مختصر زاد المعاد

محمد بن عبد الوهاب

مقدمة الناشر مختصر زاد المعاد

[مقدمة الناشر مختصر زاد المعاد] مقدمة الناشر إن الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هادي له والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد. فإن كتاب زاد المعاد في خير هدى العباد من خير ما ألَّفه الإمام العلامة المحدث ابن قيم الجوزية ومن المعارف الرائعة التي تشهد له بالإمامة ووفرة العلم والتحرر من التقليد. وقد عرض فيه المؤلف- رحمه الله- صورة واضحة لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه، وتصرفاته العامة والخاصة بأسلوب بسيط وسهل ليقتدي به المسلم ويسير على منهاج النبي الكريم. ثم جاء منقذ الأمة من الضلالة شيخ الإسلام إمام الدعوة في جزيرة العرب، فانتقى من كتاب زاد المعاد هذا المختصر الطيب لينتفع به المسلمون في شئونهم الدينية والدنيوية فعلى كل مسلم أن يتخذ زادا لمعاده وقدوة لسلوكه ليحقق قوله عَزَّ وَجَلَّ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] الأحزاب. .

ترجمة المؤلف

[ترجمة المؤلف] ترجمة المؤلف هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي. ولد في بلدة (العيينة) شمال الرياض سنة 1115هـ و1703م. حفظ القرآن قبل بلوغه العاشرة. درس الفقه الحنبلي والتفسير والحديث على والده، واعتنى بدراسة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، رحمهما الله حج مكة وزار المدينة وأخذ العلم بها عن الشيخ عبد الله بن إبراهيم، وزار البصرة والشام وأخذ العلم عن كبار علمائها وقد رأى الشيخ ما بالبلاد التي وصل إليها من العقائد والعادات الفاسدة والبدع الضالة فعزم على القيام بدعوته ونادى بالرجوع إلى كتاب الله وتعاليم الرسول وحارب البدع ونادى بهدم الأضرحة والمزارات وإزالة معالمها اقتداء بما كانت عليه أيام رسول الله ولاقى الكثير من الأذى حتى جاء نصر الله وسمي بحق المجدد والمصلح. وانتقل الشيخ المصلح محمد بن عبد الوهاب إلى جوار ربه شهر ذي القعدة سنة 1206هجرية مخلفا وراءه العمل الصالح رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

ترجمة الإمام ابن القيم

[ترجمة الإمام ابن القيم] ترجمة الإمام ابن القيم هو محمد ابن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي ثم الدمشقي أبو عبد الله، شمس الدين المعروف بابن قيم الجوزية. ولد سنة 691هـ وتربى في بيت علم وفضل وتلقى مبادئ العلوم عن أبيه وأخذ العلم عن كثير من علماء عصره ولا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية وقد لازمه وتتلمذ عليه. وقد شهد له العلماء بالتفوق في فقه الكتاب والسنة ودقائق الاستنباط منهما. وأصول الدين، وعني بالحديث وفنونه ورجاله قال ابن حجر عنه: كان جريء اللسان, واسع العلم، عارفا بالخلاف ومذهب السلف. وقال نعمان الألوسي البغدادي. لم أشاهد مثله في عبادته وعلمه بالقرآن والحديث وحقائق الإيمان وليس هو بالمعصوم ولكن لم أر في معناه مثله وقد امتحن وأوذي مرات وحبس مع شيخه ابن تيمية في المرة الأخيرة بالقلعة منفردا ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ. وقال ابن كثير: (وكان حسن القراءة والخلق كثير التودد لا يحسد أحدا ولا يؤذيه ولا يستعيبه ولا يحقد على أحد وكنت من أحب الناس له وأحب الناس إليه) . وقال برهان الدين الزرعي (ما تحت أديم السماء أوسع علما منه) وقد صنف تصانيف كثيرة جدا منها تهذيب سنن أبي داود. الكلم الطيب وأعلام الموقعين وبدائع الفوائد وحادي الأرواح والداء والدواء والطرق الحكمية وإغاثة اللهفان والروح وطريق الهجرتين وغير ذلك كثير. توفي رحمه الله ليلة الخميس 13 رجب سنة 751 هجرية ودفن بدمشق بجوار والده في مقبرة (باب الصغير) .

مقدمة المؤلف

[مقدمة المؤلف] بسم الله الرحمن الرحيم وبه الثقة والعصمة الحمد لله رب العالمين، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسوله. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالخلق والاختيار. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68] (¬1) والمراد بالاختيار: هو الاجتباء والاصطفاء، وقوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68] أي: ليس هذا الاختيار إليهم، فكما أنه المتفرد بالخلق، فهو المتفرد بالاختيار منه، فإنه أعلم بمواقع اختياره، كما قال تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] (¬2) وكما قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ - أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 31 - 32] (¬3) فأنكر سبحانه عليهم تخيرهم، وأخبر أن ذلك إلى الذي قسم بينهم معيشتهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات. وقوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68] نزه نفسه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم، ولم يكن شركهم متضمنا لإثبات خالق سواه حتى ينزه نفسه عنه. والآية مذكورة بعد قوله: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67] (¬4) . وكما أنه خلقهم اختار منهم هؤلاء، وهذا الاختيار راجع إلى حكمته سبحانه، وعلمه بمن هُوَ أَهْلٌ لَهُ، لَا إِلَى اخْتِيَارِ هَؤُلَاءِ واقتراحهم. وهذا الاختيار فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ وَأَكْبَرِ شَوَاهِدِ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ. وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ¬

(¬1) (68: القصص) . (¬2) 124: الأنعام. (¬3) 31: الزخرف. (¬4) 67: القصص.

فصل اختص الله نفسه بالطيب

«اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي من تشاء إلى صراط مستقيم» (¬1) . وكذلك اختياره سبحانه الأنبياء من ولد آدم، واختياره الرسل منهم، واختياره أولي العزم منهم، وهم الخمسة المذكورون في سورتي الأحزاب والشورى (¬2) واختياره مِنْهُمُ الْخَلِيلَيْنِ: إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وسلم وعليهم أجمعين. وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ سُبْحَانَهُ وَلَدَ إِسْمَاعِيلَ مِنْ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ، ثُمَّ اخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي كِنَانَةَ مِنْ خُزَيْمَةَ، ثُمَّ اخْتَارَ مِنْ وَلَدِ كِنَانَةَ قُرَيْشًا ثُمَّ اخْتَارَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ ثُمَّ اخْتَارَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واختار أمته على سائر الأمم. كما في المسند عن معاوية بن حيدة مرفوعا: أَنْتُمْ تُوفُونَ (¬3) سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ. وفي " مسند البزار " من حديث أبي الدرداء مرفوعا: «إن الله سبحانه قال لعيسى بن مريم: إني باعث بَعْدِكَ أُمَّةً إِنْ أَصَابَهُمْ مَا يُحِبُّونَ حَمِدُوا وَشَكَرُوا، وَإِنْ أَصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا وَصَبَرُوا، وَلَا حِلْمَ وَلَا عِلْمَ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ هَذَا وَلَا حِلْمَ وَلَا عِلْمَ؟ قَالَ: أعطيهم من حلمي وعلمي» [فصل اختص الله نفسه بالطيب] فصل اختص الله نفسه بالطيب والمقصود أن الله سبحانه اختار من كل جنس أطيبه، فاختصهم لنفسه، فإنه سبحانه وتعالى طَيِّبٌ لَا يُحِبُّ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَلَا يَقْبَلُ من القول والعمل والصدقة إلا الطيب. وَبِهَذَا يُعْلَمُ عُنْوَانُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَشَقَاوَتِهِ، فَإِنَّ الطَّيِّبَ لَا يُنَاسِبُهُ إِلَّا الطَّيِّبُ وَلَا يَرْضَى إِلَّا بِهِ، وَلَا يَسْكُنُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ إِلَّا بِهِ. فَلَهُ مِنَ الْكَلَامِ الكلام الطيب الذي لا يصعد إلى الله إلا هو ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (770) في صلاة المسافرين من حديث عائشة رضي الله عنها وأبو عوانة. (¬2) إشارة لقوله تعالى: وإذ أخذنا 93 / 7 وشرع لكم 42 / 13. (¬3) مسند أحمد جـ 5 ص15.

، وهو أشد نفرة عن الفحش في المقال وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْبُهْتِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَكُلِّ كَلَامٍ خَبِيثٍ. وَكَذَلِكَ لَا يَأْلَفُ مِنَ الْأَعْمَالِ إلا أطيبها، وهي التي أجمعت عَلَى حُسْنِهَا الْفِطَرُ السَّلِيمَةُ مَعَ الشَّرَائِعِ النَّبَوِيَّةِ، وزكتها العقول الصحيحة، مثل أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويؤثر مرضاته على هواه، ويتحبب إليه بجهده، وَيُحْسِنَ إِلَى خَلْقِهِ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَفْعَلَ بِهِمْ ما يحب أن يفعلوه به. وله من الأخلاق أطيبها، كالحلم والوقار، والصبر والرحمة، والوفاء والصدق، وسلامة الصدر، والتواضع، وصيانة الوجه عن بذل وتذلله لغير الله. وَكَذَلِكَ لَا يَخْتَارُ مِنَ الْمَطَاعِمِ إِلَّا أَطْيَبَهَا، وهو الحلال الهنيء الَّذِي يُغَذِّي الْبَدَنَ وَالرُّوحَ أَحْسَنَ تَغْذِيَةٍ مَعَ سَلَامَةِ الْعَبْدِ مِنْ تَبِعَتِهِ. وَكَذَلِكَ لَا يَخْتَارُ من المناكح إلا أطيبها، ومن الأصحاب إلا الطيبين. فهذا ممن قال الله فيهم: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] (¬1) ومن الذين تقول لَهُمْ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزُّمَرِ: 73] (¬2) وَهَذِهِ الْفَاءُ تَقْتَضِي السَّبَبِيَّةَ، أَيْ: بِسَبَبِ طيبكم فادخلوها. وَقَالَ تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26] (¬3) . ففسرت بالكلمات الخبيثات للرجال الخبيثين، والكلمات الطيبات للرجال الطيبين. وفسرت بالنساء الطيبات للرجال الطيبين وبالعكس، وهي تعم ذلك وغيره. والله سبحانه جَعَلَ الطَّيِّبَ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَجَعَلَ الْخَبِيثَ بحذافيره في النار، فدار أخلصت للطيب، ودار أخلصت للخبيث، ودار مزج فيها الخبيث بالطيب، وهي هذه الدار، فإذا كان يوم المعاد، ميز الله الخبيث من الطيب، فعاد الأمر إلى دارين فقط. والمقصود أن الله جعل للشقاوة والسعادة عنوانا يعرفان به، وقد يكون في الرجل مادتان، فأيهما غلبت عَلَيْهِ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا، فَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ بعبده خيرا طهره قبل الموافاة فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار. وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره العبد في داره ¬

(¬1) 32 النحل. (¬2) 73 الزمر. (¬3) 26 النور.

فصل في وجوب معرفة هدي الرسول

بخبائثه، فيدخله النار طهرة له، وإقامة هذا النوع فيها على حسب سرعة زوال الخبائث وبطئها. ولما كان المشرك خبيث الذات، لم تطهره النار، كالكلب إذا دخل البحر. ولما كان المؤمن الطيب بريئا مِنَ الْخَبَائِثِ، كَانَتِ النَّارُ حَرَامًا عَلَيْهِ، إِذْ ليس فيه ما يقتضي تطهيره، فسبحان من بهرت حكمته العقول. [فصل في وجوب معرفة هدي الرسول] فصل في وجوب معرفة هدي الرسول ومن ههنا يعلم اضْطِّرَارَ الْعِبَادِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ إِلَى مَعْرِفَةِ الرسول وما جاء به، فإنه لا سبيل إلى الفلاح إلا على يديه، ولا إلى معرفة الطيب من الخبيث على التفصيل إلا من جهته، فأي حاجة فرضت وضرورة عرضت، فضرورة العبد إلى الرسول فوقها بكثير. وما ظنك بمن إن غَابَ عَنْكَ هَدْيُهُ، وَمَا جَاءَ بِهِ طَرْفَةَ عين فسد قلبك، وَلَكِنْ لَا يُحِسُّ بِهَذَا إِلَّا قَلْبٌ حَيٌّ، وما لجرح بميت إيلام (¬1) وإذا كانت السعادة معلقة بهديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ من أحب نجاة نفسه أَنْ يَعْرِفَ مِنْ هَدْيِهِ وَسِيرَتِهِ وَشَأْنِهِ مَا يخرج به عن خطة الجاهلين. وَالنَّاسُ فِي هَذَا بَيْنَ مُسْتَقِلٍّ وَمُسْتَكْثِرٍ وَمَحْرُومٍ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذو الفضل العظيم. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوُضُوءِ] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوُضُوءِ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ فِي غَالِبِ أَحْيَانِهِ، وَرُبَّمَا صَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ. وَكَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ تَارَةً وَبِثُلُثَيْهِ تَارَةً، وَبِأَزْيَدَ مِنْهُ تارة (¬2) . وَكَانَ مِنْ أَيْسَرِ النَّاسِ صَبًّا لِمَاءِ الْوُضُوءِ، ويحذر أمته من الإسراف فيه، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا. وَفِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ مَرَّتَيْنِ، وَبَعْضِهَا ثَلَاثًا. وَكَانَ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ تَارَةً بِغَرْفَةٍ، وَتَارَةً بِغَرْفَتَيْنِ، وَتَارَةً بِثَلَاثٍ، وَكَانَ يَصِلُ بَيْنَ المضمضة والاستنشاق. وكان يستنشق باليمين ¬

(¬1) عجز بيت للمتنبي وصدره: من يهن يسهل الهوان عليه. (¬2) المد: إناء يتسع لملء الكفين من الحبوب.

وينتثر باليسرى، وكان يمسح رأسه كله تارة، وتارة يقبل بيديه ويدبر بهما. ولم يصح أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِ رَأْسِهِ الْبَتَّةَ، ولكن كان إذا مسح على ناصيته كمل على العمامة، ولم يتوضأ إِلَّا تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ أخل بهما مرة واحدة. وقد صرح الإمام ابن القيم في أكثر من موضع من كتبه: بوجوب المضمضة والاستنشاق. وكذلك الوضوء مرتبا متواليا، ولم يخل به مرة واحدة، وَكَانَ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُونَا فِي جوربين أو خفين، ويمسح أذنيه مع رأسه ظاهرهما وباطنهما. وكل حديث في أذكار الوضوء التي تقال عليه كذب، غير التسمية في أوله، وقول: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ المتطهرين» في آخره. وحديث آخر في سنن النسائي «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» وَلَمْ يَكُنْ يقول في أوله: نويت. ولا أحد من الصحابة ألبتة. وَلَمْ يَتَجَاوَزِ الثَّلَاثَ قَطُّ. وَكَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عنه أنه تجاوز المرفقين والكعبين. ولم يكن يعتاد تنشيف أعضائه. وكان يخلل لحيته أحيانا ولم يواظب على ذلك، وكذلك تخليل الأصابع ولم يكن يحافظ عليه، وأما تحريك الخاتم فروي فيه حديث ضعيف. وصح عنه أنه مسح في الحضر والسفر، وَوَقَّتَ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ولياليهن، وكان يمسح ظاهر الخفين ومسح على الجوربين (¬1) وَمَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا وَمَعَ النَّاصِيَةِ ولكن يحتمل أن يكون خاصا بحال الحاجة، ويحتمل العموم وهو أظهر. وَلَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّفُ ضِدَّ حَالِهِ الَّتِي عَلَيْهَا قدماه، بل إن كانتا في الخفين مسح، وإن كانتا مكشوفتين غسل. وكان يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين، ويتيمم بِالْأَرْضِ الَّتِي يُصَلِّي عَلَيْهَا تُرَابًا كَانَتْ أَوْ سَبْخَةً أَوْ رَمْلًا. وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «حَيْثُمَا أَدْرَكَتْ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وطهوره» ¬

(¬1) ويظهر لمن تتبع الأدلة أن الكثير من الشروط التي يذكرها البعض في صفة الجوربين لا مستند لها، وإنما المسح يصح على كل جورب. وللعلامة الشيخ جمال الدين القاسمي ـ رحمه الله ـ رسالة قيمة في الموضوع. طبعها المكتب الإسلامي مع ملحق قيم للمحدث الشيخ ناصر الدين الألباني.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة

وَلَمَّا سَافَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قطعوا تلك الرمال وَمَاؤُهُمْ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ حَمَلَ مَعَهُ التُّرَابَ، وَلَا أَمَرَ بِهِ، ولا فعله أحد من أصحابه. وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا قَطَعَ بِأَنَّهُ كَانَ يَتَيَمَّمُ بالرمل. وجعله قائما مقام الْوُضُوءِ (¬1) . .. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا قَبْلَهَا، ولا تلفظ بالنية، ولا استحبه أحد من التابعين ولا الأئمة الأربعة. وَكَانَ دَأْبُهُ فِي إِحْرَامِهِ لَفْظَةَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. لا غيرها، وكان يرفع يديه معها ممدودتي الأصابع مستقبلا بهما الْقِبْلَةَ إِلَى فُرُوعِ أُذُنَيْهِ، وَرُوِيَ إِلَى مَنْكِبَيْهِ، ثم يضع اليمنى على ظهر اليسرى فوق الرسغ والساعد، ولم يصح عنه موضع وضعهما، لكن ذكر أبو داود عن علي: من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة (¬2) . وَكَانَ يَسْتَفْتِحُ تَارَةً بِ: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ» وَتَارَةً يَقُولُ: «وَجَّهْتُ وجهي للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، واصرف عني سيئها لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس ¬

(¬1) وأما الحديث المروي عن ابن عباس " من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة " فلا تقوم به حجة، حيث ضعف العلماء رواية: الحسن ابن عمارة، وقال عن هذا الحديث الحافظ ابن حجر في " بلوغ المرام " ضعيف جدا. (¬2) إن هذا السطر ليس من " زاد المعاد " وهذا الحديث ضعيف، وإنما صح عنه صلى الله عليه وسلم على الصدر لحديث أبو داود وابن خريمة (1 / 54 / 1) وأحمد وأبو الشيخ في تاريخ (أصبهان) ص 125 ومن أحد أسانيده الترمذي.

إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وأتوب إليك» ولكن المحفوظ أنه فِي قِيَامِ اللَّيْلِ. وَتَارَةً يَقُولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل. .» إلى آخره. وقد تقدم (¬1) . وَتَارَةً يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السموات والأرض ومن فيهن» إلى آخره (¬2) . ثم ذكر (¬3) نوعين آخرين، ثم قال: فكل هذه الأنواع قد صحت عنه. وروي عنه أنه كان يستفتح ب «سبحانك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إله غيرك» ذكره أهل " السنن " والذي قَبْلَهُ أَثْبَتُ مِنْهُ. وَلَكِنْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ أنه يَسْتَفْتِحُ بِهِ فِي مَقَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ويجهر به، يعلمه الناس. قال أحمد أذهب إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ عمر، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَفْتَحَ بِبَعْضِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان حسنا. وَكَانَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ. وَكَانَ يَجْهَرُ بـ " بسم الله الرحمن الرحيم " تارة ويخفيها أكثر. وَكَانَتْ قِرَاءَتَهُ مَدًّا، يَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَيَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ قَالَ: " آمِينَ " فَإِنْ كَانَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ، وَقَالَهَا مَنْ خَلْفَهُ. وَكَانَ له سكتتان: سكتة بين التكبيرة والقراءة، واختلف في الثانية، فروي بعد الفاتحة، وروي أنها قبل الركوع. وقيل: بل سكتتان غير الأولى، والظاهر أنهما اثنتان فقط، وأما الثالثة فلطيفة، لأجل تراد النفس، فمن لم يذكرها، فلقصرها. فإذا فرغ من قراءة الْفَاتِحَةِ أَخَذَ فِي سُورَةٍ غَيْرِهَا، وَكَانَ يُطِيلُهَا تَارَةً وَيُخَفِّفُهَا لِعَارِضٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، ويتوسط فيها غالبا. ¬

(¬1) في الصفحة رقم 2. (¬2) هو في " الصحيحين " ونصه كما في " صَحِيحِ مسلم " (769) : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ولك الحمد، أنت قيام السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حق، والجنة حق، والنار حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت، وأسررت وأعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت ". (¬3) المقصود هنا الإمام ابن القيم صاحب الأصل.

فصل في قراءة صلاة الفجر

[فصل في قراءة صلاة الفجر] فصل في قراءة صلاة الفجر وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِنَحْوِ سِتِّينَ آيَةً إلى مائة، وصلاها بـ (سورة ق) (¬1) وصلاها بـ (سورة الرُّومِ) ، وَصَلَّاهَا بِ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] (¬2) وصلاها بسورة {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} [الزلزلة: 1] (¬3) في الركعتين كلتيهما، وصلاها (بالمعوذتين) ، وكان في السفر، وصلاها: فاستفتح سُورَةِ (الْمُؤْمِنُونَ) حَتَّى إِذَا بَلَغَ ذِكْرَ مُوسَى وَهَارُونَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ. وكان يصليها يوم الجمعة بـ (الم السجدة) وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] لِمَا اشتملتا عليه من الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَخَلْقِ آدَمَ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وذكر ما كان وما يكون في يوم الجمعة، كَمَا كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَجَامِعِ الْعِظَامِ، كَالْأَعْيَادِ والجمعة بـ (سورة ق) ، وَ (اقْتَرَبَتْ) وَ (سَبِّحْ) وَ (الْغَاشِيَةِ) . [فصل في هديه في القراءة في باقي الصلوات] فصل في هديه في القراءة في باقي الصلوات وَأَمَّا الظُّهْرُ، فَكَانَ يُطِيلُ قِرَاءَتَهَا أَحْيَانًا، حَتَّى قَالَ أبو سعيد: كَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ تُقَامُ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَأْتِي أَهْلَهُ فَيَتَوَضَّأُ، وَيُدْرِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِمَّا يُطِيلُهَا. رَوَاهُ مسلم، وَكَانَ يَقْرَأُ فِيهَا تَارَةً بِقَدْرِ {الم - تنزيل} [السجدة: 1 - 2] السجدة (¬4) وَتَارَةً بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] (¬5) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (¬6) . وأما العصر، فعلى النصف من قراءة الظُّهْرِ إِذَا طَالَتْ، وَبِقَدْرِهَا إِذَا قَصُرَتْ. وَأَمَّا الْمَغْرِبُ، فَكَانَ هَدْيُهُ فِيهَا خِلَافَ عَمَلِ النَّاسِ اليوم، فإنه صلاها مرة ¬

(¬1) مسلم والترمذي. (¬2) مسلم وأبو داود. (¬3) أبو داود والبيهقي بسند صحيح. (¬4) أحمد ومسلم. (¬5) أبو داود والترمذي وصححه وكذا ابن خزيمة (1 / 67 / 2) . (¬6) أبو داود والترمذي وصححه وكذا ابن خزيمة (1 / 67 / 2 / 2) .

بـ (الأعراف) في الركعتين، ومرة بـ (الطور) (¬1) ومرة بـ (المرسلات) (¬2) . وأما المداومة على قراءة قصار المفصل فيها، فهو من فعل مروان (¬3) . ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت قال ابن عبد البر روي عنه أنه قرأ في المغرب بـ (المص) (¬4) وبـ (الصافات) ، وبـ (الدخان) و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وبـ (التين) (¬5) وبـ (المعوذتين) وبـ (الْمُرْسَلَاتِ) وَأَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ ; وكلها آثار صحاح مشهورة. وأما عشاء الآخرة، فقرأ صلى الله عليه وسلم فيها بـ (التين) (¬6) وَوَقَّتَ لمعاذ فِيهَا: بِـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] وبـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] وَنَحْوِهَا. وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ قِرَاءَتَهُ فِيهَا بـ (البقرة) وقال لَهُ: «أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا معاذ؟» فَتَعَلَّقَ النَّقَّارُونَ (¬7) بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى مَا قَبْلَهَا وما بَعْدَهَا. وَأَمَّا الْجُمُعَةُ، فَكَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِسُورَتَيِ (الجمعة) و (المنافقين) (¬8) وسورتي: (سبح) و (الغاشية) (¬9) . وأما الأعياد، فتارة يقرأ بـ (ق) و (اقتربت) (¬10) كاملتين، وتارة بـ (سبح) و (الغاشية) (¬11) وهذا الهدي الذي استمر عَلَيْهِ إِلَى أَنْ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. ولهذا أخذ به الخلفاء، فقرأ أبو بكر في الفجر سورة (البقرة) حتى سلم قريبا من طلوع الشمس (¬12) . وكان بعده عمر يقرأ فيها بـ (يوسف) و (النحل) و (هود) و (بني إسرائيل) ونحوها. وأما قوله: «أيكم أمّ الناس فليخفف» فالتخفيف أمر نسبي يرجع فيه إِلَى مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، لا إلى شهوات المأمومين. وهديه الذي كان يواظب عليه، هو الحاكم في كل ما تنازع فيه المتنازعون. وكان لا يعين سورة بعينها لا يقرأ ¬

(¬1) البخاري ومسلم. (¬2) البخاري ومسلم. (¬3) هو مروان بن الحكم. والذي أنكر عليه المداومة. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم بالقصار في " مسند أحمد " و " البخاري " و " مسلم ". (¬4) البخاري وأبو داود. (¬5) الطبراني والمقدسي بسند صحيح. (¬6) البخاري ومسلم والنسائي. (¬7) الذين يجعلون صلاتهم كنقر الديكة. (¬8) مسلم وأبو داود. (¬9) مسلم وأبو داود. (¬10) مسلم وأبو داود. (¬11) مسلم وأبو داود. (¬12) فقالوا له: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كادت الشمس أن تطلع! فقال: لو طلعت لم نجدها غافلين.

فصل في ركوعه صلى الله عليه وآله وسلم

إلا بها، إلا في الجمعة والعيدين. وكان من هديه قراءة السورة، وربما قرأها في الركعتين. وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَوَاخِرِ السُّوَرِ وَأَوْسَاطِهَا، فَلَمْ يُحْفَظْ عنه. وأما قراءة السورتين في الركعة، فكان يفعله في النافلة. وَأَمَّا قِرَاءَةُ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ فِي رَكْعَتَيْنِ مَعًا، فقلما كان يفعله. وكان يطل الركعة الأولى على الثانية من كُلِّ صَلَاةٍ، وَرُبَّمَا كَانَ يُطِيلُهَا، حَتَّى لَا يسمع وقع قدم. [فصل في ركوعه صلى الله عليه وآله وسلم] فصل في ركوعه صلى الله عليه وآله وسلم فإذا فرغ من القراءة، رفع يديه وَكَبَّرَ رَاكِعًا، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَالْقَابِضِ عَلَيْهِمَا، وَوَتَّرَ يَدَيْهِ، فَنَحَّاهُمَا عَنْ جَنْبَيْهِ، وَبَسَطَ ظهره ومده، واعتدل فلم ينصب رأسه ولم يخفضه، بل حيال ظهره. فلم ينصب رأسه ولم يخفضه، بل حيال ظهره. وَكَانَ يَقُولُ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» (¬1) وَتَارَةً يَقُولُ مَعَ ذَلِكَ، أَوْ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» وَكَانَ رُكُوعُهُ المعتاد مقدار عشر تسبيحات، وسجوده كذلك، وَتَارَةً يَجْعَلُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ بِقَدْرِ الْقِيَامِ، وَلَكِنْ كان يفعله أحيانا في صلاة الليل وحده. فهديه الغالب تَعْدِيلُ الصَّلَاةِ وَتَنَاسُبُهَا. وَكَانَ يَقُولُ أَيْضًا فِي رُكُوعِهِ: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ» (¬2) وَتَارَةً يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي» (¬3) وَهَذَا إِنَّمَا حُفِظَ عَنْهُ فِي قِيَامِ الليل. ثم يرفع رأسه قَائِلًا: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَكَانَ دَائِمًا يُقِيمُ صُلْبَهُ، إِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَيَقُولُ: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود» وكان إذا استوى قال: «ربنا ولك الحمد» وربما ¬

(¬1) أحمد وأبو داود وابن ماجه. (¬2) مسلم وأبو عوانة. (¬3) مسلم.

فصل في كيفية سجوده

قال: «اللهم ربنا لك الحمد» وأما الجمع بين اللهم والواو، فَلَمْ يَصِحَّ (¬1) . وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ إِطَالَةُ هَذَا الركن بقدر الركوع، فصح عنه أنه كان يقول فيه: «اللهم ربنا لك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بينهما، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» (¬2) وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِيهِ: «اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَرَّرَ فِيهِ قَوْلَهُ: «لِرَبِّيَ الْحَمْدُ، لربي الحمد» (¬3) . حتى كان بقدر ركوعه. وذكر مسلم عَنْ أنس: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» قَامَ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ. ثُمَّ يَسْجُدُ ويقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم فهذا هديه المعلوم، وَتَقْصِيرُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ مِمَّا تَصَرَّفَ فِيهِ أُمَرَاءُ بني أمية حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ. [فَصْلٌ في كيفية سجوده] فَصْلٌ ثُمَّ كَانَ يُكَبِّرُ وَيَخِرُّ سَاجِدًا، وَلَا يرفع يديه. وكان يضع ركبتيه ثُمَّ يَدَيْهِ بَعْدَهُمَا، ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ. هذَا هو الصحيح (¬4) فكان أَوَّلُ مَا يَقَعُ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ الْأَقْرَبَ إليها فالأقرب، وأول ما يرتفع الأعلى فالأعلى، فإذا رفع رأسه أول، ثم يديه، ثم ركبتيه، وهكذا عكس فعل البعير. وهو نهي عن التشبه بالحيوانات في الصلاة، فَنَهَى عَنْ بُرُوكٍ كَبُرُوكِ الْبَعِيرِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ، وَافْتِرَاشٍ كَافْتِرَاشِ السَّبُعِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَنَقْرٍ كَنَقْرِ الْغُرَابِ، وَرَفْعِ الْأَيْدِي وَقْتَ السَّلَامِ كأذناب الخيل الشمس. وكان يَسْجُدُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ دُونَ كَوْرِ الْعِمَامَةِ، ولم يثبت عنه ¬

(¬1) البخاري في (2 / 234) صح عنه صلى الله عليه وسلم الجمع. (¬2) مسلم وأبو عوانة. (¬3) أبو داود والنسائي بسند صحيح. (¬4) اختار الإمام مالك وضع اليدين قبل الركبتين، وهو رواية عن الإمام أحمد وبعض أهل الحديث. وقال بعضهم: إن ركبتي البعير في يديه، ومخالفة التشبه تقتضي تأخر الركبتين وتقديم الكفين. وانظر تفصيل ذلك في " صفة صلاة النبي " للألباني ص 147.

فصل في كيفية جلوسه وإشارته في التشهد

السجود عليه، وكان يَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ كَثِيرًا، وَعَلَى الْمَاءِ وَالطِّينِ، وَعَلَى الْخُمْرَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ خُوصِ النَّخْلِ، وَعَلَى الْحَصِيرِ الْمُتَّخَذِ مِنْهُ، وَعَلَى الْفَرْوَةِ الْمَدْبُوغَةِ. وَكَانَ إِذَا سَجَدَ مَكَّنَ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ مِنَ الْأَرْضِ، ونحى يديه عن جنبيه، وجافاهما حتى يرى بياض إبطيه، وكان يضع يديه حذو منكبيه وأذنيه، ويعتدل فِي سُجُودِهِ، وَيَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ، ويبسط كفيه وأصابعه، ولا يفرج بينهما، ولا يقبضهما. وَكَانَ يَقُولُ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» (¬1) وَأَمَرَ بِهِ، ويقول: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي» (¬2) ويقول: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ» (¬3) . وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتَ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» (¬4) وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ» (¬5) وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغفر لي خطاياي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وخطاياي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» وَأَمَرَ بِالِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ، وَقَالَ: «إنه قمن أن يستجاب لكم» [فصل في كيفية جلوسه وإشارته في التشهد] فصل ثم يرفع رأسه مكبرا غير رافع يديه، ثم يجلس مفترشا يفرش اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، ويضع يديه على فخذيه، ويجعل مرفقيه على فخذيه، وطرف يده على ركبتيه، ويقبض اثنتين من أصابعه، وحلق حلقة، ثم يرفع إصبعه يدعو بها، ولا يحركها، ثم يقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي» هكذا ذكره ابن عباس عنه. وذكر حذيفة عنه أنه كان يقول: «رب اغفر لي» ثم ينهض على صدور ¬

(¬1) أحمد وأبو داود وابن ماجه. (¬2) البخاري ومسلم. (¬3) مسلم وأبو عوانة. (¬4) مسلم. (¬5) مسلم.

قدميه وركبتيه، معتمدا على فخذيه، فإذا نهض افتتح القراءة ولم يسكت، كما يسكت عند الاستفتاح. ثم يصلي الثانية كالأولى إِلَّا فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: السُّكُوتِ وَالِاسْتِفْتَاحِ، وَتَكْبِيرَةِ الإحرام، وتطويلها. فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، وَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فخذه الأيسر، ويده اليمنى على فخذه الأيمن، وأشار بالسبابة، وكان لا ينصبها نصبا، ولا يقيمها، بل يحنيها شيئا يسيرا، ولا يحركها، ويرفعها يدعو بها، ويرمي بصره إليها، ويبسط اليسرى على، وَيَتَحَامَلُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا صِفَةُ جُلُوسِهِ، فَكَمَا تَقَدَّمَ بين السجدتين سواء. وأما حديث ابن الزبير الذي رواه مسلم كَانَ إِذَا قَعَدَ فِي الصَّلَاةِ جَعَلَ قَدَمَهُ الأيسر بين فخذه وساقه، وفرش قدمه الأيمن. فهذا في التشهد الأخير. ذكر ابن الزبير أنه يفرش اليمين، وذكر أبو حميد أنه ينصبها، وهذا والله أعلم ليس باختلاف، فإنه كان لا يجلس عليها، بَلْ يُخْرِجُهَا عَنْ يَمِينِهِ، فَتَكُونُ بَيْنَ الْمَنْصُوبَةِ والمفروشة، أو يقال: كان يفعل هذا وهذا، فكان ينصبها، وربما فرشها أحيانا، وهو أروح. ثم كان يتشهد دائما بهذه الْجِلْسَةِ، وَيُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقُولُوا: «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أن محمدا عبده ورسوله» وكان يخففه جدا كأنه يصلي على الرضف (¬1) وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِي حَدِيثٍ قَطُّ أَنَّهُ كان يصلي عليه وعلى آله فيه، ولا يستعيذ فيه من عذاب القبر، وعذاب جهنم، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَمَنِ استحبه فإنما فهمه من عمومات قد تبين موقعها وَتَقْيِيدُهَا بِالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ. ثُمَّ كَانَ يَنْهَضُ مُكَبِّرًا عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ، وَعَلَى رُكْبَتَيْهِ، مُعْتَمِدًا عَلَى فخذيه. وفي " صحيح مسلم " وبعض طرق البخاري أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، ثُمَّ كَانَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَحْدَهَا، وَلَمْ يَثْبُتْ عنه أنه قرأ في الأخيرتين بعد الفاتحة شيئا. ولم يكن من هديه الالتفات في الصلاة. وفي " صحيح البخاري " أنه سئل عنه، فَقَالَ: «هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ العبد» وكان يفعله في الصلاة أحيانا لعارض، لم يكن ¬

(¬1) الرضف: الحجرات المحماة بالنار.

من فعله الراتب، كالتفاته إلى الشعب الذي بعث إليه الطليعة (¬1) والله أعلم. وكان يدعو بَعْدَ التَّشَهُّدِ، وَقَبْلَ السَّلَامِ، وَبِذَلِكَ أَمَرَ فِي حديث أبي هريرة وحديث فضالة. وأما الدعاء بعد السلام مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ أَوِ الْمَأْمُومِينَ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ من هديه أصلا وَعَامَّةُ الْأَدْعِيَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالصَّلَاةِ إِنَّمَا فَعَلَهَا فِيهَا وَأَمَرَ بِهَا فِيهَا. وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِحَالِ المصلي، فإنه مقبل على ربه، فإذا سلم زال ذلك. ثُمَّ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَعَنْ يساره كذلك» ، هذا كان فعله الراتب، وروي عنه أنه كان يسلم تسليمة واحدة من تلقاء وجهه، لكن لم يثبت، وأجود ما فيه حديث عائشة وهو في " السنن "، لكنه في قيام الليل، وهو حديث معلول، على أنه لَيْسَ صَرِيحًا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى التَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ. وكان يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ» وَكَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ أَيْضًا: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَوَسِّعْ لِي فِي داري، وبارك لي في ما رَزَقْتَنِي» وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، وأسألك لسانا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تعلم» والمحفوظ في أدعيته كلها في الصلاة بلفظ الإفراد. «وكان إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ طَأْطَأَ رَأْسَهُ» ، ذَكَرَهُ أحمد، «وَكَانَ فِي التَّشَهُّدِ لَا يُجَاوِزُ بَصَرُهُ إِشَارَتَهُ» ، وقد جعل الله قرة عينه ونعيمه في الصلاة، فكان يقول: «يا بلال أرحنا بالصلاة» ولم يشغله ذلك عن مراعاة المأمومين مع كمال حضور قلبه. «وَكَانَ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ يُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَيُخَفِّفُهَا مَخَافَةَ أَنْ يَشُقَّ على أمه» ، وَكَذَلِكَ «كَانَ يُصَلِّي الْفَرْضَ وَهُوَ حَامِلٌ أمامة بنت ابنته عَلَى عَاتِقِهِ، إِذَا قَامَ حَمَلَهَا، وَإِذَا رَكَعَ وسجد وضعها» ، «وكان يصلي فيجيء الحسن والحسين فيركبان على ظَهْرَهُ، فَيُطِيلُ السَّجْدَةَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُلْقِيَهُ عَنْ ظهره» ، «وكان يصلي فتجيء عائشة فيمشي، فيفتح لها الباب، ثم يرجع ¬

(¬1) وكان ذلك في صلاة الصبح، وقد أَرْسَلَ فَارِسًا إِلَى الشِّعْبِ مِنَ اللَّيْلِ يَحْرُسُ.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سجود السهو

إلى مصلاه» . «وكان يرد السلام بالإشارة» (¬1) . وأما حديث «من أشار في صلاته فليعدها» فحديث باطل. وكان ينفخ في صلاته، ذكره أحمد وكان يبكي فيها، ويتنحنح لحاجة. «وكان يصلي حافيا تارة، ومنتعلا أخرى» (¬2) وأمر بالصلاة في النعل مخالفة اليهود وَكَانَ يُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ تَارَةً، وَفِي الثَّوْبَيْنِ تَارَةً وَهُوَ أَكْثَرُ. وَقَنَتَ فِي الْفَجْرِ بعد الركوع شهرا ثم ترك، وكان قنوته لعارض، فلما زال تركه، فكان هديه الْقُنُوتَ فِي النَّوَازِلِ خَاصَّةً، وَتَرْكَهُ عِنْدَ عَدِمِهَا، وَلَمْ يَكُنْ يَخُصُّهُ بِالْفَجْرِ، بَلْ كَانَ أَكْثَرُ قنوته فيه لأجل ما يشرع فيه من الطول، ولقربها من السحر وساعة الإجابة، والتنزل الإلهي. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سجود السهو] فَصْلٌ وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنما أنا بشر أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» وَكَانَ لسهوه من تمام النعمة على أمته، وإكمال دينهم، ليقتدوا به، فقام من اثنتين في الرباعية. فلما قضى صلاته، سجد قبل السلام، فأخذ منه أَنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ التي ليست بأركان سَجَدَ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَأُخِذَ مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ ذَلِكَ، وَشَرَعَ فِي ركن لم يرجع. «وسلم من ركعتين في إحدى صلاتي العشاء، ثُمَّ تَكَلَّمَ، ثُمَّ أَتَمَّهَا، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سجد ثم سلم. وصلى وسلم، وانصرف وقد بقي من الصلاة ركعة، فقال له طلحة: نسيت ركعة. فرجع فدخل المسجد، فأمر بلالا فأقام، فصلى للناس ركعة» ، ذكره أحمد. صلى الظهر خمسا، فقالوا: صليت خمسا. فسجد بعد ما سلم. وَصَلَّى الْعَصْرَ ثَلَاثًا ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَذَكَّرَهُ النَّاسُ، فَخَرَجَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ، ثم سجد، ثم سلم. هذا مجموع ما حفظ عنه، وهي خمسة مواضع. ولم يكن من هديه تغميض عينيه في الصلاة، وكرهه أحمد وغيره، وقالوا: هو من فعل اليهود وأباحه جماعة، والصواب أن الفتح إن كان لا يخل بالخشوع، فهو أفضل، وإن حال بينه وبين الخشوع ¬

(¬1) أحاديث رد السلام بالإشارة، كثيرة وصريحة وقد تلقتها الأمة بالقبول، وهي في " السنن " و " المسند " ومع ذلك يقوم بالإنكار على من يحي هذه السنة. (¬2) لحديث أبو داود والبزار وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

لما في قبلته من الزخرف وغيره، فهناك لا يكره. «وكان إذا سلم استغفر ثلاثا» ، ثم قال: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذا الجلال والإكرام» (¬1) ولا يمكث مستقبل القبلة إلا بقدر ذلك، ويسرع الانفتال إلى المأمومين. وكان ينقل عن يمينه وعن يساره، ثُمَّ كَانَ يُقْبِلُ عَلَى الْمَأْمُومِينَ بِوَجْهِهِ، وَلَا يَخُصُّ نَاحِيَةً مِنْهُمْ دُونَ نَاحِيَةٍ. وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشمس حسناء. وَكَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلَّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذا الجد منك الجد، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ، وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، ولو كره الكافرون» وَنَدَبَ أُمَّتَهُ إِلَى أَنْ يَقُولُوا فِي دُبُرِ كل صلاة مكتوبة: «سُبْحَانَ اللَّهِ. ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. ثَلَاثًا وثلاثين، والله أكبر ثلاثا وثلاثين ; وَتَمَامُ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وهو على كل شيء قدير» (¬2) . وَذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " عَنِ الحارث بن مسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إذا صليت الصبح، فَقُلْ قَبْلَ أَنْ تَتَكَلَّمَ: اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ مِنْ يومك كتب الله لك جوازا مِنَ النَّارِ، وَإِذَا صَلَّيْتَ الْمَغْرِبَ، فَقُلْ قَبْلَ أَنْ تَتَكَلَّمَ: اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ، سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، كَتَبَ الله لك جوازا من النار» وكان إذا صلى إلى جدار ; جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَدْرَ مَمَرِّ الشَّاةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَتَبَاعَدُ مِنْهُ، بَلْ «أَمَرَ بِالْقُرْبِ مِنَ السُّتْرَةِ» ، «وَكَانَ إِذَا صَلَّى إِلَى عُودٍ، أَوْ عَمُودٍ، أَوْ شَجَرَةٍ، جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ، أَوِ الْأَيْسَرِ، وَلَمْ يَصْمُدْ لَهُ صَمْدًا،» «وَكَانَ يَرْكُزُ الْحَرْبَةَ فِي السَّفَرِ، وَالْبَرِّيَّةِ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا، فَتَكُونُ سُتْرَتَهُ» ، «وَكَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا» ، «وكان يأخذ الرحل، فيعدله، ويصلي ¬

(¬1) رواه الجماعة إلا البخاري. (¬2) البخاري ومسلم وأحمد.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في السنن الرواتب والتطوعات

إِلَى آخِرَتِهِ» ، «وَأَمَرَ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَسْتَتِرَ ; وَلَوْ بِسَهْمٍ، أَوْ عَصًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَلْيَخُطَّ خطا بالأرض» ، فإن لم تكن سترة، فقد صح عنه أنه: «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود» ومعارضه صحيح ليس بصريح، أو صريح ليس بصحيح. وكان يصلي وعائشة نائمة في قبلته، وليس كالمار، فإن الرجل يحرم عليه المرور، وَلَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَكُونَ لَابِثًا بَيْنَ يدي المصلي. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنن الرواتب والتطوعات] فصل وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَافِظُ عَلَى عَشْرِ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ دَائِمًا، وَهِيَ الَّتِي قَالَ فيها ابن عمر: «حفظت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وركعتين بعد المغرب، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صلاة الفجر» «ولما فاتته الركعتان بعد الظهر، قضاهما في وقت النهي بعد العصر» ، «وكان يصلي أحيانا قبل الظهر أربعا» ، وأما الركعتان قبل المغرب، فصح عنه أنه قال: «صلوا قبل المغرب ركعتين وقال فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ كَرَاهَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا الناس سنة» ، وهذا هو الصواب ; أنها مستحبة، وليست سنة راتبة. وَكَانَ يُصَلِّي عَامَّةَ السُّنَنِ وَالتَّطَوُّعَ الَّذِي لَا سَبَبَ لَهُ فِي بَيْتِهِ لَا سِيَّمَا سُنَّةُ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَهَا في المسجد ألبتة، وله فعلها في المسجد، وكان محافظته عَلَى سُنَّةِ الْفَجْرِ أَشَدَّ مِنْ جَمِيعِ النَّوَافِلِ، وكذلك لم يكن يدعها هي والوتر، لا حضرا ولا سفرا، ولم ينقل عنه أنه صلى في السفر سنة راتبة غيرهما. وقد اختلف الفقهاء أيهما آكد؟ وسنة الْفَجْرِ تَجْرِي مَجْرَى بِدَايَةِ الْعَمَلِ، وَالْوِتْرُ خَاتَمَتُهُ، ولذلك كان يصليهما بسورتي (الإخلاص) و (الكافرون) وَهُمَا الْجَامِعَتَانِ لِتَوْحِيدِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَتَوْحِيدِ الْمَعْرِفَةِ والإرادة، وتوحيد الاعتقاد والقصد، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] متضمنة لما يجب إثباته له تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشركة بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد المقرر لكمال صمديته وغناه ووحدانيته، ونفي الكفء المتضمن لنفي الشبيه والمثيل والنظر، فتضمنت إثبات كل كمال، ونفي كل نقص، ونفي إثبات شبيه له أو مثيل في كماله، ونفي مطلق الشركة، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الَّذِي يُبَايِنُ صَاحِبُهُ جَمِيعَ فِرَقِ الضَّلَالِ وَالشِّرْكِ، ولهذا كانت تعدل ثلث القرآن، فإن مَدَارُهُ عَلَى الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ، وَالْإِنْشَاءُ

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في قيام الليل

ثَلَاثَةٌ: أَمْرٌ، وَنَهْيٌ، وَإِبَاحَةٌ. وَالْخَبَرُ نَوْعَانِ: خَبَرٌ عَنِ الْخَالِقِ تَعَالَى، وَأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَحْكَامِهِ، وَخَبَرٌ عن خلقه. فأخلصت سورة الإخلاص للخبر عَنْهُ، وَعَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَعَدَلَتْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وخلصت قارئها من الشرك العلمي كما خلصته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] من الشرك العملي، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ قَبْلَ الْعَمَلِ وَهُوَ إِمَامُهُ وسائقه، والحاكم عليه كانت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] تعدل ربع القرآن. ولما كان الشرك العملي أغلب على النفوس لمتابعة الهوى، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته، وقلعه أشد من قلع الشرك العلمي، لأنه يزول بالحجة، وَلَا يُمْكِنُ صَاحِبُهُ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ عَلَى غير ما هو عليه، جاء التأكيد والتكرير في {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ولهذا كان يقرأ بهما في ركعتي الطواف، لأن الحج شعار التوحيد، ويفتح بهما عمل النهار، ويختم بهما عمل الليل. وكان يَضْطَجِعُ بَعْدَ سُنَّةِ الْفَجْرِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وقد غلا فيها طائفتان، فأوجبها طائفة من أهل الظاهر، وكرهها جماعة، وَسَمَّوْهَا بِدْعَةً، وَتَوَسَّطَ فِيهَا مالك وَغَيْرُهُ، فَلَمْ يَرَوْا بِهَا بَأْسًا لِمَنْ فَعَلَهَا رَاحَةً، وَكَرِهُوهَا لمن فعلها استسنانا. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قيام الليل لم يكن صلى الله عليه وسلم يدع صلاة الليل حضرا ولا سفرا، وإذا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ اثنتي عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لا يقضى، لفوات محله، كتحية المسجد، والكسوف، والاستسقاء، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ أَنْ يَكُونَ آخِرُ صَلَاةِ الليل وترا. وكان قيامه بِاللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ ركعة، حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَاخْتُلِفَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، هَلْ هُمَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ، أم غَيْرُهُمَا؟ . فَإِذَا انْضَافَ ذَلِكَ إِلَى عَدَدِ رَكَعَاتِ الْفَرْضِ، وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ الَّتِي كَانَ يُحَافِظُ عَلَيْهَا، جَاءَ مَجْمُوعُ وِرْدِهِ الرَّاتِبِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَرْبَعِينَ ركعة، كان يحافظ عليها دائما، وما زاد على ذلك فغير راتب. فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى هَذَا الْوِرْدِ دَائِمًا إِلَى الْمَمَاتِ، فَمَا أَسْرَعَ الْإِجَابَةَ،

وَأَعْجَلَ فَتْحَ الْبَابِ لِمَنْ يَقْرَعُهُ كُلَّ يَوْمٍ وليلة أربعين مرة، والله المستعان. «وكان إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي، وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ، اللَّهُمَّ زِدْنِي عِلْمًا، وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي، وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» «وَكَانَ إِذَا انْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ثُمَّ يَتَسَوَّكُ، وربما قرأ عشر الآيات من آخر سورة (آلِ عِمْرَانَ) مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190] ثم يتطهر، ثم يصلي ركعتين خَفِيفَتَيْنِ،» وَأَمَرَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «وكان يقوم إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بعده بقليل» ، وَكَانَ يَقْطَعُ وِرْدَهُ تَارَةً، وَيَصِلُهُ تَارَةً، وَهُوَ الأكثر، فتقطيعه كما قال ابن عباس: «إنه بعد ما صلى ركعتين انصرف، فنام، فعل ذلك ثلاث مرات في ست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ ثم أوتر بثلاث.» وكان وتره أنواعا، منها: هذا، ومنها: أن «يصلي ثماني ركعات يسلم بعد كل ركعتين، ثم يوتر بخمس سردا متواليات، لا يجلس إلا في آخرهن» ، «ومنها: تِسْعُ رَكَعَاتٍ يَسْرُدُ مِنْهُنَّ ثَمَانِيًا، لَا يَجْلِسُ إلا في الثامنة، يجلس فيذكر الله، وَيَحْمَدُهُ، وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يصلي التاسعة، ثم يقعد فيتشهد ويسلم، ثم يصلي بعدها ركعتين بعد ما يسلم» . ومنها أن «يُصَلِّي سَبْعًا، كَالتِّسْعِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا ركعتين جالسا» . ومنها: أن «يُصَلِّي مَثْنَى مَثْنَى، ثُمَّ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يفصل بينهن» ، فهذا رواه أحمد، عَنْ عائشة، أَنَّهُ: «كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا فصل فيهن» . وفيه نظر، ففي " صحيح ابن حبان " عن أبي هريرة مرفوعا: «لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثٍ، أَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ، ولا تشبهوا بصلاة المغرب» قال الدارقطني وإسناده كلهم ثقات. قال حرب: سُئِلَ أحمد عَنِ الْوِتْرِ ; قَالَ: يُسَلِّمُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ، رَجَوْتُ أَلَّا يَضُرَّهُ، إِلَّا أَنَّ التَّسْلِيمَ أَثْبَتُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال في رواية أبي طالب: أَكْثَرَ الْحَدِيثِ وَأَقْوَاهُ رَكْعَةٌ، فَأَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهَا. ومنها مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ حذيفة أَنَّهُ: «صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة رَمَضَانَ، فَرَكَعَ، فَقَالَ فِي رُكُوعِهِ:

سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ مِثْلَ مَا كَانَ قَائِمًا» ، الحديث (¬1) . وفيه: «فَمَا صَلَّى إِلَّا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، حَتَّى جَاءَ بِلَالٌ يَدْعُوهُ إِلَى الْغَدَاةِ» . وَأَوْتَرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ ووسطه، وآخره، وقام ليلة بآية يتلوها، ويرددها حتى الصباح {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الْمَائِدَةِ: 118] (¬2) . وَكَانَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ أَكْثَرُهَا، صَلَاتُهُ قَائِمًا. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يصلي قَاعِدًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا، فَإِذَا بَقِيَ يَسِيرٌ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَامَ فَرَكَعَ قَائِمًا، وثبت عنه أنه كان يصلي ركعتين بعد الوتر جَالِسًا تَارَةً، وَتَارَةً يَقْرَأُ فِيهِمَا جَالِسًا، فَإِذَا أراد أن يركع قام فركع. وقد أشكل هذا على كثير، وظنوه معارضا لقوله: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا» قال أَحْمَدُ لَا أَفْعَلُهُ وَلَا أَمْنَعُ مَنْ فَعْلَهُ، قال: وأنكره مالك والصواب أن الوتر عبادة مستقلة. فَتَجْرِي الرَّكْعَتَانِ بَعْدَهُ مَجْرَى سُنَّةِ الْمَغْرِبِ مِنَ المغرب، فهما تكميل للوتر. وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَنَتَ فِي الْوِتْرِ، إِلَّا فِي حَدِيثٍ رواه ابن ماجه قال أحمد: لَيْسَ يُرْوَى فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ، وَلَكِنْ كَانَ عمر يَقْنُتُ من السنة إلى السنة. وروى أهل " السنن " حديث الحسن بن علي وقال الترمذي حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الوجه من حديث أبي هريرة (¬3) السعدي انْتَهَى، وَالْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ مَحْفُوظٌ عَنْ عمر، وأبي، وابن مسعود وَذَكَرَ أبو داود وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «كان يقرأ في الوتر بـ (سبح) و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: " سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ " ثلاث مرات يمد صوته في الثالثة ويرفع» وكان صلى الله عليه وسم يُرَتِّلُ السُّورَةَ حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ منها، والمقصود من القرآن تدبره وتفهمه، والعمل به. وتلاوته، وحفظه ¬

(¬1) وتمامه: ثُمَّ جَلَسَ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي، مِثْلَ مَا كَانَ قَائِمًا، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، مِثْلَ مَا كَانَ قَائِمًا فَمَا صَلَّى إلا أربع كعات، حتى جاء بلال يدعوه الغداة. (¬2) 122 المائدة. (¬3) في الأصل: أبي الجون، وهو تحريف من الناسخ، ونص الدعاء كما في الترمذي (464 عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ) : اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وبارك لي فيما أعطيت، وقني واصرف عني شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عليك، وإنه لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ " وإسناده صحيح.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الضحى

وَسِيلَةٌ إِلَى مَعَانِيهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أنزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا. قال شعبة: حدثنا أبو حمزة قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي رَجُلٌ سَرِيعُ القراءة، وربما قرأت القرآن في الليلة مرة أو مرتين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لَأَنْ أَقْرَأَ سُورَةً وَاحِدَةً، أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ الَّذِي تَفْعَلُ، فَإِنْ كُنْتَ فاعلا لا بد، فاقرأ قراءة تسمع أذنيك، ويعيه قلبك. وقال إبراهيم: قرأ علقمة على عبد الله، فَقَالَ: رَتِّلْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، فَإِنَّهُ زَيْنُ القرآن. وقال عبد الله: لَا تَهُذُّوا الْقُرْآنَ هَذَّ الشِّعْرِ، وَلَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ. وقال: إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَأَصْغِ لَهَا سَمْعَكَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، أو شر تنهى عنه. وقال عبد الرحمن بن أبي ليل: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ وَأَنَا أَقْرَأُ (سُورَةَ هُودٍ) فقالت لي: يَا عبد الرحمن هَكَذَا تَقْرَأُ سُورَةَ هُودٍ؟ ! وَاللَّهِ إِنِّي فِيهَا مُنْذُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَمَا فَرَغْتُ مِنْ قِرَاءَتِهَا. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسر بالقرآن في صلاة الليل تارة، ويجهر تارة، ويطيل القيام تارة، ويخففه تَارَةً، وَكَانَ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى راحلته في السفر، قبل أي وجه تَوَجَّهَتْ بِهِ، فَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ عَلَيْهَا إِيمَاءً، وَيَجْعَلُ سجوده أخفض من ركوعه. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الضحى] فصل روى البخاري في صحيحه عن عائشة قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا. » وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: «أوصاني خليلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قبل أن أرقد» ولمسلم عن زيد ابن أرقم مرفوعا: «صلاة الأوابين حين تَرْمَضُ الْفِصَالُ» أَيْ: يَشْتَدُّ حَرُّ النَّهَارِ، فَتَجِدُ الفصال حر الرمضاء، فقد أوصى بها، وكان يستغني عنها بقيام الليل. قال مسروق: كنا نصلي فِي الْمَسْجِدِ، فَنَبْقَى بَعْدَ قِيَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ثم نقوم فنلي الضحى، فبلغه، فَقَالَ: لِمَ تُحَمِّلُونَ عِبَادَ اللَّهِ مَا لَمْ يُحَمِّلْهُمُ اللَّهُ؟ إِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ ففي بيوتكم. وقال سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنِّي لَأَدَعُ صَلَاةَ الضُّحَى وأنا أشتهيها،

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الجمعة

مخافة أن أراها حتما علي. «وكان من هديه صلى الله عليه وسلم وَهَدْيِ أَصْحَابِهِ، سُجُودُ الشُّكْرِ عِنْدَ تَجَدُّدِ نِعْمَةٍ تسر، أو اندفاع نقمة» ، «وكان صلى الله عليه وسلم إذا مر بآية سجدة - كَبَّرَ وَسَجَدَ، وَرُبَّمَا قَالَ فِي سُجُودِهِ: سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بحوله وقوته» ولم ينقل عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ لِلرَّفْعِ مِنْ هَذَا السجود، ولا تشهد، ولا سلم ألبتة. وصح عنه أَنَّهُ سَجَدَ فِي (الم تَنْزِيلُ) وَفِي (ص) وفي (اقرأ) وَفِي (النَّجْمِ) وَفِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] وَذَكَرَ أبو داود، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي المفصل، وفي (سورة الحج) سجدتين. وأما حديث ابن عباس، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْجُدْ فِي المفصل منذ تحول إلى المدينة، فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، فِي إِسْنَادِهِ أبو قدامة الحارث بن عبيد، ولا يحتج بحديثه، وأعله ابن القطان بمطر الوراق، وقال: كان يشبه فِي سُوءِ الْحِفْظِ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَعِيبَ عَلَى مسلم إِخْرَاجُ حديثه. انتهى. وَلَا عَيْبَ عَلَى مسلم فِي إِخْرَاجِ حَدِيثِهِ لِأَنَّهُ يَنْتَقِي مِنْ أَحَادِيثِ هَذَا الضَّرْبِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حَفِظَهُ، كَمَا يَطْرَحُ مِنْ أَحَادِيثِ اليقظة ما يعلم أنه غلط فيه، فمن الناس من صحح جميع أحاديث هؤلاء الثقات، ومنهم من ضعف جميع حديث السيئ الْحِفْظِ، فَالْأُولَى طَرِيقَةُ الحاكم وَأَمْثَالِهِ، وَالثَّانِيَةُ طَرِيقَةُ ابن حزم وَأَشْكَالِهِ، وَطَرِيقَةُ مسلم هِيَ طَرِيقَةُ أئمة هذا الشأن. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجمعة] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجمعة وذكر خصائص يومها صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا وكان لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم لنا تبع يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ» وللترمذي وصححه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» .

ورواه في الموطأ وصححه الترمذي أيضا بلفظ: «خير يوم طلعت فيه الشمس، فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَاتَ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقًا من الساعة، إلا الجن والإنس، وفيها سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ يُصَلِّي يسأل الله شيئا إلا أعطاه الله إِيَّاهُ» قَالَ كعب: ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يوم. فقلت: بل كل جمعة. فقرأ التَّوْرَاةَ فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال أبو هريرة: ثم لقيت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ فَحَدَّثْتُهُ بِمَجْلِسِي مَعَ كعب، فقال: لقد علمت أي سَاعَةٍ هِيَ قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي بِهَا. قَالَ: هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ. فَقُلْتُ: كَيْفَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي» وَتِلْكَ السَّاعَةُ لَا يُصَلَّى فِيهَا. فَقَالَ ابن سلام: ألم يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فهو في صلاة حتى يصلي» وفي لفظ في مسند أحمد في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: لِأَنَّ فِيهَا طُبِعَتْ طِينَةُ أَبِيكَ آدَمَ، وَفِيهَا الصَّعْقَةُ وَالْبَعْثَةُ، وَفِيهَا الْبَطْشَةُ، وَفِي آخِرِهِ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ، مِنْهَا سَاعَةٌ مَنْ دَعَا الله فيها استجيب له» وذكر ابن إسحاق عَنْ عبد الرحمن بن كعب بن مالك قَالَ: كُنْتُ قَائِدَ أَبِي حِينَ كُفَّ بَصَرُهُ، فَإِذَا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الأذان لها، استغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة، فكنت حيا أسمع ذلك منه، فقلت: إن عجزا أن لا أسأله. فَقُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ أَرَأَيْتَ اسْتِغْفَارَكَ لِأَسْعَدَ بْنِ زرارة كلما سمعت الأذان بالجمعة؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ كَانَ أسعد أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي هَزْمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، فِي نَقِيعٍ يُقَالُ له نقيع الخضمات. قلت: وكم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا. قال البيهقي هذا حسن صحيح الإسناد. انتهى. ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فأقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وَأَسَّسَ مَسْجِدَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَدْرَكَتْهُ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فَصَلَّاهَا في المسجد الذي في بطن الوادي قبل تأسيس مسجده. قال ابن إسحاق: وكانت أول خطبة خطبها فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرحمن - وأعوذ بالله أن أقول

فصل في تعظيم يوم الجمعة

على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل - «أنه قام فيهم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ، تَعْلَمُنَّ وَاللَّهِ لَيُصْعَقَنَّ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَهُ، لَيْسَ لَهَا رَاعٍ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ ربه ليس بينه وبينه تُرْجُمَانٌ، وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ، أَلَمْ يَأْتِكَ رَسُولِي فَبَلَّغَكُ، وَآتَيْتُكَ مَالًا، وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكَ فَمَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ؟ فَلَيَنْظُرَنَّ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَلَا يَرَى شَيْئًا، ثُمَّ لَيَنْظُرَنَّ قُدَّامَهُ فَلَا يَرَى غَيْرَ جَهَنَّمَ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ مِنَ النار ولو بشق تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، فَإِنَّ بِهَا تُجْزَى الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. » قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، نَعُوذُ بِاللَّهِ من شرور أنفسنا، ومن سيئات أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ، فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ، فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شريك لَهُ. إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَيَّنَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ، فَاخْتَارَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ النَّاسِ، إِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَبْلَغُهُ، أَحِبُّوا مَا أَحَبَّ اللَّهُ، أَحِبُّوا اللَّهَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَلَا تَمَلُّوا كَلَامَ اللَّهِ وَذِكْرَهُ، وَلَا تَقْسُ عَنْهُ قُلُوبُكُمْ، فَإِنَّهُ مِنْ كُلِّ مَا يَخْلُقُ اللَّهُ يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي، قَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ خِيرَتَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَمُصْطَفَاهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَالصَّالِحَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَمِنْ كُلِّ مَا أُوتِيَ النَّاسُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَاصْدُقُوا اللَّهَ صَالِحَ مَا تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ، وَتَحَابُّوا بروح الله بينكم، إن الله يبغض أَنْ يُنْكَثَ عَهْدُهُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركاته» [فصل في تعظيم يوم الجمعة] فصل في تعظيم يوم الجمعة وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعظيم هذا اليوم وتشريفه، وتخصيصه بخصائص منها: أنه يقرأ في فجره بـ {الم} [السجدة: 1] السجدة) و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] فإنهما تضمنتا ما كان وما يكون في يومها. ومنها: استحباب كثرة الصلاة فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ليلته، لأن كُلَّ خَيْرٍ نَالَتْهُ أُمَّتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فعلى يديه، وأعظم كرامة تحصل لهم يَوْمَ الْجُمُعَةِ: فَإِنَّ فِيهِ بَعْثَهُمْ إِلَى مَنَازِلِهِمْ

فِي الْجَنَّةِ، وَهُوَ يَوْمُ الْمَزِيدِ لَهُمْ إِذَا دخلوها، وقربهم من ربهم يوم القيامة، وسبقهم إلى الزيادة بِحَسْبِ قُرْبِهِمْ مِنَ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَتَبْكِيرِهِمْ إليها. ومنها: الاغتسال فِي يَوْمِهَا، وَهُوَ أَمْرٌ مُؤَكَّدٌ جِدًّا، وَوُجُوبُهُ أقوى من وجوب الوضوء من مس الذكر، والرعاف، وَالْقَيْءِ، وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في التشهد الأخير. ومنها: الطيب والسواك، ولها مزية فيه على غيره. ومنها التبكير، والاشتغال بذكر الله تعالى، والصلاة إلى خروج الإمام. ومنها: الإنصات للخطبة وجوبا. ومنها: قراءة (الجمعة) و (المنافقين) أو (سبح) و (الغاشية) . ومنها: أن يلبس فيه أحسن ثيابه. ومنها: أن للماشي إليها بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها. ومنها: أنه يكفر السيئات. ومنها: ساعة الإجابة. وكان صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ ومساكم. «وكان يقول في خطبته: " أما بعد» ، ويقصر الخطبة، ويطيل الصلاة، وَكَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ فِي خُطْبَتِهِ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ، وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فِي خُطْبَتِهِ إِذَا عَرَضَ له أمر، كَمَا أَمَرَ الدَّاخِلَ وَهُوَ يَخْطُبُ أَنْ يُصَلِّيَ ركعتين، وإذا رأى بهم ذا فاقة من حاجة، أمرهم بالصدقة، وحضهم عليها. وكان يشير في خطبته بإصبعه السبابة عند ذكر الله ودعائه. وكان يستسقي إذا قحط المطر في خطبته، ويخرج إذا اجتمعوا، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا صَعِدَ المنبر، استقبلهم بوجهه، وسلم عليهم ثُمَّ يَجْلِسُ، وَيَأْخُذُ بلال فِي الْأَذَانِ، فَإِذَا فرغ، قام وخطب، ويعتمد على قوس أو عصا، وَكَانَ مِنْبَرُهُ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ قَبْلَ اتِّخَاذِهِ يخطب إلى جذع، ولم يوضع المنبر في وسط المسجد، بل في جانبه الغربي، بينه وبين الحائط قدر ممر شاة، وكان إذا جلس عليه في غير الجمعة، أو خطب قائما يوم الجمعة، استدار أصحابه إليه بوجوههم، وَكَانَ يَقُومُ فَيَخْطُبُ، ثُمَّ يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ الثَّانِيَةَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أخذ بلال في الإقامة. وكان يأمر بالدنو منه والإنصات، ويخبر أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ: أَنْصِتْ. فَقَدْ لغا، ومن لغا فلا جمعة له. وكان إذا صلى الجمعة دخل مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ

في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة العيدين

سُنَّتَهَا، وَأَمَرَ مَنْ صَلَّاهَا أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهَا أربعا. قال شيخنا: إذا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ صَلَّى أَرْبَعًا، وَإِنْ صَلَّى في بيته صلى ركعتين. [فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صلاة العيدين] وكان يصلي العيدين في المصلى، وهو الذي على باب المدينة الشرقي، الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ مَحْمِلُ الْحَاجِّ، وَلَمْ يُصَلِّ العيد بمسجده إلا مرة أصابهم مطر - إِنْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ - وَهُوَ فِي "سُنَنِ أبي داود " وكان يلبس أجمل ثيابه، ويأكل في عيد الفطر قبل خروجه تمرات، ويأكلهن وترا، وأما في الْأَضْحَى فَكَانَ لَا يَطْعَمُ حَتَّى يَرْجِعَ مِنَ المصلى، فيأكل من أضحيته، وكان يغتسل للعيد - إن صح - وفيه حديثان ضعيفان، لكن ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَعَ شِدَّةِ اتَّبَاعِهِ للسنة. وكان يَخْرُجُ مَاشِيًا وَالْعَنَزَةُ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِذَا وصل نصبت ليصلي إليها، فإن المصلى لم يكن فيه بناء، وَكَانَ يُؤَخِّرُ صَلَاةَ عِيدِ الْفِطْرِ، وَيُعَجِّلُ الْأَضْحَى. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ مَعَ شِدَّةِ اتِّبَاعِهِ لِلسُّنَّةِ، لَا يَخْرُجُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيُكَبِّرُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى الْمُصَلَّى. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْمُصَلَّى، أَخَذَ فِي الصلاة، بغير أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، وَلَا قَوْلِ: " الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ " وَلَمْ يَكُنْ هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ يُصَلُّونَ إِذَا انتهوا إلى المصلى، لا قبلها وَلَا بَعْدَهَا. وَكَانَ يَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فيصلي ركعتين، يكبر في الأولى سبعا متوالية بتكبيرة الإحرام، بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ سَكْتَةً يَسِيرَةً، وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ ذِكْرٌ مُعَيَّنٌ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ، وَلَكِنْ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: يَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم. وكان ابن عمر يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَمَّ التَّكْبِيرَ أَخَذَ في القراءة، فقرأ في الأولى الفاتحة، ثم (ق) وفي الثانية (اقتربت) وربما قرأ فيهما ب (سبح) و (الغاشية) وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِذَا فَرَغَ من القراءة كبر وركع، ثم يكبر في الثانية خمسا متوالية، ثم أخذ في القراءة، فإذا انصرف، قام مقابل الناس وهم جلوس على صفوفهم، فيعظهم وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ، أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ، ولم يكن هناك منبر، وإنما كان يخطب على الأرض. وأما قوله في حديث في "الصحيحين «ثم نزل فأتى النساء» . إلى آخره، فلعله كان يقوم على مكان مرتفع. وأما منبر المدينة، فأول من أخرجه

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف

مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مِنْبَرُ اللَّبِنِ وَالطِّينِ، فَأَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ كثير بن الصلت في إمارة مروان على المدينة. ورخص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ شَهِدَ الْعِيدَ أَنْ يَجْلِسَ لِلْخُطْبَةِ، وَأَنْ يَذْهَبَ، وَرَخَّصَ لَهُمْ إِذَا وَقَعَ الْعِيدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْ يَجْتَزِئُوا بصلاة العيد عن الجمعة، وكان يخالف الطريق يوم العيد. «وروي أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ» [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الكسوف] فصل ولما كسفت الشمس، خرج إِلَى الْمَسْجِدِ مُسْرِعًا فَزِعًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَكَانَ كُسُوفُهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عَلَى مِقْدَارِ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِنْ طُلُوعِهَا، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، قرأ في الأولى بالفاتحة وسورة طويلة، وجهر بِالْقِرَاءَةِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ لما رفع رأسه من الركوع: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الْحَمْدُ» ثُمَّ أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سجد، فأطال السجود، ثم فعل في الأخرى مثل ما فعل في الأولى، فاستكمل في الركعتين أربع ركوعات، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. وَرَأَى فِي صَلَاتِهِ تِلْكَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَهَمَّ أَنْ يَأْخُذَ عُنْقُودًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيُرِيَهُمْ إِيَّاهُ، وَرَأَى أَهْلَ الْعَذَابِ فِي النَّارِ، فَرَأَى امْرَأَةً تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ رَبَطَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا وَعَطَشًا، وَرَأَى عمرو بن مالك (¬1) يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ، وَرَأَى فِيهَا سَارِقَ الْحَاجِّ يُعَذَّبُ، ثم انصرف فخطب خطبة بليغة، فروى الإمام أحمد أنه لَمَّا سَلَّمَ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَشَهِدَ أن لا إله إلا الله، وشهد أنه عبده ورسوله ثم: «أيها الناس أنشدكم بالله إن كنتم تعلمون أني قصرت عن شَيْءٍ مِنْ تَبْلِيغِ رِسَالَاتِ رَبِّي لَمَّا أَخْبَرْتُمُونِي ذلك؟ فقام رجال، فقالوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ رِسَالَاتِ رَبِّكَ، وَنَصَحْتَ لِأُمَّتِكَ، وَقَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ رِجَالًا يَزْعُمُونَ أَنَّ كُسُوفَ هَذِهِ الشمس، ¬

(¬1) في الأصل: عامر وهو تحريف.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء

وَكُسُوفَ هَذَا الْقَمَرِ، وَزَوَالَ هَذِهِ النُّجُومِ عَنْ مَطَالِعِهَا لِمَوْتِ رِجَالٍ عُظَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا، وَلَكِنَّهَا آيَاتٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يَعْتَبِرُ بِهَا عِبَادُهُ، فَيَنْظُرُ من يحدث له مِنْهُمْ تَوْبَةً، وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ قمت مَا أَنْتُمْ لَاقُوهُ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ، وإنه والله لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ كَذَّابًا، آخِرُهُمُ الْأَعْوَرُ الدَّجَّالُ، مَمْسُوحُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، كَأَنَّهَا عين أبي يحيى الشيخ حِينَئِذٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ حُجْرَةِ عائشة - وَإِنَّهُ مَتَى يَخْرُجُ، فَسَوْفَ يَزْعُمُ أَنَّهُ اللَّهُ، فَمَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَاتَّبَعَهُ، لَمْ يَنْفَعْهُ صَالِحٌ مِنْ عَمَلِهِ سَلَفَ، وَمَنْ كَفَرَ بِهِ وكذبه، لم يعاقب بسيئ مِنْ عَمَلِهِ سَلَفَ، وَإِنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا إِلَّا الْحَرَمَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَإِنَّهُ يَحْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيُزَلْزَلُونَ زِلْزَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ يُهْلِكُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَجُنُودَهُ، حَتَّى إِنَّ جِذْمَ الْحَائِطِ أَوْ قَالَ: أَصْلَ الْحَائِطِ، أو أصل الشجرة، لينادي: يا مؤمن يا مسلم هَذَا يَهُودِيٌّ - أَوْ قَالَ: هَذَا كَافِرٌ - فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ. قَالَ: وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَتَى تَرَوْا أمورا يتفاقم (¬1) شأنها في أنفسكم، وتسألون بَيْنَكُمْ: هَلْ كَانَ نَبِيُّكُمْ ذَكَرَ لَكُمْ مِنْهَا ذِكْرًا؟ وَحَتَى تَزُولَ جِبَالٌ عَنْ مَرَاتِبِهَا، ثُمَّ على أثر ذلك القبض» وقد روي عنه أنه صلاها كل ركعة بثلاث ركوعات، أو أربع ركوعات، أو كُلُّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ كِبَارَ الْأَئِمَّةِ لا يصححون ذلك ويرونه غلطا. وأمر فِي الْكُسُوفِ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَالصَّلَاةِ، وَالدَّعَاءِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، والصدقة، والعتاقة. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الاستسقاء] فصل وثبت عنه أنه استسقى على وجوه. أحدهما: يوم الجمعة على المنبر في أثناء الخطبة. الثاني: أنه وَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ إِلَى الْمُصَلَّى، فَخَرَجَ لَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مُتَوَاضِعًا مُتَبَذِّلًا مُتَخَشِّعًا متوسلا مُتَضَرِّعًا، فَلَمَّا وَافَى الْمُصَلَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ - إِنْ صح فَفِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَكَبَّرَهُ، وَكَانَ مِمَّا حُفِظَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَدُعَائِهِ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إله إلا أنت ¬

(¬1) في الأصل تتقاوم، والتصحيح من " المسند " 5 / 16.

