مختصر الفتاوى المصرية

البعلي، بدر الدين

باب النية

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم رب يسر وَلَا تعسر يَا كريم الْحَمد لله مبدع الْعَالمين وناصر الْحق الْمُبين إِلَى يَوْم الدّين وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين وعَلى آله أَجْمَعِينَ وَبعد فَإِن الْعلم أفضل مَا صرفت إِلَيْهِ الهمة وأجمعت عَلَيْهِ عُلَمَاء الْأمة وَقد استخرت الله تَعَالَى فِي اخْتِصَار شَيْء من الدُّرَر المضية من فتاوي شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية مِمَّا أَكْثَره فقه السَّائِل وَمَا عسر علمه على الْأَوَائِل بَاب النِّيَّة مَحل النِّيَّة الْقلب بانفاق الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم إِلَّا بعض الْمُتَأَخِّرين أوجب التَّلَفُّظ بهَا وَهُوَ مَسْبُوق بِالْإِجْمَاع وَلَكِن تنازعوا هَل يسْتَحبّ التَّلَفُّظ بهَا مَعَ انفاقهم على أَنه لَا يشرع الْجَهْر بهَا وَلَا تكرارها فاستحب التَّلَفُّظ بهَا طَائِفَة من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَلم يستحبه آخَرُونَ وَغَيرهمَا وَهَذَا أقوى فَإِن ذَلِك بِدعَة لم يَفْعَلهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أحد من الصَّحَابَة وَأما مُقَارنَة النِّيَّة للتكبير فَفِيهَا قَولَانِ مشهوران أَحدهمَا لَا يجب كَمَا هُوَ مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وَالثَّانِي يجب كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَغَيره والمقارنة الْمَشْرُوطَة قد تفسر بِوُقُوع التَّكْبِير عقيب النِّيَّة وَهَذَا مُمكن لَا صعوبة فِيهِ بل عَامَّة النَّاس هَكَذَا يصلونَ بل هَذَا أَمر ضَرُورِيّ وَلَو كلفوا تَركه لعجزوا عَنهُ

وَقد تفسر بانبساط أَجزَاء النِّيَّة على أَجزَاء التَّكْبِير بِحَيْثُ يكون أَولهَا مَعَ أَوله وَآخِرهَا مَعَ آخِره وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ يَقْتَضِي عزوب النِّيَّة فِي أول الصَّلَاة وخلو أَولهَا عَن النِّيَّة الْوَاجِبَة وَقد تفسر بِحُضُور جَمِيع النِّيَّة مَعَ جَمِيع أَجزَاء التَّكْبِير وَهَذَا قد نوزع فِي إِمْكَانه فَمنهمْ من قَالَ إِنَّه غير مُمكن وَلَا مَقْدُور للبشر فضلا عَن وُجُوبه وَلَو قيل بإمكانه فَهُوَ متعسر جدا فَيسْقط بالحرج وَمِمَّا يبطل هَذَا وَالَّذِي قبله أَن المكبر يَنْبَغِي لَهُ أَن يتدبر التَّكْبِير ويتصوره فَيكون قلبه مَشْغُولًا بِمَعْنى التَّكْبِير لَا يشْغلهُ بِغَيْر ذَلِك من استحضار الْمَنوِي وَلِأَنَّهَا من الشُّرُوط والشروط تتقدم الْعِبَادَة وَيسْتَمر حكمهَا إِلَى آخرهَا كالطهارة وَغَيرهَا وَالله أعلم والجهر بهَا وتكريرها منهى عَنهُ وفاعله مسيء وَإِن اعتقده دينا فقد خرج عَن إِجْمَاع الْمُسلمين يعرف ذَلِك فَإِن أصر قتل وَيجب تَعْرِيفه ذَلِك وَلَو قَالَ كل يعْمل فِي دينه مَا يَشْتَهِي فَهِيَ كلمة عَظِيمَة يجب أَن يُسْتَتَاب مِنْهَا أَيْضا فَإِن أصر على الْجَهْر بِالنِّيَّةِ عزّر وَإِن عزل عَن الْإِمَامَة إِذا لم ينْتَه كَانَ لعزله وَجه فقد عزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِمَامًا لأجل بزاقه فِي الْقبْلَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَإِن الإِمَام عَلَيْهِ أَن يُصَلِّي كَمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ لَهُ أَن يقْتَصر على مَا يقْتَصر عَلَيْهِ الْمُنْفَرد بل ينْهَى عَن التَّطْوِيل وَالتَّقْصِير فَكيف إِذا صر على مَا ينْهَى عَنهُ الإِمَام وَالْمَأْمُوم وَالْمُنْفَرد

فصل

فصل نِيَّة الْمُؤمن خير من عمله هَذَا قَالَه غير وَاحِد بَعضهم يرفعهُ وَبَيَانه من وُجُوه أَحدهَا أَن النِّيَّة الْمُجَرَّدَة عَن الْعَمَل يُثَاب عَلَيْهَا وَالْعَمَل بِلَا نِيَّة لَا يُثَاب عَلَيْهِ الثَّانِي أَن من رأى الْخَيْر وَعمل مقدوره مِنْهُ وَعجز عَن إكماله كَانَ لَهُ أجر عَامله لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِن بِالْمَدِينَةِ رجَالًا مَا سِرْتُمْ مسيرًا وَلَا قطعْتُمْ وَاديا إِلَّا كَانُوا مَعكُمْ الثَّالِث أَن الْقلب ملك الْبدن والأعضاء جُنُوده فَإِذا طَالب الْملك طالبت جُنُوده وَإِذا خبت خبثت وَالنِّيَّة عمل الْملك الرَّابِع أَن تَوْبَة الْعَاجِز عَن الْمعْصِيَة تصح عِنْد أهل السّنة كتوبة الْمَجْبُوب من الزِّنَا وكتوبة الْأَخْرَس عَن الْقَذْف وأصل التَّوْبَة عزم الْقلب الْخَامِس أَن النِّيَّة لَا يدخلهَا فَسَاد فَإِن أَصْلهَا حب الله وَرَسُوله وَإِرَادَة وَجه الله وَهَذَا بِنَفسِهِ مَحْبُوب لله وَرَسُوله مرضى لله وَرَسُوله والأعمال الظَّاهِرِيَّة يدخلهَا آفَات كَثِيرَة وَلِهَذَا كَانَت أَعمال الْقُلُوب الْمُجَرَّدَة أفضل من أَعمال الْبدن الْمُجَرَّدَة كَمَا قيل قُوَّة الْمُؤمن فِي قلبه وَضَعفه فِي جِسْمه وَالْمُنَافِق عَكسه وَالله أعلم

كتاب الطهارة

كتاب الطَّهَارَة قد صَحَّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لما سُئِلَ عَن بِئْر بضَاعَة قَالَ المَاء طهُور لَا ينسجه شَيْء وبئر بضَاعَة لَيست جرية جَارِيَة بالِاتِّفَاقِ وَمَا يذكر عَن الْوَاقِدِيّ أَنَّهَا جَارِيَة أمرباطل والواقدي لَا يحْتَج بِهِ وَلم يكن بِالْمَدِينَةِ عين جَارِيَة وَعين الزَّرْقَاء وعيون حَمْزَة محدثة بعد النبيي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبئر بَاقِيَة شَرْقي الْمَدِينَة مَعْرُوفَة إِلَى الْآن وَأما حَدِيث الْقلَّتَيْنِ فالأكثر على أَنه حسن يحْتَج بِهِ وَقد أُجِيب عَن كَلَام من طعن فِيهِ وصنف أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الْمَقْدِسِي جَزَاء در فِيهِ على ابْن عبد الْبر وَغَيره وَلَفظ الْقلَّة مَعْرُوفَة عِنْدهم أَنَّهَا الجرة الْكَبِيرَة كألحب وَكَانَ يمثل بهَا كَمَا جَاءَ فِي سِدْرَة الْمُنْتَهى وَإِذا وَرقهَا مثل آذان الفيلة وَإِذا نبقها مثل قلال هجر وَهِي قلال مَعْرُوفَة الصَّنْعَة والمقدار فَإِن التَّمْثِيل لَا يكون بمختلف وَهَذَا يبطل كَون الْقلَّة قلَّة الْجَبَل فَإِنَّهَا مُخْتَلفَة فِيهَا الْمُرْتَفع كثيرا وَمَا هُوَ دونه وَلَيْسَ فِي الْوُجُود مَاء يصل إِلَى قلل الْجبَال الا مَاء الطوفان فَحمل كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مثل ذَلِك يشبه الِاسْتِهْزَاء بِكَلَامِهِ وَمن عَادَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقدر المقدرات بأوعيتها كَقَوْلِه لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أَو سُقْ صَدَقَة والوسق حمل الْجمل وَكَانَ يتَوَضَّأ بِالْمدِّ ويغتسل بالصاع وَذَلِكَ من أوعية المَاء فَكَذَا تَقْدِير المَاء بالقلال مُنَاسِب لِأَنَّهَا وعَاء المَاء

فصل

فصل المَاء الْمُتَغَيّر بالطاهر الَّذِي يُمكن صونه عَنهُ فِيهِ قَولَانِ لِأَحْمَد وَغَيره قَالَ شيخ الْإِسْلَام وَالصَّحِيح عِنْدِي نُصُوص أَحْمد أَنه لَا يسلبه الطّهُورِيَّة لِأَن الْمُتَغَيّر بالطاهرات إِمَّا أَن يتَنَاوَلهُ اسْم المَاء عِنْد الْإِطْلَاق أَولا فَإِن تنَاوله فَلَا فرق بَين مَا يُمكن صونه ومالا يُمكن صونه وَبَين مَا تغير بِأَصْل الْخلقَة وَغَيره وَإِذا تنَاوله فَلَا فرق بَين هذَيْن النَّوْعَيْنِ وَبَين غَيرهمَا إِذْ الْفرق بَين مَا كَانَ دَائِما وحادثا وَمَا كَانَ يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ ومالا يُمكن إِنَّمَا هِيَ فروق فقهية أما كَونهَا فروقا من جِهَة اللُّغَة وَتَنَاول اللَّفْظ لَهَا فَلَا وَبِهَذَا يظْهر الْجَواب عَن جَمِيع شَوَاهِد أدلتهم مثل اشْتِرَاء المَاء فِي بَاب الْوكَالَة وَالنّذر وَالْوَقْف أَو الْيَمين أَو غير ذَلِك فَإِن خطاب النَّاس فِي هَذِه الْأَحْكَام لَا فرق فِيهِ بَين مقبل وحادث فحقيقة قَوْله تَعَالَى {فَلم تَجدوا مَاء} إِن كَانَ شَامِلًا للمتغير بِأَصْل الْخلقَة أَو لما تغير بِمَا يشق الِاحْتِرَاز عَنهُ فَهُوَ شَامِل لما تغير بِمَا لَا يشق صونه عَنهُ وَإِذا كَانَت دلَالَة الْقُرْآن عَليّ الْكل سَوَاء كَانَ التَّمَسُّك بِدلَالَة الْقُرْآن حجَّة لمن جعله طهُورا لَا عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِي المسئلة دَلِيل من السّنة وَلَا من الْإِجْمَاع وَلَا من الْقيَاس بل الْأَحَادِيث كَمَا فِي الْمحرم الَّذِي وقصته نَاقَته اغسلوه بِمَاء وَسدر وَفِي غسل ابْنَته قَالَ اغسلها بِمَاء سدر وتوضؤ أم سَلمَة من قَصْعَة فِيهَا أثر الْعَجِين وَقَوله {تَمْرَة طيبَة وَمَاء طهُور} كل ذَلِك وَنَحْوه نَص دَال على جَوَاز اسْتِعْمَال المَاء الْمُتَغَيّر بالطاهرات أدل مِنْهَا على نقيض ذَلِك وَأَيْضًا الأَصْل بَقَاء مَا كَانَ وَلَيْسَ هَذَا استصحابا للاجماع فِي مورد النزاع حَتَّى يُقَال فِيهِ خلاف فَإِن ذَلِك هُوَ دَعْوَى بَقَاء الْإِجْمَاع بل

فصل

يُقَال هُوَ قبل التَّغْيِير طَاهِر بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع وَالْأَصْل بَقَاء الحكم على مَا كَانَ وَإِن لم يكن الدَّلِيل شَامِلًا لَهُ إِذا مَعَ شُمُول الدَّلِيل إِنَّمَا يكون اسْتِدْلَالا بِنَصّ أوإجماع لَا بالاستصحاب وَهَذَا الِاسْتِدْلَال إِنَّمَا هُوَ بالاستصحاب وَقَول بعض الحنيفة إِن المَاء لَا ينسقم رلا إِلَى طَاهِر ونجس فَلَيْسَ بشئ لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ كل مَا يُسمى مَاء مُطلقًا ومقيدا فَهُوَ خطأ لِأَن الْمِيَاه المعتصرة طَاهِرَة وَلَا يجوز بهَا رفع الْحَدث وَإِن أَرَادَ المَاء الْمُطلق لم يَصح فَإِن النَّجس لَا يدْخل فِي الْمُطلق وَقَوْلهمْ طهُور المَاء الْمُطلق يمعنى طَاهِر غلط لِأَن الطّهُور اسْم لما يتَطَهَّر بِهِ كالفطور والسحور والوجود لما يفْطر عَلَيْهِ ويتسحر بِهِ ويوجر بِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ} والطاهر لَا يدل على مَا يتَطَهَّر بِهِ من ظن أَن الطّهُور معدول عَن طَاهِر فَيكون يمنزلته فِي التَّعْدِيَة واللزوم عِنْد النَّحْوِيين فَهُوَ قَول من لم يحكم قَوْله من جِهَة الْعَرَبيَّة وَبِهَذَا تظهر دلَالَة النُّصُوص على مَا قُلْنَا لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي الْبَحْر هُوَ لاطهور مَاؤُهُ وَقَوله {جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وتربتها طهُورا} مِمَّا يبين أَن المُرَاد مَا يتَطَهَّر بِهِ وَلَا يجوز أَن يُرَاد طَاهِر لفساد الْمَعْنى وَلَا يجوز أَن يُرَاد طهُور تَعديَة طَاهِر لفساد الِاسْتِعْمَال فصل ويعفى عَن يسير بعر الفأر فِي أظهر الْقَوْلَيْنِ وهما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وَأبي حنيفَة وَغَيرهمَا وَالِاحْتِيَاط بِمُجَرَّد الشَّك فِي أُمُور الْمِيَاه لَيْسَ مُسْتَحبا وَلَا مَشْرُوعا بل الْمُسْتَحبّ بِنَاء الْأَمر على الستصحاب وَأما الْحمام إِذا كَانَ الْحَوْض فاءضا فَإِنَّهُ جَار فِي أصح قولي الْعلمَاء نَص

عَلَيْهِ أَحْمد وَهُوَ يمنزلة الحفيرة تكون فِي النَّهر فَإِنَّهُ جَار وَإِن كَانَ الجريان على وجهة فرنه يستخلفه شَيْئا فَشَيْئًا وَيذْهب وَيَأْتِي مَا بعده لَكِن يبطئ ذَهَابه بِخِلَاف الَّذِي يجرى جمعية وَإِذا شكّ فِي روية هَل هِيَ نَجِسَة أم طَاهِرَة فَفِيهَا قَولَانِ هما وَجْهَان فِي مَذْهَب أَحْمد يناء على أَن الأَصْل فِي الروث النَّجَاسَة أم الأَصْل فِي الْأَعْيَان ااطهارة وَهَذَا الْأَخير أصح فصل مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَالْبُخَارِيّ أَن حكم الْمَائِع حكم الماد وروى عَن مَالك وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد وَهُوَ قَول طاذفة من السّلف وَالْخلف كَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم وَأبي ثَوْر وَغَيرهم وَلَا دَلِيل على نَجَاسَته من كتاب وَلَا سنة وَمَا رَوَاهُ زبو دَاوُد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سذل عَن فَأْرَة وَقعت فِي سمن فَقَالَ إِن كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا وكلوه وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه فَهُوَ حَدِيث ضَعِيف غلط فِيهِ عمر عَن الزُّهْرِيّ كَمَا ذكره الثِّقَات كالبخاري وَغَيره مثل التِّرْمِذِيّ وزبي حَاتِم وَالدَّارَقُطْنِيّ وَإِن اعْتقد بعض الْفُقَهَاء أَنه على شَرط الصَّحِيح فلعدم علمه بعلته وَقد تبين البُخَارِيّ فِي صَحِيحه فَسَاد هَذِه الرِّوَايَة قَالَ: بَاب رذا وَقعت الْفَأْرَة فِي السّمن الجامد أَو الذائب حَدثنَا عَبْدَانِ حَدثنَا عبد الله يعْنى ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ أَنه سُئِلَ عَن الدَّابَّة تَمُوت فِي السّمن وَالزَّيْت وَهُوَ جامد أَو غير جامد الْفَأْرَة وَغَيرهَا فَقَالَ بلغنَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بفأرة مَاتَت فيسمن فَأمر بِمَا قرب مِنْهَا فَطرح ثمَّ أكل

فصل

وَفِي حَدِيث عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة عَن عبد الله بن عَبَّاس عَن مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن فَأْرَة وَقعت فِي سمن فَقَالَ زلقوها وَمَا حولهَا وكلوه وَذكر البُخَارِيّ عَن ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ الَّذِي هُوَ أعلم النَّاس بِالسنةِ فِي زَمَانه أَنه أفتى فِي الزَّيْت وَالسمن الجامد وَغَيره إِذا مَاتَت فِيهِ الْفَأْرَة أَنَّهَا تطرح وَمَا قرب مِنْهَا وَاسْتدلَّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَن عبيد الله بن عبد الله عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَذكر الحَدِيث وَلم يقل فِيهِ إِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه وَلَا ذكر الْفرق فَذكر البُخَارِيّ ذَلِك ليبين أَن من ذكر عَن الزُّهْرِيّ التَّفْصِيل فقد غلط عَلَيْهِ لجوابه بِالْعُمُومِ مستدلا بِهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه إِذْ إِطْلَاق الْجَواب من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَترك الاستفصال فِي حِكَايَة الْحَال مَعَ قيام الِاحْتِمَال ينزل منزلَة الْعُمُوم فِي الْمقَال فبذلك أجب الزُّهْرِيّ فَإِن مذْهبه فِي الماد أَنه لَا ينجس رلا بالتغير وَقد سوي البُخَارِيّ فِي أول الصَّحِيح بَين المَاء والمائع وَقد ذكرنَا أَدِلَّة هَذِه الْمَسْأَلَة مستوفاة وَفِي تنجيس ذَلِك من فَسَاد الْأَطْعِمَة الْعَظِيمَة وَإِتْلَاف الْأَمْوَال الْعَظِيمَة مَالا تَأتي الشَّرِيعَة بِمثلِهِ وَالله تَعَالَى إِنَّمَا حرم علينا الْخَبَائِث تنزيهالنا عَن المضار وَأحل لنا الطَّيِّبَات كلهَا وَالله أعلم وفأرة الْمسك طَاهِرَة عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء وَلَيْسَ ذَلِك فِيمَا يبان من الْبَهِيمَة وَهِي حَيَّة بل هُوَ بِمَنْزِلَة الْبيض وَالْولد وَاللَّبن وَالصُّوف وَالله أعلم فصل الْأَظْهر طَهَارَة النَّجَاسَة بالاستحالة وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأحد الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَمَالك

وَالصَّحِيح أَن النَّجَاسَة تزَال بِغَيْر الماد لَكِن لَا يجوز اسْتِعْمَال الْأَطْعِمَة والأشربة فِي إِزَالَتهَا بِغَيْر حَاجَة لما فِي ذَلِك من فَسَاد الْأَمْوَال كَمَا لَا يجوز الاستجاء بهَا وَالْفرق بَين طَهَارَة الْحَدث والخبث أَن طَهَارَة الْحَدث من بَاب الْأَفْعَال المزمور بهَا فَلَا تسْقط بِالنِّسْيَانِ وَالْجهل وَيشْتَرط فِيهَا النِّيَّة وطهارة الْخبث من بَاب التروك اجْتِنَاب الْخبث فَلَا يشْتَرط فِيهَا فعل العَبْد وَلَا قَصده وَإِذا صلى بِالنَّجَاسَةِ جَاهِلا أَو نَاسِيا فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ فِي زصح قولي الْعلمَاء وَذَلِكَ لِأَن مَا كَانَ مَقْصُوده اجْتِنَاب الْمَحْظُور إِذا فعله العَبْد نَاسِيا أَو مخطئا فَلَا إِثْم عَلَيْهِ لقَوْله تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم} وَقَوله {رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا} وَلِهَذَا كَانَ أقوى الْأَقْوَال أَن مَا فعله العَبْد نَاسِيا أَو مخطئا من مَحْظُورَات الصَّلَاة أَو الْحَج أَو الصّيام لَا يبطل الْعِبَادَة لَكِن إِذا أَتَى بهَا بِفِعْلِهِ وَنِيَّته أثيب على ذَلِك وَيجب على الْمُضْطَر الْأكل وَالشرب بِقدر مَا يسد رمقه وَفِي نَجَاسَة شعر الْكَلْب قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ فَلَو تمعط فِي بذر فَهَل يجب نزحه يجب نزحه عِنْد من يُنجسهُ وَهُوَ قَول فقهاد الْكُوفَة كزبي حنيفَة وَقيل لَا ينجس رلا بالتغير وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور فَيجوز اسْتِعْمَال الماد وَإِن خرج فِيهِ شعر عِنْد من يطهره وَعند المنجس يَقُول رذا خرج فِي الدَّلْو وَهُوَ قَلِيل نجس وَهُوَ الْمَشْهُور عَن أَحْمد وَالْأَظْهَر أَن شعر الْكَلْب طَاهِر لِأَنَّهُ لم يثبت فِيهِ دَلِيل شَرْعِي

فصل

فصل إِذا وَقع فِي المَاء نَجَاسَة فغيرته تنجس اتِّفَاقًا وَإِن لم يتَغَيَّر فَقيل لَا ينجس وَهُوَ قَول أهل الْمَدِينَة وَكثير من أهل الحَدِيث وَرِوَايَة عَن أَحْمد اخْتَارَهَا طَائِفَة من أَصْحَابه ونصرها ابْن عقيل وَابْن المنى وَغَيرهمَا الثناي ينجس قَلِيل الماد بِقَلِيل النَّجَاسَة وَهِي رِوَايَة الْبَصرِيين عَن مَالك الثَّالِث مَذْهَب الشَّافِعِي وَرِوَايَة عَن أَحْمد ينجس وَالْكثير وَالرَّابِع الْفرق بَين الْبَوْل والعذرة المائعة وَغَيرهمَا فَالْأول ينجس مِنْهُ مَا أمكن نزحه دون مَالا يُمكن نزحه وَهِي الْمَشْهُورَة عِنْد أَحْمد وَاخْتِيَار أَكثر أَصْحَابه الْخَامِس أَن المَاء ينجس بملاقاة النَّجَاسَة سَواد كَانَ قَلِيلا أَو كثيرا لَكِن مالم تصل النَّجَاسَة إِلَيْهِ مِنْهُ لَا ينجس ثمَّ حدوا مَالا تصل رليه بِمَا لَا يَتَحَرَّك أحد طَرفَيْهِ بتحرك الطّرف الآخر ثمَّ تنازعوا هَل هُوَ بحركة الْمُتَوَضِّئ أَو المغتسل وقدرء مُحَمَّد بن الْحسن يمسجده فَوَجَدَهُ عشرَة أَذْرع فِي عشرَة زذرع وانازعوا فِي الْآبَار رذا وَقعت فِيهَا النَّجَاسَة فَزعم بشر المريسى أَنه لَا يُمكن تطهيرها وَقَالَ زبو حنيفَة يُمكن بالنزح وَلَهُم فِي تَقْدِير الدَّلْو زقوال مَعْرُوفَة السَّادِس قَول أهل الظَّاهِر الَّذين ينجسون مَا بَال فِيهِ البائل دون مَا ألْقى فِيهِ الْبَوْل وأصل ذَلِك أَن اخْتِلَاط الْخبث بِالْمَاءِ هَل يُوجب تَحْرِيم الْجَمِيع أم يُقَال بل اسحال فَلم يبْق لَهُ حكم فَهَل الأَصْل الْإِبَاحَة حَتَّى يقوم الدَّلِيل على التَّحْرِيم أم الأَصْل الْمَنْع رلا مَا قَامَ الدَّلِيل على إِبَاحَته وَالصَّحِيح الأول وَهُوَ أَن النَّجَاسَة مَتى استحالت فالماء طَاهِر قَلِيلا كَانَ أول كثيرا فَإِنَّهُ دَاخل فِي حد الطّيب خَارج عَن الْخبث وَقد صَحَّ قَوْله

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الماد طهُور لَا يُنجسهُ شئ وَهُوَ عَام فِي قَلِيل وَالْكثير وَفِي جَمِيع النَّجَاسَات وَأما رذا تغير فَإِنَّمَا حرم لظُهُور جرم النَّجَاسَة فِيهِ بِخِلَاف مَا رذا اسْتهْلك وَيبين ذَلِك أَن الْخمر وَاللَّبن لَو وَقع فِي مَاء فاستهلك فشربه شَارِب لم يحد وَلم ينشر الْحُرْمَة وَنَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْبَوْل فِي الماد الداذم لِأَنَّهُ ذَرِيعَة إِلَى تنجيسه فسد الذريعة وَلِهَذَا يعم النَّهْي فِي كل ماد راكد فَلَا يجوز فِيمَا فَوق الْقلَّتَيْنِ وَلَا فِيمَا لَا يُمكن نزحه وَلَا فِيمَا لَا يَتَحَرَّك أحد بتحرك الآخر وَمن قَالَ يجوز فِي ذَلِك فقد خَالف إِذْ هُوَ عَام وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الماد طهُور لَا يُنجسهُ شئ فَلَا يُقَال وصف المَاء بِكَوْنِهِ طهُورا يدل على تنجيس غَيره لِأَنَّهُ يجوز تَعْلِيل الحكم بعلتين وَكَون الماد طهُورا يُوجب دفع النَّجَاسَة عَن نَفسه وَأَنه أولى من غَيره وَلَا يمْنَع أَن يكون فِي غَيره مَا يمْنَع عَنهُ النَّجَاسَة وَأَيْضًا فَإِنَّهُم سَأَلُوهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الماد فخصه بذلك لحَاجَة السَّائِل رليه مَعَ أَنه مَفْهُوم لقب وَهُوَ ضَعِيف وَأما حَدِيث الْقلَّتَيْنِ رذا صَحَّ فمنطوقه مُوَافق لغيره وَهُوَ أَنه رذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يُنجسهُ شئ وَأما مَفْهُومه إِذا قُلْنَا بِدلَالَة مَفْهُوم الْعدَد فانه إِنَّمَا يدل على أَن الحكم فِي

الْمَسْكُوت عَنهُ مُخَالف للْحكم فِي الْمَنْطُوق لَو بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا يشْتَرط أَن يكون الحكم مُخَالفا للمنطوق من كل وَجه وَهَذَا معنى قَوْلهم الْمَفْهُوم لَا عُمُوم لَهُ فَلَا يلْزم أَن كل مَا لم يبلغ الْقلَّتَيْنِ ينجس بل رذا قيل بالمخالفة فِي صُورَة حصل الْمَقْصُود فمنطوقه زنه لَا يحمل الْخبث عِنْد بُلُوغ الْقلَّتَيْنِ مَفْهُومه والقليل قد يحمل لمظنة الْقلَّة فَيَكْفِي الْمُخَالفَة لجَوَاز احْتِمَال الْخبث فِي الْقَلِيل دون الْكثير فقد خَالف الْمَفْهُوم الْمَنْطُوق بذلك وَهُوَ كَاف إِذْ لَا يلْزم أَن الْمَفْهُوم يُخَالف الْمَنْطُوق فيكل صُورَة من صوره بل يَكْفِي وَلَو فِي صُورَة فَلَا عُمُوم للمفهوم كَمَا قُلْنَا وَهَذَا ظَاهر وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يذكر ذَلِك حكما عَاما إِنَّمَا ذكره فِي جَوَاب من سزله عَن مَاء بِعَيْنِه فيتقيد بِهِ فَإِن التَّخْصِيص إِذا كَانَ لَهُ سَبَب غير اخْتِصَاص الحكم لم يبْق حجَّة بالتفاق كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم خشيَة إملاق} فَلَمَّا كَانَ حَال المَاء الْمَسْئُول عَنهُ أَنه كثير قد بلغ الْقلَّتَيْنِ وَمن شزن الْكثير أَنه لَا يحمل الْخبث بل يَسْتَحِيل فِيهِ دلّ ذَلِك على أَن منَاط الحكم كَون الْخبث مَحْمُولا فَحَيْثُ كَانَ مَحْمُولا أَي مَوْجُودا كَانَ نجسا وَحَيْثُ اسْتهْلك فَهُوَ غير مَحْمُول فَصَارَ حَدِيث الْقلَّتَيْنِ مُوَافقا لقَوْله المَاء طهُور لَا يُنجسهُ شئ ونكت الْجَواب عَن كَونه يحمل الْخبث أَولا يحملهُ أَنه أَمر حسى مَعْرُوف والحس دَلِيل وَالدَّلِيل على هَذَا اتِّفَاقهم على أَن المَاء إِذا تغير حمل الْخبث ونجسه فَصَارَ قَوْله رذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يحمل الْخبث وَلم يُنجسهُ شئ مثل قَوْله الماد لَا يُنجسهُ شئ وَهُوَ إِنَّمَا أَرَادَ إِذا لم يتَغَيَّر فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأما إِذا كَانَ قَلِيلا فقد يحمل الْخبث لضَعْفه

وعَلى هَذَا يحمل أمره فِي الْكَلْب لما أَمر بتطهير مَا ولغَ فِيهِ سبعا وَكَذَلِكَ قَوْله للمستيقظ من نوم اللَّيْل لَا يدْخل يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا المُرَاد الْإِنَاء الَّذِي للْمَاء الْمُعْتَاد للولوغ ولإدخال الْيَد وَهُوَ الصَّغِير وَالْكَلب يلغ بِلِسَانِهِ شَيْئا فَلَا بُد أَن يبْقى فِي المَاء من رقّه فَيكون ذَلِك مَحْمُولا وَالْمَاء يَسِيرا فيراق لأجل كَون الْخبث مَحْمُولا وَيغسل الْإِنَاء الَّذِي لاقاه ذَلِك الْخبث بِخِلَاف مَا إِذا اسْتهْلك الْخبث كَالْخمرِ رذا قلب الله عينهَا فَتطهر بالدن لِأَن الاستحالة والاستهلاك حصل فِي الْخمر دن تِلْكَ وَلَو أَرَادَ الْفَصْل بَين الْمُبْتَدِئ وَالِي ينجس بِمُجَرَّد الملاقاة لقَالَ رذا لم يبلغ قُلَّتَيْنِ نجس وَمَا بلغَهَا لم ينجس إِلَّا بالتغير أَو نَحْو ذَلِك أما مُجَرّد قَوْله رذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يحمل الْخبث مَعَ كَونه رذا تغير حمله وينجس فَلَا يدل على هَذَا الْمَقْصُود وَأما نَهْيه الْقَائِم من نوم اللَّيْل أَن يغمس يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا فَهَذَا لَا يقتضى التَّنْجِيس بالِاتِّفَاقِ بل لِأَنَّهُ قد يُؤثر فِي المَاء معنى أَو يُفْضِي رليه مثل قَوْله لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم وقدتقدم أَنه لَا يدل على التَّنْجِيس وَأما نَهْيه عَن الِاغْتِسَال فِيهِ بعد الْبَوْل إِن صَحَّ فَهُوَ كنهيه عَن الْبَوْل فِي المستحم وَقَوله فَإِن عَامَّة الوسواس مِنْهُ وَرُبمَا بقى من أَجزَاء الْبَوْل فَعَاد عَلَيْهِ رشاشها فَكَذَلِك رذا بَال فِي مَاء ثمَّ اغْتسل فِيهِ فقد يغْتَسل قبل الاستحالة مَعَ بَقَاء أَجزَاء الْبَوْل وَنَهْيه عَن الِاغْتِسَال فِي المَاء الدَّائِم وَإِن صَحَّ يتَعَلَّق بِمَسْأَلَة الماد الْمُسْتَعْمل وَقد يكون لما فِيهِ من تقذير المَاء على غَيره لَا لأجل النَّجَاسَة وَلَا لصيرورته مُسْتَعْملا فقد قَالَ المَاء لَا يجنب

فصل

فصل الحكم رذا ثَبت بعلة يَزُول لزوالها فَإِن بقى مَعَ زَوَالهَا من غير أَن يخلفها عِلّة أُخْرَى كَانَت عديمة التَّأْثِير فَلَا تكون عِلّة وَأما إِذا خلفهَا عِلّة أُخْرَى فَإِنَّهَا لَا يبطل كَونهَا عِلّة وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق فِي مَسْأَلَة عكس الْعِلَل وَعدم التَّأْثِير فِيهَا فَإِنَّهُ قد يظنّ أَنا إِذا جَوَّزنَا تَعْلِيل الحكم الْوَاجِب بِالشَّرْعِ بالنوع بعلتين لم تبطل الْعلَّة بِعَدَمِ التَّأْثِير فِيهَا وَهُوَ انفاء الحكم لانفاء الْوَصْف لجَوَاز أَن يخلفها عِلّة أُخْرَى بل إِذا كَانَ الحكم ثَابتا انْتَفَى الْوَصْف لثُبُوته مَعَ ثُبُوته دلّ على أَنه لَيْسَ بعلة فالنقض وجود الْوَصْف بِلَا حكم فَإِن لم يكن التَّخَلُّف لفَوَات شَرط أَو انْتِفَاء مَانع كَانَ دَلِيلا على أَنه لَيْسَ بعلة وَعدم التَّأْثِير هُوَ وجود الحكم بِلَا وصف فَإِن لم يكن لَهُ عِلّة أُخْرَى كَانَ دَلِيلا على أَن الْوَصْف لَيْسَ بعلة فَإِذا عللنا الْملك بِالْبيعِ أَو الْإِرْث أَو الاغتنام وَنَحْو ذَلِك وَقُلْنَا فِي صُورَة قد عللنا الْملك فِيهَا بِالْبيعِ هَذَا بيع بَاطِل فَلَا يحصل الْملك كَانَ كَامِلا صَحِيحا وَإِن علمنَا أَن الْملك يثبت بِإِرْث وَغَيره لَكِن التَّقْدِير أَنه لَا يثبت لَهُ هُنَا غير البيع وَإِذا قُلْنَا هَذَا يملك هَذِه السّلْعَة لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا شِرَاء شَرْعِيًّا أَو لِأَنَّهُ ورثهَا كَانَ كَامِلا صَحِيحا وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون الْملك منتفيا فِي كل مَوضِع انْتَفَى فِيهِ البيع أَو الْإِرْث لِأَن الْملك لَهُ أَسبَاب مُتعَدِّدَة وَكَذَلِكَ الطَّهَارَة إِذا كَانَ لَهَا سببان فعلل الشَّارِع طَهَارَة بعض الْأَعْيَان بِسَبَب كَانَ ذَلِك كَامِلا صَحِيحا وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون كل مَوضِع انْتَفَى عَنهُ هَذَا السَّبَب أَن يكون الْملك منتفيا فِي كل مَوضِع انْتَفَى فِيهِ البيع وَلَا كَانَ مِنْهُ أَن مَا انْتَفَى عَنهُ ذها السَّبَب يكون نجسا فَقَوله فِي الهر إها من الطوفين دَلِيل على أَن الطّواف سَبَب الطَّهَارَة فَإِذا انْتَفَى فِيمَا هُوَ سَبَب فِيهِ زَالَت طَهَارَته وَقد ثبتَتْ الطَّهَارَة لغيره وَهُوَ الْحل

