أمتي من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال "لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء". وهذه الأحاديث كلها في الصحاح، فانظر وفقك الله إلى بعد سلامة حسناتك لدخول ما يبطلها عن الرياء والغيبة، فأن سلمت أخذها الخصوم، فتيقظ لنفسك، ولا تفرط في أوقاتك، فإن المسكين من آثر لذة متقطعة، واشترى بها عذاباً شديداً دائماً نسأل الله السلامة والتوفيق.

34 ـ ذكر صفة الجنة نسأل الله العظيم من فضله

34 ـ ذكر صفة الجنة نسأل الله العظيم من فضله عن أبى هريرة رضى الله عنه قلنا: يا رسول! حدثنا عن الجنة، وما بناؤها؟ قال: "لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه". وفى حديث أسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال يوماً وذكر الجنة: "ألا مشمر لها؟ هي ورب الكعبة ريحانة تهتز، ونور يتلألأ، ونهر مطرد، وزوجة لا تموت، في حبور ونعيم، ومقام في أبد" فقالوا: نحن المشمرون لها يا رسول الله، قال: "قولوا: إن شاء الله" (¬1). وفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: "إن الله عز وجل قال: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". وفيهما أيضاً من حديثه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب درى في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب، وريحهم المسك، ومجامرهم الألوَّة الألنجوج (¬2)، أزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعاً في السماء". وفى رواية أخرى: "لكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً". وعن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه (4332) وابن حبان (2640) وفى سنده الضحاك المعافرى لم يوثقه غير ابن حبان، وسليمان بن موسى في حديثه بعض لين، وخلط قبل موته بقليل. (¬2) الألوة: هو العود الذي يتبخر به، وتفتح همزته وتضم، والألنجوج: عود يتبخر به أيضاً.

35 ـ باب في ذكر سعة رحمة الله تعالى

القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن". أخرجاه في "الصحيحين". وفيهما من حديث أبى موسى أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن في الجنة لخيمة من درة مجوفة، عرضها ستون ميلاً، في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن". واعلم: أن الله تعالى ذكر نعيم الجنة مبسوطاً في مواضع القرآن، ثم جمعه في آيات. منها قوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]. وقوله: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 108] ثم زاد على ذلك بقوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. صفات الجنة كثيرة اقتصرنا منها على هذا. وأفضل ما ينال في الجنة رؤية الله تعالى. وفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أنه قيل: يا رسول الله! هل نرى ربنا؟ فقال: "فهل تضامون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ " قالوا: لا، قال: "فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك" 35 ـ باب في ذكر سعة رحمة الله تعالى نختم الكتاب بذكر سعة رحمة الله عز وجل، نرجو بذلك فضله، إذ ليس لنا أعمال نرجو بها العفو، لكن نرجو ذلك من رحمته وكرمه، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لما قضى الله عز وجل الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي غلبت غضبى" أخرجاه في "الصحيحين". وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن لله عز وجل مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الإنس والجن والهوام والبهائم، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على أولادها، وأخّر تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة". وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن ربكم تبارك وتعالى رحيم، من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر

حسنات إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له سيئة واحدة أو يمحوها الله، ولا يهلك على الله تعالى إلا هالك". وعن أبى ذر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يقول الله عز وجل: من عمل حسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن عمل سيئة، فجزاء سيئة مثلها أو أغفر، ومن اقترب إلى شبراً اقتربت إليه ذراعاً، ومن اقترب إلى ذراعاً اقتربت منه باعاً، ومن أتاني يمشى أتيته هرولة". وعن أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً أذنب ذنباً فقال: أي رب! أذنبت ذنباً فاغفر لى، فقال تبارك وتعالى: علم عبدى أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، فقد غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنباً آخر فقال: أي رب! عملت ذنباً فاغفره لى، فقال عز وجل: علم عبدى أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدى. ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنباً آخر فقال: أي رب! عملت ذنباً فاغفره لى، فقال: علم عبدى أن له رباً يغفر الذنب، أشهدكم أني قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء". هذه الأحاديث كلها صحاح. وفى "الصحيحين" من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبيٍ، وإذا امرأة من السبى تسعى، إذا وجدت صبيا في السبى فأخذته، فألصقته ببطنها، فأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ " قلنا: لا والله. قال: "لله أرحم بعباده من هذه المرآة بولدها". وفى "الصحيحين" من حديث أبى ذر رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة". قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق، وإن زنى وإن سرق! وإن زنى وإن سرق" ثم قال الرابعة: "على رغم أنف أبى ذر". وفيهما من حديث عتبان بن مالك رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إن الله حرم النار على من قال: لا إله إلا الله، يبتغى بذلك وجه الله". وفيهما من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن قال: "يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير وزن برة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة".

وعن أبى موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا كان يوم القيامة لم يبق مؤمن إلا أتى بيهودي أو نصراني حتى يدفع إليه فيقال له: هذا مكانك من النار". وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل منها مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يارب، فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل فيقول: لا يا رب فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول أحضروه، فيقول: ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة. قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل شئ مع اسم الله عز وجل". ونظر الفضيل بن عياض إلى تسبيح الناس وبكائهم يوم عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل يسألونه دانقاً (¬1)، أكان يردهم؟ فقيل: لا فقال: والله المغفرة عند الله عز وجل أهون من إجابة رجل لهم بدانق!. وعن إبراهيم بن أدهم قال: خلا لى الطواف في ليلة مظلمة شديدة المطر، فلم أزل أطوف إلى السحر، ثم رفعت يدي إلى السماء. فقلت: اللهم إنى أسألك أن تعصمني عن جميع ما تكره. فإذا قائل يقول في الهواء: أنت تسألني العصمة، وكل خلقي يسألني العصمة، فإذا عصمتك فعلى من أتفضل؟ فهذه الأحاديث مع ما ذكرناه في كتاب الرجاء، تبشرنا بكرم الله تعالى وسعة رحمته وجوده. ونحن نرجو من الله سبحانه أن لا يعاملنا بما نستحقه، وأن يتفضل علينا بما هو أهله. ونحن نستغفر الله عز وجل من أقوالنا التي تخالف أعمالنا ومن كل تصنع تزيناً به للناس، وكل علم وعمل قصدناه، ثم خالطه ما يكدره، فبكرمه نستشفع إلى كرمه، وبجوده نسأل من جوده، إنه قريب مجيب. والحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكريم وجهه عز وجل. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. ¬

(¬1) الدانق: سدس الدرهم.

§1/1