تفعل ما تريد، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَهُ عَلَيْنَا قُوَّةً لَنَا، وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَأَخَذَ فِي التفرع وَالِابْتِهَالِ وَالدُّعَاءِ» ، وَبَالَغَ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَحَوَّلَ إِذْ ذَاكَ رِدَاءَهُ، وَهُوَ مستقبل القبلة، فجعل الأيمن على الأيسر وعكسه، وَكَانَ الرِّدَاءُ خَمِيصَةً سَوْدَاءَ، وَأَخَذَ فِي الدُّعَاءِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَالنَّاسُ كَذَلِكَ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى بهم ركعتين كالعيد من غير نداء، قرأ في الأولى بعد الفاتحة بـ (سبح) وفي الثانية بـ (الغاشية) . الثالث: أنه استسقى على منبر المدينة في غير الجمعة، ولم يحفظ عنه فيه صلاة. الرابع: أنه استسقى وهو جالس في المسجد رفع يديه، ودعا الله عز وجل. الخامس: أنه اسْتَسْقَى عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ قَرِيبًا مِنَ الزَّوْرَاءِ وهو خَارِجُ بَابِ الْمَسْجِدِ الَّذِي يُدْعَى الْيَوْمَ: " بَابَ السَّلَامِ " نَحْوَ قَذْفَةِ حَجَرٍ، يَنْعَطِفُ عَنْ يَمِينِ الخارج من المسجد. السادس: «أنه اسْتَسْقَى فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ لَمَّا سَبَقَهُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْمَاءِ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمِينَ الْعَطَشُ، فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. وقال بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَاسْتَسْقَى لِقَوْمِهِ، كما استسقى موسى لقومه. فبلغه ذلك، فقال: أو قد قَالُوهَا؟ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَسْقِيَكُمْ ثُمَّ بَسَطَ يديه فدعا، فما رد يديه حتى أظلهم السحاب، وأمطروا وَأُغِيثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مرة» . «واستسقى مرة، فقام أبو لبابة، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ التمر في المرابد. فقال: اللَّهُمَّ اسْقِنَا حَتَّى يَقُومَ أبو لبابة عُرْيَانًا، فَيَسُدَّ ثَعْلَبَ مِرْبَدِهِ بِإِزَارِهِ فَأَمْطَرَتْ فَاجْتَمَعُوا إِلَى أبي لبابة. فَقَالُوا: إِنَّهَا لَنْ تُقْلِعَ حَتَّى تقوم عريانا، فتسد ثعلب مربدك بإزارك. ففعل، فأقلعت السماء» ، ولما كثر المطر سألوه الاستصحاء، فاستصحا لَهُمْ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ على الظراب، والآكام والجبال، وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ» وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم إذا رأى المطر قال: «صيبا نافعا» وحسر ثَوْبَهُ حَتَّى يُصِيبَهُ مِنَ الْمَطَرِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ» قَالَ الشافعي أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عبد الهادي، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَالَ السَّيْلُ، قَالَ: اخْرُجُوا بِنَا إِلَى هَذَا الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ طَهُورًا، فَنَتَطَهَّرَ مِنْهُ، ونحمد

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سفره وعباداته فيه

الله عليه» وأخبرنا مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عمر كَانَ إِذَا سَالَ السَّيْلُ ذَهَبَ بِأَصْحَابِهِ إِلَيْهِ، وَقَالَ: مَا كَانَ لِيَجِيءَ مِنْ مَجِيئِهِ أَحَدٌ، إِلَّا تَمَسَّحْنَا بِهِ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى الْغَيْمَ وَالرِّيحَ، عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، فَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فإذا أمطرت سري عنه، وكان يخشى أن يكون فيه العذاب. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفره وعباداته فيه] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفره وعباداته فِيهِ كَانَتْ أَسْفَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائرة بين أربعة أسفار: سفر لهجرته، وسفر للجهاد، وهو أكثرها، وسفر للعمرة، وسفر لِلْحَجِّ. وَكَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نسائه، وَلَمَّا حَجَّ سَافَرَ بِهِنَّ جَمِيعًا، وَكَانَ إِذَا سَافَرَ، خَرَجَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَكَانَ يَسْتَحِبُّ الخروج يوم الخميس، ودعا الله أَنْ يُبَارِكَ لِأُمَّتِهِ فِي بُكُورِهَا، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا، بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَأَمَرَ الْمُسَافِرِينَ إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً أَنْ يُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ، وَنَهَى أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الرَّاكِبَ شَيْطَانٌ، وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ وَذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ حِينَ يَنْهَضُ لِلسَّفَرِ: «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ تَوَجَّهْتُ، وَبِكَ اعْتَصَمْتُ، اللَّهُمَّ اكْفِنِي مَا أَهَمَّنِي وَمَا لَا أَهْتَمُّ له، اللَّهُمَّ زَوِّدْنِي التَّقْوَى، وَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَوَجِّهْنِي للخير أينما توجهت» وكان إذا قدمت له دَابَّتُهُ لِيَرْكَبَهَا يَقُولُ: «بِسْمِ اللَّهِ حِينَ يَضَعُ رجله في الركاب» ، فَإِذَا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مقرنين، وإنا إلى ربا لمنقلبون ثم يقول: الحمد لله، الحمد الله، الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ يَقُولُ: " سُبْحَانَكَ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ» وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ، وَزَادَ: «آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِذَا عَلَوُا الثَّنَايَا كَبَّرُوا، وَإِذَا هَبَطُوا الْأَوْدِيَةَ سَبَّحُوا. وَكَانَ إِذَا أَشْرَفَ عَلَى قَرْيَةٍ يريد دخولها يقول: «اللهم رب السموات السبع،

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن

وَمَا أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشِّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ، أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وَخَيْرَ مَا فيها، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ أَهْلِهَا، وَشَرِّ ما فيها» وكان يقصر الرباعية، وقال أمية بن خالد إِنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْحَضَرِ، وَصَلَاةَ الْخَوْفِ فِي القرآن، ولا نجد صلاة السفر. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ يَا أَخِي إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَا محمدا صلى الله عليه وسلم يفعل. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الِاقْتِصَارُ عَلَى الْفَرْضِ، وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ صلى السنة قبلها ولا بعدها إلا سنة الفجر والوتر، ولكن لم يَمْنَعُ مِنَ التَّطَوُّعِ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، فَهُوَ كَالتَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ، لَا أَنَّهُ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ لِلصَّلَاةِ. وثبت عنه أَنَّهُ صَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ ضُحًى. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم صلاة التطوع على راحلته أين توجهت به، وكان يومئ في ركوعه. وكان إذا أراد أن يرتحل قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى العصر، فإن زالت قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَكِبَ. وَكَانَ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يجمع بينها وبين العشاء، ولم يكن من هديه الجمع راكبا ولا حال نزوله. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قراءة القرآن] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قراءة القرآن كان له حزب لا يخل به، وكانت قراءته ترتيلا حرفا حرفا، ويقطع قراءته آية آية، ويمد عِنْدَ حُرُوفِ الْمَدِّ، فَيَمُدُّ الرَّحْمَنَ، وَيَمُدُّ الرَّحِيمَ. وكان يستعيذ في أول القراءة، فَيَقُولُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» وَرُبَّمَا قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ من همزه ونفخه ونفثه» وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَسْمَعَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ، وأمر ابن مسعود، فقرأ وهو يسمع، وخشع حتى ذرفت عيناه. وكان يقرأ قائما وقاعدا ومضطجعا ومتوضئا ومحدثا إلا الجنابة، وكان يتغنى به، ويرجع صوته أحيانا. وحكى ابن المغفل ترجيعه، ذكره البخاري، وإذا جمعت هذا إلى قوله: «زينوا القرآن بأصواتكم» وَقَوْلِهِ: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا الترجيع منه اختيار لا لهز الناقة، وإلا لم يحكه ابن المغفل اختيارا ليتأسى به ويقول: كان يرجع في قراءاته.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في زيارة المرضى

وَالتَّغَنِّي عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا. مَا اقْتَضَتْهُ الطَّبِيعَةُ من غير تكلف، فهذا جائز وإن أعان طبيعته بفضل تزيين، «كما قال أبو موسى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ عَلِمْتُ أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا» أي: لحسنته لك تحسينا، وهذا هو الذي كان السلف يفعلونه، وعليه تحمل الأدلة كلها. والثاني: ما كان صناعة من الصنائع، كما يتعلم أصوات الغناء بأصناف الألحان على أوزان مخترعة، فهذه هي التي كرهها السلف، وأدلة الكراهة إنما تتناول هذا. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زيارة المرضى] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زيارة المرضى كان يَعُودُ مَنْ مَرِضَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَادَ غُلَامًا كَانَ يَخْدِمُهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَادَ عَمَّهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ الْيَهُودِيُّ. وَكَانَ يَدْنُو مِنَ الْمَرِيضِ، وَيَجْلِسُ عِنْدَ رَأْسِهِ ويسأله عن حاله، وَكَانَ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى الْمَرِيضِ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، أَذْهِبِ الْبَاسَ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لا يغادر سقما» (¬1) وكان يدعو للمريض ثلاثا، كما قال: «اللهم اشف سعدا ثلاثا» وكان إذا دخل على المريض يقول: «لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» (¬2) وَرُبَّمَا قال: «كفارة وطهور» وكان يرقي من كان بِهِ قُرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ أَوْ شَكْوَى فَيَضَعُ سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا وَيَقُولُ: «بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ ربنا» وهذا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَهُوَ يُبْطِلُ اللَّفْظَةَ الَّتِي جَاءَتْ في حديث السبعين ألفا " لا يرقون " وهو غلط من الراوي. ولم يكن من هديه أن يخص يوما بالعيادة، ولا وقتا، بل شرع لأمته عيادة المريض ليلا ونهارا. وَكَانَ يَعُودُ مِنَ الرَّمَدِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ أَحْيَانًا يَضَعُ يَدَهُ عَلَى جَبْهَةِ الْمَرِيضِ، ثُمَّ يَمْسَحُ صَدْرَهُ وَبَطْنَهُ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اشْفِهِ» وَكَانَ يَمْسَحُ وجهه أيضا، وإذا أيس مِنَ الْمَرِيضِ قَالَ: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون» وكان هديه في الجنائز أكمل هدي مُخَالِفًا لِهَدْيِ سَائِرِ الْأُمَمِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْإِحْسَانِ إلى الميت وإلى أهله وأقاربه، ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) رواه البخاري.

وعلى إقامة عبودية الحي فيما يعامل به الميت، فكان من هديه عبودية الرب تعالى على أكمل الأحوال، وتجهيز الميت إلى الله تعالى على أحسن الأحوال، ووقوفه وأصحابه صفوفا يحمدون الله، ويستغفرون له، ثم يمشي بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى أَنْ يُودِعُوهُ حُفْرَتَهُ ثُمَّ يقوم هو وأصحابه على قبره سائلين له الثبات، ثم يتعاهده بالزيارة إلى قبره، والسلام عليه، والدعاء له. فأول ذلك تعاهده في موضعه، وَتَذْكِيرُهُ الْآخِرَةَ، وَأَمْرُهُ بِالْوَصِيَّةِ وَالتَّوْبَةِ، وَأَمْرُ مَنْ حَضَرَهُ بِتَلْقِينِهِ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، لتكون آخر كلامه، ثم نهى عَنْ عَادَةِ الْأُمَمِ الَّتِي لَا تُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ من لطم الخدود، وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ. وَسَنَّ الخشوع للموت، وَالْبُكَاءَ الَّذِي لَا صَوْتَ مَعَهُ، وَحُزْنَ الْقَلْبِ، وكان يفعله وَيَقُولُ: «تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي الرَّبَّ» وَسَنَّ لِأُمَّتِهِ الْحَمْدَ والاسترجاع والرضا عن الله. وكان من هديه الْإِسْرَاعُ بِتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ إِلَى اللَّهِ، وَتَطْهِيرُهُ وَتَنْظِيفُهُ وتطييبه، وتكفينه في ثياب البياض، ثُمَّ يُؤْتَى بِهِ إِلَيْهِ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِ بَعْدَ أن كان يدعي له عِنْدَ احْتِضَارِهِ، فَيُقِيمُ عِنْدَهُ حَتَّى يَقْضِيَ، ثُمَّ يحضر تجهيزه، ويصلي عليه، ويشيعه إلى قبره، ثم رأى أصحابه أن ذلك يشق عليه، فكانوا يجهزون ميتهم، ثم يحملونه إليه، فيصلي عليه خارج المسجد، وربما كان يصلي أحيانا عليه فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا صَلَّى عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بيضاء وأخيه فيه. وكان من هديه تغطية وجه الميت إذا مات وبدنه، وتغميض عينيه وَكَانَ رُبَّمَا يُقَبِّلُ الْمَيِّتَ، كَمَا قَبَّلَ عُثْمَانَ بن مظعون وبكى. وَكَانَ يَأْمُرُ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْغَاسِلُ، وَيَأْمُرُ بِالْكَافُورِ فِي الْغَسْلَةِ الْأَخِيرَةِ. وَكَانَ لَا يُغَسِّلُ الشهيد قتيل المعركة، وَكَانَ يَنْزِعُ عَنْهُمُ الْجُلُودَ وَالْحَدِيدَ، وَيَدْفِنُهُمْ فِي ثيابهم، ولم يصل عليهم، وأمر أن يغسل المحرم بماء وسدر. ويكفن في ثوبي إحرامه، ونهى عَنْ تَطْيِيبِهِ، وَتَغْطِيَةِ رَأْسِهِ، وَكَانَ يَأْمُرُ مَنْ وَلِيَ الْمَيِّتَ أَنْ يُحْسِنَ كَفَنَهُ، وَيُكَفِّنَهُ فِي البياض، وينهى عن المغالاة في الكفن، وإذا قَصُرَ الْكَفَنُ عَنْ سَتْرِ جَمِيعِ الْبَدَنِ غَطَّى رأسه، وجعل على رجليه شيئا من العشب. وكان إذا قدم إليه ميت سأل: هل عليه دين؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ، وأمر أصحابه أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ شَفَاعَةٌ،

وشفاعته موجبة، والعبد مرتهن بدينه لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْمَدِينِ، وَيَتَحَمَّلُ دَيْنَهُ، وَيَدَعُ مَالَهُ لِوَرَثَتِهِ. فَإِذَا أَخَذَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، كَبَّرَ، وَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ. وَصَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى جِنَازَةٍ، فَقَرَأَ بَعْدَ التكبيرة الأولى بالفاتحة، وجهر بها، وقال: لتعلموا أنها سنة. قال شيخنا: لا تجب قراءتها، بَلْ هِيَ سُنَّةٌ. وَذَكَرَ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الصَّلَاةَ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم فيها. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ سَأَلَ عُبَادَةَ بن الصامت عن صلاة الْجِنَازَةِ، فَقَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أُخْبِرُكَ، تَبْدَأُ فَتُكَبِّرُ، ثُمَّ تُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ عَبْدَكَ فُلَانًا كَانَ لَا يُشْرِكُ بِكَ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ ولا تضلنا بعده» . ومقصود الصلاة عليه الدعاء، ولذلك حفظ عنه، ونقل من الدعاء مَا لَمْ يُنْقَلْ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالصَّلَاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ من دعائه: اللهم إن فلان ابن فلان في ذمتك، وحبل جوارك، فقه فتنة القبر، وعذاب النار، وأنت أَهْلُ الْوَفَاءِ، وَالْحَقِّ، فَاغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَحُفِظَ مِنْ دُعَائِهِ أَيْضًا: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا، وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا، وَأَنْتَ رَزَقْتَهَا، وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، تعلم سِرَّهَا وَعَلَانِيَتَهَا، جِئْنَا شُفَعَاءَ فَاغْفِرْ لَهَا وَكَانَ يَأْمُرُ بِإِخْلَاصِ الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ. وَكَانَ يُكَبِّرُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَبَّرَ خَمْسًا، وَكَانَ الصحابة يكبرون أربعا وخمسا وستا. قَالَ علقمة: قُلْتُ لعبد الله: إِنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ معاذ قَدِمُوا مِنَ الشَّامِ، فَكَبَّرُوا على ميت لهم خمسا، فقال: لَيْسَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي التَّكْبِيرِ وَقْتٌ، كَبِّرْ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ، فَإِذَا انْصَرَفَ الْإِمَامُ فَانْصَرِفْ. قيل للإمام أحمد: أتعرف عن أحد من الصحابة أنهم كانوا يسلمون تسليمتين على الجنازة قَالَ: لَا، وَلَكِنْ عَنْ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً خَفِيفَةً عَنْ يَمِينِهِ، فَذَكَرَ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هريرة. وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُرْفَعُ لِلْأَثَرِ، والقياس على السنة في الصلاة، ويريد بالأثر ما روي عن ابن عمر

وأنس أَنَّهُمَا كَانَا يَرْفَعَانِ أَيْدِيَهُمَا كُلَّمَا كَبَّرَا عَلَى الجنازة. وكان إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ، فَصَلَّى مَرَّةً عَلَى قَبْرٍ بَعْدَ لَيْلَةٍ، وَمَرَّةً بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَمَرَّةً بَعْدَ شَهْرٍ، وَلَمْ يوقت في ذلك وقتا، ومنع منها مالك إلا للولي إذا كان غائبا. وكان يقوم عند رأس الرجل، ووسط المرأة، وكان يصلي على الطفل، وكان لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَلَا عَلَى مَنْ غَلَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ في الصلاة على المقتول حدًا كالزاني. فصح عنه «أنه صلى على الجهنية التي رجمها» ، واختلف في ماعز، فإما أَنْ يُقَالَ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَ أَلْفَاظِهِ، فَإِنَّ الصلاة فيه هي الدعاء، وترك الصلاة عليه تركها عَلَى جِنَازَتِهِ تَأْدِيبًا وَتَحْذِيرًا. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إذا تعارضت ألفاظه عدل عنها إلى الحديث الآخر. وكان إذا صلى عليه تبعه إلى المقابر ماشيا أمامه، وسن للراكب أن يكون وراءها، وإن كان ماشيا يَكُونَ قَرِيبًا مِنْهَا، إِمَّا خَلْفَهَا، أَوْ أَمَامَهَا، أَوْ عَنْ يَمِينِهَا، أَوْ عَنْ شِمَالِهَا. وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْإِسْرَاعِ بِهَا حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيَرْمُلُونَ بها رملا، وكان يمشي إذا تبعها، وَيَقُولُ: «لَمْ أَكُنْ لِأَرْكَبَ وَالْمَلَائِكَةُ يَمْشُونَ» فَإِذَا انصرف فربما ركب. وكان لا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ، وَقَالَ: «إِذَا تَبِعْتُمُ الْجِنَازَةَ فلا تجلسوا حتى توضع» ولم يكن من هديه الصلاة على كل ميت غائب، «وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ صَلَاتَهُ على الميت» ، وتركه سنة، كما أن فعله سنه، فإن كان الغائب مَاتَ بِبَلَدٍ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ فِيهِ، صُلِّيَ عليه، فإن النجاشي مات بين الكفار. «وصح عنه أنه أمر بالقيام للجنازة لما مرت به» ، «وصح عنه أنه قعد» ، فقيل: القيام منسوخ. وقيل: الْأَمْرَانِ جَائِزَانِ، وَفِعْلُهُ بَيَانٌ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَتَرْكُهُ بَيَانٌ للجواز. وهذا أولى. وكان من هديه أن لا يَدْفِنَ الْمَيِّتَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا عِنْدَ غروبها، ولا حين قيامها. وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ اللَّحْدُ، وَتَعْمِيقُ الْقَبْرِ، وَتَوْسِيعُهُ مِنْ عِنْدِ رَأْسِ الْمَيِّتِ وَرِجْلَيْهِ، وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا وَضَعَ الْمَيِّتَ فِي الْقَبْرِ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «بِسْمِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» وَيُذْكَرُ عَنْهُ أنه كان يحثو على الْمَيِّتِ إِذَا دُفِنَ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا، وَكَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ، قَامَ عَلَى قَبْرِهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَسَأَلَ لَهُ التَّثْبِيتَ، وأمرهم بذلك. ولم يكن يجلس يقرأ على القبر ولا يلقن

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف

الميت، ولم يكن من هديه تعلية القبور، ولا بناؤها، ولا تطيينها، ولا بناء القباب عليها، وقد بعث علي بن أبي طالب «أن لا يَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسَهُ. وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلا سواه» (¬1) فسنت تَسْوِيَةُ هَذِهِ الْقُبُورِ الْمُشْرِفَةِ كُلِّهَا. وَنَهَى أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يُكْتَبَ عليه، وكان يعلم من أراد - أن يعرف قبره بصخرة، ونهى عَنِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَإِيقَادِ السُّرُجِ عَلَيْهَا، ولعن فاعله، (ونهى عن الصلاة إليها، «ونهى أن يتخذ قبره عيدا» (¬2) . وَكَانَ هَدْيُهُ أَنْ لَا تُهَانَ الْقُبُورُ وَتُوطَأَ، ويجلس عَلَيْهَا، وَيُتَّكَأَ عَلَيْهَا، وَلَا تُعَظَّمَ بِحَيْثُ تُتَّخَذُ مساجد وأعيادا وأوثانا. وكان يزور قبور أصحابه للدعاء لهم، وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَهَذِهِ هِيَ الزِّيَارَةُ الَّتِي سَنَّهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم إذا زاروها أن يقولوا: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، نَسْأَلُ الله لنا ولكم العافية» (¬3) . وكان يَقُولَ وَيَفْعَلَ عِنْدَ زِيَارَتِهَا مِنْ جِنْسِ مَا يقوله عند الصلاة عليه، فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا دُعَاءَ الْمَيِّتِ وَالْإِشْرَاكَ بِهِ، وسؤاله الحوائج، والاستعانة به، والتوجه إليه عكس هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ هَدْيُ توحيد وإحسان إلى الميت. وكان من هديه تَعْزِيَةُ أَهْلِ الْمَيِّتِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ أن يجتمع ويقرأ له القرآن، لا عند القبر، ولا غيره. وكان من هديه أَنَّ أَهْلَ الْمَيِّتِ لَا يَتَكَلَّفُونَ الطَّعَامَ لِلنَّاسِ، بَلْ أَمَرَ أَنْ يَصْنَعَ النَّاسُ لَهُمْ طَعَامًا، وكان من هديه تَرْكُ نَعْيِ الْمَيِّتِ، بَلْ كَانَ يَنْهَى عَنْهُ، ويقول: هو من عمل أهل الجاهلية [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الخوف] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الخوف أباح الله له قَصْرَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَعَدَدِهَا إِذَا اجْتَمَعَ الْخَوْفُ والسفر، وقصر العدد وحده إذا كان سفرا لَا خَوْفَ مَعَهُ، وَقَصْرُ الْأَرْكَانِ وَحْدَهَا إِذَا كان خوفا لا سفر معه، وبهذا تعلم الحكمة في تقييد القصر في الآيات ¬

(¬1) لمسلم عن أبي الهياج قاله. (¬2) لحديث أبو داود بإسناد حسن رواته ثقات. (¬3) مسلم بدون لقط المسلمين.

بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفِ. وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ بَيْنَهُ وبين القبلة أن يصف المسلمين خلفه صفين، فيكبر ويكبرون جميعا، ثم يركعون ويرفعون جميعا، ثم يسجد أول الصف الَّذِي يَلِيهِ خَاصَّةً، وَيَقُومُ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ مُوَاجِهَ العدو، فإذا نهض للثانية سجد الصف المؤخر سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامُوا فَتَقَدَّمُوا إِلَى مَكَانِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ مَكَانَهُمْ، لِتَحْصُلَ فَضِيلَةُ الصف الأول للطائفتين، وليدرك الصف الثاني معه السجدتين في الثانية، وهذا غَايَةُ الْعَدْلِ، فَإِذَا رَكَعَ صَنَعَ الطَّائِفَتَانِ كَمَا صَنَعُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ سَجَدَ الصف المؤخر سجدتين، ولحقوه في التشهد، فسلم بِهِمْ جَمِيعًا. وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جهة القبلة فإنه تَارَةً يَجْعَلُهُمْ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، وَفِرْقَةً تُصَلِّي مَعَهُ، فَتُصَلِّي مَعَهُ إِحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ رَكْعَةً، ثُمَّ تَنْصَرِفُ فِي صَلَاتِهَا إِلَى مَكَانِ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى، وَتَجِيءُ الْأُخْرَى إِلَى مَكَانِ هَذِهِ، فَتُصَلِّي معه الركعة الثانية، ثم يسلم، وتقف كُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً رَكْعَةً بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وتارة يُصَلِّي بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى الثَّانِيَةِ، وَتَقْضِي هِيَ رَكْعَةً وَهُوَ وَاقِفٌ، وَتُسَلِّمُ قَبْلَ رُكُوعِهِ، وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَتُصَلِّي مَعَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، فَإِذَا جَلَسَ فِي التَّشَهُّدِ، قَامَتْ، فَقَضَتْ رَكْعَةً وَهُوَ يَنْتَظِرُهَا فِي التَّشَهُّدِ، فَإِذَا تشهدت، سلم بِهِمْ. وَتَارَةً كَانَ يُصَلِّي بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ويسلم بهم ; وتأتي الأخرى فيصل بهم ركعتين ويسلم بهم، وَتَارَةً كَانَ يُصَلِّي بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، ثُمَّ يذهب وَلَا تَقْضِي شَيْئًا، وَتَجِيءُ الْأُخْرَى، فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَلَا تَقْضِي شَيْئًا، فَيَكُونُ لَهُ رَكْعَتَانِ، وَلَهُمْ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ كُلُّهَا تَجُوزُ الصلاة بها. قال أحمد: سِتَّةُ أَوْجُهٍ أَوْ سَبْعَةٌ تُرْوَى فِيهَا كُلُّهَا جائزة. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ جَوَّزَ أَنْ تُصَلِّيَ كُلُّ طائفة معه ركعة، ولا تقضي شيئا، وهذا مذهب جابر، وابن عباس وطاوس ومجاهد والحسن وقتادة، والحكم، وإسحاق. وقد روي فيها صفات أخر ترجع كلها إلى هذه، وقد ذكرها بعضهم عشرا، وذكرها ابن حزم نحو خمسة عشر صفة، والصحيح ما ذكرنا، وَهَؤُلَاءِ كُلَّمَا رَأَوُا اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي قِصَّةٍ، جَعَلُوا ذَلِكَ وُجُوهًا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الزكاة

[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الزكاة] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الزكاة كان هديه صلى الله عليه وسلم أَكْمَلُ هَدْيٍ فِي وَقْتِهَا وَقَدْرِهَا وَنِصَابِهَا، وَمَنْ تجب عليه، ومصرفها، قد رَاعَى فِيهَا مَصْلَحَةَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَمَصْلَحَةَ الْمَسَاكِينِ، وَجَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طُهْرَةً لِلْمَالِ وَلِصَاحِبِهِ، وَقَيَّدَ النِّعْمَةَ بِهَا عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، فَمَا زَالَتِ النعمة بالمال عن مَنْ أَدَّى زَكَاتَهُ، بَلْ يَحْفَظُهُ عَلَيْهِ وَيُنَمِّيهِ. ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ مِنَ المال وهي أكثر الأموال دورا بين الخلق، وحاجتهم إليها ضرورية. الأول: الزرع والثمار. والثاني: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ. الثَّالِثُ: الْجَوْهَرَانِ اللَّذَانِ بِهِمَا قِوَامُ الْعَالَمِ، وَهُمَا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ. الرَّابِعُ: أَمْوَالُ التِّجَارَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا. ثُمَّ إنه أوجبها في كل عام، وجعل حول الثمار والزرع عند كمالهما واستوائهما، وَهَذَا أَعْدَلُ مَا يَكُونُ، إِذْ وُجُوبُهَا كُلَّ شهر أو جمعة مما يُضِرُّ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَوُجُوبُهَا فِي الْعُمْرِ مَرَّةً مما يضر بالمساكين. ثُمَّ إِنَّهُ فَاوَتَ بَيْنَ مَقَادِيرِ الْوَاجِبِ بِحَسَبِ السعي في التحصيل، فَأَوْجَبَ الْخُمُسَ فِيمَا صَادَفَهُ الْإِنْسَانُ مَجْمُوعًا مُحَصَّلًا وهو الركاز، ولم يعتبر له حولا، وأوجب نصفه وهو العشر فيما كان مشقة تحصيله فَوْقَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ الَّتِي يباشر حرثها، ويتولى الله سقيها بلا كلفة من العبد، وأوجب نصف العشر فيما يتولى العبد سقيه بالكلفة والدوالي والنواضح ونحوهما، وَأَوْجَبَ نِصْفَ ذَلِكَ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ فِيمَا كَانَ النَّمَاءُ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى عَمَلٍ مُتَّصِلٍ من رب المال، متتابع بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ تَارَةً، وَبِالْإِدَارَةِ تَارَةً، وَبِالتَّرَبُّصِ تارة ثم إنه لما كان لا يحتمل كل مال المواساة، جَعَلَ لِلْمَالِ الَّذِي تَحْتَمِلُهُ الْمُوَاسَاةُ نُصُبًا مُقَدَّرَةً الْمُوَاسَاةُ فِيهَا، لَا تُجْحِفُ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَتَقَعُ مَوْقِعَهَا مِنَ الْمَسَاكِينِ، فَجَعَلَ لِلْوَرِقِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَلِلذَّهَبِ عِشْرِينَ مِثْقَالًا، وَلِلْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَهِيَ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ مِنْ أَحْمَالِ إِبِلِ الْعَرَبِ، وللغنم أربعين شاة، وللبقر ثلاثين، وللإبل خمسة، لَكِنْ لَمَّا كَانَ نِصَابُهَا لَا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ من جنسه، أوجب فيه شَاةً. فَإِذَا تَكَرَّرَتِ الْخَمْسُ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَصَارَتْ خمسا وعشرين، احتمل نصابها

فصل في من يعطى الصدقة

واحدا منها، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا قَدَّرَ سِنَّ هَذَا الْوَاجِبِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْإِبِلِ وَقِلَّتِهَا مِنَ ابْنِ مَخَاضٍ وَبِنْتِ مَخَاضٍ، وَفَوْقَهُ ابْنُ لَبُونٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ، وَفَوْقَهُ الْحِقُّ وَالْحِقَّةُ، وَفَوْقَهُ الْجَذَعُ وَالْجَذَعَةُ، وَكُلَّمَا كَثُرَتِ الْإِبِلُ زَادَ السِّنُّ إِلَى أَنْ يَصِلَ السِّنُّ إِلَى مُنْتَهَاهُ، فَحِينَئِذٍ جعل زيادة عدد الواجب في مقابلة زيادات عَدَدِ الْمَالِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ جَعَلَ فِي الْأَمْوَالِ قَدْرًا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ، وَلَا يُجْحِفُ بِهَا، ويكفي المساكين، فوقع الظلم من الطائفتين ; الغني بمنعه ما أوجب عليه، والآخذ بأخذه مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ، فَتَوَلَّدَ مِنْ بَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ ضرر عظيم على المساكين. والله سبحانه تولى قسمة الصَّدَقَةِ بِنَفْسِهِ، وَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ يَجْمَعُهَا صِنْفَانِ. أَحَدُهُمَا: مَنْ يَأْخُذُ لِحَاجَةٍ، فَيَأْخُذُ بِحَسَبِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ وَضَعْفِهَا، وَكَثْرَتِهَا وَقِلَّتِهَا، وَهُمُ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، وفي الرقاب، وابن السبيل. الثاني: مَنْ يَأْخُذُ لِمَنْفَعَتِهِ وَهُمُ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَالْغَارِمُونَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْآخِذُ مُحْتَاجًا، ولا منفعة فيه لِلْمُسْلِمِينَ ; فَلَا سَهْمَ لَهُ فِي الزَّكَاةِ. [فَصْلٌ في من يعطى الصدقة] فصل وكان إذا علم من الرجل أنه من أهلها أعطاه، وإن سأله منها من لا يَعْرِفْ حَالَهُ أَعْطَاهُ بَعْدَ أَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّهُ لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ. وكان من هديه تفريقها على المستحقين فِي بَلَدِ الْمَالِ، وَمَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنْهَا حمل إليه ففرقه، وكذلك كَانَ يَبْعَثُ سُعَاتَهُ إِلَى الْبَوَادِي، وَلَمْ يَكُنْ يبعثهم إلى القرى، بل أمر معاذا أن يأخذها من أهل اليمن ويعطيها فقراءهم. وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ أَنْ يَبْعَثَ سُعَاتَهُ إِلَّا إِلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْمَوَاشِي والزرع والثمار، وكان يبعث الخارص يخرص على أهل النخل تمر نخيلهم، وعلى أهل الكروم كرومهم، وَيَنْظُرُ كَمْ يَجِيءُ مِنْهُ وَسْقًا، فَيَحْسِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ بِقَدْرِهِ، وَكَانَ يَأْمُرُ الْخَارِصَ أَنْ يَدَعَ لَهُمُ الثُّلُثَ أَوِ الرُّبُعَ، فَلَا يَخْرُصُهُ لِمَا يَعْرُو النَّخِيلَ مِنَ النَّوَائِبِ. وَكَانَ هَذَا الْخَرْصُ لِكَيْ تُحْصَى الزَّكَاةُ قَبْلَ أَنْ تُؤْكَلَ الثمار، وتفرق، وَلِيَتَصَرَّفَ فِيهَا أَرْبَابُهَا بِمَا شَاءُوا، وَيَضْمَنُوا قَدْرَ الزكاة. ولم يكن من هديه أخذها من الخيل، ولا الرقيق، وَلَا الْبِغَالِ، وَلَا الْحَمِيرِ، وَلَا الْخَضْرَاوَاتِ، وَلَا المباطخ، ولا المقاثي والفواكه التي

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر

لا تكال، ولا تدخر، إلا العنب الرطب، فلم يفرق بين رطبه ويابسه، وكان إذا جاء الرَّجُلُ بِالزَّكَاةِ دَعَا لَهُ، فَتَارَةً يَقُولُ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَفِي إِبِلِهِ» وَتَارَةً يَقُولُ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ» وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ أَخْذُ كرائم الأموال بل وسطه، وكان يَنْهَى الْمُتَصَدِّقَ أَنْ يَشْتَرِيَ صَدَقَتَهُ، وَكَانَ يُبِيحُ للغني أن يأكل منها إذا أهداها إليه الفقير، وَكَانَ أَحْيَانًا يَسْتَدِينُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّدَقَةِ، وكان يسم إبل الصدقة بيده، وإذا عَرَاهُ أَمْرٌ، اسْتَسْلَفَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَرْبَابِهَا، كَمَا استسلف من العباس صَدَقَةَ عَامَيْنِ. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زكاة الفطر] وفرض زكاة الفطر عليه وعلى من يمونه من صغير وكبير صاعا من تمر أو شعير أو أقط أو زبيب، وروي عنه: «صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ» وَرُوِيَ عَنْهُ: «نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ» مَكَانَ الصَّاعِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، ذَكَرَهُ أبو داود، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ معاوية هو الذي قوم ذلك. وكان من هديه إخراجها قبل صلاة العيد، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصلاة» . وفي " السنن " عنه: «مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصدقات» وَمُقْتَضَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَأَنَّهَا تَفُوتُ بِالْفَرَاغِ مِنَ الصلاة، وهذا هو الصواب، وَنَظِيرُهُ تَرْتِيبُ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ، لَا على وقتها، وأن من ذبح قبلها، فهي شاة لحم. وكان من هديه تخصيص المساكين بها، ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية، وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا مَنْ بعدهم. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صدقة التطوع] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ كَانَ أعظم الناس صدقة بما ملكت يده، ولا يستكثر شيئا أعطاه لله، ولا يستقله، وكان لا يسأل أَحَدٌ شَيْئًا عِنْدَهُ إِلَّا أَعْطَاهُ، قَلِيلًا كَانَ أو كثيرا، وَكَانَ سُرُورُهُ وَفَرَحُهُ بِمَا يُعْطِيهِ أَعْظَمَ مِنْ سرور الآخذ بما أخذه، وَكَانَ إِذَا عَرَضَ لَهُ مُحْتَاجٌ، آثَرَهُ عَلَى نفسه، تارة بطعامه، وتارة بلباسه. وكان يتنوع في أصناف إعطائه وصدقته، فتارة بالهدية، وتارة بالصدقة، وتارة بالهبة، وتارة بشراء الشيء، ثم يعطي البائع السلعة والثمن، وتارة يقترض

الشيء، فيرد أكثر منه، ويقبل الهدية، ويكافئ عليها بأكثر منها، تلطفا وتنوعا في ضروب الإحسان بكل ممكن، وكان إحسانه بِمَا يَمْلِكُهُ وَبِحَالِهِ وَبِقَوْلِهِ، فَيُخْرِجُ مَا عِنْدَهُ، ويأمر بالصدقة، ويحض عليها، فإذا رآه البخيل، دعاه حاله إلى البذل. وكان من خالطه لا يملك نفسه عن السماحة، ولذلك كان أشرح الخلق صدرا، وأطيبهم نفسا، فإن للصدقة والمعروف تأثرا عجيبا في شرح الصدر، فانضاف ذَلِكَ إِلَى مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ شرح صدره بالرسالة وَخَصَائِصِهَا وَتَوَابِعِهَا، وَشَرْحِ صَدْرِهِ حِسًّا، وَإِخْرَاجِ حَظِّ الشيطان منه. وأعظم أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ التَّوْحِيدُ، وَعَلَى حَسَبِ كَمَالِهِ وَقُوَّتِهِ وَزِيَادَتِهِ يَكُونُ انْشِرَاحُ صَدْرِ صَاحِبِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزُّمَرِ: 22] (¬1) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] (¬2) . ومنها النور الذي يقذفه الله في القلب، وهو نور الإيمان، وفي الترمذي مرفوعا «إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح» الحديث. ومنها العلم، فإنه يشرح الصدر، ويوسعه، وليس هذا لكل علم، بل للموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ومنها الإنابة إلى الله، ومحبته بكل القلب، والمحبة تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي انْشِرَاحِ الصَّدْرِ، وَطِيبِ النَّفْسِ، وكلما كانت المحبة أقوى، كان الصدر أشرح، ولا يضيق إلا عند روية البطالين. ومنها دوام الذكر، فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر. وَمِنْهَا الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَنَفْعُهُمْ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَالنَّفْعِ بِالْبَدَنِ، وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ. ومنها الشجاعة، فإن الشجاع منشرح الصدر. وأما سرور الروح ولذتها، فَمُحَرَّمٌ عَلَى كُلِّ جَبَانٍ، كَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى كُلِّ بَخِيلٍ، وَعَلَى كُلِّ مُعْرِضٍ عَنِ الله، غافل عن ذكره، جاهل به وبدينه، متعلق القلب بغيره، وَلَا عِبْرَةَ بِانْشِرَاحِ صَدْرِ هَذَا لِعَارِضٍ، وَلَا بِضِيقِ صَدْرِ هَذَا لِعَارِضٍ، فَإِنَّ الْعَوَارِضَ تَزُولُ بِزَوَالِ أَسْبَابِهَا، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قَامَتْ بِالْقَلْبِ تُوجِبُ انْشِرَاحَهُ وَحَبْسَهُ، فَهِيَ الْمِيزَانُ. ومنها بل من أعظمها ¬

(¬1) 22 الزمر. (¬2) 125 الأنعام.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام

إخراج دغل القلب من الصفات المذمومة، ومنه ترك فضول النظر والكلام، والاستماع والخلطة، والأكل والنوم. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصيام] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّيَامِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الصِّيَامِ حبس النفس عن الشهوات، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها، وَقَبُولِ مَا تَزْكُو بِهِ مِمَّا فِيهِ حَيَاتُهَا الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضييق مَجَارِي الشَّيْطَانِ مِنَ الْعَبْدِ بِتَضْيِيقِ مَجَارِي الطَّعَامِ والشراب، فَهُوَ لِجَامُ الْمُتَّقِينَ، وَجُنَّةُ الْمُحَارِبِينَ، وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ المقربين، وهو لرب العالمين من بين الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ الصَّائِمَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يترك شهوته، فهو ترك المحبوبات لمحبة الله، وهو سر بين العبد وربه، إذ العباد قد يطلعون عَلَى تَرْكِ الْمُفْطِرَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَرَكَ ذلك، لأجل معبوده، فأمر لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ بَشَرٌ، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الصَّوْمِ. وله تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي حِفْظِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ، وَالْقُوَى الباطنة عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، وَاسْتِفْرَاغِ الْمَوَادِّ الرَّدِيئَةِ الْمَانِعَةِ لَهَا مِنْ صِحَّتِهَا، فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى التَّقْوَى، كَمَا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] (¬1) . وأمر صلى الله عليه وسلم من اشتدت شهوته للنكاح، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ بِالصِّيَامِ، وَجَعَلَهُ وِجَاءَ هذه الشهوة (¬2) . وكان هديه صلى الله عليه وسلم فيه أكمل هدي، وأعظمه تحصيلا لِلْمَقْصُودِ، وَأَسْهَلَهُ عَلَى النُّفُوسِ، وَلَمَّا كَانَ فَطْمُ النفوس عن شهواتها ومألوفاتها من أشق الأمور، تأخر فرضه إلى ما بعد الهجرة، وَفُرِضَ أَوَّلًا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أن يطعم كل يوم مسكينا، ثم حتم الصَّوْمِ، وَجُعِلَ الْإِطْعَامُ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ إِذَا لم يطيقا، ورخص للمريض والمسافر أن يفطرا، ويقضيا، والحامل والمرضع إذا خافتا على ¬

(¬1) 183 البقرة. (¬2) رواه البخاري " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ له وجاء ".

أنفسهما كذلك، وإن خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا زَادَتَا مَعَ الْقَضَاءِ إِطْعَامَ مِسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ، فَإِنَّ فِطْرَهُمَا لَمْ يَكُنْ لِخَوْفِ مَرَضٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مَعَ الصِّحَّةِ، فَجُبِرَ بإطعام مسكين، كفطر الصحيح في أول الإسلام. وكان مِنْ هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادة، وكان جبريل يدارسه القرآن في رمضان، وكان يُكْثِرُ فِيهِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، والصلاة، والذكر، والاعتكاف. وكان يخصه من العبادات بما لا يخص به غيره، حتى أنه لَيُوَاصِلُ فِيهِ أَحْيَانًا لِيُوَفِّرَ سَاعَاتِ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ. وَكَانَ يَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنِ الْوِصَالِ، فَيَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ؟ فَيَقُولُ: «لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» نهى عنه رحمة للأمة، وأذن فيه إلى السحر. فصل وكان من هديه أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إِلَّا برؤية محققة، أو بشهادة شاهد، فإن لم يكن رُؤْيَةٌ وَلَا شَهَادَةٌ، أَكْمَلَ عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ، وَكَانَ إِذَا حَالَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ دُونَ مَنْظَرِهِ سحاب أكمل شعبان ثلاثين، وَلَمْ يَكُنْ يَصُومُ يَوْمَ الْإِغْمَامِ، وَلَا أَمَرَ به، بل أمر بإكمال عدة شعبان وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا قَوْلَهُ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فاقدروا له» فإن القدر: هو الحساب المقدور، والمراد به الإكمال. وكان من هديه الخروج منه بشهادة اثنين، وإذا شهد شاهدان برؤيته بعد خروج وقت العيد، أفطر، وأمرهم بالفطر، وصلى الْعِيدَ مِنَ الْغَدِ فِي وَقْتِهَا. وَكَانَ يُعَجِّلُ الفطر، ويحث عليه، ويتسحر ويحث عليه ويؤخره ويرغب في تأخيره، وكان يحض على الفطر على التمر، فإن لم يجده، فعلى الماء. وَنَهَى الصَّائِمَ عَنِ الرَّفَثِ وَالصَّخَبِ وَالسِّبَابِ، وَجَوَابِ السباب، وأمره أن يقول لمن سابه: إني صائم (¬1) . وسافر في رمضان، فصام، وأفطر، وخير أصحابه بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالْفِطْرِ إِذَا دَنَوْا من العدو، ولم يكن من هديه تَقْدِيرُ الْمَسَافَةِ الَّتِي يُفْطِرُ فِيهَا الصَّائِمُ بِحَدٍّ، ¬

(¬1) لحديث أبي هريرة قال (قال رسول الله "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم) (متفق عليه) .

وَكَانَ الصَّحَابَةُ حِينَ يُنْشِئُونَ السَّفَرَ يُفْطِرُونَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مُجَاوَزَةِ الْبُيُوتِ، وَيُخْبِرُونَ أَنَّ ذَلِكَ هديه وسنته صلى الله عليه وسلم. «وكان يُدْرِكَهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَيَغْتَسِلُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَيَصُومُ» ، «وَكَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ» ، وَشَبَّهَ قُبْلَةَ الصَّائِمِ بالمضمضة بالماء، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التفريق بين الشاب والشيخ. وكان من هديه إسقاط القضاء عمن أكل أو شرب ناسيا، وأن الله هو الذي أطعمه وسقاه، والذي صح عنه تفطير الصائم به: هو الأكل والشرب، والحجامة والقيء، والقرآن دل على الجماع، ولم يَصِحُّ عَنْهُ فِي الْكُحْلِ شَيْءٌ. وَصَحَّ عَنْهُ أنه يستاك وهو صائم، وذكر أحمد عنه «أنه كان يصب على رأسه الماء وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ وَهُوَ صَائِمٌ، ومنع الصائم من المبالغة في الاستنشاق» ، «ولم يصح عنه أنه احتجم وهو صائم. » قال أحمد: وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِثْمِدِ: لِيَتَّقِهِ الصائم ولا يصح، قال ابن معين حديث منكر. فصل وكان يَصُومُ حَتَّى يُقَالَ: لَا يُفْطِرُ. وَيُفْطِرُ حَتَّى يُقَالَ: لَا يَصُومُ. وَمَا اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ غَيْرَ رَمَضَانَ، وَمَا كَانَ يَصُومُ فِي شَهْرٍ أكثر مما كان يَصُومُ فِي شَعْبَانَ، وَلَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ عَنْهُ شهر حتى يصوم منه، وكان يتحرى صيام الاثنين والخميس (¬1) . وقال ابن عباس: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُفْطِرُ أَيَّامَ الْبِيضِ فِي حضر ولا سفر.» ذكره النسائي (¬2) . وكان يحض على صيامها. وَأَمَّا صِيَامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ عنه فيه، وَأَمَّا صِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، فَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «صِيَامُهَا مَعَ رَمَضَانَ يَعْدِلُ صيام الدهر» وأما يَوْمِ عَاشُورَاءَ، «فَإِنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى صَوْمَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ تَصُومُهُ وَتُعَظِّمُهُ، فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ: مَنْ شَاءَ صَامَهُ ومن شاء تركه» وكان من هديه إفطار يوم عرفة بعرفة ثبت ¬

(¬1) رواه الترمذي وقال حديث حسن. (¬2) رواه النسائي بإسناد حسن.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف

عَنْهُ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَرُوِيَ عَنْهُ «أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ» رَوَاهُ أَهْلُ " السُّنَنِ " وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّ صِيَامَهُ يُكَفِّرُ السنة الماضية والباقية ذكره مسلم ولم يكن من هديه صيام الدَّهْرِ، بَلْ قَدْ قَالَ: «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ لا صام ولا أفطر. » «وكان يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِهِ، فَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَإِنْ قَالُوا: لَا قَالَ: إِنِّي إِذًا صَائِمٌ» وَكَانَ أَحْيَانًا يَنْوِي صَوْمَ التَّطَوُّعِ، ثُمَّ يُفْطِرُ. وأما حديث عائشة أنه قال لها ولحفصة اقضيا يوما مكانه فهو حديث معلول، وكان إذا نزل على قوم وهو صائم أتم صيامه، كما فعل لما دخل على أم سليم ولكن أم سليم عنده بمنزلة أهل بيته. وفي الصحيح عنه أنه قال: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ، فليقل: إني صائم وكان من هديه كراهة تخصيص يوم الجمعة بالصوم» . [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاعْتِكَافِ] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاعْتِكَافِ لَمَّا كَانَ صَلَاحُ القلب، واستقامته في طريق ومسيره إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُتَوَقِّفًا عَلَى جَمْعِيِّتِهِ عَلَى اللَّهِ، وَلَمِّ شَعَثِهِ بِإِقْبَالِهِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ شَعَثَ الْقَلْبِ لَا يَلُمُّهُ إِلَّا الْإِقْبَالُ على الله، وكانت فضول الشراب والطعام، وفضول مخالطة الأنام، وفضول المنام، وفضول الكلام مِمَّا يَزِيدُهُ شَعَثًا، وَيُشَتِّتُهُ فِي كُلِّ وَادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، ويضعفه، أو يعوقه ويوقفه، اقتضت حكمة الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ بِعِبَادِهِ أَنْ شَرَعَ لَهُمْ مِنَ الصَّوْمِ مَا يُذْهِبُ فُضُولَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَيَسْتَفْرِغُ مِنَ الْقَلْبِ أَخْلَاطَ الشَّهَوَاتِ الْمُعَوِّقَةِ لَهُ عَنْ سيره إلى الله، وَشَرْعِهِ بِقَدْرِ الْمَصْلَحَةِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بَهِ الْعَبْدُ في دنياه وأخراه، ولا يضره، وَشَرَعَ لَهُمُ الِاعْتِكَافَ الَّذِي مَقْصُودُهُ وَرُوحُهُ عُكُوفُ القلب على الله، والانقطاع عن الخلق، والاشتغال به وحده، فَيَصِيرُ أُنْسُهُ بِاللَّهِ بَدَلًا عَنْ أُنْسِهِ بِالْخَلْقِ، فَيَعُدُّهُ بِذَلِكَ لِأُنْسِهِ بِهِ يَوْمَ الْوَحْشَةِ فِي القبر. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ إِنَّمَا يَتِمُّ مَعَ الصَّوْمِ، شُرِعَ الِاعْتِكَافُ فِي أَفْضَلِ أَيَّامِ الصَّوْمِ وهو العشر الأخير من رمضان، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الِاعْتِكَافَ إِلَّا مَعَ الصَّوْمِ، وَلَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم إلا مع الصوم. وَأَمَّا الْكَلَامُ، فَإِنَّهُ شُرِعَ

لِلْأُمَّةِ حَبْسُ اللِّسَانِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فُضُولُ الْمَنَامِ، فَإِنَّهُ شُرِعَ لَهُمْ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ مَا هُوَ مِنْ أَفْضَلِ السَّهَرِ وَأَحْمَدِهِ عَاقِبَةً، وَهُوَ السَّهَرُ الْمُتَوَسِّطُ الَّذِي يَنْفَعُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ، وَلَا يَعُوقُ العبد عن مصلحته، وَمَدَارُ رِيَاضَةِ أَرْبَابِ الرِّيَاضَاتِ وَالسُّلُوكِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَسْعَدُهُمْ بِهَا مَنْ سَلَكَ فِيهَا المنهاج المحمدي، فلم يَنْحَرِفِ انْحِرَافَ الْغَالِينَ، وَلَا قَصَّرَ تَقْصِيرَ الْمُفَرِّطِينَ، وقد ذكرنا هديه فِي صِيَامِهِ وَقِيَامِهِ وَكَلَامِهِ، فَلْنَذْكُرْ هَدْيَهُ فِي اعْتِكَافِهِ. «كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ» (¬1) حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَرَكَهُ مَرَّةً فَقَضَاهُ فِي شَوَّالٍ، وَاعْتَكَفَ مَرَّةً فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الْأَوْسَطِ، ثم العشر الأواخر يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا في العشر الأواخر، فداوم على الاعتكاف حَتَّى لَحِقَ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِخِبَاءٍ، فَيُضْرَبُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ يَخْلُو فِيهِ لربه عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الِاعْتِكَافَ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَهُ، فَأَمَرَ بِهِ مَرَّةً، فَضُرِبَ له، فَأَمَرَ أَزْوَاجُهُ بِأَخْبِيَتِهِنَّ فَضُرِبَتْ، فَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ، نظر فرأى تلك الأخبية، فأمر بخبائه ففوض، وترك الاعتكاف في رمضان حتى اعتكف الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ، وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلَّ سنة عشرة أيام، «فلما كان الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا» (¬2) وَكَانَ يُعَارِضُهُ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ عَارَضَهُ بِهِ مَرَّتَيْنِ، وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ أَيْضًا فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَعَرَضَ عَلَيْهِ تِلْكَ السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، وَكَانَ إِذَا اعْتَكَفَ دَخَلَ قُبَّتَهُ وَحْدَهُ، وَكَانَ لا يدخل بيته إلا لحاجة الإنسان، ويخرج رأسه إلى بيت عائشة فترجله وهي حائض، وكان بَعْضُ أَزْوَاجِهِ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَإِذَا قَامَتْ تَذْهَبُ، قَامَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، ولم يكن يُبَاشِرِ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ لَا بِقُبْلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَكَانَ إِذَا اعْتَكَفَ طُرِحَ له فراشه وسريره فِي مُعْتَكَفِهِ. وَكَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، مَرَّ بالمريض وهو في طريقه، فلا يعرج عليه إلا أن يَسْأَلْ عَنْهُ، وَاعْتَكَفَ مَرَّةً فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ، وجعل على سدتها حصيرا، كل هذا تحصيل لمقصود ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) رواه البخاري.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حجه وعمرته

الاعتكاف عَكْسُ مَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّالُ مِنِ اتِّخَاذِ الْمُعْتَكَفِ موضع عشرة، ومجلبة للزائرين، فهذا لون، والاعتكاف المحمدي لون. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجه وعمرته] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجه وعمرته اعْتَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهُنُّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. الْأُولَى: عمرة الحديبية سَنَةَ سِتٍّ، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ وحلق حيث صد هو وأصحابه وحلوا. الثانية: عمرة القضية في العام المقبل دخلها، فأقام بها ثلاثا، ثم خرج. الثالثة: عمرته التي قرنها مع حجته. الرابعة: عمرته من الجعرانة، وَلَمْ يَكُنْ فِي عُمَرِهِ عُمْرَةٌ وَاحِدَةٌ خَارِجًا من مكة، كما يفعله كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عُمَرُهُ كُلُّهَا دَاخِلًا إِلَى مَكَّةَ، وَقَدْ أَقَامَ بَعْدَ الوحي بمكة ثلاث عشر سَنَةً لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ اعْتَمَرَ خَارِجًا من مكة، ولم يفعله أحد على عهده قط إلا عائشة، لأنها أهلت بالعمرة، فحاضت فأمرها فقرنت، وأخبرها أن طوافها بالبيت وبالصفا والمروة قد وقع عن حجها وعمرتها، فوجدت في نفسها أن ترجع صواحبها بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ مُسْتَقِلَّيْنِ، فَإِنَّهُنَّ كُنَّ مُتَمَتِّعَاتٍ، وَلَمْ يَحِضْنَ، وَلَمْ يَقْرِنَّ، وَتَرْجِعُ هِيَ بِعُمْرَةٍ فِي ضِمْنِ حَجَّتِهَا، فَأَمَرَ أَخَاهَا أَنْ يُعَمِّرَهَا مِنَ التنعيم تطييبا لقلبها، وكانت عمره كلها في أشهر الحج مخالفا لهدي المشركين فإنهم يكرهون العمرة فيها، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي رَجَبٍ بِلَا شَكٍّ، وأما في رمضان، فموضع نظر، وقد صح عنه «أن عمرة في رمضان تعدل حجة» (¬1) وقد يقال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَغِلُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ بِمَا هُوَ أهم من العمرة مَعَ مَا فِي تَرْكِ ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ لأمته، فإنه لو فعل لبادرت الأمة إلى ذلك، فكان يشق عليها الجمع بين العمرة والصوم، وكان يَتْرُكُ كَثِيرًا مِنَ الْعَمَلِ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يعمله خشية المشقة عليهم. ولم يحفظ عنه أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة سنة عشر، ولما نزل فرض الحج، بادر إليه رسول ¬

(¬1) متفق عليه.

فصل في إحرامه

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تأخير، فإن فرضه تَأَخَّرَ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] (¬1) فإنها وإن نزلت سنة ست، فليس فيها فريضة الْحَجِّ وَإِنَّمَا فِيهَا الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِ وَإِتْمَامِ الْعُمْرَةِ، بعد الشروع فيهما. ولما عزم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَجِّ أَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّهُ حَاجٌّ، فَتَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ مَعَهُ، وَسَمِعَ بذلك مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، فَقَدِمُوا يُرِيدُونَ الْحَجَّ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَافَاهُ في الطريق خلائق لا يحصون، وكانوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ مَدَّ الْبَصَرِ، وَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ نَهَارًا بَعْدَ الظُّهْرِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ بِهَا أَرْبَعًا، وَخَطَبَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ خُطْبَةً عَلَّمَهُمْ فِيهَا الْإِحْرَامَ، وواجباته وسننه، فصلى الظهر، ثُمَّ تَرَجَّلَ، وَادَّهَنَ، وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ، وَخَرَجَ فَنَزَلَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَصَلَّى بِهَا الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ. [فصل في إحرامه] فصل ثُمَّ بَاتَ بِهَا، وَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، والصبح والظهر، وَكَانَ نِسَاؤُهُ كُلُّهُنَّ مَعَهُ، وَطَافَ عَلَيْهِنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا أَرَادَ الْإِحْرَامَ، اغْتَسَلَ غُسْلًا ثَانِيًا لإحرامه، ثُمَّ طَيَّبَتْهُ عائشة بِيَدِهَا بِذَرِيرَةٍ وَطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ فِي بَدَنِهِ وَرَأْسِهِ حَتَّى كَانَ وَبِيصُ الْمِسْكِ يُرَى فِي مَفَارِقِهِ وَلِحْيَتِهِ، ثُمَّ اسْتَدَامَهُ، ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداؤه، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ والعمرة في مصلاه. ولم ينقل أنه صلى للإحرام ركعتين. وَقَلَّدَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بُدُنَهُ نَعْلَيْنِ، وَأَشْعَرَهَا فِي جَانِبِهَا الْأَيْمَنِ، فَشَقَّ صَفْحَةَ سَنَامِهَا، وَسَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ أَحْرَمَ قَارِنًا. لِبَضْعَةٍ وعشرين حديثا صريحة صحيحة في ذلك، وَلَبَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ بالغسل وهو بالمعجمة: وَهُوَ مَا يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ مِنْ خِطْمِيِّ وَنَحْوِهِ يُلَبَّدُ بِهِ الشَّعْرُ حَتَّى لَا يَنْتَشِرَ، وأهل في مصلاه، ثم ركب ناقته، فأهل أيضا ثم أهل أيضا لما استقلت به على الْبَيْدَاءِ، وَكَانَ يُهِلُّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ تَارَةً، وَبِالْحَجِّ تَارَةً، لِأَنَّ الْعُمْرَةَ جُزْءٌ مِنْهُ، فَمِنْ ثَمَّ قيل: قرن. وقيل: تمتع. وقيل: أفرد. وقول ابن حزم إن ¬

(¬1) 196 البقرة.

ذلك قبل الظهر بيسير. وَهْمٌ مِنْهُ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَهَلَّ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطُّ: إِنَّ إِحْرَامَهُ كان قبل الظهر. فلا أدري من أين له هذا. ثُمَّ لَبَّى، فَقَالَ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ» وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِهَذِهِ التَّلْبِيَةِ حَتَّى سَمِعَهَا أَصْحَابُهُ، وَأَمَرَهُمْ بِأَمْرِ الله له أن يرفعوا أصواتهم بها وكان حجه على رحل لا محمل وَزَامِلَتُهُ تَحْتَهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ رُكُوبِ المحرم في المحمل والعمارية ونحوهما. وخيرهم صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْإِحْرَامِ بَيْنَ الْأَنْسَاكِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ عِنْدَ دُنُوِّهِمْ مِنْ مَكَّةَ إِلَى فَسْخِ الْحَجِّ وَالْقِرَانِ إِلَى الْعُمْرَةِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، ثُمَّ حَتَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْمَرْوَةِ. وولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأمرها أن تغتسل، وتستثفر بثوب وتحرم وتهل. ففية جواز غسل المحرم، وأن الحائض تغتسل، وأن الْإِحْرَامَ يَصِحُّ مِنَ الْحَائِضِ. ثُمَّ سَارَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسم وَهُوَ يُلَبِّي بِتَلْبِيَتِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَالنَّاسُ مَعَهُ يَزِيدُونَ فيها وينقصون، وهو يقرهم. فلما كان بالروحاء، رأى حمار وحش عقيرا قال: «دَعُوهُ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُهُ فَجَاءَ صاحبه، فقال: شأنكم به فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر فقسمه بين الرفاق،» ففيه جواز أكل المحرم صيد الحلال إذا لم يصد لأجله، ويدل على أن الصيد يملك بالإثبات. ثم مضى حتى إذا كان بَيْنَ الرُّوَيْثَةِ وَالْعَرْجِ إِذَا ظَبْيٌ حَاقِفٌ فِي ظِلٍّ فِيهِ سَهْمٌ، فَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقِفَ عنده لا يريبه أحد، والفرق بينه وبين الحمار أنه لم يعلم أن الذي صاده حلال. ثُمَّ سَارَ حَتَّى إِذَا نَزَلَ بِالْعَرْجِ، وَكَانَتْ زاملته وزاملة أبي بكر واحدة مع غلام لأبي بكر، فطلع الغلام وليس معه البعير، فقال: أين بعيرك؟ قال: أضللته البارحة. فقال أبو بكر: بعيرا واحدا وتضله! فَطَفِقَ يَضْرِبُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يبتسم، وَيَقُولُ: «انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ مَا يَصْنَعُ» - 91 - ثم مضى حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْأَبْوَاءِ، أَهْدَى لَهُ الصعب بن جثامة عجز حمار وحش، فرده، وقال: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» فَلَمَّا مَرَّ بِوَادِي عُسْفَانَ قَالَ: «يَا أبا بكر أَيَّ وَادٍ هَذَا؟ قَالَ: وَادِي عُسْفَانَ. قَالَ: لَقَدْ مَرَّ بِهِ هُودٌ وَصَالِحٌ عَلَى بكرين أحمرين خطمهما الليف، وأزرهما العباء، وأرديتهما النمار يلبون يحجون البيت العتيق» ذكره

أحمد. فلما كان بسرف حاضت عائشة وقال لأصحابه بسرف: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً، فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَا» وَهَذِهِ رُتْبَةٌ أُخْرَى فَوْقَ رُتْبَةِ التَّخْيِيرِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ، فَلَمَّا كَانَ بِمَكَّةَ، أَمَرَ أَمْرًا حَتْمًا مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً، وَيَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَلَمْ يَنْسَخْ ذَلِكَ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، بَلْ «سَأَلَهُ سراقة بن مالك عَنْ هَذِهِ الْعُمْرَةِ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِالْفَسْخِ إِلَيْهَا: هَلْ هِيَ لِعَامِهِمْ ذَلِكَ أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ بل للأبد» قال: ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أن نزل بذي طوى وهي المعروفة بِآبَارِ الزَّاهِرِ، فَبَاتَ بِهَا لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَصَلَّى بِهَا الصُّبْحَ، ثُمَّ اغْتَسَلَ مِنْ يَوْمِهِ، وَنَهَضَ إِلَى مَكَّةَ، فَدَخَلَهَا نَهَارًا مِنْ أَعْلَاهَا مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي تُشْرِفُ عَلَى الْحَجُونِ، وَكَانَ فِي الْعُمْرَةِ يدخلها مِنْ أَسْفَلِهَا، ثُمَّ سَارَ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وذلك ضحى. وذكر الطبري أنه دخل من باب بني عبد مناف الذي يسمى باب بني شيبة، وذكر أَحْمَدُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ مَكَانًا مِنْ دار يعلى استقبل البيت، ودعا، وذكر الطبري أَنَّهُ كَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ قَالَ: «اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً» وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيُكَبِّرُ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، حَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ، اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا، وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً، وَزِدْ مَنْ حَجَّهُ أَوِ اعْتَمَرَهُ تَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وبرا» وهو مرسل. فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، عَمَدَ إِلَى الْبَيْتِ، وَلَمْ يَرْكَعْ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الطواف، فلما حاذى الحجر، اسْتَلَمَهُ، وَلَمْ يُزَاحِمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عَنْهُ إِلَى جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ: نَوَيْتُ بِطَوَافِي هَذَا الْأُسْبُوعَ كَذَا وكذا. ولا افتتحه بالتكبير، ولا حاذى الحجر بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، ثُمَّ انْفَتَلَ عَنْهُ وَجَعَلَهُ عَلَى شقه الأيمن، بل استقبله واستلمه، ثم أخذ على يمينه، ولم يدع عند الباب، وَلَا تَحْتَ الْمِيزَابِ، وَلَا عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ وأركانها، ولا وقت للطواف ذكرا معينة، بَلْ حُفِظَ عَنْهُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] ورمل فيطوافه هذه الثلاثة الأشواط، وقارب بين خطاه، واضطبع بردائه، فجعله على أحد كتفيه، وأبدى

كتفه الآخر وَمَنْكِبَهُ، وَكُلَّمَا حَاذَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ أَشَارَ إِلَيْهِ، واستلمه بمحجنه وقبل المحجن، وهو عصا محنية الرأس. وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ استلم الركن اليماني، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَبَّلَهُ، وَلَا قَبَّلَ يَدَهُ عِنْدَ اسْتِلَامِهِ، وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَلَمَهُ بِيَدِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَبَّلَهَا، وَثَبَتَ عنه أنه استلمه بمحجنه، فهذه ثلاث صفات وذكر الطبراني بإسناد جيد أنه إذا استلم الركن قال: «بسم الله والله أكبر» وكلما أَتَى عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ قَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ» وَلَمْ يَسْتَلِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يمس من الأركان إلا اليمانيين فقط. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ جَاءَ إِلَى خَلْفِ الْمَقَامِ، فَقَرَأَ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] (¬1) فركع رَكْعَتَيْنِ، وَالْمَقَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، قَرَأَ فِيهِمَا بعد الفاتحة بـ " سورتي الإخلاص " وقراءته الآية بيان منه المراد منها لله بفعله، فلما فرغ من صلاته أقبل على الحجر، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا مِنَ الْبَابِ الذي يقابله، فلما دني مِنْهُ قَرَأَ « {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] أبدأ بما بدأ الله به» وللنسائي: «ابدءوا» على الْأَمْرِ. ثُمَّ رَقِيَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ يَمْشِي فَلَمَّا انْصَبَّتْ قدماه سَعَى حَتَّى إِذَا جَاوَزَ الْوَادِيَ وَأَصْعَدَ، مَشَى، وذلك قبل الميلين الأخضرين في أول المسعى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَادِيَ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ وَضْعِهِ. فكان صلى الله عليه وسلم إذا وصل الْمَرْوَةِ رَقِيَ عَلَيْهَا ; وَاسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ وَوَحَّدَهُ، وَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، فَلَمَّا أَكْمَلَ سَعْيَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ، أَمَرَ كُلَّ مَنْ لا هدي معه أن يحل حتما، وأمرهم أن يحلوا الحل كله، وَأَنْ يَبْقَوْا كَذَلِكَ إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَلَمْ يحل مِنْ أَجْلِ هَدْيِهِ، وَهُنَاكَ قَالَ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ، ولجعلتها عمرة» وَهُنَاكَ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ بِالْمَغْفِرَةِ ثَلَاثًا، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً. وأما نساؤه فَأَحْلَلْنَ، وَكُنَّ قَارِنَاتٍ إِلَّا عائشة، فَإِنَّهَا لَمْ تحل من أجل تعذر الحل بالحيض، وأمر من أهل كإهلاله أن يقيم على ¬

(¬1) البقرة: 125.