كطهارة الصَّيْد والأنعام فَإِنَّهَا طيبَة الَّتِي أَبَاحَهَا الله تَعَالَى فَلَا يحْتَاج إِلَى تَعْلِيل طَهَارَتهَا بِالطّوافِ فَإِن الطّواف يدل على أَن ذَلِك لدفع الْحَرج فِي نجاستها وَقَوله الماد طهُور لَا يُنجسهُ شئ قد قَالَ فِيهِ أَولا قد يكون الْمَقْصُود وصف المَاء بِكَوْنِهِ طهُورا وبكونه لَا يُنجسهُ شئ فَيكون صفة بعد صفة لَيْسَ الْمَقْصُود جعل إِحْدَاهمَا عِلّة لِلْأُخْرَى وَوَصفه بِهَاتَيْنِ الصفتين يبين مُفَارقَته للبدن وَالثَّوْب وَنَحْوهمَا من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ من جِهَة أَنه طهُور وَمن جِهَة أَنه لَا يُنجسهُ شئ وَإِذا لم يُعلل نفي النَّجَاسَة بِكَوْنِهِ طهُورا لم يُوجب ذَلِك حُصُول النَّجَاسَة فِيمَا لَيْسَ بِطهُور بِمُجَرَّد الملاقاة فَإِذا أمكن أَن تكون هَذِه عِلَّتَانِ لجَوَاز استقائه من الْبِئْر لم يجب أَن يُقَال إِن إِحْدَاهمَا عِلّة لِلْأُخْرَى بل كَانَ قَوْله لَا ينجس كَقَوْلِه المَاء لَا يجنب وَهُنَاكَ لم يُعلل انْتِفَاء الْجَنَابَة عَنهُ بِكَوْنِهِ طهُورا فَكَذَا هُنَا لم يُعلل انْتِفَاء النَّجَاسَة عَنهُ بِكَوْنِهِ طهُورا بل هُنَاكَ علل جَوَاز اسْتِعْمَال سُؤْر عَائِشَة بِأَن المَاء لَا يجنب وَهنا علل وضوءه من بِئْر بضَاعَة بِأَن المَاء لَا ينجس وَزَاد مَعَ ذَلِك أَن المَاء طهُور وَهَذَا بَين لمن تَأمله بل هُوَ ظَاهر الحَدِيث وَبَيَان ذَلِك أَنه قد سمى التُّرَاب طهُورا فِي نَجَاسَة الْحَدث والخبث فَقَالَ جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وتربتها طهُورا وَقَالَ فِي النَّعْلَيْنِ فليدلكها بِالتُّرَابِ فَإِن التُّرَاب لَهما طهُور وَمَعَ هَذَا التُّرَاب وَغَيره من أَجزَاء الأَرْض فِي النَّجَاسَة سَوَاء لافرق بَين التُّرَاب وَغَيره إِذا ظَهرت فِيهِ النَّجَاسَة كَانَ نجسا وَإِذا زَالَت بالشمس وَنَحْوهَا فإمَّا أَن يُقَال تَزُول مُطلقًا أَو لَا تَزُول مُطلقًا لم يفرق بَين التُّرَاب والرمكل وَغَيرهمَا من أَجزَاء الأَرْض كَمَا فرق بَينهمَا من فرق فِي طَهَارَة الْحَدث بل احْتج من يَقُول تزوالها بِحَدِيث البُخَارِيّ وَكَانَت الْكلاب تقبل وتدبر وتبول فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يَكُونُوا يرشون من ذَلِك شَيْئا وَالْمَسْجِد كَانَ فِيهِ التُّرَاب وَغَيره

باب الآنية

فَإِذا كَانَ قَوْله فَإِن التُّرَاب لَهما طهُور صَرِيحًا فِي التَّعْلِيل وَلم يخص التُّرَاب بذلك فَقَوله فِي المَاء إِنَّه طهُور لَا يُنجسهُ شئ أولى أَن يخص بذلك لَكِن هَل يُقَال إِن غير المَاء يُشَارِكهُ فِي إِزَالَة النَّجَاسَة كَمَا شَارك التُّرَاب مَا لَيْسَ بِتُرَاب هَذَا نزاع مَشْهُور وللعلماء فِي إِزَالَة النَّجَاسَة بِغَيْر المَاء ثَلَاثَة أَقْوَال قيل يجوز مُطلقًا وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَرِوَايَة عَن أَحْمد وَقيل لَا يجوز مُطلقًا كَقَوْل الشَّافِعِي وَالظَّاهِر عَن أَحْمد وَقيل يجوز عِنْد الْحَاجة وَهُوَ قَول ثَالِث فِي مَذْهَب أَحْمد كَمَا قيل بذلك على أحد الْوُجُوه فِي طَهَارَة فَم الهر باللعاب وَكَذَلِكَ أَفْوَاه الصّبيان وَنَحْوهم من القئ فَإِن قيل إِن طهورية المَاء من النَّجَاسَة يُشَارِكهُ فِيهَا غَيره صَار كالتراب وَإِن قيل لَا يُشَارِكهُ كَانَ قَوْله المَاء طهُور لَا يُنجسهُ شئ عليلا لَا ستبقائه كَمَا سبق وَبِالْجُمْلَةِ فَلم أعلم إِلَى سَاعَتِي هَذِه لمن ينجس الماءعات الْكَثِيرَة بِوُقُوع النَّجَاسَة فِيهَا رذا لم تَتَغَيَّر حجَّة يعْتَمد عَلَيْهَا الْمُفْتِي فِيمَا بَينه وَبَين الله فتحريم الْحَلَال كتحليل الْحَرَام فَمن كَانَ عِنْده علم يرجع إِلَيْهِ أَو يعْتَمد عَلَيْهِ فَليتبعْ الْعلم وَإِن لم يكن عِنْده رلا مُجَرّد التَّقْلِيد فالنزاع فِيهِ مَشْهُور وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تَقولُوا لما تصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام} بَاب الْآنِية المُرَاد بالضبة للْحَاجة مَا يحْتَاج إِلَى تِلْكَ الصُّورَة سَوَاء كَانَ غَيرهَا يقوم مقَامهَا كالنحاس أَولا أما لَو كَانَ مُضْطَرّا إِلَيْهَا أبيحت سَوَاء كَانَت من ذهب أَو فضَّة كالأنف وَشد الْأَسْنَان بِالذَّهَب وَنَحْو ذَلِك لَو لم يجد مَا يشرب فِيهِ رلا إِنَاء ذهب أَو فضَّة جَازَ

وَلَو لم يجد ثوبا بَقِيَّة الْبرد أَو يَقِيه السِّلَاح أَو يستر عَوْرَته رلا حَرِيرًا منسوجا بِذَهَب أَو فضَّة جَازَ لبسه فَإِن الضَّرُورَة تبيح أكل الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير بِنَصّ الْقُرْآن مَعَ أَن تَحْرِيم المطاعم أَشد من تَحْرِيم الملابس لِأَن تَأْثِير الْخَبَائِث بالمازجة للبدن أعظم من تأثيرها بالملابسة باللباس وَلِهَذَا كَانَت النَّجَاسَات الَّتِي يحرم ملابستها يحرم أكلهَا وَيحرم من السمُوم وَنَحْوهَا من المضرات مَا لَيْسَ بِنَجس وَلَا يحرم مباشرتها ثمَّ مَا حرم لخبث جنسه أَشد مِمَّا حرم لما فِيهِ من السَّرف وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء فَإِن هَذَا يحرم الْقدر الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِك مِنْهُ وَيُبَاح للْحَاجة كَمَا للنِّسَاء وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيح من الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره جَوَاز التَّدَاوِي بِهَذَا الضَّرْب دون الأول كَمَا رخص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للزبير وَطَلْحَة رَضِي الله عَنهُ فِي لبس الْحَرِير من حكة وَنهى عَن التداوى بِالْخمرِ وَقَالَ إِنَّهَا دَاء وَلَيْسَت بدواء وَنهى عَن الدَّوَاء الْخَبيث وَعَن قتل الضفدع لأجل التداوى بهَا وَقَالَ نقيقها تَسْبِيح وَقَالَ إِن الله تَعَالَى لم يَجْعَل شِفَاء أمتِي فِيمَا حرم عَلَيْهِم وَاسْتدلَّ على طَهَارَة أَبْوَال الْإِبِل بِإِذْنِهِ العرنيين بشربها فَلَيْسَتْ من الْخَبَائِث الْمُحرمَة النَّجِسَة لنَهْيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن التَّدَاوِي بِمثل ذَلِك وَلم يَأْمر بِغسْل أَفْوَاههم مِنْهَا وَإِن كَانَ الْقَائِلُونَ بِطَهَارَة أبوالها تنازعوا فِي جَوَاز شربهَا لغير ضَرُورَة وَفِيه رِوَايَتَانِ منصوصتان وَكَذَلِكَ لما فِيهَا من القذارة الملحقة بالبصاق والمخاط والمنى وَنَحْو ذَلِك من المتقذرات وَلِهَذَا أَيْضا حرم الضَّرْب فِي بَاب الْآنِية والمنقولات على الرِّجَال وَالنِّسَاء بِخِلَاف التحلى باذهب وَلبس الْحَرِير الْمُبَاح للنِّسَاء وَبَاب الحبائث بِالْعَكْسِ وَخص من اسْتِعْمَال ذَلِك مَا ينْفَصل عَن بدن الْإِنْسَان مِمَّا لَا يُبَاح مصلا بِهِ كَمَا بياح إطفاء الْحَرِيق بِالْخمرِ وإطعام الْميتَة للبزاة والصقور وإلباس الدَّابَّة الثَّوْب النَّجس والاستصباح بالدهن النَّجس فِي أشهر قولي الْعلمَاء وَذَلِكَ لِأَن

فصل

اسْتِعْمَال الْخَبَائِث فِيهَا يجرى مجْرى الْإِتْلَاف وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَر وَكَذَلِكَ فِي الْأُمُور الْمُنْفَصِلَة بِخِلَاف اسْتِعْمَال الْحَرِير وَالذَّهَب فَإِن غَايَته السَّرف وَالْفَجْر وَبِهَذَا يظْهر غلط من رخص من أَصْحَاب أَحْمد وَغَيرهم فِي إلباس دَابَّته الْحَرِير قِيَاسا على النَّجس فَهُوَ بِمَنْزِلَة من يجوز افتراش الْحَرِير ووطأه قِيَاسا على المصورات أَو من يُبِيح تحلية دَابَّته بِالذَّهَب وَالْفِضَّة قِيَاسا على إلباسها الثَّوْب النَّجس فقد ثَبت بِالنَّصِّ تَحْرِيم افتراش الْحَرِير وَيظْهر أَن قَول من حرم افتراشه على النِّسَاء كَمَا هُوَ قَول المراوزة من أَصْحَاب الشَّافِعِي أقرب من قَول من أَبَاحَهُ للرِّجَال كَمَا قَالَه أَبُو حنيفَة وَأَن الْجُمْهُور على أَن الافتراش كاللباس يحرم على الرِّجَال دون النِّسَاء لِأَن الافتراش لبس إِذْ لَا يلْزم من إِبَاحَة التزين على الْبدن إِبَاحَة الْمُنْفَصِل كَمَا فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة فَإِنَّهُم اتَّفقُوا على أَن اسْتِعْمَال ذَلِك حرَام على الذّكر وَالْأُنْثَى فصل آخر الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد أَن الدّباغ مطهر لَكِن فِي ذَلِك نزاع هَل يقوم الدّباغ مقَام الذَّكَاة أَو مقَام الْحَيَاة فِيهِ وَجْهَان أَو جهما الأول وَهُوَ أَنه يطهر بالدباغ مَا يطهر بالذكاة وَحَدِيث عبد الله بن عكيم رَضِي الله عَنهُ نهى عَن الِانْتِفَاع بالجلود بِلَا دباغ فَإِنَّهُ كَانَ قد أرخص فِيهِ وَأما بعد الدبغ فَلم ينْه عَنهُ قطّ وَعظم الْميتَة وقرنها وظفرها وشعرها وريشها وَنَحْوه فِيهِ ثَلَاث أَقْوَال نَجَاسَة الْجَمِيع وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد الثَّانِي أَن الْعِظَام وَنَحْوهَا نَجِسَة والشعور وَنَحْوهَا طَاهِرَة وَهُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب أَحْمد

وَالثَّالِث أَن الْجَمِيع طَاهِر وَهُوَ الصَّوَاب وَقَول فِي مَذْهَب أَحْمد وَمَالك وملابسة النَّجَاسَة للْحَاجة جَائِز إِذا طهر بدنه وثيابه عِنْد الصَّلَاة كَمَا يجوز الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ مَعَ مُبَاشرَة النَّجَاسَة وَلَا يكره ذَلِك على أصح الرِّوَايَتَيْنِ وَقَول أَكثر الْفُقَهَاء وَهل تطهر النَّجَاسَة بالاستحالة على قَوْلَيْنِ للعماء هما رِوَايَتَانِ الصَّوَاب الطَّهَارَة وَقَوْلهمْ إِن الْخمر نَجِسَة بالاستالة فَتطهر بهَا كَذَلِك جَمِيع النَّجَاسَات أَي إِنَّهَا تنجست بالاستحالة كَالدَّمِ يَسْتَحِيل عَن الْغذَاء كَذَلِك الْبَوْل والعذرة حَتَّى الْحَيَوَان النَّجس مُسْتَحِيل عَن المَاء والهواء وَالتُّرَاب وَنَحْوه من الطاهرات وَلَا يَنْبَغِي أَن يعبر عَن ذَلِك بِأَن النَّجَاسَة طهرت بالاستحالة فَإِن نفس النَّجس لم يطهر لَكُنْت اسْتَحَالَ وَهَذَا الطَّاهِر هُوَ ذَلِك النَّجس وَإِن كَانَ مستحيلا مِنْهُ والمادة وَاحِدَة كَمَا أَن الزَّرْع لَيْسَ هُوَ المَاء والهواء وَالْحب وَالْإِنْسَان لَيْسَ هُوَ المنى واللهه تَعَالَى يخلق أجسام الْعَالم بَعْضهَا من بعض وَمَعَ تبدل الْحَقَائِق لَيْسَ هَذَا ذَاك فيكف يكون الرماد هُوَ الْعظم وَاللَّحم وَالدَّم بِمَعْنى أَنه يتَنَاوَلهُ اسْم الدَّم أم الْعظم أما كَونه هُوَ بِاعْتِبَار الْمَادَّة فَلَا يضر فَإِن التَّحْرِيم تبع للاسم وللمعنى الَّذِي هُوَ الْخبث وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ وَيجوز الخرز بِشعر الْخِنْزِير فِي أظهر قولي الْعلمَاء وَمِنْهُم من يَقُول إِنَّه طَاهِر كمالك وَأحمد فِي رِوَايَة عَنهُ وعَلى القَوْل بِنَجَاسَتِهِ يُعْفَى عَن الرُّطُوبَة الَّتِي لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنْهَا وَإِمَّا أَن لَا يفعل إِن أمكن وَالصَّحِيح طَهَارَة الشُّعُور كلهَا حَتَّى شعر الْكَلْب وكل حَيَوَان قيل بِنَجَاسَتِهِ فَفِي شعره رِوَايَتَانِ وَالصَّحِيح طَهَارَة الْعظم والقرن والريش وَنَحْوه

فصل

فصل إِذا سرح شعره فِي الْمَسْجِد وَتَركه يَقع فِيهِ كره عِنْد من لَا ينجس الشّعْر وَعند من يُنجسهُ يحرم وَبِالْجُمْلَةِ الْمَسْجِد يصان عَن القذاة الَّتِي تقع فِي الْعين وَلَيْسَ حلق الرَّأْس فِي غير نسك بِسنة وَلَا قربَة بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَتَنَازَعُوا فِي كَرَاهَته وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يُعَزّر بحلق الرَّأْس فَإِنَّهُ كَانَ عِنْد السّلف مثله وَمَا علمت أحدا كره السِّوَاك فِي الْمَسْجِد وقص الشَّارِب لَيْسَ بِعَيْب بل فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومدح فَاعله وَمن عَابَ شَيْئا فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو أقرّ عَلَيْهِ عرف ذَلِك فَإِن أصر كفر فصل الْوضُوء عبَادَة لِأَنَّهُ لَا يعلم رلا من الشَّارِع وكل فعل لَا يعلم رلا من الشَّارِع فَهُوَ عبَادَة كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم وَلِأَنَّهُ مُسْتَلْزم للثَّواب كَمَا وعد عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُتَوَضِّئ بتكفير خطاياه فَلَا بُد فِيهِ من النِّيَّة وَمن لم يُوجب النِّيَّة رأى ذَلِك من شَرَائِط الصَّلَاة فَهُوَ كالسترة وَهل يَصح غسل الْكَافِر من الْجَنَابَة على قَوْلَيْنِ بِخِلَاف وضوئِهِ وَكره مَالك وَأحمد لبس الْعِمَامَة الْمُقطعَة الَّتِي لَيْسَ تَحت الحنك مِنْهَا شئ وَكَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يَقُول لَا ينظر الله إِلَى قوم لَا يديرون عمائمهم تَحت أذقانهم وَكَانُوا يسمونها الفاسقية لَكِن رخص فِيهَا إِسْحَق

فصل

وَغَيره وروى أَن أَبنَاء الْمُهَاجِرين كَانُوا يتعممون كَذَلِك وَقد يجمع بَينهمَا بِأَن هَذَا حَال الْمُجَاهدين والمستعدين لَهُ وَهَذَا حَال من لَيْسَ من أهل الْجِهَاد وإمساكها بالسيور يشبه التحنيك فصل النّظر إِلَى الْأَمْرَد لشَهْوَة حرَام بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَكَذَلِكَ إِلَى ذَوَات الْمَحَارِم ومصافحتهم والتلذذ بهم وَمن قَالَ إِنَّه عبَادَة فَهُوَ كَافِر وَهُوَ بِمَنْزِلَة من جعل إِعَانَة طَالب الْفَوَاحِش عبَادَة بل النّظر إِلَى الْأَشْجَار وَالْخَيْل والبهائم إِذا كَانَ على وَجه اسْتِحْسَان الدُّنْيَا والرياسة وَالْمَال فَهُوَ مَذْمُوم لقَوْله الله تَعَالَى {وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم زهرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا لنفتنهم فِيهِ ورزق رَبك خير وَأبقى} وَأما إِذا كَانَ على وَجه لَا ينقص الدّين وَإِنَّمَا فِيهِ رَاحَة النَّفس فَقَط كالنظر إِلَى الأزهار فَهَذَا من الْبَاطِل الَّذِي يستعان بِهِ على الْحق وَقد ينظر إِلَى الإسنان لما فِيهِ من الايمان وَالتَّقوى وَهنا الِاعْتِبَار بِقَلْبِه وَعَمله لَا بصورته وَقد ينظر إِلَيْهِ لما فِيهِ من الصُّورَة الدَّالَّة على المصور فَهَذَا حسن وَقد ينظر من جِهَة اسْتِحْسَان خلقه فَكل قسم من هَذِه الْأَقْسَام مَتى كَانَ مَعَه شَهْوَة كَانَ حَرَامًا بِلَا ريب سَوَاء كَانَت شَهْوَة يمتع نظره لشَهْوَة الْوَطْء وَفرق بَين مَا يجده الْإِنْسَان عِنْد نظره إِلَى الأزهار وَبَين مَا يجده عِنْد نظره إِلَى النسوان والمردان فَلهَذَا الْفرْقَان فرق فِي الحكم الشَّرْعِيّ فَصَارَ النّظر إِلَى المردان ثَلَاثَة أَقسَام أَحدهَا مَا تقترن بِهِ الشَّهْوَة فَهُوَ حرَام بالِاتِّفَاقِ

وَالثَّانِي مَالا يحرم لِأَنَّهُ لَا شَهْوَة مَعَه كنظر الرجل الْوَرع إِلَى وَلَده الْحسن وَابْنَته الْحَسْنَاء فَهَذَا لَا تقترن مَعَه شَهْوَة إِلَّا أَن يكون من أفجر الْخلق وَمَتى اقترنت بِهِ الشَّهْوَة حرم وعَلى هَذَا من لَا يمِيل قلبه رلي المردان كَمَا كَانَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وكالأمم الَّذين لَا يعْرفُونَ هَذِه الْفَاحِشَة فَإِن الْوَاحِد من هَؤُلَاءِ لَا يفرق بَين نظره إِلَيّ هَذَا الْوَجْه وَبَين نظره إِلَيّ ابْنه وَابْن جَاره وصبى أَجْنَبِي لَا يخْطر بِقَلْبِه شئ من الشَّهْوَة لِأَنَّهُ لم يعْتد ذَلِك وَهُوَ سليم الْقلب وَقد كَانَ الْإِمَاء على عهد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنهُ يَمْشين فِي الطرقات مكشوفات الْوُجُوه ويخدمن الرِّجَال مَعَ سَلامَة القولب فَلَو أَرَادَ الرجل أَن يتْرك الإِمَام التركيات الحسان يَمْشين بَين النَّاس فِي هَذِه الْبِلَاد والأوقات لَكَانَ من بَاب الْفساد وَكَذَلِكَ المردان الحسان لَا يَصح أَن يخرجُوا فِي الْأَمْكِنَة والأزمنة الَّتِي يخَاف فِيهَا الْفِتْنَة بهم إِلَّا بِقدر الْحَاجة فَلَا يُمكن الْأَمْرَد الْحسن وَالْوَجْه من التفرج وَلَا من الْجُلُوس فِي الْحمام بَين الْأَجَانِب وَلَا من رقصه بَين الرِّجَال وَنَحْو ذَلِك وَإِنَّمَا وَقع النزاع بَين النَّاس فِي الْقسم الثَّالِث وَهُوَ النّظر إِلَيْهِ لغير شَهْوَة لَكِن مَعَ خوف ثورانها فَفِيهِ وَجْهَان فِي مَذْهَب أَحْمد أصَحهمَا وَهُوَ المحكي عَن نَص الشَّافِعِي وَغَيره أَنه لَا يجوز وَالثَّانِي يجوز لِأَن الأَصْل عدم ثورانها وَالْأول هُوَ الرَّاجِح وَمن أدمن النّظر رلى الْأَمْرَد وَقَالَ إِنَّه لَا ينظر لشَهْوَة فقد كذب فَإِنَّهُ رذا لم يكن لَهُ دَاع يحْتَاج مَعَه إِلَيّ النّظر لم يكن مِنْهُ النّظر فَإِنَّهُ مَا ينظر رلا لما يحصل فِي الْقلب من اللَّذَّة وَأما نظر الْفجأَة فَهُوَ عَفْو إِذا صرف بَصَره وَيُقَال غض الْبَصَر عَن الصُّورَة الَّتِي يحرم النّظر إِلَيْهَا لَهُ ثَلَاث فَوَائِد إِحْدَاهَا حلاوة الْإِيمَان ولذته الَّتِي هِيَ أحلى وَأطيب مِمَّا تَركه لله وَالنَّفس تحب النّظر إِلَى الصُّور لَا سِيمَا نفوس أهل الرياضة والصفا فَإِنَّهُ يبْقى فِيهَا رقة

فصل

حَتَّى إِن الصُّور تجذب أحدهم وتصرعه وروى عَن فتح أَنه قَالَ صَحِبت ثَلَاثِينَ من الأبدال كلهم يوصيني عِنْد فِرَاقه بتركي صُحْبَة الْأَحْدَاث الثَّانِيَة أَنه يُورث نور الْقلب والفراسة قَالَ الله تَعَالَى عَن قوم لوط {لعمرك إِنَّهُم لفي سكرتهم يعمهون} فالتعلق بالصور يُورث فَسَاد الْعقل وَعمي الْبَصَر وسكر الْقلب بل جُنُونه كَمَا قيل قَالُوا جننت بِمن تهوى فَقلت لَهُم ... الْعِشْق أعظم مِمَّا بالجانين الْعِشْق لَا يستفيق الدَّهْر صَاحبه ... وَإِنَّمَا يصرع الْمَجْنُون فِي الْحِين فَمن غض بَصَره عَمَّا حرمه الله عوضه الله من جنسه بِمَا هُوَ خير مِنْهُ فيطلق عين بصيرته وَيفتح عَلَيْهِ بَاب الْعلم والمعرفة والكشوف وَالثَّالِثَة قُوَّة الْقلب وثباته وشجاعته فَيجْعَل الله لَهُ سُلْطَان النُّصْرَة مَعَ السُّلْطَان الْحجَّة وَفِي الْأَثر الَّذِي يُخَالف هَوَاهُ يفرق الشَّيْطَان من ظله وَيُوجد فِي التبع لهواه من الذل ذل النَّفس ومهانتها مَالا يُوجد فِي غَيره فَإِن الله جعل الْعِزَّة لمن أطاعه والذلة لمن عَصَاهُ {وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ} وَالنَّاس يطْلبُونَ الْعِزّ فِي بَاب الْمُلُوك وَلَا يجدونه رلا فِي طَاعَة الله أبي الله إِلَّا أَن يذل من عَصَاهُ فصل وَنقض الْوضُوء المذى وَيجب غسل ذكره وأنثييه وَيجب على الرجل وَطْء زَوجته بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ أوكد حَقّهَا عَلَيْهِ أعظم من طعامها وشرابها وَالْوَطْء الْوَاجِب قيل كل أَرْبَعَة أشهر مرّة وَقيل بِقدر حَاجَتهَا وَقدرته كإطعامها وَهُوَ أصح وَلَو يجِئ الْوضُوء فِي كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رلا وَالْمرَاد بِهِ الْوضُوء

فصل

الشَّرْعِيّ وَلم يرد لفظ الْوضُوء بِمَعْنى غسل الْيَد والفم رلا فِي لُغَة الْيَهُود كَمَا روى أَن سلمَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّا نجد فِي التوارة أَن من بركَة الطَّعَام الْوضُوء قبله وَالْوُضُوء بعده وَمَسّ الْيَهُودِيّ أَو النَّصْرَانِي لَا ينْقض الْوضُوء بِاتِّفَاق المسملين وَأكل النِّسَاء الْأَجَانِب مَعَ الرِّجَال لَا يفعل إِلَّا لحَاجَة من ضيق الْمَكَان أَو قلَّة وَمَعَ ذَلِك فَلَا تكشف وَجههَا للأجانب وَلَا يلقمها الْأَجْنَبِيّ وَلَا تلقمه وَلما سُئِلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الحمو الْمَوْت والحمو أَخُو الزَّوْج وَنَحْوه دون أَبِيه فَإِنَّهُ محرم وَفِي الحَدِيث لَا يدْخل الْجنَّة ديوث وَهُوَ الَّذِي لَا غيرَة لَهُ بل إِذا رأى على أَهله شَيْئا لم يُنكره وَلَا يجوز للْمَرْأَة أَن تظهر على أَجْنَبِي وَلَا رَقِيق غير ملكهَا وَلَو كَانَ خَصيا وَهُوَ الْخَادِم فَلَيْسَ لَهُ النّظر إِلَيْهَا لِأَنَّهُ يفعل مُقَدمَات الْجِمَاع وَيذكر بِالرِّجَالِ وَله شَهْوَة وَإِن كَانَ لَا يحبل وَأما مملوكها فَفِيهِ قَولَانِ أَحدهمَا أَنَّهَا مَعَه كَالْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالْمَشْهُور عَن أَحْمد وَالثَّانِي أَنه محرم وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَقَول لِأَحْمَد فصل وَمن أَصَابَهُ سهم مَسْمُوم من سِهَام إِبْلِيس وَهُوَ الْعِشْق فَعَلَيهِ بالترياق والمرهم وَذَلِكَ بِأُمُور مِنْهَا التَّزَوُّج أَو التسرى فَإِنَّهُ ينقص الشَّهْوَة ويضعف الْعِشْق الثَّانِي أَن يداوم على الصَّلَوَات الْخمس وَالدُّعَاء والتضرع وَقت السحر وَتَكون صلَاته يحضور قلب وخشوع وَيكثر من قَول يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبت قلبِي على دينك

باب الاستطابة

يَا مصرف الْقُلُوب صرف قلبِي على طَاعَتك وَطَاعَة رَسُولك فَمَتَى أدمن الدُّعَاء والتضرع لله صرف قلبه عَن ذَلِك الثَّالِث أَن يبعد عَن سكن هَذَا الشَّخْص والاجتماع بِمن يجْتَمع بِهِ بِحَيْثُ لَا يسمع لَهُ خَبرا بَاب الاستطابة إِذا كَانَ فِي الْمَسْجِد بركَة يغلق عَلَيْهَا بَابه وَيَمْشي حولهَا دون أَن يُصَلِّي حولهَا فَهَل يبال فِيهَا هَذَا يشبه الْبَوْل فِي الْمَسْجِد فِي القرورة وَمن الْفُقَهَاء من نهى عَنهُ لِأَن هَوَاء الْمَسْجِد كقراره فِي الْحُرْمَة وَمِنْهُم من يرخص للْحَاجة وَالْأَشْبَه أَن هَذَا إِذا فعل للْحَاجة فقريب وَأما إِذا اتخذ مبالا أَو مستجي فَلَا ونتر الذّكر والتنحنح وَالْمَشْي لَيْسَ بِوَاجِب إِنَّمَا يجب الانقاء وَلَا يجب غسل دَاخل فرج الْمَرْأَة فِي أصح الْقَوْلَيْنِ فَإِذا دست الْمَرْأَة دَوَاء مَعَ الْجِمَاع يمْنَع نُفُوذ المنى فِي مجارى الْحَبل فصومها وصلاتها صَحِيحَة وَإِن كَانَ ذَلِك الدَّوَاء يبْقى فِي جوفها وَأما جَوَاز ذَلِك لمنع الْحمل فَفِيهِ نزاع بَين الْعلمَاء والأحوط أَن لَا تفعل بَاب الْغسْل يجوز الِاغْتِسَال عُرْيَان بكشف عَوْرَته إِن كَانَ فِي خلْوَة وَأما دَاخل الْحمام فَعَلَيهِ ستر عَوْرَته وَلَا يخلى أحدا يَرَاهَا وَلَا يَمَسهَا قيمًا كَانَ أَو غَيره وَلَا يشْهد مُنْكرا بل يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ بحبسه وَلَيْسَ لَهُ أَن يسرف فِي صب المَاء بل الْحمام أَشد لحق صَاحبه وَيلْزم السّنة فَلَا يجفو جفوة النَّصَارَى وَلَا يغلو غلو الْيَهُود

باب التيمم

وَمن اغْتسل وَلم يتَوَضَّأ أحزأ عَنْهُمَا فِي الْمَشْهُور من مَذْهَب الْأَرْبَعَة لَكِن عَن أَحْمد وَأبي حنيفَة يجب أَن يتضمض ويستنشق وَهل عَلَيْهِ أَن يَنْوِي رفع الحدثين فِيهِ نزاع بَين الْعلمَاء وَهل للْمَرْأَة دُخُول الْحمام إِذا شقّ عَلَيْهَا تَركه بِأَن اعتادته عَليّ وَجْهَيْن فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره والاستمناء محرم عِنْد عَامَّة الْعلمَاء وَهُوَ أظهر الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد وَالْأُخْرَى أَنه مَكْرُوه لَكِن إِن اضْطر إِلَيْهِ مثل أَن يخلف الزِّنَا وَالْمَرَض إِن لم يَفْعَله فَفِيهِ قَولَانِ مشهوران وَقد رخص فِيهِ هَذِه الْحَال طوائف من السّلف وَالْخلف وَيجوز الْمسْح على الْخُف رذا كَانَ فِيهِ خرق يسير عِنْد أبي حنيفَة وَمَالك وَقيل لَا يجوز وَهُوَ الْمَعْرُوف من مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد وَالْأول أرجح بَاب التَّيَمُّم إِذا لم تقدر الْمَرْأَة على الِاغْتِسَال بِالْمَاءِ فعلَيْهَا أَن تصلي فِي الْوَقْت بِالتَّيَمُّمِ عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء لَكِن مَذْهَب الشَّافِعِي أَنَّهَا تغسل مَا يُمكن وتتيمم للْبَاقِي وَمذهب مَالك وَأبي حنيفَة إِن غسلت الْأَكْثَر لم تتيمم وَإِن لم يُمكن إِلَّا غسل الْأَقَل تيممت وَلَا غسل عَلَيْهَا وَمن عدم المَاء وَالتُّرَاب صلى فِي الْوَقْت على الْأَصَح وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ فِي الْأَصَح وَمن أجنب ونام فَلم ينتبه رلا عِنْد طُلُوع الشَّمْس فَإِن استحم خَافَ الضَّرَر وَإِن رَاح إِلَى الْحمام خرج الْوَقْت فمذهب الشَّافِعِي وَأحمد وَأبي حنيفَة أَنه يغْتَسل وَيُصلي وَلَو خرج الْوَقْت ومالكمذهبه يتَيَمَّم وَيُصلي فِي الْوَقْت وَأما من كَانَ مستيقظا من أول الْوَقْت فَإِن عَلَيْهِ أَن يُصَلِّي فِي الْوَقْت باغتسال أَو تيَمّم وَلَا يفوت الْوَقْت بِخِلَاف الأول فَإِن الْوَقْت فِي حَقه من حِين انتبه

وَهل يرفع التَّيَمُّم الْحَدث رفعا مؤقتا أَو يُبِيح فعل الصالة مَعَ قيام الْمَانِع فِيهِ نزاع وَمن كَانَ حاقنا عادما للماد فَالْأَفْضَل أَن يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ غير حاقن من أَن يحفظ وضوءه وَيُصلي حاقنا وَمن خَافَ إِن اغْتسل أَن يرْمى بِمَا هُوَ برِئ مِنْهُ ويتضرر بِهِ جَازَ لَهُ التَّيَمُّم والصالة وَالْقِرَاءَة وَمَسّ الْمُصحف ويؤم الْمُتَيَمم المغتسل عِنْد جمهو الْعلمَاء رلا مُحَمَّد بن الْحسن وَقد روى عَن عمر وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا منع الْجنب من التَّيَمُّم وَخَالَفَهُمَا غَيرهمَا من جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَهل الْمُبِيح للتيمم خوف الضَّرَر أَو التّلف فِيهِ نزاع للشَّافِعِيَّة وَمن أمكنه أَن يغْتَسل وَيُصلي خَارج الْحمام فعل ذَلِك فَإِن لم يكنه مثل أَن يَسْتَيْقِظ أول الْفجْر فَإِن اشْتغل بِطَلَب المَاء خرج الْوَقْت فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ عِنْد الْجُمْهُور رلا بعض الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَأحمد قَالُوا يشْتَغل بتحصيل الطَّهَارَة وَإِن فَاتَ الْوَقْت وَهَكَذَا قَالُوا فِي اشْتِغَاله بخياطة الثَّوْب وَتعلم دَلَائِل الْقبْلَة وَنَحْوه وَهَذَا القَوْل خطأ فرن قِيَاسه أَن الْمُسَافِر يُؤَخر حَتَّى يُصَلِّي بعد الْوَقْت بِالْوضُوءِ والعريان يُؤَخر حَتَّى يُصَلِّي بعد الْوَقْت باللباس وَهُوَ خلاف إِجْمَاع الْمُسلمين بل على العَبْد أَن يُصَلِّي فِي الْوَقْت بِحَسب الْإِمْكَان وَهَذَا يُخَالف مَا إِذا اسْتَيْقَظَ آخر الْوَقْت وَإِن اشْتغل باستقاء المَاء من الْبِئْر يخرج الْوَقْت أَو ذهب إِلَى الْحمام فَهُنَا يغْتَسل وَإِن خرج الْوَقْت عِنْد الحمهور إِلَّا مَالِكًا فَإِنَّهُ قَالَ يتَيَمَّم وَيُصلي فِي الْوَقْت كَمَا تقدم ذَلِك عَنهُ وَأما من أمكنه الذّهاب إِلَيّ الْحمام لَكِن إِن دخل لَا يُمكنهُ الْخُرُوج حَتَّى

يخرج الْوَقْت إِمَّا لكَونه مقهورا مثل العَبْد الَّذِي لَا يُمكنهُ سَيّده من الْخُرُوج وَمثل الْمَرْأَة مَعهَا أَوْلَادهَا لَا يُمكنهَا الْخُرُوج حَتَّى تغسلهم وَنَحْو ذَلِك فَهَؤُلَاءِ لَا بُد لَهُم من أحد أُمُور إِمَّا أَن يغتسلوا ويصلوا فِي الْحمام فِي الْوَقْت وَإِمَّا أَن يصلوا خَارج الْحمام بعد الْوَقْت وَإِمَّا أَن يصلوا بِالتَّيَمُّمِ خَارج الْحمام وَبِكُل من هَذِه الْأَقْوَال أُفْتِي طَائِفَة لَكِن الْأَظْهر أَنهم يصلونَ خَارج الْحمام بِالتَّيَمُّمِ لِأَن الصَّلَاة فِي الْحمام منهى عَنْهَا وتفويت الصَّلَاة أعظم وَلَا يُمكنهُ الْخُرُوج عَن هذَيْن النهيين إِلَّا لاتيمم فِي الْوَقْت خَارج الْحمام ثمَّ يُصَلِّي بذلك قبل دُخُول الْحمام وَصَارَ هَذَا كَمَا لَو لم يُمكنهُ الصَّلَاة رلا فِي مَوضِع نجس فِي الْوَقْت أَو فِي مَوضِع طَاهِر بعد الْوَقْت رذا غسل الْموضع أَو يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي مَكَان طَاهِر فِي الْوَقْت فَهَذَا أولى لِأَن كلا من ذَلِك منهى عَنهُ ونزاع الْفُقَهَاء فِيمَن صلى فِي مَوضِع نجس لَا يُمكنهُ الْخُرُوج مِنْهُ على قَوْلَيْنِ معروفين الْأَظْهر أَنه لَا يُعِيد بل الصَّحِيح أَن كَانَ من صلى فِي الْوَقْت بِحَسب إِمْكَانه لَا يُعِيد كالعاجز عَن الطَّهَارَة والستارة والاستقبال أَو اجْتِنَاب النَّجَاسَة أَو عَن إِكْمَال الرُّكُوع وَالسُّجُود أَو عَن قراأة الْفَاتِحَة وَنَحْوهم مسزلة لَا يجوز لمن اشْترى جَارِيَة وَطئهَا قبل استرائها بِاتِّفَاق الْعلمَاء بل لَا يجوز فِي أحد قولي الْعلمَاء أَن يَبِيعهَا الوطئ حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا وَهل عَلَيْهِ اسْتِبْرَاء وعَلى المُشْتَرِي اسْتِبْرَاء أَو يكفيهما اسبراء وَاحِد على قَوْلَيْنِ