إِحْرَامِهِ إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، وَأَنْ يَحِلَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ. وَكَانَ يُصَلِّي مدة مقامه إلى يوم التروية بمنزله بالمسلمين بظاهر مكة، فأقام أربعة أيام يقصر الصلاة، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ضُحًى تَوَجَّهَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مِنًى، فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ مَنْ كَانَ أَحَلَّ مِنْهُمْ مِنْ رِحَالِهِمْ، وَلَمْ يدخلوا إلى المسجد، بَلْ أَحْرَمُوا وَمَكَّةُ خَلْفَ ظُهُورِهِمْ. فَلَمَّا وَصَلَ إلى منى، نزل وصلى بها الظهر والعصر وبات بها، فلما طلعت الشمس، سار إِلَى عَرَفَةَ، وَأَخَذَ عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ عَلَى يمين طريق الناس اليوم، وكان من الصحابة الملبي، ومنهم المكبر، وهو يسمع ولا ينكر، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ بِأَمْرِهِ، وَهِيَ قَرْيَةٌ شَرْقِيَّ عَرَفَاتٍ، وَهِيَ خَرَابٌ الْيَوْمَ، فنزل فيها حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِنَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي مِنْ أَرْضِ عُرَنَةَ. فَخَطَبَ النَّاسَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ خُطْبَةً عَظِيمَةً، قَرَّرَ فِيهَا قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ، وَهَدَمَ فِيهَا قَوَاعِدَ الشِّرْكِ وَالْجَاهِلِيَّةِ، وَقَرَّرَ فِيهَا تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي اتِّفَقَتِ الْمِلَلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَهِيَ الدِّمَاءُ وَالْأَمْوَالُ وَالْأَعْرَاضُ، وَوَضَعَ فِيهَا أُمُورَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَوَضَعَ فِيهَا رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ وَأَبْطَلَهُ، وَأَوْصَاهُمْ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا وَذَكَرَ الْحَقَّ الذي لهن وعليهن، وَأَنَّ الْوَاجِبَ لَهُنَّ الرِّزْقُ، وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يقدر ذلك تقديرا، وَأَبَاحَ لِلْأَزْوَاجِ ضَرْبَهُنَّ إِذَا أَدْخَلْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ من يكرهه أزواجهن، وأوصى فيها الأمة بِالِاعْتِصَامِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَنْ يَضِلُّوا مَا دَامُوا مُعْتَصِمِينَ بِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ مَسْئُولُونَ عَنْهُ ; وَاسْتَنْطَقَهُمْ بِمَاذَا يَقُولُونَ، وَبِمَاذَا يَشْهَدُونَ ; فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَرَفَعَ أُصْبُعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَاسْتَشْهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلِّغَ شَاهِدُهُمْ غَائِبَهُمْ وَخَطَبَ خُطْبَةً وَاحِدَةً وَلَمْ تَكُنْ خُطْبَتَيْنِ جَلَسَ بَيْنَهُمَا. فَلَمَّا أَتَمَّهَا، أَمَرَ بلالا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أقام، فصلى الظهر ركعتين أسر فيهما القراءة وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ لا يصلي الجمعة، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ أَيْضًا، وَمَعَهُ أهل مكة، فصلوا بصلاته قصرا وجمعا، وفيه أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ سَفَرَ الْقَصْرِ لَا يتحدد بمسافة معلومة. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَوَقَفَ فِي ذَيْلِ الْجَبَلِ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ

يَدَيْهِ، وَكَانَ عَلَى بَعِيرِهِ، فَأَخَذَ فِي الدُّعَاءِ والتفرع وَالِابْتِهَالِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ «عَرَفَةَ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» وَأَرْسَلَ إِلَى النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا على مشاعرهم، ويقفوا بها، فإنها من أثر إرث أبيهم إبراهيم، وَكَانَ فِي دُعَائِهِ رَافِعًا يَدَيْهِ إِلَى صَدْرِهِ، كاستطعام المسكين، وأخبرتم أن «خير الدعاء يَوْمِ عَرَفَةَ» وَذَكَرَ مِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْقِفِ: «اللُّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كالذي تقول، وَخَيْرًا مِمَّا نَقُولُ، اللَّهُمَّ لَكَ صَلَاتِي وَنُسُكِي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، ولك رب ترابي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتَاتِ الْأَمْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَجِيءُ بِهِ الرِّيحُ» ذَكَرَهُ الترمذي. وَمِمَّا ذُكِرَ مِنْ دُعَائِهِ هُنَاكَ: «اللهم إنك تَسْمَعُ كَلَامِي، وَتَرَى مَكَانِي، وَتَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي ولا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِي، أَنَا الْبَائِسُ الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنوبه، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ، وَأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وَفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وَذَلَّ جَسَدُهُ، وَرَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيَّا، وَكُنْ بِي رَءُوفًا رَحِيمًا يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ، وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ» ذَكَرَهُ الطَّبَرَانِيُّ. وذكر أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عن جده: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير» وأسانيد هذه الأدعية فيها لين. وهنا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] (¬1) . وهناك سقط رجل عن راحلته، فَمَاتَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثْوْبَيْهِ، وَلَا يُمَسَّ بِطِيبٍ وَأَنْ يُغَسَّلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَلَا يُغَطَّى رَأْسُهُ وَلَا وَجْهُهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يبعثه يوم القيامة يلبي. وفيه اثْنَا عَشَرَ حُكْمًا: الْأَوَّلُ: وُجُوبُ غُسْلِ الْمَيِّتِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ لَوْ تنجس، لم يزده غسله إلا نجاسة. الثالث: أن الميت يغسل بماء وسدر. الرَّابِعُ: أَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ بِالطَّاهِرَاتِ لَا يَسْلُبُهُ طهوريته. الخامس: إباحة الغسل للمحرم. السادس: أن المحرم ¬

(¬1) 3: المائدة.

غير ممنوع من الماء والسدر. السَّابِعُ: أَنَّ الْكَفَنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ وَعَلَى الدين، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ وَارِثِهِ وَلَا عن دين عليه. الثَّامِنُ: جَوَازُ الِاقْتِصَارِ فِي الْكَفَنِ عَلَى ثَوْبَيْنِ. التاسع: أن المحرم ممنوع من الطيب. الْعَاشِرُ: أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: مَنْعُ الْمُحْرِمِ مِنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ وبإباحته قال ستة من الصحابة، واحتج المبيحون بأقوال هؤلاء، وأجابوا عن قوله: «لا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ» بِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ. الثاني عشر: بقاء الإحرام بعد الموت. فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَاسْتَحْكَمَ غُرُوبُهَا بِحَيْثُ ذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ، أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ خَلْفَهُ، وَأَفَاضَ بِالسَّكِينَةِ وَضَمَّ إِلَيْهِ زِمَامَ ناقته حتى إن رأسها ليضرب طرف رجليه، وهو يقول: «أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع» أي: بِالْإِسْرَاعِ. وَأَفَاضَ مِنْ طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ، وَدَخَلَ عَرَفَةَ مِنْ طَرِيقِ ضَبٍّ، وَهَكَذَا كَانَتْ عَادَتُهُ صَلَوَاتُ الله وسلامه عليه في الأعياد أن يخالف بين الطريق، ثُمَّ جَعَلَ يَسِيرُ الْعَنَقَ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ المسير لَيْسَ بِالسَّرِيعِ وَلَا الْبَطِيءِ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً - وَهُوَ الْمُتَّسَعُ - نَصَّ سَيْرَهُ، أَيْ: رَفَعَهُ فَوْقَ ذلك، وكلما أتى ربوة من الرُّبَى أَرْخَى لِلنَّاقَةِ زِمَامَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ. وكان يلبي في مسيره ذلك لا يَقْطَعِ التَّلْبِيَةَ، فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ نزل، فَبَالَ وَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا، فَقَالَ لَهُ أسامة: الصلاة يا رسول الله. قال: «المصلى أمامك» ثم سار حتى أتى مزدلفة فَتَوَضَّأَ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْأَذَانِ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ حَطِّ الرِّحَالِ، وَتَبْرِيكِ الْجِمَالِ، فَلَمَّا حَطُّوا رِحَالَهُمْ أَمَرَ، فأقيمت الصلاة، ثم صلى العشاء بِإِقَامَةٍ بِلَا أَذَانٍ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثم نام حتى أصبح. ولم يحيي تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَلَا صَحَّ عَنْهُ فِي إِحْيَاءِ ليلتي العيدين شيء، وأمر في تلك الليلة بضعفة أَهْلِهِ أَنْ يَتَقَدَّمُوا إِلَى مِنًى قَبْلَ طُلُوعِ الفجر، وكان عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الْقَمَرِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَرْمُوا الجمرة حتى تطلع الشمس، وأما الحديث الذي فيه أن أم سلمة رمت قبل الفجر، فحديث منكر أنكره أحمد وغيره، ثم ذكر حديث سودة وأحاديث غيره، ثم قال: ثُمَّ تَأَمَّلْنَا فَإِذَا أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّهُ أَمَرَ الصِّبْيَانَ أَنْ لَا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهُ

لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي تَقْدِيمِ الرَّمْيِ، أَمَّا مَنْ قَدَّمَهُ مِنَ النِّسَاءِ: فَرَمَيْنَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس للعذر، والخوف عليهن من المزاحمة، وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ: جَوَازُ الرَّمْيِ قبل طلوع الشمس لعذر من مرض أو كبر، وَأَمَّا الْقَادِرُ الصَّحِيحُ "، فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ. وَالَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ إِنَّمَا هُوَ التَّعْجِيلُ بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الْقَمَرِ لَا نِصْفِ اللَّيْلِ، وَلَيْسَ مع من حده بالنصف دليل. فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّاهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ - لا قبله قطعا - بأذان وإقامة، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى مَوْقِفَهُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَأَخَذَ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ والتكبير والتهليل والذكر حتى أسفر جدا، ووقف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْقِفِهِ، وَأَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّ مُزْدَلِفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ، ثُمَّ سَارَ مردفا للفضل وهو يلبي في مسيره، وانطلق أسامة عَلَى رِجْلَيْهِ فِي سُبَّاقِ قُرَيْشٍ. وَفِي طَرِيقِهِ ذَلِكَ أَمَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنْ يَلْقُطَ لَهُ حَصَى الْجِمَارِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، وَلَمْ يَكْسِرْهَا مِنَ الجبل تلك الليلة، كما يفعله مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ، وَلَا الْتَقَطَهَا بِاللَّيْلِ، فالتقط له سبعا من حصى الحذف، فجعل ينفضهن في كفه، ويقول: «أمثال هَؤُلَاءِ فَارْمُوا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» فَلَمَا أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ حَرَّكَ نَاقَتَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ، وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتَهُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي نزل بها بأس الله بأعدائه، فإن هناك أصاب أصحاب الفيل ما قص الله، ولذلك سمي وَادِيَ مُحَسِّرٍ، لِأَنَّ الْفِيلَ حُسِرَ فِيهِ، أَيْ: أعيا وَانْقَطَعَ عَنِ الذَّهَابِ إِلَى مَكَّةَ. وَكَذَلِكَ فَعَلَ في سلوكه الحجر. ومحسر: برزخ بين منى ومزدلفة، والمشعر الحرام لا من هذه، ولا من هذه، وعرفة: برزخ بين عرفة والمشعر الحرام لَيْسَ مِنْهُمَا، فَمِنًى مِنَ الْحَرَمِ وَهِيَ مَشْعَرٌ، وَمُحَسِّرٌ مِنَ الْحَرَمِ، وَلَيْسَ بِمَشْعَرٍ، وَمُزْدَلِفَةُ: حَرَمٌ ومشعر، وعرفة لَيْسَتْ مَشْعَرًا، وَهِيَ مِنَ الْحِلِّ، وَعَرَفَةُ حِلٌّ ومشعر. وسلك الطَّرِيقَ الْوُسْطَى بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ وَهِيَ الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى مِنًى، فَأَتَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَوَقَفَ فِي أَسْفَلِ الْوَادِي، وَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْجَمْرَةَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَرَمَاهَا رَاكِبًا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ يُكَبِّرُ مَعَ كل حصاة وحينئذ قطع التلبية وبلال

وَأُسَامَةُ مَعَهُ أَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ، وَالْآخَرُ يظلله بثوبه من الحر، وفيه جواز استظلال الحرم بالمحمل ونحوه. فصل ثم رجع إلى منى، فخطب خُطْبَةً بَلِيغَةً أَعْلَمَهُمْ فِيهَا بِحُرْمَةِ يَوْمِ النَّحْرِ وتحريمه وفضله، وحرمة مكة على جميع البلاد، وأمر بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِمَنْ قَادَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِأَخْذِ مَنَاسِكِهِمْ عَنْهُ، وَقَالَ: «لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا» وَعَلَّمَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، وَأَنْزَلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ مَنَازِلَهُمْ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ لَا يَرْجِعُوا بَعْدَهُ كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَأَمَرَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ «رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ» وَأَنْزَلَ الْمُهَاجِرِينَ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ، وَالْأَنْصَارَ عَنْ يَسَارِهَا، وَالنَّاسُ حَوْلَهُمْ، وَفَتَحَ اللَّهُ لَهُ أَسْمَاعَ النَّاسِ حَتَّى سمعه أَهْلُ مِنًى فِي مَنَازِلِهِمْ، وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ تِلْكَ: «اعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» وَوَدَّعَ حينئذ الناس، فقالوا: حجة الوداع. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ بِمِنًى، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ وَكَانَ يَنْحَرُهَا قَائِمَةً مَعْقُولَةً يدها اليسرى، وكان عددها عَدَدَ سِنِي عُمْرِهِ، ثُمَّ أَمْسَكَ، وَأَمَرَ عليا أن ينحر ما بقي من المائة، ثم أمره أن يتصدق بجلالها وجلودها ولحومها فِي الْمَسَاكِينِ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُعْطِيَ الْجَزَّارَ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا مِنْهَا، وَقَالَ: «نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا وَقَالَ: مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» فَإِنْ قيل ففي " الصحيحين " عن أنس في حجته: «ونحر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قياما» قيل: يخرج على أحد وجوه ثلاثة: أحدها: أنه لم ينحر بيده أكثر من سبع، وأنه أمر من نحر إِلَى تَمَامِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ زَالَ عَنْ ذلك المكان وأمر عليا، فَنَحَرَ مَا بَقِيَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أنس لم يشاهد إلا السبع، وشاهد جابر تمام النحر. الثالث: أنه نحر بيده منفردا سبعا، ثُمَّ أَخَذَ هُوَ وعلي الْحَرْبَةَ مَعًا فَنَحَرَا كَذَلِكَ تَمَامَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ كَمَا قَالَ غرفة بن الحارث الكندي أَنَّهُ شَاهَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ قَدْ أَخَذَ بِأَعْلَى الْحَرْبَةِ، وَأَمَرَ عليا فَأَخَذَ بِأَسْفَلِهَا، وَنَحَرَا بِهَا الْبُدْنَ. ثُمَّ انْفَرَدَ

علي بِنَحْرِ الْبَاقِي مِنَ الْمِائَةِ كَمَا قَالَ جابر، والله أعلم. ولم ينقل أحد أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَصْحَابَهُ جَمَعُوا بَيْنَ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَةِ، بَلْ كَانَ هَدْيُهُمْ هُوَ ضحاياهم، فَهُوَ هَدْيٌ بِمِنًى، وَأُضْحِيَةٌ بِغَيْرِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ عائشة: «ضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ،» فَهُوَ هَدْيٌ أطلق عليه اسم الأضحية، فإنهن كن متمتعات، وعليهن الهدي، وهو الذي نحره عنهن، لكن فِي قِصَّةِ نَحْرِ الْبَقَرَةِ عَنْهُنَّ وَهُنَّ تِسْعٌ إِشْكَالٌ وَهُوَ: إِجْزَاءُ الْبَقَرَةِ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سبعة، وهذا الحديث جاء بثلاثة ألفاظ. أحدها: بقرة واحدة بينهن. الثاني: أنه ضحى عنهن يومئذ بالبقر. الثالث: دَخَلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَزْوَاجِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي عَدَدِ مَنْ تُجْزِئُ عَنْهُمُ الْبَدَنَةُ وَالْبَقَرَةُ، فقيل: سبعة، وقيل: عشرة. وهو قول إسحاق، ثم ذكر أحاديث، ثم قال: وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُخَرَّجُ عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ إِمَّا أَنْ يُقَالَ ; أَحَادِيثُ السَّبْعَةِ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: عَدْلُ الْبَعِيرِ بِعَشَرَةٍ مِنَ الغنم في الغنائم، لأجل تعديل القسمة، وأما في الهدايا والضحايا، فهو تقدير شرعي، وإما أن يقال: ذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والإبل والله أعلم. ونحر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْحَرِهِ بِمِنًى وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ «مِنًى كُلَّهَا مَنْحَرٌ» وَأَنَّ «فِجَاجَ مَكَّةَ طريق ومنحر» وفيه دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّحْرَ لَا يَخْتَصُّ بِمِنًى، بَلْ حَيْثُ نَحَرَ مِنْ فِجَاجِ مَكَّةَ أَجْزَأَهُ، لقوله: «وقفت ههنا وعرفة كلها موقف» وسئل أن يبنى له بمنى مظلة مِنَ الْحَرِّ، فَقَالَ: «لَا مِنًى مُنَاخُ مَنْ سبق» وفيه دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاكِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، وَأَنَّ مَنْ سبق إلى مكان، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَرْتَحِلَ عَنْهُ، وَلَا يملك بذلك. فلما أكمل نحره، استدعى بالحلاق، فحلق رأسه، وقال: «يا معمر أمكنك رسول الله مِنْ شَحْمَةِ أُذُنِهِ، وَفِي يَدِكَ الْمُوسَى، فَقَالَ: أما والله يا رسول الله إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيَّ وَمَنِّهِ قال: أجل» ذكره أحمد وقال له: " خذ " وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم قسمه بين من يليه، ثم أشار إليه، فحلق الأيسر، ثم قال: " ههنا أبو طلحة؟ " فدفعه إليه. ودعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثا، وللمقصرين مرة، وهو دليل على أن الحلق نسك ليس بإطلاق من محصور.

فصل ثم أفاض إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ الظُّهْرِ رَاكِبًا، فَطَافَ طَوَافَ الإفاضة، وَلَمْ يَطُفْ غَيْرَهُ، وَلَمْ يَسْعَ مَعَهُ، هَذَا هو الصواب، ولم يرمل فيه، وَلَا فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ، وَإِنَّمَا رَمَلَ فِي طواف القدوم. ثم أتى زمزم وَهُمْ يَسْقُونَ، فَقَالَ: «لَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ لَنَزَلْتُ فَسَقَيْتُ مَعَكُمْ» ثُمَّ نَاوَلُوهُ الدَّلْوَ، فَشَرِبَ وهو قائم، قيل: لأن النهي عن الشرب قائما على وجه الاختيار، وقيل: للحاجة وهو أظهر، وفي " الصحيح " عن ابن عباس «طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع على بعيره يستلم الركن بمحجنه،» وفيه مثله من حديث جابر، وفيه: لِأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ، وَلِيُشْرِفَ، وَلِيَسْأَلُوهُ، فَإِنَّ النَّاسَ غشوه. وهذا ليس بطواف الوداع، فإنه طافه ليلا، ولا طواف القدوم، فإنه رمل فيه، ولم يقل أحد: رملت به راحلته. ثم رجع إلى منى. واختلف هل صلى الظهر بها أو بمكة؟ وطافت عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ طَوَافًا وَاحِدًا، وَسَعَتْ سَعْيًا وَاحِدًا أَجْزَأَهَا عَنْ حَجِّهَا وَعُمْرَتِهَا، وَطَافَتْ صفية ذلك اليوم، ثم حاضت فأجزأها ذلك عن طواف الوداع، فاستقرت سنته صلى الله عليه وسلم إذا حاضت المرأة قبل الطواف أَنْ تَقْرِنَ وَتَكْتَفِيَ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ، وَسَعْيٍ وَاحِدٍ، وإن حاضت بعد طواف الإفاضة أجزأها عن طواف الوداع. ثم رجع إِلَى مِنًى مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ فَبَاتَ بِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ انْتَظَرَ زَوَالَ الشَّمْسِ، فَلَمَّا زَالَتْ مشى إلى الجمرة وَلَمْ يَرْكَبْ فَبَدَأَ - 105 - بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى الَّتِي تَلِيَ مَسْجِدَ الْخَيْفِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ يَقُولُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثم تقدم عن الْجَمْرَةِ أَمَامَهَا حَتَّى أَسْهَلَ فَقَامَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَدَعَا دُعَاءً طَوِيلًا بِقَدْرِ سورة البقرة، ثم أتى الْوُسْطَى، فَرَمَاهَا كَذَلِكَ. ثُمَّ انْحَدَرَ ذَاتَ الْيَسَارِ مِمَّا يَلِي الْوَادِي، فَوَقَفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو قَرِيبًا مِنْ وُقُوفِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ أتى جمرة العقبة، فاستبطن الوادي وجعل البيت عن يساره، فرماها بسبع حصيات كذلك، ثم رجع، ولم يبق عندها، فقيل: لضيق المكان. وَقِيلَ - وَهُوَ أَصَحُّ -: إِنَّ دُعَاءَهُ كَانَ فِي نَفْسِ الْعِبَادَةِ، قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَلَمَّا رَمَى جمرة العقبة،

فصل قد تضمنت حجته صلى الله عليه وسلم ست وقفات للدعاء

فرغ الرمي، والدعاء في صلب العبادة أفضل. وَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِي هَلْ كَانَ يَرْمِي قبل الصلاة أَوْ بَعْدَهَا، وَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قبلها، لِأَنَّ جابرا وَغَيْرَهُ قَالُوا: كَانَ يَرْمِي إِذَا زالت الشمس. [فصل قد تَضَمَّنَتْ حَجَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّ وقفات للدعاء] فَصْلٌ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ حَجَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ست وقفات للدعاء: على الصفا، وعلى المروة، وبعرفة، وبمزدلفة، وعند الجمرة الأولى، وعند الجمرة الثانية. وخطب بمنى خطبتين، يوم النحر وتقدمت، والثانية في أوسط أيام التشريق، واستأذنه العباس أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، وَاسْتَأْذَنَهُ رِعَاءُ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ خَارِجَ مِنًى عِنْدَ الْإِبِلِ، فَأَرْخَصَ لَهُمْ أَنْ يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُوا رَمْيَ يومين بعده يَرْمُونَهُ فِي أَحَدِهِمَا. قَالَ مالك: ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَالَ: فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَخَّصَ لِلرُّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا، وَيَدَعُوا يَوْمًا، فَيَجُوزُ لِلطَّائِفَتَيْنِ بِالسُّنَّةِ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِمِنًى، وَأَمَّا الرَّمْيُ، فَإِنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَهُ، بَلْ لَهُمْ أن يؤخروه إلى الليل، وَلَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ. ومن لَهُ مَالٌ يَخَافُ ضَيَاعَهُ، أَوْ مَرِيضٌ يَخَافُ مِنْ تَخَلُّفِهِ عَنْهُ، أَوْ كَانَ مَرِيضًا لَا يمكنه الْبَيْتُوتَةُ، سَقَطَتْ عَنْهُ بِتَنْبِيهِ النَّصِّ عَلَى هَؤُلَاءِ، ولم يتعجل في يومين، بل تأخر حتى أكمل الرمي في الأيام الثَّلَاثَةِ، وَأَفَاضَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ بَعْدَ الظُّهْرِ إِلَى الْمُحَصَّبِ، وَهُوَ الْأَبْطَحُ، وَهُوَ خَيْفُ بَنِي كِنَانَةَ ; فوجد أبا رافع قد ضرب قبته هُنَاكَ، وَكَانَ عَلَى ثِقْلِهِ تَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَرَقَدَ رَقْدَةً، ثُمَّ نَهَضَ إِلَى مَكَّةَ، فَطَافَ لِلْوَدَاعِ لَيْلًا سحرا. وَرَغِبَتْ إِلَيْهِ عائشة تَلِكَ اللَّيْلَةَ أَنْ يُعْمِرَهَا عُمْرَةً مُفْرَدَةً، فَأَخْبَرَهَا أَنَّ طَوَافَهَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا والمروة قد أجزأها عَنْ حَجِّهَا وَعُمْرَتِهَا، فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ تَعْتَمِرَ عمرة مفردة، فأمر أخاها أَنْ يُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، فَفَرَغَتْ مِنْ عُمْرَتِهَا ليلا، ثم وافت المحصب مع أخيها في جوف الليل، فقال: فرغتما؟ قالت: نعم فنادى بالرحيل، فارتحل الناس. وفي حديث الأسود في " الصحيح " عنها: «فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ

مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ، وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا، أَوْ أنا مصعدة وهو منهبط منها» . ففيه أنهما تلاقيا، وفي الأول أنه انتظرها في منزله، فإن كان حديث الأسود محفوظا، فصوابه: لقيني وَأَنَا مُصْعِدَةٌ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ مُنْهَبِطٌ إِلَيْهَا. فإنها قضت عمرتها، ثم أصعدت لميعاده، فوافته وقد أخذ في الهبوط إلى مكة للوداع، وله وجه غير هذا. واختلف فِي التَّحْصِيبِ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَوْ مَنْزِلُ اتفاق؟ على قولين. فصل وَيَرَى كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ دُخُولَ الْبَيْتِ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ؛ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ سُنَّتُهُ أَنَّهُ لم يدخله في حجة ولا في عمرة، وإنما دخله عام الفتح، وكذلك الوقوف في الملتزم الذي روي عنه أنه فعله يوم الفتح، وأما ما رواه أبو داود مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن جده، أنه وضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه وبسطهما وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ-فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَقْتِ الْوَدَاعِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِهِ، وَلَكِنْ قال مجاهد وغيره: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ فِي الْمُلْتَزَمِ بَعْدَ طَوَافِ الوداع. وكان ابن عباس يلتزم ما بين الركن والباب. وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ، وَلَمْ تَكُنْ أم سلمة طافت بالبيت وهي شاكية، وأرادت الخروج، فقال لها: «إِذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ، فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ والناس يصلون» . ففعلته، ولم تصل حتى خرجت، وهذا محال أَنْ يَكُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَهُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ بِلَا رَيْبٍ، فَظَهَرَ أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ يَوْمَئِذٍ بمكة، وسمعته أم سلمة يقرأ بـ " الطور "، ثم ارتحل رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، «فَلَمَّا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ، لَقِيَ رَكْبًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، قَالُوا: فَمَنِ الْقَوْمُ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرفعت إليه امرأة صبيا لها من محفة، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ» . فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ، بَاتَ بِهَا، فَلَمَّا رَأَى الْمَدِينَةَ، كَبَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» . ثُمَّ

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الهدايا والضحايا والعقيقة

دَخَلَهَا نَهَارًا مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ، وَخَرَجَ مِنْ طريق الشجرة. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي " سُورَةِ الأنعام "، وهذا مأخوذ من القرآن من أربع آيات: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1] (¬1) الثانية: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34] (¬2) الثالثة: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] (¬3) الآية، والتي تليها الرابعة قوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [الْمَائِدَةِ: 95] (¬4) . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَبْلُغُ الْكَعْبَةَ مِنَ الْهَدْيِ هُوَ هَذِهِ الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ، وَهَذَا اسْتِنْبَاطُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه. والذبائح التي هي عبادة ثلاث: الهدي، والأضحية، والعقيقة، فأهدى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَمَ، وَأَهْدَى الْإِبِلَ، وأهدى عن نسائه البقر والهدي في مقامه، وفي حجته، وفي عمرته، وكانت سنته تقليد الغنم دون إشعارها، وإذا بعث بهديه وهو مقيم، لم يحرم منه شيئا كان منه حلالا، وإذا أَهْدَى الْإِبِلَ، قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا، فَيَشُقُّ صَفْحَةَ سَنَامِهَا الأيمن يسيرا حتى يسيل الدم، وإذا بعث بهدي أَمَرَ رَسُولَهُ إِذَا أَشْرَفَ عَلَى عَطَبٍ شَيْءٌ منه أن ينحر، ثُمَّ يَصْبُغَ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ، ثُمَّ يَجْعَلَهُ على صفحته، ولا يأكل منه ولا أحد من رُفْقَتِهِ، ثُمَّ يَقْسِمُ لَحْمَهُ، وَمَنَعَهُ مِنْ هَذَا الأكل سدا للذريعة؛ لئلا يقصر فِي حِفْظِهِ. وَشَرَّكَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي الْهَدْيِ، البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، وَأَبَاحَ لِسَائِقِ الْهَدْيِ رُكُوبَهُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا احْتَاجَ حتى يجد غيره، وقال علي: يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا مَا فَضَلَ عَنْ وَلَدِهَا. وكان هديه ينحر الإبل قياما معقولة يدها اليسرى، وَكَانَ يُسَمِّي اللَّهَ عِنْدَ نَحْرِهِ وَيُكَبِّرُ، وَكَانَ يَذْبَحُ نُسُكَهُ بِيَدِهِ، وَرُبَّمَا وَكَّلَ فِي بَعْضِهِ، وكان إذا ذبح الغنم وضع قدميه على صفاحها، ثم سمى وكبر ونحر، وأباح لِأُمَّتِهِ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ هَدَايَاهُمْ وَضَحَايَاهُمْ، وَيَتَزَوَّدُوا منها، ونهاهم أَنْ يَدَّخِرُوا مِنْهَا بَعْدَ ثَلَاثٍ لِدَافَّةٍ دَفَّتْ عليهم ذلك العام. وربما ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 2. (¬2) سورة الحج، الآية: 34. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 142. (¬4) سورة المائدة، الآية: 95.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الأضاحي

قسم لحم الهدي، وربما قال: «من شاء اقتطع» ، واستدل به عَلَى جَوَازِ النُّهْبَةِ فِي النِّثَارِ فِي الْعُرْسِ ونحوه، وفرق بينهما بما لا يتبين، وكان هديه ذَبْحُ هَدْيِ الْعُمْرَةِ عِنْدَ الْمَرْوَةِ، وَهَدْيِ الْقِرَانِ بمنى، ولم ينحر هديه قَطُّ إِلَّا بَعْدَ أَنْ حَلَّ، وَلَمْ يَنْحَرْهُ أَيْضًا إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ الرَّمْيِ، فهذه أَرْبَعَةُ أُمُورٍ مُرَتَّبَةٍ يَوْمَ النَّحْرِ، أَوَّلُهَا: الرَّمْيُ، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي النَّحْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ البتة. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأضاحي] فَصْلٌ وَأَمَّا هَدْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأضاحي، فإنه لَمْ يَكُنْ يَدَعُ الْأُضْحِيَّةَ، وَكَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ ينحرهما بعد الصلاة، وأخبر أن من ذبح قبلها، فَلَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لحم قدمه لأهله هذا الذي ندين لله به، لا الاعتبار بوقت الصلاة، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا الْجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيَّ مما سواه، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذبح» ، ولكنه منقطع، وهو مذهب عطاء والحسن والشافعي، واختاره ابن المنذر. وكان من هديه اخْتِيَارُ الْأُضْحِيَّةِ، وَاسْتِحْسَانُهَا، وَسَلَامَتُهَا مِنَ الْعُيُوبِ، وَنَهَى عن أن يضحى بعضباء الأذن والقرن، أي مقطوع الأذن ومكسور الْقَرْنِ -النِّصْفُ فَمَا زَادَ - ذَكَرَهُ أبو داود. وَأَمَرَ أَنْ تُسْتَشْرَفَ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ، أَيْ يُنْظَرُ إلى سلامتها. ولا يُضَحَّى بِعَوْرَاءَ، وَلَا مُقَابَلَةٍ، وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا شرقاء، ولا خرقاء. والمقابلة: الَّتِي قُطِعَ مُقَدَّمُ أُذُنِهَا، وَالْمُدَابَرَةُ: الَّتِي قُطِعَ مُؤَخَّرُ أُذُنِهَا، وَالشَّرْقَاءُ: الَّتِي شُقَّتْ أُذُنُهَا، وَالْخَرْقَاءُ: التي خرقت أذنها، ذكره أبو داود. وكان من هديه أن يضحي بالمصلى، وذكر أبو داود عن جابر أَنَّهُ ذَبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَالَ: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فطر السماوات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» ، ثُمَّ ذَبَحَ، وَأَمَرَ الناس إذا ذبحوا أن يحسنوا الذبحة، وَإِذَا قَتَلُوا أَنْ يُحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» . ومن هديه أَنَّ الشَّاةَ تُجْزِئُ عَنِ الرَّجُلِ وَعَنْ أَهْلِ بيته.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في العقيقة

[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العقيقة] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العقيقة في " الموطأ " أنه سئل عنها، فَقَالَ: «لَا أُحِبُّ الْعُقُوقَ» ، كَأَنَّهُ كَرِهَ الِاسْمَ، وصح عنه من حديث عائشة: «عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة» ، «كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السابع، ويحلق رأسه ويسمى» (¬1) . والرهن في اللغة: الحبس، قيل: محبوسا عن الشفاعة لأبويه، والظاهر أنه مرتهن في نفسه محبوس من خير يراد به، ولا يلزم منه أن يعاقب في الآخرة. وَقَدْ يَفُوتُ الْوَلَدَ خَيْرٌ بِسَبَبِ تَفْرِيطِ الْأَبَوَيْنِ، كترك التسمية عند الجماع، وذكر أبو داود فِي " الْمَرَاسِيلِ " عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في عقيقة الحسن والحسين «أن يبعثوا إِلَى بَيْتِ الْقَابِلَةِ بِرِجْلٍ، وَكُلُوا وَأَطْعِمُوا، وَلَا تكسروا منها عظما» . قال الميموني: تذاكرنا لكم يسمى الصبي؟ فقال أبو عبد الله: يُرْوَى عَنْ أنس أَنَّهُ يسمى لثلاثة، وأما سمرة فقال: يسمى اليوم السابع. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأسماء والكنى] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عند الله عز وجل رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله» (¬2) . وثبت عنه: «إن أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ» . وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُسَمِّيَنَّ غُلَامَكَ يَسَارًا، وَلَا رَبَاحًا، ولا نجيحا، ولا أفلح، فإنك تقول: أثم هو؟ فلا يكون، فيقول: لَا» . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ غَيَّرَ اسْمَ عَاصِيَةَ، وَقَالَ أَنْتِ جَمِيلَةٌ، وَكَانَ اسْمُ جويرية: بَرَّةً، فغيره بِاسْمِ جويرية، وَقَالَتْ زينب بنت أم سلمة: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسمى بهذا الاسم، وَقَالَ: «لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمُ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ البر منكم» ، وَغَيَّرَ اسْمَ أَبِي الْحَكَمِ بِأَبِي شُرَيْحٍ، وَغَيَّرَ اسم أصرم بزرعة، وغير اسم ¬

(¬1) أبو داود والنسائي، وصححه غير واحد. (¬2) متفق عليه، قال سفيان بن عيينة: ملك الأملاك مثل شاهنشاه.

حزن جد ابن المسيب بسهل، فأبى، وقال: السهل يوطأ ويمتهن. وقال أبو داود: وَغَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَ الْعَاصِ، وَعَزِيزٍ، وَعَتَلَةَ، وَشَيْطَانٍ، وَالْحَكَمِ، وَغُرَابٍ، وَحُبَابٍ، وَشِهَابٍ، فَسَمَّاهُ هِشَامًا، وَسَمَّى حَرْبًا سلما، وسمى المضطجع المنبعث، وأرضا عَفْرَةً سَمَّاهَا خَضِرَةً، وَشَعْبَ الضَّلَالَةِ سَمَّاهُ شَعْبَ الهداية، وبنو مغوية سماهم بني رشدة. ولما كانت الأسماء قوالب للمعاني دالة عَلَيْهَا، اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا ارْتِبَاطٌ وَتَنَاسُبٌ، وَأَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْنَى مَعَهَا بمنزلة الأجنبي المحض، فإن الحكمة تَأْبَى ذَلِكَ، وَالْوَاقِعُ يَشْهَدُ بِخِلَافِهِ، بَلْ لِلْأَسْمَاءِ تَأْثِيرٌ فِي الْمُسَمَّيَاتِ، وَلِلْمُسَمَّيَاتِ تَأَثُّرٌ عَنْ أَسْمَائِهَا فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَالْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ، وَاللَّطَافَةِ وَالْكَثَافَةِ، كما قيل: وقل أن أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَبٍ ... إِلَّا وَمَعْنَاهُ إِنْ فَكَّرْتَ فِي لَقَبِهْ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يحب الِاسْمَ الْحَسَنِ، وَأَمَرَ إِذَا أَبْرَدُوا إِلَيْهِ بَرِيدًا أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الِاسْمِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، وَكَانَ يَأْخُذُ الْمَعَانِيَ مِنْ أَسْمَائِهَا فِي الْمَنَامِ وَالْيَقَظَةِ، كما رأى أنه هو وَأَصْحَابَهُ فِي دَارِ عقبة بن رافع، فَأُتُوا برطب من رطب ابن طاب، فأوله أن العاقبة لهم في الدنيا، والرفعة في الآخرة، وأن الدين الذي اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُمْ قَدْ أَرْطَبَ وَطَابَ. وَتَأَوَّلَ سهولة الأمر يوم الحديبية من مجيء سهيل، وَنَدَبَ جَمَاعَةً إِلَى حَلْبِ شَاةٍ، فَقَامَ رَجُلٌ يَحْلُبُهَا، فَقَالَ: «مَا اسْمُكَ "؟ قَالَ: مرة. فَقَالَ: " اجْلِسْ " فَقَامَ آخَرُ، فَقَالَ: " مَا اسْمُكَ "؟ قَالَ- أظنه-: حرب. قال: " اجْلِسْ " فَقَامَ آخَرُ، فَقَالَ: " مَا اسْمُكَ "؟ قَالَ: يعيش، قال: " احْلُبْهَا» . وَكَانَ يَكْرَهُ الْأَمْكِنَةَ الْمُنْكَرَةَ الْأَسْمَاءِ، وَيَكْرَهُ العبور فيها، كما مر بين جبلين، فسأل عن اسمهما، فقالوا: فاضح ومخزي. فعدل عنهما. وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ وَالْمُسَمَّيَاتِ مِنَ الِارْتِبَاطِ وَالتَّنَاسُبِ وَالْقَرَابَةِ مَا بَيْنَ قَوَالِبِ الْأَشْيَاءِ وَحَقَائِقِهَا، وَمَا بَيْنَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ، عَبَرَ الْعَقْلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ، كَمَا كَانَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرُهُ يَرَى الشَّخْصَ، فَيَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَلَا يَكَادُ يخطئ، وضد هذا العبور من اسمه إلى مسماه، كما سأل عمر رَجُلًا عَنِ اسْمِهِ، فَقَالَ: جمرة. فَقَالَ: وَاسْمُ أبيك؟ فقال: شهاب. قَالَ: فَمَنْزِلُكَ؟ قَالَ بِحَرَّةِ النَّارِ. قَالَ: فَأَيْنَ مَسْكَنُكَ؟ قَالَ: بِذَاتِ لَظَى. قَالَ: اذْهَبْ فَقَدِ

احترق مسكنك، قال: فذهب فوجد الأمر كذلك. كَمَا عَبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اسم سهيل إلى سهولة أمرهم، وأمر أُمَّتَهُ بِتَحْسِينِ أَسْمَائِهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ يَوْمَ القيامة بها، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ اشْتُقَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَصْفِهِ اسْمَانِ مُطَابِقَانِ لِمَعْنَاهُ وَهُمَا أَحْمَدُ وَمُحَمَّدٌ، فَهُوَ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الصفات المحمودة وشرفها وفضلها على صفات غيره أحمد، وكذلك تكنيته لأبي الحكم بأبي جهل، وَكَذَلِكَ تَكْنِيَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لعبد العزى بأبي لهب لما كان مصيره إلى ذات لهب، وَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، واسمها يثرب، سماها طيبة لما زال عنها من معنى التثريب. ولما كان الاسم الحسن يقتضي مسماه قال صلى الله عليه وسلم لبعض العرب: «يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أحسن اسْمَكُمْ وَاسْمَ أَبِيكُمْ» . فَانْظُرْ كَيْفَ دَعَاهُمْ إِلَى عبودية الله بذلك. وتأمل أيضا الستة المتبارزين يوم بدر، فالوليد لَهُ بِدَايَةُ الضَّعْفِ، وشيبة لَهُ نِهَايَةُ، وعتبة من العتب، وأقرانهم علي وأبو عبيدة والحارث، العلو والعبودية والسعي الذي هو الحرث؛ ولذلك كَانَ أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ مَا اقْتَضَى أحب الأوصاف إليه، فإضافة العبودية إلى اسمه " الله " و " الرحمن " أحب إليه من إضافتها إلى " القادر " و " القاهر " وغيرها، وهذا لأن التعلق الذي بين العبد وربه إنما هو العبودية المحضة، والتعلق بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ بِالرَّحْمَةِ الْمَحْضَةِ، فَبِرَحْمَتِهِ كان وجوده وكماله، والغاية التي أوجده لأجلها أن يتألهه وحده محبة وخوفا ورجاء. ولما والهم مبدأ الإرادة، وترتب على إرادته حرثه وكسبه، كان أصدق الأسماء اسم همام وحارث. ولما كان الملك الحق لله وحده، كان أخنع اسم عِنْدَ اللَّهِ وَأَغْضَبَهُ لَهُ اسْمُ " شَاهَانْ شَاهْ " أَيْ مَلِكُ الْمُلُوكِ، وَسُلْطَانُ السَّلَاطِينِ، فَإِنَّ ذَلِكَ ليس لأحد غير الله عز وجل، فتسمية غيره بهذا باطل، والله لا يحب الباطل. وقد ألحق بعضهم بهذا قاضي القضاة، ويليه في القبح سيد الناس؛ لأن ذلك ليس لأحد إِلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولما كان مسمى الحرب والمرارة أكره شيء للنفوس، كان أقبح الأشياء حربا ومرة. وعلى قياسه حنظلة وحزن، وما أشبههما، ولما كانت أخلاق الأنبياء أشرف الأخلاق، كانت في أسمائهم أحسن الْأَسْمَاءِ، فَنَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ إِلَى التَّسَمِّي بِأَسْمَائِهِمْ، كَمَا فِي سُنَنِ أبي داود وَالنَّسَائِيِّ عَنْهُ: «تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ» ، ولو لم يكن فيه

إِلَّا أَنَّ الِاسْمَ يُذْكَرُ بِمُسَمَّاهُ، وَيَقْتَضِي التَّعَلُّقَ بمعناه، لكفى به مصلحة. وأما النهي عن تسمية الغلام بيسار ونحوه، فهو لمعنى آخر أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «فَإِنَّكَ تقول: أثم هو؟» ، إلى آخره، والله أعلم هل هي من تمام الحديث أو مدرجة، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَمَّا كَانَتْ قَدْ تُوجِبُ تطيرا، وقد تقطع الطيرة على المتطيرين، فاقتضت حكمة الرءوف بأمته أن يمنعهم من أسباب توجب سماع المكروه أو وقوعه، هذا إلى مَا يَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنْ تَعْلِيقِ ضِدِّ الِاسْمِ عَلَيْهِ بِأَنْ يُسَمَّى يَسَارًا مَنْ هُوَ مِنْ أَعْسَرِ النَّاسِ، وَنَجِيحًا مَنْ لَا نَجَاحَ معه، وَرَبَاحًا مَنْ هُوَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَيَكُونُ قَدْ وَقَعَ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ وَعَلَى اللَّهِ. وَأَمْرٌ آخر وهو أن يطالب بمقتضى اسمه، فلا يوجد، فيجعل ذلك سببا لسبه، كَمَا قِيلَ: سَمَّوْكَ مِنْ جَهْلِهِمْ سَدِيدًا ... وَاللَّهِ ما فيك من سداد وَهَذَا كَمَا أَنَّ مِنَ الْمَدْحِ مَا يَكُونُ ذما موجبا لسقوط الْمَمْدُوحِ عِنْدَ النَّاسِ، فَإِنَّهُ يُمْدَحُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، فَتُطَالِبُهُ النُّفُوسُ بِمَا مُدِحَ بِهِ، وَتَظُنُّهُ عنده، فلا تجده كذلك فينقلب ذما، ولو ترك لغير مدح لم تحصل تلك المفسدة، وأمر آخر وهو اعتقاد المسمى أنه كذلك، فيقع في تزكية نفسه كما نهى أن تسمى برة، فعلى هذا تكره التسمية بالرشيد والمطيع والطائع وأمثال ذلك. وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْكُفَّارِ بِذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ التَّمْكِينُ منه ولا دعاؤهم بشيء من ذلك. وأما الكنية، فهي نوع تكريم، وَكَنَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صهيبا بأبي يحيى، وعليا بأبي تراب، وكنى أخا أنس وهو صغير بأبي عمير، وكان هديه تَكْنِيَةُ مَنْ لَهُ وَلَدٌ، وَمَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ كنية إلا الكنية بأبي القاسم، فاختلف فيه، فقيل: لا يجوز مطلقا، وقيل: لا يجوز الجمع بينها وبين اسمه، وفيه حديث صححه الترمذي، وقيل: يجوز الجمع بينهما؛ لحديث علي: «إن ولد لي من بعدك ولد أسميه باسمك، وأكنيه بكنيتك؟ قال: " نعم» ، صححه الترمذي. وقيل: المنع منه مختص بحياته. والصواب أن التكني بِكُنْيَتِهِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَالْمَنْعُ فِي حَيَاتِهِ أَشَدُّ، والجمع بينهما ممنوع منه، وحديث علي فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِيهِ نَوْعُ تَسَاهُلٍ فِي التَّصْحِيحِ. وَقَدْ قَالَ علي: إِنَّهَا رُخْصَةٌ لَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْمَنْعِ لِمَنْ

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق واختيار الألفاظ

سواه. وحديث عائشة: «ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي» -غريب، لا يعارض بمثله الحديث الصحيح. وكره قوم من السلف الكنية بأبي عيسى، وأجازه آخَرُونَ، فَرَوَى أبو داود عَنْ زَيْدِ بْنِ أسلم أن عمر ضرب ابنا له تكنى بأبي عيسى، وكني المغيرة بأبي عيسى فقال عمر: أَمَا يَكْفِيكَ أَنْ تُكْنَى بأبي عبد الله؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كناني بذلك، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قد غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وإنا لفي جلجلتنا (¬1) . فَلَمْ يَزَلْ يُكَنَّى بأبي عبد الله حَتَّى هلك. ونهى عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ كَرْمًا، وَقَالَ: «الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ» (¬2) وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تَدُلُّ عَلَى كثرة الخير والمنافع، وقال: «لا يغلبنكم الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ، أَلَا وَإِنَّهَا الْعِشَاءُ، وإنهم يسمونها العتمة» . وقال: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا ولو حبوا» . والصواب أنه لم ينه عن إطلاق هذا الاسم بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ أَنْ يُهْجَرَ اسْمُ العشاء، وهذا محافظة منه على الاسم الذي سمى به الْعِبَادَاتِ، فَلَا تُهْجَرُ وَيُؤَثِّرُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا، كَمَا فَعَلَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي هِجْرَانِ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ، وَإِيثَارِ الْمُصْطَلَحَاتِ الْحَادِثَةِ عَلَيْهَا، وَنَشَأَ بِسَبَبِ هَذَا مِنَ الْجَهْلِ وَالْفَسَادِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ، وَهَذَا لمحافظته على تقديم ما قدمه الله. وبدأ في العيد بالصلاة ثم نحر، وَبَدَأَ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِالْوَجْهِ، ثُمَّ الْيَدَيْنِ، ثم الرأس، ثم الرجلين، وقدم زكاة الفطر على صلاة العيد؛ لقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الْأَعْلَى: 14 - 15] (¬3) وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِفْظِ الْمَنْطِقِ وَاخْتِيَارِ الْأَلْفَاظِ] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِفْظِ الْمَنْطِقِ وَاخْتِيَارِ الْأَلْفَاظِ كَانَ يَتَخَيَّرُ فِي خِطَابِهِ، وَيَخْتَارُ لِأُمَّتِهِ أَحْسَنَ الْأَلْفَاظِ وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء وَالْفُحْشِ، فَلَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا صَخَّابًا وَلَا فَظًّا. وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظِ الشَّرِيفِ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وأن ¬

(¬1) بفتح الجيم وسكون اللام ثم جيم مفتوحة، قال ابن قتيبة: معناه: وبقينا نحن في عدد من أمثالنا من المسلمين لا ندري ما يصنع بنا. (¬2) رواية مسلم. (¬3) سورة الأعلى، الآية: 14، 15.

يستعمل اللفظ الْمَكْرُوهُ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. فمن الأول منعه أن يقال للمنافق: سيد، ومنعه أن يسمى العنب كرما، ومنعه من تَسْمِيَةَ أبي جهل بأبي الحكم، وَكَذَلِكَ تَغْيِيرُهُ لِاسْمِ أبي الحكم مِنَ الصَّحَابَةِ بأبي شريح، وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ» ، ومنه نهيه المملوك أن يقول لسيده: ربي، وللسيد أن يقول لمملوكه: عبدي وأمتي. وقال لمن ادعى أنه طبيب: «أنت رَفِيقٌ، وَطَبِيبُهَا الَّذِي خَلَقَهَا» . وَالْجَاهِلُونَ يُسَمُّونَ الْكَافِرَ الَّذِي لَهُ عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّبِيعَةِ: حَكِيمًا، ومنه قوله للذي قال: وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى: «بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ» . ومنه قَوْلُهُ: «لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فلان» ، وفي معناه قَوْلُ مَنْ لَا يَتَوَقَّى الشِّرْكَ: أَنَا بِاللَّهِ وَبِكَ، وَأَنَا فِي حَسْبِ اللَّهِ وَحَسْبِكَ، وَمَا لِي إِلَّا اللَّهُ وَأَنْتَ، وَأَنَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى الله وعليك، وهذا من الله ومنك، ووالله وحياتك، وأمثال هذه الألفاظ التي يجعل قائلها المخلوق ندا لله، وَهِيَ أَشَدُّ مَنْعًا وَقُبْحًا مِنْ قَوْلِهِ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ: أَنَا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شئت - فلا بأس، كَمَا فِي حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ: «لَا بَلَاغَ لِيَ اليوم إلا بالله ثم بك» . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تُطْلَقَ أَلْفَاظُ الذَّمِّ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، فَمِثْلُ نهيه عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ، وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الدهر» ، وفيه ثلاث مفاسد، أحدها: سب من ليس بأهل. الثانية: أن سبه متضمن للشرك، فإنه ما سبه إلا لظنه أنه يضر وينفع، وأنه ظالم، وأشعار هؤلاء فِي سَبِّهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ يصرح بلعنه. الثالثة: أن السب إنما يقع على فاعل هَذِهِ الْأَفْعَالَ الَّتِي لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ فِيهَا أهواءهم لفسدت السماوات والأرض، وإذا وافقت أهواءهم حمدوا الدهر، وأثنوا عليه. ومن هذا قوله: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ؛ فَإِنَّهُ يَتَعَاظَمُ حتى يكون مثل البيت ويقول: صرعته بقوتي، ولكن ليقل: باسم اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَتَصَاغَرُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ الشيطان يقول: إنك لتلعن ملعنا» . وهذا قول: أَخْزَى اللَّهُ الشَّيْطَانَ، وَقَبَّحَ اللَّهُ الشَّيْطَانَ. فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يُفْرِحُهُ، وَيَقُولُ: عَلِمَ ابْنُ آدَمَ أني نلته بقوتي. وذلك ما يعينه على إغوائه، فَأَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَسَّهُ شَيْءٌ مِنَ الشَّيْطَانِ: أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ، وَيَذْكُرَ اسْمَهُ، وَيَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ

أنفع له، وأغيظ للشيطان. ومن ذلك نهيه أن يقول الرجل: خبثت نفسي، ولكن يقول: لَقِسَتْ نَفْسِي، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، أَيْ: غَثَّتْ نَفْسِي، وَسَاءَ خُلُقُهَا، فَكَرِهَ لَهُمْ لَفْظَ الْخُبْثِ؛ لِمَا فيه من القبح والشناعة. ومنه نهيه عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَمْرِ: لَوْ أني فعلت كذا وكذا، وقال: «إنها تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى مَا هُوَ أنفع منها، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: «قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ» (¬1) وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَوْ كُنْتُ فَعَلْتُ كذا لَمْ يَفُتْنِي مَا فَاتَنِي، أَوْ لَمْ أَقَعْ فِيمَا وَقَعْتُ فِيهِ - كَلَامٌ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ فائدة، فإنه غير مستقبل لما استدبر، وغير مستقيل عثرته بـ " لو "، وفي ضمنها أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَمَا قَدَّرَهُ فِي نفسه لكان غير ما قضاه الله، ووقوع خلاف المقدر مُحَالٌ، فَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ كَذِبًا وَجَهْلًا وَمُحَالًا، وَإِنْ سَلِمَ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ، لَمْ يَسْلَمْ من معارضته بـ " لو ". فإن قيل: فتلك الأسباب التي تمناها من القدر أيضا، قِيلَ: هَذَا حَقٌّ، وَلَكِنَّ هَذَا يَنْفَعُ قَبْلَ وقوع القدر المكروه، فإذا وقع فلا سبيل إلى دفعه أو تخفيفه، بل وظيفته في هذه الحال أَنْ يَسْتَقْبِلَ فِعْلَهُ الَّذِي يَدْفَعُ بِهِ أَوْ يُخَفِّفَ أَثَرَ مَا وَقَعَ، وَلَا يَتَمَنَّى مَا لَا مَطْمَعَ فِي وُقُوعِهِ، فَإِنَّهُ عَجْزٌ مَحْضٌ، والله يلوم على العجز، ويحب الكيس، وهو مباشرة الأسباب، فهي تفتح عمل الخير، وأما العجز فيفتح عَمَلَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَمَّا يَنْفَعُهُ صار إلى الأماني الباطنة؛ وَلِهَذَا اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العجز والكسل، وَهُمَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ، وَيَصْدُرُ عَنْهُمَا الْهَمُّ وَالْحَزَنُ، وَالْجُبْنُ وَالْبُخْلُ، وَضَلَعُ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةُ الرِّجَالِ، فَمَصْدَرُهَا كُلُّهَا عَنِ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَعُنْوَانُهَا " لَوْ "؛ فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ " لَوْ " تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» . فَالْمُتَمَنِّي مِنْ أعجز الناس وأفلسهم، وَأَصْلُ الْمَعَاصِي كُلِّهَا الْعَجْزُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَعْجِزُ عن أسباب الطَّاعَاتِ، وَعَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُبْعِدُهُ عَنِ الْمَعَاصِي وتحول بينه وبينها، فجمع في هذا الحديث الشريف أصل الشر وفروعه، ومبادئه وغاياته، وموارده ومصادره، وهو مشتمل على ثمان خِصَالٍ، كُلُّ خَصْلَتَيْنِ مِنْهَا قَرِينَتَانِ، فَقَالَ: «أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ» وَهُمَا قَرِينَانِ، فَإِنَّ المكروه الوارد على القلب إما أن يكون سببه أمرا ماضيا، ¬

(¬1) ولا يقول: لو، فإن " لو " تفتح عمل الشيطان (مسلم) .

فَهُوَ يُحْدِثُ الْحَزَنَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَوَقُّعُ مستقبل، فهو يورث الْهَمَّ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْعَجْزِ، فَإِنَّ مَا مَضَى لَا يُدْفَعُ بِالْحُزْنِ، بَلْ بِالرِّضَى وَالْحَمْدِ، وَالصَّبْرِ، وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ. وَقَوْلِ الْعَبْدِ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شاء فعل، وما يستقبل لا يدفع بالهم، بل إما أن تكون لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ، فَلَا يَعْجِزُ عَنْهُ، وإما أن لا يكون له حيلة في دفعه، فلا يجزع، ويلبس له لباسه من التوحيد والتوكل والرضى بالله ربا فيما يحب ويكره، والهم والحزن يُضْعِفَانِ الْعَزْمَ، وَيُوهِنَانِ الْقَلْبَ، وَيَحُولَانِ بَيْنَ الْعَبْدِ وبين الاجتهاد فيما ينفعه، فهما حمل ثقيل على ظهر السائر. ومن حكمة العزيز الحكيم تسليط هذين الجنديين على القلوب المعرضة عنه ليردها عن كثير من معاصيها، ولا تزال هذه القلوب في هذا السجن حتى تخلص إلى فضاء التوحيد والإقبال على الله، ولا سبيل إلى خلاص القلب من ذلك إِلَّا بِذَلِكَ، وَلَا بَلَاغَ إِلَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُوصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يدل عليه إلا هو. وإذا أقام العبد في أي مقام كان، فبحمده وحكمته أقامه فيه، ولم يمنع العبد حقا هو له، بل منعه ليتوسل إليه بمحابه فيعطيه، وليرده إِلَيْهِ وَلِيُعِزَّهُ بِالتَّذَلُّلِ لَهُ، وَلِيُغْنِيَهُ بِالِافْتِقَارِ إِلَيْهِ، وليجبره بالانكسار بين يديه، وليوليه بِعَزْلِهِ أَشْرَفَ الْوِلَايَاتِ، وَلِيُشْهِدَهُ حِكْمَتَهُ فِي قُدْرَتِهِ، ورحمته في عزته، وإن منعه عطاء، وعقوبته تأديب، وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه إليه، والله أعلم حيث يجعل مواقع عطائه، وأعلم حيث يجعل رسالته {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] (¬1) فهو سبحانه أعلم بمحال التخصيص، فمن رده المنع إليه، انقلب عطاء، ومن شغله عطاؤه عنه، انقلب منعا، وهو سبحانه وتعالى أراد منا الاستقامة، وَاتِّخَاذَ السَّبِيلِ إِلَيْهِ، وَأَخْبَرَنَا أَنَّ هَذَا الْمُرَادَ لَا يَقَعُ حَتَّى يُرِيدَ مِنْ نَفْسِهِ إِعَانَتَنَا ومشيئتنا له، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِيرِ: 29] (¬2) . فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعَبْدِ رُوحٌ أُخْرَى نسبتها إلى روحه كنسبة روحه إلى جسده يَسْتَدْعِي بِهَا إِرَادَةَ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا يَكُونُ بِهِ الْعَبْدُ فَاعِلًا، وَإِلَّا فَمَحَلُّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْعَطَاءِ، وَلَيْسَ مَعَهُ إِنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْعَطَاءُ، فَمَنْ جَاءَ بِغَيْرِ إناء رجع ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 53. (¬2) سورة التكوير، الآية: 29.

بالحرمان، فلا يلومن إلا نفسه. والمقصود أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَاذَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَهُمَا قَرِينَانِ، وَمِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَهُمَا قرينان، فإن تخلف صلاح العبد وكماله عَنْهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، فهو عجز، أو يكون قادرا لكن لا يريده، فَهُوَ كَسَلٌ، وَيَنْشَأُ عَنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فَوَاتُ كُلِّ خَيْرٍ، وَحُصُولُ كُلِّ شَرٍّ، وَمِنْ ذَلِكَ الشَّرِّ تَعْطِيلُهُ عَنِ النَّفْعِ بِبَدَنِهِ وَهُوَ الْجُبْنُ، وَعَنِ النَّفْعِ بِمَالِهِ وَهُوَ الْبُخْلُ، ثُمَّ يَنْشَأُ له من ذلك غَلَبَتَانِ غَلَبَةٌ بِحَقٍّ وَهِيَ غَلَبَةُ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةٌ بباطل وهي غلبة الرجال، وكل هذه ثَمَرَةُ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ فِي الحديث الصحيح للذي قَضَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: «حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ، فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ونعم الوكيل» فهذا قالها بَعْدَ عَجْزِهِ عَنِ الْكَيْسِ الَّذِي لَوْ قَامَ بِهِ لَقُضِيَ لَهُ عَلَى خَصْمِهِ، فَلَوْ فَعَلَ الأسباب ثم غلب فقالها، لوقعت مَوْقِعَهَا، كَمَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ لَمَّا فَعَلَ الأسباب المأمور بها ولم يعجز بترك شيء منها، ثم غلبه العدو، وألقوه في النار قال: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ -فَوَقَعَتِ الْكَلِمَةُ مَوْقِعَهَا، فأثرت أثرها. وَكَذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ أُحُدٍ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] فتجهزوا وخرجوا لهم، ثم قالوها، فأثرت أثرها؛ ولهذا قال الله تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 - 3] (¬1) وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11] (¬2) فالتوكل والحسب بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، وإن كان مشوبا بنوع من التوكل، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ تَوَكُّلَهُ عَجْزًا، ولا عَجْزَهُ تَوَكُّلًا، بَلْ يَجْعَلُ تَوَكُّلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الأسباب الَّتِي لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ إِلَّا بِهَا كُلِّهَا. ومن هنا غلط طائفتان، إِحْدَاهُمَا: زَعَمَتْ أَنَّ التَّوَكُّلَ وَحْدَهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ، فعطلت الأسباب التي اقتضتها حكمة الله. الثانية: قامت بالأسباب وأعرضت عن التوكل، والمقصود أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْشَدَ الْعَبْدَ إِلَى ما فيه غاية كماله، أن يحرص على ما ينفعه ويبذل ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 2-3. (¬2) سورة المائدة، الآية: 11.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الذكر

جهده، وحينئذ ينفعه التحسب، بخلاف من فرط ثُمَّ قَالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَإِنَّ الله يلومه، ولا يكون في هذه الْحَالِ حَسْبَهُ، فَإِنَّمَا هُوَ حَسْبُ مَنِ اتَّقَاهُ ثم توكل عَلَيْهِ. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الذكر] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الذكر كان أكمل الناس ذِكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ كَانَ كَلَامُهُ كُلُّهُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ، وَكَانَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَتَشْرِيعُهُ لِلْأُمَّةِ ذِكْرًا مِنْهُ لِلَّهِ، وَإِخْبَارُهُ عَنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ، وَأَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ ذِكْرًا مِنْهُ لَهُ، وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بآلائه وتمجيده وتسبيحه وتحميده ذكرا منه له، وسكوته ذِكْرًا مِنْهُ لَهُ بِقَلْبِهِ، فَكَانَ ذَاكِرًا لِلَّهِ في كل أحيانه، وَكَانَ ذِكْرُهُ لِلَّهِ يَجْرِي مَعَ أَنْفَاسِهِ قَائِمًا وقاعدا، وعلى جنبه، وفي مشيه، وركوبه، وسيره، وَنُزُولِهِ، وَظَعْنِهِ، وَإِقَامَتِهِ. وَكَانَ إِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وإليه النشور» (¬1) . ثم ذكر أحاديث رويت فيما يقول إذا استيقظ، وإذا استفتح الصلاة، وإذا خرج من بيته، وإذا دخل المسجد، وما يقول في المساء والصباح، وعند لبس الثوب، ودخول المنزل، ودخول الخلاء، والوضوء والأذان، ورؤية الهلال، والأكل، والعطاس. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند دخوله مَنْزِلِهِ] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند دخوله منزله لم يكن لِيَفْجَأَ أَهْلَهُ بَغْتَةً يَتَخَوَّنُهُمْ، وَلَكِنْ كَانَ يَدْخُلُ على علم منهم، وكان يسلم عليهم، وإذا دخل بدأ بالسواك، وسأل عَنْهُمْ، وَرُبَّمَا قَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ؟» وَرُبَّمَا سَكَتَ حَتَّى يُحْضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا تيسر. وثبت عنه أَنَّ رَجُلًا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبُولُ، فَلَمْ يرد عليه، وأخبر «أن الله سبحانه وتعالى يمقت الحديث على الغائط» ، وكان لا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها بغائط، ولا بول، ونهى عن ذلك. ¬

(¬1) البخاري ومسلم.