باب الحيض

بَاب الْحيض وَطْء الْمَرْأَة فِي دبرهَا حرَام فِي قَول جَمَاهِير الْعلمَاء وَمَتى وَطئهَا فِي الدبر وطاعته عزرا فَإِن لم ينتهيا فرق بَينهمَا كَمَا يفرق بَين الْفَاجِر وَبَين من يفجر بِهِ وَمن شربت دَوَاء فَانْقَطع دَمهَا ثمَّ طَلقهَا زَوجهَا فَإِن كَانَت تعلم أَن الدَّم لَا يَأْتِي فِيمَا بعده بِحَال فعدتها ثَلَاثَة أشهر وَإِن كَانَ أَن يعود فَإِنَّهَا تَتَرَبَّص سنة ثمَّ تتَزَوَّج كَمَا قضى عمر رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَرْأَة يرْتَفع حَيْضهَا وَلَا تَدْرِي مَا رَفعه هَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور مَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ فِي قَول وَمن قَالَ تنْتَظر حَتَّى تدخل فِي سنّ الْإِيَاس فهر ضَعِيف جدا لما فِيهِ من الضَّرَر الَّذِي لَا تَأتي الشَّرِيعَة بِمثلِهِ وَإِذا انْقَطع لَا تَأتي الشَّرِيعَة بِمثلِهِ ورذا انْقَطع الدَّم فَلَا تُوطأ حَتَّى تَغْتَسِل وَقَالَ بعض الظَّاهِرِيَّة يجوز إِذا غسلت فرجهَا لقَوْله تَعَالَى {فَإِذا تطهرن} أَي غسلن فروجهن وَلَيْسَ بشئ فَإِن التَّطْهِير هُوَ الِاغْتِسَال وزبو حنيفَة يَقُول إِذا اغْتَسَلت أَو مضى عَلَيْهَا وَقت الصَّلَاة أوانقطع الدَّم أَي لأكثره وَأَكْثَره عِنْده أَيَّام وَقَول الْجُمْهُور أصح

كتاب الصلاة

كتاب الصَّلَاة لم أجد أحدا قَالَ إِن تَأْخِير جَمِيع الصَّلَوَات أفضل لَكِن مِنْهُم من يَقُول تَأْخِير بعضهمما أفضل ككما يَقُول زبو حنيفَة فِي الْفجْر وَالْعصر والمواقيت الَّتِي علمهَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعلمهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأمته حِين بَين مَوَاقِيت الصَّلَاة وَهِي الَّتِي ذكرهَا الْعلمَاء فيكتبهم هِيَ فِي الْأَيَّام الْمُعْتَادَة فَأَما ذَلِك الْيَوْم الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم كَسنة قَالَ اقدروا لَهُ قدره فَلهُ حكم آخر يبين ذَلِك أَن صَلَاة الظّهْر فِي الْأَيَّام الْمُعْتَادَة لَا تكون رلا بعد الزَّوَال وانتصاف النَّهَار وَفِي ذَلِك الْيَوْم يكون من أَوَائِل الْيَوْم بِقدر ذَلِك وَكَذَلِكَ وَقت الْعَصْر هِيَ فِي الْأَيَّام الْمُعْتَادَة إِذا زَاد ظلّ كل شَيْء على مثله عِنْد الْجُمْهُور كمالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَغَيرهم وَقَالَ زبو حنيفَة إِذا صَار ظلّ كل شئ مثلَيْهِ وَهَذَا آخر وَقتهَا عِنْد مَالك وَأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالشَّافِعِيّ وَالْمَقْصُود أَن فِي ذلكاليوم لَا يكون وَقت الْعَصْر فِيهِ إِذا صَار ظلّ كل شَيْء لَا مثله وَلَا مثلَيْهِ بل يكون زول يَوْم قبل هَذَا الْوَقْت شئ كثير فَكَمَا أَن وَقت الظّهْر وَالْعصر ذَلِك الْيَوْم هما قبل الزَّوَال كَذَلِك صَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء قبل الْغُرُوب وَكَذَلِكَ صَلَاة الْفجْر فِيهِ تكون بِقدر الْأَوْقَات فِي الزيام الْمُعْتَادَة وَلَا ينظر فِيهَا إِلَيّ حَرَكَة الشَّمْس لَا بِزَوَال وَلَا بغروب وَلَا مغيب شفق وَنَحْو ذَلِك وَهَكَذَا كَمَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَهُم رزقهم فِيهَا بكرَة وعشيا} قَالَ بَعضهم يُؤْتونَ عَليّ مِقْدَار البكرة والعشى فِي الدُّنْيَا وَقيل يعرف ذَلِك بأنوار تظهر من نَاحيَة الْعَرْش كَمَا يعرف ذَلِك فِي الدُّنْيَا بِنور الشَّمْس وَقَول الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم يَا رَسُول الله أَرَأَيْت الْيَوْم كالسنة أيكفينا

فصل

فِيهِ صَلَاة يَوْم فَقَالَ لَا ويكن اقدروا لَهُ قدره أَرَادوا الْيَوْم وَاللَّيْلَة فقد يعْنى بِهِ اللَّيْل كَمَا يعْنى بِلَفْظ اللَّيْلَة بيومها كَقَوْلِه تَعَالَى {آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام} وَفِي الْموضع الآخر {ثَلَاث لَيَال سويا} وَيَوْم كَقَوْلِه {يَوْم عَرَفَة} ورذا فَاتَهُ الْوُقُوف يَوْم عَرَفَة يُرَاد الْيَوْم وَاللَّيْلَة الَّتِي تليه وإيضا إِذا علمُوا أَنهم يقدرُونَ لثلاث صلوَات قبل وَقتهَا الْمُعْتَاد علم بطرِيق اللُّزُوم أَنهم يقدرُونَ للمغرب وَالْعشَاء وَوُقُوع ذَلِك فِي النَّهَار كوقوع صَلَاتي الْمغرب وَالْعشَاء قبل الزَّوَال من ذَلِك الْيَوْم وَأَيْضًا فَقَوله اعْتكف الْعشْر يدْخل فِيهِ اللَّيْل وَقَوله {وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة} دخل فِيهَا النَّهَار وَالله أعلم فصل هَؤُلَاءِ الَّذين يُؤذنُونَ مَعَ الْمُؤَذّن الرَّاتِب يَوْم الْجُمُعَة فِي مثل صحن الْجَامِع لَيْسَ أذانهم مَشْرُوعا بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة بل هُوَ بِدعَة مُنكرَة مُشْتَمِلَة عَليّ وُجُوه مذمومة مِنْهَا أَنَّهَا بِدعَة وَمِنْهَا أَنهم يتركون مَا أمروا بِهِ فقد صَحَّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أَمر أَن يَقُول السَّامع مثل قَول الْمُؤَذّن رلا فِي الحيعلة فَيَقُول لَا حول وَلَا قُوَّة رلا بِاللَّه الثَّانِي أَنه يُصَلِّي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثَّالِث أَنه يسْأَل الله لَهُ الْوَسِيلَة الرَّابِع أَن يَدْعُو بعد ذَلِك بِمَا شَاءَ قيتركون سَماع الْمُؤَذّن وَمَا أمروا بِهِ ويفعلون مَا لم يؤمروا بِهِ وَمِنْهَا أَنهم يشغلون النَّاس عَن هَذِه السّنَن ويخلطون عَلَيْهِم فَإِن أَصْوَاتهم تختلط وتشتبه

وَأَيْضًا لَا فَائِدَة فِي هَذَا الْأَذَان فَإِن أهل الْمَسْجِد قد سمعُوا قَول الْمُؤَذّن الرَّاتِب وَغَيرهم لَا سمع هَذَا الْمُؤَذّن وَمِنْهَا أَنه يُؤذن مؤذنان فِي وَقت وَاحِد وَمَتى أذن مؤذنان مَعًا فِي وَقت وَاحِد مفترقان كَانَ مَكْرُوها مَنْهِيّا عَنهُ بِخِلَاف مَا إِذا أذن وَاحِد بعد وَاحِد كَمَا كَانَ المؤذنان على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ الْقصاص الَّذين يقومُونَ على رُءُوس النَّاس الْجُمُعَة ويشغلونهم عَمَّا شرع من الصَّلَاة وَالدُّعَاء وَالْقِرَاءَة لَا سِيمَا إِن قصوا وسألوا وَالْإِمَام يخْطب فَإِنَّهُ من الْمُنْكَرَات الشنيعة مَعَ مَا يكذبُون كثيرا فَيتَعَيَّن إِزَالَة ذَلِك بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة وَلم يكن التَّبْلِيغ وَرَاء الإِمَام على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا خلفائه وَلَكِن مَا مرض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بِالنَّاسِ مرّة وَكَانَ أَبُو بكر يسمع النَّاس التَّكْبِير على أَن الظَّاهِر عَن أَحْمد أَن هَذِه الصَّلَاة كَانَ أَبُو بكر مؤتما بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ إِمَامًا للنَّاس فَيكون تبليغه لكَونه إِمَامًا للنَّاس وَكَذَا بلغ مرّة أُخْرَى حِين صرع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجحش شقَّه الْأَيْمن وَلِهَذَا اتّفق الْعلمَاء على أَنه لَا يسْتَحبّ التَّبْلِيغ بل يكره إلبا لحَاجَة مثل ضعف صَوت الإِمَام وَبعد الْمَأْمُوم وَنَحْوه وَقد اخْتلفُوا فِيهِ هَذِه الْحَال وَالْمَعْرُوف عَن أَحْمد أَنه جاذز وَأَصَح قولي مَالك وَأما عِنْد عدم الْحَاجة فبدعة بل صرح كثير مِنْهُم أَنه مَكْرُوه بل قد ذهب طَائِفَة من أَصْحَاب مَالك وَأحمد إِلَى أَنه يبطل صَلَاة الْمبلغ لغير حَاجَة وَلم يستحبه أحد من الْعلمَاء حِينَئِذٍ وَمن أصر على اعْتِقَاد كَونه قربَة فَإِنَّهُ يُعَزّر وَهَذَا أقل أَحْوَاله وَكَذَلِكَ التثويب بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة لم يكن على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل كرهه أَكثر الْأَئِمَّة وَالسَّلَف وعدوة بِدعَة وَكَذَلِكَ الْجَهْر بِالدُّعَاءِ عقيب الصَّلَوَات مثل دُعَاء الإِمَام والمأمومين جَمِيعًا

فصل

عقيب الصَّلَاة لم يكن وَلكنه ثَبت أَنهم كَانُوا يجهرون بِالذكر وَزنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يجْهر عقيب الصَّلَاة بِالذكر يَقُول لَا إِلَه رلا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شئ قدير لَا إِلَه إِلَّا الله وَلَا نعْبد إِلَّا رياه فالذكر ثَابت وَمن اعْتقد مالم يدل عَلَيْهِ دَلِيل شَرْعِي قربَة فَهُوَ مُخطئ ظَالِم فصل الَّذِي جَاءَت بِهِ السّنة هُوَ مَا كَانَ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخلفائه من أَنه كَانَ بعض المؤذنين يُؤذن قبل الْفجْر وَبَعْضهمْ بعد طُلُوع الْفجْر وأبلغ مَا قَالَه الْفُقَهَاء من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَأحمد غَيرهم فِي تَقْدِيم الْأَذَان من نصف اللَّيْل مَعَ أَن زبا حنيفَة وَغَيره بنهون عَن الْأَذَان قبل الْوَقْت مُطلقًا فَأَما مَا سوى الْأَذَان من تَسْبِيح ونشيد وَرفع صَوت بِدُعَاء فَلَيْسَ بمسنون عِنْد الْأَئِمَّة وَلَا أعلم أحدا استحبه بل ذكره طاذفة من أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد من الْبدع الْمَكْرُوهَة وَمَا كَانَ مَكْرُوها لم يكنت لأحد أَن يَأْمر بِهِ وَلَا يُنكر على تَركه وَلَا يعلق بِهِ اسْتِحْقَاق رزق وَلَا يلْزم فعله وَلَو شَرطه وَاقِف وَإِذا قيل فِي بعض هَذِه الصُّور مصلحَة راجحة على مفسدتها فَيقْتَصر من ذَلِك على الْقدر الَّذِي يحصل بِهِ الْمصلحَة دون الزِّيَادَة الَّتِي هِيَ ضَرَر بِلَا مصلحَة راجحة فصل لَا يجب على الْمَالِكِي وَلَا على غَيره تَقْلِيد أحد من الْأَئِمَّة بِعَيْنِه فِي جَمِيع الدّين بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة الْكِبَار وَالصَّلَاة بالنعلين سنة أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمر إِذا كَانَ فِيهَا إذى أَن يدلكهما بِالْأَرْضِ فَإِنَّهَا لَهما طهُور وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح من قولي

الْعلمَاء وَصلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه بالنعال فِي الْمَسْجِد مَعَ أَنهم يَسْجُدُونَ عَليّ مَا يلاقي النِّعَال كل ذَلِك دَلِيل على طَهَارَة أَسْفَل النَّعْل مَعَ أَنهم كَانُوا يروحون إِلَى الحش للبراز فرذا رأى عَلَيْهِمَا أثر النَّجَاسَة فدلكهما بِالْأَرْضِ طهرتا وخمرة الْخلّ هَل يجب إراقتها على قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره أصَحهمَا الإراقة مَسْأَلَة وَلَا يجوز أَن يذبح فِي الْمَسْجِد وَلَا أَن يقبر فِيهِ وَلَا أَن يستنجى وَلَا يُغير وَقفه مصلحَة وَفِي كَرَاهَة الْوضُوء نزاع وَمن رد على الآمرين بِالْمَعْرُوفِ والناهين عَن الْمُنكر فِيهِ عُوقِبَ وَلَا يغسل الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد وَإِذا كَانَ الرجل مُتبعا لبَعض الْأَئِمَّة فَرَأى فِي بعض المساذل أَن مَذْهَب غَيره أقوى فَاتبعهُ كَانَ قد أحسن وَلم يقْدَح ذَلِك فِي عَدَالَته بِلَا نزاع بل هَذَا أولى بِالْحَقِّ وَأحب إِلَى الله وَرَسُوله مِمَّن يتعصب لوَاحِد معِين غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كمن يرى أَن قَول هَذَا الْمعِين هُوَ الصَّوَاب الَّذِي يَنْبَغِي اتِّبَاعه دون قَول الإِمَام الَّذِي خَالفه فَمن فعل هَذَا كَانَ جَاهِلا ضَالًّا بل قد يكون كَافِرًا فَإِنَّهُ مَتى اعْتقد أَنه على النَّاس اتِّبَاع وَاحِد بِعَيْنِه من هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة دون الإِمَام الآر فَإِنَّهُ يجب أَن يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل بل غَايَة مَا يُقَال إِنَّه يسوغ أَو يَنْبَغِي أَن يجب على الْعَاميّ أَن يُقَلّد وَاحِد لَا بِعَيْنِه من غير تعْيين زيد وَلَا عَمْرو وَأما أَن يَقُول قَائِل إِنَّه يجب على الْأمة تَقْلِيد فلَان أَو فلَان فَهَذَا لَا يَقُوله مُسلم وَمن كَانَ مواليا للأئمة محبا لَهُم يُقَلّد كل وَاحِد مِنْهُم فِيمَا يظْهر لَهُ أَنه مُوَافق للسّنة فَهُوَ محسن فِي ذَلِك بل هُوَ أحسن حَالا من غَيره فالأئمة اجْتِمَاعهم حجَّة قَاطِعَة وَاخْتِلَافهمْ رَحْمَة وَاسِعَة فَمن تعصب لوَاحِد

فصل

بِعَيْنِه كَانَ يمنزلة الرافضة الَّذين يتعصبون لوَاحِد من الصَّحَابَة دون غَيره وكالخوارج وَهَذِه طَريقَة أهل الْبدع والأهواء الَّذين هم خارجون عَن الشَّرِيعَة بِإِجْمَاع الْأمة وَالْكتاب وَالسّنة ثمَّ عَامَّة المتعصبين لوَاحِد إِمَّا مَالك أَو الشَّافِعِي أَو أَحْمد أَو أبي حنيفَة أَو غَيره غَايَته أَن يكون جَاهِلا بِقَدرِهِ فِي الْعلم وَالدّين وبقدر الآخرين فَيكون جَاهِلا ظَالِما وَالله يَأْمر بِالْعلمِ وبالعدل وَينْهى عَن الْجَهْل وَالظُّلم فَالْوَاجِب مُوالَاة الْمُؤمنِينَ وَالْعُلَمَاء وَقصد الْحق واتباعه وليعلم أَن من اجْتهد مِنْهُم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَمن اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر وبلاد الشرق من أَسبَاب تسليط الله عَلَيْهِم التّرْك كَثْرَة التَّفَرُّق والفتن بَينهم فِي الْمذَاهب وكل ذَلِك من الِاخْتِلَاف الَّذِي ذمه الله فَإِن الِاعْتِصَام بِالْجَمَاعَة والائتلاف من أصُول الدّين وَالْوَاجِب على الْخلق اتِّبَاع الْمَعْصُوم الَّذِي لَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} فعلى أَقْوَاله وأحواله وأفعاله توزن جَمِيع الْأَحْوَال والأقوال وَالْأَفْعَال وَالله يوفقنا وإخواننا وساذر الْمُؤمنِينَ لما يُحِبهُ ويرضاه فصل يجب أَن يُحَرك لِسَانه بِالذكر وَالْوَاجِب فِي الصَّلَاة من الْقِرَاءَة وَنَحْوهَا مَعَ الْقُدْرَة وَمن قَالَ إِنَّهَا تصح بِدُونِهِ يُسْتَتَاب وَيسْتَحب ذَلِك فِي الذّكر الْمُسْتَحبّ وَالْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد أَن يكون بِحَيْثُ يسمع نَفسه إِذا لم يكن ثمَّ مَانع وَفِيه وَجه أَن تكون الْحَرَكَة بالحروف وأكمل الذّكر بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان ثمَّ بِالْقَلْبِ ثمَّ بِاللِّسَانِ والمأمور بِهِ فِي الصَّلَاة الْقلب وَاللِّسَان جَمِيعًا لَكِن ذكر اللِّسَان مَقْدُور وَالْقلب قد لَا يقدر عَلَيْهِ

فصل

للوسواس فَلَو قدر رجلَانِ أَحدهمَا ذكر الذّكر الْوَاجِب بِالْقَلْبِ فَقَط وَالثَّانِي بِلِسَانِهِ فَقَط فَإِن الأول لَا يُجزئهُ فيصلاته بِلَا نزاع وَإِن قدر ذكر الْقلب أفضل لِأَنَّهُ ترك الْوَاجِب الْمَقْدُور عَلَيْهِ كَمَا أَن الْخُشُوع لله بِالْقَلْبِ وَالْبدن أكمل مِنْهُ بِالْقَلْبِ وَحده وَهُوَ الْقلب وَحده أكمل مِنْهُ بِالْبدنِ وَحده ثمَّ إِن الصلي لَو اقْتصر على خشوع الْقلب لم يُجزئهُ بِلَا نزاع وَلَو غلب الوسواس على قلبه فِي أَكثر الصَّلَاة لم تصح صلَاته عِنْد أبي حَامِد الْغَزالِيّ وزبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ لَكِن الْمَشْهُور عِنْد الْأَئِمَّة أَن الْفَرْض يسْقط بذلك وَالتَّحْقِيق أَن كل عمل فِي الظَّاهِر من مُؤمن لَا بُد أَن يَصْحَبهُ عمل الْقلب بِخِلَاف الْعَكْس فَلَا يتَصَوَّر عمل الْبدن مُنْفَردا رلا من الْمُنَافِق الَّذِي يُصَلِّي رِيَاء وككان عمله بَاطِلا حابطا فَفرق بَين الْمُنَافِق وَالْمُؤمن فَيظْهر الْفرق بَين الْمُؤمن الَّذِي يقْصد عبَادَة الله بِقَلْبِه مَعَ الوسواس وَبَين الْمُنَافِق الَّذِي لَا يُصَلِّي رلا رِيَاء النَّاس وَأما أَبُو حَامِد وَنَحْوه فسووا بَين النَّوْعَيْنِ فَإِن كِلَاهُمَا إِنَّمَا تسْقط عَنهُ الصَّلَاة الْقَتْل فِي الدُّنْيَا من غير أَن تبرئ ذمَّته وَلَا ترفع عَنهُ عُقُوبَة الْآخِرَة والتسوية بَين الْمُؤمن وَالْمُنَافِق فِي الصَّلَاة خطأ نعم قد يكون بعض النَّاس فِيهِ إمان ونفاق مثل أنيصلي لله ويحسنها لأجل النَّاس فيثاب على مَا أخلصه لله دون مَا عمله للنَّاس وَلَا يظلم رَبك أحدا فصل حَدِيث أنس فِي نفي الْجَهْر بالبسملة صَرِيح لَا يحْتَمل تَأْوِيلا فَإِن فِيهِ وَكَانُوا يستفتحون الْقِرَاءَة بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين لَا يذكرُونَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي أول الْقِرَاءَة وَلَا فِي آخرهَا وَهَذَا النَّفْي لَا يجوز إِلَّا مَعَ الْعلم بذلك لَا يجوز بِمُجَرَّد كَونه لم يسمع مَعَ إِمْكَانه الْجَهْر بِلَا مسمع وَاللَّفْظ الآخر قس مُسلم صليت

خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يجْهر أَو قَالَ يصلى بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَهَذَا فِيهِ نفي السماع لَو لم يرو رلا هَذَا اللَّفْظ لم يجز تَأْوِيله بِأَنَّهُ لم يكن يسمع مَعَ جهر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لوجوه أَحدهَا أَنه إِنَّمَا رُوِيَ هَذَا ليبين للنَّاس مَا كَانَ يَفْعَله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ لَا غَرَض لَهُم فِي معرفَة كَون أنس رَضِي الله عَنهُ سمع أَو لم يسمع إِلَّا ليستدلوا بِعَدَمِ سَمَاعه على عدم المسموع فَلَو لم يدل مَا كَانَ أنس رَضِي الله عَنهُ يرْوى شَيْئا لَا فاذدة فِيهِ وَلَا كَانُوا يروون هَذَا الَّذِي لَا يفيدهم الثَّانِي أَن مثل هَذَا اللَّفْظ فِي الْعرف صَار دَالا على عدم مالم يدْرك فَإِذا قيل مَا سمعنَا وَلَا أدركنا وَلَا رَأينَا لما شَأْنه أَن يسمع أَو يدْرك أَو يرى وَالْمَقْصُود نفي وجوده ذكره وَنفي الْإِدْرَاك عَليّ نَفْيه عينه الْوَجْه الثَّالِث وَهُوَ أَن أنسا رَضِي الله عَنهُ كَانَ يخْدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حِين قدم الْمَدِينَة إِلَيّ أَن مَاتَ وَكَانَ يدْخل على نِسَائِهِ قبل الْحجاب ويصحبه حضرا وسفرا وَحين حجَّته كَانَ تَحت نَاقَته يسيل عَلَيْهِ لُعَابهَا أتمكن مَعَ هَذَا الْقرب الْخَاص والصحبة الطَّوِيلَة أَن لَا يسمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجْهر بهَا مَعَ كَونه كَانَ يجْهر هَذَا مِمَّا يعلم بِالضَّرُورَةِ بُطْلَانه عَادَة ثمَّ إِنَّه صحب زبا بكر وَعمر وَعُثْمَان وَلم يسمع من وَاحِد مِنْهُم مَعَ أَنهم كَانُوا يجهرون هَذَا لَا يُمكن بل هُوَ تَحْرِيف لاتأويل لَو لم يرد هَذَا اللَّفْظ كَيفَ وَالْآخر صَرِيح فِي نفي الذّكر لَهَا فَقَالَ لم بكونوا يذكرونها فَهُوَ تَفْسِير هَذِه الرِّوَايَة وكلا التَّأْويلَيْنِ يَنْفِي قَول من تَأَول قَوْله يفتتحون الصَّلَاة بِالْحَمْد الله رب الْعَالمين بِأَنَّهُ سُورَة الْفَاتِحَة وَمثل حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنهم كَانُوا يفتتحون الْقِرَاءَة بِالْحَمْد الله رب الْعَالمين وَقد روى يفتتحون الْقِرَاءَة ب {الْحَمد لله رب الْعَالمين الرَّحْمَن الرَّحِيم مَالك يَوْم الدّين}

وَهَذَا صَرِيح فِي إدارة الْآيَة وَأَيْضًا فافتتاح الْقِرَاءَة بِالْفَاتِحَةِ قبل السُّورَة من الْمَعْلُوم الظَّاهِر يعرفهُ الْخَاص وَالْعَام كَمَا يعلمُونَ الرُّكُوع قبل السُّجُود فَلَيْسَ فِي نقل مثل هَذَا فَائِدَة لَكِن لَيْسَ فِي حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ نفي فراءتها سرا إِلَّا أَنه روى فَكَانُوا لَا يجهرون وَأما كَون الإِمَام لم يَقْرَأها فَلَا يمكنت إِدْرَاكه إِلَّا إِذا لم يكن بَين التَّكْبِير وَالْقِرَاءَة سكتة يُؤَيّد ذَلِك حَدِيث عبد الله بن مُغفل فِي السّنَن لما سمع ابْنه يجْهر بهَا فَأنْكر عَلَيْهِ وَقَالَ رَضِي الله عَنهُ يَا بني إياك وَالْحَدَث وَذكر أَنه يُصَلِّي خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبي بكر وَعمر رصي الله عَنْهُمَا فَلم يَكُونُوا يجهرون وَأَيْضًا فَمن الْمَعْلُوم أَن الْجَهْر بهَا مِمَّا تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله بل لَو انْفَرد بِنَقْل مثل هَذَا الْوَاحِد أَو الِاثْنَان قطع بكذبهما وبمثل هَذَا تكذب دَعْوَى الرافضة النَّص على عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي الْخلَافَة وَأَمْثَاله ذَلِك وَقد اتّفق أهل الْمعرفَة على أَنه لَيْسَ فِي الْجَهْر حَدِيث صَحِيح وَلم يرو أهل السننن من ذَلِك شَيْئا إِنَّمَا يُوجد الْجَهْر بهَا فِي أَحَادِيث مَوْضُوعَة يرْوى ذَلِك المارودي والثعلبي وأمثالهما من الَّذين يحتجون بِمثل حَدِيث الْحُمَيْرَاء وأعجب من ذَلِك أَن بعض أفاضل الْفُقَهَاء لم يعز فِي كِتَابه حَدِيثا إِلَى البُخَارِيّ إِلَّا حَدِيث الْبَسْمَلَة وَمن هَذَا مبلغ عمله كَيفَ يكون حَاله فِي هَذَا الْبَاب أَو يَرْوِيهَا عَمَّن جمع الْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب وَإِذا سُئِلَ يَقُول يموجب علمه كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ لما سُئِلَ أفيها شئ صَحِيح فَقَالَ أما عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا وَأما عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَمِنْهُ صَحِيح وَمِنْه ضَعِيف

فَإِذا لم يكن فِيهَا حَدِيث صَحِيح فضلا أَن يكون فِيهَا أَخْبَار متواترة أَو مستفيضة امْتنع أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جهر بهَا فَلَا يُعَارض ذَلِك كَون عدم الْجَهْر مِمَّا تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله هُوَ فِي الْأُمُور الوجودية فَأَما العدمية فَلَا وَلَا ينْقل مِنْهَا إِلَّا مَا ظن وجوده أَو احْتِيجَ وجوده إِلَيّ مَعْرفَته وَلِهَذَا لَو نقل ناقل افتراض صَلَاة سادسة أَو صوما زَائِدا أوحجا أَو زِيَادَة فِي الْقِرَاءَة أَو فِي الرَّكْعَات لقطعنا بكذبه وَإِن كَانَ عدم ذَلِك لم ينْقل نقلا متواترا قطعا يُوضحهُ أَنهم لم ينقلوا الْجَهْر بالاستفتاح والاستعاذة وَقد استدلت الْأمة على عدم جهره بذلك وَإِن كَانَ لم ينْقل عدم الْجَهْر نقلا عَاما فبالطريق الَّتِي يعلم عدم جهره بذلك بِعلم عدم جهره بالبسملة هَذَا وَجه الثَّانِي أَن الْأُمُور العديمة لما احْتِيجَ إِلَى نقلهَا نقلت فَلَمَّا انقرض عصر الْخُلَفَاء رَضِي الله عَنهُ سَأَلَ النَّاس أنسا رَضِي الله عَنهُ حِين جهر بهَا بعض الْأَئِمَّة كإبن الزبير فَأخْبرهُم أنس رَضِي الله عَنهُ بترك الْجَهْر الثَّالِث أَن نفى الْجَهْر قد نقل صحيحاض صَرِيحًا فِي غير حَدِيث والجهر لم ينْقل نقلا صَحِيحا مَعَ أَن الْعَادة توجب نقل الْجَهْر دون عَدمه كَمَا قدمْنَاهُ وَمن تدبر هَذِه الْوُجُوه وَكَانَ عَالما بالأدلة قطع بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يجْهر بهَا وَهل هَذَا إِلَّا بِمَثَابَة من نقل أَنه كَانَ يجْهر بالاستفتاح مَعَ أَن بعض الصَّحَابَة كَانَ يجْهر بِهِ كَمَا كَانَ فيهم من يجْهر بالبسملة وَنحن نعلم بالاضطرار أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يجْهر بالاستفتاح وَلَا بالاستعاذة كَمَا يجْهر بِالْفَاتِحَةِ فَكَذَلِك الْبَسْمَلَة لم يكن يجْهر بهَا مَعَ أَنه قَالَ قد كَانَ يجْهر بهَا أَحْيَانًا وَأَنه كَانَ يجْهر بهَا قَدِيما ثمَّ ترك ذَلِك كَمَا روى أَبُو دَاوُد وَالطَّبَرَانِيّ أَنه كَانَ يجْهر بهَا بِمَكَّة فإذاسمعه الْمُشْركُونَ سبوا الرَّحْمَن فَترك الْجَهْر فَمَا جهر بهَا بِمَكَّة حَتَّى مَاتَ فَهَذَا مُحْتَمل وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه كَانَ يجْهر بِالْآيَةِ أَحْيَانًا وَمثل جهر عمر رَضِي الله عَنهُ

بقول سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَمثل جهر ابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُمَا بالاستعاذة وجهر ابْن عَبَّاس بِالْقِرَاءَةِ على الْجِنَازَة ليعلم النَّاس فَيمكن أَن يُقَال إِن من جهر بهَا من الصَّحَابَة كَانَ على هَذَا الْوَجْه ليعرفوا النَّاس أَن قرَاءَتهَا سنة مثل ماروى ابْن شهَاب يُرِيد بذلك أَنَّهَا آيَة من الْقُرْآن فَابْن شهَاب أعلم أهل زَمَانه بِالسنةِ قب تبين حَقِيقَة الْحَال فِي ذَلِك فَإِن عُمْدَة من يجْهر إِنَّمَا هُوَ ابْن عمر وَأَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم فقد عرفت حَقِيقَة حَال زبي هيرية وَغَيره رَضِي الله عَنْهُم وَإِنَّمَا كثر الْكَذِب فِي أَحَادِيث الْجَهْر لِأَن الشِّيعَة تري الْجَهْر وهم من أكذب النَّاس فوضعوا أَحَادِيث لبسوا بهَا على النَّاس أَمر دينهم وَلِهَذَا يُوجد فِي كَلَام أَئِمَّة أهل السّنة مثل سُفْيَان الثَّوْريّ أَنهم يذكرُونَ من السّنة الْمسْح عَليّ الْخُفَّيْنِ وَترك الْجَهْر بالبسملة كَمَا يذكرُونَ تَقْدِيم أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا لأَنهم كَانَ عِنْدهم شعار الرافضة ذَلِك وروى مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صلى صَلَاة لم يقْرَأ فِيهَا بِأم الْقرَان فَهِيَ خداج ثَلَاثًا فَقَالَ لَهُ رجل أكون أَحْيَانًا وَرَاء الإِمَام فَقَالَ اقْرَأ بهَا فِي نَفسك فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول قَالَ الله تَعَالَى {قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ فرذا قَالَ العَبْد الْحَمد لله رب الْعَالمين} الحَدِيث فَدلَّ عَليّ أَنا أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ رأى الْقِرَاءَة الْوَاجِبَة عِنْده المقسومة هِيَ أم الْكتاب الْحَمد لله رب الْعَالمين كَمَا ذكره وَحَدِيث نعيم المجمر عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَرَأَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ثمَّ قَرَأَ بِأم الْقُرْآن فِيهِ دَلِيل على أَنَّهَا لَيست من أم القرأن وَلم يقل أحد إِنَّهَا لَيست من الْفَاتِحَة فَالْحَاصِل أَن أَبَا هُرَيْرَة إِن كَانَ جهر بهَا فَذَلِك ليعلم النَّاس أَن قرَاءَتهَا مُسْتَحبَّة

كَمَا جهر عمر رَضِي الله عَنهُ بالاستفتاح وَيكون حَدِيث فِي الْقِسْمَة مُوَافقا لحَدِيث أنس وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم هَذَا إِن كَانَ حَدِيثه دَالا على الْجَهْر فَإِنَّهُ مُحْتَمل فَإِن فِيهِ أَنه قَرَأَ بهَا وَمُجَرَّد قِرَاءَته بهَا لَا يدل على الْجَهْر فَإِن قارىء المرقد يسمع قِرَاءَته من قرب مِنْهُ أَو أَن أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أخبرهُ بِقِرَاءَتِهَا وَقد روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يقْرَأ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِفَاتِحَة الْكتاب وَهِي قِرَاءَة سر وَأما حَدِيث سُلَيْمَان التَّيْمِيّ الَّذِي صَححهُ الْحَاكِم فَليعلم أَولا أَن الْحَاكِم متساهل فِي بَاب التَّصْحِيح حَتَّى إِنَّه يصحح مَا هُوَ مَوْضُوع فَلَا يوثق بِتَصْحِيحِهِ وَحده حَتَّى إِن تَصْحِيحه دون تَصْحِيح التِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ بِلَا نزاع بل دون تَصْحِيح ابْن خُزَيْمَة وَأبي حَاتِم ابْن حبَان بل تَصْحِيح الْحَافِظ أبي عبد الله مُحَمَّد ابْن عبد الْوَاحِد الْمَقْدِسِي فِي المختارة خير من تَصْحِيح الْحَاكِم بِلَا ريب وتحسين التِّرْمِذِيّ أَحْيَانًا يكون مثل تَصْحِيحه أَو أرجح فَهُوَ هَذَا وَالْمَعْرُوف عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ وَابْنه مُعْتَمر أَنَّهُمَا كَانَا يجهران بالبسملة لَكِن نقل ذَلِك عَن أنس رَضِي الله عَنهُ هُوَ الْمُنكر مَعَ مُخَالفَة أَصْحَاب أنس الثِّقَات الْأَثْبَات لذلكك فَإِنَّهُم نقلوا عدم الْجَهْر قَالَ الشَّافِعِي حَدثنَا عبد الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد عَن ابْن جريج قَالَ أَخْبرنِي عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم أَن أَبَا بكر بن حَفْص بن عمر أخبرهُ أَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ صلى مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ بِالْمَدِينَةِ فجهر بِأم الْقُرْآن فَقَرَأَ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم لأم الْقُرْآن وَلم يقْرَأ بهَا للسورة الَّتِي بعْدهَا وَلم يكبر حِين يهوى حَتَّى قضى تِلْكَ الصَّلَاة فَلَمَّا سلم ناداه من سَمعه من

الْمُهَاجِرين من كل مَكَان يَا مُعَاوِيَة أسرقت الصَّلَاة أم نسيت فَلَمَّا صلى بعد ذَلِك قَرَأَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم للسورة الَّتِي بعد أم الْقُرْآن وَكبر حِين يهوي سَاجِدا وأنبأنا ابراهيم بن مُحَمَّد حَدثنَا عُثْمَان بن خثيم عَن اسماعيل بن عبيد بن رِفَاعَة عَن أَبِيه أَن مُعَاوِيَة لما قدم الْمَدِينَة صلى لَهُم وَلم يقْرَأ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَلم يكبر إِذا خفض وَإِذا رفع فناداه الْمُهَاجِرُونَ حِين سلم والانصار رَضِي الله عَنْهُم أَي مُعَاوِيَة سرقت الصَّلَاة وَذكره وَقَالَ الشَّافِعِي حَدثنَا يحيى بن سليم عَن عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم عَن إِسْمَاعِيل بن عبيد بن رِفَاعَة عَن أَبِيه عَن جده عَن مُعَاوِيَة الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار بِمثلِهِ أَو بِمثل مَعْنَاهُ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ إِسْنَاده ثِقَات وَالْجَوَاب أَنه حَدِيث ضَعِيف من وُجُوه أَحدهَا انه يرْوى عَن أنس رَضِي الله عَنهُ وَأَحَادِيث أنس رَضِي الله عَنهُ الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة المستفيضة ترد هَذَا الثَّانِي أَن مدارة على عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم وَقد ضعفه طَائِفَة وَقد اضْطَرَبُوا فِي رِوَايَته إِسْنَادًا ومتنا فَتبين أَنه غير مَحْفُوظ الثَّالِث أَنه لَيْسَ فِيهِ إِسْنَاد مُتَّصِل السماع بل فِيهِ من الضعْف وَالِاضْطِرَاب مَالا يُؤمن مَعَه الِانْقِطَاع أَو سوء الْحِفْظ الرَّابِع أَن أنسا كَانَ مُقيما بِالْبَصْرَةِ وَمُعَاوِيَة بِالْمَدِينَةِ وَلم يذكر أحد علمناه أَن أنسا رَضِي الله عَنهُ كَانَ مَعَه بل الظَّاهِر أَنه لم يكن مَعَه الْخَامِس أَن هَذِه الْقَضِيَّة بِتَقْدِير وُقُوعهَا كَانَت بِالْمَدِينَةِ والرواي لَهَا أنس وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ وَهِي مِمَّا تتوافر الدَّوَاعِي والهمم على نقلهَا وَمن الْمَعْلُوم أَن أَصْحَاب أنس المعروفين بِصُحْبَتِهِ وَأهل الْمَدِينَة لم ينْقل أحد مِنْهُم ذَلِك بل الْمُتَوَاتر عَن أنس وَأهل الْمَدِينَة نقيض ذَلِك والناقل لَيْسَ من هَؤُلَاءِ وَلَا من هَؤُلَاءِ

السَّادِس أَن مُعَاوِيَة لَو كَانَ رَجَعَ إِلَى الْجَهْر بالبسملة فِي أول الْفَاتِحَة وَالسورَة لَكَانَ ايضا مَعْرُوفا من أمره عِنْد أهل الشَّام الَّذين صحبوه وَلم يقنل هَذَا أحد من أهل الشَّام عَن مُعَاوِيَة بل الشاميون كلهم خلفاؤهم وعلماؤهم كَانَ مَذْهَبهم ترك الْجَهْر بل الْأَوْزَاعِيّ مذْهبه فِيهَا مَذْهَب مَالك لَا يقْرؤهَا سرا وَلَا جَهرا فَمن تدبر ذَلِك قطع بِأَن حَدِيث مُعَاوِيَة إِمَّا بَاطِل لَا حَقِيقَة لَهُ وَإِمَّا مغير عَن وَجهه وَأَن الَّذِي حدث بِهِ بلغَة من وَجه لَيْسَ بِصَحِيح فحصلت الآفة من انْقِطَاع إِسْنَاده وَقيل هَذَا الحَدِيث لَو كَانَ يقوم بِهِ الْحجَّة فَهُوَ شَاذ لِأَنَّهُ خلاف مَا رَوَاهُ النَّاس الاثبات عَن أنس وَعَن أهل الْمَدِينَة وَأهل الشَّام وَمن شَرط الحَدِيث أَن يكون شاذا وَلَا مُعَللا وَهَذَا شَاذ مُعَلل إِن لم يكن من سوء حفظ بعض رُوَاته والعمدة الَّتِي اعتمدها المصنفون فِي الْجَهْر وَوُجُوب قرَاءَتهَا إِنَّمَا هُوَ كتَابَتهَا بقلم الْقُرْآن فِي الْمُصحف وَأَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم جردوا الْقُرْآن عَن غَيره والمتواتر عَن الصَّحَابَة أَن مَا بَين اللَّوْحَيْنِ قُرْآن وَلَا يُقَال لَا يثبت إِلَّا بتواتر وَلَو تَوَاتَرَتْ لكفرنا فِيهَا لِأَنَّهُ لَا يُقَال لَو كَانَ كَذَلِك لكفر مثبتها وَلَا تَكْفِير من الْجَانِبَيْنِ فَكل حجَّة تقَابل الْأُخْرَى وَالْحق أَنه آيَة للفصل بَين السُّور والبسملة قيل لَيست من الْقُرْآن الا فِي سُورَة النَّمْل وَهُوَ قَول مَالك وَطَائِفَة من الْحَنَفِيَّة والحنبلية وَقيل هِيَ من كل سُورَة آيَة أَو بعض آيَة كَمَا هُوَ الْمَشْهُور عَن الشَّافِعِي وَقيل إِنَّهَا من الْقُرْآن حَيْثُ كتبت وَمَعَ ذَلِك لَيست من السُّور بل كتبت آيَة فِي أول كل سُورَة وَكَذَلِكَ تتلى آيَة مُنْفَرِدَة فِي أول كل سُورَة كَمَا تَلَاهَا النَّبِي صلى الل عَلَيْهِ وَسلم حِين نزلت عَلَيْهِ سُورَة {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} كَمَا فِي صَحِيح مُسلم وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك وَالْمَنْصُوص عَن أَحْمد وَهُوَ قَول من حقق القَوْل

فِي هَذِه الْمَسْأَلَة حَيْثُ جمع بَين مُقْتَضى الْأَدِلَّة وكتابتها سطرا مَفْصُولًا عَن السُّورَة وَتجب قِرَاءَة الْبَسْمَلَة عِنْد الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة وَقيل تكره سرا وجهرا وَهُوَ الْمَشْهُور عَن مَالك وَقيل قرَاءَتهَا جَائِزَة بل مُسْتَحبَّة وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة وَالْمَشْهُور عَن أَحْمد وَأكْثر أهل الحَدِيث وَطَائِفَة تسوى بَين قرَاءَتهَا وَتركهَا معتقدين أَن هَذَا على إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْن ويجهر بهَا وَقيل لَا وَقيل يخبر روى عَن إِسْحَاق وَهُوَ قَول ابْن حزم وَغَيره وَمَعَ ذَلِك فمراعاة الائتلاف هُوَ الْحق فيجهر بهَا بِالْمَصْلَحَةِ راجحة ويسوغ ترك الْأَفْضَل لتأليف الْقُلُوب كَمَا ترك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَاء الْبَيْت على قَوَاعِد ابراهيم خشيَة تنفير قُرَيْش نَص الْأَئِمَّة كأحمد على ذَلِك فِي الْبَسْمَلَة وَفِي وصل الْوتر وَغَيره كَمَا فِيهِ الْعُدُول عَن الافضل إِلَى الْجَائِز مُرَاعَاة للائتلاف أَو لتعريف السّنة وأمثال ذَلِك وَالله أعلم هَل الْأَفْضَل وضع يَدَيْهِ قبل رُكْبَتَيْهِ أَو بِالْعَكْسِ فِيهِ رِوَايَتَانِ هما قَولَانِ للْعُلَمَاء وَفِي بطلَان الصَّلَاة بالنحنحة والنفخ نزاع الْأَشْبَه عدم الْبطلَان لَكِن إِن كَانَ من خشيَة الله فالنزاع مَعَ الشَّافِعِي وَأما إِن غلب عَلَيْهِ فَالصَّحِيح عِنْد الْجُمْهُور أَنه لَا تبطل وَهُوَ مَنْصُوص عَن أَحْمد وَقَالَ بعض أَصْحَابه تبطل

وَالْقَوْل بِأَن العطاس يبطل مُحدث وَقد تبين أَن هَذِه الْأَصْوَات الخلقية الَّتِي لَا تدل بِالْوَضْعِ على لفظ فِيهَا نزاع فِي مَذْهَب أَحْمد وَمَالك وَأبي حنيفَة وَالْأَظْهَر فِيهَا جَمِيعًا أَنَّهَا لَا تبطل فَإِن الْأَصْوَات من جنس الحركات وكما أَن الْعَمَل الْيَسِير لَا يبطل فالصوت الْيَسِير مثله بِخِلَاف القهقهة فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَة الْعَمَل الْكثير وَاللَّفْظ ثَلَاث دَرَجَات أَحدهَا أَن يدل على معنى بِالْوَضْعِ إِمَّا بِنَفسِهِ وَإِمَّا مَعَ لفظ غَيره كفى وَعَن فَهَذَا كَلَام الثَّانِي أَن يدل على معنى بالطبع مثل التأوه والأنين والبكاء الثَّالِث أَن لَا يدل على معنى بالطبع وَلَا بِالْوَضْعِ كالنحنحة فَهَذَا الْقسم كَانَ أَحْمد قدس الله روحه يَفْعَله وَإِذا لم يجد الرجل موقفا إِلَّا حلف الصَّفّ فَفِيهِ نزاع بَين المبطلين لصَلَاة الْمُنْفَرد وَالْأَظْهَر صِحَة صَلَاة هَذَا فِي هَذَا الْموضع لِأَنَّهُ عجز وطرده صِحَة صَلَاة الْمُتَقَدّم عَليّ الإِمَام للْحَاجة وَهُوَ قَول فِي مَذْهَب أَحْمد وَمن قَالَ إِن الإِمَام إِن سبح أَكثر من ثَلَاث بِغَيْر رضَا الْمَأْمُومين ببطلت صلَاته فَهُوَ قَول بَاطِل مُحدث لم يقلهُ أحد من الْأَئِمَّة والطمأنينة بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَاجِبَة والنزاع فِي وجوب الْإِعَادَة فصل واللحن الَّذِي يحِيل الْمَعْنى إِن أَحَالهُ إِلَى مَا هُوَ من جنس معنى من مَعَاني الْقُرْآن خطأ فَهَذَا لَا يبطل صلَاته كَمَا لَو غلط فِي الْقُرْآن فِي مَوضِع الِاشْتِبَاه فخلط سُورَة بغَيْرهَا وَأما إِن أَحَالهُ إِلَى مَا يُخَالف معنى الْقُرْآن كَقَوْلِه أَنْعَمت بِالضَّمِّ

فَهَذَا بِمَنْزِلَة كَلَام الأدميين وَهُوَ فِي مثل هَذِه الْحَال محرم فِي الصَّلَاة لكنه لَو تكلم بِهِ فِي الصَّلَاة جَاهِلا بِتَحْرِيمِهِ فَفِي بطلَان صلَاته نزاع فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره كالناسي الصَّحِيح أَنه لَا يبطل صلَاته وَالْجَاهِل بِمَعْنى أَنْعَمت عذره أقوى من عذر النَّاسِي وَالْجَاهِل لِأَن هَذَا يعْتَقد أَنَّهَا من كَلَام الله بِخِلَاف الْجَاهِل فَإِنَّهُ يعلم أَنه كَلَام الْآدَمِيّين لَكِن لَا يعلم أَنه مَحْظُور وعَلى هَذَا فَلَو كَانَ مثل هَذَا اللّحن فِي نقل الْقِرَاءَة لم تبطل وَأما إِذا كَانَ فِي الْفَاتِحَة الَّتِي هِيَ فرض فَيُقَال هَب أَنَّهَا لَا تبطل من جِهَة كَونه متكلما لكنه لم يَأْتِ بِفَرْض الْقِرَاءَة فَيكون قد ترك ركنا فِي الصَّلَاة جَاهِلا وَلَو تَركه نَاسِيا لم تصح صلَاته فَكَذَلِك إِن تَركه جَاهِلا لَكِن هَذَا لم يتْرك أصل الرُّكْن وَإِنَّمَا ترك صنفه فِيهِ وأتى بغَيْرهَا ظَانّا أَنَّهَا هِيَ فَهُوَ بِمَنْزِلَة من سجد إِلَى غَيره الْقبْلَة وَلَو ترك بعض الْفُرُوض غير عَالم بفرضه فَفِي هَذَا الأَصْل قَولَانِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وأصل ذَلِك خطاب الشَّارِع هَل يثبت قبل الْبلُوغ وَالْعلم بِهِ أم لَا على ثَلَاثَة أَقْوَال أَصَحهَا أَن يعْذر فَلَا تجب الْإِعَادَة على هَذَا الْجَاهِل وَمثله مَا لَو لم تعلم الْمَرْأَة أَنه يجب ستر رَأسهَا وجسدها لم تعد وَلِهَذَا إِذا تغير اجْتِهَاد الْحَاكِم لم ينْقض مَا حكم فِيهِ وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي إِذا تغير اجْتِهَاده وَأما إِن تعمد اللّحن عَالما بِمَعْنَاهُ بطلت صلَاته من جِهَة أَنه لم يقْرَأ الْفَاتِحَة وَمن جِهَة انه تكلم بِكَلَام الْآدَمِيّين بل لَو عرف مَعْنَاهُ وخاطب بِهِ الله كفر وَإِن تَعَمّده وَلم يعلم مَعْنَاهُ لم يكفر وَإِن لم يتَعَمَّد لَكِن ظن أَنه حق فَفِي صِحَة صلاتة نزاع كَمَا ذَكرْنَاهُ وَكَذَا لَو علم أَنه لحن لَكِن اعْتقد أَن لَا يحِيل الْمَعْنى حَتَّى لَو كَانَ

إِمَامًا فَفِي صِحَة من صَلَاة من خَلفه نزاع هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وَفِي إِمَامَة المتنقل بالمفترض ثَلَاثَة أَقْوَال يجوز وَلَا يجوز وَيجوز عِنْد الْحَاجة نَحْو أَن يكون المأمومون أُمِّيين أما لَو صلى من يلحن بِمثلِهِ فَيجوز إِذا كَانُوا عاجزين عَن إِصْلَاحه هَذَا فِي الْفَاتِحَة أما فِي غير الْفَاتِحَة فان تَعَمّده بطلت صلَاته وَالَّذِي يحِيل الْمَعْنى مثل أَنْعَمت إياك بِالضَّمِّ وَالْكَسْر وَالَّذِي يحيله مثل فك الإدعام فِي مَوْضِعه أَو قطع همز الْوَصْل وَمثل الرَّحْمَن الرَّحِيم مَالك يَوْم الدّين وَأما إِن قَالَ الْحَمد أَو رب أَو نستعين أَو أَنْعَمت عَلَيْهِم فَهَذَا تصح صلَاته لكل أحد فَإِنَّهَا قِرَاءَة وَلَيْسَت لحنا وإمامة الرَّاتِب فِي الْمَسْجِد مرَّتَيْنِ بِدعَة ويعفى عَن النَّائِم وَالنَّاسِي إِن كَانَ محافظا على الصَّلَاة حَال الْيَقَظَة وَالذكر وَأما من لم يكن محافظا عُوقِبَ على التّرْك مُطلقًا وَيجوز التَّمام الْمُسلمين بَعضهم بِبَعْض مَعَ اخْتلَافهمْ فِي الْفُرُوع بِإِجْمَاع السّلف وَأَصَح قَول الْخلف فَإِن صَلَاة الإِمَام جَائِزَة إِجْمَاعًا لِأَنَّهُ صلى بِاجْتِهَادِهِ فَهُوَ مأجور فَاعل الْوَاجِب عَلَيْهِ الَّذِي يَكْفِي وَهُوَ من المصلحين وَمن قَالَ إِن صلَاته لَا تسْقط الْفَرْض فقد خَالف الْإِجْمَاع يُسْتَتَاب بِخِلَاف من صلى بِلَا وضوء مَعَ عمله فَهَذَا صلَاته فأسدة فَلَا يأتم بِهِ من علم حَاله وَلم يزل الصَّحَابَة والتابعون رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ يؤم بَعضهم بَعْضًا مَعَ أَنهم مُخْتَلفُونَ فِي الْفُرُوع وسر الْمَسْأَلَة أَن مَا تَركه الْمُجْتَهد من الْبَسْمَلَة وَغَيره إِن لم يكن وَاجِبا فِي نفس الْأَمر فَلَا كَلَام وان كَانَ وَاجِبا فقد يسْقط عَنهُ بِاجْتِهَادِهِ وَقد قَالَ تَعَالَى رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا فَقَالَ الله قد فعلت

فصل

فصل من شرب الْخمر يَوْمًا ثمَّ لم يشْربهَا إِلَى شهر وَنِيَّته إِذا قدر عَلَيْهَا شربهَا فَهُوَ مصر لَيْسَ بتائب وَكَذَلِكَ جَمِيع الذُّنُوب وَمن اعْتَادَ شربهَا كَمَا يعْتَاد أَمْثَالهَا من الشَّرَاب فَهُوَ مدمن عَلَيْهَا فاعتياد الْخمر كاعتياد اللَّحْم من النَّاس من يَأْكُلهُ كل يَوْم وَمِنْهُم من يَأْكُلهُ كل أُسْبُوع أَو يَوْمَيْنِ أَو أَكثر أَو أقل وَلَا يجوز أَن يُولى الْمصر وَلَا المدمن إِمَامَة صَلَاة لَكِن لَو ولي صلى خَلفه عِنْد الْحَاجة كَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَة الَّتِي لَا يقوم بهَا غَيره وَإِن أمكن الصَّلَاة خلف الْبر فَهَذَا أولى فصل وَصَلَاة الْجَمَاعَة اتّفق الْعلمَاء على أَنَّهَا من أوكد الْعِبَادَات وَأجل الطَّاعَات وَأعظم شَعَائِر الْإِسْلَام على مَا ثَبت من فَضلهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ تفضل صَلَاة الرجل فِي الْجَمَاعَة على صلَاته وَحده بِخمْس وَعشْرين دَرَجَة وَفِي رِوَايَة بِسبع وَعشْرين دَرَجَة وَالْجمع بَينهمَا أَن حَدِيث الْخمس وَالْعِشْرين ذكر فِيهِ الْفضل الَّذِي بَين صَلَاة الْمُنْفَرد وَالصَّلَاة فِي الْجَمَاعَة وَهُوَ خمس وَعِشْرُونَ وَحَدِيث السَّبع وَالْعِشْرين ذكر فِيهِ صلَاته مُنْفَردا وَصلَاته فِي الْجَمَاعَة وَالْفضل بَينهمَا فَصَارَ الْمَجْمُوع سبعا وَعشْرين وَمن ظن أَن صلَاته وَحده أفضل من أجل خلوته أَو غير ذَلِك فَهُوَ مخطىء ضال وأضل مِنْهُ من لم ير الْجَمَاعَة إِلَّا خلف مَعْصُوم فعطل الْمَسَاجِد وَعمر الْمشَاهد

وَمن ظن أَن الدُّعَاء عِنْد الْقُبُور أفضل من الدُّعَاء فِي الْمَسَاجِد فقد كفر فقد اتّفق أَئِمَّة الْمُسلمين على أَن اتِّخَاذ الْقُبُور للدُّعَاء عِنْدهَا أَو الصَّلَاة لَيست من دين الاسلام وَقد تَوَاتَرَتْ السّنَن فِي النَّهْي عَن اتخاذها لذَلِك وَالْجَمَاعَة قيل سنة مُؤَكدَة وَقيل فرض كِفَايَة وَقيل فرض عين وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوص عَن أَحْمد وَغَيره من أَئِمَّة السّلف وعلماء الحَدِيث وَقد تنازعوا فِيمَن صلى وَحده لغير عذر هَل تصح صلَاته على قَوْلَيْنِ أَحدهمَا لَا تصح قَالَه طَائِفَة من قدماء أَصْحَاب أَحْمد وَبَعض متأخريهم وَطَائِفَة من السّلف الثَّانِي تصح مَعَ إئمة بِالتّرْكِ وَهُوَ الْمَأْثُور عَن أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه وَحمل بَعضهم التَّفْضِيل فِي الحَدِيث على غير الْمَعْذُور لِأَن الْمَعْذُور يكْتب لَهُ أجره لَو كَانَ صَحِيحا مُقيما وَجعله حجَّة على صِحَة الْمُنْفَرد وَمن لم يصححها قَالَ بل المُرَاد الْمَعْذُور وَلَكِن لَيْسَ كل مَعْذُور يكْتب لَهُ مَا كَانَ يعْمل غير مَعْذُور بل إِنَّمَا يكْتب لمن كَانَت بنته لَوْلَا الْعذر أَن يعْمل وَمن كَانَ عَادَته ذَلِك فَهَذَا يكْتب لَهُ مَا كَانَ يعْمل وَهُوَ صَحِيح مُقيم أما من لم يكن لَهُ وَلَا عَادَة فَكيف يكْتب لَهُ مَا علم لم يكن فِي عَادَته الْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ فِي الحَدِيث دَلِيل على صِحَة الْمُنْفَرد من غير عذر وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَن صَلَاة المربض فِي الْأجر مثل صَلَاة الصَّحِيح وَلَا أَن صَلَاة الْمُنْفَرد الْمَعْذُور مثل صَلَاة الرجل فِي الْجَمَاعَة وَإِنَّمَا فِيهِ أَنه يكْتب لَهُ من الْعَمَل مَا كَانَ يعْمل وَهُوَ صَحِيح مُقيم قَوْله وَصَلَاة الرجل قَاعِدا على النّصْف من صلَاته قَائِما فقد قَالَ بَعضهم كَيفَ تكون صَلَاة الْمَعْذُور قَاعِدا دون صلَاته قَائِما فَحمل تَفْضِيل صَلَاة الْقَائِم على النَّفْل دين الْفَرْض لِأَن الْقيام فِي الْفَرْض وَاجِب فَلَزِمَهُ أَن تجوز

صَلَاة التَّطَوُّع للصحيح مُضْطَجعا لِأَن فِي الحَدِيث وَصلَاته مُضْطَجعا على النّصْف من صلَاته قَاعِدا وَقد طرد ذَلِك طَائِفَة من أَصْحَاب أَحْمد وَغَيره وجوزوا التَّطَوُّع مُضْطَجعا لمن هُوَ صَحِيح وَهُوَ قَول مُحدث بِدعَة وَالْجَوَاب مَا قدمْنَاهُ من أَنه يحمل على الْفَرْض وَلَا يُعَارض مثل هَذَا الحَدِيث مُنْفَردا وَأَنه إِنَّمَا يكْتب لَهُ إِذا كَانَ من عَادَته أَن يعْمل وَنِيَّته أَن يعْمل لكل عجز بِالْمرضِ وَمن لم يكن لَهُ عَادَة لَا يكْتب لَهُ غير مَا عمله فَلَا تعَارض بَين الْأَحَادِيث مَسْأَلَة وتدرك الْجَمَاعَة وَالْجُمُعَة وَالْمُسَافر وَصَلَاة الْمُقِيم وَإِدْرَاك الْحَائِض آخر الْوَقْت أَو إِدْرَاك أول الْوَقْت كل ذَلِك بِرَكْعَة فِي الصَّحِيح من قولي الْعلمَاء وَمذهب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ فِي الْجُمُعَة بِرَكْعَة وَفِي سَائِر الْمَوَاضِع قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد فعلى هَذَا إِذا كَانَ الْمدْرك أقل من رَكْعَة وَكَانَ بعْدهَا جمَاعَة أُخْرَى فَصلَاته مَعَ الثَّانِيَة أفضل وَإِن كَانَ الْمدْرك رَكْعَة أَو أقل وَقُلْنَا يكون مدْركا للْجَمَاعَة فقد تعَارض إذراكه لهَذِهِ الْجَمَاعَة وَإِدْرَاك الثَّانِيَة من أَولهَا فَإِن كَانَت الجماعتان سَوَاء فالثانية أفضل وَإِن تميزت الأولى بِكَمَال الْفَضِيلَة أَو كَثْرَة الْجمع أَو فضل الإِمَام أَو كَونهَا الرَّاتِبَة فَهِيَ من هَذِه الْجِهَة أفضل وَتلك من جِهَة إِدْرَاكهَا كلهَا أفضل وَقد يتَرَجَّح هَذَا تَارَة وَهَذَا تَارَة وَأما إِن قدر أَن الثَّانِيَة أكمل أفعالا أَو إِمَامًا أَو جمَاعَة فَهُنَا قد ترجحت من وَجه آخر وَصلَاته مَعَ الرَّاتِب وَلَو رَكْعَة خير من صلَاته فِي بَيته وَلَو جمَاعَة

فصل

وَمن صلى فِي بَيته جمَاعَة فَهَل يسْقط عَنهُ حُضُور الْمَسْجِد فِيهِ نزاع وَيَنْبَغِي أَلا يتْرك حُضُور الْمَسْجِد إِلَّا لعذر مَسْأَلَة وَلَو قَامَ رجل يقْضِي مَا فَاتَهُ فائتم بِهِ رجل آخر جَازَ فِي أصح قولي الْعلمَاء إِذا نويا فَإِن نوي الْمَأْمُوم وَحده فَفِيهِ قَولَانِ الْمَشْهُور عَن أَحْمد أَنه لَا يَصح وَمن داوم على ترك السّنَن الرَّاتِبَة لم يُمكن من حكم وَلَا شَهَادَة وَلَا فتيا مَعَ إصراره على ذَلِك فَكيف بِمن يداوم على ترك الْجَمَاعَة الَّتِي هِيَ أعظم شَعَائِر الْإِسْلَام وَيلْزم الْقَضَاء على الْفَوْر سَوَاء فَاتَتْهُ عمدا أَو سَهوا عِنْد جمهورهم كمالك وَأحمد وَأبي حنيفَة وَكَذَلِكَ الرَّاجِح عَن الشَّافِعِي إِن فَاتَتْهُ عمدا وَقد روى فِي قِرَاءَة آيَة الْكُرْسِيّ حَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَغَيره فَإِن صَحَّ دلّ على أَن قرَاءَتهَا مُسْتَحبَّة لَكِن لَا يدل على أَن الإِمَام والمأموميين يقرءونها جَمِيعًا جاهرين بهَا فان ذَلِك بِدعَة بِلَا ريب فصل والمسبوق إِذا لم يَتَّسِع وَقت قِيَامه لقِرَاءَة الْفَاتِحَة فَإِنَّهُ يرْكَع مَعَ إِمَامه وَلَا يتم الْفَاتِحَة بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة وَإِن كَانَ فِيهِ خلاف فَهُوَ شَاذ وَأما إِذا أخر فِي الصَّلَاة مَعَ إِمْكَانه حَتَّى قصر الْقيام أَو كَانَ الْقيام متسعا

وَلم يَقْرَأها فَهَذَا تجوز صلَاته عِنْد الجماهير وَعند الشَّافِعِي عَلَيْهِ أَن يقْرَأ وَإِن تخلف عَن الرُّكُوع وَإِنَّمَا تسْقط قرَاءَتهَا عِنْده عَن الْمَسْبُوق خَاصَّة وَمن تخلف عَن الإِمَام لعذر من نوم أَو نِسْيَان وَنَحْوه فمذهب الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة أَنه إِذا أَتَى بِمَا تخلف عَنهُ وَلحق الإِمَام وَلَو سبقه بِرُكْن أَو اثْنَيْنِ أَو ثَلَاثَة وَهُوَ يُدْرِكهُ فِي الرَّكْعَة فصلائه صَحِيحَة وَصلَاته السَّكْرَان الَّذِي لَا يعلم مَا يَقُول لَا تجوز بالِاتِّفَاقِ بل وَلَا يجوز أَن يُمكن من دُخُول الْمَسْجِد وَإِذا قَالَ الرجل لَا أُصَلِّي إِلَّا خلف من يكون من أهل مذهبي فَهُوَ كَلَام محرم قَائِله يسْتَحق الْعقُوبَة فَإِنَّهُ لَيْسَ من أَئِمَّة الْمُسلمين من قَالَ لَا تشرع صَلَاة الْمُسلم إِلَّا خلف من يُوَافقهُ فِي مذْهبه الْمعِين وتنازع الْمُتَأَخّرُونَ من أَصْحَاب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا هَل على الْعَاميّ أَن يلْتَزم مَذْهَب وَاحِد بِعَيْنِه من الْأَئِمَّة الْمَشْهُورين بِحَيْثُ يَأْخُذ بِعَزَائِمِهِ ورخصه على قَوْلَيْنِ وَالْمَشْهُور أَنه لَا يجب كَمَا أَنه لَيْسَ لَهُ أَن يُقَلّد فِي كل مَسْأَلَة من يُوَافق غَرَضه وَلَيْسَ لَهُ أَن يُقَلّد فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة غير مقلده إِذا من مَذْهَب من يقلده يَجْعَل الْحق عَلَيْهِ بل عَلَيْهِ بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة أَن يعدل بَين غَيره وَنَفسه فِي الْأَقْوَال والاحكام فَإِذا اعْتقد وجوب شَيْء أَو تَحْرِيمه اعْتقد ذَلِك عَلَيْهِ وعَلى من يماثله مِثَاله شُفْعَة الْجوَار للْعُلَمَاء فِيهِ قَولَانِ فَمن اعْتقد أحد الْقَوْلَيْنِ فقد قَالَ بقول طَائِفَة من عُلَمَاء الْمُسلمين وَلَيْسَ لأحد ثُبُوت الشُّفْعَة إِذا كَانَ هُوَ الطَّالِب وانتفاؤها إِذا كَانَ هُوَ الْمَطْلُوب كَمَا يَفْعَله الظَّالِمُونَ أهل الْأَهْوَاء يتبعُون فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة هواهم فيوافقون هَذَا القَوْل تَارَة وَهَذَا أُخْرَى مُتَابعَة للهوى لَا مُرَاعَاة للتقوى وَقد ذمّ الله من يتبع الْحق إِذا كَانَ لَهُ لَا عَلَيْهِ فَقَالَ دعوا إِلَى

الله وَرَسُوله ليحكم بَينهم إِذا فريق مِنْهُم معرضون وَإِن لم يكن لَهُم الْحق يَأْتُوا اليه مذعنين أَفِي قُلُوبهم مرض أم أرتابوا أَو يخَافُونَ أَن يَحِيف الله عَلَيْهِم وَرَسُوله بل أُولَئِكَ هم الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَول الْمُؤمنِينَ إِذا دعوا الى الله وَرَسُوله ليحكم بيهم أَن يَقُولُوا سمعنَا وأطعنا وَأُولَئِكَ هم المفلحون وَمن يطع الله وَرَسُوله ويخش الله ويتقه فَأُولَئِك هم الفائزون وَقَول الْقَائِل لَا أتقيد بِأحد هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة إِن أَرَادَ أَنه لَا يتَقَيَّد بِوَاحِد بِعَيْنِه دون البَاقِينَ فقد أحسن بل هُوَ الصَّوَاب من الْقَوْلَيْنِ وَإِن أَرَادَ أَنِّي لَا أتقيد بهَا كلهَا بل أخالفها فَهُوَ مخطىء فِي الْغَالِب قطعا إِذا لحق لَا يخرج عَن هَذِه الْأَرْبَعَة فِي عَامَّة الشَّرِيعَة وَلَكِن تنَازع النَّاس هَل يخرج عَنْهَا فِي بعض الْمسَائِل على قَوْلَيْنِ وَقد بسطنا ذَلِك فِي مَوضِع آخر وَكَثِيرًا مَا يتَرَجَّح قَول من الْأَقْوَال يظنّ الظَّن أَنه خَارج عَنْهَا وَيكون دَاخِلا فِيهَا لَكِن لَا ريب أَن الله لم يَأْمر الْأمة بِاتِّبَاع أَرْبَعَة أشخاص دون غَيرهم هَذَا لَا يَقُوله عَالم وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا يُقَال أَحَادِيث البُخَارِيّ وَمُسلم فَإِن الْأَحَادِيث الَّتِي رَوَاهَا الشَّيْخَانِ فصححاها قد صححها من الْأَئِمَّة مَا شَاءَ الله فالأخذ بهَا لكَونهَا قد صحت لَا لِأَنَّهَا قَول شخصي بِعَيْنِه وَأما من عرض عَلَيْهِ حَدِيث فَقَالَ لَو كَانَ صَحِيحا لما أَهله أهل مَذْهَبنَا فَيَنْبَغِي أَن يُعَزّر هَذَا على فرط جَهله وَكَلَامه فِي الدّين بِلَا علم وَالْكذب فِي حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعظم الذُّنُوب وَقد اخْتلف هَل هُوَ فسق أَو كفر على قَوْلَيْنِ

فصل

فصل الْمَسْجِد المبنى على قبر لَا يُصَلِّي فِيهِ فرض وَلَا تغل فَإِن كَانَ الْمَسْجِد قبل الْقَبْر غير إِمَّا بتسوية الْقَبْر أَو نبشه إِن كَانَ جَدِيدا وَإِن كَانَ الْقَبْر قبله فإمَّا أَن يزَال الْمَسْجِد وَإِمَّا أَن تزَال صُورَة الْقَبْر وَالْجُمْهُور على أَن قَلِيل الحشيشة وكثيرها حرَام بل الصَّوَاب أَن آكلها يحد وَأَنَّهَا نَجِسَة مَسْأَلَة وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين أَنه يجب الْإِنْكَار على الدّين يشربونها وَقَول الْقَائِل إِن من طول الْقيام على الرُّكُوع وَالْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ تبطل صلَاته قَول ضَعِيف بَاطِل وَمن قَالَ لَا تجوز الصَّلَاة خلف الْأَئِمَّة الْمَالِكِيَّة مثلا فَهَذَا كَلَام مُنكر وَمن أشنع المقالات يسْتَحق مطبقة التَّعْزِير البليغ فَإِن فِيهِ من إِظْهَار الاستخفاف بِحرْمَة هَؤُلَاءِ السَّادة مَا يُوجب عَظِيم الْعقُوبَة وَيدخل صَاحبه فِي أهل الْبدع المضلة وَكَذَا من قَالَ لَا تجوز الصَّلَاة خلف من لَا تعرف عقيدته وَمَا هُوَ عَلَيْهِ فَهُوَ قَول لم يقلهُ أحد من السلمين فَإِن أهل الحَدِيث وَالسّنة كالشافعي وَأحمد وَإِسْحَاق وَغَيرهم متفقون على أَن صَلَاة الْجُمُعَة تصلي خلف الْبر والفاجر حَتَّى إِن اكثر أهل الْبدع كالجهمية الَّذين يَقُولُونَ بِخلق الْقُرْآن وَأَن الله لَا يرى فِي الْآخِرَة وَمَعَ أَن أَحْمد ابتلى بهم وَهُوَ أشهر الْأَئِمَّة بِالْإِمَامَةِ فِي السّنة وَمَعَ هَذَا فَلم تخْتَلف نصوصه أَنه تصلى الْجُمُعَة خلف الجهمي والقدري والرافضي وَلَيْسَ لأحد أَن يدع الْجُمُعَة لبدعة فِي الامام

فصل

لَكِن تنازعوا هَل تُعَاد على قَوْلَيْنِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد قيل تُعَاد خلف الْفَاسِق وَمذهب الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة لَا تُعَاد فصل وَالْقِرَاءَة على الْجِنَازَة مَكْرُوهَة عِنْد الْأَرْبَعَة وَأخذ الْأُجْرَة عَلَيْهَا أعظم كَرَاهَة فَإِن الِاسْتِئْجَار على التِّلَاوَة لم يرخص فِيهِ أحد من الْعلمَاء وَالصَّلَاة خلف أهل الْبدع أولى من الصَّلَاة خلف هُنَا وَيجوز الِاسْتِئْجَار على الْإِمَامَة وَالْأَذَان حوه وَقيل لَا وَقيل عِنْد الْحَاجة وَالثَّلَاثَة لِأَحْمَد والسكران بِالْخمرِ والحشيش إِذا علم مَا يَقُول فَعَلَيهِ الصَّلَاة بعد غسل فَمه وَمَا أَصَابَهُ وَهل عَلَيْهِ أَن يستقىء مَا فِي بَطْنه على قَوْلَيْنِ للْعُلَمَاء أصَحهمَا لَا لَكِن إِذا لم يتب فقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من شرب الْخمر لم تقبل صلَاته أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَإِن تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ وَإِن عَاد فِي الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة كَانَ حَقًا على الله أَن يسْقِيه من طِينَة الخبال وَهِي عصارة أهل النَّار فَلَا بُد لَهُم من الصَّلَاة وَإِن كَانَ قد قيل إِنَّهَا لَا تقبل وَإِن تَابُوا قبلهَا الله اصلوها فقد تكون على رَأْي من يَنْفِي الْقبُول أَنه لَا ثَوَاب لَهُم عَلَيْهَا لَكِن انْدفع بهَا عِقَاب التّرْك فِي الدُّنْيَا وَلم يكن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه يصلونَ على سجادة لَكِن صلى على خمرة وَهِي شَيْء يعْمل من الخوص يتقى بِهِ حر الأَرْض وَكَانَ يُصَلِّي على الْحَصِير وَالتُّرَاب وروى أَن بعض الْعلمَاء قدم وقرش فِي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا فَأمر مَالك رَحمَه الله يحْبسهُ وَقَالَ أما علمت أَن هَذَا فِي مَسْجِدنَا بِدعَة