في هديه صلى الله عليه وسلم في الأذان

[فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأذان] فصل ثبت عنه أنه سن الأذان بترجيع وغير ترجيع، وشرع الإقامة مثنى وفرادى، ولكن كلمة الإقامة: " قد قامت الصلاة " لم يصح عنه إفرادها لبتة، وكذلك الذي صَحَّ عَنْهُ تَكْرَارُ لَفْظِ التَّكْبِيرِ فِي أَوَّلِ الأذان، ولم يصح عنه الاقتصار على مرتين، وشرع لأمته عند الأذان خمسة أنواع، أحدها: أن يقولوا مثل ما قال المؤذن إلا في الحيعلتين، فأبدلها بِـ " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ "، ولم يجئ عنه الجمع بينهما، ولا الاقتصار على الحيعلة، وهذا مقتضى الحكمة، فإن كلمات الأذان ذكر، وكلمة الحيعلة دعاء إلى الصلاة، فَسُنَّ لِلسَّامِعِ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ بكلمة الإعانة. الثاني: أن يقول: «رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: «غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ» (¬1) . الثَّالِثُ: أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ إِجَابَةِ المؤذن، وأكملها ما علمه أمته، وَإِنْ تَحَذْلَقَ الْمُتَحَذْلِقُونَ. الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ بَعْدَ الصلاة عَلَيْهِ: «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا محمودا» (¬2) . الخامس: أن يدعو لنفسه بعد ذلك، وفي " السنن " عنه: «الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ (¬3) قَالُوا: فَمَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وكان يُكْثِرُ الدُّعَاءَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَأْمُرُ فِيهِ بِالْإِكْثَارِ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ، وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَيَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلله الا الله، الله أكبر الله أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ، فَالْعَمَلُ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ هَكَذَا، يَشْفَعُ التَّكْبِيرَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ ثَلَاثًا، فَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ جابر وابن عباس من فعلهما فقط، وكلاهما حسن. قال الشافعي: وإن زاد ¬

(¬1) مسلم. (¬2) رواه البخاري. (¬3) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في آداب الطعام

فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلا - كَانَ حَسَنًا. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آداب الطعام] فصل وكان إِذَا وَضَعَ يَدَهُ فِي الطَّعَامِ قَالَ: بِسْمِ الله (¬1) وأمر بذلك، ويقول: «إذا نسي فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ» (¬2) . حَدِيثٌ صحيح. والصحيح وجوب التسمية عند الأكل، وتاركها شريكه الشيطان في طعامه وشرابه، وَأَحَادِيثُ الْأَمْرِ بِهَا صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ، وَلَا مُعَارِضَ لها، ولا إجماع يسوغ مخالفتها. وهل تزول مشاركة الشيطان بتسمية أحد الجماعة؟ فنص الشافعي على إجزاء تسمية الواحد، وَقَدْ يُقَالُ: لَا تُرْفَعُ مُشَارَكَةُ الشَّيْطَانِ لِلْآكِلِ إلا بتسميته هو. وللترمذي وصححه عَنْ عائشة كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ طَعَامًا فِي سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ لو سمى لكفاكم» . ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه سموا؛ ولهذا جاء في حديث حذيفة: حضرنا طعاما، فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدها، ثم جاء أعرابي، فأخذ بيده، فقال: «إن الشيطان يستحل الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ يَدَهُ لَفِي يَدِي مَعَ يَدَيْهِمَا، ثُمَّ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ وأكل» . ولكن قد يجاب بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن وضع يده، ولكن الجارية ابتدأت. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ رَدِّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ فَفِيهَا نظر، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ، فَحَقٌّ عَلَى كل مسلم سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ» ، وَإِنْ سُلِّمَ الْحُكْمُ فِيهِمَا، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْأَكْلِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الشيطان إنما يتوصل إلى مشاركته الأكل، فإذا سمى غيره، قلت مشاركة الشيطان له، وتبقى المشاركة بينه وبين من لم يسم. ويذكر عنه أنه كان إذا شرب تنفس في الإناء ¬

(¬1) لحديث عمر بن أبي سلمة قال: قال لي رسول الله (سم الله وكل، وكل بيمينك وكل مما يليك) متفق عليه. (¬2) رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في السلام والاستئذان

ثلاثة أنفاس يحمد اللَّهَ فِي كُلِّ نَفَسٍ، وَيَشْكُرُهُ فِي آخِرِهِنَّ. وما عاب طعاما قط، بل إن كَرِهَهُ تَرَكَهُ، وَسَكَتَ، وَرُبَّمَا قَالَ: أَجِدُنِي أَعَافُهُ، أي لَا أَشْتَهِيهِ. وَكَانَ يَمْدَحُ الطَّعَامَ أَحْيَانًا كَقَوْلِهِ: نعم الإدام الخل، لمن قال: ما عندنا إلا خل؛ تطييبا لِقَلْبِ مَنْ قَدَّمَهُ، لَا تَفْضِيلًا لَهُ عَلَى سائر الأنواع. وكان إذا قرب إليه الطعام وَهُوَ صَائِمٌ قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، وَأَمَرَ مَنْ قدم إِلَيْهِ الطَّعَامُ وَهُوَ صَائِمٌ أَنْ يُصَلِّيَ، أَيْ: يَدْعُو لِمَنْ قَدَّمَهُ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا أَنْ يأكل منه. وإذا دعي إلى طعام، وتبعه أحد، أعلم به رب المنزل، فقال: إِنَّ هَذَا تَبِعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ رَجَعَ، وَكَانَ يَتَحَدَّثُ عَلَى طعامه، كما قال لربيبه: «سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» ، وَرُبَّمَا كَانَ يُكَرِّرُ عَلَى أَضْيَافِهِ عَرْضَ الْأَكْلِ عَلَيْهِمْ مِرَارًا كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْكَرَمِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أبي هريرة في اللبن. وَكَانَ إِذَا أَكَلَ عِنْدَ قَوْمٍ، لَمْ يَخْرُجْ حتى يدعو لهم. وذكر أبو داود عنه في قصة أبي الهيثم: فَأَكَلُوا فَلَمَّا فَرَغُوا. قَالَ: «أَثِيبُوا أَخَاكُمْ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا إِثَابَتُهُ؟ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا دُخِلَ بَيْتُهُ، فَأُكِلَ طَعَامُهُ، وَشُرِبَ شَرَابُهُ، فَدَعَوْا لَهُ، فَذَلِكَ إِثَابَتُهُ» . وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ مَنْزِلَهُ لَيْلَةً، فَالْتَمَسَ طَعَامًا، فَلَمْ يَجِدْهُ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي، وَاسْقِ من سقاني» . وَكَانَ يَدْعُو لِمَنْ يُضِيفُ الْمَسَاكِينَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ، وَكَانَ لَا يَأْنَفُ مِنْ مُؤَاكَلَةِ أَحَدٍ صَغِيرًا كان أو كبيرا، حرا أو عبدا، ويأمر بالأكل باليمنى، وينهى عن الشمال، وَيَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ» . ومقتضاه تحريم الأكل بها، وهو الصحيح، وَأَمَرَ مَنْ شَكَوْا إِلَيْهِ أَنَّهُمْ لَا يَشْبَعُونَ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِهِمْ وَلَا يَتَفَرَّقُوا، وَأَنْ يذكروا اسم الله عليه. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَذِيبُوا طَعَامَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ، وَلَا تَنَامُوا عَلَيْهِ فتقسوا قلوبكم» . وأحرى به أن يكون صحيحا، والتجربة تشهد بِهِ. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في السلام والاستئذان] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السلام والاستئذان في " الصحيحين " عنه: «إن أفضل الإسلام أن تطعم الطعام، وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» . وفيهما: «إن آدم لَمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ قَالَ

لَهُ: اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فسلم عليهم، واستمع مَا يُحَيُّونَكَ، فِإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليكم وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ» (¬1) . وَفِيهِمَا: أَنَّهُ أمر بإفشاء السلام، وأنهم إذا أفشوا السلام تَحَابُّوا، وَأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، ولا يؤمنوا حَتَّى يَتَحَابُّوا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: قَالَ عمار: ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ: الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالِمِ، وَالْإِنْفَاقُ مِنَ الْإِقْتَارِ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ أُصُولَ الْخَيْرِ وَفُرُوعَهُ، فَإِنَّ الْإِنْصَافَ يُوجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءَ حقوق الله كاملة، وأداء حقوق الناس كذلك، ويعاملهم بما يحب أن يعاملوه به، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا إِنْصَافُهُ نَفْسَهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَدَّعِي لَهَا مَا لَيْسَ لَهَا، وَلَا يخبثها بتدنيسه لها بمعاصي الله. والمقصود أن الإنصاف من نفسه يوجب عليه معرفة ربه، ومعرفة نفسه، ولا يزاحم بها مالكها، ولا يقسم مراده بين مراد سيده ومرادها، وَهِيَ قِسْمَةٌ ضِيزَى، مِثْلَ قِسْمَةِ الَّذِينَ قَالُوا: {هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الْأَنْعَامِ: 136] (¬2) . فَلْيَنْظُرِ الْعَبْدُ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقِسْمَةِ بَيْنَ نَفْسِهِ وَشُرَكَائِهِ وَبَيْنَ اللَّهِ، لِجَهْلِهِ وَظُلْمِهِ، وَإِلَّا لُبِّسَ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يشعر، فإنه خلق ظلوما جهولا، وكيف يَطْلُبُ الْإِنْصَافَ مِمَّنْ وَصْفُهُ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ! وَكَيْفَ يُنْصِفُ الْخَلْقَ مَنْ لَمْ يُنْصِفِ الْخَالِقَ، كَمَا في الأثر: «ابْنَ آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي، خَيْرِي إِلَيْكَ نَازِلٌ، وشرك إلي صاعد» . وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: «ابْنَ آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي، خَلَقْتُكَ وَتَعْبُدُ غَيْرِي، وَأَرْزُقُكَ وَتَشْكُرُ سِوَايَ» . ثُمَّ كَيْفَ يُنْصِفُ غَيْرَهُ مَنْ لَمْ يُنْصِفْ نَفْسَهُ بل قد ظلمها أقبح الظلم وهو يظن أنه يكرمها! وبذل السلام للعالم يتضمن التواضع، وأنه لا يتكبر على أحد، والإنفاق من الإقتار لا يصدر إلا عن قوة ثقة بالله، وقوة يقين، وتوكل ورحمة، وزهد وسخاء نفس، وتكذيب بوعد من يعده الفقر، ويأمره بالفحشاء. ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 136.

وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «مر بصبيان فسلم عليهم» . وذكر الترمذي «أنه مر بِجَمَاعَةِ نِسْوَةٍ، فَأَلْوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ» . وَقَالَ أبو داود عَنْ أسماء بنت يزيد: «مَرَّ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِسْوَةٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا» . وَهِيَ رِوَايَةُ حَدِيثِ الترمذي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّهُ سَلَّمَ عَلَيْهِنَّ بِيَدِهِ. وفي الْبُخَارِيِّ: أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَنْصَرِفُونَ مِنَ الْجُمُعَةِ، فَيَمُرُّونَ عَلَى عَجُوزٍ فِي طَرِيقِهِمْ، فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهَا، فَتُقَدِّمُ لَهُمْ طَعَامًا مِنْ أُصُولِ السَّلْقِ وَالشَّعِيرِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَسْأَلَةِ السَّلَامِ عَلَى النِّسَاءِ؛ يُسَلِّمُ عَلَى الْعَجُوزِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ دُونَ غيرهن. وفي " صحيح البخاري ": «يسلم الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارِّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالرَّاكِبِ على الماشي، والقليل على الكثير» . وفي الترمذي: «يُسَلِّمُ الْمَاشِي عَلَى الْقَائِمِ» . وَفِي " مُسْنَدِ البزار " عنه: «وَالْمَاشِيَانِ أَيُّهُمَا بَدَأَ فَهُوَ أَفْضَلُ» . وَفِي " سُنَنِ أبي داود " عَنْهُ: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ من بدأهم بالسلام» . وكان من هديه السَّلَامُ عِنْدَ الْمَجِيءِ إِلَى الْقَوْمِ، وَالسَّلَامُ عِنْدَ الِانْصِرَافِ عَنْهُمْ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا قعد أحدكم فليسلم، وإذا قام، فليسلم، فليست الأولى بأحق مِنَ الْآخِرَةِ» (¬1) . وَذَكَرَ أبو داود عَنْهُ: «إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ صَاحِبَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ أَيْضًا» . وَقَالَ أنس: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَاشَوْنَ، فَإِذَا لقيتهم شَجَرَةٌ أَوْ أَكَمَةٌ تَفَرَّقُوا يَمِينًا وَشِمَالًا، وَإِذَا الْتَقَوْا مِنْ وَرَائِهَا، سَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. ومن هديه أن الداخل إلى المسجد يبتدئ بركعتين، ثم يجيء فيسلم، فَتَكُونُ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ قَبْلَ تَحِيَّةِ أَهْلِهِ، فَإِنَّ تلك حق الله، والسلام عليهم حق لهم، وحق الله تعالى في مثل هذا أولى بِالتَّقْدِيمِ بِخِلَافِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، فَإِنَّ فِيهَا نِزَاعًا، والفرق بينهما حاجة الآدمي، وعدم اتساع المال لأداء الحقين. وَعَلَى هَذَا فَيُسَنُّ لِدَاخِلِ الْمَسْجِدِ إِذَا كَانَ فيه جماعة ثلاث تحيات مرتبة. أحدها: أَنْ يَقُولَ عِنْدَ دُخُولِهِ: بِسْمِ اللَّهِ وَالصَّلَاةُ والسلام على رسول الله، ثم يصلي تحية المسجد، ثم يسلم على القوم. وكان إذا دخل على أهله بالليل سلم تَسْلِيمًا لَا يُوقِظُ النَّائِمَ، وَيُسْمِعُ الْيَقْظَانَ. ذَكَرَهُ مسلم، وذكر الترمذي عنه: «السلام قبل الكلام» ، ولأحمد عن ابن عمر ¬

(¬1) أبو داود والترمذي وقال حسن.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في السلام على أهل الكتاب

مرفوعا: «السلام قبل السؤال، فمن بدأ بِالسُّؤَالِ قَبْلَ السَّلَامِ، فَلَا تُجِيبُوهُ» ، وَيُذْكَرُ عَنْهُ: «لا تأذنوا لمن لم يبدأ السلام» . وَكَانَ إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الباب، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ، فَيَقُولُ: السلام عليكم. وكان يسلم بنفسه على من يواجهه، ويتحمل السلام كما تحمله من الله لخديجة، وقال للصديقة الثانية: «هذا جبريل يقرأ عليك السلام» . وكان من هديه انتهاء السلام إلى: " وبركاته "، وكان من هديه أن يسلم ثلاثا كما في البخاري عن أنس، ولعله في الكثير الذي لا تبلغهم المرة، وإذا ظن أنه لم يحصل الإسماع بالأول والثاني. ومن تأمل هديه علم أن التكرير أمر عارض. وَكَانَ يَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ، وَإِذَا سَلَّمَ عليه أحد رد عليه مثلها أو أحسن على الفور، إلا لعذر مثل قضاء الحاجة، ولم يكن يرد بيده، ولا برأسه، ولا بإصبعه إلا في الصلاة، فإنه ثبت عنه الرد فيها بالإشارة. وكان هديه في الابتداء: السلام عليكم ورحمة الله. ويكره أن يقول المبتدئ: عليك السلام. وكان يرد على المسلم: وعليكم السلام، بالواو، ولو حذف الراد الواو، فقالت طائفة: لا يسقط به فرض الرد؛ لأنه مخالف للسنة، ولأنه لا يعلم هل رد أو ابتدأ التحية. وذهبت طائفة إلى أنه صحيح، نص عليه الشافعي، واحتج له بقوله تعالى: {فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [الذَّارِيَاتِ: 25] (¬1) أَيْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا بُدَّ مِنْ هَذَا، وَلَكِنْ حَسُنَ الْحَذْفُ فِي الرَّدِّ لِأَجْلِ الحذف في الابتداء، واحتج له برد الملائكة على آدم المتقدم. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السلام على أهل الكتاب] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ صَحَّ عَنْهُ: «لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الطَّرِيقِ» ، لَكِنْ قَدْ قِيلَ: إنه في قضية خاصة لما سار إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ: «لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ» ، فهل هو عام في أهل الذمة، أو يختص بمن كان حاله كأولئك؟ لكن في " صحيح مسلم ": «لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى ¬

(¬1) سورة الذاريات، الآية: 25.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاستئذان

أضيقه» . والظاهر أن هذا عام. واختلف في الرد عليهم، والصواب وجوبه، والفرق بينهم، وبين أهل البدع أنا مأمورون بهجرهم، وثبت عنه أَنَّهُ مَرَّ عَلَى مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ المسلمين والمشركين، فسلم عليهم، وكتب إلى هرقل وغيره بـ: «السلام على من اتبع الهدى» ، ويذكر عنه: «تجزئ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ» ، فَذَهَبَ إلى هذا من قال: الرد فرض كفاية، لَكِنْ مَا أَحْسَنَهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا! فَإِنَّ فيه سعيد بن خالد، قال أبو زرعة: ضعيف. وكذلك قال أبو حاتم. وكان من هديه إِذَا بَلَّغَهُ أَحَدٌ السَّلَامَ عَنْ غَيْرِهِ أَنْ يرد عليه وعلى المبلغ، ومن هَدْيِهِ تَرْكُ السَّلَامِ ابْتِدَاءً وَرَدًّا عَلَى مَنْ أحدث حدثا حتى يتوب. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الاسْتِئْذَانِ] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الاستئذان صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الاستئذان ثلاثا، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ، وَإِلَّا فَارْجِعْ» (¬1) . وَصَحَّ عَنْهُ: «إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» (¬2) . وَصَحَّ عنه أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَ الَّذِي نَظَرَ إليه من شق حُجْرَتِهِ، وَقَالَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ البصر» وَصَحَّ عَنْهُ التَّسْلِيمُ قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ فِعْلًا وَتَعْلِيمًا، وَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَأَلِجُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ: «اخْرُجْ إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل لَهُ: قُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟» (¬3) . فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ، فقال ذلك، فأذن له، فدخل. وفيه رد على من قال: يقدم الاستئذان، وعلى مَنْ قَالَ: إِنْ وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى صَاحِبِ المنزل قبل دخوله بدأ بالسلام وإلا بالاستئذان. وكان من هديه أنه إذا استأذن ثلاثا ولم يؤذن، انْصَرَفَ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنْ ظن أنهم لم يسمعوه زاد على الثلاث، وعلى من قال: يعيده بلفظ آخر. ومن هَدْيِهِ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ إِذَا قِيلَ لَهُ: مَنْ أنت؟ فيقول: فلان ابن فلان، أو يذكر كنيته، ولا يقول: أنا. وروى أبو داود عنه: «أن رسول الرجل إلى الرجل إذن له» . وذكره ¬

(¬1) البخاري ومسلم. (¬2) متفق عليه. (¬3) أبو داود بإسناد صحيح.

البخاري تعليقا، ثم ذكر ما يدل على اعتبار الاستئذان بعد الدعوة، وهو حديث دعاء أهل الصفة، وفيه: فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا. وقالت طائفة: إن الحديثين على حالين، فإن جاء المدعو على الفور، لم يحتج للاستئذان، وإن تراخى احتاج إليه. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ كَانَ عِنْدَ الدَّاعِي مَنْ قَدْ أَذِنَ لَهُ قَبْلَ مَجِيءِ الْمَدْعُوِّ لَمْ يحتج للاستئذان وإلا استأذن. وكان إِذَا دَخَلَ إِلَى مَكَانٍ يُحِبُّ الِانْفِرَادَ فِيهِ، أمر من يمسك الباب، فلا يدخل عليه أحد إلا بإذن. وَأَمَّا الِاسْتِئْذَانُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْمَمَالِيكَ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَوَقْتَ الظَّهِيرَةِ وَعِنْدَ النَّوْمِ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِهِ، وَيَقُولُ: تَرَكَ النَّاسُ العمل به. وقالت طَائِفَةٌ: الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَلَمْ تَأْتِ بِحُجَّةٍ، وَقَالَتْ طائفة: أمر ندب، وَلَيْسَ مَعَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى صَرْفِ الْأَمْرِ عن ظاهره، وقالت طائفة: المأمور به النساء خاصة، وهذا ظاهر البطلان، وقالت طائفة عكس هذا، نظروا إلى لفظ " الذين "، وَلَكِنْ سِيَاقُ الْآيَةِ يَأْبَاهُ، فَتَأَمَّلْهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كان الأمر لعلة وزال بزوالها وهي الحاجة، فَرَوَى أبو داود فِي " سُنَنِهِ " أَنَّ نَفَرًا قالوا لابن عَبَّاسٍ: كَيْفَ تَرَى هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ؟ فقال ابن عباس: إن الله حكيم رءوف بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السِّتْرَ، وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلَا حِجَالٌ، فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوِ الْوَلَدُ، أَوْ يَتِيمَةُ الرَّجُلِ، وَالرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ، فَجَاءَهُمُ الله تعالى بِالسُّتُورِ وَالْخَيْرِ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ بعد. وقد أنكر بعضهم ثبوته، وَطَعَنَ فِي عكرمة، وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، وَطَعَنَ في عمرو بن أبي عمرو، وقد احتج به صاحبا الصحيح، فإنكاره تعنت لَا وَجْهَ لَهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لا دافع لها. والصحيح أن الحكم معلل بعلة قد أشارت إليها الآية، فإن كَانَ هُنَاكَ مَا يَقُومُ مَقَامَ الِاسْتِئْذَانِ مِنْ فَتْحِ بَابٍ فَتْحُهُ دَلِيلٌ عَلَى الدُّخُولِ، أَوْ رَفْعِ سِتْرٍ، أَوْ تَرَدُّدِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ وَنَحْوِهِ - أَغْنَى ذَلِكَ عَنِ الِاسْتِئْذَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ما يقوم مقامه، فلا بد منه، فإذا وجدت العلة، وجد الحكم، وإذا انتفت انتفى.

فَصْلٌ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ» . ذَكَرَهُ البخاري. وفي " صحيحه " أيضا: «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ ويصلح بالكم» . وفي " صَحِيحِ مسلم «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ، فشمتوه، وإن لم يحمد الله، فلا تشمتوه» . وفي " صحيحه ": «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ، فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ وَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وإذا مات فاتبعه، وإذا مرض فعده» . وللترمذي عن ابن عمر: «عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ العطاس أَنْ نَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» . وَذَكَرَ مالك عَنْ نافع عَنِ ابْنِ عُمَرَ: إذا عطس أحدكم، فقيل له: يرحمك الله. فليقل: يرحمنا الله وإياكم، ويغفر لنا ولكم. وظاهر الْحَدِيثِ الْمَبْدُوءِ بِهِ أَنَّ التَّشْمِيتَ فَرْضُ عَيْنٍ. اختاره ابن أبي زيد، ولا دافع له. ولما كان العاطس قد حصل لَهُ بِالْعُطَاسِ نِعْمَةٌ وَمَنْفَعَةٌ بِخُرُوجِ الْأَبْخِرَةِ الْمُحْتَقِنَةِ، شرع له صلى الله عليه وسلم حَمْدُ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ مَعَ بَقَاءِ أعضائه على هيئتها بَعْدَ هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ الَّتِي هِيَ لِلْبَدَنِ كَزَلْزَلَةِ الأرض لها. وكان إِذَا عَطَسَ وَضَعَ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ عَلَى فيه، وخفض بها صوته، ويذكر عنه: «أن التثاؤب الرفيع، والعطسة الشديدة من الشيطان» . وَصَحَّ عَنْهُ إِنَّهُ «عَطَسَ عِنْدَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يرحمك الله، ثم عطس أخرى، فقال له: الرجل مزكوم» ، لفظ مسلم، ولفظ الترمذي أنه قال بعد العطسة الثالثة، وقال: حديث صحيح. ولأبي داود عن أبي هريرة موقوفا: شَمِّتْ أَخَاكَ ثَلَاثًا، فَمَا زَادَ فَهُوَ زُكَامٌ، فإن قيل: الذي فيه زكام أولى أن يدعى له! قيل: يدعى له كما يدعى للمريض، وَأَمَّا سُنَّةُ الْعُطَاسِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَهُوَ نعمة، فإنه إلى تمام الثلاث، وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ:

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في آداب السفر

«الرَّجُلُ مَزْكُومٌ» ، تَنْبِيهٌ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُ بِالْعَافِيَةِ، وَفِيهِ اعْتِذَارٌ مِنْ تَرْكِ تَشْمِيتِهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ. وإذا حمد الله فسمعه بعضهم دون بعض، فالصواب أن يشمته من لم يسمعه إذا تحقق أنه حمد الله، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَإِنْ حمد الله فشمتوه» ، وإذا نسي الحمد، فقال ابن العربي: لا يذكره. وظاهر السنة يقوي هذا القول، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره، وهو أولى بفعل السنة وتعليمها. وصح عنه «أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَهُ يَرْجُونَ أَنْ يقول لهم: يرحمكم الله، فيقول: يهديكم الله ويصلح بالكم.» [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آداب السفر] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آداب السفر صح عنه أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ ركعتين» . الحديث (¬1) فعوض أمته بهذا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ زَجْرِ الطَّيْرِ، وَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ الَّذِي نَظِيرُهُ هَذِهِ الْقُرْعَةُ التي يَفْعَلُهَا إِخْوَانُ الْمُشْرِكِينَ يَطْلُبُونَ بِهَا عِلْمَ مَا قسم لهم في الغيب؛ ولهذا سمي استقساما، فعوضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيد وتوكل، وسؤال للذي لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَصْرِفُ السيئات إلا هو -عن التطير والتنجيم واختيار المطالع ونحوه، فهذا الدعاء هو طالع أهل السعادة، لا طالع أهل الشرك {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 96] (¬2) . وتضمن الإقرار بصفات كماله، والإقرار بربوبيته، والتوكل عليه، واعتراف العبد بعجزه عن العلم بمصالح نفسه، وقدرته عليها، وإرادته لها. ولأحمد عن سعد مرفوعا: «إن من سعادة ابن آدم استخارة الله، والرضى بما قضى الله، وإن من شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُ اسْتِخَارَةِ اللَّهِ، وَسَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ» . فَتَأَمَّلْ كَيْفَ وَقَعَ الْمَقْدُورُ مُكْتَنِفًا بِأَمْرَيْنِ: التَّوَكُّلِ الَّذِي هُوَ مَضْمُونُ الِاسْتِخَارَةِ قبله، والرضى بما يقضي الله بعده. «وَكَانَ إِذَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كنا ¬

(¬1) هو في " صحيح البخاري " 3 / 40 في التهجد: باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، من حديث جابر رضي الله عنه، فانظره بتمامه فيه. (¬2) سورة الحجر، الآية: 96.

لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، ثُمَّ يقول: اللهم إني أسألك في سفري هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهم هون علينا السفر، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سفرنا، واخلفنا في أهلنا. وكان إذا رجع قال: آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» (¬1) . وَذَكَرَ أحمد عنه «أنه إذا دخل البلد قال: توبا، لربنا أوبا، لا يغادر حوبا.» «وَكَانَ إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ لِرُكُوبِ دَابَّتِهِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا اسْتَوَى عَلَى ظهرها قال: الحمد لله، ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وما كنا له مقرنين.» وَكَانَ إِذَا وَدَّعَ أَصْحَابَهُ فِي السَّفَرِ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: «أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ» . «وقال له رجل: إني أريد سفرا. قال: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ» . «وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِذَا عَلَوُا الثَّنَايَا كَبَّرُوا، وَإِذَا هَبَطُوا سَبَّحُوا، فَوُضِعَتِ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ.» وَقَالَ أنس: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَلَا شَرَفًا مِنَ الْأَرْضِ أَوْ نَشْزًا قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الشَّرَفُ عَلَى كُلِّ شرف، ولك الحمد على كل حال.» وَكَانَ يَقُولُ: «لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ وَلَا جَرَسٌ» (¬2) . وَكَانَ يَكْرَهُ لِلْمُسَافِرِ وَحْدَهُ أن يسير بالليل، وقال: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا سَارَ أَحَدٌ وَحْدَهُ بِلَيْلٍ» . بَلْ كَانَ يَكْرَهُ السفر للواحد، وأخبر أن «الواحد شيطان والاثنين شَيْطَانَانِ، وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» . وَكَانَ يَقُولُ: «إِذَا نَزَلَ أَحَدُكُمْ مَنْزِلًا فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ شيء حتى يرتحل منه» (¬3) . وَكَانَ يَقُولُ: «إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ، فَأَعْطُوا الإبل حقها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة، فأسرعوا عليها، وإذا عرستم فاجتنبوا الطرق، فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ، وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِاللَّيْلِ» . «وَكَانَ يَنْهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ» ، «وَكَانَ يَنْهَى الْمَرْأَةَ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَلَوْ مَسَافَةَ بَرِيدٍ» (¬4) «ويأمر الْمُسَافِرَ إِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ مِنْ سَفَرِهِ أَنْ يعجل الرجوع إلى ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه مسلم. (¬3) رواه مسلم. (¬4) متفق عليه.

أهله» (¬1) «وينهى أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا» (¬2) إِذَا طَالَتْ غيبته عنهم، وإذا قدم من سفر تلقي بالولدان من أهل بيته، «وكان يعتنق القادم من السفر، ويقبله إذا كان من أهله» . قال الشعبي: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا، «وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فيه ركعتين» (¬3) . فصل ثبت عنه أنه علمهم خطبة الحاجة: «إن الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ من شرور أنفسنا» - وفي لفظ - «ومن سيئات أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ، فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شريك له، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يَقْرَأُ الثلاث الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] (¬4) الآية، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] (¬5) الآية، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الْأَحْزَابِ: 70 - 71] (¬6) .» قَالَ شعبة: قُلْتُ لأبي إسحاق: هَذِهِ في خطبه النكاح أو في غيره؟ قال: في كل حاجة. وقال: «إذا قاد أَحَدُكُمُ امْرَأَةً أَوْ خَادِمًا أَوْ دَابَّةً، فَلْيَأْخُذْ بناصيتها، وليدع الله بالبركة، وليسم اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ» (¬7) . وَكَانَ يَقُولُ لِلْمُتَزَوِّجِ: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وجمع بينكما في خير» (¬8) . وصح عنه أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ رَأَى مُبْتَلًى، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا، إِلَّا لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ كَائِنًا مَا كان» (¬9) . ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه. (¬3) متفق عليه. (¬4) 102 آل عمران. (¬5) سورة النساء، الآية: 1. (¬6) سورة الأحزاب، الآية: 70، 71. (¬7) سنن أبي داود بأسانيد صحيحة. (¬8) قال الترمذي: حسن صحيح. (¬9) رواه الترمذي.

فصل فيما يقوله ويفعله من بلي بالوساوس

وذكر عنه أَنَّهُ ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَهُ، فَقَالَ: «أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ، وَلَا تَرُدَّ مُسْلِمًا، فَإِذَا رَأَيْتَ مِنَ الطِّيَرَةِ مَا تَكْرَهُ، فَقُلِ: اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ، ولا حول ولا قوة إلا بك» . فصل وصح عنه: «الرؤيا الصالحة من الله، والرؤيا السوء مِنَ الشَّيْطَانِ، فَمَنْ رَأَى رُؤْيَا يَكْرَهُ مِنْهَا شيئا، فلينفث عن يساره، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ، ولا يخبر بها أحدا، فإن رَأَى رُؤْيَا حَسَنَةً، فَلْيَسْتَبْشِرْ، وَلَا يُخْبِرْ بِهَا إِلَّا مَنْ يُحِبُّ» . وَأَمَرَ مَنْ رَأَى مَا يكره أن يتحول من جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ، فَأَمَرَهُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ: أَنْ يَنْفُثَ عَنْ يَسَارِهِ، وأن يستعيذ بالله من الشيطان، ولا يُخْبِرَ بِهَا أَحَدًا، وَأَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ جَنْبِهِ الذي كان عليه، وأن يقوم يصلي، وَقَالَ: «الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ، فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ، وَلَا يَقُصُّهَا إِلَّا على واد أو ذي رأي» . ويذكر عنه أنه كان يقول للرائي: «خيرا رأيت» . ثم يعبرها. [فصل فيما يقوله ويفعله من بلي بالوساوس] فصل فيما يقوله ويفعله من بلي بالوساوس عن عبد الله بن مسعود يرفعه: «إن للملك بِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ لَمَّةً، وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، وَرَجَاءُ صَالِحِ ثواب، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَقُنُوطٌ مِنَ الْخَيْرِ، فَإِذَا وَجَدْتُمْ لَمَّةَ الْمَلَكِ، فَاحْمَدُوا الله، واسألوه مِنْ فَضْلِهِ، وَإِذَا وَجَدْتُمْ لَمَّةَ الشَّيْطَانِ، فَاسْتَعِيذُوا بالله واستغفروه» . وقال له عثمان بن أبي العاص: قد حال الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي؟ قَالَ: «ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ: خِنْزَبٌ (¬1) فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ، فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ، وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا» (¬2) . «وَشَكَا إِلَيْهِ الصَّحَابَةُ أن أحدهم يجد في نفسه لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ ¬

(¬1) بخاء معجمة، ثم نون ساكنة، ثم زاي مفتوحة، ثم باء موحدة واختلف العلماء في ضبط الخاء منه، فمنهم من فتحها، ومنهم من كسرها، وهذان مشهوران، ومنهم من ضمها، حكاه ابن الأثير في " نهاية الغريب " والمعروف الفتح والكسر. (¬2) رواه مسلم.

يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ.» «وَأَرْشَدَ مَنْ بُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ وَسْوَسَةِ التَّسَلْسُلِ فِي الْفَاعِلِينَ إِذَا قِيلَ لَهُ: هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ - أَنْ يَقْرَأَ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] » (¬1) . وكذلك قال ابن عباس لأبي زميل وَقَدْ سَأَلَهُ: مَا شَيْءٌ أَجِدُهُ فِي صَدْرِي؟ قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أتكلم به، فقال: أشيء من شك؟ قلت: بلى، قال: مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] (¬2) الآية، فَإِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا، فَقُلْ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ} [الحديد: 3] الآية. فأرشدهم بالآية إلى بطلان التسلسل بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، وَأَنَّ سِلْسِلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي ابْتِدَائِهَا تَنْتَهِي إِلَى أَوَّلَ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، كَمَا تَنْتَهِي فِي آخِرِهَا إِلَى آخِرٍ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، كَمَا أَنَّ ظُهُورَهُ: هُوَ الْعُلُوُّ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، وَبُطُونَهُ هُوَ: الْإِحَاطَةُ الَّتِي لَا يَكُونُ دُونَهُ فِيهَا شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ قَبْلَهُ شَيْءٌ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ، لَكَانَ ذَلِكَ هو الرب الخلاق، فلا بد أن ينتهي الأمر إلى خالق غني عن غيره، كل شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ، مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ مَوْجُودٌ بِهِ قَدِيمٌ، لَا أَوَّلَ لَهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَوُجُودُهُ بَعْدَ عَدَمِهِ بَاقٍ بِذَاتِهِ، وَبَقَاءُ كل شيء به، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يَقُولَ قَائِلُهُمْ: هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ من ذلك شيء، فليستعذ بالله، ولينته» . وقال تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت: 36] (¬3) الآية ولما كان الشيطان نوعين: نوعا يرى عيانا وهو الإنسي، ونوعا لا يرى وهو الجني - أمر الله تعالى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتَفِيَ من شر الإنسي بالإعراض والعفو والدفع بالتي هي أحسن، ومن شر الجني بالاستعاذة، وجمع بين نوعين في (سورة الأعراف) و (المؤمنون) و (فصلت) . فَمَا هُوَ إِلَّا الِاسْتِعَاذَةُ ضَارِعًا ... أَوِ الدَّفْعُ بالحسنى هما خير مطلوب ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية: 3. (¬2) سورة يونس، الآية: 94. (¬3) سورة فصلت، الآية: 26.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم فيما يقوله عند الغضب

فَهَذَا دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ شَرِّ مَا يُرَى ... وَذَاكَ دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ شَرِّ مَحْجُوبِ [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يقوله عند الغضب] فصل «وأمر صلى الله عليه وسلم من اشتد غضبه أن يطفئ جَمْرَةَ الْغَضَبِ بِالْوُضُوءِ وَالْقُعُودِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَالِاضْطِجَاعِ إِنْ كَانَ قَاعِدًا، وَالِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ مِنَ الشيطان» . وَلَمَّا كَانَ الْغَضَبُ وَالشَّهْوَةُ جَمْرَتَيْنِ مِنْ نَارٍ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ أَمَرَ أَنْ يُطْفِئَهُمَا بما ذكر، كقوله تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] (¬1) الآية، يحمل عليه شدة الشهوة، فأمرهم بما يطفئوا به جَمْرَتَهَا، وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، وَأَمَرَ تَعَالَى بالاستعاذة من الشيطان عند نزغه. وَلَمَّا كَانَتِ الْمَعَاصِي كُلُّهَا تَتَوَلَّدُ مِنَ الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ، وَكَانَ نِهَايَةُ قُوَّةِ الْغَضَبِ الْقَتْلَ، وَنِهَايَةُ قوة الشهوة الزنا، قرن بينهما في سورة " الأنعام " و " الإسراء " و " الفرقان ". وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ. وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ: الحمد لله على كل حال» . وكان يدعو لمن تقرب إليه بما يحب، فَلَمَّا وَضَعَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَضُوءَهُ قَالَ: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل» . ودعا لأبي قتادة لما دعمه بالليل لما مال عن راحلته: «حَفِظَكَ اللَّهُ بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيَّهُ» . وَقَالَ: «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء» . وقال للذي أقرضه لما وفاه: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، إِنَّمَا جزاء السلف الحمد والأداء» . وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُهْدِيَتْ له هدية كافأ بأكثر منها، وإن لم يردها اعتذر إلى مهديها، كقوله للصعب: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» . «وأمر أمته إذا سمعوا نهيق الحمار أن يستعيذوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَإِذَا سَمِعُوا صِيَاحَ الديك أن يسألوا الله من فضله» . «ويروى أنه أمرهم بالتكبير عند الحريق» ، فإنه يطفئه، وكره لأهل المجلس أن يخلو مَجْلِسَهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ: «مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ، وَمَنِ اضْطَجَعَ مضجعا لا يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ ترة» . والترة: الحسرة. وقال: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ: سُبْحَانَكَ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 44.

فصل في ألفاظ كان صلى الله عليه وسلم يكره أن تقال

اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ، وَأَتُوبُ إِلَيْكَ -إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ» . وَفِي سُنَنِ أبي داود أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ مِنَ الْمَجْلِسِ، فسئل عنه، فقال: «ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لِمَا يَكُونُ فِي الْمَجْلِسِ» . [فَصْلٌ فِي أَلْفَاظٍ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكره أن تقال] فَصْلٌ فِي أَلْفَاظٍ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يكره أن تقال فمنها: خبثت نفسي، أو جاشت، ومنها أن يسمى العنب كرما، وقول الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ، وَقَالَ: «إِذَا قَالَ ذَلِكَ، فهو أهلكهم» وفي معناه: فَسَدَ النَّاسُ، وَفَسَدَ الزَّمَانُ وَنَحْوُهُ. وَنَهَى أَنْ يقال: «مطرنا بنوء كذا وكذا» ، «وما شاء الله وشئت» (¬1) . ومنها أن يحلف بغير الله، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ فِي حَلِفِهِ: هُوَ يَهُودِيٌّ ونحوه إن فعل كذا، ومنها أن يقول للسلطان: ملك الملوك، ومنها قول السيد: عبدي وأمتي، ومنها سب الريح، ومنها سب الحمى، وسب الديك، والدعاء بدعوى الجاهلية، كالدعاء إلى القبائل والعصبية لها، ومثله التعصب للمذهب والطريقة والمشايخ، وَمِنْهَا تَسْمِيَةُ الْعِشَاءِ بِالْعَتَمَةِ، تَسْمِيَةً غَالِبَةً يُهْجَرُ بها اسم العشاء. ومنها سِبَابِ الْمُسْلِمِ، وَأَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ، وَأَنْ تُخْبِرَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا بِمَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى، ومنها قول: اللهم اغفر لي إن شئت، ومنها الإكثار من الحلف، وأن يقول: قوس قزح، وأن يسأل أحدا بوجه الله، وأن تسمى المدينة يثرب، وأن يُسْأَلَ الرَّجُلُ فِيمَ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ إِلَّا إِذَا دعت الحاجة إليه، ومنها أن يقول: صمت رمضان كله، وقمت الليل كله. وَمِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَكْرُوهَةِ الْإِفْصَاحُ عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ينبغي الكناية عنها، وأن يقال: أطال الله بقاءك، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ الصَّائِمُ: وَحَقِّ الذي خاتمه على فمي. فإنما يختم على فم الكافر، وأن يقول للمكوس حقوقا، ولما ينفقه في طاعة: خسرت كذا، وَأَنْ يَقُولَ: أَنْفَقْتُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَالًا كَثِيرًا، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ الْمُفْتِي: أَحَلَّ اللَّهُ كذا، وحرم كذا في مسائل الاجتهاد، ومنها أن تسمى أدلة القرآن والسنة ¬

(¬1) الحديث الأول (مطرنا) متفق عليه. والثاني (ما شاء الله وشئت) أبو داود بإسناد صحيح.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد والغزوات

مجازات، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ تَسْمِيَةَ شبه المتكلمين قَوَاطِعَ عَقْلِيَّةً، فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَمْ حصل بهاتين التسميتين من إفساد الدين والدنيا! ومنها أن يحدث الرجل بما يكون بينه وبين أهله كَمَا يَفْعَلُهُ السَّفَلَةُ. وَمِمَّا يُكْرَهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ: زعموا، وذكروا وقالوا، ونحوه، وأن يقال للسلطان: خليفة الله؛ فإن الخليفة إنما يكون عن غائب، والله سبحانه خليفة الغائب في أهله. وليحذر كل الحذر من طغيان " أنا " و " لي " و " عندي " فإن هذه ابتلي بها إبليس وفرعون وقارون فـ {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] لِإِبْلِيسَ، وَ {لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51] لفرعون، و {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] لقارون، وأحسن مما وُضِعَتْ " أَنَا " فِي قَوْلِ الْعَبْدِ: أَنَا الْعَبْدُ المذنب المستغفر المعترف، ونحوه، و " لي " فِي قَوْلِهِ: لِيَ الذَّنْبُ، وَلِيَ الْجُرْمُ، وَلِيَ الفقر، والذل، و " عندي " فِي قَوْلِهِ: «اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي وَخَطَئِي وَعَمْدِي، وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي» . [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجهاد والغزوات] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجهاد والغزوات لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام، وَمَنَازِلُ أَهْلِهِ أَعْلَى الْمَنَازِلِ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا لهم الرفعة في الدنيا، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَنْوَاعِهِ كُلِّهَا، فَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ بِالْقَلْبِ وَالْجِنَانِ، وَالدَّعْوَةِ وَالْبَيَانِ، وَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَكَانَتْ سَاعَاتُهُ موقوفة على الجهاد؛ ولهذا كان أعظم العالمين عند الله قدرا. وأمره تعالى بالجهاد من حين بعثه، فقال: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52] (¬1) . فهذه سورة مكية أمره فيها بالجهاد بالبيان، وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بالحجة وهو أَصْعَبُ مِنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ جِهَادُ خَوَاصِّ الْأُمَّةِ، وَوَرَثَةِ الرُّسُلِ، وَالْقَائِمُونَ بِهِ أَفْرَادٌ فِي العالم، وَالْمُعَاوِنُونَ عَلَيْهِ -وَإِنْ كَانُوا هُمُ الْأَقَلِّينَ عَدَدًا- فهم الأعظمون قَدْرًا. وَلَمَّا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ قَوْلُ الحق مع شدة المعارض مثل أن يتكلم به عند من يخاف سطوته، كان للرسل صلوات الله وسلامه عليهم من ذلك الحظ الأوفر، وكان له صلى الله عليه وسلم من ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 52.

ذلك أكمله وَأَتَمُّهُ، وَلَمَّا كَانَ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فِي الخارج فرعا على جهاد النفس، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نفسه في ذات الله» (¬1) كان جهادها مقدما. فَهَذَانِ عَدُوَّانِ قَدِ امْتُحِنَ الْعَبْدُ بِجِهَادِهِمَا، وَبَيْنَهُمَا عَدُوٌّ ثَالِثٌ لَا يُمْكِنُهُ جِهَادُهُمَا إِلَّا بِجِهَادِهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَهُمَا يُثَبِّطُ الْعَبْدَ عَنْ جِهَادِهِمَا، وهو الشيطان، قال الله تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فَاطِرٍ: 6] (¬2) . وَالْأَمْرُ بِاِتِّخَاذِهِ عَدُوًّا تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِفْرَاغِ الوسع في محاربته، فهذه ثلاثة أعداء أمر العبد بمحاربتها، وسلطت عليه امتحانا من الله، وأعطي العبد مددا وقوة، وبلي أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْآخَرِ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً، ليبلو أخبارهم، فَأَعْطَى عِبَادَهُ الْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْعُقُولَ وَالْقُوَى، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَأَمَدَّهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ، وأمرهم بِمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعَوْنِ لَهُمْ عَلَى حرب عدوهم، وأخبرهم أنهم إن امتثلوه لَمْ يَزَالُوا مَنْصُورِينَ عَلَى عَدُوِّهِ وَعَدُوِّهِمْ، وَأَنَّهُ إِنْ سَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ؛ فَلِتَرْكِهِمْ بَعْضَ مَا أُمِرُوا به، ثم لم يؤيسهم، بل أمرهم أن يداووا جراحهم، ويعودوا إلى مناهضة عدوهم بصبرهم، وأخبرهم أَنَّهُ مَعَ الْمُتَّقِينَ مِنْهُمْ، وَمَعَ الْمُحْسِنِينَ، وَمَعَ الصَّابِرِينَ، وَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ يُدَافِعُ عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَا لَا يُدَافِعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ بدفاعه عنهم انتصروا، ولولا ذلك لاجتاحهم عدوهم. وهذه المدافعة بحسب إيمانهم، فإن قوي إيمانهم قويت، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ. وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا فِيهِ حَقَّ جِهَادِهِ، كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَكَمَا أَنَّ حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ - فَحَقُّ جِهَادِهِ أَنْ يجاهد نفسه؛ ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لِلَّهِ وَبِاللَّهِ، لَا لِنَفْسِهِ وَلَا بِنَفْسِهِ، وَيُجَاهِدُ شيطانه بتكذيب وعده ومعصية أمره، فإنه يعد الأماني، ويمني الغرور، ويأمر بالفحشاء، وينهى عن الهدى وأخلاق الإيمان كلها، فينشأ له من هذين الجهادين قوة وعدة، يجاهد بها أعداء الله بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَمَالِهِ؛ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العليا. واختلفت ¬

(¬1) أخرجه الترمذي. (¬2) سورة فاطر، الآية: 6.

فصل في أنواع الجهاد

عِبَارَاتُ السَّلَفِ فِي حَقِّ الْجِهَادِ، فَقَالَ ابْنُ عباس: هو استفراغ الطاقة فيه، وأن لا يخاف في الله لومة لائم. وقال ابن الْمُبَارَكِ: هُوَ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ وَالْهَوَى. وَلَمْ يُصِبْ من قال: إن الآيتين منسوختان؛ لظنه تضمنهما ما لَا يُطَاقُ، وَحَقُّ تُقَاتِهِ وَحَقُّ جِهَادِهِ: هُوَ مَا يُطِيقُهُ كُلُّ عَبْدٍ فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ يختلف باختلاف أحوال المكلفين. وَتَأَمَّلْ كَيْفَ عَقَّبَ الْأَمْرَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (¬1) والحرج: الضيق. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» ، فَهِيَ حَنِيفِيَّةٌ فِي التَّوْحِيدِ، سَمْحَةٌ فِي الْعَمَلِ، وقد وسع الله سبحانه عَلَى عِبَادِهِ غَايَةَ التَّوْسِعَةِ فِي دِينِهِ وَرِزْقِهِ وعفوه ومغفرته، فبسط عَلَيْهِمُ التَّوْبَةَ مَا دَامَتِ الرُّوحُ فِي الْجَسَدِ، وجعل لكل سيئة كفارة، وجعل لكل ما حرم عوضا من الحلال، وَجَعَلَ لِكُلِّ عُسْرٍ يَمْتَحِنُهُمْ بِهِ يُسْرًا قَبْلَهُ ويسرا بعده، فَكَيْفَ يُكَلِّفُهُمْ مَا لَا يَسَعُهُمْ، فَضْلًا عَمَّا لا يطيقونه. [فصل في أنواع الجهاد] فصل إذا عرف هذا، فالجهاد على أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: جِهَادُ النَّفْسِ، وَجِهَادُ الشَّيْطَانِ، وَجِهَادُ الكفار، وجهاد المنافقين. فجهاد النفس وهو أيضا أربع مراتب: أحدها: أن يجاهدها على تعلم الهدى. الثانية: على العمل به بعد علمه. الثالثة: على الدعوة إليه، وَإِلَّا كَانَ مِنَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ الله. الرابعة: على الصبر على مشاق الدعوة، وَيَتَحَمَّلُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلَّهِ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْأَرْبَعَ صَارَ مِنَ الرَّبَّانِيِّينَ، فَإِنَّ السَّلَفَ مُجْمِعُونَ على أن العالم لا يكون رَبَّانِيًّا حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلِّمَهُ، ويدعو إليه. المرتبة الثانية: جهاد الشيطان، وهو مرتبتان: أحداهما: جهاده على دفع ما يلقي من الشبهات. الثانية: على دفع ما يلقي من الشهوات، فالأول يَكُونُ بَعْدَهُ الْيَقِينُ، وَالثَّانِي يَكُونُ بَعْدَهُ الصَّبْرُ، قال تعالى: {مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] (¬2) . والمرتبة الثالثة: جهاد الكفار والمنافقين، وهو أربع مراتب، بالقلب واللسان والمال والنفس، وجهاد ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 78. (¬2) سورة السجدة، الآية: 24.

الْكُفَّارِ أَخَصُّ بِالْيَدِ، وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَخَصُّ بِاللِّسَانِ. المرتبة الرابعة: جهاد أرباب الظلم والمنكرات والبدع، وهو ثلاث مَرَاتِبَ: الْأُولَى بِالْيَدِ إِذَا قَدَرَ، فَإِنْ عَجَزَ انْتَقَلَ إِلَى اللِّسَانِ، فَإِنْ عَجَزَ جَاهَدَ بِقَلْبِهِ. فهذه ثلاث عشرة مَرْتَبَةً مِنَ الْجِهَادِ، وَ «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شعبة من النفاق» . وَلَا يَتِمُّ الْجِهَادُ إِلَّا بِالْهِجْرَةِ، وَلَا الْهِجْرَةُ والجهاد إلا بالإيمان، والراجون لرحمة اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ قَامُوا بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْبَقَرَةِ: 218] (¬1) . وَكَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَفَرْضٌ عَلَيْهِ هِجْرَتَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ: هجرة إلى الله عز وجل بالإخلاص، وهجرة إلى رسوله بالمتابعة، وفرض عليه جهاد نفسه وشيطانه فَهَذَا كُلُّهُ فَرْضُ عَيْنٍ لَا يَنُوبُ فِيهِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. وَأَمَّا جِهَادُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، فقد يكتفى فيه ببعض الأمة. وأكمل الخلق عند الله عز وجل، من أكمل مراتب الجهاد كلها؛ ولهذا كان أكمل الخلق عند الله وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه محمد، فإنه كمل مراتبه، وجاهد في الله حق جهاده، وشرع فيه من حين بعثه الله إلى أن توفاه، فإنه لما أنزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [الْمُدَّثِّرِ: 1 - 4] (¬2) شَمَّرَ عَنْ سَاقِ الدَّعْوَةِ، وَقَامَ فِي ذَاتِ اللَّهِ أَتَمَّ قِيَامٍ، وَدَعَا إِلَى اللَّهِ ليلا ونهارا، سرا وجهارا، ولما أنزل عليه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] (¬3) صدع بأمر الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، فدعا إلى الله الكبير والصغير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ. وَلَمَّا صَدَعَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَصَرَّحَ لقومه بالدعوة، وبادأهم بِسَبِّ آلِهَتِهِمْ، وَعَيْبِ دِينِهِمْ، اشْتَدَّ أَذَاهُمْ لَهُ ولمن استجاب له، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: 43] (¬4) . وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] (¬5) وقال تعالى: ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 218. (¬2) سورة المدثر، الآية 1، 4. (¬3) سورة الحجر، الآية: 94. (¬4) سورة فصلت، الآية: 43. (¬5) سورة الأنعام: 112.

{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ - أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52 - 53] (¬1) . فعزى الله سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّ لَهُ أُسْوَةً بِمَنْ تقدمه، وَعَزَّى أَتْبَاعَهُ بِقَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران: 142] (¬2) وَقَوْلِهِ: {الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2]-إلى قوله -: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 10] (¬3) . فَلْيَتَأَمَّلِ الْعَبْدُ سِيَاقَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْعِبَرِ وَكُنُوزِ الْحِكَمِ، فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا أُرْسِلَ إِلَيْهِمِ الرُّسُلُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقولوا ذلك، بل يستمر على السيئات، فمن قال: آمنا، فتنه ربه، والفتنة: الابتلاء والاختبار؛ ليبين الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ: آمَنَّا، فلا يحسب أنه يفوت الله ويسبقه، فمن آمن بالرسل، عاداه أعداؤهم، وآذوه، فابتلي بما يؤلمه، ومن لم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة. فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْأَلَمِ لِكُلِّ نَفْسٍ، لكن المؤمن يحصل له الألم ابْتِدَاءً، ثُمَّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا والآخرة، والمعرض تَحْصُلُ لَهُ اللَّذَّةُ ابْتِدَاءً، ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى الْأَلَمِ الدَّائِمِ، وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيُّمَا أَفْضَلُ لِلرَّجُلِ، أَنْ يُمَكَّنَ أَوْ يُبْتَلَى؟ فَقَالَ: لا يمكن حتى يبتلى. والله عز وجل ابتلى أولي العزم من رسله، فَلَمَّا صَبَرُوا مَكَّنَهُمْ، فَلَا يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَخْلُصُ مِنَ الْأَلَمِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يَتَفَاوَتُ أَهْلُ الْآلَامِ فِي الْعُقُولِ، فَأَعْقَلُهُمْ مَنْ بَاعَ أَلَمًا عظيما مستمرا بألم منقطع يسير، وأسفههم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم المستمر العظيم. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَخْتَارُ الْعَاقِلُ هَذَا؟ قِيلَ: الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا النَّقْدُ وَالنَّسِيئَةُ، والنَّفْسُ موكلة بالعاجل {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ - وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة: 20 - 21] (¬4) {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [الإنسان: 27] (¬5) . وهذا يحصل لكل أحد، فإن الإنسان لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَعِيشَ مَعَ النَّاسِ، ولهم إرادات يطلبون منه موافقتهم عليها، فإن لم يفعل آذَوْهُ وَعَذَّبُوهُ، وَإِنْ وَافَقَهُمْ حَصَلَ لَهُ الْأَذَى وَالْعَذَابُ، تَارَةً مِنْهُمْ، وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِمْ، كَمَنْ عِنْدَهُ دِينٌ وَتُقًى حَلَّ بَيْنَ قَوْمٍ فُجَّارٍ ظلمة لا يتمكنون من ¬

(¬1) سورة الذاريات، الآية: 52، 53. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 142. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 1-10. (¬4) سورة القيامة، الآية: 20، 21. (¬5) سورة الدهر، الآية: 27.

فجورهم وظلمهم إلا بموافقة لهم، أو سكوته عنهم، فإن فعل سَلِمَ مِنْ شَرِّهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِ بِالْإِهَانَةِ وَالْأَذَى أَضْعَافَ مَا كَانَ يَخَافُهُ ابتداء لو أنكر عليهم، وَإِنْ سَلِمَ مِنْهُمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُهَانَ على يد غيرهم. فالحزم كل الحزم: الأخذ بما قالته عائشة رضي الله عنها لمعاوية: مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ، كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ، لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ، رَأَى هَذَا كَثِيرًا، فيمن يعين الرؤساء وأهل البدع هربا من عقوبتهم، فمن وقاه الله شر نفسه، امتنع من الموافقة على المحرم، وصبر على عداوتهم، ثُمَّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كما كانت للرسل لمن ابتلي من العلماء وغيرهم. ولما كان الألم لا مخلص مِنْهُ الْبَتَّةَ، عَزَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنِ اخْتَارَ الْأَلَمَ الْيَسِيرَ الْمُنْقَطِعَ عَلَى الْأَلَمِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَمِرِّ بِقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5] (¬1) . فضرب لهذا الألم المنقطع أجلا وهو يوم لقائه، فيلتذ العبد أعظم لذة بما تحمل من الألم لأجله، وأكد هذا العزاء برجاء اللقاء؛ ليحمل العبد اشتياقه إلى ربه على تحمل الألم العاجل، بل ربما غيبه الشوق عَنْ شُهُودِ الْأَلَمِ وَالْإِحْسَاسِ بِهِ؛ وَلِهَذَا سَأَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ الشَّوْقَ إِلَى لقائه، وشوقه من أعظم النعم، وَلَكِنْ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ هُمَا السَّبَبُ الَّذِي تُنَالُ بِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ لِتِلْكَ الأقوال، عليم بتلك الأعمال، وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] (¬2) فإذا فاقت العبد نعمة، فَلْيَقْرَأْ عَلَى نَفْسِهِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] (¬3) . ثُمَّ عَزَّاهُمْ تَعَالَى بِعَزَاءٍ آخَرَ، وَهُوَ إنما جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم، وأنه غني عن العالمين، فمصلحة هذا الجهاد ترجع إليهم لا له سُبْحَانَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُدْخِلُهُمْ بِجِهَادِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ الداخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه يجعل فتنة الناس - أي أذاهم له ونيلهم إياه بالألم الذي لا بد منه - كعذاب الله الذي فر منه ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 5. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 53. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 53.

فصل في دعوة الرسول قومه إلى دينه

المؤمنون بالإيمان، فإذا جاء نصر الله لجنده، قال: إني معكم. والله أعلم بِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ صَدْرُهُ مِنَ النِّفَاقِ. وَالْمَقْصُودُ أن الحكمة اقتضت أنه سبحانه لا بد أن يمتحن النفوس، فيظهر طيبها من خبيثها، إِذِ النَّفْسُ فِي الْأَصْلِ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ، وَقَدْ حصل لها بذلك من الخبث ما يحتاج خروجه إلى التصفية، فَإِنْ خَرَجَ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَإِلَّا فَفِي كير جهنم، فإذا نقي العبد أُذِنَ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ. [فَصْلٌ في دعوة الرسول قومه إلى دينه] فصل ولما دعا إلى الله، اسْتَجَابَ لَهُ عِبَادُ اللَّهِ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ، فكان حائز قصب سبقهم صديق الأمة أبو بكر، فَآزَرَهُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَدَعَا مَعَهُ إِلَى الله، فاستجاب لأبي بكر عثمان وطلحة وسعد. وبادرت إلى الاستجابة صديقة النساء خديجة، وَقَامَتْ بِأَعْبَاءِ الصِّدِّيقِيِّةِ، وَقَالَ لَهَا: «لَقَدْ خَشِيتُ على نفسي» ، فقالت: أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا. ثُمَّ استدلت بما فيه من الصفات على أن من كان كذلك، لم يخزه الله أبدا، فعلمت بفطرتها وكمال عقلها، أن الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة تناسب كرامة الله وإحسانه، لا تناسب الخزي. وبهذا العقل استحقت أن يرسل إليها ربها السلام منه مع رسوليه جبريل ومحمد عليهما السلام. وَبَادَرَ إِلَى الْإِسْلَامِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وهو ابن ثمان سنين، وقيل أكثر، وَكَانَ فِي كَفَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أخذه من عمه إِعَانَةً لَهُ فِي سَنَةِ مَحْلٍ. وَبَادَرَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان غلاما لخديجة، فوهبته له، وجاء أبوه وعمه في فدائه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلَّا غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَالَ: أَدْعُوهُ فَأُخَيِّرُهُ، فَإِنِ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ، وَإِنِ اخْتَارَنِي، فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَى مَنِ اخْتَارَنِي أَحَدًا، قَالَا: قَدْ رَدَدْتَنَا عَلَى النصف وأحسنت. فدعاه، فخيره، فقال: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا. قالا: وَيْحَكَ يَا زيد، أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وعلى أهل بيتك؟ قال: نعم؛ لقد رَأَيْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ شَيْئًا مَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَيْهِ أَحَدًا أَبَدًا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرَجَهُ إِلَى الْحِجْرِ، فَقَالَ: أُشْهِدُكُمْ أَنَّ زيدا ابني، أرثه ويرثني، فلما رأى ذلك طابت أنفسهما

وانصرفا» . وَدُعِيَ زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بالإسلام، فنزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الْأَحْزَابِ: 5] (¬1) فَدُعِيَ مِنْ يَوْمِئِذٍ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ. قال معمر عَنِ الزُّهْرِيِّ: مَا عَلِمْنَا أَحَدًا أَسْلَمَ قَبْلَ زيد. وأسلم ورقة بن نوفل، وَفِي " جَامِعِ الترمذي «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ فِي الْمَنَامِ فِي هيئة حسنة» . ودخل الناس في دين الله وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَقُرَيْشٌ لَا تُنْكِرُ ذَلِكَ حتى بادأهم بعيب دينهم، وسب آلهتهم، فَحِينَئِذٍ شَمَّرُوا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ عَنْ سَاقِ الْعَدَاوَةِ، فحمى الله رسوله بأبي طالب؛ لأنه كان شريفا معظما فيهم، وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ بَقَاؤُهُ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الَّتِي تَبْدُو لِمَنْ تَأَمَّلَهَا. وَأَمَّا أَصْحَابُهُ، فَمَنْ كانت له عشيرة تحميه امتنع بهم، وسائرهم تصدوا له بالعذاب، ومنهم عمار وأمه وأهل بيته، فإنهم عُذِّبُوا فِي اللَّهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرَّ بِهِمْ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ يَقُولُ: «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ موعدكم الجنة» . ومنهم بلال، فإنه عذب في الله أشد العذاب، هان عليهم، وَهَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَكَانَ كُلَّمَا اشتد به الْعَذَابُ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، فَيَمُرُّ بِهِ ورقة بن نوفل، فَيَقُولُ: إِي وَاللَّهِ يَا بلال أَحَدٌ أَحَدٌ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَأَتَّخِذَنَّهُ حنانا. ولما اشتد أذاهم على المؤمنين، وفتن منهم من فتن، أذن الله سبحانه لهم في الهجرة الْأُولَى إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ هاجر إليها عثمان ومعه زوجته رقية بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وكانوا اثنى عشر رجلا وأربع نسوة، خرجوا مُتَسَلِّلِينَ سِرًّا، فَوَفَّقَ اللَّهُ لَهُمْ سَاعَةَ وُصُولِهِمْ إلى الساحل سفينتين، فحملوهم، وكان مخرجهم في رجب من السَّنَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْمَبْعَثِ، وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ فِي آثارهم حتى جاءوا ساحل البحر، فلم يدركوهم، ثُمَّ بَلَغَهُمْ أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ كَفُّوا عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعُوا، فَلَمَّا كَانُوا دون مكة بساعة، بلغهم أنهم أشد ما كانوا عداوة، فدخل من دخل منهم بِجِوَارٍ. وَفِي تِلْكَ الْمَرَّةِ «دَخَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصلاة، فلم يرد عليه» ، هذا هو الصواب، كذا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَبَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ خَرَجُوا إلى الحبشة إسلام أهل مكة، فأقبلوا ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 5.

لَمَّا بَلَغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا من مكة بلغهم أن ذلك كان باطلا، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفيا، وكان مِمَّنْ قَدِمَ مِنْهُمْ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَشَهِدَ بَدْرًا - وَأُحُدًا، فَذَكَرَ مِنْهُمْ ابن مسعود. وحديث زيد بن أرقم أجيب عنه بجوابين: أحدهما: أن النهي ثَبَتَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ أُذِنَ فِيهِ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ نهي عنه. الثاني: أن زيدا مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَادَتِهِمْ، وَلَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّهْيُ، فلما بلغهم انتهوا. ثُمَّ اشْتَدَّ الْبَلَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى مَنْ قدم من الحبشة وغيرهم، وسطت بهم عشائرهم، فَأَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في الخروج إلى الحبشة مرة ثانية، فكان خروجهم الثاني أشق عليهم، ولقوا من قريش أذى شديدا، وَصَعُبَ عَلَيْهِمْ مَا بَلَغَهُمْ عَنِ النَّجَاشِيِّ مِنْ حسن جواره لهم. فكان عدة من هاجر فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا إِنْ كان عمار بن ياسر فيهم، وَمِنَ النِّسَاءِ تِسْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، قُلْتُ: قَدْ ذكر في هذه الثانية عثمان وَجَمَاعَةٌ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وهما، وإما أن تكون لَهُمْ قَدْمَةٌ أُخْرَى قَبْلَ بَدْرٍ، فَيَكُونُ لَهُمْ ثلاث قدمات؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابن سعد وَغَيْرُهُ: إِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا مُهَاجَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا، وَمِنَ النِّسَاءِ ثمان، فَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ بِمَكَّةَ، وَحُبِسَ بِمَكَّةَ سَبْعَةٌ، وَشَهِدَ بَدْرًا مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، فَلَمَّا كَانَ شَهْرُ رَبِيعٍ الْأَوِّلِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ الهجرة كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام مع عمرو بن أمية، فأسلم، وقال: لو قدرت أن آتيه لأتيته، وكتب إليه أن يزوجه أم حبيبة، وكانت فيمن هاجر مَعَ زَوْجِهَا عبيد الله بن جحش، فَتَنَصَّرَ هناك، ومات نصرانيا، فَزَوَّجَهُ النَّجَاشِيُّ إِيَّاهَا، وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ تَزْوِيجَهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ مَنْ بقي عنده من أصحابه، ويحملهم، فحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بخيبر، فوجدوه قد فتحها. وَعَلَى هَذَا فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي بَيْنَ حَدِيثِ ابن مسعود وحديث زيد بن أرقم، ويكون تخريج الكلام بالمدينة، فإن قيل: فما أحسنه لولا أن ابن إسحاق قد قال ما حكيته عنه أن ابن مسعود أقام بمكة. قيل: قد ذكر

فصل في الهجرة إلى الحبشة

ابن سعد أنه أقام بمكة يسيرا، ثم رجع إلى الحبشة، وهذا هو الأظهر؛ لأنه لم يكن له بمكة من يحميه، فتضمن هذا زِيَادَةَ أَمْرٍ خَفِيَ عَلَى ابْنِ إِسْحَاقَ، وابن إسحاق لم يذكر من حدثه، وابن سعد أسنده إِلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ، فزال الإشكال ولله الحمد. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْهِجْرَةِ أبا موسى الأشعري، وأنكر هذا عليه الواقدي وغيره، وقالوا: كيف يخفى هذا على من دونه فضلا عنه؟ قلت: ليس هذا مما يخفى علي من دونه فَضْلًا عَنْهُ، وَإِنَّمَا نَشَأَ الْوَهْمُ أَنَّ أبا موسى هاجر من اليمن إلى عند جعفر وأصحابه، ثم قدم معهم، فعد ابن إسحاق ذلك لأبي موسى هِجْرَةً، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ هَاجَرَ من مكة لينكر عليه. [فصل في الهجرة إلى الحبشة] فصل وانحاز المسلمون إلى النجاشي آمنين، فبعثت قريش فِي أَثَرِهِمْ عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بهدايا للنجاشي ليردهم عليهم، وتشفعوا إليه بعظماء بطارقته، فأبى ذلك، فوشوا إليه أنهم يَقُولُونَ فِي عِيسَى قَوْلًا عَظِيمًا، يَقُولُونَ: إِنَّهُ عبد، فاستدعاهم وَمُقَدَّمُهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا أَرَادُوا الدُّخُولَ عَلَيْهِ، قَالَ جعفر: يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ حِزْبُ الله، فقال للآذن: قل لهذا يعيد استئذانه، فأعاده. فلما دخلوا، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى؟ فَتَلَا عَلَيْهِ جعفر صدرا من (كهيعص) ، فأخذ النجاشي عودا من الأرض، وقال: ما زاد عيسى على هذا، ولا مثل هذا العود، فتناخرت البطارقة حوله، قال: وإن نخرتم والله، قَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي، مَنْ سَبَّكُمْ غرم - والسيوم بلسانهم: الآمنون - وقال لِلرَّسُولَيْنِ: لَوْ أَعْطَيْتُمُونِي دَبَرًا مِنْ ذَهَبٍ - يَقُولُ: جَبَلًا مِنْ ذَهَبٍ - مَا أَسْلَمْتُهُمْ إِلَيْكُمَا، ثُمَّ أمر فردت عليهما هداياهما، ورجعا مقبوحين. ثم أسلم حمزة وجماعة كثيرون، فلما رأت قريش أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعْلُو وَالْأُمُورُ تَتَزَايَدُ، أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَتَعَاقَدُوا على بني هاشم وبني المطلب ألا يُبَايِعُوهُمْ، وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ، وَلَا يُكَلِّمُوهُمْ، وَلَا يُجَالِسُوهُمْ، حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَتَبُوا بِذَلِكَ صَحِيفَةً، وَعَلَّقُوهَا فِي سقف الكعبة، وكتبها بغيض بن عامر بن هاشم، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشُلَّتْ يده،

فانحازوا مؤمنهم وكافرهم إلى الشعب، إلا أبا لهب، فإنه ظاهر قريشا عليهم، وذلك سنة سبع من البعثة، وبقوا محبوسين مضيقا عليهم جدا نَحْوَ ثَلَاثِ سِنِينَ، حَتَّى بَلَغَهُمُ الْجَهْدُ، وَسُمِعَ أَصْوَاتُ صِبْيَانِهِمْ بِالْبُكَاءِ مِنْ وَرَاءِ الشِّعْبِ. وَهُنَاكَ عمل أبو طالب قصيدته اللامية، وقريش بين راض وكاره، فسعى في نقضها بعض من كان كارها لها، وأطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم، وأنه سلط عليها الأرضة، فأكلت ما فيها من قطيعة وَظُلْمٍ إِلَّا ذِكْرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَخْبَرَ بذلك عمه، فخرج إلى قريش وأخبرهم، وقال: إن كَانَ كَاذِبًا خَلَّيْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، وَإِنْ كَانَ صادقا رجعتم. قالوا: أنصفت. فأنزلوها، فلما رأوا الأمر كذلك، ازْدَادُوا كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الشعب، وَمَاتَ أبو طالب بَعْدَ ذَلِكَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَمَاتَتْ خديجة بَعْدَهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذلك، فَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم من سفهاء قومه، فخرج إلى الطائف رجاء أن ينصروه عليهم، ودعا إلى الله، فَلَمْ يَرَ مَنْ يُؤْوِي، وَلَمْ يَرَ نَاصِرًا، وآذوه أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينل منه قومه، ومعه زيد بن حارثة، فَأَقَامَ بَيْنَهُمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لَا يَدَعُ أَحَدًا من أشرافهم إلا كلمه، فَقَالُوا: اخْرُجْ مِنْ بَلَدِنَا. وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ، فَوَقَفُوا لَهُ سِمَاطَيْنِ، وَجَعَلُوا يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى دميت قدماه، وزيد يَقِيهِ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَصَابَهُ شِجَاجٌ فِي رَأْسِهِ، فانصرف إِلَى مَكَّةَ مَحْزُونًا. وَفِي مَرْجِعِهِ ذَلِكَ دَعَا بالدعاء الْمَشْهُورِ: «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حيلتي، وهواني على الناس» . فَأَرْسَلَ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْهِ مَلَكَ الْجِبَالِ يَسْتَأْمِرُهُ أَنْ يُطْبِقَ الْأَخْشَبَيْنِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وهما جبلاها اللذان هي بينهما، فقال: بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ؛ لَعَلَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا. فلما نزل بنخلة في مرجعه، قام يصلي من الليل، فصرف الله إليه نفرا مِنَ الْجِنِّ، فَاسْتَمَعُوا قِرَاءَتَهُ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الْأَحْقَافِ: 29] (¬1) . وَأَقَامَ بِنَخْلَةَ أَيَّامًا، فَقَالَ لَهُ زَيْدُ: كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَخْرَجُوكَ؟ يَعْنِي قُرَيْشًا. قال: يَا زيد، إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ، وَمُظْهِرٌ نبيه. فلما انتهى إلى مكة، أرسل رجلا من ¬

(¬1) سورة الأحقاف، الآية: 29.

فصل في الإسراء

خُزَاعَةَ إِلَى مطعم بن عدي: أَدْخُلُ فِي جوارك "؟ فقال: نعم. فدعا بنيه وقومه، وقال: الْبِسُوا السِّلَاحَ، وَكُونُوا عِنْدَ أَرْكَانِ الْبَيْتِ، فَإِنِّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمَّدًا. فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَسْجِدِ الْحِرَامِ، فَقَامَ المطعم عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمَّدًا، فَلَا يَهِجْهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ. فَانْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرُّكْنِ، فَاسْتَلَمَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَانْصَرَفَ إِلَى بيته ومطعم وَوَلَدُهُ مُحْدِقُونَ بِهِ بِالسِّلَاحِ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ. [فصل في الإسراء] فَصْلٌ ثُمَّ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَسَدِهِ -عَلَى الصَّحِيحِ -مِنَ الْمَسْجِدِ الحرام إلى البيت المقدس راكبا على البراق صحبة جبرائيل، فَنَزَلَ هُنَاكَ، وَصَلَّى بِالْأَنْبِيَاءِ إِمَامًا، وَرَبَطَ الْبُرَاقَ بحلقة باب المسجد، وقيل: إنه نزل بيت لحم، ولا يصح عنه ذلك الْبَتَّةَ. ثُمَّ عُرِجَ بِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ لَهُ جبرائيل، ففتح لهما، فرأى هناك آدَمَ أَبَا الْبَشَرِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَرَحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، وَأَرَاهُ اللَّهُ أرواح السعداء من بنيه عَنْ يَمِينِهِ، وَأَرْوَاحَ الْأَشْقِيَاءِ عَنْ يَسَارِهِ. ثُمَّ عرج به إلى السماء الثانية، فرأى فيها يحيى وعيسى، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَرَأَى فيها يوسف، ثم إلى الرابعة، فرأى فيها إدريس، ثم إلى الخامسة، فلقي فيها هارون، ثم إلى السادسة، فرأى فيها موسى، فلما جاوزه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يدخلها من أمتى. ثم إلى السابعة، فلقي فيها إبراهيم، ثم رفعت له سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ رُفِعَ لَهُ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ جَلَّ جَلَالُهُ، فَدَنَا مِنْهُ حَتَّى كَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى (¬1) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. وَفَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعَ حَتَّى مَرَّ على موسى فقال: بِمَ أُمِرْتَ؟ قَالَ: بِخَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: إِنَّ أمتك لا يطيقون ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ¬

(¬1) الآيات الواردة في (سورة النجم) صريحة في أن التدلي والدنو كان من جبريل عليه السلام كما قالت عائشة وابن مسعود، وليس من الله تعالى كما جاء في حديث شريك هذا الذي نقله المصنف عنه، وقد عد الحفاظ ذلك من جملة ما تفرد به شريك من شذواته ومنكراته، وانظر بسط ذلك في " الفتح " 13 / 402، 405.

لأمتك، فالتفت إلى جبريل يستشيره، فَأَشَارَ: أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ. فَعَلَا بِهِ جبرائيل حَتَّى أَتَى بِهِ الْجَبَّارَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُوَ مكانه. هذا لفظ البخاري في " صحيحه ". وفي بعض الطرق: فوضع عنه عشرا، ثم نزل حَتَى مَرَّ بِمُوسَى، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ موسى وبين الله تبارك وتعالى حتى جعلها خمسا، فيأمره بالرجوع وسؤال التخفيف، قال: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ " فَلَمَّا بَعُدَ، نَادَى مُنَادٍ: قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي. وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ: هَلْ رَأَى رَبَّهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَمْ لَا؟ فَصَحَّ عَنِ ابن عباس أنه رآه، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ، وَصَحَّ عَنْ عائشة وَابْنِ مَسْعُودٍ إِنْكَارُ ذَلِكَ، وَقَالَا: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] إنما هو جبرائيل، وَصَحَّ عَنْ أبي ذر أَنَّهُ سَأَلَهُ: هَلْ رأيت ربك؟ قال: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ أَيْ: حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ رؤيته النور، كما في اللفظ الآخر: رأيت نورا. وحكى الدارمي اتفاق الصحابة أنه لم يره. قال شيخ الإسلام: وليس قول ابن عباس مُنَاقِضًا لِهَذَا، وَلَا قَوْلُهُ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ. وَقَدْ صح عنه: رأيت ربي تبارك وتعالى لكن هذا في المدينة فِي مَنَامِهِ. وَعَلَى هَذَا بَنَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فقال: نَعَمْ رَآهُ حَقًّا، فَإِنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ ولا بد، ولم يقل: إنه رآه في يقظته، لكن مرة قال: رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده، وحكيت عنه رواية مِنْ تَصَرُّفِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وَهَذِهِ نُصُوصُ أحمد مَوْجُودَةٌ لَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ اسْتِنَادُهُ إِلَى قَوْلِهِ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النِّجْمِ: 11] ثُمَّ قَالَ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] والظاهر أنه مستنده، فصح عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا المرئي جبرائيل، رآه في صورته مرتين، وقول ابن عباس هذا هو مستند أحمد في قوله: رآه بفؤاده. وأما قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] فهذا غير الدنو والتدلي في قصة الإسراء، فالذي في القرآن جبرائيل كَمَا قَالَتْ عائشة وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] إلى آخره. وأما " الدنو " و " التدلي " في الحديث، فهو صريح أنه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه (¬1) . ¬

(¬1) تقدم أن هذه من منكرات شريك وشذواته.

فلما أصبح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْمِهِ أَخْبَرَهُمْ، فاشتد تكذيبهم له، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَصِفَ لَهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَجَلَّاهُ الله حتى عاينه، وطفق يخبرهم عنه، ولا يستطيعون أن يردوا عليه، وأخبرهم عن عيرهم، في مسراه ورجوعه، وعن وقت قدومها، وعن البعير الذي يقدمها، فكان الْأَمْرُ كَمَا قَالَ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا نفورا. ونقل ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عائشة ومعاوية أَنَّهُمَا قَالَا: إنما كان الإسراء بروحه، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: كَانَ الْإِسْرَاءُ مَنَامًا، وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ: كَانَ بِرُوحِهِ دُونَ جَسَدِهِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَظِيمٌ؛ فَإِنَّ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ قَدْ يَكُونُ أَمْثَالًا مَضْرُوبَةً لِلْمَعْلُومِ فِي الصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ، فَيَرَى كَأَنَّهُ قَدْ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، أَوْ ذُهِبَ به إلى مكة، وروحه لم تصعد، ولم يذهب، وَإِنَّمَا مَلَكُ الرُّؤْيَا ضَرَبَ لَهُ الْمِثَالَ، وَالَّذِينَ قالوا: بروحه، لم يريدوا أنه كان مناما، وإنما أرادوا أن الروح عرج بها حقيقة، وباشرت منه جنس ما تباشر بعد المفارقة، لَكِنْ لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ حَتَّى يشق بطنه وهو حي لا يتألم، عرج بذات روحه حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ إِمَاتَةٍ، وَمَنْ سِوَاهُ لَا تنال روحه ذلك إلا بعد الموت، فإن الأنبياء إنما استقرت أرواحهم في الرفيق الأعلى مع روحه، ومع هذا فلها إشراف على البدن بِحَيْثُ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ، وبهذا التعلق رأى موسى يصلي في قبره، ورآه في السماء. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَجْ بِمُوسَى مِنْ قَبْرِهِ، ثم رد إليه، بل ذَلِكَ مَقَامُ رُوحِهِ وَاسْتِقْرَارِهَا، وَقَبْرُهُ مَقَامُ بَدَنِهِ وَاسْتِقْرَارُهُ إِلَى يَوْمِ مَعَادِ الْأَرْوَاحِ إِلَى أَجْسَادِهَا، ومن كثف إدراكه عن هَذَا، فَلْيُنْظَرْ إِلَى الشَّمْسِ فِي عُلُوِّ مَحِلِّهَا وَتَأْثِيرِهَا فِي الْأَرْضِ وَحَيَاةِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ بِهَا، وشأن الروح فوق هذا. فَقُلْ لِلْعُيُونِ الرُّمْدِ إِيَّاكِ أَنْ تَرَيْ ... سَنَا الشمس فاستغشي ظلام اللياليا قال ابن عبد البر: كَانَ بَيْنَ الْإِسْرَاءِ وَالْهِجْرَةِ سَنَةٌ وَشَهْرَانِ. انْتَهَى. وكان الإسراء مرة، وَقِيلَ: مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً يَقَظَةً، وَمَرَّةً مَنَامًا، وَأَرْبَابُ هذا كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ حَدِيثِ شريك وغيره؛ لقوله فيه: ثم استيقظت وأنا في المسجد، وقوله فيه: وذلك قبل أن يوحى إليه (¬1) . ¬

(¬1) وهذا أيضا مما عده الحفاظ من منكرات شريك.

فصل في مبدأ الهجرة التي فرق الله بها بين أوليائه وأعدائه

ومنهم من قال: ثلاث مرات. وَكُلُّ هَذَا خَبْطٌ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ ضُعَفَاءِ الظَّاهِرِيَّةِ من أرباب النقل، والصواب الذي عليه أئمة أهل النقل أن الإسراء كان مرة واحدة، ويا عجبا لهؤلاء كَيْفَ سَاغَ لَهُمْ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّهُ فِي كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين. وَقَدْ غَلَّطَ الْحُفُّاظُ شريكا فِي أَلْفَاظٍ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، ومسلم أَوْرَدَ الْمُسْنَدَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ وَزَادَ وَنَقَصَ. وَلَمْ يَسْرُدِ الحديث، وأجاد رحمه الله. [فَصْلٌ فِي مَبْدَأِ الْهِجْرَةِ الَّتِي فَرَّقَ اللَّهُ بها بين أوليائه وأعدائه] فَصْلٌ فِي مَبْدَأِ الْهِجْرَةِ الَّتِي فَرَّقَ اللَّهُ بها بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَجَعَلَهَا مَبْدَأً لِإِعْزَازِ دِينِهِ ونصرة رسوله قال الترمذي: حَدَّثَنِي محمد بن صالح، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عمران بْنِ قَتَادَةَ، ويزيد بن رومان، وَغَيْرِهِمَا، قَالُوا: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ سِنِينَ مِنْ أَوِّلِ نُبُوَّتِهِ مُسْتَخْفِيًا، ثُمَّ أَعْلَنَ فِي الرَّابِعَةِ، فَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ عَشْرَ سِنِينَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ كُلَّ عَامٍ يَتَّبِعُ الْحَاجَّ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَفِي الْمَوَاسِمِ بِعُكَاظٍ وَمَجَنَّةَ وَذِي الْمَجَازِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ وَلَهُمُ الْجَنَّةُ، فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلَا يُجِيبُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْأَلُ عَنِ الْقَبَائِلِ وَمَنَازِلِهَا قَبِيلَةً قَبِيلَةً، وَيَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَا اللَّهُ، تفلحوا وتملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، وإذا آمَنْتُمْ كُنْتُمْ مُلُوكًا فِي الْجَنَّةِ» . وأبو لهب وَرَاءَهُ يَقُولُ: لَا تُطِيعُوهُ، فَإِنَّهُ صَابِئٌ كَذَّابٌ. فَيَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أقبح الرد ويؤذونه، ويقولون: عشيرتك أَعْلَمُ بِكَ حَيْثُ لَمْ يَتَّبِعُوكَ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَوْ شِئْتَ لَمْ يَكُونُوا هَكَذَا» . قَالَ: وَكَانَ مِمَّنْ يُسَمَّى لَنَا من القبائل الذين عرض نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ بَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَمُحَارِبُ بن خصفة، وَفَزَارَةُ، وَغَسَّانُ، وَمُرَّةُ، وَحَنِيفَةُ، وَسُلَيْمٌ، وَعَبْسٌ، وَبَنُو نضر، وَبَنُو الْبَكَّاءِ، وَكِنْدَةُ، وَكَلْبٌ، وَالْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ، وعذرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد. وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ أَنَّ الْأَوْسَ والخزرج كانوا يسمعون من حلفائهم يهود المدينة أن نبيا سيخرج

في هذا الزمان، فَنَتَّبِعُهُ، وَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمٍ، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ يَحُجُّونَ الْبَيْتَ كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَحُجُّهُ دون اليهود، فلما رأوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو الناس إلى الله، وَتَأَمَّلُوا أَحْوَالَهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ يَا قَوْمِ أَنَّ هَذَا الَّذِي تَوَعَّدَكُمْ بِهِ اليهود، فَلَا يَسْبِقُنَّكُمْ إِلَيْهِ. وَكَانَ سويد بن الصامت مِنَ الْأَوْسِ قَدْ قَدِمَ مَكَّةَ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُبْعِدْ، وَلَمْ يُجِبْ، حَتَّى قَدِمَ أنس بن رافع في فتية مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَطْلُبُونَ الْحِلْفَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ إياس بن معاذ وَكَانَ شابا: يَا قَوْمِ، هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْنَا له، فضربه أنس وَانْتَهَرَهُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ لَمْ يَتِمَّ لَهُمُ الْحِلْفُ فانصرفوا إلى المدينة. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ فِي الْمَوْسِمِ سِتَّةَ نفر في الأنصار، كلهم من الخزرج: أسعد بن زرارة، وجابر بن عبد الله بن رئاب، وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، فدعاهم إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمُوا، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فدعوا الناس إلى الْإِسْلَامُ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، جَاءَ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا؛ السِّتَّةُ الْأُوَلُ خَلَا جَابِرِ، ومعهم معاذ بن الحارث أخو عوف، وذكوان بن عبد قيس، وقد أقام بمكة حتى هاجر، فهو مُهَاجِرِيٌّ أَنْصَارِيٌّ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، ويزيد بن ثعلبة، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، وعويمر بن مالك، قال أبو الزبير عَنْ جابر: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لبث عَشْرَ سِنِينَ يَتَّبِعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الموسم ومجنة وعكاظ: «من يؤويني ومن يَنْصُرُنِي حَتَى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ؟» . فلا يجد أحدا، حتى إن الرجل ليرحل من مصر أَوِ الْيَمَنِ إِلَى ذِي رَحِمِهِ، فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ، فيقولون: احذر غلام قريش. ويمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ مِنْ يَثْرِبَ، فَيَأْتِيهِ الرُّجُلُ مِنَّا، فَيُؤْمِنُ بِهِ، وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ، فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ، فاجتمعنا وقلنا: حتى متى رسول الله يطرد في جبال مكة! فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدناه بيعة العقبة، فقال له العباس: ما أدري ما هؤلاء القوم، إني ذو معرفة بأهل يثرب، فاجتمعا عَنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ، فَلَمَّا نَظَرَ العباس فِي وُجُوهِنَا قَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا نَعْرِفُهُمْ، هَؤُلَاءِ أَحْدَاثٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَامَ نبايعك؟

قال: «عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم فيه لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ، وَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمُ الْجَنَّةُ» . فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ أسعد بن زرارة وهو أصغرهم، فَقَالَ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ العرب كافة، وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً، فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ لكم عند الله. قالوا: أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ، فَوَاللَّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ، وَلَا نَسْتَقِيلُهَا. فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا، فأخذ علينا يُعْطِينَا بِذَلِكَ الْجَنَّةَ. ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ابن أم مكتوم، ومصعب بن عمير يعلمان الناس القرآن، ويدعوان إلى الله، فنزلا على أسعد بن زرارة، وكان مصعب يؤمهم، وجمع بهم لما بلغو أَرْبَعِينَ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِمَا بَشَرٌ كَثِيرٌ، مِنْهُمْ أسيد بن حضير، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأَسْلَمَ بِإِسْلَامِهِمَا يَوْمَئِذٍ جَمِيعُ بني عبد الأشهل، إلا الأصيرم، تأخر إسلامه إلى يوم أحد، فأسلم حينئذ، وقاتل حتى قتل ولم يسجد لله سجدة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عمل قليل، وأجر كثير» . وكثر الإسلام في المدينة وَظَهَرَ. ثُمَّ رَجَعَ مصعب إِلَى مَكَّةَ، وَوَافَى الموسم ذاك الْعَامَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ والمشركين، وزعيم القوم البراء بن معرور، فكانت بيعة العقبة، وكان أول من بايعه الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، وَكَانَتْ لَهُ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ، إذ أكد العقد وبادر إليه، وَاخْتَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم تلك الليلة اثنى عشر نقيبا، فلما تمت البيعة استأذنوه على أَنْ يَمِيلُوا عَلَى أَهْلِ الْعَقَبَةِ بِأَسْيَافِهِمْ، فَلَمْ يأذن لهم، وصرخ الشيطان على العقبة بأبعد صَوْتٍ سُمِعَ: يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ هَلْ لَكُمْ في محمد وَالصُّبَاةُ مَعَهُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا أزب العقبة، أَمَا وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ لَأَتَفَرَّغَنَّ لَكَ» . ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَنْفَضُّوا إِلَى رِحَالِهِمْ، فَلَمَّا أصبحوا غدت عليهم أشراف قريش، فقالوا: بَلَغَنَا أَنَّكُمْ لَقِيتُمْ صَاحِبَنَا الْبَارِحَةَ وَوَاعَدْتُمُوهُ أَنْ تُبَايِعُوهُ عَلَى حَرْبِنَا، وَايْمُ اللَّهِ، مَا حَيٌّ من العرب أبغض إلينا من أن تنشب بيننا وبينه الحرب منكم. فانبعث من هناك من المشركين يحلفون

بالله: ما كان هذا. وجعل ابن أبي يقول: هذا باطل، وما كان قومي ليفتاتوا علي بمثل هَذَا، لَوْ كُنْتُ بِيَثْرِبَ مَا صَنَعَ قَوْمِي هذا حتى يؤامروني. فرجعت قريش، ورحل البراء إِلَى بَطْنِ يَأْجَجَ، وَتَلَاحَقَ أَصْحَابُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وطلبتهم قريش، فأدركوا سعد بن عبادة، فجعلوا يضربونه حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَكَّةَ، فَجَاءَ مطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية، فخلصاه منهم، وَتَشَاوَرَتِ الْأَنْصَارُ حِينَ فَقَدُوهُ أَنْ يَكِرُّوا إِلَيْهِ، فإذا هو قد طلع عليهم، فرحلوا جميعا. وَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمسلمين في الهجرة إِلَى الْمَدِينَةِ، فَبَادَرَ النَّاسُ إِلَى ذَلِكَ، فَكَانَ أول من خرج إليها أبو سلمة وامرأته، ولكنها احتبست عنه سنة وحيل بينها وبين ولدها، ثم خرجت بعد بِوَلَدِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَشَيَّعَهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طلحة. ثم خرج الناس أرسالا، ولم يبق بمكة إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعلي -أَقَامَا بِأَمْرِهِ لَهُمَا - وَإِلَّا من احتبسه المشركون كرها، وأعد رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَازَهُ ينتظر متى يؤمر، وأعد أبو بكر جهازه. فَلَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قد خرجوا وساقوا الذراري والأموال إلى المدينة، وأنها دار منعة وأهلها أهل بأس، خافوا خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم، فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ، فَاجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وحضرهم إبليس في صورة شيخ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، مُشْتَمِلٌ الصَّمَّاءَ فِي كِسَائِهِ، فأشار كل واحد برأي، والشيخ لا يرضاه، حتى قال أبو جهل: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة غلاما جلدا، ثم نعطيه سيفا صارما، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فلا تدري بنو عبد مناف ما تصنع بعد ذلك، ونسوق إليهم ديته. فقال الشيخ: هذا والله الرأي. فتفرقوا عليه، فجاءه جبريل فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَنَامَ فِي مَضْجَعِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أبي بكر نِصْفَ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِ فِيهَا مُتَقَنِّعًا، فَقَالَ لَهُ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ» ، فَقَالَ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ» . فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: «نعم» . قال: فَخُذْ بِأَبِي وَأُمِّي إِحْدَى رَاحِلَتَيْ هَاتَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِالثَّمَنِ» . وَأَمَرَ عليا أَنْ يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ تِلْكَ الليلة، واجتمع أولئك النفر يتطلعون من صير

الباب يريدون بَيَاتَهُ، وَيَأْتَمِرُونَ أَيُّهُمْ يَكُونُ أَشْقَاهَا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ، فَجَعَلَ يَذُرُّهُ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَهُمْ لَا يَرَوْنَهُ وَهُوَ يَتْلُو: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] (¬1) . ومضى إِلَى بَيْتِ أبي بكر، فَخَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ فيه ليلا، وجاء رجل فرأى الْقَوْمَ بِبَابِهِ. فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ؟ قَالُوا: مُحَمًّدًا. قَالَ: خِبْتُمْ وَخَسِرْتُمْ، قَدْ وَاللَّهِ مَرَّ بِكُمْ، وذر على رءوسكم التراب. فقاموا ينفضون عن رءوسهم، فلما أصبحوا قام علي من الفراش، فسألوه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لي به. ثم مضى وأبو بكر إِلَى غَارِ ثَوْرٍ، فَدَخَلَاهُ، وَضَرَبَ العنكبوت بيتا على بابه، وكانا قد استأجرا ابن أريقط الليثي، وكان هاديا ماهرا بالطريق وهو على دين قومه، وَأَمِنَاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَسَلَّمَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ الغار بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَجَدَّتْ قُرَيْشٌ فِي طَلَبِهِمَا، وَأَخَذُوا مَعَهُمُ الْقَافَةَ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى بَابِ الْغَارِ فوقفوا عليه، وَكَانَ عامر بن فهيرة يَرْعَى عَلَيْهِمَا غَنَمًا لأبي بكر، ومكثا فيه ثلاثا حتى خمدت عنهما نار الطلب، ثم جاءهما ابن أريقط بِالرَّاحِلَتَيْنِ فَارْتَحَلَا، وَأَرْدَفَ أبو بكر عامر بن فهيرة، وَسَارَ الدَّلِيلُ أَمَامَهُمَا، وَعَيْنُ اللَّهِ تصحبهما، وإسعاده ينزلهما ويرحلهما. ولما أيس المشركون منهما جَعَلُوا لِمَنْ جَاءَ بِهِمَا دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَجَدَّ النَّاسُ فِي الطَّلَبِ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، فَلَمَّا مَرُّوا بِحَيِّ بَنِي مُدْلِجٍ مُصْعِدِينَ مِنْ قُدَيْدٍ، بَصُرَ بِهِمْ رَجُلٌ مِنَ الحي، فقال لهم: لقد رأيت بِالسَّاحِلِ أَسْوِدَةً مَا أُرَاهَا إِلَّا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. ففطن سراقة، فأراد أن يكون له الظفر خَاصَّةً، وَقَدْ سَبَقَ لَهُ مِنَ الظَّفَرِ مَا لم يكن في حسابه، فقال: بل هما فُلَانٌ وَفُلَانٌ، خَرَجَا فِي طَلَبِ حَاجَةٍ لَهُمَا، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ خِبَاءَهُ، وقال لخادمه: اخرجي بِالْفَرَسِ مِنْ وَرَاءِ الْخِبَاءِ، وَمَوْعِدُكَ وَرَاءَ الْأَكَمَةِ، ثُمَّ أَخَذَ رُمْحَهُ وَخَفَضَ عَالِيَهُ يَخُطُّ بِهِ الْأَرْضَ حَتَّى رَكِبَ فَرَسَهُ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُمْ، وسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، قال أبو بكر: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا سراقة قَدْ رَهَقَنَا. فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَاخَتْ يَدَا فَرَسِهِ فِي الأرض، فقال: قد علمت أن الذي ¬

(¬1) سورة يس، الآية: 9.

أَصَابَنِي بِدُعَائِكُمَا فَادْعُوَا اللَّهَ لِي، وَلَكُمَا عَلَيَّ أَنْ أَرُدَّ النَّاسَ عَنْكُمَا، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأطلق، وسأله أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا، فَكَتَبَ لَهُ أبو بكر بأمره في أديم، وكان معه إلى يوم فتح مكة، فجاء بالكتاب فوفى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: اليوم يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمَا الزَّادَ وَالْحِمْلَانِ، فَقَالَا: لَا حَاجَةَ لَنَا بِهِ وَلَكِنْ عَمِّ عَنَّا الطَّلَبَ، فَقَالَ: قَدْ كُفِيتُمْ، وَرَجَعَ فَوَجَدَ النَّاسَ فِي الطَّلَبِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: قَدِ اسْتَبْرَأْتُ لكم الخبر، فكان أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَيْهِمَا، وَآخِرَهُ حَارِسًا لَهُمَا، ثم مرا في مسيرهما ذلك بخيمتي أم معبد الخزاعية، ثم الكعبية، فسألوها الزاد، فلم يصيبوا عندها شيئا، وكانوا مسنتين، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى شاة في خيمتهم وسألها: «هل بها لبن» ؟ قالت: هي أجهد من ذلك إنما خلفها عن الغنم الجهد، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمسح بيده ضرعها وسمى الله تعالى، ودعا فتفاجت عليه ودرت، ودعا بإناء بيربص الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة وسقاها وسقى أصحابه وشرب آخرهم، ثم غادره عندها، وارتحلوا عنها ثم قال: وأصبح صوت عاليا بمكة يَسْمَعُونَهُ وَلَا يَرَوْنَ الْقَائِلَ: جَزَى اللَّهُ رَبُّ الناس خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَيْ أم معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد فيالقصي مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمُ ... بِهِ مِنْ فَعَالٍ لا يجازى وسؤدد سلوا أختكم عن شأنها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت ... له بصريح ضرة الشاة مزبد نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد ترحل عن قوم فزالت عقولهم ... وحل على القوم بنور مجدد هداهم به بعد الضلالة ربهم ... وأرشدهم من يتبع الحق يرشد ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد ويهن بَنِي كَعْبٍ مَكَانَ فَتَاتِهِمْ ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ قالت أسماء: مَا دَرَيْنَا أَيْنَ تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ

فصل في قدوم النبي المدينة

الْجِنِّ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَأَنْشَدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ، والناس يتبعونه يسمعون صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَهُ، حَتَّى خَرَجَ مِنْ أَعْلَاهَا. قالت أسماء: فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا حَيْثُ تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ وَجْهَهُ إلى المدينة. [فصل في قدوم النبي الْمَدِينَةِ] فَصْلٌ وَبَلَغَ الْأَنْصَارَ مَخْرَجُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة، فكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه، فإذا اشتد حر الشمس رجعوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ عشر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر من نبوته خرجوا على عادتهم، فلما حميت الشَّمْسِ رَجَعُوا، وَصَعِدَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ لِبَعْضِ شَأْنِهِ، فَرَأَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ مُبَيِّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا بَنِي قَيْلَةَ هَذَا صَاحِبُكُمْ قَدْ جَاءَ، هذا جدكم الذي تنتظرون. فثار الأنصار إلى السلاح ليتلقوه، وسمعت الوجبة وَالتَّكْبِيرُ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ فَرَحًا بِقُدُومِهِ، وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ، فَتَلَقَّوْهُ وَحَيَّوْهُ بتحية النبوة، وأحدقوا بِهِ مُطِيفِينَ حَوْلَهُ، وَالسَّكِينَةُ تَغْشَاهُ، وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التَّحْرِيمِ: 4] (¬1) . فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَنَزَلَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ وَقِيلَ: عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَالْأَوَّلُ أثبت، فأقام فيهم أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأَسَّسَ مَسْجِدَ قُبَاءَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ أُسِّسَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ رَكِبَ بِأَمْرِ اللَّهِ لَهُ، فَأَدْرَكَتْهُ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فَجَمَعَ بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي فِي بَطْنِ الْوَادِي، ثُمَّ رَكِبَ فَأَخَذُوا بِخِطَامِ رَاحِلَتِهِ: هَلُمَّ إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالسِّلَاحِ وَالْمَنَعَةِ، فَقَالَ: «خَلُّوا سَبِيلَهَا فإنها مأمورة» ، فلم تزل سَائِرَةً بِهِ لَا تَمُرُّ بِدَارٍ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا رَغِبُوا إِلَيْهِ فِي النُّزُولِ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» ، فَسَارَتْ حَتَّى وَصَلَتْ موضع مسجده اليوم فبركت وَلَمْ يَنْزِلْ عَنْهَا حَتَّى نَهَضَتْ، وَسَارَتْ قَلِيلًا، ثم التفتت ورجعت في موضعها الأول فبركت، فَنَزَلَ عَنْهَا وَذَلِكَ فِي بَنِي النَّجَّارِ أَخْوَالِهِ. وكان من توفيق ¬

(¬1) سورة التحريم، الآية: 4.

الله لها، فإنه أحب أن ينزل عليهم ليكرمهم بذلك، فجعلوا يكلمونه في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب إلى راحلته فَأَدْخَلَهُ بَيْتَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ» ، وَجَاءَ أسعد بن زرارة، فأخذ ناقته فكانت عنده، وأصبح كما قال قيس بن صرمة الأنصاري - وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ يَتَحَفَّظُ مِنْهُ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ -: ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجّةً ... يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى حَبِيبًا مُوَاتِيَا وَيَعْرِضُ فِي أَهْلِ الْمَوَاسِمِ نَفْسَهُ ... فَلَمْ ير من يؤوي ولم ير واعيا فَلَمَّا أَتَانَا وَاسْتَقَرَّتْ بِهِ النَّوَى ... وَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بِطَيْبَةَ رَاضِيَا وَأَصْبَحَ لَا يَخْشَى ظُلَامَةَ ظَالِمٍ ... بَعِيدٍ وَلَا يَخْشَى مِنَ النَّاسِ بَاغِيَا بَذَلْنَا لَهُ الْأَمْوَالَ مِنْ حِلِّ مَالِنَا ... وَأَنْفُسَنَا عِنْدَ الْوَغَى وَالتَّآسِيَا نُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ ... جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا وَنَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا رَبَّ غَيْرُهُ ... وَأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَصْبَحَ هَادِيَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ، فَأُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 80] (¬1) . قَالَ قتادة: أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَخْرَجَ صِدْقٍ وَنَبِيُّ اللَّهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا بِسُلْطَانٍ، فَسَأَلَ اللَّهَ سُلْطَانًا نَصِيرًا، وَأَرَاهُ اللَّهُ دَارَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: «أُرِيتُ دَارَ هجرتكم بسبخة ذات نخل بين لابتين» . قَالَ البراء: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يقرئان الناس القرآن، ثم جاء عمار بن ياسر، وبلال، وسعد، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ رَاكِبًا، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ النَّاسَ فرحوا بشيء فرحهم بِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَالْإِمَاءَ يَقُولُونَ: هذا رسول الله قد جاء. فَأَقَامَ فِي مَنْزِلِ أبي أيوب حَتَّى بَنَى مسجده وحجره، وبعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي مَنْزِلِ أبي أيوب، خالد بن زيد، وأبا رافع وَأَعْطَاهُمَا بَعِيرَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى مَكَّةَ، فَقَدِمَا عَلَيْهِ بفاطمة، وأم كلثوم ابْنَتَيْهِ، وسودة زوجته، وأسامة بن زيد، وأم أيمن. وأما زينب، فلم يمكنها زوجها ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 80.

فصل في بناء المسجد

أبو العاص مِنَ الْخُرُوجِ، وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بكر معهم بعيال أبي بكر وفيهم عائشة، فَنَزَلُوا فِي بَيْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ. [فَصْلٌ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ] فَصْلٌ فِي بِنَاءِ المسجد قال الزهري: بركت ناقته - صلى الله عليه وسلم - عند مَوْضِعَ مَسْجِدِهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يُصَلِّي فِيهِ رِجَالٌ من المسلمين، وكان مربدا ليتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فساومهما فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالا: بل نهبه لك، فأبى حتى ابتاعه مِنْهُمَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَكَانَ جِدَارًا لَيْسَ لَهُ سَقْفٌ وَقِبْلَتُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيُجَمِّعُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ فيه شجر غرقد وَنَخْلٌ، وَقُبُورٌ لِلْمُشْرِكِينَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقبور فنبشت، وبالنخل والشجر فقطع، وَصُفَّتْ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلَ طُولَهُ مِمَّا يلي القبلة مائة ذراع إلى مؤخره، وفي الجانبين مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ دُونَهُ، وَجَعَلَ أَسَاسَهُ قَرِيبًا من ثلاثة أذرع، ثم بنوه باللبن، ورسول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْنِي مَعَهُمْ، وينقل اللبن والحجارة بنفسه وهو يقول: اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ وَكَانَ يَقُولُ: هَذَا الْحِمَالُ لَا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهره وجعلوا يرتجزون وهم ينقلون اللبن، وجعل بعضهم يقول فِي رَجَزِهِ: لَئِنْ قَعَدْنَا وَالرَّسُولُ يَعْمَلُ ... لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلَّلُ وَجَعَلَ قِبْلَتَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَجَعَلَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَبْوَابٍ بَابًا فِي مُؤَخَّرِهِ، وَبَابًا يُقَالُ لَهُ: بَابُ الرَّحْمَةِ، وَالْبَابُ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعل عمده الجذوع وسقفه الجريد، وَقِيلَ لَهُ: أَلَا تُسَقِّفُهُ؟ فَقَالَ: «لَا عَرِيشٌ كعريش موسى» ، وبنى بيوتا إلى جانبه بيوت أزواجه باللبن، وسقفها بالجذوع والجريد، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْبِنَاءِ بَنَى بعائشة فِي البيت الذي بناه لها شرقي المسجد، وجعل لسودة بيتا آخر. ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانوا تسعين رجلا، من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار على المواساة، ويتوارثون بعد الموت إلى وقعة بدر، فلما نزلت

{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب: 6] (¬1) الآية رد التوارث إلى الرحم وقيل: إنه آخى بين المهاجرين ثانية، واتخذ عليا أخا، والثابت الأول. ولو كان ذلك، لكان أحق الناس بأخوته الصديق الذي قال فيه: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي» ، وهذه الأخوة وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً كَمَا قَالَ: «وَدِدْتُ أَنْ قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا، قَالُوا: أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانِي قَوْمٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي، يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي» ، فَلِلصِّدِّيقِ مِنْ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ أَعْلَى مَرَاتِبِهَا كَمَا لَهُ مِنَ الصُّحْبَةِ أعلى مراتبها، ووادع مَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كتابا، وبادر حبرهم عبد الله بن سلام ودخل فِي الْإِسْلَامِ، وَأَبَى عَامَّتُهُمْ إِلَّا الْكُفْرَ، وَكَانُوا ثَلَاثَ قَبَائِلَ: بَنُو قَيْنُقَاعَ وَبَنُو النَّضِيرِ وَبَنُو قُرَيْظَةَ، وَحَارَبَهُ الثَّلَاثَةُ، فَمَنَّ عَلَى بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَأَجْلَى بَنِي النَّضِيرِ، وَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَسَبَى ذُرِّيَّتَهُمْ، وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْحَشْرِ فِي بَنِي النَّضِيرِ، والأحزاب في بني قريظة. وكان يصلي إلى بيت المقدس، وَقَالَ لِجِبْرِيلَ: وَدِدْتُ أَنْ يَصْرِفَ اللَّهُ وَجْهِي عَنْ قِبْلَةِ الْيَهُودِ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَادْعُ رَبْكَ وَاسْأَلْهُ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السماء يرجو ذلك، فأنزل اللَّهُ عَلَيْهِ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] (¬2) الآية، وَذَلِكَ بَعْدَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِهِ المدينة قبل بدر بشهرين، وكان في ذلك حِكَمٌ عَظِيمَةٌ، وَمِحْنَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، فأما المسلمون، فقالوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عِمْرَانَ: 7] وَهُمُ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، وَلَمْ تَكُنْ كَبِيرَةً عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالُوا: كَمَا رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا يُوشِكُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دِينِنَا وَمَا رَجَعَ إِلَيْهَا إِلَّا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَأَمَّا اليهود، فقالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله، وأما المنافقون، فقالوا: ما يدري أَيْنَ يَتَوَجَّهُ إِنْ كَانَتِ الْأُولَى حَقًّا فَقَدْ تَرَكَهَا، وَإِنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ هِيَ الْحَقَّ، فَقَدْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ. وَكَثُرَتْ أَقَاوِيلُ السُّفَهَاءِ مِنَ الناس، وكانت كما قال الله تعالى: {كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى} [البقرة: 143] (¬3) وكانت محنة من الله ليرى من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 6. (¬2) سورة البقرة، الآية: 144. (¬3) سورة البقرة، الآية: 143.

ولما كان شأن القبلة عَظِيمًا وَطَّأَ سُبْحَانَهُ قَبْلَهَا أَمْرَ النَّسْخِ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنَ الْمَنْسُوخِ أَوْ مثله، ثم عقبه بالتوبيخ لمن تعنت على رسوله، ولم ينقد له، ثم ذكر اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَشَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بأنهم ليسوا على شيء، وحذر عباده مِنْ مُوَافَقَتِهِمْ وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ كُفْرَهُمْ به وقولهم: أن له ولد سبحانه وتعالى، ثم أخبر أنه له المشرق والمغرب، فأينما يُوَلِّي عِبَادُهُ وُجُوهَهُمْ فَثَمَّ وَجْهُهُ وَهُوَ الْوَاسِعُ العليم، فلعظمته وسعته وإحاطته أينما توجه الْعَبْدُ، فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ رَسُولَهُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ الَّذِينَ لا يتابعونه، ثم أخبره أن أهل الكتاب لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، ثم ذكر أهل الكتاب نعمته عليهم، وخوفهم بأسه، ثم ذكر خليله باني بيته، وأثنى عليه، وأخبر أنه جعله إماما للناس، ثُمَّ ذَكَرَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَبِنَاءَ خَلِيلِهِ لَهُ، وفي ضمن هذا أن بانيه كما هو إمام الناس، فكذا الْبَيْتُ الَّذِي بَنَاهُ إِمَامٌ لَهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ هَذَا الْإِمَامِ إِلَّا أَسْفَهُ النَّاسِ، ثُمَّ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يأتموا به، ويؤمنوا بما أنزل إليه وإلى النَّبِيِّينَ، ثُمَّ رَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى، وجعل هذا كله توطئة بين يدي تحويل القبلة، وأكد سبحانه الأمر مرة بعد مرة، وأمر به حيث كان رسوله ومن حيث خرج، وأخبر سبحانه أَنَّ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مستقيم هو الذي هداهم لهذه القبلة، وأنها لهم وهم أهلها، لأنها أفضل القبل، وهم أفضل الْأُمَمِ، كَمَا اخْتَارَ لَهُمْ أَفْضَلَ الرُّسُلِ، وَأَفْضَلَ الْكُتُبِ وَأَخْرَجَهُمْ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ، وَخَصَّهُمْ بِأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ، وَمَنَحَهُمْ خَيْرَ الْأَخْلَاقِ، وَأَسْكَنَهُمْ خَيْرَ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرَ الْمَنَازِلِ، وَمَوْقِفَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ خَيْرَ الْمَوَاقِفِ، فَهُمْ عَلَى تَلٍّ عَالٍ وَالنَّاسُ تَحْتَهُمْ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْهِمْ حجة، ولكن الظالمين يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْحُجَجِ الَّتِي ذُكِرَتْ، وَلَا يعارضون الملحدون الرسل إلا بها وبأمثالها. وَكُلُّ مَنْ قَدَّمَ عَلَى أَقْوَالِ الرَّسُولِ سِوَاهَا، فَحُجَّتُهُ مِنْ جِنْسِ حُجَجِ هَؤُلَاءِ، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَلِيَهْدِيَهُمْ، ثم

فصل في أحوال رسول الله والمسلمين عندما استقر بالمدينة

ذكر نعمه عليهم بإرسال رسوله، وإنزال كتابه، يزكيهم به، وَيُعَلِّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمَهُمْ مَا لَمْ يَكُونُوا يعلمون. ثم أمرهم بذكره وشكره إذ بهما يستوجبون لهم محبته لَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِمَا لَا يَتِمُّ لَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَهُوَ الصَّبْرُ وَالصَّلَاةُ، وأخبر أنه مع الصابرين، وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ الْقِبْلَةِ بِأَنْ شَرَعَ لَهُمُ الْأَذَانَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَزَادَهُمْ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ بعد أن كانت ثنائية، وكل هذا بعد مقدمه المدينة. [فصل في أحوال رسول الله والمسلمين عندما استقر بالمدينة] فَصْلٌ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ، وأيده الله بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم بعد العداوة، فَمَنَعَتْهُ أَنْصَارُ اللَّهِ، وَكَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَسْوَدِ والأحمر، وبذلوا أنفسهم دُونَهُ، وَقَدَّمُوا مَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْأَزْوَاجِ، وَكَانَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ وَالْيَهُودُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَشَمَّرُوا لَهُمْ عن ساق العداوة، وصاحوا بهم من كل جانب، والله تعالى يَأْمُرُهُمْ بِالصَّبْرِ وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ حَتَّى قَوِيَتِ الشَّوْكَةُ، وَاشْتَدَّ الْجَنَاحُ، فَأُذِنَ لَهُمْ حِينَئِذٍ فِي الْقِتَالِ، وَلَمْ يَفْرِضْهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] (¬1) وقيل: إن هذا بمكة، لأن السورة مَكِّيَّةٌ، وَهَذَا غَلَطٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ لم يأذن في القتال بمكة. الثاني: أن السياق يدل على أن الإذن بعد إخراجهم من ديارهم بغير حق. . الثالث: أن قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ} [الْحَجِّ: 19] نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ. الرابع: أنه خاطبهم فيها بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، والخطاب بذلك كله مدني. الْخَامِسُ: أَنَّهُ أَمَرَ فِيهَا بِالْجِهَادِ الَّذِي يَعُمُّ اليد وغيره، ولا ريب أن الأمر المطلق بالجهاد إنما كان بعد الهجرة. السادس: أن الحاكم روى في " مستدركه " عن ابن عباس بإسناده على شرطهما، قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ، قَالَ أبو بكر: أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ لَيَهْلِكُنَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] الآية ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 39.

وهي أول آية نزلت في القتال. انتهى. وَسِيَاقُ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهَا الْمَكِّيَّ والمدني، فإن قصة إلقاء الشيطان في أمنيته مكية، والله أعلم. ثم فرض عليهم قتال من قاتلهم، فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] (¬1) ثُمَّ فَرَضَ عَلَيْهِمْ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً وَكَانَ مُحَرَّمًا، ثُمَّ مَأْذُونًا بِهِ، ثُمَّ مَأْمُورًا بِهِ لِمَنْ بَدَأَهُمْ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ مَأْمُورًا بِهِ، لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ، إِمَّا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أو كِفَايَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ جِنْسَ الْجِهَادِ فَرْضُ عَيْنٍ، إِمَّا بِالْقَلْبِ، وَإِمَّا بِاللِّسَانِ، وَإِمَّا باليد، وإما بالمال، فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُجَاهِدَ بِنَوْعٍ مِنْ هذه الأنواع، وأما الجهاد بالنفس، ففرض كفاية، وأما بِالْمَالِ، فَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْجِهَادِ بِهِ وَبِالنَّفْسِ فِي الْقُرْآنِ سَوَاءٌ، وعلق النجاة من النار والمغفرة، ودخول الجنة به، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] (¬2) الآيات، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأموالهم، وأعاضهم عنها الْجَنَّةَ، وَأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ وَالْوَعْدَ قَدْ أَوْدَعَهُ أفضل كتبه، ثم أكده بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْهُ تبارك وتعالى، ثم أكده بأن أمرهم أن يستبشروا بذلك، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، فليتأمل العاقل مع ربه ما أجل هذا العقد، فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ الْمُشْتَرِي، وَالثَّمَنُ الجنة، والذي جرى على يديه هَذَا الْعَقْدُ أَشْرَفُ رُسُلِهِ، وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الملائكة ومن البشر، وَإِنَّ سِلْعَةً هَذَا شَأْنُهَا لَقَدْ هُيِّئَتْ، لِأَمْرٍ عظيم. قد هيؤوك لِأَمْرٍ لَوْ فَطِنْتَ لَهُ ... فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ أَنْ ترعى مع الهمل مهر الجنة والمحبة بذل النفس والمال لمالكهما، فَمَا لِلْجَبَانِ الْمُعْرِضِ الْمُفْلِسِ، وَسَوْمِ هِذِهِ السِّلْعَةِ بالله ما هزلت فيسنامها المفلسون، وما كَسَدَتْ فَيَبِيعَهَا بِالنَّسِيئَةِ الْمُعْسِرُونَ، لَقَدْ أُقِيمَتْ لِلْعَرْضِ فِي سُوقِ مَنْ يُرِيدُ، فَلَمْ يَرْضَ رَبُّهَا لَهَا بِثَمَنٍ دُونَ بَذْلِ النُّفُوسِ، فَتَأَخَّرَ الْبَطَّالُونَ، وقام المحبون ينتظرون أيهم يصلح أن تكون نَفْسُهُ الثَّمَنَ، فَدَارَتِ السِّلْعَةُ بَيْنَهُمْ، وَوَقَعَتْ فِي يَدِ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] (¬3) لما كثر المدعون للمحبة طولبوا ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 190. (¬2) سورة الصف، الآية: 10. (¬3) سورة المائدة، الآية: 54.

بإقامة البينة، فلو يعطى الناس بدعواهم، لادعى الخلي حرقة الشَّجِيِّ، فَتَنَوَّعَ الْمُدَّعُونَ فِي الشُّهُودِ، فَقِيلَ: لَا نثبت هذه الدعوة إِلَّا بِبَيِّنَةٍ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 31] (¬1) فَتَأَخَّرَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، وَثَبَتَ أَتْبَاعُ الرسول في أفعاله وأقواله، وهديه وأخلاقه، وطولبوا بعدالة البينة، فقيل: لَا تُقْبَلُ الْعَدَالَةُ إِلَّا بِتَزْكِيَةٍ {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54] (¬2) فَتَأَخَّرَ أَكْثَرُ الْمُدَّعِينَ لِلْمَحَبَّةِ، وَقَامَ الْمُجَاهِدُونَ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ نُفُوسَ الْمُحِبِّينَ وَأَمْوَالَهُمْ لَيْسَتْ لَهُمْ، فسلموا ما وقع عليه العقد، وَعَقْدُ التَّبَايُعِ يُوجِبُ التَّسْلِيمَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. فَلَمَّا رَأَى التُّجَّارُ عَظَمَةَ الْمُشْتَرِي، وَقَدْرَ الثَّمَنِ، وَجَلَالَةَ من جرى العقد عَلَى يَدْيِهِ، وَمِقْدَارَ الْكِتَابِ الَّذِي أُثْبِتَ فِيهِ، عرفوا أن لهذه السلعة شأنا ليس لغيرها، فرأوا من الغبن الْفَاحِشِ أَنْ يَبِيعُوهَا بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، تذهب لذتها، وتبقى تبعتها، فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان رضا واختيارا من غير ثبوت خيار، فلما تم العقد وسلموا المبيع، قيل: قد صارت نفوسكم وأموالكم لنا، والآن قد رَدَدْنَاهَا عَلَيْكُمْ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، وَأَضْعَافَ أَمْوَالِكُمْ مَعَهَا {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] (¬3) الآية لم نتبع مِنْكُمْ نُفُوسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ طَلَبًا لِلرِّبْحِ عَلَيْكُمْ، بَلْ ليظهر أثر الجود والكرم في قبول البيع وَالْإِعْطَاءِ عَلَيْهِ أَجَلَّ الْأَثْمَانِ، ثُمَّ جَمَعْنَا لَكُمْ بين الثمن والمثمن. وتأمل قصة جابر وجمله كيف وفاه الثمن، وزاده، ورد عليه البعير، فذكره بهذا الفعل حال الله مع أبيه، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ وَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، وَقَالَ: «يا عبدي تمن علي أعطيك» فَسُبْحَانَ مَنْ عَظُمَ جُودُهُ وَكَرَمُهُ أَنْ يُحِيطَ به علم الخلائق، لقد أعطى السلعة وأعطى الثمن، ووفقه لتكميل العقد، وقبل المبيع على عيبه، وأعطى عَلَيْهِ أَجَلَّ الْأَثْمَانِ، وَاشْتَرَى عَبْدَهُ مِنْ نَفْسِهِ بِمَالِهِ، وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، وَأَثْنَى عليه، ومدحه بهذا العقد، وهو الذي وفقه له وشاءه منه: فحيهل إن كنت ذا همة فقد ... حدى بك حادي الشوق فاطوي المراحلا ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 31. (¬2) سورة المائدة، الآية: 54. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 169.

وقل لمنادي حبهم ورضاهم ... اذا ما دعى لَبَّيْكَ أَلْفًا كَوَامِلَا وَلَا تَنْظُرِ الْأَطْلَالَ مِنْ دُونِهِمْ فَإِنْ ... نَظَرْتَ إِلَى الْأَطْلَالِ عُدْنَ حَوَائِلَا وَخُذْ مِنْهُمْ زَادًا إِلَيْهِمْ وَسِرْ عَلَى ... طَرِيقِ الهدى والحب تصبح واصلا وَلَا تَنْتَظِرْ بِالسَّيْرِ رِفْقَةَ قَاعِدٍ ... وَدَعْهُ فَإِنَّ الشوق يكفيك حاملا واحيي بذكراهم سراك إذا ونت ... رِكَابُكَ فَالذِّكْرَى تُعِيدُكَ عَامِلَا وإِمَّا تَخَافَنَّ الْكلَالَ فَقُلْ لَهَا ... أَمَامَكِ وَرْدُ الْوَصْلِ فَابْغِي الْمَنَاهِلَا وَخُذْ قَبَسًا مَنْ نُورِهِمْ ثُمَّ سِرْ بِهِ ... فنورهم يهديك ليس المشاعلا وحي على واد الْأَرَاكِ فَقِلْ بِهِ ... عَسَاكَ تَرَاهُمْ ثَمَّ إِنْ كنت قائلا وإلا ففي نعمان عند معرف الأحـ ... ـبة فَاطْلُبْهُمْ إِذَا كُنْتَ سَائِلَا وَإِلَّا فَفِي جَمْعٍ بِلَيْلَتِهِ فَإِنْ ... تَفُتْ فَمِنًى يَا وَيْحَ مَنْ كَانَ غَافِلَا وَحَيِّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا ... مَنَازِلُكَ الْأُولَى بِهَا كُنْتَ نَازِلَا وَلَكِنْ سَبَاكَ الْكَاشِحُونَ لِأَجْلِ ذَا ... وَقَفْتَ عَلَى الْأَطْلَالِ تَبْكِي المنازلا وحي على يوم المزيد بجنة الخـ ... ـلود فَجُدْ بِالنَّفْسِ إِنْ كُنْتَ بَاذِلَا فَدَعْهَا رُسُومًا دَارِسَاتٍ فَمَا بِهَا ... مَقِيلٌ وَجَاوِزْهَا فَلَيْسَتْ مَنَازِلَا وَخُذْ يَمْنَةً عَنْهَا عَلَى الْمَنْهَجِ الَّذِي ... عَلَيْهِ سرى وفد المحبة آهِلَا وَقُلْ سَاعِدِي يَا نَفْسُ بِالصَّبْرِ سَاعَةً ... فَعِنْدَ اللِّقَا ذَا الْكَدُّ يُصْبِحُ زَائِلَا فَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي ... وَيُصْبِحُ ذُو الْأَحْزَانِ فَرْحَانَ جَاذِلَا لَقَدْ حَرَّكَ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ وَإِلَى دَارِ السَّلَامِ النُّفُوسَ الْأَبِيَّةَ، وَالْهِمَمَ الْعَالِيَةَ، وَأَسْمَعَ مُنَادِي الْإِيمَانِ مَن كَانَتْ لَهُ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ وَأَسْمَعَ اللَّهُ مَنْ كَانَ حَيًّا، فهزَّه السَّمَاعُ إِلَى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ وَحَدَا بِهِ فِي طَرِيقِ سَيْرِهِ، فَمَا حَطَّتْ بِهِ رِحَالُهُ إِلَّا بِدَارِ الْقَرَارِ. فَقَالَ: «انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أَرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أَحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ» (¬1) وَقَالَ: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ، ¬

(¬1) البخاري وأحمد ومسلم.

لا يفتر عن صيام ولا صلاة حتى يرجع» وَقَالَ: «غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ رَوْحَةٌ، خير من الدنيا وما فيها» وقال: «الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُنَجِّي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ» (¬1) وقال: «أنا زعيم، أي: كفيل - لِمَنْ آمَنَ بِي وَأَسْلَمَ، وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله ببيت في ربض الجنة، وبيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى الْجَنَّةِ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا، وَلَا مِنَ الشَّرِّ مَهْرَبًا، يَمُوتُ حَيْثُ يشاء أَنْ يَمُوتَ» (¬2) . وَقَالَ: «مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ - فُوَاقَ نَاقَةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» (¬3) . وَقَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ، كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، ومنه تفجر أنهار الجنة» (¬4) وَقَالَ: «مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ غَارِمًا فِي غُرْمِهِ، أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» (¬5) . وَقَالَ: «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ في سبيل الله، حرّمها اللَّهُ عَلَى النَّارِ» (¬6) وَقَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ شُحٌّ وإيمان في قلب رجل، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدُخَانُ جهنم في وجه عبد» وَقَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وأُجري عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الفتان» «وقال لرجل حرس المسلمين ليلة على ظهر فرسه من أولها إلى الصباح لَمْ يَنْزِلْ إِلَّا لِصَلَاةٍ أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ قَدْ أَوْجَبْتَ، فَلَا عَلَيْكَ أَلَّا تَعْمَلَ بَعْدَهَا» (¬7) وَذَكَرَ أبو داود عَنْهُ: «مَنْ لَمْ يَغْزُ، ولم يُجَهِّزْ غَازِيًا، أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (¬8) وَفَسَّرَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ الْإِلْقَاءَ بِالْيَدِ إِلَى التهلكة بترك الجهاد. وصح عنه: ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) رواه النسائي وابن حبان. (¬3) أبو داود والترمزي وقال: حسن صحيح. (¬4) رواه البخاري. (¬5) أحمد والبيهقي. (¬6) ابن حبان في صحيحه. (¬7) النسائي وأبو داود. (¬8) رواه أبو داود وابن ماجه وفيه أبو عبد الرحمن فيه مقال.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في القتال

إِنَّ النَّارَ أَوَّلُ مَا تُسعر بِالْعَالِمِ وَالْمُنْفِقِ وَالْمَقْتُولِ فِي الْجِهَادِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُقَالَ. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القتال] فَصْلٌ وَكَانَ يَسْتَحِبُّ الْقِتَالَ أَوَّلَ النَّهَارِ، كَمَا يستحب الخروج للسفر، فإذا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ، أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر. وكان يبايع أصحابه في الحرب على أن لا يَفِرُّوا، وَرُبَّمَا بَايَعَهُمْ عَلَى الْمَوْتِ، وَبَايَعَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، كَمَا بَايَعَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَبَايَعَهُمْ عَلَى الهجرة، وَبَايَعَهُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْتِزَامِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وبايع نفرا من أصحابه على أن لا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا، وَكَانَ السَّوْطُ يَسْقُطُ مِنْ يد أحدهم، فينزل له فَيَأْخُذُهُ، وَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ: نَاوِلْنِي إِيَّاهُ. وَكَانَ يشاور أصحابه في الجهاد، ولقاء العدو، وتخيّر المنازل، وَكَانَ يَتَخَلَّفُ فِي سَاقَتِهِمْ فِي الْمَسِيرِ، فَيُزْجِي الضَّعِيفَ، وَيُرْدِفُ الْمُنْقَطِعَ، وَكَانَ أَرْفَقَ النَّاسِ بِهِمْ في المسير، وإذا أراد غزوة، ورّى بغيرها ويقول: «الحرب خدعة» ، وكان يبعث العيون يأتون بخبر عدوه، ويطلع الطلائع، ويبث الحرس، وإذا لَقِيَ عَدُوَّهُ، وَقَفَ وَدَعَا وَاسْتَنْصَرَ اللَّهَ، وَأَكْثَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَخَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ. وكان يرقب الْجَيْشَ وَالْمُقَاتِلَةَ، وَيَجْعَلُ فِي كُلِّ جَنَبَةٍ كُفْئًا لَهَا، وَكَانَ يُبَارَزُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَمْرِهِ، وَكَانَ يَلْبَسُ لِلْحَرْبِ عُدَّتَهُ، وَرُبَّمَا ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وكان له ألوية، وكان إذا ظهر على قوم، نزل بِعَرْصَتِهِمْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَفَلَ. وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُغِيرَ، انْتَظَرَ، فَإِنْ سَمِعَ فِي الْحَيِّ أذانا، لم يغر وإلا أغار، وكان ربما يبيّت عَدُوَّهُ، وَرُبَّمَا فَاجَأَهُمْ نَهَارًا، وَكَانَ يُحِبُّ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ بُكْرَةَ النَّهَارِ، وَكَانَ الْعَسْكَرُ إِذَا نزل انضم بعضهم إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى لَوْ بُسط عَلَيْهِمْ كِسَاءٌ لعمهم. وكان يرتب الصفوف، ويُعبئُهم للقتال، وَيَقُولُ: تَقَدَّمْ يَا فُلَانُ، تَأَخَّرْ يَا فُلَانُ، وكان يستحب للرجل أَنْ يُقَاتِلَ تَحْتَ رَايَةِ قَوْمِهِ. وَكَانَ إِذَا لقي العدو يقول: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» وَرُبَّمَا قَالَ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ - بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 45 - 46] (¬1) وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ» ، وكان يقول: «اللهم ¬

(¬1) سورة القمر، الآية 45، 46.

أنت عضدي وأنت نصيري، بك أقاتل» وكان إذا اشتد البأس وَقَصَدَهُ الْعَدُوُّ يُعْلِمُ بِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المطلب» ، وإذا اشتد البأس، اتقوا به. وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ إِلَى الْعَدُوِّ، وَكَانَ يَجْعَلُ لِأَصْحَابِهِ شِعَارًا فِي الْحَرْبِ يُعرفون بِهِ إِذَا تَكَلَّمُوا، وكان شعاره مرة: أمت أمت، ومرة: يا منصور أمت، وَمَرَّةً: حم لَا يُنصرون. وَكَانَ يَلْبَسُ الدِّرْعَ وَالْخُوذَةَ، وَيَتَقَلَّدُ السَّيْفَ، وَيَحْمِلُ الرُّمْحَ وَالْقَوْسَ الْعَرَبِيَّةَ ويتترس بالترس، ويحب الْخُيَلَاءَ فِي الْحَرْبِ، وَقَالَ: «إِنَّ مِنْهَا مَا يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ، فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُ الله عز وجل، فاختيال الرجل في البغي والفجور» ، وقاتل مرة بالمنجنيق، فنصبه مرة عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ قَتْلِ النساء والولدان، وينظر في المقاتلة، فمن رآه أنبت، قتله، وإلا اسْتَحْيَاهُ. وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً يُوصِيهِمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَيَقُولُ: «سِيرُوا بِسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ الله، قاتلوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَغْدُرُوا ولا تغلوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ السَّفَرِ بالقرآن إلى أرض العدو، ويأمر أمير السرية أَنْ يَدْعُوَ عَدُوَّهُ قَبْلَ الْقِتَالِ، إِمَّا إِلَى الإسلام والهجرة، أو الْإِسْلَامِ دُونَ الْهِجْرَةِ، وَيَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ لهم نصيب في الفيء، أَوْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوا إِلَيْهِ، قَبِل مِنْهُمْ، وَإِلَّا اسْتَعَانَ بِاللَّهِ وَقَاتَلَهُمْ. وَكَانَ إِذَا ظَفِرَ بِعَدُوِّهِ أَمَرَ مُنَادِيًا، فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ كُلَّهَا، فَبَدَأَ بِالْأَسْلَابِ فَأَعْطَاهَا لِأَهْلِهَا، ثُمَّ أَخْرَجَ خُمُسَ الْبَاقِي، فَوَضَعَهُ حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ وَأَمَرَهُ بِهِ، مِنْ مَصَالِحِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَرْضَخُ مِنَ الْبَاقِي لِمَنْ لَا سَهْمَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ، ثُمَّ قَسَمَ الْبَاقِي بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَ الجيش للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم، هذا هو الصحيح. وَكَانَ يُنَفِّلُ مِنْ صُلْبِ الْغَنِيمَةِ بِحَسَبِ مَا يراه من المصلحة، وَجَمَعَ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ بين سهم الراجل والفارس فأعطاه خمسة لعظم غنائه، وكان يسوي بين الضعيف والقوي في القسم مَا عَدَا النَّفَلَ، وَكَانَ إِذَا أَغَارَ فِي أرض العدو، وبعث سَرِيَّةً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا غَنِمَتْ أَخْرَجَ خُمُسَهُ، وَنَفَّلَهَا رُبُعَ الْبَاقِي، وَقَسَمَ الْبَاقِيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْجَيْشِ، وَإِذَا رَجَعَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَنَفَّلَهَا الثلث، ومع ذلك كان يَكْرَهُ النَّفَلَ وَيَقُولُ: «لِيَرُدَّ

قوي المؤمنين على ضعيفهم» ، وكان له سَهْمٌ مِنَ الْغَنِيمَةِ يُدْعَى الصَّفِيَّ إِنْ شَاءَ عبدًا، وإن شاء فرسا يختاره قبل القسم. قالت عائشة: كانت صفية منه، أي: من الصفي رواه أبو داود، وَكَانَ سَيْفُهُ ذُو الْفَقَارِ مِنَ الصَّفِيِّ، وَكَانَ يُسْهِمُ لِمَنْ غَابَ عَنِ الْوَقْعَةِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، كما أسهم لعثمان من بدر لتمريض ابنته، فَقَالَ: «إِنَّ عثمان انْطَلَقَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ وحاجة رسوله، فضرب له بسهمه وَأَجْرَهُ» . وَكَانُوا يَشْتَرُونَ مَعَهُ فِي الْغَزْوِ وَيَبِيعُونَ وهو يراهم ولا ينهاهم، وكانوا يستأجرون الأجراء للغزو، وذلك عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ، وَيَسْتَأْجِرَ من يخدمه. في سفره. الثاني: أن يستأجر من يخرج للجهاد، ويسَمُّون ذلك الجعائل، وفيها قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلْغَازِي أَجْرُهُ، وَلِلْجَاعِلِ أَجْرُهُ، وَأَجْرُ الْغَازِي» ، وَكَانُوا يَتَشَارَكُونَ فِي الْغَنِيمَةِ، وهو عَلَى نَوْعَيْنِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ بَعِيرَهُ إِلَى الرَّجُلِ أَوْ فَرَسَهُ يَغْزُو عَلَيْهِ عَلَى النِّصْفِ مِمَّا يَغْنَمُ حَتَّى رُبَّمَا اقْتَسَمَا السَّهْمَ فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا قِدْحَهُ، والآخر نصله وريشه. قال ابْنُ مَسْعُودٍ: اشْتَرَكْتُ أَنَا وعمار وسعد فِيمَا نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَجَاءَ سعد بِأَسِيرَيْنِ وَلَمْ أجئ أنا وعمار بشيء. وكان يبعث السرية فرسانا تارة، ورجالة أخرى، ولا يُسْهِمُ لِمَنْ قَدِمَ مِنَ الْمَدَدِ بَعْدَ الْفَتْحِ، وكان يعطي سهم ذوي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ إخوتهم من عبد شمس ونوفل، وَقَالَ: «إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ، وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ» ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَمْ يفارقونا في جاهلية ولا إسلام» ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُصِيبُونَ مَعَهُ فِي مَغَازِيهِمُ الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ وَالطَّعَامَ، فَيَأْكُلُونَهُ وَلَا يَرْفَعُونَهُ فِي الْمَغَانِمِ. وقيل لابن أبي أوفى: هل كنتم تخمسون الطعام؟ فقال: أصبنا طعاما يوم خيبر، فكان الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: كُنَّا نَأْكُلُ الْجَوْزَ فِي الْغَزْوِ، وَلَا نَقْسِمُهُ، حَتَّى إِنْ كُنَّا لَنَرْجِعُ إِلَى رِحَالِنَا، وَأَجْرِبَتُنَا مِنْهُ مَمْلُوءَةٌ وكان ينهى عن النهبى وَالْمُثْلَةِ، وَقَالَ: «مَنِ انْتَهَبَ نُهْبَةً فَلَيْسَ مِنَّا» . وَكَانَ يَنْهَى أَنْ يَرْكَبَ الرَّجُلُ دَابَّةً مِنَ الفيء، فإذا أعجفها ردها فيه، وأن يلبس ثَوْبًا مِنَ الْفَيْءِ، حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَالَ الحرب، وكان يشدد في الغلول جدا ويقول: «عارٌ ونارٌ وشنارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، ولما أصيب غلامه مِدعَم، قال بعض الصحابة:

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الأسارى

هنيئا له الجنة، فقال: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْغَنَائِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا، فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ فَقَالَ: شِرَاكٌ أو شراكان من نار. وَقَالَ لِمَنْ كَانَ عَلَى ثَقَلِهِ وَقَدْ مَاتَ: «هُوَ فِي النَّارِ فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ، فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا» ، وَقَالُوا فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِمْ: فُلَانٌ شَهِيدٌ، وَفُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: وَفُلَانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ: «كَلَّا إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ» ، ثم قال: «يَا ابن الخطاب اذْهَبْ فنادِ فِي النَّاسِ إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون» ثلاثا، وَكَانَ إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً أَمَرَ بلالا، فَنَادَى في الناس فيجيئون بغنائمهم، فيخمسها ويقسمها، فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أسمعت بلالا ينادي؟ فقال: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟ فَاعْتَذَرَ فَقَالَ: كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ القيامة فلن أقبله منك، وَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ مَتَاعِ الْغَالِّ» ، وَضَرْبِهِ وَحَرَقَهُ الْخَلِيفَتَانِ بعده، فقيل: منسوخ للأحاديث التي ذكرت، ولم يجيء التحريق فيها، وقيل - وهو الصواب -: إنه مِنْ بَابِ التَّعْزِيرِ وَالْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَى اجتهاد الأئمة بحسب المصلحة كقتل شارب الخمر في الثالثة والرابعة. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأسارى] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأُسَارَى كَانَ يَمُنُّ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَيَقْتُلُ بَعْضَهُمْ، وَيُفَادِي بَعْضَهُمْ بِالْمَالِ، وَبَعْضَهُمْ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، فعل ذلك كله بحسب المصلحة، واستأذنه الأنصار أن يتركوا لعمه العباس فداءه فقال: «لا تدعوا منه درهما» وردَّ سَبْيَ هَوَازِنَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَاسْتَطَابَ قُلُوبَ الْغَانِمِينَ فَطَيَّبُوا لَهُ، وَعَوَّضَ مَنْ لَمْ يُطَيِّبْ مِنْ ذَلِكَ بِكُلِّ إِنْسَانٍ سِتَّ فَرَائِضَ. وذكر أحمد عن ابن عباس أن بعضهم لم يكن له مَالٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلَادَ الْأَنْصَارِ الْكِتَابَةَ، فدل هذا على جواز الفداء بالعمل. والصواب الذي عَلَيْهِ هَدْيُهُ وَهَدْيُ أَصْحَابِهِ اسْتِرْقَاقُ الْعَرَبِ، وَوَطْءُ إمائهن بملك اليمين من غير اشتراط الإسلام، وكان يَمْنَعُ التَّفْرِيقَ فِي السَّبْيِ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا، ويعطي

فصل في حكم الأراضي التي يغنمها المسلمون

أهل البيت جميعا كراهة أن يفرق بينهم. وثبت عنه أنه قتل جاسوسا من المشركين، ولم يقتل حاطبا لما جسَّ عليه، وذكر شهوده بدرا، فَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى قَتْلَ الْمُسْلِمِ الجاسوس، وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَرَى قَتْلَهُ، كمالك وابن عقيل من أصحاب أحمد وَغَيْرِهِمَا قَالُوا: لِأَنَّهُ عُلِّلَ بِعِلَّةٍ مَانِعَةٍ مِنَ الْقَتْلِ مُنْتَفِيَةٍ فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ مَانِعًا مِنْ قَتْلِهِ لَمْ يُعَلَّلْ بِأَخَصَّ مِنْهُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّلَ بِالْأَعَمِّ كَانَ الْأَخَصُّ عديم التأثير، وهذا أقوى. وكان هديه عِتْقَ عَبِيدِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ وأسلموا. وكان من هَدْيُهُ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فِي يده فهو له، ولم يكن يرُدّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَعْيَانَ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي أَخَذَهَا الكفار منهم قهرا بعد إسلامهم. [فصل في حكم الأراضي التي يغنمها المسلمون] فصل وثبت أَنَّهُ قَسَمَ أَرْضَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي النَّضِيرِ، ونصف خيبر بين الغانمين، وعزل نصف خيبر لِمَنْ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْوُفُودِ وَالْأُمُورِ وَنَوَائِبِ الناس، ولم يقسم مكة، فقالت طائفة: لأنها دار النّسك، فهي وقف من الله على عباده. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي الْأَرْضِ بَيْنَ قسمتها، وبين وقفها لفعله - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا: وَالْأَرْضُ لَا تَدْخُلُ فِي الْغَنَائِمِ الْمَأْمُورِ بِقِسْمَتِهَا بَلِ الْغَنَائِمُ هِيَ الْحَيَوَانُ وَالْمَنْقُولُ، لِأَنَّ الله لم يحلها لغير هذه الأمة، وأحل لهم ديار الكفار وأرضهم، كقوله تعالى في ديار فرعون وقومه وأرضهم: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] (¬1) والنبي - صلى الله عليه وسلم - قسم وترك، وعمرُ لم يقسم، بل ضرب عليها خراجا مستمرا لِلْمُقَاتِلَةِ، فَهَذَا مَعْنَى وَقْفِهَا لَيْسَ مَعْنَاهُ الْوَقْفَ الذي يمنع من نقل الملك، بل يجوز بيعها كَمَا هُوَ عَمَلُ الْأُمَّةِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أنها تورث، ونص أحمد على جواز جعلها صداقا، والوقف إنما امتنع بيعه لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ الْبُطُونِ الموقوف عليهم، والمقاتلة حقهم في خراج الأرض، فلا يبطل بالبيع، ونظيره بَيْعُ رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ، وَقَدِ انْعَقَدَ فِيهِ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ بِالْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي مُكَاتَبًا كما كان عند البائع. ومنع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِقَامَةِ الْمُسْلِمِ بين المشركين إذا ¬

(¬1) سورة الشعراء، الآية: 59.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الأمان والصلح

قدر على الهجرة وَقَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ولِمَ؟ قَالَ: " لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا» وَقَالَ: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ، وَسَكَنَ مَعَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ.» وَقَالَ: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا.» وَقَالَ: «سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَخِيَارُ أَهْلِ الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم عليه السلام، وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا تَلْفِظُهُمْ أَرَضُوهُمْ ويحشرهم الله مع القردة والخنازير.» [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأمان والصلح] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَمَانِ وَالصُّلْحِ، وَمُعَامَلَةِ رُسُلِ الْكُفَّارِ وَأَخْذِ الجزية، ومعاملة أهل الكتاب والمنافقين، ووفائه بالعهد ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَلَا يَحُلَّنَّ عُقْدَةً، وَلَا يشهدها حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ.» وَقَالَ: «مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى نَفْسِهِ فقتله، فأنا بريء من القاتل» ، ويذكر عنه: «مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إِلَّا أُدِيلَ عَلَيْهِمُ العدو.» ولما قدم المدينة، صار الكفار معه ثلاثة أصناف: قسم صالحهم على أن لا يحاربوه ولا يولوا عليه عدوه، وقسم حاربوه، وقسم لم يُصَالِحُوهُ وَلَمْ يُحَارِبُوهُ، بَلِ انْتَظَرُوا مَا يَئُولُ إليه أمره، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ ظُهُورَهُ، وانتصاره في الباطن، ومنهم من يحب ظهور عدوه عليه، وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ عدوه في الباطن، فعامل كل طائفة بما أمره الله به. فصالح يهود المدينة، فحاربته، فحاربته قينقاع بعد بدر، وشرقوا بوقعتها، وأظهروا البغي والحسد، ثم نقض بنو النضير، فغزاهم وحصرهم، وقطع نخلهم وحرقه، ثم نزلوا على أن يخرجوا من المدينة، ولهم ما حملت الإبل إلا السلاح، وذكر الله قصتهم في سورة الحشر، ثم نقضت قريظة، وهم أغلظ اليهود كُفْرًا، وَلِذَلِكَ جَرَى عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَجْرِ على إخوانهم، فَهَذَا كُلُّهُ فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ.