وَمن يُبدل الرَّاء غينا وَالْكَاف همزَة لَا يؤم إِلَّا مثله أما من يثوب الرَّاء بغين يُخرجهَا من فَوق مخرجهما بِقَلِيل فَتَصِح إِمَامَته للقارىء وَغَيره وَهَذَا كُله مَعَ الْعَجز وَيجوز تَعْلِيم الْقُرْآن فِي الْمَسْجِد إِذا لم يكن فِيهِ ضَرَر على الْمَسْجِد وَأَهله بل يسْتَحبّ وَإِذا كَانَ الْمعلم يقرىء فَأعْطى شَيْئا جَازَ لَهُ أَخذه عِنْد أَكثر الْعلمَاء وَمن كَانَ يظْهر الْفُجُور والبدع فَفِي الصَّلَاة خَلفه نزاع وَالَّذِي ينْهَى أَلا يقدم الْوَاحِد من هَؤُلَاءِ لإمامة وَلَا يجوز مَعَ الْقُدْرَة على ذَلِك فصل وَيجوز النّوم فِي الْمَسْجِد للمحتاج الَّذِي لَا مسكن لَهُ أَحْيَانًا وَأما اتِّخَاذه مبيتا وَمَقِيلا فينهى عَنهُ وَيكرهُ فِيهِ فضول الْمُبَاح وَأما للشَّيْء بالنعال فِي الْمَسْجِد فَجَائِز كَمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بنعله وَكَانَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنهُ يَمْشُونَ بنعالهم فِي مَسْجده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكِن يَنْبَغِي للرجل أَن ينظر نَعْلَيْه فَإِن كَانَ فيهمَا أَذَى فليدلكهما بِالْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَهما طهُور كَمَا أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك وَتجوز الصَّلَاة خلف ولد الزِّنَا باتفاقهم لَكِن تنازعوا فِي كراهتها فكرهه مَالك وَأَبُو حنيفَة وَغير ولد الزِّنَا أولى وَتجوز صَلَاة الْفجْر خلف الظّهْر فِي إِحْدَى الرواتين عَن أَحْمد ومسابقة الإِمَام بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة وَمن سبقه سَهوا لم تبطل صلَاته وَلم يعْتد لَهُ بِمَا سبق إِمَامه بِهِ فَلهَذَا أمره الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَن يتَخَلَّف بِمِقْدَار

مَا سبق بِهِ الإِمَام ليَكُون فعله بِقدر فعل الإِمَام فَأَما إِذا سبقه عمدا فَفِي بطلَان صلَاته قَولَانِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وَالصَّوَاب أَن مُرُور الْمَرْأَة وَالْكَلب الْأسود وَالْحمار بَين يَدي الْمُصَلِّي دون سترته يقطع الصَّلَاة وَتجوز الصَّلَاة فِي الْكَنِيسَة وَقيل لَا وَقيل إِذا لم يكن فِيهَا صُورَة تجوز وَإِلَّا فَلَا وَالثَّلَاثَة لِأَحْمَد وَغَيره وَإِذا ضَاقَ الْوَقْت فِي الْحمام فَهَل يصلى فِيهِ أَو يفوت الصَّلَاة حَتَّى يخرج فيصليها على قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وَمن فَاتَتْهُ الظّهْر أَو الْعَصْر وَنَحْوهمَا نِسْيَانا قضى وَأما من فوتهما مُتَعَمدا فقد اتى عَظِيم الْكَبَائِر وَعَلِيهِ الْقَضَاء عِنْد الْجُمْهُور وَعند بَعضهم لَا يَصح فعلهَا قَضَاء وَمَعَ وجوب الْقَضَاء عَلَيْهِ لاتبرأ ذمَّته من جَمِيع الْوَاجِبَات وَلَا يقبلهَا الله تَعَالَى بِحَيْثُ يرْتَفع عَنهُ الْعقَاب ويستوجب الثَّوَاب بل لَعَلَّه يخلف عَنهُ الْعَذَاب بِمَا فعله من الْقَضَاء وَيبقى عَلَيْهِ إِثْم التفويت يحْتَاج إِلَى مسْقط آخر قَالَ أَبُو بكر لعمر رَضِي الله عَنهُ فِي وَصيته وَاعْلَم أَن الله حَقًا بِالنَّهَارِ لَا يقبله بِاللَّيْلِ وَحقا بِاللَّيْلِ لَا يقبله بِالنَّهَارِ وَلَا يقبل النَّافِلَة حَتَّى تُؤَدّى الْفَرِيضَة وَالْعَمَل الْمَذْكُور هُوَ صَلَاة الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء وَمن عدم المَاء وَالتُّرَاب قيل لَا شَيْء عَلَيْهِ وَقيل يؤخرها وَإِذا صلى على حسب حَاله فَهَل يُعِيد فِيهِ نزاع وَالْأَظْهَر لَا وَمن سلم إِمَامه وَقد بَقِي عَلَيْهِ شَيْء من الدُّعَاء هَل يُتَابع الإِمَام أَو يتمة الأولى مُتَابَعَته وَمن لَا سَبَب لرزقه إِلَّا قِرَاءَة سيرة عنترة والبطال وَنَحْوهَا لَا يجوز أَن يرتب إِمَامًا يصلى بِالْمُسْلِمين فَإِنَّهُ يحدث دَائِما بالأكاذيب وَيَأْكُل الْجعل عَلَيْهَا

فصل

وَكِلَاهُمَا محرم فَإِن عنترة والبطال وَإِن كَانَ موجودين لَكِن كذب عَلَيْهِمَا مَالا يُحْصِيه إِلَّا الله وَتجوز الصَّلَاة قُدَّام الإِمَام لعذر من زحمة وَنَحْوهَا فِي أعدل الْأَقْوَال وَكَذَا الْمَأْمُوم إِذا لم يجد من يَقُول مَعَه صلى وَحده وَلم يدع الْجَمَاعَة وَلم يجذب أحدا يُصَلِّي مَعَه كَالْمَرْأَةِ إِن لم تَجِد من يصافها فِيهَا نصف وَحدهَا بالِاتِّفَاقِ وَهُوَ مَأْمُور بالمصافة مَعَ الْإِمْكَان لَا مَعَ الْعَجز والوسواس إِذا قل لم يبطل الصَّلَاة بالِاتِّفَاقِ لَكِن ينقصها وَأما الوسواس إِذا غلب فقد قيل يبطل قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ إِنِّي لأجهز جيشي وَأَنا فِي الصَّلَاة وَلَيْسَ من نفكر بِالْوَاجِبِ مثل من تفكر بالفضول فعمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ أَمِير الْجَيْش وَهُوَ مَأْمُور بِالصَّلَاةِ وَالْجهَاد مَعًا فَلَو قدر أَنه نقص من الصَّلَاة شَيْء لأجل الْجِهَاد لم يقْدَح فِي كَمَال إيمَانه فَلهَذَا خففت صَلَاة الْخَوْف فَكَانَ بِمَنْزِلَة من يُصَلِّي صَلَاة الْخَوْف وَلَا شكّ أَن صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَال الْخَوْف كَانَت نَاقِصَة عَن صلَاته حَال أَمنه فِي الْأَفْعَال الظَّاهِرَة فَإِذا كَانَ قد عفى عَن الْأَفْعَال الظَّاهِرَة فَإِذا كَانَ قد عفى عَن الْأَفْعَال الظَّاهِرَة فَكيف بالباطنة وَقَالَ تَعَالَى فَإِذا اطمأنتم فأقيموا الصَّلَاة وإقامتها حَال الْأَمْن لَا يُؤمر بِهِ حَال الْخَوْف وَالله أعلم فصل تفعل النَّافِلَة الَّتِي لَهَا سَبَب كتحية الْمَسْجِد وَقت النَّهْي فِي الْأَظْهر لِأَن حَدِيثهَا عَام مَحْفُوظ وَحَدِيث النَّهْي مَخْصُوص وَأَيْضًا فعل الصَّلَاة وَقت الْخطْبَة مَنْهِيّ عَنهُ وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد وَالْإِمَام يخْطب يَوْم الْجُمُعَة فَلَا يجلس حَتَّى يُصَلِّي

رَكْعَتَيْنِ وَلم يخْتَلف قَول أَحْمد فِي هَذَا الْوَقْت لمجيء السّنة فِيهِ بِخِلَاف مَالك وَأبي حنيفَة فالنهي عِنْدهمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَيْضًا جَاءَ فِي أَحَادِيث النَّهْي لَا تنحروا والتحري التعمد وَمَا لَهُ سَبَب لَا تَعَمّده فِيهِ والمصافحة أدبار الصَّلَاة بِدعَة بِاتِّفَاق الْمُسلمين لَكِن عِنْد اللِّقَاء فِيهَا آثَار حَسَنَة وَقد اعْتقد بَعضهم أَنَّهَا فِي أدبار الصَّلَاة تندرج فِي عُمُوم الِاسْتِحْبَاب وَبَعْضهمْ أَنه مُبَاحَة وَالتَّحْقِيق أَنَّهَا بِدعَة إِذا فعلت على أَنَّهَا عبَادَة أما إِذا كَانَت أَحْيَانًا لكَونه لقِيه عقيب الصَّلَاة لَا لأجل الصَّلَاة فَهَذَا حسن كَمَا أَن النَّاس لَو اعتادوا سَلاما غير الْمَشْرُوع عقيب الصَّلَاة كره وَأما المعانقة فَفِي الحَدِيث النَّهْي عَنْهَا وَيحمل النَّهْي على فعهلا دَائِما وَأما عِنْد اللِّقَاء فقد جَاءَ فِيهِ حَدِيث جَعْفَر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقِيه فَالْتَزمهُ وَقبل بَين عَيْنَيْهِ وَمن لم يُمكن أَن يُصَلِّي إِلَّا خلف مُبْتَدع لعَجزه عَن إِزَالَته صلى وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ وَقد ظن طَائِفَة من الْفُقَهَاء أَنَّهَا مثل من صلى خلف فَاسق فتعاد وَإِنَّمَا النزاع إِذا أمكنه الصَّلَاة خلف غَيره وَأما الصَّلَاة خلف من يكفر من أهل الْبدع والأهواء فقد تنازعوا فِي نفس صَلَاة الْجُمُعَة خَلفه فَمن قَالَ يكفر أَمر بِالْإِعَادَةِ وَفِي تَكْفِير أهل الْأَهْوَاء نزاع هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وَغَيره وَحَقِيقَة الْأَمر أَن القَوْل قد يكون كفرا فيطلق القَوْل بتكفير صَاحبه لَكِن الشَّخْص الْمعِين لَا يكفر حَتَّى تُقَام عَلَيْهِ الْحجَّة فَنَفْس القَوْل قد يكون

كفرا لَكِن قَائِله مَعْذُور فَإِذا كَانَ من الْمُؤمنِينَ فَلَا يكفر لِأَنَّهُ قد يغدره الله تَعَالَى بِأُمُور إِمَّا أَنه لم يعقله أَو أَنه لم يثبت عِنْده أَو أَنه لم يفهمهُ لمعارضة شُبْهَة فَمن كَانَ قَصده الْحق فأخطأه فان الله يغْفر لَهُ وتقسيم الْمسَائِل إِلَى مسَائِل أصُول بِكفْر بإنكارها ومسائل فروع لَا يكفر بإنكارها لَيْسَ لَهُ أصل لَا عَن الصَّحَابَة وَلَا عَن التَّابِعين وَلَا عَن ائمة الاسلام وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذ عَن الْمُعْتَزلَة وَنَحْوهم من أَئِمَّة الْبِدْعَة وهم متناقضون فَإِذا قيل لَهُم مَا حد أصُول الدّين فَإِن قيل مسَائِل الِاعْتِقَاد يُقَال لَهُم قد تنَازع النَّاس فِي أَن مُحَمَّدًا هَل رأى ربه وَفِي أَن عُثْمَان أفضل أم عَليّ وَفِي كثير من مَعَاني الْقُرْآن وَتَصْحِيح بعض الْأَحَادِيث وَهِي اعتقادات وَلَا كفر فِيهَا بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَوُجُوب الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالْحج وَتَحْرِيم الْفَوَاحِش وَالْخمر هِيَ مسَائِل عمليه وَالْمُنكر لَهَا يكفر اتِّفَاقًا وَإِن قيل الْأُصُول هِيَ القطعية فَيُقَال كثير من مسَائِل النّظر لَيست قَطْعِيَّة وَكَون الْمَسْأَلَة قَطْعِيَّة أَو ظنية هِيَ أُمُور تخْتَلف باخْتلَاف النَّاس فقد يكون قَاطعا عِنْد هَذَا مَا لَيْسَ قَاطعا عِنْد هَذَا كمن سمع لفظ النَّص وتيقن مُرَاده وَلَا يبلغ قُوَّة النَّص الآخر عِنْده فَلَا يكون عِنْده ظنيا فضلا عَن كَونه قَطْعِيا وَالْمَقْصُود أَن مَذَاهِب الْأَئِمَّة الْفرق بَين النَّوْع وَالْعين وَمن حكى الْخلاف لم يفهم غور قَوْلهم فطائفة تحكي عَن أَحْمد فِي تَكْفِير أهل الْبدع مُطلقًا رِوَايَتَيْنِ وَلَيْسَ هَذَا مذهبا لِأَحْمَد وَلَا لغيره من الْأَئِمَّة وَكَذَلِكَ تَكْفِير الشَّافِعِي لحفص الْفَرد حِين قَالَ الْقُرْآن مَخْلُوق فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِي كفرت أَي قَوْلك كفر وَلِهَذَا لم يسع فِي قَتله وَلَو كَانَ عِنْده كَافِر لسعي فِي قَتله وَأما قتل الداعية إِلَى الْبدع فقد يكون لكف ضررة عَن النَّاس كقطاع الطَّرِيق وَقتل غيلَان القدري قد يكون من هَذَا الْبَاب

فصل السَّجْدَة الْوَاحِدَة بعد الصَّلَاة وتقبيل الأَرْض مَكْرُوه نَص عَلَيْهِ أَبُو عبد الله بن حَامِد وَغَيره وَمن قَالَ إِن من سلم فِي الرّبَاعِيّة من رَكْعَتَيْنِ سَاهِيا اسْتوْجبَ غضب الله وَأَقل مَا يجب عَلَيْهِ أَن ينزل عَلَيْهِ نَار من السَّمَاء تحرقه يُسْتَتَاب من ذَلِك القَوْل فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل وَمن حكى أَن أَحْمد وَالشَّافِعِيّ سَأَلَا شَيبَان الرَّاعِي فَأجَاب بذلك وَقَالَ هَذَا عندنَا فَهُوَ كذب بِاتِّفَاق أهل الْعلم وشيبان لم يجْتَمع بِهِ أَحْمد وَلَا الشَّافِعِي قطّ بل مَاتَ قبلهمَا بِزَمَان وَإِن كَانَت هَذِه الْحِكَايَة ذكرهَا الْقشيرِي صَاحب الرسَالَة وَنَحْوه وشيبان أجل من أَن ينْسب إِلَيْهِ مثل هَذَا الْكفْر وَلَو قَالَ هَذَا أعظم من شَيبَان استتيب فقد اتّفق الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على اسْتِتَابَة قدامَة ابْن مَظْعُون وَهُوَ من أهل بدر من قَول قَالَه دون هَذَا لَكِن شَيبَان بَرِيء من هَذَا كَمَا أَن الشَّافِعِي وَأحمد بريئان مِنْهُ وَأما تَقْبِيل الأَرْض وَوضع الرَّأْس قُدَّام الشَّيْخ وَالْملك فَلَا يجوز بل الانحناء كالركوع لَا يجوز وَمن فعله قربَة وتدينا بَين لَهُ فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل وَأما إِذا أكره الرجل أَن يخْشَى أَخذ مَاله أَو ضربه أَو قطع رزقه من بَيت المَال فَإِنَّهُ يجوز عِنْد أَكثر الْعلمَاء فَإِن الْإِكْرَاه يُبِيح شرب الْخمر وَفعل الْمحرم عِنْد أَحْمد وَغَيره فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَلَكِن يفعل ذَلِك مَعَ كَونه يكره فعله ويحرص على الِامْتِنَاع بِحَسب الْإِمْكَان وَذهب طَائِفَة إِلَى أَنه لَا يُبَاح إِلَّا الْأَقْوَال فَقَط وَإِذا تَأَول أَن الخضوع لله كَانَ حسنا وَأما من يَفْعَله لقصد فضول الرياسة وَالْمَال فَلَا

فصل

فصل أما من سَافر لمُجَرّد زِيَادَة قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ فَهُوَ يجوز لَهُ قصر الصَّلَاة على قَوْلَيْنِ معروفين أَحدهمَا وَهُوَ قَول مُتَقَدِّمي الْعلمَاء الَّذين لَا يجوزون الْقصر فِي سفر الْمعْصِيَة كَأبي عبد الله بن بطة وَأبي الْوَفَاء ابْن عقيل وَطَوَائِف كثيرين من الْمُتَقَدِّمين أَنه لَا يجوز الْقصر فِي مثل هَذَا السّفر وَمذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ أَحْمد أَنه لَا يقصر فِي سفر منهى عَنهُ وَالْقَوْل الثَّانِي أَنه يقصر وَهَذَا بقوله من يجوز الْقصر فِي السّفر الْمحرم كَأبي حنيفَة ويقوله بعض الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَأحمد مِمَّن يجوز السّفر لزيارة قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ كَأبي حَامِد الْغَزالِيّ وَأبي الْحسن بن عَبدُوس الْحَرَّانِي وَأبي مُحَمَّد ابْن قدامَة الْمَقْدِسِي وَهَؤُلَاء يَقُولُونَ السّفر لَيْسَ بِمَعْصِيَة لعُمُوم قَوْله زوروا الْقُبُور وَاحْتج أَبُو مُحَمَّد ابْن قدامَة بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يزور قبَاء وَأجَاب عَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تشد الرّحال الحَدِيث بِأَنَّهُ مَحْمُول على نفي الِاسْتِحْبَاب وَأما الْأَولونَ فَإِنَّهُم يحتجون بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد الْمَسْجِد الْحَرَام والأقصى ومسجدي هَذَا فَلَو نذر أَن يَأْتِي الْمَسْجِد الْحَرَام لحج أَو عمْرَة لزمة بالِاتِّفَاقِ وَلَو نذر الصَّلَاة فِي مَسْجده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو الْأَقْصَى لزمَه عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَلَا يلْزمه عِنْد أبي حنيفَة قَالُوا لِأَن شدّ الرحل وَالسّفر لزيارة قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ بِدعَة لم يَفْعَلهَا أحد من الصَّحَابَة وَلَا التَّابِعين وَلَا اسْتحبَّ ذَلِك أحد من أَئِمَّة الْمُسلمين فَمن اعْتقد ذَلِك عبَادَة وفعلها فَهُوَ مُخَالف للسّنة ولإجماع الْمُسلمين

وَذكر ذَلِك أَبُو عبد الله أَحْمد بن حَنْبَل من الْبدع الْمُخَالفَة للسّنة وَالْإِجْمَاع وزيارة قبَاء لَيْسَ فِيهِ شدّ رَحل وَحمل حَدِيث لَا تشد الرّحال على نفي الِاسْتِحْبَاب فِيهِ تَسْلِيم أَن السّفر لَيْسَ بِعَمَل صَالح وَلَا قربَة وَلَا طَاعَة وَلَا من الْحَسَنَات فَمن اعْتقد كَونه قربَة فقد خَالف الْإِجْمَاع وَلَا يُسَافر أحد إِلَيْهَا إِلَّا لذَلِك وَأما لَو قدر أَن الرجل سَافر إِلَيْهَا لغَرَض مُبَاح فَهَذَا جَائِز لَيْسَ هَذَا من هَذَا الْبَاب وَالنَّفْي يَقْتَضِي النَّهْي وَالنَّهْي للتَّحْرِيم وَمَا ذكر من الْأَحَادِيث فِي زِيَارَة قُبُور الْأَنْبِيَاء فضعيفة بالِاتِّفَاقِ بل مَالك إِمَام الْمَدِينَة كره أَن يَقُول الرجل زرت قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد صَحَّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عبيدا وصلوا عَليّ حَيْثُمَا كُنْتُم وَقَالَ لعن الله الْيَهُود وَالنَّصَارَى اتَّخذُوا قُبُورهم أَنْبِيَائهمْ وصالحيهم مَسَاجِد يحذر مَا فعلوا قَالَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَلَوْلَا ذَلِك لأبرز قَبره وَلَكِن كره أَن يتَّخذ مَسْجِدا وَلما كَانَت حجرَة عَائِشَة الَّتِي دفن فِيهَا الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُنْفَصِلَة عَن الْمَسْجِد إِلَى زمن الْوَلِيد بن عبد الْملك لم يكن أحد من الصَّحَابَة يدْخل إِلَيْهَا لَا لصَلَاة وَلَا لدعاء وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِك فِي الْمَسْجِد وَكَانُوا إِذا سلمُوا عَلَيْهِ أَو أَرَادوا الدُّعَاء استقبلوا الْقبْلَة وَهَذَا كُله مُحَافظَة مِنْهُم على التَّوْحِيد فَإِن من أعظم أَسبَاب الشّرك بِاللَّه اتِّخَاذ الْقُبُور مَسَاجِد كَمَا ذكر فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا لَا تذرن آلِهَتكُم وَلَا تذرن ودا وَلَا سواعا} أَنهم كَانُوا قوما صالحين فِي قوم نوح فَلَمَّا مَاتُوا عكفوا على قُبُورهم ثمَّ صوروا على صورهم تماثيل ثمَّ طَال عَلَيْهِم الأمد فعبدوها ذكره البُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَغَيره وَقد ثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّحِيح أَلا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُور مَسَاجِد فَإِنِّي أنهاكم عَن ذَلِك وَالله أعلم

فصل

فصل فعل كل صَلَاة فِي وَقتهَا أفضل من الْجمع إِذا لم يكن بِهِ حَاجَة وَلَيْسَ هُوَ كالقصر فَإِنَّهُ رخصَة عارضة وَالْقصر سنة وَنفي الْجنَاح لَا يمْنَع أَن يكون الْقصر هُوَ السّنة كَمَا فِي قَوْله {فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما} وَذكر الْخَوْف وَالسّفر لِأَن الْقصر يتَنَاوَل قصر الْعدَد وَقصر الْأَركان فالخوف يُبِيح قصر الْأَركان وَالسّفر يُبِيح قصر الْعدَد فَإِن اجْتمعَا أُبِيح الْقصر بِالْوَجْهَيْنِ وَإِذا انْفَرد السّفر أُبِيح أحد نَوْعي الْقصر وَالأَصَح أَنه لَا يحْتَاج إِلَى نِيَّة الْقصر وَالْجمع أَيْضا مَسْأَلَة وتنازع الْعلمَاء فِي التربيع فِي السّفر هَل هُوَ حرَام كمذهب أبي حنيفَة أَن مَكْرُوه كإحدى روايتي مَالك وَأحمد أَو ترك الأولى كَأحد قَول الشَّافِعِي وَرِوَايَة لِأَحْمَد أَو التربيع أفضل وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَهُوَ أَضْعَف الْأَرْبَعَة الْأَقْوَال وَذهب بعض الْخَوَارِج إِلَى أَنه لَا يجوز الْقصر إِلَّا مَعَ الْخَوْف ويذكرونه قولا للشَّافِعِيّ وَمَا أَظُنهُ يَصح عَنهُ وَالصَّوَاب أَن الْجمع لَا يخْتَص بِالسَّفرِ الطَّوِيل وَمن نوى الْإِقَامَة أَرْبَعَة أَيَّام فَمَا دونهَا قصر ومسافة الْقصر عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَمَالك يَوْمَانِ سِتَّة عشر فرسخا كل فَرسَخ ثَلَاثَة أَمْيَال الْميل أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع وَقَالَ أَبُو حنيفَة ثَلَاثَة أَيَّام وَذهب طَائِفَة من السّلف وَالْخلف إِلَى أننه يقصر فِيمَا دون يَوْمَيْنِ وَهُوَ قوي جدا يُؤَيّدهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمين بِعَرَفَة ومزدلفة وَمنى قصرا وَفِيهِمْ أهل مَكَّة وَلم يَأْمُرهُم بالاتمام وَلما صلى بِمَكَّة قَالَ لَهُم أَتموا صَلَاتكُمْ فَإنَّا قوم سفر وَقَوله من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله بعد الله وَجهه عَن النَّار سبعين خَرِيفًا

فصل

قيل هُوَ السّفر فِي الْجِهَاد قبل لِقَاء الْعَدو وَقيل عِنْد لِقَائِه وَقد يدْخل فِي هَذَا السّفر الْحَج لِأَنَّهُ من سَبِيل الله وَقيل سَبِيل الله طَرِيقه وَالْمرَاد إخلاص نِيَّته وَإِن كَانَ فِي الْمقَام وَثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي فِي السّفر رَكْعَتي الْفجْر وَالْوتر وَقيام اللَّيْل دون الرَّاتِبَة فصل الْجمع لغير عذر لَا يفعل وَيجوز للْمَرِيض عِنْد أَحْمد وَمَالك وَبَعض الشَّافِعِيَّة وأوسع الْمذَاهب مَذْهَب أَحْمد جوزه للشغل كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ مَرْفُوعا قَالَ القَاضِي وَغَيره من الْأَصْحَاب المُرَاد بِهِ الشّغل الَّذِي يُبِيح لَهُ ترك الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وَجوزهُ للمستحاضة فالمرأة إِذا غلب على ظَنّهَا أَنَّهَا لَا تخرج من الْحمام حَتَّى يفوت الْعَصْر أَو تصفر اشمس لمي جز لَهَا تَفْوِيت الْعَصْر بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة بل إِمَّا أَن تصلي فِي الْبَيْت جمعا وَإِمَّا أَن تخرج من الْحمام وَتصلي وَإِمَّا أَن تصلي فِي الْحمام وَجَمعهَا فِي الْبَيْت خير من صلَاتهَا فِي الْحمام وَلَا يجب تَقْلِيد وَاحِد بِعَيْنِه غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكِن من كَانَ مُعْتَقدًا قولا فِي مَسْأَلَة بِاجْتِهَاد أَو تَقْلِيد فانفصاله عَنهُ لَا بُد لَهُ من سَبَب شَرْعِي يرجح عِنْده قَول غير إِمَامَة فَإِذا ترجح عِنْد الشَّافِعِي مثلا قَول مَالك قَلّدهُ وَكَذَلِكَ غَيره وَأما انْتِقَال الْإِنْسَان من قَول إِلَى قَول بِلَا سَبَب شَرْعِي يَأْمر الشَّرْع بِهِ فَفِي تسويقه نزاع

فصل

فصل وَمن تعمد الصَّلَاة فِي الدكاكين مَعَ إِمْكَانه الدُّخُول إِلَى الْجَامِع فَهَؤُلَاءِ مخطئون مخالفون للسّنة وَإِذا لم تتصل الصُّفُوف بل كَانَ بَين الصُّفُوف طَرِيق فَفِي صِحَة الصَّلَاة قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وجهر الْمُؤَذّن بِالصَّلَاةِ والترضى عِنْد رقي الْخَطِيب الْمِنْبَر وجهره بِالدُّعَاءِ للخطيب وَالْإِمَام بِدعَة وَأَشد مِنْهُ الْجَهْر بِنَحْوِ ذَلِك فِي الْخطْبَة فَكل ذَلِك بِدعَة لم يَفْعَلهَا أحد من السّلف وَلم يستحبها وَقد أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتسوية الصُّفُوف ورصها وسد الْفرج وتكميل الأول فَالْأول وَأَن يتوسط الإِمَام وتقاربها يَعْنِي الصُّفُوف خمس سنَن وَمن أدْرك رَكْعَة من الْجُمُعَة ثمَّ قَامَ يقْضِي الْأُخْرَى فَإِنَّهُ يُخَافت فَإِن الْجُمُعَة لَا يُصليهَا أحد مُنْفَردا والمسبوق إِنَّمَا يجْهر فِيمَا يجْهر فِيهِ الْمُنْفَرد وَلَا مُنْفَرد هُنَا وَلَيْسَ لأحد أَن يتَّخذ مَقْصُورَة أَو نَحْوهَا فِي الْمَسْجِد يخْتَص بهَا وَيمْنَع غَيره فَهَذَا غير جَائِز بِلَا نزاع وَالسّنة فِي الْمَسْجِد أَن من سبق إِلَى بقْعَة لعمل جَائِز فَهُوَ أَحَق بِهِ حَتَّى يقوم مِنْهُ لَكِن المصلون أَحَق بِالسَّوَارِي وَيجوز نصب خيمة وسترة لمن يعْتَكف وَكَذَلِكَ لَو أَقَامَ الرجل مُدَّة إِقَامَة مَشْرُوعَة كَمَا أذن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لوفد ثَقِيف أَن ينزلُوا بِالْمَسْجِدِ ليَكُون أرق لقُلُوبِهِمْ وَأقرب إِلَى دُخُول الْإِيمَان فِيهَا وكما مرض سَعْدا فِيهِ لكَونه أسهل لعبادته وكالمرأة الَّتِي كَانَت تقم الْمَسْجِد كَانَ لَهَا خص فِيهِ

فَأَما أَن يتَّخذ مسكنا دَائِما أَو مبيتا أَو معقيلا وَيخْتَص بالحجرة دَائِما فَهَذَا يخرج الْبقْعَة عَن حكم الْمَسْجِد وَقد تنَازع الْعلمَاء فِي صِحَة الصَّلَاة فِي مثل هَذِه المقاصير والأماكن المتحجرة على قَوْلَيْنِ وفاعل ذَلِك منهى عَنهُ هَذَا إِذا كَانَ يَفْعَله لِلْعِبَادَةِ أما من يَفْعَله للمحظورات من الْأَقْوَال الْمُحرمَة وَالْأَفْعَال الْمُحرمَة كمقدمات الْفَوَاحِش فَلَا ريب فِي النَّهْي عَن ذَلِك بل قد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن توطين الْمَكَان فِي الْمَسْجِد كَمَا يوطن الْبَعِير فَنهى أَن يتَّخذ الرجل مَكَانا لَا يُصَلِّي إِلَّا فِيهِ ويصان الْمَسْجِد عَمَّا يُؤْذِي الْمُصَلِّين مثل رفع الصّبيان أَصْوَاتهم وتوسيخ حصيره لَا سِيمَا وَقت الصَّلَاة فَإِن ذَلِك من أعظم الْمُنْكَرَات ويبيت فِيهِ بِقدر الْحَاجة ثمَّ ينْتَقل عَنهُ وَيجوز إِقَامَة جمعتين فِي بلد وَاحِد لأجل الشحناء بِأَن حَضَرُوا كلهم وَوَقعت بَينهم الْفِتْنَة وَيجوز ذَلِك للضَّرُورَة إِلَى أَن تَزُول الْفِتْنَة وَتسقط الْجُمُعَة عَمَّن يخَاف بِحُضُورِهِ فتْنَة إِذا لم يكن ظَالِما وَالْوَاجِب عَلَيْهِم الِاعْتِصَام بِحَبل الله والاجتماع على مَا يُرْضِي الله وَعدم التَّفَرُّق وَالسُّؤَال محرم فِي الْمَسْجِد وخارج الْمَسْجِد إِلَّا للضَّرُورَة فَإِن كَانَ بِهِ ضَرُورَة وَلم يتخط النَّاس وَلَا كذب فِيمَا يرويهِ وَيذكر من حَاله وَلم يجْهر جَهرا يضر بِالنَّاسِ مثل من يسْأَل والخطيب يخْطب أَو وهم يستعمون علما بِهِ وَنَحْو ذَلِك جَازَ فِي أظهر قولي الْعلمَاء كَمَا جَاءَ أَن سَائِلًا سَأَلَ فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإعطائه وَكَانَ فِي الْمَسْجِد

فصل

فصل وَمن سلم على الْمُصَلِّين وَكَانَ فيهم من يحسن الرَّد بِالْإِشَارَةِ فَلَا بَأْس كَمَا كَانَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسلمُونَ وَهُوَ يرد عَلَيْهِم بِالْإِشَارَةِ وَإِن لم يكن فيهم من يحسن الرَّد بِالْإِشَارَةِ بل قد يتَكَلَّم أحدهم فَلَا يَنْبَغِي إِدْخَاله فِيمَا يقطع صلَاته أَو يتْرك بِهِ الرَّد الْوَاجِب وَلَا تكون الصَّدَقَة إِلَّا لوجه الله فَمن سَأَلَ بِغَيْر الله من صَحَابِيّ أَو شيخ أَو غَيره فينهى عَن ذَلِك فانه حرَام قطعا بل شرك وَتجوز الْجُمُعَة فِي القلعة لِأَنَّهَا مَدِينَة أُخْرَى أَو قَرْيَة أَو شبه إِقَامَة جمعتين للْحَاجة وَلَيْسَ قبل الْجُمُعَة سنة راتبة وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّهَا ظهر مَقْصُورَة فقبلها مَا قبل الظّهْر وَهُوَ غير سديد لِأَن الظّهْر الْمَقْصُورَة لَا سنة لَهَا وَيتَوَجَّهُ أَن يُقَال لما سنّ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ الْأَذَان الأول انفق الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ فَصَارَ أذانا شَرْعِيًّا وَحِينَئِذٍ فَتكون الصَّلَاة بَينه وَبَين الثَّانِي جَائِزَة حَسَنَة وَلَيْسَت سنة راتبة كَالصَّلَاةِ قبل الْمغرب فَمن فعل لم يُنكر عَلَيْهِ وَمن ترك لم يُنكر عَلَيْهِ وَهَذَا أعدل الْأَقْوَال وَإِن كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل قبلهَا شَيْئا فقد قَالَ بَين كل أذانين صَلَاة لمن شَاءَ وَقد يكون تَركهَا أفضل إِذا كَانَ الْجُهَّال يظنون أَنَّهَا سنة راتبة أَو وَاجِبَة فَتتْرك حَتَّى يعرف النَّاس أَنَّهَا لَيست براتبة لَا سِيمَا إِذا داوم عَلَيْهَا النَّاس فَيَنْبَغِي تَركهَا أَحْيَانًا كَمَا اسْتحبَّ أَكثر الْعلمَاء أَن لَا يداوم على قِرَاءَة السَّجْدَة يَوْم الْجُمُعَة وَإِن فعله لأجل تأليف الْقُلُوب وَترك الْخِصَام فَحسن فالفعل الْوَاحِد يسْتَحبّ فعله تَارَة وَيتْرك أُخْرَى بِحَسب الْمصَالح وَكَذَلِكَ لَو جهر بالبسملة من يرى المخافتة بهَا لأجل تأليف قُلُوب الْمَأْمُومين خَلفه أَو خَافت بهَا من يرى الْجَهْر فَحسن كَمَا كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يجْهر

بالاستفتاح لأجل تَعْلِيم السّنة وَقد جهر غير وَاحِد من الصَّحَابَة بالاستعاذة والبسملة ليعلم الْمَأْمُون أَن قرَاءَتهَا فِي الصَّلَاة سنة كَمَا قَرَأَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا على جَنَازَة بِأم الْكتاب جَهرا وَالنَّاس قد تنازعوا فِي الْقِرَاءَة على الْجِنَازَة فَقيل لَا قِرَاءَة فِي الْجِنَازَة وَقيل وَاجِبَة وَقيل سنة وَهُوَ أعدل الثَّلَاثَة وَالسَّلَف فعلوا هَذَا وَهَذَا كَانُوا يصلونَ على الْجِنَازَة بِالْقِرَاءَةِ وَغَيرهَا كَمَا يصلونَ بالجهر بالبسملة وَبِغير جهر بهَا وَتارَة بالاستفتاح وَتارَة بِغَيْرِهِ وَكَانُوا يرفعون الْيَدَيْنِ فِي المواطن الثَّلَاثَة تَارَة وَتارَة بِغَيْر رفع وَتارَة بتسليمتين وَتارَة بِتَسْلِيمَة وَاحِدَة ويقرءون خلف الإِمَام فِي السِّرّ تَارَة وَتارَة لَا يقرءُون وَيُكَبِّرُونَ على الْجِنَازَة أَرْبعا تَارَة وَتارَة خمْسا وَتارَة سبعا كل ذَلِك ثَابت عَنْهُم وَتارَة يرجعُونَ فِي الْأَذَان بِغَيْر تَرْجِيع وَتارَة يوترون الْإِقَامَة وَتارَة يشفعونها فَهَذِهِ الْأُمُور وَإِن كَانَ بَعْضهَا أرجح من الآخر فَمن فعل الْمَرْجُوح فقد فعل جَائِزا وَقد يكون الْمَرْجُوح أرجح للْمصْلحَة الراجحة كَمَا قد يكون ترك الرَّاجِح أرجح وَهَذَا وَاقع فِي عَامَّة الْأَعْمَال حَتَّى فِي حَال الشَّخْص الْوَاحِد قد يكون الْمَفْضُول لَهُ أفضل بِحَسب حَاله لكَونه عَاجِزا عَن الْأَفْضَل أَو لكَون محبَّة أَو رغبته واهتمامه وانتفاعه بالمفضول أَكثر فَيكون لَهَا حَقه أفضل لما بِهِ مزِيد علمه وحبه وانتفاعه كَالْمَرِيضِ ينْتَفع بالدواء الَّذِي يشتهيه مَالا ينْتَفع بمالا يشتيه وَإِن كَانَ جنس ذَلِك أفضل وَمن هَذَا الْبَاب صَار الذّكر لبَعض النَّاس فِي بعض الْأَوْقَات أفضل من الْقِرَاءَة وَالْقِرَاءَة لبَعْضهِم فِي بعض الْأَوْقَات خير من الصَّلَاة وأمثال ذَلِك لكَمَال انتفاعه لَا لِأَن جنسه أفضل وَلِأَن تَفْضِيل بعض الْأَعْمَال على بعض إِن لم يعرف التَّفْضِيل فَإِنَّهُ يتنوع بتنوع الْأَحْوَال فِي كثير من الْأَعْمَال وَإِلَّا وَقع فِيهِ اضْطِرَاب كثير قَالَ من النَّاس من إِذا اعْتقد اسْتِحْبَاب فعل ورجحانه

فصل

يحافظ عَلَيْهِ مَالا يحافظ على الْوَاجِبَات حَتَّى يخرج بِهِ الْأَمر إِلَى الْهوى والتعصيب وَالْحمية الْجَاهِلِيَّة كَمَا تَجدهُ فِيمَن يخْتَار بعض هَذِه الْأُمُور فيراها شعارا لمذهبه وَالْوَاجِب أَن يعْطى كل ذِي حق حَقه وبوسع مَا وَسعه الله وَرَسُوله ويؤلف مَا أَلفه الله وَرَسُوله ويداعي مَا أحب الله وَرَسُوله وَيعلم أَن خير الْكَلَام كَلَام الله وَخير الْهدى هدي مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن الله بَعثه رَحْمَة للْعَالمين لسعادة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فصل وَأما السّنة بعد الْجُمُعَة فقد ثَبت أَنه صلي الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي بعْدهَا رَكْعَتَيْنِ وَثَبت بعد الظّهْر رَكْعَتَيْنِ وَقبلهَا أَرْبعا وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْعشَاء وَرَكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر فَهَذِهِ الرَّاتِبَة الَّتِي ثبتَتْ وَكَانَ يقوم بِاللَّيْلِ إِمَّا إِحْدَى عشرَة وَإِمَّا ثَلَاث عشرَة فَكَانَ مَجْمُوع صلَاته بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار قَرِيبا من أَرْبَعِينَ رَكْعَة فرضا ونفلا وَالنَّاس مِنْهُم من لَا يُوَقت فِي الرَّوَاتِب كَمَا لَك فَإِنَّهُ لَا يرى سوى الْوتر وركعتي الْفجْر وَمِنْهُم من يقدر أَشْيَاء ضَعِيفَة بل بَاطِلَة كمن يروي قبل الْعَصْر أَرْبعا وَقبل الظّهْر سِتا وَبعدهَا أَرْبعا أَو أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحافظ على الضُّحَى وأمثال ذَلِك من الْأَحَادِيث المكذوبة وَأَشد من ذَلِك مَا يذكرهُ من يصنف فِي الرَّقَائِق من الصَّلَاة الأسبوعية والحولية الْمَذْكُورَة فِي كتاب الْقُوت لأبي طَالب الْمَكِّيّ وَأبي حَامِد الْغَزالِيّ وَعبد الْقَادِر وَغَيرهم وكصلاة الألفية الَّتِي فِي أول رَجَب وَنصف شعْبَان والاثنى عشرِيَّة فِي أول جُمُعَة من رَجَب وَفِي لَيْلَة سبع وَعشْرين فِي رَجَب وصلوات أخر تذكر فِي الْأَشْهر

باب صلاة العيدين

الثَّلَاثَة وَصَلَاة لَيْلَتي الْعِيدَيْنِ وَيَوْم عاشورا وأمثال ذَلِك مَعَ اتِّفَاق أهل الْمعرفَة على كذب ذَلِك لَكِن بلغت أَقْوَامًا من أهل الدّين فظنوها صَحِيحَة فعملوا بهَا وهم مأجورون على حسن قصدهم وهم مخطئون فِي ذَلِك وَأما من ثبتَتْ لَهُ السّنة فَظن أَن غَيرهَا أفضل مِنْهَا فَهُوَ ضال بل كَافِر وَصَحَّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من كَانَ مُصَليا بعد الْجُمُعَة فَليصل أَرْبعا وروى السِّت رَكْعَات عَن طَائِفَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالسّنة أَن يفضل بَين الْفَرْض وَالنَّفْل فِي الْجُمُعَة وَغَيرهَا بِقِيَام أَو كَلَام وَلم يصل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل الْجُمُعَة بعد الْأَذَان شَيْئا وَلَا نقل هَذَا عَنهُ أحدا وَلَا نقل أَنه صلى فِي بَيته قبل الْخُرُوج مِنْهُ إِلَى الْجُمُعَة وَلَا وَقت بقوله صَلَاة مقدرَة قبل الْجُمُعَة بل رغب فِي الصَّلَاة إِذا قدم الرجل الْمَسْجِد يَوْم الْجُمُعَة فَمن أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم من كَانَ يُصَلِّي عشرَة وَمِنْهُم من كَانَ يُصَلِّي اثنتى عشرَة وَمِنْهُم من كَانَ يُصَلِّي ثَمَانِيَة وَأَقل وَأكْثر على قدر التَّيْسِير بَاب صَلَاة الْعِيدَيْنِ التَّكْبِير فِي الْفطر أوكد لكَونه أَمر الله بِهِ بقوله {ولتكملوا الْعدة ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} وَفِي النَّحْر أوكد من جِهَة أَنه يشرع أدبار الصَّلَوَات ومتفق عَلَيْهِ ويجتمع فِيهِ الزَّمَان وَالْمَكَان وَعِيد النَّحْر أفضل وَمن تعمد ترك صَلَاة الْعِيد وَصلى فِي بَيته أَو فِي مَسْجده بِلَا عذر فَهُوَ مُبْتَدع

وَمن رأى هِلَال ذِي الْحجَّة وَلم يثبت بقوله يَصُوم التَّاسِع فِي الظَّاهِر عِنْد من يَقُول لَا يفْطر بِرُؤْيَة هِلَال شَوَّال وَحده وَمن شرع لَهُ الْفطر يَوْم الثَّلَاثِينَ سرا لَا يشرع لَهُ صَوْم هَذَا لِأَنَّهُ عِنْده يَوْم الْعِيد وَلَيْسَ لَهُ الْوُقُوف بِعَرَفَة وَلَا التَّضْحِيَة قبل النَّاس فِي منى وَلَا فِي الْأَمْصَار بل يعرف مَعَ النَّاس فِي الْيَوْم الَّذِي هُوَ فِي الظَّاهِر التَّاسِع وَإِن كَانَ بِحَسب رُؤْيَته الْعَاشِر فالهلال إِذا لم يطلع النَّاس ويستهلوه لم يكن هلالا وَكَذَا الشَّهْر مَأْخُوذ من الشُّهْرَة وانما يغلط كثير من النَّاس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لظنهم أَنه إِذا طلع فِي السَّمَاء كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَة أَو الشَّهْر سَوَاء ظهر للنَّاس واستهلوا بِهِ أَولا وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بل لَا بُد من ظُهُوره واستهلالهم بِهِ وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صومكم يَوْم تصومون وفطركم يَوْم تفطرون وأضحاكم يَوْم تضحون أَي هِيَ الْيَوْم الَّذِي تعلمُونَ أَنه وَقت الصَّوْم وَالْفطر والأضحى فَيَنْبَغِي أَن يَصُوم التَّاسِع ظَاهرا وَإِن كَانَ بِحِسَاب رُؤْيَته عَاشر فصوم الْيَوْم الَّذِي يشك فِيهِ هَل هُوَ تَاسِع ذِي الْحجَّة أَو عاشره جَازَ بِلَا نزاع بَين الْعلمَاء لِأَن الأَصْل عدم الْعَاشِر كَمَا لَو شكوا لَيْلَة الثَّلَاثِينَ من رَمَضَان لم يكن شكا بالِاتِّفَاقِ بِخِلَاف لَيْلَة الثَّلَاثِينَ من شعْبَان لِأَن لاأصل بَقَاء شعْبَان وَكَذَا الْمُنْفَرد بِرُؤْيَة شَوَّال لَا يفْطر عَلَانيَة بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَهَذَا يفْطر سرا على قَوْلَيْنِ أصَحهمَا لَا يفْطر وَلَا يجوز الِاعْتِمَاد على الْحساب بالنجوم بِاتِّفَاق الصَّحَابَة وَالسّنة كَمَا قد بَينته فِي موَاضعه وَإِن عُلَمَاء الْهَيْئَة يعلمُونَ أَن الرُّؤْيَة لَا تنضبط بِأَمْر حسابي يثبت حد الْيَوْم وَأَنه لَا يَنْضَبِط بِالْحِسَابِ لِأَن النَّهَار يظْهر سَبَب الأبخرة فَمَتَى أدّى إِلَى أَن يَأْخُذ حِصَّة الْعشَاء من حِصَّة الْفجْر إِنَّمَا يَصح لَو كَانَ الْمُوجب لظُهُور النُّور وخفائه

باب صلاة التطوع

مُجَرّد محاذاة الْأُفق الَّتِي لَا تعلم بِالْحِسَابِ فَأَما إِذا كَانَ للأبخرة تَأْثِير فالبحار يكون فِي الشِّفَاء وَفِي الاماكن الرّطبَة أَكثر فَلَا يَنْضَبِط بِالْحِسَابِ وَلِهَذَا تُوجد حِصَّة الْفجْر فِي زمن الشتَاء أطول مِنْهَا فِي زمن الصَّيف وَالْقِيَاس الحسابي يشكل عَلَيْهِ ذَلِك لِأَن حِصَّة الْفجْر عِنْده تتبع النَّهَار وَهَذَا مَبْسُوط فِي مَوْضِعه وَالله أعلم بَاب صَلَاة التَّطَوُّع قراءة سُورَة الْأَنْعَام فِي رَكْعَة وَاحِدَة فِي رَمَضَان أَو غَيره بِدعَة سَوَاء تحروا اللَّيْلَة بِعَينهَا أَولا كَمَا يَفْعَله بعض النَّاس يقرؤنها فِي آخر رَكْعَة من صَلَاة الْوتر يطول على النَّاس ويهذها هَذَا مَكْرُوها وَإِذا صلى لَيْلَة النّصْف وَحده أَو بِجَمَاعَة خَاصَّة فَهُوَ حسن أما الِاجْتِمَاع على صَلَاة فِي الْمَسَاجِد مقدرَة بِمِائَة رَكْعَة بِقِرَاءَة ألف {قل هُوَ الله أحد} دَائِما فَهِيَ بِدعَة لم يستحبها أحد وَيكرهُ للنَّاس أَن يداوموا فِي الْجَمَاعَة على غير مَا شرعت لَهُ المداومة عَلَيْهَا لَكِن إِذا لم يتَّخذ راتبة وَكَذَا إِذا كَانَ لمصْلحَة مثل أَن لَا يحسن أَن يُصَلِّي وَحده أَو لَا ينشط وَحده فالجماعة أفضل إِذا لم تتَّخذ راتبة وفعلها فِي الْبَيْت أفضل إِلَّا لمصْلحَة راجحة وَصَلَاة الْقدر الَّتِي تصلي بعد التَّرَاوِيح رَكْعَتَيْنِ فِي آخر اللَّيْل يصلونَ تَمام مائَة رَكْعَة بِدعَة مَكْرُوهَة والاجتماع الْمُعْتَاد فِي الْمَسَاجِد على صَلَاة مقدرَة بِدعَة والتراويح سنة بعد الْعشَاء والرافضة تكره التَّرَاوِيح وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين كل أذانين صَلَاة المُرَاد بِهِ بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة فَهِيَ مُسْتَحبَّة بَين كل أَذَان وَإِقَامَة لَيست راتبة وَثَبت فِي صَحِيح مُسلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي بعد الْوتر رَكْعَتَيْنِ

وَهُوَ جَالس لَكِن جَاءَ مُفَسرًا فِي الحَدِيث الطَّوِيل فِي مُسلم أَن كَانَ يُوتر باحدى عشرَة وَأَنه بعد أوتر بتسع وَصلى بعد ذَلِك رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالس فَتلك إِحْدَى عشرَة رَكْعَة وَكَذَلِكَ لما أوتر بتسع فَهَذَا يبين أَنه لم يكن يداوم عَلَيْهَا وويل للْعَالم إِذا سكت عَن تَعْلِيم الْجَاهِل وويل للجاهل إِذا لم يقبل وَلَيْسَ للْمُسلمِ أَن يستفتى إِلَّا من يعلم أَنه من أهل الْعلم وَالدّين وَأَن لَا يقْتَدى إِلَّا بِمن يصلح الِاقْتِدَاء بِهِ مَسْأَلَة وَإِذا كَانَ الرّجلَانِ من أهل الدّيانَة فَأَيّهمَا كَانَ أعلم بِالْكتاب وَالسّنة وَجب تَقْدِيمه على الْآخِرَة وَكَانَ ائتمامه بِهِ مُتَعَيّنا وَلَيْسَ للامام تَأْخِير الصَّلَاة عَن الْوَقْت الْمُسْتَحبّ وَبعد حُضُور أَكثر الْجَمَاعَة منتظرا لأحد بل ينْهَى عَن ذَلِك إِذا شقّ وَيجب عَلَيْهِ رِعَايَة الْمَأْمُومين قَالَ سلمَان رَضِي الله عَنهُ رَأَيْت ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا جَالِسا على البلاط وَالنَّاس يصلونَ فَقلت مَا بك لَا تصلي فَقَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَا تُعَاد صَلَاة مرَّتَيْنِ وَقد قَالَ للرجلين إِذا صليتما فِي رحالكما ثمَّ أتيتما مَسْجِد جمَاعَة فَصَليَا مَعَ الْجَمَاعَة الْجمع بَينهمَا أَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا لم يكن لَهُ سَبَب يُعِيد بِهِ صلَاته بِخِلَاف الرجلَيْن فَإِنَّهُمَا صليا فِي رحالهما ثمَّ أَتَيَا مَسْجِد جمَاعَة فَكَانَ سَبَب الْإِعَادَة حُضُور الْجَمَاعَة الزَّانِيَة بِخِلَاف الْإِعَادَة بِلَا سَبَب فَإِنَّهَا مَكْرُوهَة وَمن السَّبَب الحَدِيث الَّذِي فِي سنَن أبي دَاوُد وَهُوَ قَوْله أَلا رجل يتَصَدَّق على هَذَا فالمتصدق أعَاد لتحصل لذَلِك الْمصلى فَضِيلَة الْجَمَاعَة وَمن السَّبَب مَا جَاءَ عَنهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على صَلَاة الْخَوْف مرَّتَيْنِ

وَحَدِيث معَاذ كَانَ يُصَلِّي مَعَه الْعشَاء ثمَّ يُصَلِّي لِقَوْمِهِ فِي بني عَمْرو ابْن عَوْف مَسْأَلَة وَيُشبه هَذَا إِعَادَة صَلَاة الْجِنَازَة لمن صلى عَلَيْهَا أَولا فَلَا يشرع بِغَيْر سَبَب بِاتِّفَاق الْعلمَاء بل لَو صلى عَلَيْهَا مرّة ثمَّ حضر من لم يصل عَلَيْهَا هَل يُصَلِّي عَلَيْهَا على قَوْلَيْنِ قيل يُصَلِّي وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد وَعند مَالك وَأبي حنيفَة ينْهَى عَن ذَلِك كَمَا ينهيان عَن إِقَامَة الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد مرّة بعد مرّة قَالُوا لِأَن الْفَرْض سقط بِالْأولَى وَصَلَاة الْجِنَازَة لَا يتَطَوَّع بهَا وَأَصْحَاب الشَّافِعِي وَأحمد يجيبون بجوابين أَحدهمَا أَن الثَّانِيَة تقع فرضا عَمَّن فعلهَا وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي سَائِر فروض الكفايات أَن من فعهلا أسقط بهَا فرض نَفسه وَإِن كَانَ غَيره قد فعلهَا فَهُوَ مُخَيّر بَين أَن يَكْتَفِي بِإِسْقَاط ذَلِك عَنهُ وَبَين أَن يسْقط الْفَرْض بِنَفسِهِ وَإِذا قيل هِيَ نَافِلَة فيمنعون قَول الْقَائِل لَا يتَطَوَّع بِصَلَاة الْجِنَازَة بل قد يتَطَوَّع بهَا إِذا كَانَ هُنَاكَ سَبَب يَقْتَضِي ذَلِك وينبنى على هذَيْن المأخذين أَنه إِذا أعَاد الْجِنَازَة من لم يصل عَلَيْهَا أَولا فَهَل لمن صلى عَلَيْهَا أَن يُصَلِّي مَعَه تبعا على وَجْهَيْن قيل لَا يجوز هُنَا لِأَن فعله هُنَا نفل بِلَا نزاع وَهِي لَا ينتفل بهَا وَقيل بل لَهُ الْإِعَادَة فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما صلى على الْقَبْر صلى خَلفه من كَانَ قد صلى أَولا وَهَذَا أقرب لِأَنَّهُ أعَاد تبعا لَيست قَضَاء وَلَا إِعَادَة مَقْصُودَة وَهَذَا سَائِغ فِي الْمَكْتُوبَة والجنازة وَقِرَاءَة الْقُرْآن لله تَعَالَى فِيهَا الثَّوَاب الْعَظِيم وَلَو قصد بذلك أَن يستذكر لِئَلَّا

فصل

يسناه فَفِيهِ الثَّوَاب أَيْضا فَإِن نسيانه من الذُّنُوب فَإِذا قصد أَدَاء الْوَاجِب من دوَام الْحِفْظ وَأَدَاء الْأَمر وَاجْتنَاب النَّهْي فقد قصد طَاعَة فَكيف لَا يُؤجر وَقَول الْقَائِل اللَّهُمَّ أمنا مكرك وَلَا تؤمنا مكرك لَهُ مَعْنيانِ أَحدهمَا صَحِيح وَالْآخر فَاسد فَإِن أَرَادَ لَا تؤمنا مكرك أَي لَا تجعلنا نَأْمَنهُ بل اجْعَلْنَا نخافه فالمؤمن يخَاف مكر الله ومكر الله أَن يُعَاقِبهُ على سيئاته وَالْكَافِر لَا يخْشَى الله فَلَا يخَاف مكره ومكره أَن يُعَاقِبهُ على الذَّنب لَكِن من حَيْثُ لَا يشْعر وَقَوله أمنا مكرك يُرِيد قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن} يَجْعَل لَهُ أَن يمكر بهم وَإِن كَانُوا خافون الْمَكْر فَيكون حَقِيقَة قَوْله أمنا مكرك أنجزني على حسناتي وَلَا تعاقبني بذنوب غَيْرِي فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضما فَأَما الْمَعْنى الْفَاسِد فَأن يُرِيد اللَّهُمَّ أمنا من مكرك أَي لَا نخافك أَن تَمْكُر بِنَا وَقد يُرِيد لَا تؤمنا مكرك أَي لَا تجْعَل لنا أمنا من الْعَذَاب فصل قَول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَا قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة إِلَى الصَّباح وَمَا صَامَ شهرا كَامِلا إِلَّا رَمَضَان وَصَحَّ عَنْهَا رَضِي الله عَنْهَا أَنه كَانَ يَصُوم شعْبَان إِلَّا قَلِيلا بل كَانَ يَصُومهُ كُله وَأَنه كَانَ إِذا دخل الْعشْر شدّ المئرز وَأَحْيَا اللَّيْل كُله فَجعل بَعضهم رِوَايَة الشَّك على رِوَايَة الحزم وَكَذَلِكَ من صلى غَالب اللَّيْل فقد يُقَال إِنَّه أَحْيَاهُ أَو أَنَّهَا نفت الْقيام وأثبتت الْإِحْيَاء الَّذِي يكون بِقِيَام وإحياء وَقِرَاءَة وَذكر وَدُعَاء وَغير ذَلِك والأوتار هَل هِيَ بِاعْتِبَار مَا مضى أَو بِاعْتِبَار مَا بَقِي فليله إِحْدَى وَعشْرين

وَثَلَاثَة وَخَمْسَة وَسَبْعَة وَتِسْعَة بِاعْتِبَار مَا مضى وَبِاعْتِبَار مَا بَقِي لتسْع بَقينَ وَسبع يَقِين وَنَحْو ذَلِك فَإِذا كَانَ الشَّهْر نَاقِصا فَقيل لتسْع كَانَت لَيْلَة إِحْدَى وَعشْرين فَيكون وتر الْمُسْتَقْبل والماضي وَإِن كَانَ الشَّهْر كَامِلا كَانَت الأوتار هِيَ الأشفاع بِاعْتِبَار الْمَاضِي كَمَا فسره أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ وَغَيره وَلِهَذَا كَانَت لَيْلَة الْقدر كثيرا مَا تكون لسبع مضين ولسبع يَقِين فَتكون لَيْلَة أَربع وَعشْرين وَهِي الَّتِي روى أَن الْقُرْآن نزل فِيهَا فالتحقيق أَنَّهَا تكون فِي الْعشْر الْأَوَاخِر فِي الأوثار لَكِن بالاعتبارين فَأَما لَيْلَة سبع عشرَة من رَمَضَان فَلَا ريب أَنَّهَا لَيْلَة سبع عشرَة من رَمَضَان فَلَا ريب أَنَّهَا لَيْلَة بدر يَوْمهَا هُوَ يَوْم الْفرْقَان يَوْم التقي الْجَمْعَانِ وَلم يَجِيء حَدِيث يعْتَمد عَلَيْهِ أَنَّهَا لَيْلَة الْقدر وَإِن كَانَ قد قَالَه بعض الصَّحَابَة كَمَا قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ من يقم الْحول يصبهَا وَبَعْضهمْ يعينلها لَيْلَة من الْعشْر الْأَوَاخِر والصيحيح أَنَّهَا فِي الْعشْر الْأَوَاخِر تنْتَقل فروى البُخَارِيّ لَيْلَة الْقدر فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان وَالْأَحَادِيث المروية أَنَّهَا فِي أول لَيْلَة الْمحرم أَو لَيْلَة عَاشُورَاء أَو أول لَيْلَة من رَجَب أَو أول لَيْلَة جُمُعَة من رَجَب أَو لَيْلَة سبع وَعشْرين أَو لَيْلَة الْعِيدَيْنِ وَفِي الصَّلَاة الألفية لَيْلَة النّصْف كلهَا كذب مَوْضُوعَة وَلم يكن أحد يَأْمر بتخصيص هَذَا اللَّيَالِي بِقِيَام وَلَا صَلَاة أصلا وَقَول أَحْمد إِذا جَاءَ التَّرْغِيب والترهيب تساهلنا فِي الْإِسْنَاد فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِذا كَانَ الْأَمر مَشْرُوعا أَو مَنْهِيّا عَنهُ بِأَصْل مُعْتَمد ثمَّ جَاءَ حَدِيث فِيهِ ترغيب فِي الْمَشْرُوع أَو ترهيب عَن المنهى عَنهُ لَا يعلم أَنه كذب وَمَا فِيهِ من الثَّوَاب وَالْعِقَاب قد يكون حَقًا وَلَو قدر أَنه لَيْسَ كَذَلِك فَلَا بُد فِيهِ من ثَوَاب وعقاب أما إِنَّه يرويهِ مَعَ علمه بِأَنَّهُ كذب فمعاذ الله لَا يجوز ذَلِك إِلَّا مَعَ بَيَان حَاله وَلَا يسْتَند إِلَيْهِ فِي ترغيب وَلَا غَيره

باب الأدعية والأذكار

وَكَذَلِكَ لَا يجوز أَن يثبت حكم شَرْعِي من ندب أَو كَرَاهَة أَو فَضِيلَة وَلَا عمل مُقَدّر فِي وَقت معِين بِحَدِيث لم يعلم حَاله أَنه ثَابت فَلَا بُد من دَلِيل ثَابت يثبت بِهِ الحكم الشَّرْعِيّ وَإِلَّا كَانَ قولا على الله بِغَيْر علم وَمن الْعجب أَن طَائِفَة من أَصْحَاب أَحْمد فضلوا لَيْلَة الْجُمُعَة على لَيْلَة الْقدر وَرَأَوا أَن إحياءها أفضل من إحْيَاء لَيْلَة الْقدر وَقد يثبت فِي الصَّحِيح النَّهْي عَن تخصيصها بِقِيَام مَعَ أَنه ثَبت بالتواتر أَن لَيْلَة أَمر الله بِالْقيامِ فِيهَا وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حض على قِيَامهَا وانها لَا عدل لَهَا من ليَالِي الْعَام وَمن أصر على ترك الْوتر ردَّتْ شَهَادَته وَأفضل الصَّلَاة بعد الْمَكْتُوبَة قيام اللَّيْل واوكده الْوتر وركعنا الْفجْر وَقَضَاء سنة الْفجْر بعد طُلُوع الشَّمْس جَائِز فِي أصح قولي الْعلمَاء وَكَذَا قَضَاء الرَّاتِبَة مثل سنة الظّهْر بعد الْعَصْر فِيهِ قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد الْأَصَح الْجَوَاز بَاب الْأَدْعِيَة والأذكار جهر الإِمَام وَالْمَأْمُوم بِقِرَاءَة آيَة الْكُرْسِيّ بعد الصَّلَاة مَكْرُوه بِلَا ريب وروى فِي قرَاءَتهَا حَدِيث لكنه ضَعِيف جدا وَكَذَا جهر الإِمَام وَالْمَأْمُوم بِقِرَاءَة الْفَاتِحَة دَائِما أَو خَوَاتِيم الْبَقَرَة أَو أولى الْحَدِيد أَو آخر الْحَشْر وَكَذَا اجْتِمَاع الإِمَام وَالْمَأْمُوم دَائِما على صَلَاة رَكْعَتَيْنِ عقيب الْفَرِيضَة وَنَحْو ذَلِك كل ذَلِك مِمَّا لَا ريب فِي أَنه من الْبدع وَأما إِذا قَرَأَ الإِمَام آيَة الْكُرْسِيّ فِي نَفسه فَلَا بَأْس بِهِ إِذْ هِيَ عمل صَالح كَمَا لَو كَانَ لَهُ ورد من الْقُرْآن أَو الدُّعَاء أَو الذّكر عقيب الصَّلَاة فَلَا بَأْس بِهِ

والمشروع هُوَ مَا ثَبت فِي الصَّحِيح لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير وَنَحْوه وَثَبت أَيْضا أَن تسبح وتحمد وتكبر كل وَاحِدَة ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وروى أَن يكون التَّسْبِيح والتحميد وَالتَّكْبِير جملَة ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وروى عشرا عشرا عشرا وروى أحد عشر أحد عشر وروى ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيخْتم الْمِائَة بِالتَّوْحِيدِ التَّام وروى أَنه يَقُول كل وَاحِدَة من الْكَلِمَات الْأَرْبَع خمْسا وَعشْرين فَهَذِهِ سِتَّة أَنْوَاع قد صحت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما الدُّعَاء فقد روى أَنه أَمر معَاذًا رَضِي الله عَنهُ أَن يَقُول دبر كل صَلَاة اللَّهُمَّ أَعنِي على ذكرك وشكرك وَحسن عبادتك وَنَحْو ذَلِك لَكِن لفظ دبر قد يُرَاد بِهِ آخر جُزْء من الصَّلَاة كَمَا يُرَاد بدبر الشَّيْء آخِره وَقد يُرَاد بِهِ مَا بعد انْقِضَائِهَا كَقَوْلِه تَعَالَى {وأدبار السُّجُود} وَقد يُرَاد مجموعهما أما دُعَاء الْمَأْمُومين مَعَ الإِمَام جَمِيعًا فَهَذَا لَا ريب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَفْعَله فِي أعقاب المكتوبات وَلِهَذَا كَانَ الْعلمَاء الْمُتَأَخّرُونَ فِي ذَلِك على ثَلَاثَة أَقْوَال مِنْهُم من يستحبه عقيب الْفجْر وَالْعصر كطائفة من أَصْحَاب أَحْمد وَمَالك وَأبي حنيفَة وَغَيرهم وَمِنْهُم من استحبه أدبار الصَّلَوَات كلهَا سرا وَقَالَ لَا يجْهر بِهِ إِلَّا إِذا أَرَادَ التَّعْلِيم كَمَا ذَكرْنَاهُ طَائِفَة من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَغَيره وَلَيْسَ مَعَهم حجَّة بذلك بعد الصَّلَاة بل الْحجَّة قبل فَرَاغه من الصَّلَاة فان فِيهِ مُنَاسبَة إِذا هُوَ مقبل على الْمُنَاجَاة لرَبه حَتَّى أوجبه بَعضهم وَهُوَ قَول فِي الْمَذْهَب وَالْأَئِمَّة الْكِبَار لم يستحبوا ذَلِك لَكِن إِن فعل ذَلِك أَحْيَانًا لأمر عَارض كاستسقاء وَنَحْوه فَلَا بَأْس كَمَا لَو ترك الذّكر الْمَشْرُوع لعَارض فَلَا بَأْس فالدعاء قبل انْصِرَافه

فصل

مُنَاسِب بِخِلَاف بعد انْصِرَافه إِنَّمَا يُنَاسب الذّكر وَالثنَاء وَأما رفع الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاء فقد جَاءَ فِيهِ أَحَادِيث كَثِيرَة صَحِيحَة وَأما مسح الْوَجْه فَفِيهِ حديثان لَا تقوم بهما حجَّة وَلَا يسْتَحبّ عقيب الختمة قِرَاءَة الْإِخْلَاص ثَلَاثًا بل يقْرَأ كَمَا فِي الْمُصحف بِخِلَاف قرَاءَتهَا مُنْفَرِدَة وَمن اسْتحبَّ أَن يقْرَأ بِالْفَاتِحَةِ وخواتيم الْبَقَرَة فَهُوَ مخطىء بِاتِّفَاق النَّاس وَإِن كَانَ قَالَه طَائِفَة من أَصْحَاب احْمَد وَغَيرهم فصل آل مُحَمَّد فيهم قَولَانِ أَحدهمَا انهم أهل بَيته الَّذين حرمُوا الصَّدَقَة نَص عَلَيْهِ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَهُوَ أصح وعَلى هَذَا فَفِي تَحْرِيم الصَّدَقَة على أَزوَاجه وكونهم من أهل بَيته رِوَايَتَانِ الْأَصَح دخولهن دون مواليهن كبريرة بِخِلَاف موَالِي الرِّجَال وعَلى هَذَا أهل بَيته هم بَيته هم بَنو هَاشم من ذُرِّيَّة أبي طَالب وَالْعَبَّاس والْحَارث أَبنَاء عبد الْمطلب أعمام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فذرية هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة أهل بيئه وَكَذَلِكَ ذُرِّيَّة ابي لَهب عِنْد الْجُمْهُور وَلَيْسَ من أَعْمَامه من لَهُ نسل غير هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة وَأفضل أهل بَيته عَليّ وَفَاطِمَة وَحسن وحسين الدّين أدَار عَلَيْهِم الكساء وخصهم بِالدُّعَاءِ وَأما بَنو الْمطلب هَل من أهل بَيته الَّذين تحرم عَلَيْهِم الصَّدَقَة على رِوَايَتَيْنِ وَالْقَوْل الثَّانِي آل مُحَمَّد هم أمته أَو الأنقياء من أمته روى ذَلِك عَن مَالك وَطَائِفَة من أَصْحَاب أَحْمد وَغَيرهم وَلَفظ آل فلَان إِذا أطلق دخل فِيهِ فلَان

وَآله وَقد يُقَال مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد فَلَا يدْخل فيهم مُحَمَّد وَكَذَلِكَ أهل الْبَيْت وأصل آل أول فحركت الْوَاو وَانْفَتح مَا قبلهَا فَقبلت آنِفا وَمن قَالَ إِن أَصله أهل فقد غلط لِأَن الْأَهْل يُضَاف إِلَى الجماد وَغَيره وَأما آل فَإِنَّمَا يُضَاف إِلَى شخص مُعظم من شَأْنه أَن يؤول إِلَيْهِ غَيره أَي يسوسه فَيكون مآله إِلَيْهِ فَيتَنَاوَل نَفسه وَمن يؤول إِلَيْهِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي أَكثر الْأَلْفَاظ كَمَا صليت على آل إِبْرَاهِيم وَجَاء فِي بَعْضهَا على إِبْرَاهِيم هُوَ الأَصْل فِي الصَّلَاة وَسَائِر أهل بَيته تبع لَهُ وَلم يَأْتِ على إِبْرَاهِيم وعَلى آل إِبْرَاهِيم بل روى لكنه غير ثَابت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن الْمُتَأَخِّرين من يرى الْجمع بَين أَلْفَاظ الْأَدْعِيَة الَّتِي رويت بِأَلْفَاظ متنوعة مثل قَوْله ظلما كثيرا كَبِيرا وَهِي طَريقَة محدثة بل فَاسِدَة عقلا لِأَنَّهُ لم يسْتَحبّ أحد من الْمُسلمين للقارىء أَن يجمع بَين حُرُوف الْقِرَاءَة فَإِن قيل فَلم جَاءَ على مُحَمَّد وعَلى آله ذكرت فِي مقَام الطّلب وَالدُّعَاء وَفِي إِبْرَاهِيم فِي مقَام الْخَبَر وَالْجُمْلَة الطبيبة إِذا بسطت كَانَ بسطها مناسبا لِأَن الْمَطْلُوب

يزِيد بِزِيَادَة الطّلب وَينْقص بنقصانه فَأَما الْخَبَر فَهُوَ خبر عَن أَمر قد وَقع لَا يحْتَمل الزِّيَادَة وَلَا النُّقْصَان فَلم يكن فِي زِيَادَة اللَّفْظ زِيَادَة معنى فَكَانَ الإيجاز أحسن وَلِهَذَا جَاءَ بلفط إِبْرَاهِيم تَارَة وبلفظ آل إِبْرَاهِيم أُخْرَى لِأَن كلا من اللَّفْظَيْنِ يدل على مَا يدل عَلَيْهِ الآخر وَهُوَ الصَّلَاة الَّتِي وَقعت وَمَضَت إِذا قد علم أَن الَّذِي وَقع هُوَ الصَّلَاة عَلَيْهِ وعَلى آله بِخِلَاف مالو طَالب صَلَاة على مُحَمَّد فَإِنَّهُ يدل على طلب الصَّلَاة على آل مُحَمَّد إِذْ هُوَ طلب وَدُعَاء ينشأ بَيْننَا بِهَذَا اللَّفْظ لم يعلم مَا يُرِيد بِهِ وَلَو قيل صلى على آل مُحَمَّد لَكَانَ إِنَّمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ فِي الْعُمُوم فَقيل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد ليخص بِالدُّعَاءِ ثمَّ إِن قيل إِنَّه دَاخل فِي آله مَعَ الاقتران كَمَا هُوَ دَاخل مَعَ الْإِطْلَاق فقد صلى عَلَيْهِ مرَّتَيْنِ خُصُوصا وعموما وَلَو قيل إِنَّه لم يدْخل فَفِي ذَلِك بَيَان أَن الصَّلَاة على آله إِنَّمَا طلبت تبعا لَهُ وَأَنه هُوَ الأَصْل الَّذِي بِسَبَبِهِ طلبت الصَّلَاة عَليّ آله فَإِن قيل قَوْله كَمَا صليت على آل إِبْرَاهِيم يشْعر بفضيلة إِبْرَاهِيم لِأَن الْمُشبه دون الْمُشبه بِعْ قيل الْجَواب أَن مُحَمَّدًا داخلي فِي آل إِبْرَاهِيم لِأَنَّهُ فِي الْأَصَح أَحَق من غَيره من الْأَنْبِيَاء بِالدُّخُولِ فَيدْخل عُمُوما فِي آل ابراهيم ثمَّ أمرنَا أَن نصلي على مُحَمَّد وعَلى آله خُصُوصا بِقدر مَا صلينَا عَلَيْهِ مَعَ سَائِر آل إِبْرَاهِيم عُمُوما ثمَّ لأهل بَيته من ذَلِك مَا يَلِيق بهم وَالْبَاقِي لَهُ فيطلب لَهُ من الصَّلَاة هَذَا الْقدر الْعَظِيم فَيحصل لَهُ بِهِ أعطم مَالا براهيم وَغَيره وَيظْهر بِهِ من فضيلته على كل من النَّبِيين مَا هُوَ اللَّائِق بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَوَاب ثَان وَهُوَ أَن آل إِبْرَاهِيم فيهم الْأَنْبِيَاء الَّذين لَيْسَ مثلهم فِي آل مُحَمَّد فَإِذا طلب لَهُ من الصَّلَاة مثل مَا صلى على هَؤُلَاءِ حصل لآله مَا يَلِيق بهم