وكانت غزوة كل طائفة منهم عقب غزوة من الغزوات الكبار، فبنو قينقاع بعد بدر، وبنو النضير عقب أحد، وقريظة عقب الخندق. وكان هديه إِذَا صَالَحَ قَوْمًا، فَنَقَضَ بَعْضُهُمْ عَهْدَهُ وَصُلْحَهُ، وأقرّهم الباقون، ورضوا به، غزا الجميع، كما فعل بقريظة والنضير وأهل مَكَّةَ، فَهَذِهِ سُنَّتُهُ فِي أَهْلِ الْعَهْدِ. وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ الْحُكْمُ فِي أَهْلِ الذمة كما صرح به أصحاب أحمد وغيرهم، وخالف أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فَخَصُّوا نَقْضَ الْعَهْدِ بِمَنْ نَقَضَهُ خَاصَّةً دُونَ مَنْ رَضِيَ بِهِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ، وفرقوا بينهما بأن عقد الذمة آكد، والأول أصوب، وبهذا أفتينا ولي الأمر لما أحرق النصارى أموال المسلمين بالشام، وعلم بذلك من علم منهم، وواطؤوا عليه، ولم يعلموا به ولي الأمر، وأن حده القتل حتما، ولا يخيّر الإمام فِيهِ، كَالْأَسِيرِ بَلْ صَارَ الْقَتْلُ لَهُ حَدًّا. وَالْإِسْلَامُ لَا يُسْقِطُ الْقَتْلَ إِذَا كَانَ حَدًّا ممن هو تحت الذمة ملتزما أحكام الملة، بخلاف الحربيّ إذا أسلم فهذا له حكم، والذمي الناقض له حكم آخر، وهذا الذي تقتضيه نصوص أحمد، وأفتى به شيخنا في غير موضع. وكان هديه إذا صالح قوما، فَانْضَافَ إِلَيْهِمْ عَدُوٌّ لَهُ سِوَاهُمْ، فَدَخَلُوا مَعَهُمْ، وانضاف إليه آخرون، صَارَ حُكْمُ مَنْ حَارَبَ مَنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي عَقْدِهِ مِنَ الْكُفَّارِ حُكْمَ مَنْ حَارَبَهُ، وبهذا السبب غزا أهل مكة، وبهذا أفتى شيخ الإسلام بِغَزْوِ نَصَارَى الْمَشْرِقِ لَمَّا أَعَانُوا عَدُوَّ الْمُسْلِمِينَ من التتار على قتالهم، وأمدوهم بالمال والسلاح ورأوهم بذلك ناقضين للعهد، فَكَيْفَ إِذَا أَعَانَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى حرب المسلمين. وَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ رُسُلُ أَعْدَائِهِ، وَهُمْ عَلَى عَدَاوَتِهِ، فَلَا يُهِيجُهُمْ وَلَا يَقْتُلُهُمْ، وَلَمَّا قَدِمَ عليه رسولا مسيلمة، فتكلما بما قالا، قال: «لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا» ، فجرت سنته أن لا يقتل رسول. وكان هديه أن لا يحبس الرسول عنده إذا اختار دينه، بل يرده، كما قال أبو رافع: بعثتني قريش إليه، فوقع فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لا أرجع، فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الَّذِي فِيهِ الْآنَ فَارْجِعْ» . قَالَ أبو داود: وكان هذا في المدة التي اشترط لهم أن يرد إليهم من جاء منهم، وأما اليوم فلا يصح هذا. وفي

قَوْلِهِ: «لَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ» إِشْعَارٌ بِأَنَّ هَذَا يختص بالرسل مطلقا، أما رده لمن جاء إليه منهم مسلما، فهذا إنما يكون مع الشرط. وأما الرسل فلهم حكم آخر. ومن هَدْيِهِ أَنَّ أَعْدَاءَهُ إِذَا عَاهَدُوا وَاحِدًا مِنْ أصحابه على عهد لا يضر بالمسلمين بغير رضاه أمضاه، كَمَا عَاهَدُوا حذيفة وَأَبَاهُ الحسيل أَنْ لَا يُقَاتِلَاهُمْ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمْضَى لهم ذلك، وقال: «انصرفوا نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم» . وصالح قريشا عشر سنين على أن من جاءه مسلما رده، ومن جاءهم من عنده لا يردونه، واللفظ عام فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي النساء، وأمر بامتحانهن، فإن علموا أنها مؤمنة لم ترد، ويرد مهرها. وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَى مَنِ ارْتَدَّتِ امْرَأَتُهُ إِلَيْهِمْ مَهْرَهَا إِذَا عَاقَبُوا بِأَنْ يَجِبَ عَلَيْهِمْ رَدُّ مَهْرِ الْمُهَاجِرَةِ فَيَرُدُّونَهُ إِلَى مَنِ ارْتَدَّتِ امْرَأَتُهُ وَلَا يَرُدُّونَهَا إِلَى زَوْجِهَا الْمُشْرِكِ، فَهَذَا هُوَ الْعِقَابُ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَذَابِ فِي شيء. ففيه أَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوَّمٌ، وأنه بالمسمى لا بمهر المثل، وأن أنكحة الكفار صحيحة، وأنه لا يجوز رد المسلمة المهاجرة، ولو شُرِط، وَأَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا يَحِلُّ لَهَا نِكَاحُ الْكَافِرِ، وأن المسلم له أن يتزوج المهاجرة إذا اعتدت، وآتاها مهرها، ففيه أبين دلالة على خروج البضع من ملك الزوج، وانفساخ النكاح بالهجرة، وفيه تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، كَمَا حُرِّمَ نِكَاحُ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْكَافِرِ وَهَذِهِ أَحْكَامٌ اسْتُفِيدَتْ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَبَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مختلف فيه، وليس لمن ادعى نسخها حجة، فإن الشرط مختص بالرجال، ولم يدخلن، فنهى عن ردهن. وأمر برد المهر، وأن يرد منه على من ارتدت امرأته إليهم الْمَهْرَ الَّذِي أَعْطَاهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمَهُ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ ما ينافيه بعده، ولما صالحهم على رد الرجال كان - صلى الله عليه وسلم - لا يمنعهم أَنْ يَأْخُذُوا مَنْ أَتَى إِلَيْهِ مِنْهُمْ، وَلَا يُكْرِهُهُ عَلَى الْعَوْدِ، وَلَا يَأْمُرُهُ بِهِ، وَكَانَ إِذَا قَتَلَ مِنْهُمْ، أَوْ أَخَذَ مَالًا وَقَدْ فَصَلَ عَنْ يَدِهِ، وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَضْمَنْهُ لَهُمْ، لِأَنَّهُ ليس تحت قهره وَلَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَقْتَضِ عَقْدُ الصُّلْحِ الْأَمَانَ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ إِلَّا عَمَّنْ هُوَ تحت قهره، كما ضمن لبني جذيمة ما أتلفه خالد، وأنكره وتبرأ منه. ولما كان خالد متأولا

وكان غزوهم بأمره - صلى الله عليه وسلم - ضَمِنَهُمْ بِنِصْفِ دِيَاتِهِمْ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ وَالشُّبْهَةِ، وَأَجْرَاهُمْ في ذلك مجرى أهل الكتاب الذين عصموا بالذمة لا بالإسلام، وَلَمْ يَقْتَضِ عَهْدُ الصُّلْحِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى من حاربهم ممن ليس في قبضته، ففيه أن المعاهدين إذا غزاهم من ليس تَحْتَ قَهْرِ الْإِمَامِ وَفِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ ردهم عنهم، ولا ضمان ما أتلفوه. وأخذ الأحكام المتعلقة بالحرب والمصالح والسياسات من هديه أولى من الآراء، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ بَيْنَ بَعْضِ مُلُوكِ المسلمين، وبعض أهل الذمة عهد، جاز لملك آخر لا عهد بينه وبينهم أن يغزوهم، كَمَا أَفْتَى بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي نَصَارَى ملطية مستدلا بقصة أبي بصير وَكَذَلِكَ صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ عَلَى أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْهَا، وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ والسلاح، وشرط أن لا يكتموا ما فعلوا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم، فغيّبوا مسكا، فيه مال لحيي بن أخطب احتمله معه حين أجليت النضير، فسأل عمّ حيي عنه، فَقَالَ: أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ، فَقَالَ: «الْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالْمَالُ أكثر من ذلك» ، فدفعه إلى الزبير، فمسه بعذاب، فقال: رأيت حُيَيًّا يطوف في خربة هاهنا، فوجدوه فيها، فَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابني أبي الحقيق، أحدهما زوج صفية بنت حيي، وسبى نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكث وأراد أن يجليهم، فقالوا: دعنا نكون فيها نصلحها، فنحن أعلم بها، ولم يكن له ولا لأصحابه غلمان يكفونهم، فدفعها إليهم على الشطر من كل ما يخرج منها من ثمر وزرع وَلَهُمُ الشَّطْرُ، وَعَلَى أَنْ يُقِرَّهُمْ فِيهَا مَا شَاءَ، وَلَمْ يعمُّهم بِالْقَتْلِ، كَمَا عمَّ قُرَيْظَةَ لِاشْتِرَاكِ أُولَئِكَ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ. وَأَمَّا هَؤُلَاءِ، فالذين علموا بالمسك وغيّبوه، وشرطوا له أنه إن ظهر، فلا ذمة لهم، قتلهم بشرطهم، ولم يعم أهل خيبر، فإنه من المعلوم أن جميعهم لم يعلموا بالمسك، فهذا نظير الذمي والمعاهد إذا نقض، ولم يمالئه عليه غيره. ودفع الأرض على النصف دليل ظاهر في جواز المساقات وَالْمُزَارَعَةِ، وَكَوْنِ الشَّجَرِ نَخْلًا لَا أَثَرَ لَهُ الْبَتَّةَ، فَحُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ، فَبَلَدٌ شَجَرُهُمُ الأعناب والتين، وغيرهما حُكْمُ بَلَدٍ شَجَرُهُمُ النَّخْلُ سَوَاءٌ وَلَا فَرْقَ. وفيه أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الأرض، فإنه لم يعطهم

بذرا ألبتة، وهذا مقطوع به، حتى قال بعض أهل العلم: لَوْ قِيلَ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ مِنَ الْعَامِلِ لَكَانَ أقوى، والذين اشترطوه من رب المال ليس معهم حجة أصلا أكثر من القياس على المضاربة، وهذا إلى أن يكون حجة عليهم أقرب، فَإِنَّ فِي الْمُضَارَبَةِ يَعُودُ رَأْسُ الْمَالِ إِلَى الْمَالِكِ وَيَقْتَسِمَانِ الْبَاقِيَ، وَلَوْ شُرِطَ ذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ، فَسَدَتْ عِنْدَهُمْ، فَلَمْ يُجْرُوا الْبَذْرَ مَجْرَى رَأْسِ الْمَالِ، بَلْ أَجْرَوْهُ مَجْرَى سَائِرِ الْبَقْلِ، وأيضا فإن البذر جار مجرى الماء والمنافع، فإن الزرع لا يكون بِهِ وَحْدَهُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ السَّقْيِ والعمل، والبذر يموت وَيُنْشِئُ اللَّهُ الزَّرْعَ مِنْ أَجْزَاءٍ أُخَرَ تَكُونُ مَعَهُ مِنَ الْمَاءِ وَالرِّيحِ وَالشَّمْسِ وَالتُّرَابِ وَالْعَمَلِ، فحكمه حُكْمُ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَرْضَ نَظِيرُ رأس المال، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُزَارِعُ أَوْلَى بِالْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْمُضَارِبِ، فَالَّذِي جاءت به السنة هو الموافق للقياس. وفيها عقد الهدنة من غير توقيت، بل متى شاء الإمام، ولم يجئ بعدها ما ينسخه ألبتة، لكن لا يحاربهم حتى يعلمهم على سواء، ليستووا هو وهم في العلم بنقض العهد. وفيه جواز تعزير المتهم بالعقوبة، فإنه سبحانه قادر أن يدل رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الكنز، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَسُنَّ لِلْأُمَّةِ عُقُوبَةَ الْمُتَّهَمِينَ، وَيُوَسِّعَ لَهُمْ طُرُقَ الْأَحْكَامِ رَحْمَةً بِهِمْ وَتَيْسِيرًا عليهم. وفيه الأخذ بالقرائن لقوله: «الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ» ، وَكَذَلِكَ فعل نبي الله سليمان في تعيين أم الطفل، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يقصها علينا، أي: قصة سليمان لِنَتَّخِذَهَا سَمَرًا، بَلْ لِنَعْتَبِرَ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ، بَلِ الْحُكْمُ بِالْقَسَامَةِ، وَتَقْدِيمِ أَيْمَانِ مُدَّعِي الْقَتْلِ هُوَ مِنْ هَذَا اسْتِنَادًا إِلَى الْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ، بل ومنه رجمه الْمُلَاعَنَةِ إِذَا الْتَعَنَ الزَّوْجُ، وَنَكَلَتْ عَنِ الِالْتِعَانِ اسْتِنَادًا إِلَى اللَّوْثِ الظَّاهِرِ الَّذِي حَصَلَ بالتعانِهِ ونكولها. ومنه قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الوصية في السفر، وأن ولي الْمَيِّتِ إِذَا اطَّلَعَا عَلَى خِيَانَةٍ مِنَ الْوَصِيَّيْنِ، جَازَ لَهُمَا أَنْ يَحْلِفَا، وَيَسْتَحِقَّا مَا حَلَفَا عليه، وهذا اللوث في الأموال نَظِيرُ اللَّوْثِ فِي الدِّمَاءِ، وَأَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْهُ، وعلى هذا إذا اطلع الْمَسْرُوقُ مَالُهُ عَلَى بَعْضِهِ فِي يَدِ خَائِنٍ معروف وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ غَيْرِهِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّ بَقِيَّةَ مَالِهِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ صَاحِبُ السَّرِقَةِ اسْتِنَادًا إِلَى اللَّوْثِ الظَّاهِرِ نظير حلف أولياء

المقتول في القسامة، بل أمر الأموال أخف. ولذلك ثبتت بشاهد ويمين، وشاهد وامرأتين بخلاف الدماء، وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى هَذَا وَهَذَا، وَلَيْسَ مع من ادعى النسخ حجة أصلا، فإنه فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نزل، وحكم بموجبها الصحابة بعده. ومن هذا استدلال شاهد يوسف بالقميص، وحكاه الله مقررا له، والتأسي بهذا وأمثاله في إقرار الله له لا في مجرد حكايته. ولما أقرهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ فِي الْأَرْضِ كَانَ يَبْعَثُ كُلَّ عَامٍ مَنْ يَخْرُصُ عَلَيْهِمُ الثِّمَارَ، فَيَنْظُرُ كَمْ يُجْنَى مِنْهَا، فيضمِّنهم نَصِيبَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا، وَكَانَ يَكْتَفِي بِخَارِصٍ واحد، ففيه دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ خَرْصِ الثِّمَارِ الْبَادِي صَلَاحُهَا وَعَلَى جَوَازِ قِسْمَةِ الثِّمَارِ خَرْصًا عَلَى رُءُوسِ النخل، ويصير نصيب أحدهما معلوما وإن لم يتميز بعد لمصلحة الثمار. وَعَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَازٌ لَا بَيْعٌ، وَعَلَى جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِخَارِصٍ وَاحِدٍ، وَقَاسِمٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى أَنَّ لِمَنِ الثِّمَارُ فِي يَدِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فيها بعد الخرص، ويضمن نصيب شريكه. زمن عمر ذهب ابنه عبد الله إلى ماله بخيبر، فعدوا عليه، وألقوه من فوق بيت، وفكوا يده، فأجلاهم عمر إِلَى الشَّامِ، وَقَسَمَهَا بَيْنَ مَنْ كَانَ شَهِدَ خيبر من أهل الحديبية. فَصْلٌ وَأَمَّا هَدْيُهُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَأَخْذِ الجزية، فلم يأخذ جزية إلا بعد نزول (براءة) في السنة الثامنة، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْجِزْيَةِ أَخَذَهَا مِنَ الْمَجُوسِ وأهل الكتاب، ولم يأخذها من يهود خيبر، فظن من غلط أنه مختص بأهل خيبر، وهذا من عدم عمق فقهه، فإنه صالحهم قبل نزول آية الجزية، ثم أمره الله أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، فلم يدخلوا في ذلك، لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ قَدِيمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى إِقْرَارِهِمْ وَأَنْ يَكُونُوا عُمَّالًا فِي الْأَرْضِ بِالشَّطْرِ، فلم يطالبهم بغيره، وطالب سواهم ممن لم يكن له عقد كعقدهم، فلما أجلاهم عمر، تغيّر ذلك العقد، وَصَارَ لَهُمْ حُكْمُ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ولما كان في بعض الدول التي أخفيت فيها السنة، أَظْهَرَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كِتَابًا قَدْ عَتَّقُوهُ وزوَّروه، فيه: أنه - صلى الله عليه وسلم - أسقط عن أهل خَيْبَرَ الْجِزْيَةَ وَفِيهِ

شَهَادَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَسَعْدِ بْنِ معاذ، وجماعة من الصحابة فراج على من جهل السنة، وظنوا صحته، فأجروا حكمه حتى ألقي إلى شيخ الإسلام، وطلب منه أن يعين على تنفيذه، فَبَصَقَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِ بِعَشَرَةِ أَوْجُهٍ. منها أن سعدا توفي قبل خيبر. ومنها أن الجزية لم تكن نزلت بعد. ومنها أنه أسقط عنهم الكلف والسخر، ولم يكونا في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ وَضْعِ الْمُلُوكِ الظَّلَمَةِ، وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهَا. وَمِنْهَا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَمْ يذكره أحد من أهل العلم، لا من أهل السير ولا من أهل الحديث، ولا غيرهم، وَلَا أَظْهَرُوهُ فِي زَمَانِ السَّلَفِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ يعرفون كذبه، فلما خفيت السنة زوّروا ذلك، وساعدهم طَمَعُ بَعْضِ الْخَائِنِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَسْتَمِرَّ، حَتَّى كَشَفَ اللَّهُ أَمْرَهُ، وَبَيَّنَ خُلَفَاءُ الرُّسُلِ بطلانه وكذبه، ولم يأخذ الجزية من عبّاد الأصنام، فقيل: لا تؤخذ من كافر غير هؤلاء، ومن دان دينهم اقتداء بأخذه وتركه، وقيل: تؤخذ من عبدة الْأَصْنَامِ مِنَ الْعَجَمِ دُونَ الْعَرَبِ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الشافعي وأحمد في رواية. والثاني: قول أبي حنيفة وأحمد في أخرى، ويقولون: لم يأخذها من العرب، لأنها فرضت بعد إسلامهم، ولم يَبْقَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُشْرِكٌ، وَلِهَذَا غَزَا بَعْدَ الفتح تبوك، وَلَوْ كَانَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُشْرِكُونَ لَكَانُوا يَلُونَهُ، وَكَانُوا أَوْلَى بِالْغَزْوِ مِنَ الْأَبْعَدِينَ، وَمَنْ تَأَمَّلَ السِّيَرَ وَأَيَّامَ الْإِسْلَامِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، قالوا: وقد أخذها من المجوس، ولا يصح أن لهم كتابا ورفع، ولا فرق بين عبّاد الأصنام، وعبّاد النار بل أهل الأوثان فِيهِمْ مِنَ التَّمَسُّكِ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ مَا لَمْ يكن في عبّاد النار، وعلى هذا تدل السنة كما في " صحيح مسلم ": «إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى إحدى ثلاث» إلى آخره. . (¬1) . وَقَالَ المغيرة لِعَامِلِ كِسْرَى: أَمَرَنَا نَبِيُّنَا أَنْ نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقُرَيْشٍ: «هَلْ لَكُمْ فِي كَلِمَةٍ تَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي الْعَجَمُ إِلَيْكُمْ بِهَا الْجِزْيَةَ؟ قَالُوا: مَا هِيَ؟ قال: لا إله إلا الله» . وصالح أهل نجران على ألفي حلة وَعَارِيَّةٍ، ثَلَاثِينَ دِرْعًا، وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا، وثلاثين ¬

(¬1) انظره بتمامه في " صحيح مسلم " (1731) في الجهاد والسير: باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث.

فصل في ترتيب هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث بالدين إلى أن لقي الله عز وجل

من كل صنف من كل أصناف السلاح يغزون بها والمسلمون ضامنون لهم حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيدة أو غدرة، على أن لا يهدم لَهُمْ بِيعَةٌ، وَلَا يُخْرَجَ لَهُمْ قَسٌّ، وَلَا يفتنون عَنْ دِينِهِمْ مَا لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثًا أَوْ يأكلوا الربا، ففيه دليل على انتقاض عهد أهل الذمة بإحداث الحدث، وأكل الربا إذا شرط عَلَيْهِمْ. وَلَمَّا وَجَّهَ معاذا إِلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ مُحْتَلِمٍ دِينَارًا أَوْ قيمته من المعافري وهي ثياب باليمن، ففيه أنها غَيْرُ مُقَدَّرَةِ الْجِنْسِ وَلَا الْقَدْرِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ثِيَابًا وَذَهَبًا وَحُلَلًا وَتَزِيدُ وَتَنْقُصُ بحسب حاجة المسلمين، وحال من تؤخذ منه، ولم يفرق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا خُلَفَاؤُهُ فِي الجزية بين العرب وغيرهم، بل أخذها من مجوس هجر وهم عرب، فإن العرب كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَدِينُ بِدِينِ مَنْ جَاوَرَهَا من الأمم، فكانت عرب البحرين مجوسا لمجاورتهم فَارِسَ، وَتَنُوخَ وَبُهْرَةَ وَبَنُو تَغْلِبَ نَصَارَى لِمُجَاوَرَتِهِمْ الروم، وكانت قبائل من اليمن يهودا لمجاورتهم ليهود اليمن، فلم يَعْتَبِرْ آبَاءَهُمْ وَلَا مَتَى دَخَلُوا فِي دِينِ أهل الكتاب، وثبت أَنَّ مِنَ الْأَنْصَارِ مَنْ تَهَوَّدَ أَبْنَاؤُهُمْ بَعْدَ النسخ بشريعة عيسى، فأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام، فأنزل الله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] (¬1) الآية، وقوله: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» دَلِيلٌ عَلَى أنها لا تؤخذ من صبي ولا من امرأة، واللفظ الذي روي فيه: «من كل حالم أو حالمة» لَا يَصِحُّ وَصْلُهُ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا سَائِرُ الرُّوَاةِ، وَلَعَلَّهَا مِنْ تَفْسِيرِ بعضهم. [فصل في ترتيب هَدْيِهِ مَعَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حِينِ بُعِثَ بالدين إلى أن لقي الله عز وجل] فصل في ترتيب هَدْيِهِ مَعَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حِينِ بُعِثَ بالدين إلى أن لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوَّلُ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَقْرَأَ بِاسْمِ ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، ثم أنزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1 - 2] (¬2) فأرسله بها، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، فأنذر قومه، ثم أنذر من حوله من الْعَرَبَ قَاطِبَةً، ثُمَّ أَنْذَرَ الْعَالَمِينَ، فَأَقَامَ بِضْعَ عشرة سنة ينذر بغير قتال، ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 256. (¬2) سورة المدثر، الآية: 1، 2.

ويؤمر بالصبر، ثم أذن له في الهجرة، ثم أذن لَهُ فِي الْقِتَالِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ من قاتله، ثُمَّ أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. ثُمَّ كَانَ الْكُفَّارُ مَعَهُ بَعْدَ الأمر بالجهاد ثلاثة: أهل هدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة، فأمره أن يفي لأهل الهدنة ما استقاموا، فإن خاف نبذ إليهم، وأمره أن يقاتل من نقض عهده، ونزلت (براءة) ببيان الأقسام الثلاثة، فأمره بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وأمره بجهاد الكفار والمنافقين، فجاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بالحجة، وأمره بالبراءة من عهود الكفار، وجعلهم ثلاثة أقسام: قسم أمره الله بقتالهم وهم الناقضون، وقسم لهم عهد موقت لم ينقضوه، فأمره بإتمامه إلى مدته، وقسم لهم عهد مطلق أو لا عهد لهم، ولم يحاربوه، فأمره أَنْ يُؤَجِّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا انْسَلَخَتْ قَاتَلَهُمْ وهي المدة الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التَّوْبَةِ: 2] (¬1) وَهِيَ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5] (¬2) وأولها: العاشر من ذي الحجة يوم الأذان، وآخرها العاشر من ربيع الآخر، وليست الأربعة المذكورة في قوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التَّوْبَةِ: 36] فَإِنَّ تِلْكَ وَاحِدٌ فَرْدٌ، وَثَلَاثَةٌ سَرْدٌ: رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَلَمْ يسير المشركين فيها، فإنه لا يمكن لأنها غير متوالية، وقد أمر بعد انسلاخ الأربعة بقتالهم، فقاتل الناقض، وَأَجَّلَ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ، أَوْ لَهُ عَهْدٌ مُطْلَقٌ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ للموفي عهده إلى مدته، فأسلموا كُلُّهُمْ، وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَى كُفْرِهِمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ، وضرب على أهل الذمة الجزية، فاستقر أمرهم معه ثلاثة أقسام: محاربين، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم صار أهل العهد إلى الإسلام، فصاروا قسمين: محاربين، وأهل ذمة، فصار أهل الأرض ثلاثة أقسام: مسلم، ومسالم، وخائف محارب. وأما سيرته في المنافقين، فأمره أن يقبل عَلَانِيَتَهُمْ، وَيَكِلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَأَنْ يُجَاهِدَهُمْ بالحجة، ويعرض عنهم، ويغلظ عليهم، ويبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَقُومَ عَلَى قُبُورِهِمْ، وأخبره أنه استغفر لهم أو لم يستغفر لهم، فلن يغفر الله لهم. ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 2. (¬2) سورة التوبة، الآية: 5.

فصل في سياق مغازيه

فصل وأما سيرته مع أوليائه، فَأَمَرَهُ أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وأن لا تعدو عيناه عنهم، وأن يعفو عنهم، ويستغفر لهم، ويشاورهم، ويصلي عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُ بِهَجْرِ مَنْ عَصَاهُ وَتَخَلَّفَ عَنْهُ حتى يتوب كما هجر الثلاثة، وأمره أن يقيم الحدود فيهم على الشريف والوضيع. وَأَمَرَهُ فِي دَفْعِ عَدُوِّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ أن يدفع بالتي هي أحسن، فيقابل الإساءة بالإحسان، والجهل بالحلم، والظلم بالعفو، والقطيعة بالصلة، وأخبر أنه إن فعل ذلك عاد العدو كأنه ولي حميم. وأمره في دفع عدوه من شياطين الجن بالاستعاذة، وَجَمَعَ لَهُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ في (الأعراف) ، و (المؤمنين) ، و (حم السجدة) وجمع في آية (الأعراف) مكارم الأخلاق كُلَّهَا، فَإِنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ لَهُ مَعَ الرَّعِيَّةِ ثلاثة أحوال: فعليهم حق يلزمهم له، ومن أمر يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَفْرِيطٍ وَعُدْوَانٍ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي حَقِّهِ، فَأُمِرَ بِأَنْ يَأْخُذَ مما عليهم مما سمحت به أنفسهم وهو العفو، وأمر أن يأمرهم بالعُرف، وهو ما تعرفه العقول السليمة، والفطر المستقيمة، وأيضا يأمرهم بالعرف لا بالعنف، وأمره أن يقابل جهلهم بالإعراض، فهذه سيرته مع أهل الأرض جنهم وإنسهم، مؤمنهم وكافرهم. [فصل في سياق مغازيه] فصل في سياق مغازيه وأول لواء عقده لحمزة في رمضان على سبعة أشهر من الهجرة بعثه في ثلاثين مِنَ الْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً، يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، جَاءَتْ من الشام، فيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل، فلما التقوا حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وَكَانَ حَلِيفًا لِلْفَرِيقَيْنِ. ثم بعث عبيدة بن الحارث فِي سَرِيَّةٍ إِلَى بَطْنِ رَابِغٍ فِي شَوَّالٍ في ستين من المهاجرين، فلقي أبا سفيان في مائتين، فكان بينهم رمي، ولم يسلُّوا السيوف، وكان سعد أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وقدمها ابن إسحاق على سرية حمزة. ثم بعث سعدا إلى الحرار

على رأس تسعة أشهر في عشرين راكبا، يعترضون عيرا لقريش، فلما بلغوه، وجدوها مرت بالأمس، ثم غزا بنفسه غزوة الأبواء وهي أول غزوة غزاها بنفسه، خرج فِي الْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، فَلَمْ يلق كيدا. ثم غزا أبواط في شهر ربيع فِي مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، حتى بلغ أبواط فلم يلق كيدا فرجع. ثُمَّ خَرَجَ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا لطلب كرز بن جابر لما أغار على سرح المدينة، حتى بلغ سفوان من ناحية بدر، ففاته كرز. ثم خرج على رأس ستة عشر شهرا في مائة وخمسين من المهاجرين، يعترض عيرا لقريش ذاهبة إلى الشام، فبلغ ذا العشيرة، فوجدها قد فاتته وهي التي خرج في طلبها لما رجعت من الشام، فكانت وقعة بدر. ثم بعث عبد الله بن جَحْشٍ إلى نخلة فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، كُلُّ اثْنَيْنِ يَعْتَقِبَانِ عَلَى بَعِيرٍ، فَوَصَلُوا إِلَى بَطْنِ نخلة يرصدون عيرا لقريش، وأضل سعد وعتبة بن غزوان بعيرا لهما، فتخلفا في طلبه، ونفذوا إلى بطن نخلة، فمرت بهم عير لقريش، فقالوا: نحن في آخر يوم من رجب، وإن تركناهم الليلة دخل الْحَرَمَ. ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى مُلَاقَاتِهِمْ، فَرَمَى أَحَدُهُمْ عمرو بن الحضرمي، فَقَتَلَهُ وَأَسَرُوا عثمان والحكم، وأفلت نوفل، وعزلوا الخمس، فكان أول خمس في الإسلام، فأنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فعلوه، واشتد إنكار قريش، وزعموا أنهم وجدوا مقالا، واشتد على المسلمين ذلك، فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] (¬1) الآية، يقول سبحانه: هذا وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، فَمَا ارْتَكَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ مِنَ الكفر، والصد عن سبيل الله وبيته، وَإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهُ مِنْهُ، وَالشِّرْكِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَالْفِتْنَةِ الَّتِي حَصَلَتْ مِنْكُمْ أكبر عند الله، والأكثر فسروا " الفتنة " هنا بالشرك، وَحَقِيقَتُهَا: أَنَّهَا الشِّرْكُ الَّذِي يَدْعُو صَاحِبُهُ إِلَيْهِ، وَيُعَاقِبُ مَنْ لَمْ يَفْتَتِنْ بِهِ. وَلِهَذَا يُقَالُ لهم في النار: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14] (¬2) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكْذِيبَكُمْ، وحقيقته: ذوقوا نهاية فتنتكم كقوله: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر: 24] (¬3) . ومنه قوله تعالى: ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 217. (¬2) سورة الذاريات، الآية: 14. (¬3) سورة الزمر، الآية: 24.

فصل في غزوتي بدر وأحد

{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] (¬1) فسرت بإحراق المؤمنين بالنار، واللفظ أعم، وحقيقته: عذبوا المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم. وأما الفتنة المضافة إلى الله كقوله: {فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] (¬2) {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] (¬3) فهي الامتحان بِالنِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ، فَهَذِهِ لَوْنٌ وَفِتْنَةُ الْمُشْرِكِينَ لَوْنٌ، وفتنة المؤمن في ولده وماله وجاره لون آخر. والفتنة بين أهل الإسلام، كأهل الجمل وصفّين لون آخر، وهي التي أمر فيها - صلى الله عليه وسلم - باعتزال الطائفتين. وَقَدْ تَأْتِي الْفِتْنَةُ مُرادا بِهَا الْمَعْصِيَةُ، كَقَوْلِهِ تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التَّوْبَةِ: 49] (¬4) أَيْ: وَقَعُوا فِي فِتْنَةِ النِّفَاقِ، وَفَرُّوا إليها من فتنة بنات بني الأصفر. والمقصود أنه سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل، ولم يؤيس أولياءه إذا كانوا متأولين أو مقصرين تقصيرا يُغفر لَهُمْ فِي جَنْبِ مَا فَعَلُوهُ مِنَ التَّوْحِيدِ والطاعات والهجرة. [فصل في غزوتي بدر وأحد] فصل فَلَمَّا كَانَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بلغه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرُ الْعِيرِ الْمُقْبِلَةِ من الشام، فندب للخروج إليها ولم يحتفل لها، لِأَنَّهُ خَرَجَ مُسْرِعًا فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رجلا معهم فرسان على سبعين بعير، يعتقبونها، وبلغ الصريخ مكة، فخرجوا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 47] (¬5) فَجَمَعَهُمُ اللَّهُ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، كَمَا قَالَ تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال: 42] (¬6) الآية، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - خروجهم اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ. فَتَكَلَّمَ الْمُهَاجِرُونَ، فَأَحْسَنُوا، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ ثانيا، فتكلم المهاجرون، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ ثَالِثًا، فَفَهِمَتِ الْأَنْصَارُ أَنَّهُ يَعْنِيهِمْ، فبادر سعد بن معاذ، فتكلم بكلامه المشهور، فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ ! والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادنا إلى برك الغماد لفعلنا. وقال المقداد كلامه المشهور، فسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما سمع من ¬

(¬1) سورة البروج، الآية: 10. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 53. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 155. (¬4) سورة التوبة، الآية: 49. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 47. (¬6) سورة الأنفال، الآية: 42.

أصحابه وقال: «سيروا، وأبشروا، فإن الله وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَصَارِعَ القوم» . فسار إلى بدر، فلما طلع المشركون وتراءى الجمعان، قام ورفع يديه، واستنصر ربه، واستنصر المسلمون الله، واستغاثوه، فأوحى الله إليه: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] قُرِئَ بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا، فَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنَّهُمْ ردف لكم، وقيل: يردف بعضهم بعضا لم يأتوا دفعة واحدة، فإن قيل: هنا ذكر ألفا، وفي (آل عمران) بثلاثة آلاف وبخمسة، قيل: فيه قولان: أحدهما: أنه يوم أُحد، وهو معلق على شرط، ففات وفات الإمداد. والثاني: يوم بدر، وحجته أن السياق يدل عليه، كقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} [آل عمران: 123 - 124] الآية إلى قوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} [آل عمران: 126] (¬1) . فلما استغاثوه أمدهم بألف، ثم بثلاثة، ثم بخمسة، وكان متابعة الْإِمْدَادِ أَحْسَنَ مَوْقِعًا وَأَقْوَى لِنُفُوسِهِمْ، وأسرَّ لَهَا. وقال أهل القول الأول: القصة في سياق أُحد، ودخول بدر اعتراض، فذكرهم نعمته ببدر، ثُمَّ عَادَ إِلَى قِصَّةِ أُحد، وَأَخْبَرَ عَنْ قول رسوله لهم: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} [آل عمران: 124] الآية، ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أن يمدهم بِخَمْسَةِ آلَافٍ، فَهَذَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِهِ، وَالْإِمْدَادُ الَّذِي بِبَدْرٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى، وَهَذَا بِخَمْسَةِ آلَافٍ، وَإِمْدَادُ بَدْرٍ بِأَلْفٍ، وَهَذَا مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، وَذَلِكَ مُطْلَقٌ، وَالْقِصَّةُ فِي سُورَةِ (آلِ عِمْرَانَ) هِيَ قِصَّةُ أُحد مُسْتَوْفَاةٌ مُطَوَّلَةٌ، وَبَدْرٌ ذكرت فيها اعتراضا، وفي (الْأَنْفَالِ) قِصَّةُ بَدْرٍ مُسْتَوْفَاةٌ مُطَوَّلَةٌ، فَالسِّيَاقُ فِي (آلِ عِمْرَانَ) غَيْرُ السِّيَاقِ فِي (الْأَنْفَالِ) يُوَضِّحُ هذا هنا أَنَّ قَوْلَهُ: {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} [آل عمران: 125] قال مجاهد: يَوْمُ أُحد، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْإِمْدَادُ الْمَذْكُورُ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ: إِنَّ الْإِمْدَادَ بهذا العدد كان يوم بدر، والإتيان من فورهم يوم أحد. ولما عزمت قريش عَلَى الْخُرُوجِ، ذَكَرُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي كِنَانَةَ مِنَ الْحَرْبِ، فَتَبَدَّى لَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صورة سُراقة بن مالك، وقال: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال: 48] (¬2) ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 123: 126. (¬2) سورة الأنفال، الآية 48.

أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه، فلما تعبوا للقتال ورأى جُنْدَ اللَّهِ قَدْ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ، فَرَّ، وَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، فَقَالُوا: إِلَى أَيْنَ يَا سراقة، أَلَمْ تَكُنْ قُلْتَ إِنَّكَ جَارٌ لَنَا؟ فَقَالَ: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] وَصَدَقَ فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48] وكذب في قوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال: 48] وقيل: خاف أن يهلك معهم وهو أَظْهَرُ. وَلَمَّا رَأَى الْمُنَافِقُونَ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ قِلَّةَ حِزْبِ اللَّهِ، وَكَثْرَةَ أَعْدَائِهِ، ظَنُّوا أن الغلبة بالكثرة، فقالوا: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} [الْأَنْفَالِ: 49] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ النَّصْرَ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ لا بالكثرة ولا بالعدد، وأنه عزيز لا يغلب حكيم ينصر المستحق وإن كان ضعيفا. وَفَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من شأن بدر والأسرى في شوال، ثم نهض صلوات الله عليه بنفسه بَعْدَ فَرَاغِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ إِلَى غَزْوِ بَنِي سليم، فَبَلَغَ مَاءً يُقَالُ لَهُ: الكُدر، فَأَقَامَ عَلَيْهِ ثلاثا، ثم انصرف. ولما رجع فل المشركين إلى مكة نذر أبو سفيان ألا يَمَسَّ رَأْسَهُ مَاءٌ حَتَّى يَغْزُوَ رَسُولَ اللَّهِ، فخرج في مائتي راكب حتى بلغ طرف المدينة، وبات ليلة عند سلام بن مشكم، فسقاه الخمر، وبطن له خَبَرِ النَّاسِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَطَعَ أَصْوَارًا مِنَ النَّخْلِ، وَقَتَلَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَحَلِيفًا لَهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طلبه ففاته، وطرح الكفار سويقا كثيرا يَتَخَفَّفُونَ بِهِ، فَأَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ فسُمِّيت غَزْوَةَ السَّوِيقِ. ثم غزا نجدا يريد غطفان، فأقام هناك صفرا كله من السنة الثانية، ثم انصرف ولم يلق حربا، فأقام في المدينة ربيع الأول، ثم خرج يريد قريشا، فبلغ نجران، معدنا بالحجاز، فلم يلق حربا، فأقام هناك ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم انصرف. ثم غزا بني قينقاع، ثم قتل كعب بن الأشرف، وأذن فِي قَتْلِ مَنْ وُجد مِنَ الْيَهُودِ لِنَقْضِهِمْ العهد، ومحاربتهم الله ورسوله. ولما قتل الله أشراف قريش ببدر ورأس فيهم أبو سفيان، جمّع الجموع وأقبل بهم إلى المدينة، فنزل قريبا من أُحد، وكانت وقعة أُحد المشهورة، وَاسْتَعْرَضَ الشَّبَابَ يَوْمَئِذٍ، فَرَدَّ مَنِ اسْتَصْغَرَهُ عَنِ القتال، منهم ابن عمر، وأسامة، وزيد بن ثابت، وعرابة بن أوس، وأجاز من رآه مطيقا، مِنْهُمْ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَلَهُمَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَقِيلَ: أَجَازَ مَنْ أَجَازَ لِبُلُوغِهِ بِالسِّنِّ

فصل في ما اشتملت عليه هذه الغزوة من الأحكام

خمس عشرة سنة، ورد من رده لصغره عن سن البلوغ، وقالت طائفة: أجازهم لطاقتهم، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْبُلُوغِ وَعَدَمِهِ فِي ذَلِكَ، قَالُوا: وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: فَلَمَّا رآني مطيقا أجازني. ثم ذكر قصة الأصيرم، وكلام أبي سفيان على الجبل، وهي ما روى البخاري في " صحيحه " عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما - قال: «أشرف أبو سفيان، قال: أفي القوم محمد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه، قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: لا تجيبوه، فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: لا تجيبوه، فقال: إن هؤلاء قد قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه، فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله تعالى لك ما يخزيك ويسوءك. قال أبو سفيان: أعلُ هُبَل، أعلُ هُبَل. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أجيبوه، قالوا: مَا نُقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، قال أبو سفيان: لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا ولا مولى لكم. قَالَ أبو سفيان: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجال، فأجابه عمر: لَا سَوَاءً قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ، وَقَتْلَاكُمْ فِي النار، ثم قال أبو سفيان: وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. » [فصل في ما اشتملت عليه هذه الغزوة من الأحكام] فصل في ما اشتملت عليه هذه الغزوة من الأحكام منها أن الجهاد يلزم بالشروع فيه، فمن لبس لأمته، وشرع في أسبابه ليس له أن يرجع. ومنها أنه لا يجب الخروج إذا طرق العدو في الديار وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَأْذَنُ لِمَنْ لَا يُطِيقُ القتال من الصبيان وَمِنْهَا جَوَازُ الْغَزْوِ بِالنِّسَاءِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِنَّ فِي الجهاد، وجواز الانغماس في العدو، كما فعل أنس بن النضر وغيره، وأن الإمام إذا خرج صلى بهم قاعدا وصلوا وراءه قعودا، وأن الدعاء بالشهادة، وتمنيها ليس من المنهي عنه كما فعل ابن جَحْشٍ، وأن الْمُسْلِمَ إِذَا قَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النار كقزمان، وأن الشهيد لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُكَفَّنُ في غير ثيابه إلا أن يسلبها، وأنه إذا كان جنبا غُسِّل كحنظلة، وأن الشهداء يدفنون في مصارعهم لأمره بردّ القتلى إليها، وجواز دفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وهل دفنهم في ثيابهم استحباب

أو وجوب؟ الثاني: أظهر، ومنها أن المعذور كالأعرج يجوز له الخروج، وأن المسلمين إذا قتلوا مسلما يظنونه كافرا في الجهاد، فديتُه في بيت المال، لأنه أراد أن يدي أبا حذيفة بن اليمان، فَامْتَنَعَ حذيفة مِنْ أَخْذِ الدِّيَةِ، وَتَصَدَّقَ بِهَا على المسلمين. فأما الحِكَم التي في هذه الوقعة، فقد أشار سبحانه إلى أُمهاتها في سُورَةِ (آلِ عِمْرَانَ) مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: 121] إلى تمام الستين آية. فمنها تعريفهم بسوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع، ليتقوا ويحذروا من أسباب الخذلان، وأن حكمة الله جرت بأن الرسل وأتباعهم يُدالون مَرَّةً، ويُدال عَلَيْهِمْ أُخْرَى، لَكِنْ تَكُونُ لَهُمُ العاقبة، فلو انتصروا عليه دائما لم يحصل المقصود، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آلِ عِمْرَانَ: 179] (¬1) أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْتِبَاسِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُنَافِقِينَ حَتَّى يَمِيزَ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ النفاق، كما ميزهم بالمحن يَوْمَ أُحُدٍ، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179] الذي يميز بين هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميزون في علمه، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يَمِيزَهُمْ تَمْيِيزًا مَشْهُودًا. وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179] اسْتِدْرَاكٌ لِمَا نَفَاهُ مِنَ اطلاعهم على الغيب، أي: سِوَى الرُّسُلِ، فَإِنَّهُ يُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا يَشَاءُ كما في سورة الجن، فسعادتكم بالإيمان بِالْغَيْبِ الَّذِي يُطْلِعُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ، فَإِنْ آمَنْتُمْ به واتقيتم كان لكم أعظم الأجر. ومنها استخراج عبودية أوليائه في السراء والضراء، وفيما يحبون وفيما يكرهون فإذا ثبتوا على الطاعة فيما أحبوا وكرهوا، فهم عبيده حقا وليسوا كمن يعبده على حرف. ومنها أنه لو بسط لهم النصر دائما لكانوا كما يكونون لو بسط لهم في الرزق، فهو المدبر لهم، كَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ، إنَّهُ بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ. ومنها أنهم إذا انكسروا له استوجبوا النصر، فإن خلعة النصر مع ولاية الذل، كما قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] (¬2) . {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: 25] (¬3) الآية، ومنها أنه هيأ لعباده منازل لا تبلغها أعمالهم، ولا يبلغونها إلا بالبلاء، فقيضه لهم بالأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائهم ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 179. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 123. (¬3) سورة التوبة، الآية: 25.

وامتحانهم، كما وفّقهم للأعمال الصالحة. ومنها أن العافية الدائمة، والنصر والغنى يورث ركونا إلى العاجلة، ويثبط النفوس، ويعوقها عن السير إلى الله، فإذا أراد الله كرامة عبد قيّض له من البلاء ما يكون دواء لهذا. وَمِنْهَا أَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ أوليائه، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من أوليائه شهداء. ومنها أنه سبحانه إذا أراد هلاك أعدائه قيّض أسبابا يستوجبون بها هلاكهم، وَمِنْ أَعْظَمِهَا بَعْدَ كُفْرِهِمْ بَغْيُهُمْ وَطُغْيَانُهُمْ وَمُبَالَغَتُهُمْ وبغيهم في أذى أوليائه، فيتمض بذلك أولياؤه من ذنوبهم، ويكون من أسباب محق أعدائه، وذكر سبحانه ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [آل عمران: 139] إلى قوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141] (¬1) فجمع بين تشجيعهم، وحسن التعزية، وذكر الحكم التي اقتضت إدالة الله الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140] (¬2) أي: ما بالكم تحزنون وتهنون عند هذا، وقد مسهم مثله في سبيل الشيطان. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُدَاوِلُ أَيَّامَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَيْنَ النَّاسِ، وَأَنَّهَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يُقَسِّمُهَا دولا بين أوليائه وأعدائه بخلاف الآخرة، ثم ذكر حكمة أخرى، وهي تمييز المؤمن من المنافق، فَيَعْلَمُهُمْ عِلْمَ رُؤْيَةٍ وَمُشَاهَدَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا معلومين في غيبة، لأن الْعِلْمُ الْغَيْبِيُّ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَلَا عقاب، ثم ذكر حكمة أخرى، وهي اتخاذه منهم شهداء، وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140] تنبيه لطيف على كراهته وبغضه للمنافقين انْخَذَلُوا عَنْ نَبِيِّهِ يَوْمَ أُحد، فَلَمْ يَشْهَدُوهُ ولم يتخذ منهم شهداء، لأنه لا يحبهم، ثم ذكر حكمة أخرى، وهي تمحيص المؤمنين من الذنوب، وأيضا من المنافقين، ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى، وَهِي مَحْقُ الْكَافِرِينَ. ثم أنكرعليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بدون الجهاد، فَقَالَ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران: 142] (¬3) أي: ولما يقع منكم، فيكون الجزاء على الواقع المعلوم، ثم وبخهم على هزيمتهم من ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 139-142. (¬2) آل عمران، الآية: 140. (¬3) آل عمران، الآية: 142.

أَمْرٍ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ، وَيَوَدُّونَ لِقَاءَهُ، فَقَالَ: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] (¬1) وَمِنْهَا أن هذه الوقعة مقدمة بين يدي موته - صلى الله عليه وسلم - وَالشَّاكِرُونَ هُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا قَدْرَ النِّعْمَةِ، فَثَبَتُوا عَلَيْهَا حَتَّى مَاتُوا أَوْ قُتِلُوا، فَظَهَرَ أَثَرُ هَذَا الْعِتَابِ وَحُكْمُ هَذَا الْخِطَابِ يَوْمَ مَاتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل لهم العاقبة، ثم أخبر أنه جعل لكل نفس أجلا، ثم أخبر أن كثيرا من الأنبياء قُتلوا، وَقُتِلَ مَعَهُمْ أَتْبَاعٌ لَهُمْ كَثِيرُونَ، فَمَا وَهَنَ مَن بَقِيَ مِنْهُمْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سبيل الله، وما ضعفوا وما اسْتَكَانُوا بَلْ تَلَقَّوُا الشَّهَادَةَ بِالْقُوَّةِ وَالْعَزِيمَةِ وَالْإِقْدَامِ، ثم أخبر سبحانه عما استنصر بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَأُمَمُهُمْ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنَ اعْتِرَافِهِمْ، وتوبتهم واستغفارهم، وسؤالهم ربهم التثبيت لأقدامهم، والنصر عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَقَالَ: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 147] (¬2) لما علموا أَنَّ الْعَدُوَّ إنَّمَا يُدال عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَأَنَّ الشّيْطَانَ إنَّمَا يَسْتَزِلُّهُمْ، وَيَهْزِمُهُمْ بِهَا، وَأَنَّهَا نَوْعَانِ: تقصير في حق، أو تجاوز في حد، وأن النصر منوط بِالطَّاعَةِ قَالُوا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147] ثم علموا أنه سبحانه وَتَعَالَى إنْ لَمْ يُثَبِّتْ أَقْدَامَهُمْ، وَيَنْصُرْهُمْ، لَمْ يقدروا على ذلك، فسألوه ما هو بيده، فَوَفَّوُا الْمَقَامَيْنِ حَقَّهُمَا: مَقَامَ الْمُقْتَضِي، وَهُوَ التَّوْحِيدُ والالتجاء إليه، ومقام إزالة المانع من النصر، وَهُوَ الذُّنُوبُ وَالْإِسْرَافُ، ثُمَّ حَذَّرَهُمْ سُبْحَانَهُ مِنْ طاعة عدوهم الكفار والمنافقين، وأنهم إن فعلوا ذلك خسروا الدارين، وفيه تعريض بمن أطاعهم من المنافقين لما انتصروا يَوْمَ أُحد، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَوْلَى المؤمنين وخير الناصرين، فمن والاه، فهو المنصور، ثم أخبر أَنَّهُ سَيُلْقِي فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمُ الرُّعْبَ الَّذِي يمنعهم من الهجوم عليهم، وذلك بسب الشرك، وعلى قدر الشرك يكون الرعب، والمؤمن الذي لم يلبس إيمانه بالشرك، له الأمن والهدى. ثم أخبر بصدق وعده في النصر، وأنهم لو استمروا على الطاعة، لاستمر النصر، ولكن انخلعوا عن الطاعة، ¬

(¬1) آل عمران، الآية: 143. (¬2) آل عمران، الآية: 147.

فَفَارَقَتْهُمُ النُّصْرَةُ، فَصَرَفَهُمْ عَنْ عَدُوِّهِمْ عُقُوبَةً وَابْتِلَاءً وتعريفا لهم بعاقبة المعصية، ثم أخبر بعفوه عنهم بعد ذلك. قيل للحسن: كيف عفا وقد سلّط عليهم أعداءهم؟ فقال: لولا عفوه لاستأصلهم، ولكن بعفوه دفع عنهم عدوهم بعد أن أجمعوا عَلَى اسْتِئْصَالِهِمْ. ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِحَالِهِمْ وَقْتَ الْفِرَارِ مصعدين، أي: جادين في الهرب، أَوْ صَاعِدِينَ فِي الْجَبَلِ لَا يَلْوُونَ عَلَى نبيهم وأصحابهم، وَالرَّسُولُ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ: «إِلَى عِبَادِ اللَّهِ أنا رسول الله» ، فأثابهم بهذا الفرار غمًا بعد غم: الفرار، وغم صرخة الشيطان بأن محمدا قُتل، وَقِيلَ: جَازَاكُمْ غَمًّا بِمَا غَمَمْتُمْ رَسُولَهُ بفراركم عنه، والأول أظهر لوجوه: الأول: قوله: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا} [الحديد: 23] إلى آخره، تنبيها عَلَى حِكْمَةِ هَذَا الْغَمِّ بَعْدَ الْغَمِّ، وَهُوَ نسيانهم الحزن على ما فاتهم من الظفر، وما أصابهم من الهزيمة، وهذا إنما يحصل بغم يَعْقُبُهُ غَمٌّ آخَرُ. الثَّانِي: أَنَّهُ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، فحصل غَمُّ فَوَاتِ الْغَنِيمَةِ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ غَمُّ الْهَزِيمَةِ، ثم غم الجراح والقتل، ثم سماع قتل النبي، ثم ظهور العدو على الجبل، وَلَيْسَ الْمُرَادُ غَمَّيْنِ اثْنَيْنِ خَاصَّةً، بَلْ غَمًّا متتابعا لتمام الابتلاء. الثالث: أن قوله: بِغَمٍّ من تمام الصواب، لَا أَنَّهُ سَبَبُ جَزَاءِ الثَّوَابِ، وَالْمَعْنَى: أَثَابَكُمْ غَمًّا مُتَّصِلًا بِغَمٍّ جَزَاءً عَلَى مَا وَقَعَ من الهرب وإسلامهم النبي، وترك الاستجابة له، ومخالفته في لزوم المركز، وتنازعهم وفشلهم، وكل واحد يوجب غما يخصه، ومن لطفه بهم أنها من موجبات الطباع التي تمنع من النصرة المسقرة، فَقَيَّضَ لَهُمْ بِلُطْفِهِ أَسْبَابًا أَخْرَجَهَا مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا آثَارُهَا الْمَكْرُوهَةُ، فَعَلِمُوا أن التوبة منها، والاحتراز منها، ودفعها بأضدادها متعين، وربما صحت الأجساد بالعلل. ثم إنه سبحانه رحمهم، فغيّب عنهم الغم بالنعاس، وهو في الحرب علامة النصر، كما نزل يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصِبْهُ فَهُوَ مِمَّنْ أَهَمَّتْهُ نَفْسُهُ لَا دِينُهُ وَلَا نَبِيُّهُ وَلَا أَصْحَابُهُ، وَأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ. وفسر هذا الظن بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَنْصُرُ رَسُولَهُ، وَأَنَّ أَمْرَهُ سيضمحل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله، وَلَا حِكْمَةَ لَهُ فِيهِ، فَفُسِّرَ بِإِنْكَارِ الْحِكْمَةِ وإنكار القدر وإنكار إتمام دينه، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المشركون والمنافقون في (سورة الفتح) ، وإنما كان هذا الظن ظن السوء

لأنه ظن لا يليق بالله وصفاته وأسمائه وحكمته وحمده، وتفرده بالربوبية والألوهية وصدقه في وعده، فمن ظن أنه لا يتم أمر رسوله، وأنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة، يضمحل معها الحق اضمحلالا لا يقوم بعده، فقد ظن به ظَنَّ السَّوْءِ، وَنَسَبَهُ إِلَى خِلَافِ مَا يَلِيقُ بكماله وصفاته، ومن أنكر أن يكون ذلك بقدره، فما عرفه ولا عرف ملكه، وكذلك من أنكر الحكمة التي يستحق الحمد عليها في ذلك، فزعم أنها مشيئة مجردة عن الحكمة، فذلك ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النار. وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفي غيرهم، ولا يسلم من ذَلِكَ إلَّا مَنْ عَرَفَ اللَّهَ، وَعَرَفَ أَسْمَاءَهُ وصفاته وموجب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَمَنْ جَوَّزَ عليه أنه يعذب المحسن، ويسوي بينه وبين عدوه، فقد ظن به ذلك، ومن ظن أنه يترك خلقه سدى من الأمر والنهي، فقد ظن به ظن السوء. وكذلك من ظن أنه لا يثيبهم ولا يعاقبهم، ولا يبين لهم ما اختلفوا فيه، وكذلك من ظن أنه يضيع العمل الصالح بلا سبب من العبد، ويعاقبه بما لا صُنع فيه، أو جوّز عليه أن يؤيد أعداءه بالمعجزات التي يؤيد بها الرسل، وأنه يحسن منه كل شيء حتى يخلد في النار من فنى عمره في طاعته، وينعم من أستنفذ عمره في معصيته، وكلاهما في الحسن سواء لا يعرف امتناع أحدهما إلَّا بِخَبَرٍ صَادِقٍ، وَإِلَّا فَالْعَقْلُ لَا يَقْضِي بقبح أحدهما وحسن الآخر، وكذلك من ظن أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِمَا ظاهره باطل، وَتَرَكَ الْحَقَّ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ وَإِنَّمَا رَمَزَ إليه رموزا بعيدة، وصرح دائما بالتشبيه وبالباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم في تحريف كلامه، وَأَحَالَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى عُقُولِهِمْ، لَا عَلَى كِتَابِهِ، بَلْ أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَحْمِلُوا كَلَامَهُ عَلَى مَا يَعْرِفُونَ مِنْ لغتهم مع قدرته على التصريح بالحق، وإزالة الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، وَظَنَّ أَنَّهُ هُوَ وَسَلَفُهُ عَبَّرُوا عَنِ الْحَقِّ دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنَّ الْهُدَى وَالْحَقَّ فِي كلامهم، وأن كلام الله لا يؤخذ من ظاهره إلا الضلال فهذا من أسوأ الظن بالله، فكل من هَؤُلَاءِ مِنَ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَمِنَ الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية، ومن ظن أنه يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ،

وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ فَقَدْ ظَنَّ به ظن السوء، ومن ظن أنه متعطل من الأزل إلى الأبد عن الفعل، ولا يوصف به ثم صار قادرا عليه، فقد ظن به الظن السوء، ومن ظن أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَعْلَمُ الموجودات، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَمَنْ ظَنَّ أنه لا إرادة له، ولا كلام يقوم به، ولم يكلم أحدا، ولا يتكلم أبدا، وَلَا لَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ يَقُومُ بِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَمَنْ ظَنَّ أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائنا من خلفه، وأن الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ومن قال: سبحان ربي الأسفل، كمن قال: سبحان ربي الأعلى، فقد ظن به أقبح الظن، ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان، كما يحب الطاعة، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ وَلَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ، وَلَا يُوَالِي وَلَا يُعَادِي، وَلَا يَقْرُبُ مِنْ أحد ولا يقرب منه أحد، فقد ظن به ظن السوء، وكذلك من ظَنَّ أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ، أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَوْ يُحْبِطُ طاعات العمر بكبيرة واحدة تكون بعدها فيخلد فاعلها في النار أبد الآبدين بتلك الكبيرة، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ ظَنَّ بِهِ خِلَافَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أو وصفه به رسوله، أو عطّل ما وصف به نفسه، فقد ظن به ظن السوء، كمن ظَنَّ أَنَّ لَهُ وَلَدًا أَوْ شَرِيكًا أَوْ شفيعا بغير إذْنِهِ، أَوْ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَسَائِطَ، يرفعون حوائجهم إليه، أو أن ما عنده ينال بالمعصية كما ينال بالطاعة، أو ظن أَنَّهُ إذَا تَرَكَ لِأَجْلِهِ شَيْئًا لَمْ يُعَوِّضْهُ خيرا منه، أو ظن أنه يعاقب بمحض المشيئة بغير سبب من العبد، أو ظن أنه إذا صدق في الرغبة والرهبة أنه يجيبه، أو ظن أَنَّهُ يُسَلِّطُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - أعداءه تسليطا مستقرا في حياته ومماته، وأنه ابتلاه بِهِمْ لَا يُفَارِقُونَهُ، فَلَمَّا مَاتَ اسْتَبَدُّوا بِالْأَمْرِ دون وصيِّته وظلموا أهل بيته، وكانت العزة لأعدائه وأعدائهم بلا ذنب لأوليائه، وهو يقدر على نصرهم، ثم جعل أعداءه المبدلين دينه مضاجعين له في حفرته وتسلم أمته عليه وعليهم، وكل مبطل وكافر ومبتدع مقهور، فهو يظن بربه هذا الظن، فأكثر الخلق بل كلهم إلا ما شَاءَ اللَّهُ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ السوء، ومن فتش نفسه، رَأَى ذَلِكَ فِيهَا كَامِنًا كُمُونَ النَّارِ فِي الزناد، فاقدح من زناد من شئت ينبئك شرره عما في زناده، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ، وَفَتِّشْ نَفْسَكَ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ،

فَإِنْ تنْج مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عظيمَةٍ ... وَإِلَّا فَإِنِّي لَا إِخَالُكُ نَاجِيًا فَلْيَعْتَنِ اللَّبِيبُ النَّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ ويستغفره كُلَّ وَقْتٍ مِنْ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ. وَالْمَقْصُودِ مَا سَاقَنَا إِلَى هَذَا الْكَلَامِ مِنْ قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154] (¬1) ثم أخبر عن الكلام الصادر عَنْ ظَنِّهِمُ الْبَاطِلِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 154] وَقَوْلُهُمْ: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154] فليس مقصودهم بهذا إثبات القدر، ولو كان ذلك لم يذموا، ولما حسن الرد عليهم بِقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154] ولهذا قال غير واحد: إن ظنهم هذا التَّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ، وَظَنُّهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ إليهم لما أصابهم القتل، فأكذبهم بقوله: {إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154] فَلَا يكون إلا ما سبق به قضاؤه، فلو كتب القتل على من كان في بيته لخرج إلى مضجعه، وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ إبْطَالًا لِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ. ثم أخبر تعالى عن حكمة أخرى في هذا التقدير، وهي ابتلاء ما في صدورهم، واختبار مَا فِيهَا مِنَ الْإِيمَانِ وَالنِّفَاقِ، فَالْمُؤْمِنُ لَا يزداد بذلك إلا إيمانا، والمنافق ومن في قلبه مرض يظهر على جوارحه، ثم ذكر حكمة أخرى، وهي تمحيص ما في قلوب المؤمنين، وهو تنقيتها، فإن القلوب يخالطها من بغلبة الطبائع وميل النفس، وَحُكْمِ الْعَادَةِ، وَتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ، وَاسْتِيلَاءِ الْغَفْلَةِ مَا يضادُّ ما فيها من الإيمان، فلو كانت في عافية دائمة لم تتخلص من هذا، فكانت رحمته عليهم بهذه الكسرة والهزيمة تعادل نعمته عليهم بالنصرة، ثم أخبر تعالى عمن تولى من المؤمنين، وأنه بسبب ذنوبهم فاستزلهم الشيطان بتلك الأعمال، فَكَانَتْ أَعْمَالُهُمْ جُندا عَلَيْهِمُ ازْدَادَ بِهَا عَدُوُّهُمْ قُوَّةً، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ جُنْدٌ لِلْعَبْدِ وجُند عَلَيْهِ، ففرار الإنسان من عدو يطيقه إنما هو بجند من عمله. ثم أخبر أَنَّهُ عَفَا عَنْهُمْ لِأَنَّ هَذَا الْفِرَارَ لَمْ يكن عن شك وإنما كان لعارض، ثم ذكر سبحانه أن هذا بأعمالهم فَقَالَ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آلِ عِمْرَانَ: 165] (¬2) وَذَكَرَ هَذَا بِعَيْنِهِ فِيمَا هُوَ أعم من ذلك في السور المكية، وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] (¬3) ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 154. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 165. (¬3) سورة الشورى، الآية: 30.

وَقَالَ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] (¬1) فالنعمة فضله، والسيئة عدله، وختم الآية بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] بعد قوله: {هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] إعْلَامًا بعموم قدرته مع عدله، ففيه إثبات القدر والسبب فأضاف السبب إلى نفوسهم، وعموم القدرة إِلَى نَفْسِهِ، فَالْأَوَّلُ يَنْفِي الْجَبْرَ، وَالثَّانِي يَنْفِي إبطال القدر، فهو مشاكل قَوْلَهُ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] (¬2) وفي ذكر قدرته نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِيَدِهِ، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره، وكشف هذا ووضحه بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 166] (¬3) وَهُوَ الْإِذْنُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ، ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير وهو أَنْ يَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عِلْمَ عِيَانٍ، فتكلم المنافقون بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَسَمِعَهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَسَمِعُوا رَدَّ الله عليهم وعرفوا مؤدى النفاق وما يئول إليه، فَلَلَّهِ كَمْ مِنْ حِكْمَةٍ فِي ضِمْنِ هَذِهِ القصة ونعمة، وكم فيها من تحذير وإرشاد، ثم عزَّاهم عمن قُتل منهم أحسن تعزية فَقَالَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] (¬4) الآيات فجمع لهم بين الحياة الدائمة، والقرب مِنْهُ وَأَنَّهُمْ عِنْدَهُ، وَجَرَيَانَ الرِّزْقِ الْمُسْتَمِرِّ عَلَيْهِمْ، وَفَرَحَهُمْ بِمَا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَهُوَ فَوْقَ الرِّضَى، وَاسْتِبْشَارُهُمْ بِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ بِاجْتِمَاعِهِمْ بِهِمْ، يَتِمُّ سُرُورُهُمْ وَنَعِيمُهُمْ، وَاسْتِبْشَارُهُمْ بِمَا يُجَدِّدُ لَهُمْ كُلَّ وقت من نعمه وكرامته. وذكّرهم سبحانه في هذه المحنة بما هو من أعظم نعمه عليهم، التي لو قابلوا بها كل محنة تنالهم وبلية لتلاشت في جنب هذه النعمة، وهي إرسال رسول من أنفسهم، وكل بليّة بعد هذا الخير العظيم أمر يسير جدا في جنب هذا الخير الكثير، فأعلمهم أن المصيبة من عند أنفسهم، ليحذروا، وأنها بقدره ليوحدوا ويتكلوا، وأخبرهم بما له من الحِكم لئلا يتهموه في فضله وقدره، وليتعرف ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 79. (¬2) آية 28، 29 التكوير. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 41. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 169.

إلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَسَلَّاهُمْ بِمَا أَعْطَاهُمْ مما هو أعظم خَطَرًا مِمَّا فَاتَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ، وَعَزَّاهُمْ عن قتلاهم لِيُنَافِسُوهُمْ فِيهِ، وَلَا يَحْزَنُوا عَلَيْهِمْ، فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وعز جلاله. فصل ولما انقضت الحرب، وانكفأ المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة، فشق ذلك عليهم، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " اخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَاذَا يُرِيدُونَ، فَإِنْ هم جنبوا وامتطوا الْإِبِلَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لئن أرادوها، لأسيرن إليهم، ثم لأناجزهم فِيهَا "، قَالَ علي: فَخَرَجْتُ فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ، فَجَنَّبُوا الْخَيْلَ، وَامْتَطَوُا الْإِبِلَ، وَوَجَّهُوا إِلَى مَكَّةَ وَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَكَّةَ أَشْرَفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أبو سفيان ثُمَّ ناداهم: موعدكم الموسم ببدر. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قولوا: نعم " ثم انصرفوا. فلما كانوا ببعض الطريق تلاوموا فيما بينهم، فقالوا: أصبتم شوكتهم، ثم تركتموهم يجمعون لكم، فارجعوا نستأصلهم، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَادَى فِي النَّاسِ، وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْمَسِيرِ، وَقَالَ: " لَا يَخْرُجْ مَعَنَا إلَّا مَنْ شَهِدَ القتال "، فاستجاب له المسلمون على ما بهم، فاستأذنه جابر لحبس أبيه إياه، فأذن له، فساروا حتى أتوا حمراء الأسد، فقال أبو سفيان لبعض من يريد المدينة من المشركين: هَلْ لَكَ أَنْ تُبْلِغَ مُحَمَّدًا رِسَالَةً، وَأُوقِرَ لك راحلتك زبيبا إذا أتيت مكة؟ قال: نعم. قال: بلغه أنا جمعنا الكرة لنستأصله وأصحابه، فلما قال لهم ذلك، قَالُوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 - 174] (¬1) . وكانت وقعة أُحد في شوال سنة ثلاث، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى المدينة، فأقام بقية السنة، فلما استهل المحرّم، بلغه أن طليحة وسلمة ابني خويلد قَدْ سَارَا فِي قَوْمِهِمَا ومن أطاعهما يدعوان بني أسد من خزيمة إلى حربه، فبعث أبا سلمة ومعه مائة وخمسون، فانتهوا إلى ماء لبني أسد يأوي قطن بن أبي مرثد الغنوي ¬

(¬1) سورة آل عمران: 173، 174.