فَإِنَّهُم دون الْأَنْبِيَاء وَبقيت الزِّيَادَة لمُحَمد فَحصل لَهُ بذلك مزية لَيست لإِبْرَاهِيم وَلَا لغيره وَهَذَا حسن أَيْضا وَجَوَاب ثَالِث منع أَن يكون الْمُشبه دون الْمُشبه بِهِ وَجَوَاب رَابِع أَن التَّشْبِيه عَائِذ إِلَى الصَّلَاة على الْآل فَقَط فَعِنْدَ قَوْله على مُحَمَّد انْقَطع الْكَلَام وَقَوله على آل مُحَمَّد مُبْتَدأ وَهَذَا نقل عَن الشَّافِعِي وَهُوَ ضَعِيف كَالَّذي قبله لِأَن الْفِعْل الْعَامِل فِي الْمَعْطُوف هُوَ الْعَامِل فِي أَدَاء التَّشْبِيه والحذف إِنَّمَا يجوز مَعَ قيام دَلِيل كَمَا لَو قَالَ اضْرِب زيدا وَعَمْرو مثل ضربك خَالِدا وَجعل التَّشْبِيه للمعطوف كَانَ تلبيسا وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد أَي لَا ينفع ذَا الْحَظ وَالْمَال وَالْعَظَمَة مِنْك مَاله وَلَا عَظمته بل تقواه وإيمانه وَمُحَمّد أفضل الرُّسُل بِاتِّفَاق الْمُسلمين لَكِن وَقع نزاع هَل هُوَ أفضل من جُمْلَتهمْ قطع طَائِفَة بِأَنَّهُ أفضل كَمَا أَن صديقه أَبَا بكر وزن إيمَانه بِإِيمَان جَمِيع الْأمة فرجح فعلى هَذَا يكون آل مُحَمَّد الدّين هُوَ فيهم أفضل من آل إِبْرَاهِيم الَّذين لَيْسَ مِنْهُم مُحَمَّد وَإِن كَانَ فيهم عدد من الْأَنْبِيَاء وَإِن لم يكن مُحَمَّد بن

آل نَفسه فَيكون آل مُحَمَّد لَيْسَ فيهم بني دون آل أبراهيم ففيهم أَنْبيَاء وَإِن قُلْنَا إِنَّه دخل فِي آل إِبْرَاهِيم كَانَ آل إِبْرَاهِيم فيهم مُحَمَّد وأنبياء غَيره وَآل مُحَمَّد فيهم مُحَمَّد وَلَا نَبِي مَعَه فَتكون الْجُمْلَة الَّتِي هُوَ وَغَيره فِيهَا من الْأَنْبِيَاء أفضل من الآخرين وَاتفقَ الْمُسلمُونَ على أَن الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدُّعَاء كلمة سرا أفضل بل الْجَهْر وَرفع الصَّوْت بِالصَّلَاةِ بِدعَة وَرفع الصَّوْت بذلك أَو بالترضى قُدَّام الْخَطِيب فِي الْجُمُعَة مَكْرُوه أَو محرم بالِاتِّفَاقِ وَمِنْهُم من يَقُول سرا وَمِنْهُم من يَقُول يسكت وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَفْظ الحَدِيث أفضل من كل لفظ وَلَا يُزَاد عَلَيْهِ كَمَا فِي الْأَذَان وَالتَّشَهُّد قَالَه الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم وَهِي فِي الصَّلَاة وَاجِبَة فِي أشهر الرِّوَايَتَيْنِ وَقَول للشَّافِعِيّ وَلَا تجب فِي غَيرهَا وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى لَا تجب فِي الصَّلَاة وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حُذَيْفَة ثمَّ مِنْهُم من قَالَ تجب فِي الْعُمر مرّة وَمِنْهُم من قَالَ تجب فِي الْمجْلس الَّذِي يذكر فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما استفتاح الفأل فِي الْمُصحف فقد تنَازع فِيهِ الْمُتَأَخّرُونَ ذكر القَاضِي أَبُو يعلى عَن ابْن بطة فعله وَلَكِن عَن غَيره أَنه كرهه والاجتماع على الْقِرَاءَة وَالذكر وَالدُّعَاء حسن إِذا لم يتَّخذ سنة راتبة وَلَا اقْترن بِهِ مُنكر من بِدعَة

فصل

وكشف الرَّأْس مَعَ ذَلِك مَكْرُوه وَلَا سِيمَا إِن اتخذ عبَادَة فَلَا يجوز التَّعَبُّد بِهِ فصل وَقد ثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَنَّهُ كَانَ يخص نَفسه بِالدُّعَاءِ وَهُوَ إِمَام كَمَا فِي الاستفتاح اللَّهُمَّ باعدييني وَبَين خطاي كَمَا باعدت بَين الْمشرق وَالْمغْرب الخ وَفِي قَوْله {أعوذ بك من عَذَاب جَهَنَّم} بعد التَّشَهُّد وَقَوله بعد رَفعه من الرُّكُوع بعد قَوْله لَا مَانع لما أَعْطَيْت وَلَا معطى لما منعت يَقُول اللَّهُمَّ طهرني من خطاياي بِالْمَاءِ والثلج وَالْبرد وَغير ذَلِك من الْأَدْعِيَة المأثورة عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وروى عَنهُ {لَا يحل لرجل يؤم قوما فيخص نَفسه بِالدُّعَاءِ} فَإِن صَحَّ هَذَا الحَدِيث يكون المُرَاد بِهِ الدُّعَاء الَّذِي يُؤمن عَلَيْهِ الْمَأْمُوم كدعاء الْقُنُوت فَإِن الْمُؤمن دَاع لقَوْله تَعَالَى مُوسَى وأخيه {قد أجيبت دعوتكما} وَكَانَ أَحدهمَا يَدْعُو وَالْآخر يُؤمن فَإِذا كَانَ الْمَأْمُوم يُؤمن وَيَدْعُو الإِمَام فالدعاء يكون بِصِيغَة الْجمع كَمَا فِي دُعَاء الْفَاتِحَة {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم الخ} مَسْأَلَة وَمن حفظ الْقُرْآن غير مُعرب فَلم يُمكنهُ أَن يقرأه إِلَّا يلحن الْعَجم أَو عَجزه عَن حفظ إعرابه وَنَحْوه فليقرأ كَمَا يُمكنهُ فَهُوَ أولى من تَركه {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَمن اعْتقد أَنه بِمُجَرَّد تلفظه بِالشَّهَادَةِ يدْخل الْجنَّة وَلَا يدْخل النَّار فَهُوَ ضال مُخَالف للْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع

وَالْحَمْد يتَضَمَّن الْمَدْح وَالثنَاء بجميل المحاسن سَوَاء كَانَ للمحمود إِحْسَان إِلَى الحامد أَولا وَالشُّكْر لَا يكون إِلَّا على الْإِحْسَان إِلَى الشاكر فَمن هَذَا الْوَجْه يكون الْحَمد أَعم لِأَنَّهُ على المحاسن وَالْإِحْسَان لَكِن الشُّكْر يكون بِالْقَلْبِ وَالْيَد وَاللِّسَان كَمَا قيل ... أفادتكم النعماء مني ثَلَاثَة ... يَدي ولساني وَالضَّمِير والمحجبا ... وَالْحَمْد إِنَّمَا يكون بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان فَمن هَذَا الْوَجْه يكون الشُّكْر أَعم فَهَذَا أَعم من جِهَة أَنْوَاعه وَالْحَمْد أَعم من جِهَة أَسبَابه وَفِي الحَدِيث الْحَمد لله رَأس الشُّكْر قَالَ ابْن حزم وَغَيره من الْمُتَأَخِّرين لَا يجوز الدُّعَاء إِلَّا بالتسعة وَالتسْعين اسْما فَلَا يُقَال يَا حنان يَا منان يَا دَلِيل الحائرين وَجُمْهُور الْمُسلمين على خلاف ذَلِك وَعَلِيهِ مضى سلف الْأمة وَهُوَ الصَّوَاب وَفِي الْكتاب وَالسّنة مَا يزِيد على التِّسْعَة وَالتسْعين مثل الرب وَأكْثر الدُّعَاء الْمَشْرُوع بِهِ حَتَّى كره مَالك أَن يَقُول يَا سَيِّدي بل يَقُول يَا رب لِأَنَّهُ الْأَنْبِيَاء فِي الْقُرْآن وَكَذَلِكَ المنان وَفِي السّنَن أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمع دَاعيا يَدْعُو اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك بِأَن لَك الْحَمد لَا إِلَه إِلَّا أَنْت أَنْت الله المنان بديع السَّمَوَات وَالْأَرْض يَاذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام يَا حَيّ يَا قيوم فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقد دَعَا الله باسمه الْأَعْظَم الَّذِي إِذا دعى بِهِ أجَاب وَإِذا سُئِلَ بِهِ أعْطى وَقد قَالَ أَحْمد لرجل ودعه قل يَا دَلِيل الحائرين دلَّنِي على طَرِيق الصَّادِقين

فصل

وَأنكر طَائِفَة كَالْقَاضِي أبي يعلى وَابْن عقيل أَن يكون من أَسْمَائِهِ تَعَالَى الدَّلِيل وَالصَّوَاب مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور لِأَن الدَّلِيل فِي الأَصْل هُوَ الْمُعَرّف للمدلول وَفِي الصَّحِيح إِن الله وتر إِن الله جميل إِن الله لطيف إِن الله طيب فَهَذَا فِي الْأَحَادِيث كثير وتتعه يطول مثل سبوح قدوس وَفِي الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول سبوح قدوس واسْمه الشافي كَمَا فِي الصَّحِيح أَنْت الشافي لَا شافي إِلَّا أَنْت وَكَذَلِكَ مثل أَسْمَائِهِ المضافة مثل أرْحم الرَّاحِمِينَ وَخير الغافرين وَرب الْعَالمين وَمَالك يَوْم الدّين وَأحسن الْخَالِقِينَ وجامع النَّاس ليَوْم لَا ريب فِيهِ ومقلب الْقُلُوب مِمَّا ثَبت الدُّعَاء بهَا بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَله أَسمَاء اسْتَأْثر بعلمها كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث تفريج الكرب الَّذِي رَوَاهُ ابْن مَسْعُود أَو استأثرت بِهِ فِي علم الْغَيْب عنْدك أَن تجْعَل الْقُرْآن ربيع قلبِي وَنور صَدْرِي وَذَهَاب غمى وهمي فَهَذَا يدل على أَن فِي أَسْمَائِهِ تِسْعَة وَتِسْعين مَوْصُوفَة بِأَنَّهَا من أحصاها دخل الْجنَّة لَا أَن مَعْنَاهَا أَنه لَيْسَ لَهُ غَيرهَا فصل كسب الْإِنْسَان ليقوم بِالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَة على نَفسه وَعِيَاله وَاجِب عِيَاله وَقد تنَازع النَّاس أَيّمَا أفضل الْغنى الشاكر أم الْفَقِير الصابر وَالصَّوَاب أَن أتقاهما لرَبه هُوَ أفضلهما وَلَا يذم المَال لنَفسِهِ وَلَا لكسبه إِذا أَخذه من وحله وَوَضعه فِي حَقه ثمَّ المَال الصَّالح مَعَ الرجل الصَّالح

فصل

وَلَكِن المذموم فرط تعلق الْقلب بِالْمَالِ بِحَيْثُ يكون هلوعا جزوعا منوعا فَإِذا سلم من ذَلِك فقد يكون صَاحبه أزهد فِيهِ من فَقير هلوع مَسْأَلَة والرضى بِفعل مَا أَمر الله بِهِ وَترك مَا نهى عَنهُ وَاجِب وَأما الرِّضَا بالمصائب كالفقر وَالْمَرَض والذل فالصبح أَنه لَيْسَ بِوَاجِب لَكِن مُسْتَحبّ وَلَكِن الصَّبْر هُوَ الْوَاجِب هُنَا أما الرضى بالْكفْر والفسوق والعصيان فَالَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة الدّين أَنه لَا يُرْضِي بذلك فَإِن الله لَا يرضاه وَإِن كَانَ قد غلط فِيهِ قوم من المتفلسفة والصوفية وَلم يفرقُوا بَين الْمحبَّة والرضى الكونيين والدنين بل ظنُّوا أَن كل مَا أَرَادَهُ الله وَقدره فقد أحبه وَأَنه يجب عَلَيْهِم محبَّة ذَلِك لِأَن الله أَرَادَهُ وَلم يَقع لَهُم أَن الله لَا يَأْمر بِمَا يكرههُ وَلَا يُحِبهُ لقَوْل الله تَعَالَى {بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم} مَعَ أَنه قدره والمتفلسفة ظنُّوا أَن محبَّة الْحق وَرضَاهُ وغضبه يرجع إِلَى إِرَادَته فَقَالُوا هُوَ مُرِيد لَهَا محب لَهَا وَمعنى لَا يُرِيد الْفساد أَي لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ وَهَذَا تَحْرِيف لِأَنَّهُ لَا يُقَال لَا يجب الْإِيمَان للْكَافِرِينَ وَهَذَا كُله ضلال فَإِنَّهُ لَا يُطلق القَوْل أَنه لَا يحب الْإِيمَان فصل قِرَاءَة الْقُرْآن أفضل من الذّكر وَإِن كَانَ الْمَفْضُول قد يكون أفضل فَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ بَين أَئِمَّة الدّين

وَإِنَّمَا تنَازع فِيهِ بعض الْمُتَأَخِّرين فَجعل الذّكر أفضل إِمَّا مُطلقًا وَإِمَّا ي حق الْخَواص كَمَا يَقُوله أَبُو حَامِد فِي حق المبتدى وَهُوَ أقرب فَإِن الْمَفْضُول قد يكون أفضل فِي بعض الْأَزْمَان والأشخاص كالقراءة فِي الرُّكُوع تكره تَعْظِيمًا وتشريفا أَن يقْرَأ بِالْقُرْآنِ فِي حَال الخضوع والذل كَمَا كره أَن يقْرَأ على الْجِنَازَة وَكره بَعضهم قِرَاءَته فِي الْحمام وَمن هَؤُلَاءِ من يرجح ذكر الإسم الْمُنْفَرد كَقَوْلِه الله الله الله على كلمة الْإِخْلَاص التَّامَّة وَهِي قَول لَا إِلَه إِلَّا الله وَمِنْهُم من يرجح ذكر الْمُضمر وَهُوَ قَول هُوَ هُوَ أَو يَا هُوَ على الإسم الْمظهر وَهَذَا كُله من الْغَلَط الَّذِي سَببه فَسَاد كثير من السالكين حَتَّى آل الْأَمر ببعضهم إِلَى الْحُلُول والاتحاد فقد ثَبت فِي الصَّحِيح أفضل الْكَلَام بعد الْقُرْآن أَربع وَهن من الْقُرْآن سُبْحَانَهُ وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر وكل ذكر علمة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأمته أَو قَالَه إِنَّمَا هُوَ بالْكلَام التَّام لَا بِالِاسْمِ الْمُنْفَرد وَلَا بالمضمر وقِي الحَدِيث من شغله ذكرى عَن مَسْأَلَتي أَعْطيته أفضل مَا أعطي السَّائِلين حسنه التِّرْمِذِيّ وَالْقُرْآن أفضل من الذّكر وَالدُّعَاء لتعينه للصَّلَاة وَلَا يَقْرَؤُهُ جنب وَلَا يمسهُ إِلَّا الطَّاهِر بِخِلَاف الذّكر وَالدُّعَاء وَالصَّلَاة أفضل من الْقُرْآن لِأَنَّهَا يشْتَرط لَهَا الطهارتان وتشتمل عَلَيْهِ

وَالرُّكُوع وَالسُّجُود أفضل من الْقيام وَذكر الْقيام أفضل من ذكرهمَا فاعتدلا هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَقيل إِن طول الْقيام أفضل وَقيل بل كَثْرَة الرُّكُوع وَالسُّجُود أفضل وَالْقُرْآن الَّذِي يتَضَمَّن أَسمَاء الله كقل هُوَ الله أحد أفضل من الْقُرْآن الَّذِي لَا يتَضَمَّن أسماءه وَصَحَّ أَن قل هُوَ الله أحد تعدل ثلث الْقُرْآن وَقد فسر بِأَن مَعَاني كَلَام الله ثَلَاثَة تَوْحِيد وقصص وَنهي وَأمر و {قل هُوَ الله أحد} متضمنة للثلث الَّذِي هُوَ التَّوْحِيد وَمعنى كَون ثَوَابهَا يعدل ثلث الْقُرْآن هُوَ أَن معادلة الشَّيْء بالشَّيْء نقتضي تساويهما فِي الْقدر لَا تَقْتَضِي تماثلهما فِي الْوَصْف كَمَا فِي الْقُرْآن أَو عدل ذَلِك صياما فألف دِينَار تعدل من الطَّعَام وَالشرَاب مَا قِيمَته ألف دِينَار فَهِيَ معادلة لَهُ فِي الْقيمَة لَا فِي الْوَصْف وَإِذا كَانَ ثَوَاب {قل هُوَ الله أحد} يعدل ثلث الْقُرْآن لم يجب أَن يكون من جنسه وَصفته وَلم يجز أَن يسْتَغْنى بِقِرَاءَتِهَا ثَلَاثًا عَن قِرَاءَة سَائِر الْقُرْآن كَمَا لَا يَسْتَغْنِي بِملك نوع من المَال قِيمَته ألف دِينَار عَن سَائِر أَنْوَاع المَال فَالْعَبْد مُحْتَاج إِلَى كل مَعَاني الْقُرْآن من أَمر وَنهي ووعد ووعيد وقصص وأمثال فَلَو اقْتصر على {قل هُوَ الله أحد} لم يحصل لَهُ مَا يَحْتَاجهُ من الْأَمر وَالنَّهْي بل يضرّهُ فقد ذَلِك ويهلكه فِي الدُّنْيَا بسلب الْإِيمَان وَفِي الْآخِرَة بالنيران كمن جمع نوعا من المَال سَرِيعا وَلم يحصل لَهُ مَا يَحْتَاجهُ إِلَيْهِ من نوع آخر فَإِنَّهُ قد يَمُوت إِمَّا جوعا وَإِمَّا عريا وَإِمَّا عطشا فالقرآن مِنْهُ مَا تعلمه فرض عين وَمِنْه فرض كِفَايَة وَالذكر مِنْهُ وَاجِب ومستحب

فَأَما ذكر أَسمَاء الله على غير وَجه الْقِرَاءَة فقراءة الْقُرْآن أفضل مِنْهَا فِي الْجُمْلَة هَذَا بِحَسب عَملهَا وثوابها وَأما ذَات الْقُرْآن وَذَات فقد تنَازع فِيهِ طوائف فَذهب طَائِفَة إِلَى أَنه لَا يجوز أَن يظنّ أَن بعض ذَلِك أفضل من بعض وَلَو أَن بعض الْقُرْآن أفضل من بعض لِأَن الْجَمِيع كَلَام الله وَمن صِفَاته لَا سِيمَا مَعَ القَوْل بِأَنَّهُ قديم فَإِن التَّفَاوُت فِيهِ مُمْتَنع وَذهب الْجُمْهُور المتبعون السّلف إِلَى أَن بعضه أفضل من بعض كَمَا فِي الصَّحِيح عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لأبي سعيد بن الْمُعَلَّى لأعلمنك سُورَة لم ينزل فِي التَّوْرَاة وَلَا فِي الْإِنْجِيل وَلَا فِي الزبُور وَلَا فِي الْقُرْآن مثلهَا وَذكر وَلَا فِي الزبُور وَلَا فِي الْقُرْآن مثلهَا وَذكر أَنَّهَا فَاتِحَة الْكتاب فَأخْبر الصَّادِق المصدوق أَنه لم ينزل مثلهَا فَلَا يجوز أَن يُقَال أنزل مثلهَا وَفِي الصَّحِيح أَن آيَة الْكُرْسِيّ أعظم آيَة نزلت وَالْقُرْآن الَّذِي تكلم الله بِهِ فِي وصف نَفسه أعظم من الْقُرْآن الَّذِي تكلم فِي وصف خلقه وَكَلَامه الَّذِي هُوَ أسماؤه أفضل من كَلَامه الَّذِي لَيْسَ هُوَ أسماؤه وَالْكل كَلَامه لَكِن الشّرف يحصل من جِهَة نسبته إِلَى الْقَائِل الْمُتَكَلّم بِهِ وَمن جِهَة نسبته إِلَى الْمَقُول والمتكلم فِيهِ فَإِذا كَانَت النسبتان إِلَى الله كَانَ الْكَلَام أشرف وَلَيْسَ مدح الشُّعَرَاء للأنبياء مثل مدح الشُّعَرَاء للملوك وَأما إِن قدر لله أَسمَاء لَيست هِيَ كَلَامه فَكَلَامه أفضل من جِهَة الْمُتَكَلّم بِهِ وَإِلَّا فالإسم أفضل من جِهَة الْكَلَام الْمَدْلُول عَلَيْهِ لَكِن كلامة أفضل مِمَّا لَيْسَ بِكَلَامِهِ مُطلقًا وَمَعْرِفَة الْقرَاءَات الَّتِي أقرأهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لصَاحِبهَا مزية على من لم يعرف ذَلِك

فصل

وَأما جمعهَا فِي الصَّلَاة فبدعة مَكْرُوهَة لَكِن يجوز أَن يقْرَأ بعض الْقرَاءَات بِحرف أبي عَمْرو وَبَعضه بِحرف نَافِع وَنَحْوه وَسَوَاء كَانَ فِي رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ أَو خَارج الصَّلَاة أَولا فصل مَا يُعلمهُ الْإِنْسَان من حق وباطل فَإِنَّهُ يقوم بِقَلْبِه وَيحل بِرُوحِهِ المنفوخة فِيهِ الْمُتَّصِلَة بِالْقَلْبِ الَّذِي هُوَ المضغة الصنوبرية الشكل وَقد قيل إِنَّه يقوم بِجَمِيعِ الْجَسَد وَلَيْسَ لبَعض ذَلِك مَكَان من الْجَسَد يتَمَيَّز بِهِ عَن مَكَان آخر بِاتِّفَاق النَّاس وَإِنَّمَا الرّوح هِيَ الَّتِي يعبر عَن محلهَا الأول بِالْقَلْبِ تَارَة وتسميها الفلاسفة النَّفس الناطقة وَهِي الحاملة لجَمِيع الاعتقادات فتتنور قُلُوب الْمُؤمنِينَ وأرواحهم بالمعارف الألهية ونظام قُلُوب الْكَافرين بالعقائد الْفَاسِدَة كَمَا ضرب الله مثل الْمُؤمن وَالْكَافِر فِي سُورَة النُّور وَمَا يحصل عِنْد الذّكر الْمَشْرُوع من الْبكاء ووجل الْقلب واقشعرار الجسوم فَمن أفضل الْأَحْوَال الَّتِي نطق بهَا الْكتاب أما الِاضْطِرَاب الشَّديد والغشى والصيحان فَإِن كَانَ صَاحبه لم يعلم مَا هُوَ عَلَيْهِ لم يلم وَسَببه قُوَّة الْوَارِد مَعَ ضعف الْقلب وَالْقُوَّة والتمكن أفضل كَمَا هُوَ حَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَأما السّكُون قسوة وجفاء فَهَذَا مَذْمُوم فصل الْقُنُوت مَشْرُوع عِنْد النَّازِلَة فِي الصَّلَوَات وَفِي الْفجْر وَالْمغْرب أوكد والنازلة هِيَ الْعَدو نَحْو استنصاره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للمستضعفين تَحت يَد الْعَدو ودعائه على الَّذين قتلوا أَصْحَاب بِئْر مَعُونَة

وَأما قنوت الْإِنْسَان للاسترزاق فَلم يُؤثر عَن أحد من السّلف وَلَا علمت أحدا ذكره وَاحْتج من زَعمه سنة دائمة فِي الْفجْر بقول الله تَعَالَى {حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَقومُوا لله قَانِتِينَ} وَيَقُول الْوُسْطَى الْفجْر والقنوت فِيهَا وكلنَا المقدمتين ضَعِيفَة أما الصَّلَاة الْوُسْطَى فَهِيَ الْعَصْر بِلَا شكّ عِنْد من عرف الْأَحَادِيث وَأما الْقُنُوت فَهُوَ المداومة على الطَّاعَة كَمَا قَالَ {أم من هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل سَاجِدا وَقَائِمًا} فَلَا يجوز حمله على طول الْقيام للدُّعَاء وَغَيره لِأَن الله أَمر بِالْقيامِ لَهُ قَانِتِينَ وَالْأَمر للْوُجُوب وَقيام الدُّعَاء الْمُتَنَازع فِيهِ لَا يجب بِالْإِجْمَاع والقائم فِي حَال قِرَاءَته هُوَ فانت أَيْضا وَلما نزلت أمروا بِالسُّكُوتِ ونهوا عَن الْكَلَام فَعلم أَن السُّكُوت من تَمام الْقُنُوت الْمَأْمُورَة ب وَذَلِكَ وَاجِب فِي جَمِيع أَجزَاء الْقيام والْحَدِيث مَا زَالَ يقنت حَتَّى فَارق الدُّنْيَا وَإِن صَححهُ الْحَاكِم فَهُوَ يصحح الموضوعات وَعِنْده تساهل فَلَا يقوم بِمثلِهِ الْحجَّة قَالُوا وَقَوله الآخر ثمَّ ترك أَي الدُّعَاء لَا أصل لَهُ والْحَدِيث فِيهِ مَا قنت بعد الرُّكُوع إِلَّا شهرا فَتبين أَنه لم يقنت بعد الرُّكُوع إِلَّا شهرا فَبَطل التَّأْوِيل والقنوت قبل الرُّكُوع قد يُرَاد بِهِ طول الْقيام قبل الرُّكُوع سَوَاء كَانَ فِيهِ دُعَاء أَولا فَلَا يكون اللَّفْظ دَالا على قنوت الدُّعَاء وَقد ذهب طَائِفَة إِلَى أَن الْقُنُوت مَشْرُوع فِي جَمِيع الصَّلَوَات وَهُوَ شَاذ وَالصَّحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قنت لسب النَّازِلَة ثمَّ ترك كَمَا دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث وَعَلِيهِ الحَدِيث وَعَلِيهِ الْخُلَفَاء الراشدون فَإِن عمر رَضِي الله عَنهُ لما جَاءَت النَّصَارَى

فصل

قنت عَلَيْهِم فَقَالَ اللَّهُمَّ عذب كفرة أهل الْكتاب إِلَى آخِره فَجعله بعض النَّاس سنة راتبة فِي قنوت رَمَضَان وَلَيْسَ كَذَلِك بل إِنَّمَا قلت بِمَا يُنَاسِبهَا وَلَو قلت دَائِما لنقله الْمُسلمُونَ عَن نَبِيّهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَنَّهُ من الْأُمُور الَّتِي تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله فصل إِذا تحقق مَا فِي الْقلب أثر فِي الظَّاهِر ضَرُورَة لَا يُمكن انفكاك أَحدهمَا عَن الآخر فالإرادة الجازمة مَعَ الْقُدْرَة التَّامَّة توجب وُقُوع الْمَقْدُور فَإِذا كَانَ فِي الْقلب حب الله وَرَسُوله ثَابتا استلزم مُوالَاة أوليائه ومعاداة أعدائه لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله الْآيَة فَهَذَا التلازم أَمر ضَرُورِيّ وَمن جِهَة ظن انْتِفَاء غالط غالطون كَمَا غلط آخَرُونَ فِي جَوَاز وجود إِرَادَة جازمة مَعَ الْقُدْرَة التَّامَّة بِدُونِ الْفِعْل حَتَّى تنازعوا هَل يُعَاقب على الْإِرَادَة بِلَا عمل وَإِن بَينا أَن الهمة الَّتِي نهمها وَلم يقْتَرن بهَا فعل مَا يقدر عَلَيْهِ الْهَام لَيست إِرَادَة جازمة لِأَن الْإِرَادَة الجازمة لَا بُد أَن يُوجد مَعهَا فعل مَا يقدر عَلَيْهِ العَبْد والغفران وَقع عَمَّن هم بسيئة وَلم يَفْعَلهَا لَا عَمَّن أَرَادَ وَفعل الَّذِي أمكنه وَعجز من تَمام مُرَاده وَمن عرف الملازمات بَين الظَّاهِر وَالْبَاطِن زَالَت عَنهُ شُبُهَات كَثِيرَة وَتحقّق الْإِيمَان وَغَيره مِمَّا هُوَ من الْأَعْمَال الْبَاطِنَة أَو الظَّاهِرَة مثل حب الله والانقياد لَهُ والاستكانة ووجل الْقلب وَزِيَادَة الْإِيمَان عِنْد ذكر الله والتوكل عَلَيْهِ وَالْجهَاد وَإِقَامَة الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وضد ذَلِك مِمَّا يحدث عَن التَّصْدِيق أَو

عَن التَّكْذِيب والهم بِالْحَسَنَة أَو السَّيئَة أَو غير ذَلِك وَالله أعلم قَوْله فِي حَدِيث أبي بكر رَضِي الله عَنهُ اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا وانه لَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك وارحمني إِنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم قَالَ الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ هَذَا عبد اعْترف بالظلم ثمَّ التجأ إِلَيْهِ مُضْطَرّا لَا يجد لذنبه سائرا غَيره ثمَّ سَأَلَهُ مغْفرَة من عِنْده وَلَكِن أَرَادَ شَيْئا من عِنْده والأشياء كلهَا من عِنْده وَلَكِن أَرَادَ شَيْئا محصوصا لَيْسَ مِمَّا يذكر للعامة فَللَّه رَحْمَة قد عَمت الْخلق برهم وفاجرهم سعيدهم وشقيهم ثمَّ لَهُ رَحْمَة خص بهَا الْمُؤمنِينَ خَاصَّة وَهِي رَحْمَة الْإِيمَان ثمَّ لَهُ رَحْمَة خص بهَا الْمُتَّقِينَ وَهِي رَحْمَة الطَّاعَة لله تَعَالَى وَللَّه رَحْمَة خص بهَا الْأَوْلِيَاء نالوا بهَا الْولَايَة وَله رَحْمَة خص بهَا الْأَنْبِيَاء ونالوا بهَا النُّبُوَّة وَقَالَ الراسخون فِي الْعلم {وهب لنا من لَدُنْك رَحْمَة} فَسَأَلُوهُ رَحْمَة من عِنْده فَهَذَا صُورَة مَا شَرحه وَلم يذكر صفة الظُّلم وأنواعه كَمَا ذكر صفة الرَّحْمَة وليعلم أَن الدُّعَاء الَّذِي فِيهِ اعْتِرَاف العَبْد بظلمه لنَفسِهِ لَيْسَ من خَصَائِص الصديقين وَمن دونهم بل هُوَ من الْأَدْعِيَة الَّتِي يَدْعُو بهَا الْأَنْبِيَاء وهم أفضل الْخلق قَالَ الله تَعَالَى عَن آدم وحواء {قَالَا رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا} وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {رب إِنِّي ظلمت نَفسِي} والخليل عَلَيْهِ السَّلَام {رَبنَا اغْفِر لي ولوالدي} {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين} وَقَالَ هُوَ وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام {رَبنَا تقبل منا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم} الى قَوْله {وَتب علينا} وَقَالَ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام {لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين} وَثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ ظلمت نَفسِي وَاعْتَرَفت بذنبي فَاغْفِر لي

وَثَبت عَنهُ اللَّهُمَّ اغْفِر لي ذَنبي كُله دقه وجله وعلانيته وسره وأوله وَآخره اللَّهُمَّ اغْفِر لي خطيئتي وجهلي واسرافي فِي آمري وَمَا أَنْت أعلم بِهِ مني اللَّهُمَّ اغْفِر لي هزلي وجدي وخطأي وعمدي وكل ذَلِك عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِر لي مَا قدمت وَمَا أخرت وَمَا أسررت وَمَا أعلنت وَمَا أَنْت أعلم بِهِ مني أَنْت الْمِقْدَام وَأَنت الْمُؤخر لَا إِلَه إِلَّا أَنْت وَفِي الرُّكُوع وَالسُّجُود كَانَ يَقُول سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِر لي يتَأَوَّل الْقُرْآن وَقَالَ لَهُ ربه {فاصبر إِن وعد الله حق واستغفر لذنبك} وَقَالَ تَعَالَى {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} وَسورَة النَّصْر آخر مَا نزل بعد قَوْله {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} فَقَالَ لَهُ النَّاس هَذَا لَك فَمَا لنا قَالَ فَأنْزل الله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أنزل السكينَة فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ} الْآيَة وَفِي هَذَا رد على الطَّائِفَة الَّذين يَقُولُونَ معنى ليغفر لَك مَا تقدم من ذَنْبك هُوَ ذَنْب آدم وَمَا تَأَخّر هُوَ ذَنْب أمته فَإِن هَذَا القَوْل وَإِن لم يقلهُ أحد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وأئمة الْمُسلمين فقد قَالَه طَائِفَة من الْمُتَأَخِّرين وبظن بعض الْجُهَّال أَنه قَول شرِيف وَهُوَ كَذَّاب على الله وتخريف فَإِنَّهُ قد ثَبت أَن النَّاس يَوْم الْقِيَامَة يأْتونَ آدم فيعتذر إِلَيْهِم وَيذكر خطيئته فَلَو كَانَ مَا تقدم هُوَ ذَنْب آدم لم يكن يعْتَذر وَقد قَالَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم هَذَا لَك فَمَا لنا فَلَو كَانَ مَا تَأَخّر مغْفرَة ذنوبهم لَكَانَ قَالَ هَذَا لكم وَأَيْضًا فقد قَالَ الله لَهُ {واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} فَكيف تُضَاف ذنُوب الْفُسَّاق إِلَيْهِ وَيجْعَل الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَشرب الْخمر ذَنبا لَهُ {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} وَأي فرق بَين ذَنْب آدم ونوح وَإِبْرَاهِيم وَكلهمْ باؤه وَقد قَالَ تَعَالَى فِي غير مَوضِع فَإِن توَلّوا فَإِن مَا عَلَيْهِ مَا حمل وَعَلَيْكُم