فأصابوا إبلا وشياها، ولم يلقوا كيدا. فَلَمَّا كَانَ خَامِسُ الْمُحَرَّمِ، بَلَغَهُ أَنَّ خالد بن سفيان الهذلي قَدْ جَمَعَ لَهُ الْجُمُوعَ، فَبَعَثَ إلَيْهِ عبد الله بن أنيس فقتله. فلما كان في صَفَرٌ، قَدِمَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ عَضَلٍ وَالْقَارَةِ، وَذَكَرُوا أَنَّ فِيهِمْ إسْلَامًا، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَبْعَثَ معهم من يعلّمهم الدين، فبعث معهم ستة فيهم خبيب وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ مرثد بن أبي مرثد الغنوي، فكان ما كان. وفي هذا الشهر كانت وقعة بئر معونة. وفي ربيع الأول كانت غزوة بني النضير، وزعم الزهري أنها كَانَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَهَذَا وَهْمٌ مِنْهُ أَوْ غَلَطٌ عَلَيْهِ، بَلِ الَّذِي لَا شك فيه أنها بعد أُحد، والتي بعد بدر قَيْنُقَاعٍ، وَقُرَيْظَةُ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، وَخَيْبَرُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، فكان فله مع اليهود أربع غزوات. ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْسِهِ ذات الرقاع في جمادى الأولى، وهي غزوة نجد، فخرج يريد قوما من غطفان وصلى بِهِمْ يَوْمَئِذٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي فِي تاريخ هذه الغزوة وَصَلَاةِ الْخَوْفِ بِهَا وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ عَنْهُمْ، وَهُوَ مشكل جدا، والظاهر أن أول صلاة صلاها للخوف بعسفان، كما في حديث صححه الترمذي، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ غَزْوَةَ عُسْفَانَ كَانَتْ بعد الخندق، وقد صح عنه أنه صلاها بِذَاتِ الرِّقَاعِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ، وَبَعْدَ عُسْفَانَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا موسى شهدا ذات الرقاع كما في " الصحيحين "، فلما كان شعبان، وقيل: ذي القعدة من العام القابل، خرج - صلى الله عليه وسلم - لميعاد أبي سفيان بالمشركين فانتهى إلى بدر، وأقام ينتظر المشركين، وخرج أبو سفيان من مكة وهم ألفان ومعهم خمسون حتى إذا كانوا على مرحلة من مكة رجعوا، وقالوا: العام عام جدب. ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - في ربيع سنة خمس إلى دومة الجندل، فهجم على ماشيتهم، وأصاب ما أَصَابَ، وَهَرَبَ مَنْ هَرَبَ، وَجَاءَ الْخَبَرُ أَهْلَ دومة، فتفرقوا. ثم بعث بريدة السلمي في شعبان إلى بني المصطلق وهي غزوة المريسيع - وهو مكان لماء - واصطفوا للقتال، وتراموا ساعة، ثم أمر أصحابه، فحملوا حملة رجل واحد، فانهزم المشركون، وَسَبَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّسَاءَ والذراري والمال. وفيها سقط عقد لعائشة، فاحتبسوا في طَلَبِهِ، فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، وَذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ حَدِيثِ محمد بن إسحاق عَنْ يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة في قصة العقد أن أبا بكر قال: يَا بُنَيَّةُ فِي كُلِّ سَفَرٍ تَكُونِينَ عَنَاءً وبلاء. فأنزل الله عز وجل آية التَّيَمُّمِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ

الْعِقْدِ الَّتِي نَزَلَ التَّيَمُّمُ لِأَجْلِهَا بَعْدَ هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَلَكِنْ فِيهَا كَانَتْ قِصَّةُ الإفك بسبب فقد العقد والتماسه، فاشتبه على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى. وأما قصة الإفك، فهي في هذه الغزوة إلى أن قال: فأشار علي بفراقها تلويحا لا تصريحا لَمَّا رَأَى أَنَّ مَا قِيلَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فأشار بِتَرْكِ الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ إِلَى الْيَقِينِ، لِيَتَخَلَّصَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الغم الذي لحقه بكلام الناس. وأشار أسامة بإمساكها لما علم من حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها ولأبيها، ولما علم من عفتها وديانتها، وأن الله لا يجعل حبيبة نبيه وبنت صديقه بالمنزلة التي أنزلها به أهل الإفك. وَمَنْ قَوِيَتْ مَعْرِفَتُهُ لِلَّهِ وَمَعْرِفَتُهُ لِرَسُولِهِ وَقَدْرِهِ عِنْدَ اللَّهِ فِي قَلْبِهِ قَالَ كَمَا قَالَ أبو أيوب وَغَيْرُهُ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ لَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] وتأمل ما في تسبيحهم في ذلك المقام من المعرفة بالله وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ لرسوله امرأة خبيثة. فإن قيل: فما باله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَقَّفَ فِي أَمْرِهَا وسأل؟ قيل: هَذَا مِنْ تَمَامِ الحِكم الْبَاهِرَةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ سَبَبًا لَهَا وَامْتِحَانًا وَابْتِلَاءً لرسوله، ولجميع الأمة إلى يوم القيامة، ليرفع بها أقواما، ويضع بها آخرين، واقتضى تمام الامتحان بأن حبس الوحي عن نبيه شهرا ليظهر حكمته، ويظهر كمال الوجود، ويزداد الصادقون إيمانا وثباتا على العدل وحسن الظن، ويزداد المنافقون إفكا ونفاقا، وتظهر سرائرهم، ولتتم العبودية المرادة منها ومن أبويها، وتتم نعمة الله عليهم، ولتشتد الفاقة منهم إلى الله والذل له، والرجاء له، ولينقطع رجاؤه من المخلوقين، وَلِهَذَا وَفَّتْ هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ، لَمَّا قَالَ لها أبوها: قُومِي إِلَيْهِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَرَاءَتَهَا، فقالت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي. ولو أطلع الله رسوله على الفور، لفاتت هذه الأمور والحكم، وأضعافها وأضعاف أضعافها. وأيضا فإن الله أحب أن تظهر منزلة رسوله عنده وأهل بيته، وأن يتولى بنفسه الدفاع، والرد على الأعداء وذمهم وعيهم بأمر لا يكون لرسوله فيه عمل. وَأَيْضًا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان الْمَقْصُودَ بِالْأَذَى، وَالَّتِي رُمِيَتْ زَوْجَتُهُ، فَلَمْ يَكُنْ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَشْهَدَ بِبَرَاءَتِهَا مَعَ عِلْمِهِ أَوْ ظَنِّهِ الظَّنَّ الْمُقَارِبَ لِلْعِلْمِ بِبَرَاءَتِهَا، وَلَمْ يظن بها سوءا قط، وكان عنده من القرائن أَكْثَرَ مِمَّا عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ

فصل في غزوة الخندق

لكمال صبره وثباته ورفقه، وفّى مقام الصبر حقه. ولما جاء الوحي ببراءتها حدّ من صرّح بالإفك إلا ابن أُبيّ مع أنه رأس الإفك، فقيل: لأن الحدود كفارة، وهذا ليس كذلك، وقد وعد بالعذاب الأليم فيكفيه ذلك عن الحد، وَقِيلَ: الْحَدُّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ وَهُوَ لَمْ يُقِرَّ بِالْقَذْفِ وَلَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَذْكُرُهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَذْكُرُهُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: حَدُّ الْقَذْفِ حَقُّ الآدمي لا يستوفى إلا بمطالبة، وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ، وعائشة لَمْ تُطَالِبْ بِهِ ابن أبي. وقيل: تركه لِمَصْلَحَةٍ هِي أَعْظَمُ مِنْ إقَامَتِهِ، كَمَا تَرَكَ قتله مع ظهور نفاقه، وَهِي تَأْلِيفُ قَوْمِهِ، وَعَدَمُ تَنْفِيرِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُطَاعًا فِيهِمْ رَئِيسًا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يؤمن إثارة الفتنة في حده. ولعله تركه لهذه الوجوه كلها. وَفِي مَرْجِعِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ قَالَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ ابن أُبيّ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] (¬1) فَبَلَّغَهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ ابن أبي يَعْتَذِرُ وَيَحْلِفُ: مَا قَالَ، فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ زيد فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُذُنِهِ، فَقَالَ: " أَبْشِرْ فَقَدْ صَدَقَكَ اللَّهُ "، ثمَّ قَالَ: " هَذَا الَّذِي وَفَّى الله بِأُذُنِهِ "، فَقَالَ لَهُ عمر: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مر عباد بن بشر أن يضرب عُنُقَهُ، فَقَالَ: " فَكَيْفَ إذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ". [فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ] فصل في غزوة الخندق وهي سنة خمس في شوال، وسببها أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين يَوْمَ أُحد، وَعَلِمُوا بِمِيعَادِ أبي سفيان لِغَزْوِ المسلمين أنه خرج لذلك ثم رجع، فخرج أشرافُهم إلى قريش يُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى غَزْوِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - فَأَجَابَتْهُمْ قُرَيْشٌ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى غَطَفَانَ فَدَعَوْهُمْ واستجابوا لهم، ثم طافوا في قبائل العرب، ثم ذكر القصة إلى أن ذكر قصة العُرنيين، وقال: فيها مِنَ الْفِقْهِ جَوَازُ شُرْبِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ، وَطَهَارَةُ بول مأكول اللحم، والجمع ¬

(¬1) سورة المنافقون، الآية: 8.

فصل في قصة الحديبية

للمحارب بين قطع يده ورجله وقتله إذا أخذ المال، وَأَنَّهُ يُفْعَلُ بِالْجَانِي كَمَا فَعَلَ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا سملوا عين الراعي سملوا أعينهم، فظهر أن القصة محكمة، وإن كانت قبل أن تنزل الحدود، فالحدود نزلت بتقريرها لا بإبطالها. [فصل في قصة الحديبية] فصل في قصة الحديبية وذكر القصة إلى أن قال: والصلح على وضع الحرب عشر سنين، وأن يرجع عنهم عامه ذلك، فإذا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَدِمَهَا وَخَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ، فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا، وَأَنْ لَا يَدْخُلَهَا إلا بسلاح الراكب والسيوف في القُرُب، ومن أتاهم لم يردوه، ومن أتى من المسلمين منهم ردوه. وفي قصة الحديبية أنزل الله فِدْيَةَ الْأَذَى لِمَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ بِالصِّيَامِ أَوِ الصَّدَقَةِ أَوِ النُّسُكِ فِي شَأْنِ كَعْبِ بْنِ عجرة. وفيها دعا للمحلِّقين ثلاثا، وللمقصِّرين مرة. وفيها نحر البدنة عن عشرة، والبقرة عن سبعة. وفيها أهدى جمل أبي جهل لِيَغِيظَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ. وَفِيهَا أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ. فلما رجع إلى المدينة جاءه نساء مؤمنات، فنهاه الله عن إرجاعهن، فَقِيلَ: هَذَا نَسْخٌ لِلشَّرْطِ فِي النِّسَاءِ، وَقِيلَ: تَخْصِيصٌ لِلسُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ عَزِيزٌ جِدًّا، وَقِيلَ: لم يقطع الشرط إلا على الرجال خاصة، فأراد المشركون أن يعمموا في الصنفين، فأبى الله تعالى ذلك. وفيها من الفقه اعتماره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وأن الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ، كَمَا أَنَّ الإحرام بالحج كذلك. وَأَمَّا حَدِيثُ «مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ المقدس غُفر له» ، فلا يثبت. ومنها أن سوق الهدي سنة في العمرة المفردة، وأن إشعار الهدي سنة لا مثلة. ومنها استحباب مغايظة أعداء الله. ومنها أن الأمير يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْعَثَ الْعُيُونَ أَمَامَهُ نَحْوَ الْعَدُوِّ. وَمِنْهَا أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْمُشْرِكِ الْمَأْمُونِ فِي الجهاد جائزة للحاجة، لأن عيينة الخزاعي كافر. وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ مَشُورَةِ الْإِمَامِ رَعِيَّتَهُ وَجَيْشَهُ اسْتِخْرَاجًا لوجه الرأي، واستطابة لنفوسهم، وامتثالا لأمر الله. ومنها جواز سبي ذراري المشركين المنفردين عن الرجال قبل القتال. وَمِنْهَا رَدُّ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ وَلَوْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، رد عَلَيْهِمْ وَقَالَ: " مَا خَلَأَتْ وَمَا ذَاكَ لَهَا بخلق ". ومنها استحباب الحلف على الخبر

الديني الذي يريد تأكيده، وقد حفظ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَلِفُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ مَوْضِعًا، وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَلِفِ على صدق مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي (يُونُسَ) و (سَبَأٍ) و (التَّغَابُنِ) . وَمِنْهَا أَنَّ المشركين وأهل الفجور إذا طلبوا أمرا يعظّمون به حرمة من حرمات الله، أجيبوا إليه، وإن منعوا غيره، فيعانون على تعظيم ما فيه حُرُمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى كُفْرِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، ويمنعون ما سوى ذلك، فمن التمس المعاونة على محبوب لله تعالى أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ مَا لم يترتب عَلَى ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ مَبْغُوضٌ لِلَّهِ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ الْمَوَاضِعِ وَأَصْعَبِهَا وَأَشَقِّهَا عَلَى النفوس، ولذلك ضاق عنه من أصحابه من ضاق، وقال عمر ما قال، وأجاب الصِّدِّيق فيها بجواب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه أفضل الصحابة، وأكملهم وأعرفهم بالله ورسوله ودينه، وَأَشَدُّهُمْ مُوَافَقَةً لَهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْ عمر إلا النبي، والصِّدِّيق خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ أَصْحَابِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدَلَ ذَاتَ الْيَمِينِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: بَعْضُهَا مِنَ الْحِلِّ، وبعضها من الحرم، وروى أحمد في هذه القصة أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي الحِل، وفيه كالدلالة على أن المضاعفة متعلقة بجميع الحرم لا تختص بالمسجد، وأن قوله: صلاة في مسجد الحرام، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] (¬1) وقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] (¬2) . وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ، يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْزِلَ فِي الْحِلِّ، وَيُصَلِّيَ فِي الْحَرَمِ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَصْنَعُ. ومنها جواز ابتداء الإمام بطلب الصلح إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه، وفي قيام المغيرة على رأسه - صلى الله عليه وسلم - بالسيف، ولم تكن عَادَتَهُ أَنْ يُقَامَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ - سنة يقتدى بها عند قدوم رسل الكفار من إظهار العز والفخر وتعظيم الإمام، وليس هذا من النوع المذموم، كما أن الفخر والخيلاء في الحرب ليس مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْمَذْمُومِ فِي غَيْرِهِ. وَفِي بَعْثِ البُدن فِي وَجْهِ الرَّسُولِ الْآخَرِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ إِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ لِرُسُلِ الْكُفَّارِ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - للمغيرة: أما ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 28. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 1.

الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالُ، فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَالَ الْمُشْرِكِ الْمُعَاهَدِ مَعْصُومٌ، وَأَنَّهُ لَا يُملك، بَلْ يُرد عَلَيْهِ، فإن المغيرة صحبهم على أمان، ثُمَّ غَدَرَ بِهِمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ فَلَمْ يَتَعَرَّضِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَمْوَالِهِمْ، وَلَا ذبَّ عنها، ولا ضمنها لهم، لأن ذلك قَبْلَ إِسْلَامِ المغيرة. وَفِي قَوْلِ الصِّدِّيقِ لعروة بن مسعود: امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّصْرِيحِ باسم العورة إذا كان فيه مصلحة، كما أمر أن يصرح لمن دعى بدعوى الْجَاهِلِيَّةِ بِهَنِ أَبِيهِ، وَيُقَالُ لَهُ: اعْضُضْ أَيْرَ أَبِيكَ وَلَا يُكَنِّى لَهُ، فَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. ومنها احتمال قلة أدب رسول الكفار للمصلحة، لأنه لم يقابل عروة على أخذه بلحيته. ومنها طهارة النخامة، والماء المستعمل، واستحباب التفاؤل لقوله: سهل أمركم لما جاء سهيل، وأن مصالحة المشرك بما فيه ضيم جائز للمصلحة. ومنها أن من حلف، أو نذر، أو وعد ولم يعين وقتا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ عَلَى التَّرَاخِي. ومنها أن الحلق نُسُكٌ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَأَنَّهُ نُسُكٌ في العمرة كالحج، وأنه نسك في عمرة المحصر، كَمَا هُوَ نُسُكٌ فِي عُمْرَةِ غَيْرِهِ. وَمِنْهَا أن المحصر ينحر هديه حيث أُحصر من الحل والحرم، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَاعِدَ مَنْ يَنْحَرُهُ فِي الْحَرَمِ إِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَحَلِّهِ لقوله: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] (¬1) ومنها أن الموضع الذي نحروا فيه من الحل للآية، لأن الحرم كله محل نحر الْهَدْيِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحْصَرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ القضاء، وسميت التي بعدها عمرة القضية، لأنها التي قاضاهم عليها. وَمِنْهَا أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِلَّا لم يغضب لتأخرهم عن الأمر. وَإِنَّمَا كَانَ تَأْخِيرُهُمْ مِنَ السَّعْيِ الْمَغْفُورِ لَا المشكور، وقد غفر الله لهم، وأوجب لهم الجنة. وَمِنْهَا جَوَازُ صُلْحِ الْكُفَّارِ عَلَى رَدِّ مَنْ جاء منهم من المسلمين من الرجال لا النساء، فإنه لا يجوز وهو مَوْضِعُ النَّسْخِ خَاصَّةً فِي هَذَا الْعَقْدِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى دَعْوَى النَّسْخِ فِي غيره. ومنها أن خروج البضع عن ملك الزوج متقوم، وأنه بالمسمى لا بمهر المثل. ومنها أن شرط رَدَّ مَنْ جَاءَ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى الْإِمَامِ لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا إِلَى غير بلاد الإمام، وإذا جاء إلى بلد الإمام لا يجب رده بدون ¬

(¬1) سورة الفتح، الآية: 25 .

الطلب. ومنها أنه إذا قَتَل الذين تسلّموه لَمْ يَضْمَنْهُ بِدِيَةٍ وَلَا قَوَدٍ وَلَمْ يَضْمَنْهُ الإمام. ومنها أنه إذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبين أهل الذمة عهد، جاز لملكٍ آخر أن يغزوَهم، كما أفتى به شيخ الإسلام ابن تيمية مستدلا بقصة أبي بصير مع المشركين. والذي في هذه القصة من الحِكَم أكبر وأجلّ من أن يحيط به إلا الله. ومنها أنها مقدمة بين يدي الفتح الأعظم، وهذه سنته سبحانه في الأمور العظام شرعا وقدرا أن يوطئ بين يديها بمقدمات وَتَوْطِئَاتٍ تُؤْذِنُ بِهَا، وَتَدُلُّ عَلَيْهَا. وَمِنْهَا أَنَّ هذه الهدنة مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ، فَإِنَّ النَّاسَ أَمِنَ بَعْضُهُمْ بعضا واختلط المسلمون بالكفار، ونادوهم بِالدَّعْوَةِ وَأَسْمَعُوهُمُ الْقُرْآنَ وَنَاظَرُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ جَهْرَةً آمِنِينَ، وَظَهَرَ مَنْ كَانَ مُخْتَفِيًا بِالْإِسْلَامِ وَدَخَلَ فيه مُدَّةَ الْهُدْنَةِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْخُلَ، فكانت تلك الشروط من أكبر الجند التي أقامها المشترطون لحزبهم، فذلوا من حيث طلبوا العز، وعز المسلمون من حيث انكسروا لله، فانقلب العز بالباطل ذلا بحق. ومنها ما سببه الله سبحانه للمؤمنين من زيادة الإيمان، والإذعان على ما أكرهوا، وما حصل لهم في ذلك من الرضا بالقضاء وانتظار وعد الله، وشهود منّته بِالسَّكِينَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي قُلُوبِهِمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي تُزَعْزَعُ لها الجبال. ومنها أنه سبحانه جعله سببا للمغفرة لرسوله، ولإتمام نعمته عليه، وهدايته ونصره، وَانْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الضيم، ولهذا ذكره سُبْحَانَهُ جَزَاءً وَغَايَةً، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى فعلٍ قام بالرسول والمؤمنين. وتأمل وصفه قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ الَّذِي اضْطَرَبَتْ فيه القلوب، فازدادوا بالسكينة إيمانا، ثم أكد بيعتهم لرسوله أنها بيعة له، وأن من نكثها، فعلى نفسه، وكل مؤمن فقد بايع الله على لسان رسوله على الإسلام وحقوقه، ثم ذكر ظن الأعراب، وأنه من جهلهم به سبحانه، ثم أخبر برضاه عن المؤمنين بالبيعة، وأنه علم ما في قلوبهم من صدق الطاعة، فأنزل الله السكينة عليهم وأثابهم الفتح والمغانم الكثيرة، وَكَانَ أَوَّلُ الْفَتْحِ وَالْمَغَانِمِ فَتْحَ خَيْبَرَ وَمَغَانِمَهَا، ثم استمرت الفتوح والمغانم إلى الأبد، وكف الأيدي عنهم، قيل: أهل مكة، وقيل: اليهود حين همُّوا أن يغتالوا من بالمدينة بعد خروج الصحابة، وقيل: أهل

فصل في غزوة خيبر

خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان، والصحيح تناولها لِلْجَمِيعِ، وَقَوْلُهُ: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 20] (¬1) قِيلَ: كف الأيدي، وقيل: فتح خيبر، ثم جمع لهم مع ذلك كله الهداية. ثم وعدهم مغانم كثيرة وفتوحا أخر لم يقدروا ذلك الوقت عليها، قيل: مكة، وقيل: فارس والروم، وقيل: ما بعد خيبر من المشرق والمغرب. ثم أخبر أنه لو قاتلهم الذين كفروا لولوا الأدبار، وأنها سنته، فإن قيل: فيوم أُحد، قيل: هو وعد معلق بشرط، وهو الصبر والتقوى، ففات يوم أُحد بالفشل المنافي للصبر، والمعصية المنافية للتقوى، ثم ذكر كف الأيدي لأجل الرجال والنساء المذكورين، فدفع العذاب عنهم بهؤلاء، كما دفعه برسوله لما كان بين أظهرهم. ثم أخبر عما جعله الكفار في قلوبهم من الحميّة التي مصدرها الجهل والظلم، وأخبر بإنزاله في قلوب أوليائه من السكينة ما يقابل الحميّة، وإلزامهم كلمة التقوى، وهي جنس تعم كل كلمة يتقى بها وجه الله وأعلاه كلمة الإخلاص. ثم أخبر أنه أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، فقد تكفل لِهَذَا الْأَمْرِ بِالتَّمَامِ وَالْإِظْهَارِ عَلَى جَمِيعِ أَدْيَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَفِي هَذَا تَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِهِمْ وَبِشَارَةٌ لَهُمْ وَتَثْبِيتٌ، وَأَنْ يَكُونُوا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ هَذَا الْوَعْدِ الَّذِي لَا بُدَّ أَنْ يُنْجِزَهُ، فَلَا تَظُنُّوا أَنَّ مَا وَقَعَ مِنَ الْإِغْمَاضِ وَالْقَهْرِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ نُصْرَةً لِعَدُوِّهِ، وَلَا تَخَلِّيًا عَنْ رَسُولِهِ وَدِينِهِ، كَيْفَ وَقَدْ أَرْسَلَهُ بِدِينِهِ الْحَقِّ، وَوَعَدَهُ أَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى كُلِّ دِينٍ سواه. [فصل في غزوة خيبر] فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ قَالَ موسى بن عقبة: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، مَكَثَ بِهَا عِشْرِينَ ليلة أو قريبا منها، ثم خرج إلى خيبر، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سباع بن عرفطة، وَقَدِمَ أَبُو هُرَيْرَةَ حِينَئِذٍ الْمَدِينَةَ فَوَافَى سباع بن عرفطة فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَسَمِعَهُ يَقْرَأُ فِي الأولى (كهيعص) ، وفي الثانية ¬

(¬1) سورة الفتح، الآية: 20.

(ويل للمطففين) فقال في صلاته: " ويل لأبي فلان، له مكيلان إذا كال كال بالناقص، وإذا اكتال اكتال بالوافي "، ثم زودوا سباعا، فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فكلم المسلمين فأشركوه وأصحابه في سهمانهم، ولما قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصبح، ثم ركب الْمُسْلِمُونَ فَخَرَجَ أَهْلُ خَيْبَرَ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، وَلَا يَشْعُرُونَ بَلْ خَرَجُوا لِأَرْضِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوُا الْجَيْشَ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، ثُمَّ رَجَعُوا هاربين إلى مدينتهم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قوم، فساء صباح المنذرين» . ثم ذكر حديث إعطائه عَلِيًّا الراية، ومبارزته مرحبا، وذكر قصة عامر بن الأكوع، ثم حصرهم، فجهد المسلمون، فذبحوا الحمر فنهاهم، ثم صالحوه عَلَى أَنْ يُجْلَوْا مِنْهَا وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ ركابهم، وله الصفراء والبيضاء، واشترط أن من كتم أو غيب، فلا ذمة له وَلَا عَهْدَ، فَغَيَّبُوا مَسْكًا فِيهِ مَالٌ وَحُلِيٌّ لحيي بن أخطب كَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ إِلَى خيبر، ثم ذكر الحديث، فلما أراد إجلاءهم قالوا: دعنا فيها، فأعطاهم إياها على شطر ما يخرج منها ما بدا له أن يقرهم، ولم يقتل بعد الصلح إلا ابن أبي الحقيق الناكث. وَسَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفية، وكانت تحت ابن أبي الحقيق، وعرض عليها الإسلام، فأسلمت فأعتقها، وجعل عتقها صَداقها. وقسم خيبر على ستة وثلاثين سهما، كل سهم مائة سهم، فكان له وللمسلمين النصف، والنصف الآخر لِنَوَائِبِهِ، وَمَا يَنْزِلُ بِهِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، قال البيهقي: وهذه خَيْبَرَ فُتِحَ شَطْرُهَا عَنْوَةً وَشَطْرُهَا صُلْحًا، فَقَسَمَ ما فتح عنوة بين أهل الخميس وَالْغَانِمِينَ، وَعَزَلَ مَا فُتِحَ صُلْحًا لِنَوَائِبِهِ وَمَا يحتاج إليه من أمور المسلمين، وهذا بناء منه على أصل مذهب الشافعي أنه يجب قسم الأرض المفتتحة عنوة. ومن تأمل تبين أنها كلها عنوة، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، والإمام مخير في الأرض بين قسمها ووقفها، وقسم بعضها ووقف بعض، وقد فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ، فَقَسَمَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، وَلَمْ يَقْسِمْ مَكَّةَ، وَقَسَمَ شَطْرَ خيبر، وترك شطرها، ولم يغب من أهل الحديبية إلا جابر فقسم له، وقدم عليه جعفر وأصحابه، ومعهم

الأشعريون، وسمته امرأة من اليهود في ذراع شاةٍ أهدته له، فلم يعاقبها، وقيل: قتلها بعدما مات بشر بن البراء، وكان بين قريش تراهن، منهم من يقول: يظهر محمد وأصحابه، ومنهم من يَقُولُ: يَظْهَرُ الْحَلِيفَانِ وَيَهُودُ خَيْبَرَ، وَكَانَ الحجاج بن علاط السلمي قد أسلم، وشهدها، ثم ذكر قصته. وفيها من الفقه القتال في الأشهر الحرم؛ لأنه خرج إليها في المحرم، ومنها قسم المغانم للفارس ثلاثة، وللراجل سهم، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِآحَادِ الْجَيْشِ إِذَا وَجَدَ طعاما أن يأكله، ولا يخمسه لأخذ ابن المغفل جراب الشحم الذي ولى يوم خيبر، ومنها أن المدد إذا لحق بعد الحرب لا يُسهم له إلا بإذن الجيش؛ لأنه كلم أصحابه في أهل السفينة. ومنها تحريم لحوم الحمر الإنسية، وعلل بأنها رجس، وهذا مقدم على من علل بغير ذلك، كقول من قال: إنها لم تخمس، أو إنها تأكل العذرة. وَمِنْهَا جَوَازُ عَقْدِ الْمُهَادَنَةِ عَقْدًا جَائِزًا لِلْإِمَامِ، فَسْخُهُ مَتَى شَاءَ، وَمِنْهَا جَوَازُ تَعْلِيقِ عَقْدِ الصلح والأمان بالشرط، وتقرير أرباب التهم بالعقوبة. ومنها الأخذ بالقرائن لقوله. " المال كثير، والعهد قريب "، وأن مَنْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ على كذبه، لم يلتفت إلى قوله. وَمِنْهَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إِذَا خَالَفُوا شَيْئًا مما شُرِط عليهم لم تبق لهم ذمة، وأن من أخذ من الغنيمة قبل القسمة لم يملكه وإن كان دون حقه، لقوله: «شراك من نار» . ومنها جواز التفاؤل، بل استحبابه كَمَا تَفَاءَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برؤية بالمساحي وَالْفُؤُوسِ وَالْمَكَاتِلِ مَعَ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَإِنَّ ذَلِكَ فأل في خرابها، وأن النقض يسري في حق النساء والذرية إذا كان الناقضون طائفة لهم شوكة، أما إذا كان وَاحِدًا مِنْ طَائِفَةٍ لَمْ يُوَافِقْهُ بَقِيَّتُهُمْ فَهَذَا لَا يَسْرِي النَّقْضُ إِلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ، كَمَا أن من أهدر دماءهم ممن يسبه لم يسر إلى نسائهم وذريتهم، فهذا هديه في هذا وهذا. وَمِنْهَا جَوَازُ عِتْقِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَجَعْلِ عِتْقِهَا صداقها وَيَجْعَلُهَا زَوْجَتَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَلَا شُهُودٍ، وَلَا ولي، ولا لفظ تزويج، وكذب الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ إِذَا لَمْ يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان متوصلا به إلى حقه كما فعل الحجاج، ومنها قبول هدية الكافر. ثم انصرف إِلَى وَادِي القُرى وَكَانَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ يهود، «فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرمي، فقُتِل مدعم عَبْدُ رَسُولِ

الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هنيئا له الجنة، فقال: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المقاسم لتشتعل عليه نارا.» ثم عبأ أصحابه ودعا أهل الوادي إلى الإسلام، فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير فقتله، ثم برز رجل آخر، فبرز إليه علي فَقَتَلَهُ، حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، كُلَّمَا قُتِلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ دَعَا مَنْ بَقِيَ إلى الإسلام، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى أَمْسَوْا وَغَدَا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ تَرْتَفِعِ الشمس قدر رُمْحٍ حَتَّى أَعْطَوْا مَا بِأَيْدِيهِمْ، وَفَتَحَهَا عَنْوَةً، وعامل اليهود على الأرض والنخل، فلما بلغ يهود تيجاء ما وطئ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل خيبر وفدك ووادي القرى صالحوه على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم، وما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز، ومن وراء ذلك من الشام، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطريق عرس، وقال لبلال: «اكلأ لنا الفجر» وذكر الحديث. وروي أنها في مرجعه من الحديبية، وقيل: مرجعه من تبوك. ففيه أَنَّ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فوقتها حين يستيقظ أو يذكرها والرواتب تقضى، وأن الفائتة يؤذَّن لها ويُقام، وقضاء الفائتة جماعة، وأن القضاء على الفور لقوله: «فليصلها إذا ذكرها» وتأخيرها عن المعرس؛ لأنه مكان الشيطان، فارتحل إِلَى مَكَانٍ خَيْرٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَا يُفَوِّتُ المبادرة، فإنهم في شغل الصلاة وفي شأنها. وفيه تَنْبِيهٌ عَلَى اجْتِنَابِ الصَّلَاةِ فِي أَمْكِنَةِ الشَّيْطَانِ كالحمام بطريق الأولى. ولما رجعوا رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم، وأقام بالمدينة إلى شوال يبعث السرايا، «منها سرية ابن حذافة الذي أمر أصحابه بدخول النار، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ في المعروف» . فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ دَخَلُوهَا دَخَلُوهَا طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي ظَنِّهِمْ، فَكَانُوا مُتَأَوِّلِينَ مُخْطِئِينَ، فَكَيْفَ يخلدون فيها؟ قيل: لما هموا بالمبادرة من غير اجتهاد منهم مع علمهم أن الله نهاهم عن قتل أنفسهم لم يعذروا. وإذا كان هذا فيمن عذب نفسه طاعة لولي الأمر المأمور بطاعته، فكيف بمن عَذَّبَ مُسْلِمًا لَا يَجُوزُ تَعْذِيبُهُ طَاعَةً لِوَلِيِّ الأمر؟ وإذا كان الصحابة المذكورون لو دخلوها ما خَرَجُوا مِنْهَا مَعَ قَصْدِهِمْ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِذَلِكَ الدُّخُولِ، فَكَيْفَ بِمَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا لا يجوز

فصل في غزوة الفتح العظيم

من الطاعة الرغبة والرهبة الدنيوية؟ وكيف بمن دخلها من إخوان الشيطان، وأوهموا الجهال أنه من ميراث إبراهيم الخليل عليه السلام؟! . [فصل في غزوة الفتح العظيم] فصل في غزوة الفتح العظيم الَّذِي أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ دِينَهُ وَرَسُولَهُ وَجُنْدَهُ وحرمه الأمين، وَهُوَ الْفَتْحُ الَّذِي اسْتَبْشَرَ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَضَرَبَتْ أَطْنَابُ عِزِّهِ عَلَى مَنَاكِبِ الْجَوْزَاءِ، وَدَخَلَ الناس به في دين الله أفواجا. خرج له صلى الله عليه وسلم سنة ثمان لعشر مضين من رمضان. ثم ذكر القصة. ثم قال: وفيها من الفقه أَنَّ أَهْلَ الْعَهْدِ إِذَا حَارَبُوا مَنْ هُمْ في ذمة الإمام صاروا حربا له بذلك، فَلَهُ أَنْ يُبَيَّتَهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، وَلَا يَحْتَاجُ أن يعلمهم على سواء، وإنما يكون ذلك إذا خاف منهم الخيانة، فإذا تحققها فلا. وفيها انتقاض عهد الجميع بذلك إذا رضوا به، كما أنهم يدخلون في العهد تبعا. وفيها جواز الصلح عشر سنين، والصواب أنه يجوز فوق ذلك للحاجة والمصلحة، وأن الإمام إِذَا سُئل مَا لَا يَجُوزُ بَذْلُهُ أَوْ لا تجب فسكت لم يكن سكوته بذلا؛ لأن أبا سفيان سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجْدِيدَ الْعَهْدِ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ، ولم يكن بهذا السكوت معاهدا له. وفيه أن الرسول لا يقتل؛ لأن أبا سفيان ممن نقض، وقتل الجاسوس المسلم، وتجريد المرأة كلها للحاجة، وأن الرجل إذا نسب المسلم بكفر أو نفاق متأولا غضبا لله لا لهواه لم يأثم، وأن الكبيرة العظيمة قد تكفر بالحسنة الكبيرة، كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] (¬1) وبالعكس كقوله تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] (¬2) وقوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] (¬3) . ثم قرر قصة حاطب، وقصة ذي الخويصرة وأمثاله، ثم قال: وَمَنْ لَهُ لُبٌّ وَعَقْلٌ يَعْلَمُ قَدْرَ هَذِهِ المسألة، وشدة الحاجة إليها، ويطلع منها على باب عظيم من معرفة الله وحكمته، وَفِيهَا جَوَازُ دُخُولِ مَكَّةَ لِلْقِتَالِ الْمُبَاحِ بِغَيْرِ إحرام، ولا خلاف أنه لا يدخل من ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 114. (¬2) سورة البقرة، الآية: 264. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 3.

أراد النسك إلا بإحرام، وما عدا ذلك فَلَا وَاجِبَ إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وفيه البيان الصريح أن مكة فتحت عنوة، وقتل سابه صلى الله عليه وسلم، وقوله: «إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس» ، وهذا التحريم قدري شرعي سبق به قدره يوم خلق الْعَالَمَ، ثُمَّ ظَهَرَ بِهِ عَلَى لِسَانِ خَلِيلِهِ إبراهيم، قوله: «لا يُسفك بها دم» هذا التحريم لسفك الدم المختص بها هو الَّذِي يُبَاحُ فِي غَيْرِهَا، وَيَحْرُمُ فِيهَا لِكَوْنِهَا حرما كتحريم عضد الشجر، وقوله: «ولا يعضد بها شجر» ، وفي لفظ: «لا يعضد شوكها» ، وهو ظَاهِرٌ جِدًّا فِي تَحْرِيمِ قَطْعِ الشَّوْكِ وَالْعَوْسَجِ، لكن جوزوا قطع اليابس لأنه بمنزلة الميتة، وفي لفظ: «ولا يخبط شوكها» صريح في تحريم قطع الورق. وقوله: «لا يختلى خلاها» لا خلاف أن المراد ما نبت بنفسه وأن الخلا: الحشيش الرطب، والاستثناء في الإذخر دليل على العموم، ولا تدخل الكمأة فيه، وما غيب في الأرض، لأنه كالثمر. وقوله: «وَلَا يُنَفَّرُ صيدُها» صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ التَّسَبُّبِ إِلَى قَتْلِ الصَّيْدِ، وَاصْطِيَادِهِ بِكُلِّ سَبَبٍ حَتَّى إِنَّهُ لَا يُنَفِّرُهُ عَنْ مَكَانِهِ، لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُحْتَرَمٌ فِي هَذَا الْمَكَانِ قَدْ سَبَقَ إِلَى مَكَانٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، فَفِي هَذَا أَنَّ الحيوان المحترم إذا سبق إلى مكانه لم يزعج عنه. وقوله: «لا يلتقط ساقطتها إلا لمن عرفها» ، وفي لفظ: «لا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لُقَطَةَ الْحَرَمِ لَا تُمْلَكُ بِحَالٍ، وَأَنَّهَا لا تلتقط إلا للتعريف، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وقال في الرواية الأخرى، والشافعي في قول: لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا لِلتَّمْلِيكِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِحِفْظِهَا لِصَاحِبِهَا، فَإِنِ الْتَقَطَهَا عَرَّفَهَا أَبَدًا حَتَّى يَأْتِيَ صاحبها، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِيهِ، وَالْمُنْشِدُ: الْمُعَرِّفُ، وَالنَّاشِدُ: الطَّالِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " إِصَاخَةُ النَّاشِدِ للمنشد "، وفي القصة أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل البيت حتى محيت الصور، ففيه دليل كراهة الصلاة في المكان الذي فيه الصور، وهو أحق بها من الحمام، لأنه إما لكونه مظنة النجاسة وإما بيت الشيطان، وأما الصور فمظنة الشرك، وغالب شرك الأمم من جهة الصور والقبور. وفي القصة جواز أمان المرأة لِلرَّجُلِ وَالرَّجُلَيْنِ كَمَا أَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أمان أم هانئ، وقتل المرتد تغلظت ردته من غير استتابة لقصة ابن أبي سرح.

فصل في غزوة حنين

[فصل في غزوة حنين] فصل في غزوة حنين قال ابن إسحاق: ولما سمعت هوازن بالفتح جمع مالك بن عوف هوازن، واجتمعت إليه ثقيف وجشم، وفيهم دريد بن الصمة شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ فِيهِ إلا رأيه، ثم ذكر القصة. ثم قال: وعد الله رسوله أَنَّهُ إِذَا فَتَحَ مَكَّةَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دين الله أفواجا، فاقتضت الحكمة أن أمسك الله قُلُوبَ هَوَازِنَ وَمَنْ تَبِعَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يجتمعوا وَيَتَأَلَّبُوا لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ لِيَظْهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَتَمَامُ إِعْزَازِهِ لرسوله لتكون غنائم شكرا لِأَهْلِ الْفَتْحِ، وَلِيُظْهِرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ وَقَهْرَهُ لِهَذِهِ الشَّوْكَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَمْ يَلْقَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَهَا، فَلَا يُقَاوِمُهُمْ بَعْدُ أَحَدٌ مِنَ العرب. وأذاقهم أولا مرارة الهزيمة مع قوتهم ليطامن رؤساء رُفِعَتْ بِالْفَتْحِ، وَلَمْ تَدْخُلْ بَلَدَهُ وَحَرَمَهُ كَمَا دخل رسوله صلى الله عليه وسلم منحنيا على فرسه حتى إن ذقنه يكاد أن تمس قربوس سرجه تواضعا لربه وخضوعا لعظمته وليبين لمن قال: لن نغلب اليوم من قلة أن النصر من عنده، فلما انكسرت قلوبهم أرسل إِلَيْهَا خِلَعُ الْجَبْرِ مَعَ بَرِيدِ النَّصْرِ ثُمَّ أَنْزَلَ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر إِنَّمَا تَفِيضُ عَلَى أَهْلِ الِانْكِسَارِ {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ - وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 - 6] (¬1) . وافتتح غزو العرب ببدر، وختمه بحنين، وقاتلت الملائكة فيهما، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحصباء فيهما، وبهما طفئت جمرة العرب، فبدر خوفتهم، وكسرت حدتهم، وهذه استفرغت قواهم. وفيها جواز استعارة سلاح المشرك، وأن من تمام التوكل استعمال الأسباب، وأن ضمان الله له العصمة لا ينافي تعاطي الأسباب، كما أن إخباره أنه مظهر دينه لا يناقض أنواع الجهاد. وشرطه ضمان العارية هل هو إخبار عن شرعه في العارية أو إخبار عن ضمانها بالأداء بعينها؟ اختلف فيه، وفيها عقر مركوب العدو إذا أعان على قتله ; وليس هنا من تعذيب الحيوان المنهي عنه، وعفوه صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 5، 6.

فصل في غزوة الطائف

عمن هَمَّ بقتله، ومسحه صدره ودعاؤه له، وجواز الانتظار بالقسمة إسلام الكفار، فيرد عليهم ما أُخذ منهم، وفي هذا دليل على إِنَّ الْغَنِيمَةَ إِنَّمَا تُمْلَكُ بِالْقِسْمَةِ لَا بِمُجَرَّدِ الاستيلاء عليها، فلو مات أحد قبلها أو إحرازها بدار الإسلام رد نصيبه إلى بقية الغانمين، وهذا مذهب أبي حنيفة، ونص أحمد أن النفل يكون من أربعة الأخماس، وهذا الإعطاء منه، فهو أولى من تنفل الثلث بعد الخمس والربع بعده. ولما عميت أبصار ذي الخويصرة وأضرابه عن هذه المصلحة والحكمة قال قائلهم: اعدل. والإمام نائب عن المسلمين يتصرف بمصالحهم وقيام الدين، فإن تعين لِلدَّفْعِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَالذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ، وَاسْتِجْلَابِ أعداء الإسلام إليه، ليأمن شرهم ساغ ذلك بل تعين، ومبنى الشريعة باحتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل مبنى مصالح الدنيا والدين على هذين. وفيها جَوَازِ بَيْعِ الرَّقِيقِ، بَلِ الْحَيَوَانِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ نسيئة ومتفاضلا، وأن الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِذَا جَعَلَا بَيْنَهُمَا أَجَلًا غَيْرَ مَحْدُودٍ جاز إذا اتفقا عليه، هو الراجح إذ لا محذور فيه ولا غرر. وقوله: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سلبه» اختلف هل هو مستحق بالشرع أو الشرط؟ على قولين هما روايتان عن أحمد، ومأخذ النزاع هل قاله بمنصب الرسالة فيكون شرعا عاما كقوله: «من زرع أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزرع شيء، وله نفقته» ، أو بمنصب الفتيا كقوله لهند بنت عتبة: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، أو بمنصب الإمامة فتكون مصلحة للأمة في ذلك الوقت، فيلزم من بعده مراعاة ذلك بحسب المصلحة. ومن هاهنا اختلفوا في كثير من المواضع كقوله: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» ، وفيها الاكتفاء في ثبوت هذه الدعوى بشاهد من غير يمين، وأنه لا يشترط التلفظ بأشهد، وفيها أن السلب لا يخمس، وأنه من أصل الغنيمة، وأنه يستحقه من لا يُسهم له من امرأة وصبي، وأنه يستحق سلب جميع من قتل وإن كثر. [فصل في غزوة الطائف] فصل في غزوة الطائف لما انهزمت ثقيف دخلوا حصنهم، وتهيئوا للقتال وسار رسول الله

، فنزل قريبا من حصنهم، فرموا المسلمين بالنبال رَمْيًا شَدِيدًا كَأَنَّهُ رِجْلُ جَرَادٍ، حَتَّى أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِجِرَاحَةٍ وَقُتِلَ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ رجلا، فارتفع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِ الطائف اليوم، فحاصرهم ثمانية عشر يوما أو بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَنَصَبَ عَلَيْهِمُ الْمَنْجَنِيقَ وَهُوَ أول من رمى به في الإسلام، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ، فَوَقَعَ النَّاسُ فِيهَا يَقْطَعُونَ. قَالَ ابن سعد: فَسَأَلُوهُ أَنْ يَدَعَهَا لِلَّهِ وللرحم، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنِّي أَدَعُهَا لِلَّهِ وللرحم فنادى مناديه: أيما عبد نزل إِلَيْنَا فَهُوَ حُرٌّ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ بَضْعَةَ عَشَرَ رجلا فيهم أبو بكرة، فدفع كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يمونه، فشق ذلك على أهل الطائف، ولم يؤذن له في فتحها، فأمر صلى الله عليه وسلم فأذن بالرحيل، فضج الناس من ذلك، وقالوا: ولم تفتح الطائف؟ فقال: اغدوا على القتال فغدوا، فأصابهم جراحات، فقال: إنا قافلون إن شاء الله فسروا بذلك، وَجَعَلُوا يَرْحَلُونَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يضحك، فلما استقلوا قَالَ: قُولُوا: آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ عَلَى ثَقِيفٍ. فقال: اللهم اهد ثقيفا وائت بهم» . ثم خرج إلى الجعرانة، ودخل منها مكة محرما بعمرة، ثم رجع إلى المدينة، ولما قدم المدينة من تبوك في رمضان وفد عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَفْدُ ثَقِيفٍ، وَكَانَ من حديثهم أنه لما انصرف عنهم اتبعه عروة بن مسعود، فأدركه قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمَ وَسَأَلَهُ أَنْ يرجع إلى قومه بالإسلام، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا يَتَحَدَّثُ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ قَاتِلُوكَ» ، وَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فِيهِمْ نَخْوَةَ الِامْتِنَاعِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ، فَقَالَ عروة: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أبصارهم، وَكَانَ فِيهِمْ كَذَلِكَ مُحَبَّبًا مُطَاعًا، فَخَرَجَ يَدْعُو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يُخَالِفُوهُ لِمَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ، فَلَمَّا أَشْرَفَ لَهُمْ عَلَى علية له ودعاهم إلى الإسلام رموه بالنبل من كل وجه، فقيل له: ما ترى في دمك؟ فقال: شهادة أكرمني الله بها، فَلَيْسَ فِيَّ إِلَّا مَا فِي الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يرتحل عنكم، وادفنوني معهم فدفن مَعَهُمْ، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ: «إِنَّ مَثَلَهُ فِي قَوْمِهِ كَمَثَلِ صَاحِبِ يس فِي قَوْمِهِ» ثُمَّ أقامت ثقيف بعد قتله أشهرا، ثم رأوا أنهم لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ العرب، فأجمعوا على أَنْ يُرْسِلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا

كما أرسلوا عروة، فكلموا عبد ياليل، فأبى وخشي أن يصنع به كما صنعوا بعروة فَقَالَ: لَسْتُ بِفَاعِلٍ حَتَّى تُرْسِلُوا مَعِيَ رجالا، فبعثوا مَعَهُ رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَحْلَافِ، وَثَلَاثَةً مِنْ بَنِي مالك منهم عثمان بن عفان بن أبي العاص، فلما دنوا من المدينة ونزلوا قَنَاةً لَقُوا بِهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَاشْتَدَّ لِيُبَشِّرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلقيه أبو بكر فقال: أقسم عليك لا تسبقني فَفَعَلَ، فَدَخَلَ أبو بكر عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فأخبره ثم خرج المغيرة إليهم، فروح الظهر معهم، فضرب عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبة في ناحية المسجد، وكان خالد بن سعيد الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان فِيمَا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إن يدع لهم اللات لا يهدمها ثلاث سنين ليسلموا بتركها من سفهائهم فأبى، فما برحوا يسألونه فأبى حتى سألوه شهرا فأبى أن يدعها شيئا مسمى، وكان فيما سألوا أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ، وَأَنْ لَا يَكْسِرُوا أوثانهم بأيديهم، فقال: «أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم عنه، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صلاة فيه» ، فلما أسلموا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَكَانَ من أحدثهم سنا إلا أنه كان أحرصهم على التفقه في الدين. فلما توجهوا إلى بلادهم بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم أبا سفيان والمغيرة لهدم الطاغية، فلما دخل المغيرة علاها بالمعول، وقام دونه بنو مغيث خشية أن يرمى أو يصاب كعروة، وخرجت نساء ثقيف حسرًا يبكين عليها، ولما هدمها أخذ مالها وكان ابن عروة وقارب بن الأسود قَدِمَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قبل الوفد حين قتل عروة يريدان فراق ثقيف فأسلما، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «توليا من شئتما قالا: لا نتولى إلا الله ورسوله. قال: وَخَالَكُمَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، فَقَالَا: وَخَالَنَا أبا سفيان، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطَّائِفِ سَأَلَ ابن عروة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يقضي دين أبيه من مال الطاغية، فقال: نعم، فقال قارب: وَعَنِ الأسود يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِهِ، وعروة والأسود أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّ الْأَسْوَدَ مَاتَ مُشْرِكًا فَقَالَ قارب بن الأسود: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَكِنْ تَصِلُ مُسْلِمًا ذَا قَرَابَةٍ - يَعْنِي نَفْسَهُ - وَإِنَّمَا الدَّيْنُ عليَّ، فقضى دين عروة والأسود من مالها» . وفيه مِنَ الْفِقْهِ جَوَازُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فإنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في آخر

رمضان، وأقام بمكة تسع عشر ليلة، ثم خرج إلى هوازن وقاتلهم وفرغ منه، ثم خرج إلى الطائف فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة أو ثمان عشر في قول ابن سعد، فإذا تأملت ذلك عرفت أَنَّ بَعْضَ مُدَّةِ الْحِصَارِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ولا بد، لكن قَدْ يُقَالُ: لَمْ يَبْتَدِئِ الْقِتَالَ إِلَّا فِي شوال، ويجاب بأنه لا فرق بين الابتداء والاستدامة. ومنها جواز غزو الرجل وأهله معه؛ لأن مَعَهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ أم سلمة وزينب، وَمِنْهَا جَوَازُ نَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى الْكُفَّارِ وَرَمْيِهِمْ بِهِ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى قَتْلِ مَنْ لَمْ يقاتل من النساء والذرية، ومنها قطع شجرهم إذا كان يضعفهم ويغيظهم. ومنها أن العبد إذا أبق وألحق بالمسلمين صار حرا، حكاه ابن المنذر إجماعا، ومنها أن الإمام إذا حاصر حصنا، ورأى المصلحة في الرحيل فعل، ومنها أنه أحرم من الجعرانة بالعمرة، وهي السنة لمن دخلها من الطائف، وأما الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْجِعِرَّانَةِ لِيُحْرِمَ مِنْهَا بعمرة فلم يستحبه أحد من أهل العلم. ومنها كمال رأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم في دعائه لثقيف بالهدى، وقد حاربوه وقتلوا جماعة من أصحابه، وقتلوا رسوله إليهم، ومنها كمال محبة الصديق له، ومحبة التقرب إليه بكل ممكن، وهذا يدل على جواز سؤال الرجل أَخَاهُ أَنْ يُؤْثِرَهُ بِقُرْبَةٍ مِنَ الْقُرَبِ، وَأَنَّهُ يجوز له ذلك، وقول من قال: لا يجوز لا يصح، وقد آثرت عائشة عمر بدفنه في بيتها، وسألها ذَلِكَ فَلَمْ تَكْرَهْ لَهُ السُّؤَالَ، وَلَا لَهَا البذل. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْقَاءُ مَوَاضِعِ الشِّرْكِ بعد القدرة على إبطالها يوما واحدا فإنها شعائر الكفر، وهي أعظم المنكرات، وَهَذَا حُكْمُ الْمَشَاهِدِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى الْقُبُورِ التي اتخذت أوثانا تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَالْأَحْجَارُ الَّتِي تُقْصَدُ لِلتَّعْظِيمِ، وَالتَّبَرُّكِ وَالنَّذْرِ وَالتَّقْبِيلِ لَا يَجُوزُ إِبْقَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الأخرى، وأعظم شركا عندها وبها وبالله الْمُسْتَعَانُ. وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَرْبَابِ هَذِهِ الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق أو تحيي أو تميت، وَإِنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ عِنْدَهَا وَبِهَا مَا يَفْعَلُهُ إخوانهم من المشركين عند طواغيتهم اليوم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم حَذو الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، وَأَخَذُوا مَأْخَذَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَغَلَبَ الشِّرْكُ عَلَى أَكْثَرِ النُّفُوسِ لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف

فصل في غزوة تبوك

مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَالسُّنَّةُ بِدْعَةً وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً، وَنَشَأَ فِي ذَلِكَ الصَّغِيرُ، وَهَرِمَ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وَطُمِسَتِ الْأَعْلَامُ، وَاشْتَدَّتْ غَرْبَةُ الْإِسْلَامِ، وَقَلَّ الْعُلَمَاءُ، وَغَلَبَ السَّفَهَاءُ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَاشْتَدَّ الْبَأْسُ، وَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ، وَلَكِنْ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعِصَابَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِالْحَقِّ قَائِمِينَ، وَلِأَهْلِ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ مُجَاهِدِينَ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ومنها جواز صرف الإمام أموال المشاهد في الجهاد والمصالح، وأن يعطيها للمقاتلة، ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين، وكذا الحكم في وقفها، وَهَذَا مِمَّا لَا يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أئمة الإسلام. [فصل في غزوة تبوك] فَصْلٌ وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَدَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ، بَعَثَ المصدقين يأخذون الصدقات من الأعراب، فبعث عيينة إلى بني تميم وَبَعَثَ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ إِلَى طَيِّئٍ وَبَنِي أَسَدٍ، وَبَعَثَ مالك بن نويرة عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي حَنْظَلَةَ، وَفَرَّقَ صَدَقَاتِ بَنِي سَعْدٍ عَلَى رَجُلَيْنِ، فَبَعَثَ الزبرقان بن بدر عَلَى نَاحِيَةٍ، وقيس بن عاصم عَلَى نَاحِيَةٍ، وَبَعَثَ الْعَلَاءَ بن الحضرمي على البحرين، وبعث عليا إلى نجران. وفيها كانت غزوة تبوك، وكانت في رجب فِي زَمَنِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَجِدْبٍ مِنَ البلاد حين طابت الثمار، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلَّا كَنَّى عَنْهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِبُعْدِ السفر وشدة الزمان، «فقال ذات يوم للجد بن قيس: هل لك فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أوتأذن لي ولا تفتني؟ فما من رجل أشد عَجَبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نساءهم أَنْ لَا أَصْبِرَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ» ، فَفِيهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} [التَّوْبَةِ: 49] (¬1) وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة: 81] (¬2) فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد، وحض أهل الغنى على النفقة، فأنفق عثمان ثلاثماثة بعير بعدتها ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 49. (¬2) سورة التوبة، الآية: 81.

وألف دينار، وجاء البكاؤون وَهُمْ سَبْعَةٌ، يَسْتَحْمِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] وَأَرْسَلَ أبا موسى أَصْحَابُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِيَحْمِلَهُمْ فَوَافَاهُ غَضْبَانَ، فَقَالَ: «وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» ، ثُمَّ أَتَاهُ إِبِلٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فقال: «مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْتُ الذي هو خير» ، وقام رجل فصلى من الليل وبكى، ثم قال: اللهم إنك أمرت بالجهاد، وَلَمْ تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِكَ مَا يَحْمِلُنِي عَلَيْهِ، وَإِنِّي أَتَصَدَّقُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِكُلِّ مَظْلِمَةٍ أَصَابَنِي فِيهَا مِنْ مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أو عرض، ثم أصبح فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ هَذِهِ الليلة؟ فلم يقم أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ؟ فَلْيَقُمْ، فَقَامَ إليه الرجل فأخبره فقال: أبشر والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ فِي الزَّكَاةِ الْمُتَقَبَّلَةِ، وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ فلم يعذرهم» . وكان ابن أُبي قَدْ عَسْكَرَ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ فِي حُلَفَائِهِ من اليهود والمنافقين، فيقال: ليس عسكره بأقل العسكرين، واستخلف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُحَمَّدَ بن مسلمة، فلما سار تخلف ابن أُبيّ ومن كان معه، «واستخلف علي بن أبي طالب على أهله، فقال: تُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غير أنه لا نبي بعدي» . وَتَخَلَّفَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وأبو خيثمة وأبو ذر، ثُمَّ لَحِقَهُ أبو خيثمة وأبو ذر، ووافاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنَ النَّاسِ، وَالْخَيْلُ عَشَرَةُ آلَافِ فَرَسٍ، وَأَقَامَ بِهَا عِشْرِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وهرقل يومئذ بحمص، ورجع أبو خيثمة إلى أهله بعد مَسِيرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أياما، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشَيْنِ لَهُمَا فِي حائط، قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرَّدَتْ له فيه مَاءً، وَهَيَّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا، فَلَمَّا دَخَلَ قام على باب العريش فنظر إلى المرأتين وَمَا صَنَعَتَا لَهُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضِّحِّ وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ، وأبو خيثمة فِي ظِلٍّ بَارِدٍ، وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ، وامرأة حسناء، ما هذا بالنصف؟ وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا، حَتَّى ألحق

برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ. وَقَدْ كَانَ أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب فِي الطَّرِيقِ يَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَرَافَقَا حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ تبوك قال له أبو خيثمة: إِنَّ لِي ذَنْبًا فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَتَخَلَّفَ عَنِّي حَتَّى آتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَعَلَ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قال الناس: هذا راكب على الطريق مضل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْ أبا خيثمة قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هو والله أبو خيثمة. فلما أناح أَقْبَلَ، فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وأخبره خبره، فقال له خيرا، ودعا له» . «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مرَّ بِالْحِجْرِ بِدِيَارِ ثَمُودَ قَالَ: لَا تشربوا من مائها، ولا تتوضئوا منها، وما كان من عجين فأعلفوه الإبل، وَلَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا وَمَعَهُ صَاحِبٌ له، ففعلوا إِلَّا أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ خَرَجَ أَحَدُهُمَا لِحَاجَتِهِ، وَخَرَجَ الْآخَرُ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِ، فخنق الذي خرج لحاجته على مذهبه، وحملت الريح طالب البعير حتى ألقته في جبلي طيئ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألم أنهكم؟ ثم دعا للذي خنق فشفي، وأهدت الآخر طَيِّئٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم المدينة» . قال الزهري: لما مر بِالْحِجْرِ سَجَّى ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَاسْتَحَثَّ رَاحِلَتَهُ ثُمَّ قَالَ: «لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا وَأَنْتُمْ بَاكُونَ خَوْفًا أَنْ يُصِيبَكُمْ ما أصابهم» وفي " الصحيح «أنه أمر بإهراق الماء، وأن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة» . قال ابن إسحاق: وأصبح الناس لا مَاءَ مَعَهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل الله إليه سحابة، فأمطرت حتى ارتووا واحتملوا حاجتهم من الماء، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الرَّجُلُ، فَيَقُولُونَ: تَخَلَّفَ فُلَانٌ، فَيَقُولُ: «دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فسيلحقُه اللَّهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ» ، وَتَلَوَّمَ عَلَى أبي ذر بعيره فأخذ متاعه على ظهره، فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في بعض منازله «قال رجل: يا رسول الله هذا رجل يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ وَحْدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْ أبا ذر، فلما تأملوا قالوا: يا رسول الله أبو ذر، فقال: رَحِمَ اللَّهُ أبا ذر، يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وحده، ويبعث وحده» ، وفي " صحيح ابن حبان " أن

أبا ذر لما حضرته الوفاة بكت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: تَمُوتُ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ عِنْدِي ثَوْبٌ يسعك كفنا أكفنك فيه، ولا يدان لي في تغسيلك، فقال: لا تَبْكِي، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِنَفَرٍ أَنَا فِيهِمْ: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ من المسلمين» ، وليس من أولئك أحد إلا مات في قرية، فأنا الرجل، والله ما كذبتُ، ولا كُذبتُ فأبصري الطريق. قالت: فكنت أشتد إِلَى الْكَثِيبِ أَتَبَصَّرُ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأُمَرِّضُهُ، فَبَيْنَا نحن كذلك إذا أَنَا بِرِجَالٍ عَلَى رِحَالِهِمْ كَأَنَّهُمُ الرَّخم تَخُبُّ بهم رواحلهم، قالت: فأشرت إليهم فأسرعوا حَتَّى وَقَفُوا عَلَيَّ فَقَالُوا: يَا أَمَةَ اللَّهِ، مَا لَكِ؟ قُلْتُ: امْرُؤٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَمُوتُ تكفنونه قالوا: من هُوَ؟ قُلْتُ: أبو ذر، قَالُوا: صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَفَدَوْهُ بِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ حَتَّى دَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَبْشِرُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وحدثهم الحديث. . . ثم قال: أما إِنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُنِي كَفَنًا لِي أَوْ لِامْرَأَتِي لَمْ أُكفَّن إِلَّا فِي ثوب هو لي أو لها، وإني أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَنْ لَا يُكَفِّنَنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ كَانَ أَمِيرًا أَوْ عَرِيفًا أَوْ بَرِيدًا أَوْ نَقِيبًا، وَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ قَارَفَ بَعْضَ مَا قَالَ إِلَّا فَتًى من الأنصار قال: يا عم أنا أكفنك في ردائي هذا أو في ثوبين في عيبتي من غزل أمي. قال: أنت تكفنني. فَكَفَّنَهُ الْأَنْصَارِيُّ وَقَامُوا عَلَيْهِ، وَدَفَنُوهُ فِي نَفَرٍ كلهم يمان. وفي " صحيح مسلم " عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل وصوله إلى تبوك: «إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي، فجئناها وقد سبقنا إِلَيْهَا رَجُلَانِ، وَالْعَيْنُ مِثْلَ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مسستم مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ قَالَا: نَعَمْ، فَسَبَّهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لَهُمَا مَا شاء الله أن يقول، ثم غرفوا بأيديهم من العين حتى اجتمع في شيء قال: وَغَسَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ حَتَّى اسْتَقَى النَّاسُ، ثُمَّ قال: يُوشِكُ يَا معاذ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَاهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا» . ولما انتهى إِلَى تَبُوكَ أَتَاهُ صَاحِبُ أَيْلَةَ، فَصَالَحَهُ وَأَعْطَاهُ

الجزية، وأتاه أهل جربا وأذرح، فصالحهم على الجزية، وَكَتَبَ لِصَاحِبِ أَيْلَةَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هذا أمنة من الله ومن مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليحنة بن رؤبة، وأهل أيلة لسفنهم وَسَيَّارَتِهِمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لَهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ، وذمة النَّبِيِّ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَهْلِ الْبَحْرِ، فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا فَإِنَّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يَمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ، وَلَا طَرِيقًا يريدونه من بر أو بحر» . ثم بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى أكيدر بن عبد الملك الكندي صاحب دومة الجندل وقال: «إنك ستجده يصيد البقر» ، فمضى خالد حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ العين في ليلة مقمرة أقام، وجاءت بقر الوحش حتى حكت بقرونها باب القصر، فخرج إليهم أكيدر في جماعة من خاصته، فتلقتهم خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخذوا أكيدر، وقتلوا أخاه حسان، فحقن رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه وصالحه على الجزية، وكان نصرانيا، وقال ابن سعد: أجاره خالد من القتل، وكان مع خالد أربعمائة وعشرون فارسا عَلَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ، فَفَعَلَ وَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفَيْ بَعِيرٍ وَثَمَانِمِائَةِ رَأْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ رمح ودرع، فعزل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفية خالصا، ثم قسم الغنيمة فأخرج الخمس، ثم قسم ما بقي على أصحابه فكان لكل واحد منهم خمس فرائض، وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتبوك بضع عشرة ليلة، ثم قفل. «وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قمت من جوف الليل وأنا في غزوة تبوك، فرأيت شعلة نار في ناحية العسكر، فأتيتها فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر، وَإِذَا عبد الله ذو البجادين قَدْ مَاتَ، وَإِذَا هُمْ قَدْ حَفَرُوا لَهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حفرته، وأبو بكر وعمر يدليان إليه وهو يقول: أدليا إِلَيَّ أَخَاكُمَا فَدَلَّيَاهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا هَيَّأَهُ لِشِقِّهِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ أَمْسَيْتُ رَاضِيًا عَنْهُ، فارض عنه، قال ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة» . وعن أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل وهو بتبوك، فقال: يا محمد أشهد جنازة معاوية بن معاوية المزني، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزل جبريل في سبعين ألفا من الملائكة، فوضع جناحه الأيمن على الجبال فتواضعت، ووضع جناحه الأيسر على الأرضين فتواضعت، حتى نظر إلى مكة والمدينة

، فصلى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجبريل والملائكة عليهم السلام، فلما فرغ قال: " يا جبريل بم بلغ معاوية هذه المنزلة "؟ قال: بقراءة قل هو الله أحد قائما وقاعدا، وراكبا وماشيا» رواه ابن السني والبيهقي. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ حَبَسَهُمُ العذر» . وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى إذا كان ببعض الطريق مكر به بعض المنافقين، فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق، فلما بلغها أرادوا سلوكها معه، فأخبر خبرهم، فقال للناس: «من شاء أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم» ، وأخذ العقبة وأخذ الناس بطن الوادي إلا أولئك النَّفَرُ الَّذِينَ هَمُّوا بِالْمَكْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعُوا بِذَلِكَ اسْتَعَدُّوا وتلثموا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَمَشَيَا مَعَهُ، وَأَمَرَ عمارا أَنْ يَأْخُذَ بِزِمَامِ النَّاقَةِ وأمر حذيفة أن يسوقها، فبينا هم يسوقون إِذْ سَمِعُوا وَكْزَةَ الْقَوْمِ مِنْ وَرَائِهِمْ قَدْ غَشَوْهُ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فأمر حذيفة أن يردهم فأبصر حذيفة غَضَبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فرجع ومعه محجن، فضرب به وجوه رواحلهم، وأبصرهم متلثمين، ولا يشعر إلا أنه فعل المسافر، فأرعبهم الله حِينَ أَبْصَرُوا حذيفة، وَظَنُّوا أَنَّ مَكْرَهُمْ قَدْ ظهر عليه، فأسرعوا حتى خالطوا النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحذيفة: «هل عرفت منهم أحدا "؟ قال: عرفت راحلة فلان وفلان، وكانت ظلمة، فقال: " هل علمت شأنهم "؟ قال: لا. قَالَ: " فَإِنَّهُمْ مَكَرُوا لِيَسِيرُوا مَعِي، حَتَّى إِذَا طلعت في العقبة طرحوني " فقال له حذيفة: ألا تضرب أعناقهم؟ قال: " أكره أن يتحدث الناس إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَضَعَ يَدَهُ فِي أَصْحَابِهِ، فسماهم لهما، وقال: اكتماهم» . وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ حَتَّى نَزَلَ بِذِي أَوَانَ وَبَيْنَهَا وبين المدينة ساعة، وكان أهل مَسْجِدِ الضِّرَارِ أَتَوْهُ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ إِلَى تَبُوكَ، فقالوا: إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والليلة المطيرة، ونحب أن نصلي فيه قال: «إني على جناح سفر، وإذا قدمنا إن شاء الله أتيناكم» ، فجاء خَبَرُ الْمَسْجِدِ مِنَ السَّمَاءِ، فَدَعَا مالك

فصل في الإشارة إلى ما تضمنته هذه القصة من الفوائد

بن الدخشم ومعن بن عدي فَقَالَ: «انْطَلِقَا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ، فاهدماه وحرقاه بالنار» ، فخرجا مسرعين، حتى دخلاه وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرق عنه أهله، فأنزل الله سبحانه فِيهِ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107] (¬1) فلما دنا مِنَ الْمَدِينَةِ خَرَجَ النَّاسُ لِتَلَقِّيهِ، وَخَرَجَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْوَلَائِدُ يَقُلْنَ: طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا ... مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا ... مَا دَعَا لله داع وبعضهم يروي هذا عند مقدمه مهاجرا وهو وَهْم (¬2) ؛ لأن ثنيات الوداع من ناحية الشَّامِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: «هَذِهِ طابة» ، وقال «هذا أُحد جبل يحبنا ونحبه» فلما دخل بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، وكانت تلك عادته صلى الله عليه وسلم، ثم جلس للناس، فجاءه المخلفون يعتذرون إليه، ويحلفون له، فقبل منهم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى خالقهم، وفيهم نزل قوله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة: 94] (¬3) الآية وما بعدها. [فصل في الإشارة إلى ما تضمنته هذه القصة من الفوائد] فصل في الإشارة إلى ما تضمنته هذه القصة من الفوائد فَمِنْهَا جَوَازُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِنْ كَانَ خُرُوجُهُ فِي رَجَبٍ مَحْفُوظًا عَلَى مَا قاله ابن إسحاق، ومنها إعلام الإمام القوم بالأمر الذي يضرهم إخفاؤه، وستره عنهم لِلْمَصْلَحَةِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا اسْتَنْفَرَ الْجَيْشَ لزم لهم النَّفِيرُ، وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ التَّخَلُّفُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، ولا يشترط في الوجوب تعيين كل واحد منهم بعينه، وهذا أحد المواضع الثلاثة التي يصير الجهاد فيها فرض عين، والثاني: إذا حاصر الْعَدُوُّ الْبَلَدَ، وَالثَّالِثُ: إِذَا حَضَرَ بَيْنَ الصَّفين. وَمِنْهَا وُجُوبُ الْجِهَادِ بِالْمَالِ كَمَا يَجِبُ بِالنَّفْسِ، وهذا هو الصواب الذي لا ريب ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 108. (¬2) وإصرار البعض على أنه عند الهجرة تعنت بلا دليل. (¬3) سورة التوبة، الآية: 94 - 98.

فيه، فإن الأمر بالجهاد بالمال شقين: الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي الْقُرْآنِ وَقَرِينُهُ، بَلْ جَاءَ مُقَدَّمًا عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إِلَّا مَوْضِعًا وَاحِدًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنه آكد من الجهاد بالنفس، وَإِذَا وَجَبَ الْحَجُّ بِالْمَالِ عَلَى الْعَاجِزِ بِالْبَدَنِ، فوجوب الجهاد بالمال أولى. ومنها ما برز به عثمان من النفقة العظيمة، وَمِنْهَا أَنَّ الْعَاجِزَ بِمَالِهِ لَا يُعذر حَتَّى يبذل جهده، فإنه سبحانه إنما نفى الحرج عن العاجزين بعد أن أتوا رسوله ليحملهم، ثم رجعوا باكين. وَمِنْهَا اسْتِخْلَافُ الْإِمَامِ إِذَا سَافَرَ رَجُلًا مِنَ الرعية، ويكون مِنَ الْمُجَاهِدِينَ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ لَهُمْ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي بِآبَارِ ثَمُودَ لَا يجوز شربه، ولا الطهارة به، ولا الطبخ به ولا العجين بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْقَى الْبَهَائِمَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ بِئْرِ النَّاقَةِ، وَكَانَتْ مَعْلُومَةً بَاقِيَةً إِلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ عِلْمُ النَّاسِ بِهَا قَرْنًا بعد قرن إلى وقتنا هذا، فلا ترد الركبان بئرا غيرها. وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ مَرَّ بِدِيَارِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ والمعذبين لا ينبغي لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا، وَلَا يُقِيمَ بِهَا بَلْ يُسْرِعُ السَّيْرَ، وَيَتَقَنَّعُ بِثَوْبِهِ حَتَّى يُجَاوِزَهَا، وَلَا يدخل عليهم إلا أن يكون باكيا معتبرا. ومنها أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ جَاءَ جَمْعُ التَّقْدِيمِ في هذه القصة في حديث معاذ، وذكرنا علته، ولم يجئ عنه جمع التقديم فِي سَفَرٍ إِلَّا هَذَا، وَصَحَّ عَنْهُ جَمْعُ التقديم بعرفة قبل دخوله عرفة. ومنها جواز التيمم بالرمل، فإنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه قطعوا تلك الرمال، ولم يحملوا معهم ترابا، وتلك مفاوز معطشة، وشكوا فِيهَا الْعَطَشَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم. ومنها أنه أقام بتبوك بضعة عشر يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَقُلْ لِلْأُمَّةِ: لَا يقصر رجل إذا أقام أكثر من ذلك، ولكن انقضت إِقَامَتُهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَهَذِهِ الْإِقَامَةُ فِي حَالِ السَّفَرِ لَا تَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ السَّفَرِ سَوَاءٌ طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَوْطِنٍ ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع، قال ابن المنذر: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقْصُرَ مَا لَمْ يُجْمِعْ إِقَامَةً، وَإِنْ أَتَى عَلَيْهِ سنون. وَمِنْهَا جَوَازُ بَلِ اسْتِحْبَابُ حِنْثِ الْحَالِفِ فِي يمينه إذا رأى غيرها خيرا منها، وإن شاء قدّم الكفارة، وإن شاء أخرها. وَمِنْهَا انْعِقَادُ الْيَمِينِ فِي حَالِ الْغَضَبِ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ بِصَاحِبِهِ إِلَى حَدٍّ لَا يَعْلَمُ مَعَهُ مَا يَقُولُ، وَكَذَلِكَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ، وَتَصِحُّ عُقُودُهُ، فَلَوْ بَلَغَ

بِهِ الْغَضَبُ إِلَى حَدِّ الْإِغْلَاقِ لَمْ تَنْعَقِدْ يمينه، ولا طلاقه. ومنها قوله: «مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ» قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَبْرِيُّ، وَلَا مُتَعَلِّقَ لَهُ بِهِ، وإنما هو مِثْلُ قَوْلِهِ: «وَاللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا شَيْئًا، وَلَا أَمْنَعُ، وَإِنَّمَا أَنَا قاسمٌ أضعُ حَيْثُ أُمرت» ، فَإِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِالْأَمْرِ، فَإِذَا أَمَرَهُ رَبُّهُ بِشَيْءٍ نَفَّذَهُ، فَاللَّهُ هُوَ الْمُعْطِي وَالْمَانِعُ وَالْحَامِلُ، وَالرَّسُولُ مُنَفِّذٌ لِمَا أمر به. ومنها أن أهل العهد إذا أحدث أحدهم حدثا فيه ضرر على الإسلام وأهله، انتقض عهده في ماله ونفسه، وإذا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الْإِمَامُ فَدَمُهُ وَمَالُهُ هَدْرٌ، وهو لمن أخذه كما في صلح أهل أيلة. وَمِنْهَا جَوَازُ الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ كَمَا دَفَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذا البجادين إذا كان لضرورة أو مصلحة راجحة. وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمَتْ غَنِيمَةً أَوْ أَسَرَتْ أَسِيرًا أَوْ فَتَحَتْ حِصْنًا، كَانَ مَا حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ لَهَا بَعْدَ الخمس، فإنه صلى الله عليه وسلم قسم غنيمة دومة الجندل بين السرية بخلاف ما إذا خرجت السرية من الجيش في حال الغزو، وأصابت ذلك بقوة الجيش، فإن ما أصابوه يَكُونُ غَنِيمَةً لِلْجَمِيعِ بَعْدَ الْخَمْسِ وَالنَّفْلِ، وَهَذَا كَانَ هَدْيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ» فَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ هِيَ بقلوبهم وهممهم، وَهَذَا مِنَ الْجِهَادِ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ أَحَدُ مَرَاتِبِهِ الأربع، وهي القلب والسان والمال والبدن. ومنها تحريق أمكنة المعصية كما حرق مسجد الضرار، وكل مكان مثله فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم أو تحريق، وَإِمَّا بِتَغْيِيرِ صُورَتِهِ وَإِخْرَاجِهِ عَمَّا وُضع لَهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، فَمَشَاهِدُ الشرك أحق وأوجب، وكذا بيوت الخمارين، وأرباب المنكرات، وقد حرق عمر قَرْيَةً بِكَمَالِهَا يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ، وَحَرَقَ حَانُوتَ رويشد الثقفي وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا، وَحَرَقَ قَصْرَ سعد لما احتجب فيه عن الرعية، وهمَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيقِ بُيُوتِ تَارِكِي الجمعة والجماعة، وإنما منعه من فيها ممن لا تجب عليهم. ومنها أن الوقوف لا يصح على غير قربة، وعلى هذا فيُهدم المسجد الذي بُنِيَ عَلَى قَبْرٍ كَمَا يُنْبَشُ الْمَيِّتُ إِذَا دفن في المسجد، فَلَا يَجْتَمِعُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مَسْجِدٌ وَقَبْرٌ، بَلْ أَيُّهُمَا طَرَأَ عَلَى الْآخَرِ مَنَعَ مِنْهُ، وَكَانَ الْحُكْمُ لِلسَّابِقِ، فَلَوْ وُضِعَا مَعًا لَمْ يَجُزْ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْوَقْفُ وَلَا يَجُوزُ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ

فصل في حديث الثلاثة الذين خلفوا

فِي هَذَا الْمَسْجِدِ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَلَعْنِهِ مَنِ اتخذ القبر مسجدا، فَهَذَا دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رسوله، وَغُرْبَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا تَرَى. [فصل في حديث الثلاثة الذين خُلِّفُوا] فصل في حديث الثلاثة الذين خُلِّفُوا (¬1) قال بعض الشارحين: أول أسمائهم مكة، وآخر أسمائهم عكة. روينا في " الصحيحين " واللفظ للبخاري رحمه الله تعالى عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: «لم أتخلف عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك غير أني تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلف عنها، إنما خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد عير قريش، حتى جمع الله تعالى بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، كان من خبري حين تخلفت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة. وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا، وعدوا كثيرا، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد بذلك الديوان -. قال كعب رضي الله عنه: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى ما لم ينزل فيه وحي الله تعالى، وغزا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصعر، وتجهز رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُسْلِمُونَ معه، فطفقت أعدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه إذا أردت، فلم يزل يتمادى بي حتى استمر بالناس الجِدّ. فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غاديا، والمسلمون معه، ولم أقضِ من جهازي شيئا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقهم. فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، ولم أقض شيئا، فلم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل ¬

(¬1) وهم كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع.

فأدركهم، فليتني فعلت، فلم يقدّر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بَعْدَ خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق، أو رجلا ممن عذر الله تعالى من الضعفاء، ولم يذكرني رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: " ما فعل كعب بن مالك "؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه بُرده والنظر في عطفيه، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ما علمنا عليه إلا خيرا. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب، فأقول: بم أخرج من سخطه غدا، وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما راح عني الباطل حتى عرفت أني لم أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه. وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك، جاءه الْمُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم علانيتهم، واستغفر لهم، ووكّل سرائرهم إلى الله تعالى، فجئته، فلما سلّمت عليه تبسَّمَ تبسُّم المغضب ثم قال: " تعال " فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: " مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظهرك " فقلت: بلى إني والله يا رسول الله لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لرأيت أني أَخْرُجَ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، ولكني والله إني لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عليَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لَأَرْجُو فيه عفو الله تعالى، لا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذر، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا هَذَا، فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ "، فَقُمْتُ، وَثَارَ رجال من بني سلمة، فاتبعوني فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون، فقد

كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ استغفارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم لك. فوالله ما زالوا يؤنبونني حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ، فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قلت: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ، فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي. فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صالحين قد شهدا بدرا رضي الله عنهما ففيهما أُسْوَةٌ فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِيَ في نفسي الأرض فما هي التي أَعْرِفُ. فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أنا فكنت أشبَّ القوم، وأجلدهم، وكنت أَخْرُجُ فأشهدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأُسَلِّمُ عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، وأقول فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بردِّ السَّلَامِ عليَّ أَمْ لَا، ثُمَّ أُصلي قَرِيبًا مِنْهُ، فأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ إلى صَلَاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تسورتُ جِدَارَ حَائِطِ أبي قتادة رضي الله عنه، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا ردَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ له: يَا أبا قتادة: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فسكت، فعدت فناشدته، فقال رضي الله عنه: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تسورتُ الجدار، فبينما أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ نبط أهل الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهِ: أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك جفاك، ولم يجعلك الله تعالى بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك. فقلتُ لما قرأته: وهذا أيضا من البلايا فتيمّمتُ بها التنور، فسجرته بها حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي، إِذَا رسولُ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتيني فيقول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ: أُطلقها أَمْ ماذا أفعل؟ فقال: لا بل اعتزلها، ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيَّ بمثل ذلك،

فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يقضي الله في هذا الأمر. قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هلال بن أمية شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَهَلْ تَكْرَهُ أن أخدمه؟ قال: " لا ولكن لا يقربنك "، قالت: والله ما به حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي مذ كان إلى يومه هذا، فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِكَ فقد أَذِنَ لِامْرَأَةِ هلال بن أمية أَنْ تَخْدُمَهُ، فقلت: والله لا استأذنت فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب. فلبثت بذلك عَشْرَ لَيَالٍ حَتَّى كَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلَامِنَا، فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الفجر صبْح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا ; فبينما أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عز وجل، قَدْ ضَاقَتْ عليَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عليَّ الْأَرْضُ بما رحبت، سمعت صارخا أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يقول: يا كعب بن مالك أبشر. قال: فخررت ساجدا، وعلمت أن قد جاء فرج، وَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتوبة الله تعالى علينا حين صلى صلاة الْفَجْرَ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَل صاحبيَّ مبشرون، وركض رجل إلي فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الجبل، فكان الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ. فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سمعت صوته يبشِّرني، نزعت له ثوبَيَّ، فكسوتهما إياه ببشارته والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لتهنك توبة الله تعالى عليك يا كعب. حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ الله رضي الله عنه يُهَرْوِلُ، حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ إليَّ رجل من المهاجرين غيره - وكان كعب لا ينساها لطلحة - فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: " أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مرَّ عَلَيْكَ مذُ ولدتك أُمك " قال: قلت: أَمِنْك يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: " لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ توبتي

أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ " قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِيَ الَّذِي بِخَيْبَرَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدِّث إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ، فَوَاللَّهِ مَا أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث أحسن مما أبلاني، وما تعمدت مذ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا وَإِنِّي لَأَرْجُوُ أَنْ يحفظني الله تعالى فيما بقيت، وأنزل اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ - وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 117 - 119] (¬1) . فوالله ما أنعم الله عليَّ من نِعْمَةً قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تعالى قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ ما قال لأحد فقال الله عز وجل: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ - يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95 - 96] (¬2) » . اعلم وفقنا الله وإياك لما يرضيه من العمل أن في حديث كعب هذا فوائد: منها: استحباب رد غيبة المسلم كما فعل معاذ رضي الله عنه. ومنها: ملازمة الصدق، وإن شق فعاقبته إلى خير. ومنها: استحباب ركعتين في المسجد عند القدوم من السفر قبل كل شيء. ومنها: أنه يستحب للقادم من سفر إذا كان مقصودا أن يجلس لمن يقصده في موضع بارز كالمسجد ونحوه. ومنها: جريان أحكام الناس على الظاهر، والله يتولى السرائر. ومنها: هجران أهل البدع والمعاصي الظاهرة، وترك السلام عليهم تحقيرا لهم وزجرا. ومنها: استحباب بكائه على نفسه إذا ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 117 - 119. (¬2) سورة التوبة، الآية 95، 96.

بدرت منه معصية، وحق له أن يبكي. ومنها: جواز إحراق ورقة فيها ذكر الله تعالى لمصلحة، كما فعل كعب رضي الله عنه. ومنها: أن كنايات الطلاق كقوله: الحقي بأهلك. لا يقع إلا بالنية. ومنها: جواز خدمة المرأة زوجها من غير إلزام ووجوب. ومنها: استحباب سجود الشكر عند حصول نعمة، أو اندفاع نقمة ظاهرة، والتصدق عند ذلك. ومنها: استحباب التبشير والتهنئة، وإكرام المبشر بكسوة ونحوها. ومنها: استحباب القيام للوارد إكراما له إذا كان من أهل الفضل بأي نوع كان، وجواز سرور القوم بذلك كما سر كعب بقيام طلحة رضي الله عنهما، وليس بمعارض بحديث: «من سره أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النار» ؛ لأن هذا الوعيد للمتكبرين ومن يغضب إذا لم يقم له، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقوم لفاطمة رضي الله عنها سرورا بها، وتقوم له كرامة، وكذلك كل قيام أثمر الحب في الله تعالى، والسرور لأخيك بنعمة الله، والبر لمن يتوجه بره، والأعمال بالنيات، والله أعلم. ومنها: مدح الإنسان نفسه بما هو فيه إذا لم يكن فخرا. ومنها: أن العقبة كانت من أفضل المشاهد. ومنها: أن ديوان الجيش لم يكن في حياته صلى الله عليه وسلم، وأول من دوّن الدواوين عمر. ومنها: أن الرجل إذا أتيحت له فرصة القربة فالحزم كل الحزم في انتهازها، فإن العزائم سريعة الانتقاض قلما تثبت، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُعَاقِبُ مَنْ فَتَحَ لَهُ بَابًا إلى الخير فلم ينتهزه بأن يحول بينه وبين قلبه وإرادته. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] (¬1) وصرح سبحانه بهذا في قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} [الأنعام: 110] (¬2) وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصَّفِّ: 5] (¬3) وَقَالَ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التَّوْبَةِ: 115] (¬4) وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لم يتخلف عنه صلى الله عليه وسلم إلا من هو مَغْمُوصٌ عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ أَوْ مَنْ خَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ومنها: ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 24. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 110. (¬3) سورة الصف، الآية: 5. (¬4) سورة التوبة، الآية: 115.

أن الإمام لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُهْمِلَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ بَلْ يُذَكِّرُهُ لِيُرَاجِعَ الطاعة، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ما فعل كعب "؟ ولم يذكر سواه استصلاحا له وإهمالا للمنافقين. ومنها: جواز الطعن في رجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن ذَبًّا عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَمِنْ هَذَا طَعْنُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِيمَنْ طَعَنُوا فِيهِ مِنَ الرُّوَاةِ، وطعن أهل السنة في أهل البدع. ومنها: جواز الرد على هذا الطَّاعِنِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الرَّادِّ أَنَّهُ وَهَم وغلط كما رد معاذ ولم ينكر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. ومنها: أن السنة للقادم من سفر أَنْ يَدْخُلَ الْبَلَدَ عَلَى وُضُوءٍ، وَأَنْ يَبْدَأَ ببيت الله قبل بيته فيصلي ركعتين. ومنها: ترك الإمام رَدَّ السَّلَامِ عَلَى مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا تَأْدِيبًا له وزجرا لغيره. وَمِنْهَا: مُعَاتَبَةُ الْإِمَامِ وَالْمُطَاعِ أصحابَه وَمَنْ يَعِزُّ عليه، فإنه عاتب الثلاثة دون غيرهم. وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ مَدْحِ عِتَابِ الْأَحِبَّةِ وَاسْتِلْذَاذِهِ وَالسُّرُورِ بِهِ، فَكَيْفَ بِعِتَابِ أَحَبِّ الْخَلْقِ على الإطلاق إلى المعتوب عليه، فلله مَا كَانَ أَحْلَى ذَلِكَ الْعِتَابَ وَمَا أَعْظَمَ ثَمَرَتَهُ وَأَجَلَّ فَائِدَتَهُ وَلِلَّهِ مَا نَالَ بِهِ الثلاثة من أنواع المسرات، وحلاوة الرضى وَخِلَعِ الْقَبُولِ. وَمِنْهَا تَوْفِيقُ اللَّهِ لكعب وَصَاحِبَيْهِ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الصِّدْقِ، وَلَمْ يَخْذُلْهُمْ حَتَّى كَذَبُوا وَاعْتَذَرُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَصَلُحَتْ عَاجِلَتُهُمْ، وفسدت عاقبتهم وَالصَّادِقُونَ تَعِبُوا فِي الْعَاجِلَةِ بَعْضَ التَّعَبِ، فَأَعْقَبَهُمْ صلاح العاقبة، وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة، فمرارات المبادئ حلاوات في العواقب، وحلاوات المبادئ مرارات في العواقب. وفي نهيه صلى الله عليه وسلم عن كلامهم بَيْنِ سَائِرِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِمْ وَكَذِبِ الْبَاقِينَ، فَأَرَادَ هَجْرَ الصَّادِقِينَ وَتَأْدِيبَهُمْ على هذا الذنب. وأما المنافقون فهذا الدواء لا يعمل في مرضهم، وَهَكَذَا يَفْعَلُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ فِي عُقُوبَاتِ جَرَائِمِهِمْ، فَيُؤَدِّبُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُحِبُّهُ وَهُوَ كَرِيمٌ عِنْدَهُ بِأَدْنَى زَلَّةٍ وَهَفْوَةٍ، فَلَا يَزَالُ مُسْتَيْقِظًا حَذِرًا، وَأَمَّا مَنْ سَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ وَهَانَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعَاصِيهِ، فكلما أحدث ذنبا أحدث له نعمة. وقوله: " حتى تسوَّرتُ حَائِطِ أبي قتادة " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ الرجل دار صاحبه وجاره، إذا علم رضاه بلا إذن، وفي أمره لهم باعتزال النساء كالبشارة بالفرج من جهة كلامه لهم، ومن أمره لهم بالاعتزال. وفي قوله: " الحقي بأهلك " دليل على

أنه لا يَقَعْ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ وَأَمْثَالِهَا طَلَاقٌ مَا لَمْ ينوه، وفي سجوده لما سمع صوت البشير دليل أن تلك عادة الصحابة، وهو استحباب سُجُودُ الشُّكْرِ عِنْدَ النِّعَمِ الْمُتَجَدِّدَةِ وَالنِّقَمِ الْمُنْدَفِعَةِ، وقد سجد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَشَّرَهُ جِبْرِيلُ أن مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، وَسَجَدَ حِينَ شَفَعَ لِأُمَّتِهِ، فَشَفَّعَهُ الله فيهم ثلاث مرات، وسجد أبو بكر لما جاءه قتل مسيلمة، وسجد علي حين وجد ذا الثدية مقتولا في الخوارج، وَفِي اسْتِبَاقِ صَاحِبِ الْفَرَسِ وَالرَّاقِي عَلَى سِلَعٍ دَلِيلٌ عَلَى حِرْصِ الْقَوْمِ عَلَى الْخَيْرِ، وَاسْتِبَاقِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَنَافُسِهِمْ فِي مَسَرَّةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَفِي نزع كعب ثوبيه وإعطائهما دليل على أن إعطاء المبشِّر من مكارم الأخلاق، وجواز إعطاء البشير جميع ثيابه، واستحباب تَهْنِئَةِ مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دِينِيَّةٌ، وَالْقِيَامِ إليه، وَمُصَافَحَتِهِ فَهَذِهِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهُوَ جَائِزٌ لِمَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ. وَأَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يقال: لِيَهْنِكَ مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ وَنَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ، فَإِنَّ فِيهِ تَوْلِيَةَ النِّعْمَةِ رَبَّهَا، وَالدُّعَاءَ لِمَنْ نَالَهَا بِالتَّهَنِّي بِهَا. وفيه أن خير أيام العبد على الإطلاق يوم توبته، وقبول الله لها، وفي سروره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَفَرَحِهِ بِهِ وَاسْتِنَارَةِ وَجْهِهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ في قلبه من كمال شفقته على الأمة. وفيه اسْتِحْبَابِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ التَّوْبَةِ بِمَا قُدِرَ عَلَيْهِ من المال، وفي قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» دليل على أن من نذر ماله كله يلزمه إخراج جميعه، وفيه عظم مقدار الصدق، وتعليق سعادة الدارين به، وقد قسم سبحانه الخلق قسمين سعداء، وهم أهل الصدق والتصديق، وأشقياء وهم أَهْلَ الْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ مُطَّرِدٌ منعكس. وقوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117] (¬1) هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُعَرِّفُ الْعَبْدَ قَدْرَ التوبة، وأنها غاية كمال المؤمن، فإن الله سبحانه وتعالى أَعْطَاهُمْ هَذَا الْكَمَالَ بَعْدَ آخِرِ الْغَزَوَاتِ بَعْدَ أن قضوا نحبهم، وبذلوا أنفسهم وَأَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ لِلَّهِ، وَكَانَ غَايَةَ أَمْرِهِمْ أَنْ تَابَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ تَوْبَةِ كَعْبٍ خَيْرَ يَوْمٍ مر ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 117.

فصل في حجة أبي بكر رضي الله عنه

عَلَيْهِ مُنْذُ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَا يَعْرِفُ هَذَا حَقَّ مَعْرِفَتِهِ إِلَّا مَنْ عرف الله وحقوقه عَلَيْهِ وَعَرَفَ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ، وَعَرَفَ نَفْسَهُ وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالَهَا، وَأَنَّ الَّذِي قَامَ بِهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِّ رَبِّهِ عَلَيْهِ كَقَطْرَةٍ فِي بَحْرٍ هَذَا إِذَا سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يسع عباده غير عفوه ومغفرته، وقرر توبته عليهم مرتين فتاب عليهم أولا بالتوفيق لها، وثانيا بقبولها، فالخيرات كلها منه وبه وله. [فصل في حجة أبي بكر رضي الله عنه] فصل في حجة أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ مَقْدِمِهِ من تبوك، خرج بثلاثمائة رجل من المسلمين، وَبَعَثَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِشْرِينَ بَدَنَةً قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا بِيَدِهِ عَلَيْهَا ناحية ابن جندب الأسلمي، وَسَاقَ أبو بكر خَمْسَ بَدَنَاتٍ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَنَزَلَتْ (بَرَاءَةٌ) فِي نقضِ ما كان بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَهْدِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فخرج علي عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فلحق أبا بكر، فلما رآه قال: أمير أو مأمور؟ قال: بل مأمور بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأُ بَرَاءَةٌ عَلَى النَّاسِ، وَأَنْبِذُ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَأَقَامَ أبو بكر لِلنَّاسِ حجتهم حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ قَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ عِنْدَ الجمرة بالذي أمره رسول الله. أخرج الحميدي في " مسنده " من طريق زيد بن نقيع قَالَ: سَأَلْنَا عليا: بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْتَ فِي الْحَجَّةِ؟ قَالَ: بُعِثْتُ بِأَرْبَعٍ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، ولا يجتمع مسلم وكافر في البيت الْحَرَامِ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ، فعهده إلى مدته. قال ابن إسحاق: ولما فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف فبايعته، ضربت إليه وفود العرب آباط الإبل من كل وجه، فذكر وفد بني تميم، ووفد طيء، ووفد بني عامر، ووفد عبد القيس، ووفد بني حنيفة، ووفد كندة، ووفد الأشعريين، ووفد الأزد، ووفد أهل نجران، ووفد همدان، ووفد نصارى نجران وغيرهم، ثم ذكر هديه في العلاج بالأدوية الروحانية المفردة والمركب منها، ومن الأدوية الطبيعية، فقال: روى مسلم عن ابن عباس

مَرْفُوعًا: «الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» وَفِي " صَحِيحِهِ " أَيْضًا عَنْ أنس أن «رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من العين والحمة والنملة» . وروى مالك عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمامة بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: «رَأَى عَامِرُ بْنُ ربيعة سهلا يَغْتَسِلُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جلد مخبّأة، فلُبِط سهل، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامرا، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَلَا بَرَّكْتَ؟ اغْتَسِلْ لَهُ فغسل عامر وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ، وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ صَبَّ عَلَيْهِ فراح سهل مع الناس» . وَذَكَرَ عبد الرزاق، عَنْ معمر، عَنِ ابن طاوس، عن أبيه مرفوعا. «العين حق، وَإِذَا اسْتُغْسِلَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَغْتَسِلْ» وَوَصْلُهُ صَحِيحٌ. قَالَ الترمذي: يُؤْمَرُ الرَّجُلُ الْعَائِنُ بِقَدَحٍ، فَيُدْخِلُ كَفَّهُ فِيهِ، فَيَتَمَضْمَضُ، ثُمَّ يَمُجُّهُ فِي الْقَدَحِ، وَيَغْسِلُ وَجْهَهُ في القدح، ثم يغسل يَدَهُ الْيُسْرَى، فَيَصُبُّ عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى، فَيَصُبُّ عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يَغْسِلُ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ، وَلَا يُوضَعُ الْقَدَحُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يُصَبُّ عَلَى رأس المصاب مِنْ خَلْفِهِ صَبَّةً وَاحِدَةً. وَالْعَيْنُ عَيْنَانِ: عَيْنٌ إِنْسِيَّةٌ، وَعَيْنٌ جِنِّيَّةٌ، فَقَدْ صَحَّ عَنْ أم سلمة «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ، فَقَالَ: اسْتَرْقُوا لَهَا، فإن بها النظرة» قال البغوي: سفعة، أي: نظرة مِنَ الْجِنِّ يَقُولُ: بِهَا عَيْنٌ أَصَابَتْهَا مِنْ نظر الجن، أنفذ من أسنّةِ الرماح. وكان صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجَانِّ، وَمِنْ عَيْنِ الْإِنْسَانِ، فَأَبْطَلَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ قَلَّ نَصِيبُهُمْ مِنَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ أمر العين، وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم، لَا تَدْفَعُ أَمْرَ الْعَيْنِ وَلَا تُنْكِرُهُ، وَإِنِ اختلفوا في سببه وجهة تأثير العين. وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ قُوًى وَطَبَائِعَ مُخْتَلِفَةً، وَجَعَلَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا خَوَاصَّ وَكَيْفِيَّاتٍ مُؤَثِّرَةً، وَلَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ إِنْكَارُ تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجْسَامِ، فَإِنَّهُ أمر مشاهد محسوس. وليست العين هِيَ الْفَاعِلَةَ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ لِلرُّوحِ، وَالْأَرْوَاحُ مُخْتَلِفَةٌ في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها ولشدة ارتباطها بالعين نسب الفعل إليها، وروح الْحَاسِدِ مُؤْذِيَةٌ لِلْمَحْسُودِ أَذًى بيِّنًا، وَلِهَذَا أَمَرَ الله رَسُولَهُ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِهِ مِنْ شَرِّهِ، وَتَأْثِيرُ الْحَاسِدِ فِي أَذَى الْمَحْسُودِ أَمْرٌ

لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا مَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ حقيقة الإنسانية، وَأَشْبَهُ الْأَشْيَاءِ بِهَذَا الْأَفْعَى، فَإِنَّ السُّمَّ كَامِنٌ بالقوة فيها، فإذا قابلت عدوها، انبعث منها قوة غضبيّة، وتكيفت نفسها بِكَيْفِيَّةٍ خَبِيثَةٍ مُؤْذِيَةٍ، فَمِنْهَا مَا تَشْتَدُّ كَيْفِيَّتُهَا وَتَقْوَى حَتَّى تُؤَثِّرَ فِي إِسْقَاطِ الْجَنِينِ، وَمِنْهَا ما يؤثر في طمس البصر، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَبْتَرِ وَذِي الطُّفْيَتَيْنِ مِنَ الْحَيَّاتِ: «إِنَّهُمَا يَلْتَمِسَانِ البصر، ويسقطان الحبل» وَالتَّأْثِيرُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى الِاتِّصَالَاتِ الْجِسْمِيَّةِ، كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِالطَّبِيعَةِ وَالشَّرِيعَةِ، بَلِ التَّأْثِيرُ يَكُونُ تَارَةً بِالِاتِّصَالِ، وَتَارَةً بِالْمُقَابَلَةِ، وَتَارَةً بِالرُّؤْيَةِ، وَتَارَةً بِتَوَجُّهِ الرُّوحِ نَحْوَ مَنْ يؤثر فيها، وتارة بالأدعية والرقى والتعويذات، وَتَارَةً بِالْوَهْمِ وَالتَّخَيُّلِ، وَنَفْسُ الْعَائِنِ لَا يَتَوَقَّفُ تَأْثِيرُهَا عَلَى الرُّؤْيَةِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَعْمَى، فيوصف له الشيء فيؤثر فيه وإن لم يره، وكثير منهم يُؤَثِّرُ فِي الْمَعِينِ بِالْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، فَكُلُّ عَائِنٍ حَاسِدٌ، وَلَيْسَ كُلُّ حَاسِدٍ عَائِنًا، فلما كان الحاسد أعم كَانَتِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ اسْتِعَاذَةً مِنَ الْعَائِنِ، وَهِيَ سِهَامٌ تَخْرُجُ مِنْ نَفْسِ الْحَاسِدِ وَالْعَائِنِ نَحْوَ الْمَحْسُودِ وَالْمَعِينِ تُصِيبُهُ تَارَةً وَتُخْطِئُهُ تَارَةً، فَإِنْ صَادَفَتْهُ مَكْشُوفًا لَا وِقَايَةَ عَلَيْهِ، أَثَّرَتْ فِيهِ، وإن صادفته حذرا شاكي السلاح، لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ، وَرُبَّمَا رُدَّتِ السِّهَامُ عَلَى صاحبها، وهذا بمثابة الرمي الحسي سواء. وَقَدْ يَعِينُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ، وَقَدْ يَعِينُ بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ، بَلْ بِطَبْعِهِ وَهَذَا أَرْدَأُ مَا يَكُونُ. ولأبي داود فِي " سُنَنِهِ «عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: مَرَرْنَا بِسَيْلٍ فَدَخَلْتُ فَاغْتَسَلْتُ فِيهِ، فَخَرَجْتُ مَحْمُومًا، فَنُمِيَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مُروا أبا ثابت يتعوذ " فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي وَالرُّقَى صَالِحَةٌ؟ فَقَالَ: " لَا رُقْيَةَ إِلَّا فِي نَفْسٍ، أَوْ حُمة، أَوْ لدغة» والنفس: العين، واللدغة: ضَرْبَةُ الْعَقْرَبِ وَنَحْوَهَا. فَمِنَ التَّعَوُّذَاتِ وَالرُّقَى: الْإِكْثَارُ من قراءة المعوذتين والفاتحة وآية الكرسي، والتعوذات النَّبَوِيَّةُ نَحْوَ: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ» وَنَحْوَ: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خلق» ، ونحو «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ الليل

والنهار، ومن شر طوارق الليل والنهار إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ» . وَمِنْهَا: «أعوذ بكلمات الله التامات مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ» . وَمِنْهَا: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بوجهك الكريم، وكلماتك التامة مِنْ شَرِّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أنت تكشف المأثم والمغرم، اللهم لَا يُهزم جُنْدُكَ، وَلَا يُخْلَفُ وعدُك سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ» . وَمِنْهَا: «أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَبِكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ وَأَسْمَاءِ اللَّهِ الحسنى، وبأسمائه مَا علمتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ لَا أُطِيقُ شَرَّهُ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» ، وَإِنْ شَاءَ قَالَ: تَحَصَّنْتُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَهِي وَإِلَهِ كُلِّ شَيْءٍ، وَاعْتَصَمْتُ بِرَبِّي وَرَبِّ كُلِّ شَيْءٍ، وَتَوَكَّلْتُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَاسْتَدْفَعْتُ الشَّرَّ بِلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، حَسْبِيَ الرَّبُّ مِنَ الْعِبَادِ، حَسَبِيَ الْخَالِقُ مِنَ الْمَخْلُوقِ، حَسَبِيَ الرَّازِقُ مِنَ الْمَرْزُوقِ، حَسْبِيَ الَّذِي هُوَ حَسْبِي، حَسْبِيَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، حَسْبِيَ الله وكفى، وسمع اللَّهُ لِمَنْ دَعَا، لَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ مَرْمَى، حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. وَمَنْ جَرَّبَ هذه الدعوات والتعوذات، عرف مَنْفَعَتِهَا، وَشِدَّةَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَهِيَ تَمْنَعُ وُصُولَ أثر العائن، وترفعه بَعْدَ وُصُولِهِ بِحَسَبِ قُوَّةِ إِيمَانِ قَائِلِهَا وَقُوَّةِ نفسه واستعداده وقوة توكله، فإنها سلاح، والسلاح بضاربه. وإذا خشي العائن ضرر عينه وإصابتها للمعين فليقل: اللهم بارك عليه كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرا لما عان سهل بن حنيف أن يقول: «أَلَا بَرَّكْتَ» أَيْ: قُلْتَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَيْهِ، ومما يدفعها قَوْلُ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ كان عروة إِذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ أَوْ دَخَلَ حَائِطًا من حيطانه قالها. ومنها رقية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم التي في " صحيح مسلم ": «بسم اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يشفيك بسم الله أرقيك» . ثم ذكر هديه في العلاج لكل شكوى بالرقية الإلهية، فذكر فيه حديث أبي داود عن أبي الدرداء رفعه: «من اشتكى منكم شيئا فليقل:

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حر المصيبة

رَبَّنَا اللَّهَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السماء، فاجعل رحمتك في الأرض، اغفر لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هذا الوجع فيبرأ» ، ثم ذكر رقية جبريل المتقدمة، ثم ذكر هديه في رقية القرحة والجراح، وذكر ما فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ، أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ، أَوْ جُرْحٌ قَالَ بِأُصْبُعِهِ هَكَذَا وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَهَا، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ ربنا» وهل المراد تربة الأرض كلها أو أرض المدينة؟ فيه قولان. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في علاج حر المصيبة] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في علاج حر المصيبة قال الله تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157] (¬1) . وفي " الصحيح " عن أم سلمة مرفوعا: «مَا مِنْ أَحَدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا» ، وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعها له في عاجلته وآجلته، فإنها تضمنت أصلين إذا تحقق بهما تسلى عن مصيبته. أحدهما: أن العبد وماله ملك لله جعله عنده عارية. والثاني: أن المرجع إلى الله ولا بد أن يخلف الدنيا، فإذا كانت هذه البداية والنهاية، ففكره فيهما مِنْ أَعْظَمِ عِلَاجِ هَذَا الدَّاءِ. وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يَعْلَمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ ليصيبه. ومنه أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا أُصِيبَ بِهِ، فَيَجِدُ ربه أبقى له مثله أو أفضل، وادخر له إن صبر مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ فَوَاتِ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهَا أَعْظَمَ مما هي. ومنه إطفاؤها ببرد التأسي بأهل المصائب، فلينظر عن يمينه وعن يساره، فهل يرى إلا محنة أو حسرة، وإن سرور ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية 155 - 157.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الكرب والهم والحزن

الدنيا أحلام نوم، وإن أضحكت قليلا، أبكت كثيرا. ومنه العلم أن الجزع لا يرد بل يضاعف. ومنه أن يعلم أن فوات ما ضمن الله على الصبر والاسترجاع أعظم منها. ومنه أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْجَزَعَ يشمِّت عَدُوَّهُ، وَيَسُوءُ صديقه، ويغضب ربه. ومنه أن يعلم أن ما يعاقب الصبر والاحتساب من اللذة أضعاف ما يحصل له من نفع الفائت لو بقي له. ومنه أَنْ يروِّح قَلْبَهُ بِرُوحِ رَجَاءِ الْخَلَفِ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عِوَضٌ إِلَّا الله. ومنه أن يعلم أن حظه منها مَا تُحْدِثُهُ لَهُ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَى، ومن سخط فله السخط. ومنه أن يعلم أن آخر الجزع إلى الصبر الاضطراري، وهو غير محمود، ولا مثاب عليه. ومنه أن يعلم أن من أنفع الأدوية موافقة ربه فِيمَا أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ لَهُ وَأَنَّ خَاصِّيَّةَ الْمَحَبَّةِ وسرها موافقة المحبوب. ومنه أن يوازن بين أعظم اللذتين والتمتعين وَأَدْوَمِهِمَا لَذَّةِ تَمَتُّعِهِ بِمَا أُصيب بِهِ، وَلَذَّةِ تمتعه بثواب الله. ومنه العلم بأن المبتلي أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه لم يبتله ليهلكه، بل ليمتحن إيمانه، وليستمع تضرعه، وليراه طريحا ببابه. ومنه أن يعلم أن المصائب سبب لمنع أدواء المهلكة، كالكبر والعجب والقسوة. ومنه أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا هِيَ بِعَيْنِهَا حلاوة الآخرة، وبالعكس، فإن خفي عليك هذا، فانظر قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَفَاوَتَتْ عُقُولُ الخلائق، وظهرت حقائق الرجال. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في علاج الكرب والهم والحزن] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في علاج الكرب والهم والحزن في " الصحيحين " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم» . وللترمذي عَنْ أنس كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» . وله عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أهمه أمر رفع طرفه إلى السماء

وقال: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ قال: يا حي يا قيوم» . ولأبي داود عن أبي بكر الصديق مرفوعا: «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللُّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كله لا إله إلا أنت» ، وله عَنْ أسماء بنت عميس قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إلا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب: الله اللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» وَفِي رواية «سبع مرات» . ولأحمد عن ابن مسعود مرفوعا قَالَ: «مَا أَصَابَ عَبْدًا هَمٌّ وَلَا حُزْنٌ فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور بصري، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي. إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا» . وللترمذي عن سعد مرفوعا: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا رَبَّهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا مَكْرُوبٌ إِلَّا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كلمة أخي يونس» . ولأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي أُمامة: «أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ، وَقَضَى دَيْنَكَ؟ قَالَ: قلت: بلى، قَالَ: قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبن وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وقهر الرجال "، ففعلت، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي، وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي» . ولأبي داود عن ابن عباس مرفوعا: «مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب» . وَفِي " السُّنَنِ ": «عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ، فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنِ النُّفُوسِ الهم والغم» . وفي " المسند «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» ، ويُذكر عن ابن عباس مرفوعا: «مَنْ كَثُرَتْ هُمُومُهُ وَغُمُومُهُ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لا حول ولا قوة إلا بالله» . وفي " الصحيحين «إنها كنز من كنوز الجنة» . وهذه الْأَدْوِيَةُ تَتَضَمَّنُ خَمْسَةَ عَشَرَ نَوْعًا مِنَ الدَّوَاءِ، فإن لم تقو على إذهاب الْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالْحُزْنِ، فَهُوَ دَاءٌ قَدِ اسْتَحْكَمَ، وتمكنت

في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الفزع والأرق

أَسْبَابُهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى اسْتِفْرَاغٍ كُلِّيٍّ. الْأَوَّلُ: تَوْحِيدُ الربوبية. الثاني: توحيد الألوهية. الثالث: التوحيد العلمي. الرَّابِعُ: تَنْزِيهُ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَظْلِمَ عَبْدَهُ، أَوْ يَأْخُذَهُ بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ يوجب ذلك. الخامس: اعتراف العبد أنه هو الظالم. السادس: التوسل بأحب الأشياء إلى الله، وَهُوَ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ، وَمِنْ أَجْمَعِهَا لِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " الْحَيُّ الْقَيُّومُ ". السَّابِعُ: الِاسْتِعَانَةُ بِهِ وَحْدَهُ. الثَّامِنُ: إِقْرَارُ الْعَبْدِ لَهُ بِالرَّجَاءِ. التَّاسِعُ: تَحْقِيقُ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالتَّفْوِيضِ إِلَيْهِ، وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِأَنَّ نَاصِيَتَهُ فِي يَدِهِ يَصْرِفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَأَنَّهُ ماضٍ فِيهِ حُكْمُهُ، عَدْلٌ فيهٌ قَضَاؤُهُ. الْعَاشِرُ: أَنْ يَرْتَعَ قَلْبُهُ فِي رِيَاضِ الْقُرْآنِ، وَيَجْعَلَهُ لِقَلْبِهِ كَالرَّبِيعِ لِلْحَيَوَانِ، وَأَنْ يَسْتَضِيءَ بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَأَنْ يَتَسَلَّى بِهِ عَنْ كُلِّ فَائِتٍ، وَيَتَعَزَّى بِهِ عَنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَيَسْتَشْفِيَ بِهِ مِنْ أَدْوَاءِ صَدْرِهِ، فَيَكُونَ جَلَاءَ حُزْنِهِ، وَشِفَاءَ هَمِّهِ وَغَمِّهِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: الِاسْتِغْفَارُ. الثَّانِيَ عَشَرَ: التَّوْبَةُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: الْجِهَادُ. الرَّابِعَ عَشَرَ: الصَّلَاةُ. الْخَامِسَ عَشَرَ: الْبَرَاءَةُ مِنَ الْحَوْلِ والقوة وتفويضها إلى الله. [فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي علاج الفزع والأرق] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في علاج الفزع والأرق روى الترمذي عن بريدة قال: اشتكى خالد، فقال: يا رسول الله ما أنا أنام الليل من الأرق، قال: «إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَقُلِ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَمَا أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، كُنْ لِي جَارًا مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَفْرُطَ عليَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، أَوْ يبغي عليَّ أحد، عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» . وفيه من حديث عمرو بن شعيب: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلّمهم من الفزع: «أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه، وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ» وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ عقل من بَنيه، ومن لم يفعل كتبه، فعلّقه عليه. ويذكر من حديث عمرو بن شعيب مرفوعا: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْحَرِيقَ فَكَبِّرُوا، فَإِنَّ التَّكْبِيرَ يُطْفِئُهُ» لَمَّا كَانَ الْحَرِيقُ سَبَبُهُ النَّارُ وَهِيَ مَادَّةُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا وَكَانَ

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ الصحة

فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ الْعَامِّ مَا يُنَاسِبُ الشَّيْطَانَ بِمَادِّتِهِ، وَفِعْلِهِ كَانَ لِلشَّيْطَانِ إِعَانَةٌ عَلَيْهِ وَتَنْفِيذٌ لَهُ وَكَانَتِ النَّارُ تَطْلُبُ بِطَبْعِهَا الْعُلُوَّ وَالْفَسَادَ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ - وَهُمَا الْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادُ - هُمَا هَدْيُ الشَّيْطَانِ، وَإِلَيْهِمَا يَدْعُو وَبِهِمَا يُهْلِكُ بَنِي آدَمَ، فَالنَّارُ وَالشَّيْطَانُ كُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادَ، وَكِبْرِيَاءَ الرَّبِّ عَزَّ وجل تقمع الشيطان، فإذا كبّر المسلم ربه، طفئ الْحَرِيقَ، وَقَدْ جَرَّبْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا هَذَا فَوَجَدْنَاهُ كذلك. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى الله عليه وسلم في حفظ الصحة قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] (¬1) فأرشدهم إِلَى إِدْخَالِ مَا يُقِيمُ الْبَدَنَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عِوَضَ مَا تَحَلَّلَ مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْبَدَنُ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، فَمَتَى جَاوَزَ ذَلِكَ كَانَ إِسْرَافًا، وَكِلَاهُمَا مَانِعٌ مِنَ الصِّحَّةِ جَالِبٌ لِلْمَرَضِ أَعْنِي عَدَمَ الأكل والشرب أو الإسراف فيهما، فحفظ الصحة في هاتين الكلمتين الإلهيتين. وَلَمَّا كَانَتِ الصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ وَأَجْزَلِ عَطَايَاهُ وَأَوْفَرِ مِنَحِهِ، بل العافية المطلقة من أجل النعم على الإطلاق، فحقيق بمن رُزِقَ حَظًّا مِنَ التَّوْفِيقِ مُرَاعَاتُهَا وَحِفْظُهَا وَحِمَايَتُهَا عما يضادها. ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» ، وَفِي الترمذي مرفوعا: «مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سربه، عنده قوت يوم، فكأنما حيزت له الدنيا» وفيه أيضا مرفوعا: «أَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ من النعم أن يقال: ألم نصح لك جسمك؟ ونرويك من الماء البارد» . ومن هنا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] (¬2) قال: عن الصحة. ولأحمد مرفوعا: «سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ وَالْمُعَافَاةَ، فَمَا أُوتي أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ» فَجَمَعَ بَيْنَ عافيتي الدنيا والدين، وَلَا يَتِمُّ صَلَاحُ الْعَبْدِ فِي الدَّارَيْنِ إِلَّا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقاب الآخرة ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 31. (¬2) سورة التكاثر، الآية: 8.

وَالْعَافِيَةُ تَدْفَعُ عَنْهُ أَمْرَاضَ الدُّنْيَا فِي قَلْبِهِ وبدنه. وفي " سنن النسائي " مرفوعا: «سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ، فَمَا أُوتِيَ أحد بعد اليقين خيرا من المعافاة» وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَتَضَمَّنُ إِزَالَةَ الشُّرُورِ الْمَاضِيَةِ بِالْعَفْوِ، والحاضرة بالعافية، والمستقبلة بالمعافاة. ولم يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، فإنه مضر ولو أنه أفضل الأغذية، بل يَأْكُلُ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ بِأَكْلِهِ من اللحم والفاكهة والخبز والتمر ونحو ذلك. قال أنس: «مَا عَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِلَّا تركه» (¬1) ومتى أكل الإنسان ما لا يشتهيه، كان تضرره به أكثر من نفعه، وَكَانَ يُحِبُّ اللَّحْمَ، وَأَحَبُّهُ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَمُقَدَّمُ الشاة وهو أخف على المعدة وأسرع انهضاما. وَكَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ - أَعْنِي اللحم والحلوى والعسل - من أنفع الأغذية للبدن والكبد والأعضاء. وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ فَاكِهَةِ بَلَدِهِ عِنْدَ مَجِيئِهَا ولا يحتمي عنها، وهو من أَسْبَابِ حِفْظِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ جعل في كل بلد الفاكهة ما ينتفع به أهلها، فيكون تناوله من أسباب صحة أهلها، وَقَلَّ مَنِ احْتَمَى عَنْ فَاكِهَةِ بَلَدِهِ خَشْيَةَ السَّقَمِ إِلَّا وَهُوَ مِنْ أَسْقَمِ النَّاسِ جِسْمًا. وصح عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا آكُلُ مُتَّكِئًا» وَقَالَ: «إِنَّمَا أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، وَآكُلُ كَمَا يأكل العبد» وفسر بالتربع، وبالاتكاء على الشيء، وبالاتكاء على الجنب، والأنواع الثلاثة من الاتكاء مضر. وكان يأكل بأصابعه الثلاث، وهو أنفع ما يكون من الأكلات. وكان يشرب العسل الممزوج بالماء البارد، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا. وصح عنه أنه أمر من فعله أن يتقيأه، وصح عنه أنه شرب قائما للحاجة. وكان يتنفس في الشرب ثلاثا ويقول: إنه أروى وأمرأ، وأبرأ أي: أشد ريا. وَأَبْرَأُ: أَفْعَلُ مِنَ الْبُرْءِ، وَهُوَ الشِّفَاءُ، أَيْ: يُبرئ من العطش، وأمرأ: هو أفعل من مرى الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ فِي بَدَنِهِ: إِذَا دَخَلَهُ وَخَالَطَهُ بِسُهُولَةٍ وَلَذَّةٍ وَنَفْعٍ، وَمِنْهُ: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] هنيئا في عاقبته، مريئا في مذاقته. وللترمذي عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَشْرَبُوا نَفَسًا وَاحِدًا كَشُرْبِ الْبَعِيرِ، وَلَكِنِ اشْرَبُوا مَثْنَى، وسموا الله إذا شربتم، واحمدوا الله إذا أنتم فرغتم» . وفي ¬

(¬1) متفق عليه بلفظ وإن كرهه تركه.

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم أقضيته وأحكامه

" الصحيح " منه: «غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ، لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ ليس عليه غطاء ولا سِقَاءٍ، لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ إِلَّا وَقَعَ فِيهِ من ذلك الوباء» قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ: الأعاجم عندنا يتقون تلك الليلة في كانون الأول. وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَخْمِيرِ الْإِنَاءِ وَلَوْ أن يعرض عليه عودا. وصح عنه أنه أمر عند الإيكاء والتغطية بذكر اسم الله، ونهى عن الشرب من فم السقاء، وعن النفس في الإناء والنفخ فيه، وعن الشرب من ثلمة القدح، وكان يحب الطيب ولا يرده وقال: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ، فَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّهُ طيب الريح، خفيف المحمل» ولفظ أبي داود والنسائي: «من عرض عليه طيب» وفي " مسند البزار " عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطِّيبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ، فَنَظِّفُوا أَفْنَاءَكُمْ وساحاتكم، ولا تشبهوا باليهود يجمعون القمامة في دورهم» . وَفِي الطِّيبِ مِنَ الْخَاصِّيَّةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُحِبُّهُ، والشياطين تنفر منه، فَالْأَرْوَاحُ الطَّيِّبَةُ تُحِبُّ الرَّائِحَةَ الطَّيِّبَةَ، وَالْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ تُحِبُّ الرَّائِحَةَ الْخَبِيثَةَ، وَكُلُّ رُوحٍ تَمِيلُ إِلَى ما يناسبها، فـ {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] وهذا وإن كان في الرجال والنساء، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَعْمَالَ وَالْأَقْوَالَ، وَالْمَطَاعِمَ وَالْمَشَارِبَ وَالْمَلَابِسَ والروائح، إما بعموم لفظه، وإما بعموم معناه. [فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْضِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ] فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أقضيته وأحكامه وَلَيْسَ الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ وإن كانت أقضيته الخاصة عامة، وإنما الغرض ذكر هديه في الأحكام الجزئية التي فصل بها بين الخصوم، ونذكر معها قضايا من أحكامه الكلية، فثبت عنه أنه حبس في تهمة، ففي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا، فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَنَفَاهُ سَنَةً، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتِقَ رَقَبَةً، وَلَمْ يقده به» . ولأحمد عن أنس عن سمرة مرفوعا: «من قتل عبده قتلناه» فإن كان محفوظا كَانَ قَتْلُهُ تَعْزِيرًا إِلَى الْإِمَامِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ. وَأَمَرَ رَجُلًا بِمُلَازَمَةِ غَرِيمِهِ، كما ذكره أبو داود. وروي عن أبي عبيد «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بقتل القاتل،

وصبر الصابر» قال أبو عبيد: أي: يحبسه حَتَّى يَمُوتَ، وَذَكَرَ عبد الرزاق فِي " مُصَنِّفِهِ " عَنْ علي: يُحْبَسُ الْمُمْسَكُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يموت. وحكم في العرنيين بِقَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ، وَسَمْلِ أَعْيُنِهِمْ، كَمَا سَمَلُوا أعين الراعاة، وَتَرَكَهُمْ حَتَّى مَاتُوا جُوعًا وَعَطَشًا، كَمَا فَعَلُوا بالراعي. وفي " صحيح مسلم «أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ قَتَلَ أَخَاهُ، فَاعْتَرَفَ، فَقَالَ: دُونَكَ صَاحِبَكَ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ، فَرَجَعَ فَقَالَ: إِنَّمَا أَخَذْتُهُ بِأَمْرِكَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أما تريد أن تبوء بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ؟ فَقَالَ: بَلَى. فَخَلَّى سَبِيلَهُ» . وَفِي قَوْلِهِ: " فَهُوَ مِثْلُهُ " قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا قِيدَ مِنْهُ، سَقَطَ مَا عَلَيْهِ، فصار هو والمستفيد بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا قَالَ: " إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ " وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ بَعْدَ قَتْلِهِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا فِيهِ التَّعْرِيضُ لِصَاحِبِ الحق بترك القود والعفو، وقيل: إن كان لم يرد قتله فقتله به، فهو متعمد مِثْلَهُ إِذْ كَانَ الْقَاتِلُ مُتَعَدِّيًا بِالْجِنَايَةِ، وَالْمُقْتَصُّ مُتَّعَدٍ بِقَتْلِ مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدِ الْقَتْلَ. وَيَدُلُّ على هذا التأويل ما روى أحمد عن أبي هريرة مرفوعا وفيه: «والله يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَدْتُ قَتْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْوَلِيِّ: " أما إنه إن كَانَ صَادِقًا، ثُمَّ قَتَلْتَهُ دَخَلْتَ النَّارَ» فَخَلَّى سبيله، وحكم في يهودي رضَّ رأس جارية بين حجرين أن يرضَّ رأسه بين حجرين. وفيه دليل على قتل الرجل بالمرأة، وأن الْجَانِيَ يُفْعَل بِهِ كَمَا فَعَل، وَأَنَّ الْقَتْلَ غِيلَةً لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إِذْنُ الْوَلِيِّ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَدْفَعْهُ إِلَى أَوْلِيَائِهَا وَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شِئْتُمْ فَاقْتُلُوهُ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَاعْفُوا عَنْهُ، بَلْ قَتَلَهُ حَتْمًا، وَهَذَا مَذْهَبُ مالك، وَاخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابن تيمية ومن قال: إنه فعله لِنَقْضِ الْعَهْدِ لَمْ يَصِحَّ، فَإِنَّ نَاقِضَ الْعَهْدِ لا يرضخ رأسه بالحجارة، بل يقتل بالسيف، وقضى في امرأة رمت أخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ فِي الْجَنِينِ، وَجَعَلَ دية المقتولة على عصبة القاتل، وهو في " الصحيحين ". وفي البخاري أنه قضى في جنين امرأة بغرة عبد أو وليدة، ثم إن التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضى أَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا، وَفِي هَذَا الْحُكْمِ أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ لا قيود فيه، وَأَنَّ الْعَاقِلَةَ تَحْمِلُ الْغُرَّةَ تَبَعًا لِلدِّيَةِ، وَأَنَّ العاقلة

فصل في حكمه بالغنائم

هُمُ الْعَصَبَةُ، وَأَنَّ زَوْجَ الْقَاتِلَةِ لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ، وَأَنَّ أَوْلَادَهَا أَيْضًا لَيْسُوا مِنَ الْعَاقِلَةِ، وحكم فيمن تزوج امرأة أبيه بقتله، وأخذ ماله، وهو مذهب أحمد، وهو الصحيح، وقال الثلاثة: حده حد الزاني، وَحُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى وأحق، وحكم فيمن اطلع في بيته رَجُلٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَحَذَفَهُ بِحَصَاةٍ، أَوْ عُودٍ، ففقأ عينه أن لا شيء عليه. وثبت عنه أَنَّهُ قَضَى بِإِهْدَارِ دَمِ أُمِّ وَلَدِ الْأَعْمَى لما قتلها مولاها على سبه صلى الله عليه وسلم، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ عَلَى سَبِّهِ وَأَذَاهُ. قال أبو بكر لأبي برزة لما أراد قتل من سبه: ليست لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي ذلك بضعة عشر حديثا بين صحاح وحسان ومشاهير. قال مجاهد عن ابن عباس: «أيما مسلم سب الله، أَوْ سَبَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ كَذَّبَ رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَهِيَ رِدَّةٌ يستتاب صاحبها، فإن رجع وإلا قُتل. وفي " الصحيحين " أنه عفا عمن سمه صلى الله عليه وسلم. وصح عنه أنه لم يقتل من سحره من اليهود، وصح عن عمر وحفصة وجندب قتل الساحر، وصح عنه في الأسرى أنه قتل بعضا وفادى بعضا، ومنَّ على بعض، واسترقَّ بعضا، لكن لم يعرف أنه استرق بالغا، وهذه أحكام لم تنسخ، بل مخير فيها الإمام بحسب المصلحة، وَحَكَمَ فِي الْيَهُودِ بِعِدَّةِ قَضَايَا، فَعَاهَدَهُمْ أَوَّلَ مقدمه المدينة، ثم حاربته قينقاع فظفر بهم، ومن عليهم، ثم النضير، فظفر بهم فأجلاهم، ثم قريظة فقتلهم، ثم حارب أهل خيبر فظفر بهم. [فصل في حكمه بالغنائم] فصل في حكمه بالغنائم حَكَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لِلْفَارِسِ ثلاثة أسهم، وللراجل سهم، وحكم أن السلب للقاتل، «وكان طلحة وسعيد بن زيد لم يشهدا بدرا، فقسم لهما فقالا: وأجورنا؟ فقال: وأجوركم» ولم يختلف أحد أن «عثمان تَخَلَّفَ عَلَى امْرَأَتِهِ رقية بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فأسهم له، فقال: وأجري يا رسول الله؟ فقال: وأجرك» قال ابن حبيب: هذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا أنه لا يقسم لغائب. قلت: قد قَالَ أحمد ومالك وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إِنَّ الْإِمَامَ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا فِي مَصَالِحِ الجيش، فله سهم، ولم يخمس السلب، وجعله من أصل الغنيمة، وحكم به بشهادة واحد، وَكَانَتِ الْمُلُوكُ تُهْدِي إِلَيْهِ،

فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في قسمة الأموال

فيقبل هداياهم، ويقسمها بين أصحابه، وأهدى له أبو سفيان هدية، فقبل. وذكر أبو عبيد عنه أنه «رد هدية أبي عامر، وقال: إنا لا نقبل هدية مشرك» . وقال: إنما قَبِلَ هَدِيَّةَ أبي سفيان، لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي مدة الهدنة بينه وبين مكة، وكذلك المقوقس؛ لأنه أكرم حاطبا وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، وَلَمْ يُؤَيَّسْهُ مِنْ إِسْلَامِهِ، وَلَمْ يقبل هدية مشرك محارب له قط. قال سحنون: إذا أهدى أمير الروم إلى الإمام فلا بأس، وهي لَهُ خَاصَّةً. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيُكَافِئُهُ من بيت المال. وقال أحمد حكمها حكم الغنيمة. [فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قسمة الأموال] فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قسمة الأموال وهي ثلاثة: الزكاة، والغنيمة، والفيء. فأما الزكاة والغنائم، فقد تقدم حكمها، وبيَّنا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَوْعِبُ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ، وأنه ربما وضعها في واحد. وأما الفيء، فقسمه يَوْمَ حُنَيْنٍ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْفَيْءِ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا فَعَتَبُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لهم: " ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة وَالْبَعِيرِ وَتَنْطَلِقُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُودُونَهُ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ به خير مما ينقلبون به " وبعث إليه علي من اليمن بذهيبة، فقسمها بين أربعة نفر. وفي " السنن " أنه وَضَعَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المطلب وترك بني نوفل وعبد شمس وقال: «إنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ولم يَقْسِمُهُ بَيْنَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ، بَيْنَ أَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ، وَلَا كَانَ يَقْسِمُهُ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حظ الأنثيين، بل يَصْرِفُهُ فِيهِمْ بِحَسْبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ فَيُزَوِّجُ مِنْهُ عَزَبَهُمْ، وَيَقْضِي مِنْهُ عَنْ غَارِمِهِمْ، وَيُعْطِي مِنْهُ فقيرهم كفايته، والذي يدل عليه هديه أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ مَصَارِفَ الْخُمُسِ كَمَصَارِفِ الزَّكَاةِ لا يَخْرُجُ بِهَا عَنِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ، لَا أَنَّهُ يقسمه بينهم كالميراث، ومن تأمل سيرته لم يشك في ذلك. واختلف الْفُقَهَاءُ فِي الْفَيْءِ هَلْ كَانَ مِلْكًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ يُشَاءُ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أحمد وَغَيْرِهِ، وَالَّذِي تدل عليه

سُنَّتُهُ وَهَدْيُهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْأَمْرِ فَيَضَعُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ، وَيَقْسِمُهُ عَلَى مَنْ أمر بقسمته عليهم، لا تصرف المالك بإرادته ومشيئته، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَلِكا رَسُولًا، فاختار العبودية، والفرق أَنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ لَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا بِأَمْرِ سَيِّدِهِ وَمُرْسِلِهِ، والمَلِك الرَّسُولُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ يُشَاءُ، وَيَمْنَعَ مَنْ يَشَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِلْمَلِكِ الرَّسُولِ سُلَيْمَانَ: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] (¬1) أَيْ: أَعْطِ مَنْ شِئْتَ، وَامْنَعْ مَنْ شئت لا نحاسبك، وهذه المرتبة التي عُرضت على نبينا، فَرَغِبَ عَنْهَا إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا وهي مرتبة العبودية المحصنة، وقال: «والله إني لا أعطي أحدا، ولا أمنع أحدا إنما أنا قاسم أضع حيث أُمرت» ولهذا كان ينفق منه عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ، وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْأَمْوَالِ هُوَ السَّهْمُ الَّذِي وَقَعَ بَعْدَهُ فِيهِ مِنَ النِّزَاعِ ما وقع إلى اليوم. وأما الزكاة والغنائم وقسمة المواريث، فإنها معنية لِأَهْلِهَا لَا يَشْرُكُهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا، فَلَمْ يُشْكِلْ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ بَعْدَهُ مِنْ أَمْرِهَا مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَيْءِ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهَا مِنَ النِّزَاعِ مَا وَقَعَ فِيهِ، وَلَوْلَا إِشْكَالُ أمره لَمَا طَلَبَتْ فاطمة بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم ميراثها من تركته، وقد قال تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْحَشْرِ: 9] (¬2) فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَا أَفَاءَ عَلَى رسوله بجملته لمن ذكر في هؤلاء الْآيَاتِ، وَلَمْ يَخُصَّ مِنْهُ خُمُسَهُ بِالْمَذْكُورِينَ، بَلْ عم وَأَطْلَقَ وَاسْتَوْعَبَ، وَيُصْرَفُ عَلَى الْمَصَارِفِ الْخَاصَّةِ، وَهُمْ أَهْلُ الْخُمُسِ، ثُمَّ عَلَى الْمَصَارِفِ الْعَامَّةِ، وَهُمُ المهاجرون والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة. فالذي عمل به هو وخلفاؤه هو المراد من الآيات، ولهذا قال عمر بن الخطاب فيما رواه أحمد وغيره عنه: «ما أحد بأحق بهذا المال من أحد، وما أنا بأحق به من أحد، والله ما من أحد من المسلمين إلا وله فيه نَصِيبٌ إِلَّا عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، وَلَكِنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا ¬

(¬1) سورة ص، الآية: 39. (¬2) سورة الحشر، الآية: 7، 9.

فصل حكمه في الوفاء بالعهد لعدوه وفي رسلهم أن لا يقتلوا ولا يحبسوا

مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَسَمِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالرَّجُلُ وَقِدَمُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالرَّجُلُ وَغِنَاؤُهُ في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لَئِنْ بَقِيتُ لَهُمْ لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِيَ بِجَبَلِ صَنْعَاءَ حَظُّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَهُوَ يَرْعَى مَكَانَهُ» فَهَؤُلَاءِ الْمُسَمَّوْنَ فِي آيَةِ الْفَيْءِ هُمُ الْمُسَمَّوْنَ فِي آيَةِ الْخُمُسِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وأتباعهم في آية الخمس لأنهم المستحقون بجملة الفيء، وأهل الخمس لهم استحقاقان خاص من الخمس، وعام من الْفَيْءِ، فَإِنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي النَّصِيبَيْنِ وَكَمَا أَنَّ قِسْمَتَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَيْءِ بَيْنَ مَنْ جُعِلَ لَهُ، لَيْسَ قِسْمَةَ الْأَمْلَاكِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا المالكون، كقسمة المواريث والوصايا والأملاك المطلقة الْمُطْلَقَةِ، بَلْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَالنَّفْعِ وَالْغِنَاءِ فِي الإسلام والبلاء فيه، فكذلك الْخُمُسِ فِي أَهْلِهِ، فَإِنَّ مَخْرَجَهُمَا وَاحِدٌ فِي كتاب الله الخمس بين أهله، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ يُفِيدُ تَحْقِيقَ إِدْخَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ بِحَالٍ، وأن الخمس لا يعدوهم إِلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْفَيْءَ الْعَامَّ فِي آيَةِ الْحَشْرِ لِلْمَذْكُورِينَ فِيهَا لَا يَتَعَدَّاهُمْ إِلَى غيرهم، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ أَهْلَ الْخُمُسِ هُمْ أَهْلُ الْفَيْءِ وَعَيَّنَهُمُ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِمْ، وَتَقْدِيمًا لَهُمْ، وَلِمَّا كَانَتِ الْغَنَائِمُ خَاصَّةً بِأَهْلِهَا لَا يَشْرُكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ نَصَّ عَلَى خُمُسِهَا لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَلَمَّا كَانَ الْفَيْءُ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ دُونَ أحد جعله لَهُمْ، وَلِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَتَابِعِيهِمْ، فَسَوَّى بَيْنَ الْخُمُسِ والفيء فِي الْمَصْرِفِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ سَهْمَ اللَّهِ وَسَهْمَهُ فِي مَصَالِحِ الْإِسْلَامِ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْخُمُسِ فِي أَهْلِهَا مقدما للأهم فالأهم، والأحوج فالأحوج. [فصل حكمه فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ لِعَدُوِّهِ وَفِي رُسُلِهِمْ أَنْ لا يقتلوا ولا يحبسوا] فصل حكمه فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ لِعَدُوِّهِ وَفِي رُسُلِهِمْ أَنْ لَا يُقْتَلُوا وَلَا يُحْبَسُوا، وَفِي النَّبْذِ إِلَى مَنْ عَاهَدَهُ عَلَى سَوَاءٍ إِذَا خَافَ مِنْهُ النقض ثبت أنه قال لرسولي مسيلمة لَمَّا قَالَا: نَقُولُ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. «لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقتل لَقَتَلْتُكُمَا» وَثَبَتَ عَنْهُ أنه قال لأبي رافع وقد أرسلته قريش إليه وأراد أن لا يرجع، فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ البرد، ولكن ارجع إلى قومك، ولم يرد النساء، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِيهَا الْآنَ، فارجع» . وثبت أنه رد إليهم أبا جندل، وجاءت سُبَيْعَةُ الأسلمية فخرج

زوجها في طلبها، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الْمُمْتَحِنَةِ: 10] (¬1) فَاسْتَحْلَفَهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهَا إِلَّا الرَّغْبَةُ فِي الإسلام، وأنها لم تخرج بحدث أَحْدَثَتْهُ فِي قَوْمِهَا، وَلَا بُغْضًا لَزَوْجِهَا، فَحَلَفَتْ فأعطى زوجها مهرها، ولم يردها عليه. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الْأَنْفَالِ: 58] (¬2) . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَلَا يَحُلَّنَّ عَقْدًا وَلَا يَشُدَّنَّهُ، حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ، أَوْ ينبذه إليهم على سواء» صححه الترمذي. وثبت عنه أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَارَ رَجُلَيْنِ أَجَارَتْهُمَا أم هانئ ابْنَةُ عَمِّهِ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أجار أبا العاص لَمَّا أَجَارَتْهُ ابْنَتُهُ زينب، ثُمَّ قَالَ: «يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ.» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ» . فَهَذِهِ أربع قضايا منها أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَهَذَا يمنع تولية الكفار شيئا من الولايات. وقوله: يرد عليهم أقصاهم يوجب أن السرية إذا غنمت بقوة جيش الإسلام كانت الغنيمة لَهُمْ وَلِلْقَاصِي مِنَ الْجَيْشِ إِذْ بِقُوَّتِهِ غَنِمُوهَا، وَأَنَّ مَا صَارَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنَ الفيء لِقَاصِيهِمْ وَدَانِيهِمْ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ أَخْذِهِ دَانِيَهِمْ. وأخذ الجزية من نصارى نجران وأيلة من العرب ومن أهل دومة وأكثرهم عرب، وأخذها من أهل الكتاب باليمن وهم يهود، وأخذها من المجوس ولم يأخذها من مشركي العرب، قال أحمد والشافعي: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس. وقالت طائفة: تؤخذ من الأمم كلهم أهل الكتاب بالقرآن، والمجوس بالسنة، ومن عداهم يلحق بِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَجُوسَ أَهْلُ شِرْكٍ لَا كِتَابَ لَهُمْ، فَأَخْذُهَا مِنْهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَخْذِهَا مِنْ جميع المشركين، وإنما لم يأخذها من مشركي العرب؛ لأنهم أسلموا كلهم قبل نزولها، ولا نسلّم أن كُفرَ عبدة الأوثان أغلظ من كفر المجوس، بل كفر المجوس أغلظ، فإن عبدة الأوثان مقرون بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ آلِهَتَهُمْ لِتُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللَّهِ، ولم يكونوا يقرون بصانعين للعالم، ولا يَسْتَحِلُّونَ نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ، وَكَانُوا عَلَى بقايا من دين إبراهيم، وكان له صحف وشريعة والمجوس لَا يُعْرَفُ عَنْهُمُ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِ الأنبياء. وكتب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ هَجَرَ والملوك، يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، ¬

(¬1) سورة الممتحنة، الآية: 10. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 58.

فصل في أحكامه في النكاح وتوابعه

ولم يفرق بين العرب وغيرهم. وأمر معاذا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ قيمته معافر، وهي ثياب باليمن، ثم زاد فيها عمر، فَجَعَلَهَا أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ، وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ ضعف أهل اليمن، وعمر علم غنى أهل الشام، وثبت عنه أنه استباح غزو قريش من غير نبذ عهد إليهم لما عدت حلفاؤهم على حلفائه، فغدروا بهم، فرضيت قريش، وألحق ردأهم في ذلك بمباشرهم. [فصل في أحكامه في النكاح وتوابعه] فصل في أحكامه في النكاح وتوابعه ثبت عنه أنه رد نكاح ثيب زوَّجها أبوها وهي كارهة. وفي " السنن " عنه أنه خير بكرا زوَّجها أبوها وهي كارهة، وثبت عنه: «لا تنكح البكر حتى تستأذن، وإذنها أن تسكت» وقضى بأن اليتيمة تستأمر، «ولا يتم بعد احتلام» فدل على جواز نكاح اليتيمة، وعليه يدل القرآن. وفي " السنن " عنه: «لا نكاح إلا بولي» وفيها أيضا: «لا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تزوج نفسها» وحكم أن المرأة إذا زوّجها وليان، فهي للأول. وثبت عنه أنه قضى في رجل تزوج، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حتى مات أن لها مهر نسائها لا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ أربعة أشهر وعشرا. وفي " الترمذي " أنه قال لرجل: «إذًا أُزَوِّجَكَ فُلَانَةَ " قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: " أَتَرْضَيْنَ أَنْ أُزَوِّجك فُلَانًا "؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَزَوَّجَ أَحَدَهُمَا صاحبه، فدخل بها، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا، فلما كان عند موته عوّضها سهما له بخيبر» فتضمنت هَذِهِ الْأَحْكَامُ جَوَازَ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الصداق، وَجَوَازَ الدُّخُولِ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ، وَاسْتِقْرَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَوُجُوبَ عِدَّةِ الوفاة، وإن لم يدخل، وبه أخذ ابن مسعود، وأهل العراق، وتضمنت جواز تولي طرفي العقد، ويكفي أن يقول: زوجت فلانا بفلانة. مقتصرا على ذلك، وأمر من أسلم وتحته أكثر من أربع أن يختار منهن أربعا، وأمر من أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما فتضمن صحة نكاح الكفار، وأنه يختار من يشاء من السوابق واللواحق، وهو قول الجمهور، وذكر الترمذي وحسّنه عنه: «أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فهو عاهر» انتهى. والله أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين.

§1/1