مَا حملتم وَإِن تطيعوه تهتدوا وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين فَكيف يكون ذَنْب أمته لَهُ هَذَا لَا يخفى فَسَاده على من لَهُ أدنى تدبر وَإِن كَانَ قَالَه طَائِفَة من المصنفين فِي الْعِصْمَة حَتَّى ترى فِي كَلَام بعض من لَهُ قدم صدق من أهل السّنة لَكِن الغلو أوجب اتِّبَاع الْجُهَّال الضلال فَإِن أصل ذَلِك من المبتدعين الغالين وأولهم الرافضة فانهم لم ادعوا الْعِصْمَة فِي عَليّ وَغَيره حَتَّى من الْخَطَأ احتاجوا أَن يثبتوا ذَلِك للأنبياء بطرِيق الأولى وَلما نزهوا عليا رَضِي الله عَنهُ وَمن دونه أَن يكون لَهُ ذَنْب عصمَة أئمتهم الاسماعيلية القرامطة الباطنية الفلاسفة الدهرية وعبدوهم واعتقدوا فيهم الإلهية كَمَا كَانَت الغالية تعقد فِي عَليّ وَغَيره الإلهية أَو النُّبُوَّة وكما ألزموا الدعْوَة للمنتظر وَأَنه مَعْصُوم وَقَالُوا دخل فِي سرداب سامرا سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ طِفْل غير مُمَيّز وَصَارَ مثل هَذَا يدعى حَتَّى ادّعى ابْن تومرت المغربي صَاحب المرشد أَنه المهدى صَار طَائِفَة من الغلاة فِي مشايخهم يَعْتَقِدُونَ لَهُم الْعِصْمَة بقلوبهم أَو يَقُولُونَ إِنَّه مَحْفُوظ وَالْمعْنَى وَاحِد وَلَو أقرّ بِلِسَانِهِ عاملة بالعصمة بِقَلْبِه فَهَؤُلَاءِ إِذا اعتقدوا الْعِصْمَة فِي بعض الْعَوام كييف لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِك فِي الْأَنْبِيَاء فَإِن كَانَ من الْمُسلمين من اعْتقد أَن الْأَنْبِيَاء أفضل من شَيْخه وإمامه وَهُوَ يعْتَقد عصمَة شَيْخه فَهُوَ يعْتَقد عصمتهم بطرِيق الأولى وَإِن كَانَ من الزَّنَادِقَة الَّذين يَعْتَقِدُونَ أَن الشَّيْخ أفضل من النَّبِي كَمَا يَقُوله المتفلسفة والشيعة وغلاة الصُّوفِيَّة لاتحادية وَغَيرهم فَلَا بُد لهَؤُلَاء أَن يَفروا الغلو فِي الْأَنْبِيَاء حَتَّى يوافقهم النَّاس على الغلو فِي أئمتهم وَهَذَا كُله من شعب النَّصْرَانِيَّة الَّذين قَالَ الله فيهم {قل يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ} إِلَى قَوْله {إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله}

إِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ {أَن يكون لَهُ ولد} إِلَى قَوْله تَعَالَى {لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكون عبدا لله} وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تطروني كَمَا أطرت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن مَرْيَم بل قُولُوا عبد الله وَإِنَّمَا أضلّ من كَانَ قبلكُمْ الغلو فِي الدّين وَقد قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لتركبن سنَن من كَانَ قبلكُمْ وَمن قبلنَا قصدُوا تَعْظِيم الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ فوقعوا فِي تكذيبهم فَإِن الْمَسِيح قَالَ {إِنِّي عبد الله آتَانِي الْكتاب} فَكَذبُوهُ وَقَالُوا مَا هُوَ عبد الله بل هُوَ الله وأشركوا بِهِ وَكَذَلِكَ الغالية فِي على وَغَيره فَإِنَّهُ حرق الغالية فِيهِ وَنقل عَنهُ من نَحْو ثَمَانِينَ وجبها خير هَذِه الْأمة بعد نبيها أَبُو بكر ثمَّ عمر وَيذكر ذَلِك عَن ابْن الْحَنَفِيَّة كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ والشيعة تكذبه فهم مَعَه كالنصارى مَعَ الْمَسِيح وَالْيَهُود مَعَ مُوسَى وَكَذَلِكَ أَتبَاع الْمَشَايِخ يغلون فيهم ويتركون اتباعهم على الطَّرِيقَة الَّتِي يُحِبهَا الله وَرَسُوله وَهَذَا بَاب دخل مِنْهُ الشَّيْطَان عَليّ خلق كثير فأضلهم حَتَّى جعل أحدهم قَول الْحق تنقيصا لَهُ كَمَا إِذا قيل النَّصَارَى لِلنَّصَارَى {الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل وَأمه صديقَة} قَالُوا هَذَا تنقص بالمسيح وَسُوء أدب مَعَه وَهَكَذَا المنتسبون إِلَى هَذِه الْأمة تَجِد أحدهم يغلو فِي قدوته حَتَّى يكره أَن يُوصف بِمَا هُوَ فِيهِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ يكذبهُ وَيَقُول عَلَيْهِ العظائم وَهَذَا بَاب يطول الْمَقْصُود النبيه عَلَيْهِ إِذا عرف ذَلِك فقد اتّفق سلف الْأمة وَجَمِيع الطوائف الَّذين لَهُم قَول مُعْتَبر أَن من سوى الْأَنْبِيَاء لَيْسَ مَعْصُوم لَا من الْخَطَأ وَلَا من الذُّنُوب سَوَاء كَانَ صديقا أَو لم يكن وَلَا فرق بَين أَن يَقُول هُوَ مَعْصُوم أَو مَحْفُوظ أَو مَمْنُوع

وَقد قَالَ الْأَئِمَّة كل أحد يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك إِلَّا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِهَذَا اتّفق الْأَئِمَّة على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْصُوم فِيمَا يبلغهُ عَن ربه وَقد انفقوا على أَنه لَا يقر على الْخَطَأ فِي ذَلِك وَكَذَلِكَ لَا يقر على الذُّنُوب لَا صغائرها وَلَا كبائرها وَلَكِن تنازعوا هَل يَقع من الْأَنْبِيَاء بعض الصَّغَائِر مَعَ التَّوْبَة مِنْهَا أَولا يَقع بِحَال فَقَالَ بعض متكلمي الحَدِيث وَكثير من الْمُتَكَلِّمين من الشِّيعَة والمعتزلة لَا تقع مِنْهُم الصَّغِيرَة بِحَال وَزَاد الشِّيعَة حَتَّى قَالُوا لَا يَقع مِنْهُم لَا خطأ وَلَا غير خطأ وَأما السّلف وَجُمْهُور أهل الْفِقْه والْحَدِيث وَالتَّفْسِير وَجُمْهُور متكلمي أهل الحَدِيث من الأشعرية وَغَيرهم فَلم يمنعوا وُقُوع الصَّغِيرَة إِذا كَانَ مَعَ التَّوْبَة كَمَا دلّت عَلَيْهِ النُّصُوص من الْكتاب وَالسّنة فَإِن الله يحب التوابين وَإِذا ابتلى بعض الأكابر بِمَا يَتُوب مِنْهُ فَذَاك لكَمَال النِّهَايَة لَا لنَقص الْبِدَايَة كَمَا قَالَ بَعضهم لَو لم تكن التَّوْبَة أحب الْأَشْيَاء إِلَيْهِ لما ابتلى بالذنب أكْرم الْخلق عَلَيْهِ وَأَيْضًا فالحسنات تتنوع بِحَسب المقامات كَمَا يُقَال حَسَنَات الْأَبْرَار سيئات المقربين فَمن فهم مَا تمحوه التَّوْبَة وَمَا ترفع صَاحبهَا إِلَيْهِ من الدَّرَجَات وَمَا يتَفَاوَت النَّاس فِيهِ من الْحَسَنَات والسيئات زَالَت عَنهُ الشّبَه فِي هَذَا الْبَاب وَأقر الْكتاب وَالسّنة على مَا فِيهَا من الْهدى وَالصَّوَاب فَإِن الغلاة يتوهمون أَن الذَّنب إِذا صدر من العَبْد كَانَ نقصا فِي حَقه لَا ينجبر حَتَّى يجْعَلُوا من لم يسْجد لضم أفضل مِنْهُ وَهَذَا جهل فَإِن الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار الَّذين هم أفضل هَذِه الْأمة هم أفضل من أَوْلَادهم وَغير أَوْلَادهم مِمَّن ولد على

الْإِسْلَام وَإِن كَانُوا فِي أول الْأَمر كفَّارًا يعْبدُونَ الْأَصْنَام بل المتنقل من الضلال إِلَى الْهدى يُضَاعف لَهُ الثَّوَاب كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَأُولَئِك يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات} فَالله سُبْحَانَهُ أفرج بتوبة عَبده من الَّذِي طلب رَاحِلَته فِي الأَرْض الْمهْلكَة ثمَّ وجدهَا فَإِذا كَانَت التَّوْبَة بِهَذِهِ المثابة كَيفَ لَا يكون صَاحبهَا مُعظما وَقد وصف الْإِنْسَان بالظلم وَالْجهل وَجعل الْفرق بَين الْمُؤمن وَالْكَافِر وَالْمُنَافِق أَن الْمُؤمن فيتوب الله علينا إِذا لم يكن لَهُ بُد من الْجَهْل فَقَالَ تَعَالَى {وَيَتُوب الله على الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} وَخير الْخَطَّائِينَ التوابون وكل بني آدم خطاءون وَقد ذكر الله تَعَالَى الَّذين وعدهم بِالْحُسْنَى فَلم ينف عَنْهُم الذُّنُوب فَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون} إِلَيّ قَوْله {ليكفر الله عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي عمِلُوا} فَذكر الْمَغْفِرَة والتكفير وَقَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين نتقبل عَنْهُم أحسن مَا عمِلُوا ونتجاوز عَن سيئاتهم فِي أَصْحَاب الْجنَّة وعد الصدْق الَّذِي كَانُوا يوعدون} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لن يدْخل أحد مِنْكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ قَالُوا وَلَا أَنْت قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمة مِنْهُ وَفضل وَاعْلَم أَن كثيرا من النَّاس يسْبق إِلَى ذهنه من ذكر الذُّنُوب الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَنَحْو ذَلِك فيستعظم أَن كَرِيمًا يفعل ذَلِك وَلَا يعلم هَذَا الْمِسْكِين أَن اكثر عقلاء بني آدم لَا يسرقون بِلَا يزنون حَتَّى فِي جاهليتهم وكفرهم فَإِن أَبَا بكر وَغَيره قبل الْإِسْلَام مَا كَانُوا يرضون أَن يَفْعَلُوا مثل هَذِه الْأَعْمَال وَلما بَايع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هندا بنت عتبَة بن ربيعَة أم مُعَاوِيَة بيعَة النِّسَاء على أَن لَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين قَالَت أَو تَزني الْحرَّة فَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يعْرفُونَ الزِّنَا إِلَّا للاماء وَكَذَلِكَ اللواط فَأكْثر الْأُمَم لم تعرفه وَلم يكن يعرف فِي الْعَرَب قطّ وَلَكِن الذُّنُوب تتنوع وَهِي كَثِيرَة الشّعب كَالَّتِي هِيَ من بَاب الضلال

فِي الايمان والبدع الَّتِي هِيَ من جنس الْعُلُوّ فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء والحسد وَالْكبر والرياء هِيَ فِي النَّاس الَّذِي هم متفقون على الْفَوَاحِش وَكَذَلِكَ الذُّنُوب لتي هِيَ ترك الْوَاجِبَات كالإخلاص والتوكل على الله ورجاء رَحمته وَخَوف عَذَابه وَالصَّبْر على بلائه وَالصَّبْر على حكمه وَالتَّسْلِيم لأَمره وَالْجهَاد وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَنَحْوه وَتَحْقِيق مَا يجب من المعارف والأعمال يطول وَإِذا علم ذَلِك فظلم العَبْد نَفسه يكون بترك مَا ينفعها وَهِي محتاجة إِلَيْهِ وبفعل مَا يَضرهَا كَمَا أَن ظلم الْغَيْر كَذَلِك إِمَّا بِمَنْع حَقه أَو التَّعَدِّي وَالنَّفس إِنَّمَا تحْتَاج من العَبْد إِلَى فعل مَا أَمر الله بِهِ وَإِنَّمَا يَضرهَا فعل نهي الله عَنهُ فظلمه لَا يَنْفَكّ عَن ترك حَسَنَة أَو فعل سَيِّئَة وَمَا يضْطَر العَبْد إِلَيْهِ حَتَّى أكل الْميتَة دَاخل فِي هَذَا فَأكلهَا عِنْد الضَّرُورَة وَاجِب فِي الْمَشْهُور من مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَكَذَلِكَ مَا يَضرهَا من جنس الْعِبَادَات مثل الصَّوْم الَّذِي يزِيد فِي مَرضهَا والاغتسال بِالْمَاءِ الْبَارِد الَّذِي يَقْتُلهَا وَهُوَ من ظلمها فَإِن الله أَمر الْعباد بِمَا يَنْفَعهُمْ ونهاهم عَمَّا يضرهم وَجَاء الْقُرْآن بِالْأَمر بالصلاح وَالنَّهْي عَن الْفساد وَالصَّلَاح كُله طَاعَة وَالْفساد كُله مَعْصِيّة وَقد لَا يعلم بعض النَّاس ذَلِك على حَقِيقَته فالمؤمن يعلم أَن الله يَأْمر بِكُل مصلحَة وَينْهى عَن كل مفْسدَة وَمِمَّا يُوجب أَن يعرف أَن العَبْد قد يجب عَلَيْهِ بِأَسْبَاب أُمُور لَا تجب عَلَيْهِ بِدُونِ هَذِه الْأَسْبَاب فَإِن قَامَ بهَا كَانَ محسنا إِلَى نَفسه وَإِلَّا كَانَ ظَالِما لنَفسِهِ وَإِن لم يكن تَركهَا ظلما فِي حق من لم يجْتَمع عِنْده هَذِه الْأَسْبَاب كمن ولى ولَايَة فَفِي الْمسند أحب ألخلق إِلَى الله إِمَام عَادل وأبغضهم إِلَيْهِ إِمَام جَائِر وَكَذَلِكَ من لغيره عَلَيْهِ حُقُوق كَالزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَاد وَالْجِيرَان فقد ذكر الله الْحُقُوق الْعشْرَة فِي قَوْله تَعَالَى {واعبدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وبالوالدين}

إحسانا وبذى الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى وَالْجَار الْجنب والصاحب بالجنب وبن السَّبِيل وَمَا ملكت أَيْمَانكُم فَكلما أزدادت معرفَة الأنسان بالنفوس ولوازمها وتقلب الْقُلُوب وَبِمَا عَلَيْهَا من الْحُقُوق لله ولعباده وَبِمَا حد لَهُم من الْحُدُود علم أَنه لَا يخلوا أحد من ترك بعض الْحُقُوق وتعدي بعض الْحُدُود وَلِهَذَا أَمر الله عباده الْمُؤمنِينَ أَن يسألوه أَن يهْدِيهم السراط الْمُسْتَقيم فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة فِي الْمَكْتُوبَة وَحدهَا سبع عشرَة مرّة وَهُوَ صِرَاط الَّذين أنعم عَلَيْهِم من النبين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَمن يطع الله وَرَسُوله فَهُوَ مَعَ هَؤُلَاءِ فالصراط الْمُسْتَقيم هُوَ طَاعَة الله وَرَسُوله وَهُوَ دين الْإِسْلَام التَّام وَهُوَ اتِّبَاع الْقُرْآن وَهُوَ لُزُوم السّنة وَالْجَمَاعَة وَهُوَ طَرِيق الْعُبُودِيَّة وَهُوَ طَرِيق الْخَوْف والرجاء وَلِهَذَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي خطبَته الْحَمد الله نحمده ونستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ لعلمه أَنه لَا يفعل خيرا وَلَا يجْتَنب شرا إِلَّا بإعانة الله لَهُ وَأَنه لابد أَن يفعل مَا يُوجب الأستغفار وَفِي الصَّحِيح سيد الأستغفار أَن يَقُول العَبْد اللَّهُمَّ أَنْت رَبِّي لَا إِلَه إِلَّا أَنْت خلقتني وَأَنا عَبدك وأنما على عَهْدك وَوَعدك مَا اسْتَطَعْت اعوذ بك من شَرّ مَا صنعت أَبُوء لَك بنعمتك عَليّ وأبوء بذنبي فَاغْفِر لي إِنَّه لَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت فَقَوله أَبُوء بنعمتك عَليّ يتَنَاوَل نعْمَته عَلَيْهِ فِي إعانته على الطَّاعَات وَقَوله أَبُوء بذنبي يبين إِقْرَاره بِالذنُوبِ الَّتِي يحْتَاج إِلَى الإستغفار مِنْهَا وَالله غَفُور رَحِيم شكور يغْفر الْكَبِير ويشكر الْيَسِير وَجَاء عَن غير وَاحِد إِنِّي أصبح بَين نعْمَة وذنب أُرِيد أَن أحدث للنعمة شكرا وللذنب إستغفارا وَكَانَ الْمَشَايِخ يقرنون بَين هَذِه الثَّلَاثَة الشُّكْر مَا مضى

من إِحْسَان ربه وَالِاسْتِغْفَار لما تقدم من إساءة العَبْد إِلَى نَفسه والاستعانة لما يستقبله العَبْد من أُمُوره فَلَا بُد لكل عبد من الثَّلَاثَة فَقَوله الْحَمد لله نحمده ونستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ يتَنَاوَل ذَلِك فَمن قصر فِي وَاحِدَة مِنْهَا فقد طلم نَفسه بِحَسب تَقْصِيره وَالْعَبْد إِذا عمل بِمَا علم أورثه الله علم مَا لم يعلم كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَو أَنهم فعلوا مَا يوعظون بِهِ لَكَانَ خيرا لَهُم} الْآيَة وَقَالَ {وَالَّذين اهتدوا زادهم هدى} وَإِذا ترك العَبْد الْعَمَل بِعِلْمِهِ عَافِيَة الله بِأَن يضله عَن الْهدى وَأَن لَا يعرفهُ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} وَقَالَ {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة} وَدلّ {فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا} وَفِي الحَدِيث إِن العَبْد إِذا أذْنب ذَنبا نكت فِي قلبه نُكْتَة سَوْدَاء فَإِذا تَابَ وَنزع واستغفر صقل قلبه وَإِن زَاد زيد فِيهَا حَتَّى تعلو كل قلبه فَذَلِك الران الَّذِي قَالَ تَعَالَى {كلا بل ران على قُلُوبهم} رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ فَهَذِهِ الْأُمُور يبين الله بهَا أَجنَاس ظلم العَبْد نَفسه لَكِن لكل إِنْسَان بِحَسبِهِ وبحسب دَرَجَته فَمَا من صباح يصبح إِلَّا وَللَّه على عبَادَة حُقُوق ولنفسه ولخلقه عَلَيْهِ حُقُوق فلنفسه عَلَيْهِ أَن يعفها وحدود عَلَيْهِ أَن يحفظها ومحارم عَلَيْهِ أَن يتجنبها فَإِن أَجنَاس الْأَعْمَال ثَلَاثَة مَأْمُور بِهِ قَالُوا هُوَ الْفَرَائِض ومنهى عَنهُ وَهُوَ الْمحرم ومباح لَهُ حد فتعديه حُدُود الله بل قد تكون الزِّيَادَة بعض الْوَاجِبَات والمستحبات لحدود الله وَذَلِكَ هُوَ الاسراف كَمَا قَالَ {رَبنَا اغْفِر لنا ذنوبنا وإسرافنا فِي أمرنَا}

فصل

إِذا عرف ذَلِك فَقَوْل الْقَائِل مَا مَفْهُوم قَول الصّديق رَضِي الله عَنهُ ظلمت نَفسِي ظلما كَبِيرا وَالدُّعَاء بَين يَدي الله لَا يحْتَمل الْمجَاز وَالصديق رَضِي الله عَنهُ من أَئِمَّة التَّابِعين وَالرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره بذلك هَل كَانَ لَهُ نازلة شُبْهَة إِن قَالَ كَانَ الصّديق رَضِي الله عَنهُ أجد قدرا من أَن يكون لَهُ ذنُوب تكون ظلما كثيرا فَإِن ذَلِك يُنَافِي الصديقية وَهَذَا الشُّبْهَة تَزُول بِوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن الصّديق رَضِي الله عَنهُ بل وَالنَّبِيّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِنَّمَا كملت مرتبته وانتهت دَرَجَته وَتمّ علو مَنْزِلَته فِي نهايته لَا فِي بدايته وَإِنَّمَا نَالَ ذَلِك بِفعل مَا أَمر الله بِهِ وَمن الْأَعْمَال الصَّالِحَة وأفضلها التَّوْبَة وَمَا وجد قبل التَّوْبَة فَإِنَّهُ لم ينقص صَاحبه وَلَا يتَصَوَّر أَن بشرا يَسْتَغْنِي عَن التَّوْبَة كَمَا فِي الحَدِيث يَا أَيهَا النَّاس تُوبُوا إِلَى الله فَإِنِّي أَتُوب الى الله فِي الْيَوْم أَكثر من سبعين مرّة وَإنَّهُ ليغان عَن قلبِي فَاسْتَغْفر الله فِي الْيَوْم مائَة وَكَذَلِكَ قَوْله اللَّهُمَّ اغْفِر لي خطأي وجهلي وعمدي وكل ذَلِك عِنْدِي فِيهِ من الِاعْتِرَاف أعظم مَا فِي دُعَاء الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَالصِّدِّيقُونَ رَضِي الله عَنْهُم تجوز عَلَيْهِم جَمِيع الذُّنُوب بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة فصل فَمَا يلقى لأهل المكاشفات والمخاطبات من الْمُؤمنِينَ هُوَ من جنس مَا يكون لأهل الْقيَاس والرأي فَلَا بُد من عرضه على الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فَلَيْسَ أحد من هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ الصديقين مَعْصُوما فَكل من ادّعى غناءه عَن الرسَالَة مكاشفة أَو مُخَاطبَة أَو عصمَة سَوَاء ادّعى ذَلِك لنَفسِهِ أَو لشيخه فَهُوَ من أضلّ النَّاس

وَمن اسْتدلَّ على ذَلِك بِقصَّة الْخضر فَهُوَ من أَجْهَل النَّاس فَإِن مُوسَى لم يكن مَبْعُوثًا إِلَى الْخضر وَلَا كَانَ يجب على الْخضر اتِّبَاعه بل قَالَ لمُوسَى إِنِّي على علم من علم الله علمنيه الله لَا تعلمه وَأَنت على علم من علم الله علمكه الله لَا أعلمهُ وَلما سلم عَلَيْهِ قَالَ وَأَنِّي بأرضك السَّلَام قَالَ أَنا مُوسَى قَالَ مُوسَى بني إِسْرَائِيل قَالَ نعم فالخضر عَلَيْهِ السَّلَام لم يعرف مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى عرفه مُوسَى نَفسه وَأما مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ الرَّسُول إِلَى جَمِيع الْخلق فَمن لم يتبعهُ من جَمِيع من بلغته دَعوته كَانَ كَافِرًا ضَالًّا وَمن قَالَ لَهُ مثل مَا قَالَ الْخضر فَهُوَ كَافِر وَأَيْضًا مَا فعله الْخضر فَلم يكن خَارِجا عَن شَرِيعَة مُوسَى إِذْ لما بَين لَهُ الْأَسْبَاب أقره على ذَلِك فَكَانَ قد علم الْخضر الأسبا الَّتِي أَبَاحَتْ لَهُ ذَلِك الْفِعْل وَلم يكن يعلمهَا مُوسَى كَمَا يدْخل الرجل على غَيره فيأكل طَعَامه وَيَأْخُذ مَاله لعلمه بأذنه مَأْذُون لَهُ وَأَيْضًا فَإِن الْخضر إِن كَانَ نَبيا فَلَيْسَ لغيره أَن يتشبه بِهِ وَإِن يكن نَبيا وَهُوَ قَول الْجُمْهُور فَأَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا أفضل مِنْهُ فَإِن هَذِه الْأمة خير أمة أخرجت للنَّاس وَأَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا خِيَارهَا وَكَانَ حَالهمَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا قد علم من الطَّاعَة لأَمره وَنحن مأمورون أَن نقتدي بهما بل من اعْتقد أَنه يجوز لَهُ أَن يخرج عَن طَاعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتصديقه فِي شئ من أُمُوره الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة فَإِنَّهُ يجب استتابته فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل كَائِنا من كَانَ

وَأما مَا ذكره الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي أَصْنَاف الرَّحْمَة فَلَا ريب أَن الرَّحْمَة أَصْنَاف متنوعة كَمَا ذكره وَلَيْسَ فِي الحَدِيث رَحْمَة من عنْدك وَإِنَّمَا فِيهِ فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك وَلَكِن مَقْصُوده أَن يشبه هَذِه بقوله وهب لنا من لَدُنْك رَحْمَة وَقد جعل هَذِه الْمَغْفِرَة من عِنْده سُبْحَانَهُ مغْفرَة مَخْصُوصَة لَيست مِمَّا يبْذل للعامة كَمَا أَن الرَّحْمَة الخصوصة لَيست مِمَّا يبْذل للعامة وَهَذَا الككلام فِي بعضه نظر وَهُوَ كَغَيْرِهِ من المصنفين فِي كَلَامه مَرْدُود ومقبول فَلَيْسَ فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مغْفرَة من عنْدك وَلَكِن فِي قَول الراسخين هَب لنا من لَدُنْك رَحْمَة وَنَحْو ذَلِك لَا يَقْتَضِي اخْتِصَاص هَذَا الشَّخْص دون غَيره وَإِلَّا لما سَاغَ لغيره أَن يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاء وَهُوَ خلاف الاجماع أَو تَفْسِير اللَّفْظ بِمَا لَا يدل عَلَيْهِ وَقد قَالَ زَكَرِيَّا هَب لي من لَدُنْك ذُرِّيَّة طيبَة وَلم تكن الذُّرِّيَّة مُخْتَصَّة بِهِ وَلَا بالأنبياء بل الله يخرج الْأَنْبِيَاء من الْكفَّار إِذا شَاءَ وَلَكِن بمشيئته وَالله أعلم أَنه إِذا قَالَ من عنْدك وَمن لَدُنْك كَانَ مَطْلُوبا بِغَيْر فعل العَبْد فَإِن مَا يُعْطِيهِ الله العَبْد على وَجْهَيْن مِنْهُ مَا يكون بِسَبَب فعله كالرزق الَّذِي يرزقه الله بِكَسْبِهِ والسيئات الَّتِي يغفرها الله بِالْحَسَنَاتِ الماحية وَالْولد الَّذِي يُعْطِيهِ الله بِالنِّكَاحِ الْمُعْتَاد وَالْعلم الَّذِي يَنَالهُ بالتعلم وَمِنْه مَا يُعْطِيهِ للْعَبد ولايحوجه إِلَى السَّبَب الَّذِي ينَال بِهِ فِي غَالب الْأُمُور كَمَا أعْطى زَكَرِيَّا الْوَلَد مَعَ أَن امْرَأَته كَانَت عاقرا وَقد بلغ هُوَ من الْكبر عتيا فَهَذَا وهبه لَهُ الله من لَدنه لَيْسَ بالاأسباب الْمُعْتَادَة وَكَذَلِكَ الَّذِي علمه الْخضر من لَدنه لميكن بالتعلم الْمَعْهُود وَكَذَلِكَ الرَّحْمَة الْمَوْهُوبَة وَلِهَذَا قَالَ إِنَّك أَنْت الْوَهَّاب وَقَوله مغْفرَة من عنْدك لم يقل فِيهِ من لَدُنْك بل من عنْدك وَمن النَّاس من يفرق بَين لَدُنْك وعندك كَمَا يفرق بَين التَّقْدِيم

وَالتَّأْخِير فَإِن لم يكن بَينهمَا فرق فقد يكون المُرَاد اغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك لَا أطلبها بِأَسْبَاب لِأَنَّهَا من عزائم الْمَغْفِرَة الَّتِي يغْفر لصَاحِبهَا كَالْحَجِّ وَالْجهَاد وَنَحْوه بل اغْفِر لي مغْفرَة توجبها لي وتجود بهَا على بِلَا عمل يَقْتَضِي تِلْكَ الْمَغْفِرَة وَمن الْمَعْلُوم أَن الله قد يغْفر الذُّنُوب بِالتَّوْبَةِ وَقد يغفرها بِالْحَسَنَاتِ أَو بالمصائب وَقد يغفرها بِمُجَرَّد اسْتِغْفَار العَبْد وسؤاله أَن يغْفر لَهُ فَهَذِهِ مغْفرَة من عِنْده فَهَذَا الْوَجْه إِذا فسر بِهِ من عنْدك كَانَ أحسن وأشبه مِمَّا ذكر من الِاخْتِصَاص وَأما قَوْله والأشياء كلهَا من عِنْده فَيُقَال الْأَشْيَاء وَجْهَان مِنْهَا مَا جعل بِسَبَب من العَبْد يُوفيه عمله وَمِنْهَا مَا يَفْعَله بِدُونِ ذَلِك السَّبَب بِلَا حَاجَة لسؤاله إحسانا إِلَيْهِ وَاسْتِعْمَال لفظ من عنْدك فِي هَذَا الْمَعْنى مُنَاسِب دون تَخْصِيص لبَعض النَّاس دون بعض فَإِن قَوْله من عنْدك دلَالَته على الأول أبين وَلِهَذَا يَقُول الرجل لمن يطْلب مِنْهُ أَعْطِنِي عَن عنْدك لما يَطْلُبهُ مِنْهُ بِغَيْر سَبَب بِخِلَاف مَا يَطْلُبهُ من الْحُقُوق الَّتِي عَلَيْهِ كَالدّين وَالنَّفقَة الْوَاجِبَة فَلَا يُقَال من عنْدك وَالله تَعَالَى أعلم وَإِن كَانَ الْخلق لَا يوجبون عَلَيْهِ شَيْئا فَهُوَ قد كتب على نَفسه الرَّحْمَة وَحرم الظُّلم على نسه وَأوجب بوعده مَا يجب لمن وعده إِيَّاه فَهَذَا قد يصير وَاجِبا بِحكم إِيجَاب وعده بِخِلَاف مَا لم يكن كَذَلِك فاستعمال من عنْدك يُرَاد بِهِ أَن تكون مغْفرَة تجود بهَا أَنْت لَا تحوجني فِيهَا إِلَى خلقك وَلَا أحتاج إِلَى أحد يشفع فِي أَو يسْتَغْفر لي وَاسْتِعْمَال لفظ من عنْدك فِي مثل هَذَا مَعْرُوف كَمَا فِي حَدِيث كَعْب ابْن مَالك رَضِي الله عَنهُ لما قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبشر بِخَير يَوْم

فصل

مر عَلَيْك مُنْذُ وَلدتك أمك فَقَالَ من عنْدك أم من عِنْد الله تَعَالَى فَقَالَ بل هُوَ من عِنْد الله وَأخْبرهُ أَنه تَابَ عَلَيْهِ من عِنْده وكلا الْوَجْهَيْنِ فِي قَول مَرْيَم عَن رزقها هُوَ من عِنْد الله فَلَمَّا كَانَ الرزق لَا يَأْتِي بِهِ بشر وَلم تسع فِيهِ السعى الْمُعْتَاد قَالَت هُوَ من عِنْد الله فَهَذَا الْمعَانِي وَمَا يُنَاسِبهَا هِيَ الَّتِي يشْهد لَهَا اسْتِعْمَال هَذَا اللَّفْظ وَإِن قَالَ قَائِل وَكَذَلِكَ كَلَام الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ أَرَادَ بِهِ مثل هَذَا كَانَ مُحْتملا وَقد قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ احْمِلْ كَلَام أَخِيك على أحْسنه حَتَّى يَأْتِيك مَا يَغْلِبك مِنْهُ وَالله أعلم وَالتَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَار قد يكونَانِ من ترك الْأَفْضَل والذم والوعيد لَا يكونَانِ إِلَّا على ذَنْب وَمن سمع الْمُؤَذّن وَهُوَ فِي صَلَاة أتمهَا وَلَا يَقُول مثل مَا يَقُول عِنْد الْجُمْهُور كَمَا لَو سمع غَيره يقْرَأ سَجْدَة لم يسْجد فِي الصَّلَاة عِنْد الْجُمْهُور وَقَول لَيْسَ رلا الله وَمَا ثمَّ رلا الله مُجمل يحْتَمل حَقًا وباطلا فصل روى أَبُو ذَر رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يرْوى عَنهُ ربه تبَارك وَتَعَالَى أَنه قَالَ يَا عبَادي إِنِّي حرمت الظُّلم على نَفسِي وَجَعَلته بَيْنكُم محرما فَلَا تظلموا الحَدِيث فَقَوله حرمت الظُّلم على نَفسِي فِيهِ مَسْأَلَتَانِ كبيرتان كل مِنْهُمَا ذَات شعب وفروع

إِحْدَاهمَا أَن الظُّلم الَّذِي حرمه الله ونفاه نَفسه بقوله وَمَا ظلمنَا لَهُم وَقَوله {وَلَا يظلم رَبك أحدا} {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} {إِن الله لَا يظلم مِثْقَال ذرة} {وَلَا تظْلمُونَ فتيلا} {وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد} {فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضما} فقد تنَازع النَّاس فِي معنى هَذَا الظُّلم تنَازعا صَارُوا فِيهِ بَين طرفين ووسط بَينهمَا وَخير الْأُمُور أوسطها وَذَلِكَ بِسَبَب الْبَحْث فِي الْقدر ومجامعته للشَّرْع إِذا الْخَوْض فِيهِ بِغَيْر علم تَامّ أوجب ضلال عَامَّة الْأُمَم وَلِهَذَا نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه عَن التَّنَازُع فِيهِ فَذهب الكذبون بِالْقدرِ الْقَائِلُونَ بِأَن الله لم يخلق أَفعَال الْعباد وَلم يرد أَن يكون رلا مَا أَمر بِأَن يكون وغلاتهم المكذبون بِتَقْدِيم علم الله وَكتابه سَيكون من أَفعَال الْعباد من الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم إِلَى أَن الظُّلم مِنْهُ تَعَالَى هُوَ نَظِير الظُّلم من الْآدَمِيّين بَعضهم لبَعض وشبهوه ومثلوه فِي الْأَفْعَال بزفعال الْعباد حَتَّى كَانُوا هم ممثلة الْأَفْعَال وضربوا لله الْأَمْثَال ولميجعلوا لَهُ الْمثل الْأَعْلَى بل أوجبوا عَلَيْهِ وحرموا مَا رَأَوْا أَنه يجب على الْعباد وَيحرم بقياسه على الْعباد قَالُوا إِذا أَمر العَبْد وَلم يعنه بِجمع مَا يقدر بِهِ عَلَيْهِ من وُجُوه الْإِعَانَة كَانَ ظَالِما لَهُ والتزموا أَنه لَا يقدر أَن يهدي ضَالًّا كَمَا قَالُوا إِنَّه لَا يقدر أَن يضل مهتديا وَقَالُوا إِذا أَمر اثْنَيْنِ بِأَمْر وَاحِد وَخص أَحدهمَا باعانته على فعل الْمَأْمُور كَانَ ظلما إِلَى أَمْثَال ذَلِك من الْأُمُور الَّتِي هِيَ من بَاب الْفضل وَالْإِحْسَان جعلُوا تَركه لَهَا ظلما وَكَذَلِكَ ظنُّوا أَن التعذيب لمن كَانَ فعله مُقَدرا ظلم لَهُ وَلم يفرقُوا بَين التعذيب لمن قالم بِهِ سَبَب اسْتِحْقَاق ذَلِك وَمن لم يقم بِهِ سَببه وَإِن كَانَ ذَلِك الِاسْتِحْقَاق لحكمة أُخْرَى عَامَّة أَو خَاصَّة وَهَذَا الْموضع زلت فِيهِ أَقْدَام وضلت فِيهِ أفهام

فعارض هَؤُلَاءِ آخَرُونَ من أهل الْكَلَام المثبتين للقدر وَقَالُوا لَيْسَ الظُّلم مِنْهُ حَقِيقَة يُمكن وجودهَا بل هُوَ من الْأُمُور الممتنعة لذاتها فَلَا يجوز أَن يكون مَقْدُورًا وَلَا أَن يُقَال إِنَّه تَارِك لَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَإِنَّمَا هُوَ من بَاب الْجمع بَين الضدين وَجعل الْجِسْم الْوَاحِد فِي مكانين وقلب الْقَدِيم مُحدثا ورلا فمهما قدر فِي الذِّهْن وَكَانَ وجوده مُمكنا فَالله قَادر عَلَيْهِ فَلَيْسَ بظُلْم مِنْهُ سَواد فعله أَو لم يَفْعَله وتلقى هَذَا القَوْل عَن هَؤُلَاءِ طوائف من أهل الاثبات من الْفُقَهَاء وَأهل الحَدِيث من أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَغَيرهم وَمن شرح الحَدِيث وفسروا هَذَا الحَدِيث بِمَا يَنْبَنِي عَليّ هَذَا القَوْل وَرُبمَا احْتَجُّوا بظواهر أَقْوَال مآثورة كَمَا روينَا عَن إِيَاس بن مُعَاوِيَة أَنه قَالَ مَا ناظرت بعقلي كُله أحدا رلا الْقَدَرِيَّة قلت لَهُم مَا لاظلم قَالُوا أَن تَأْخُذ مَا لَيْسَ لَك أَو تتصرف فِيمَا لَيْسَ لَك قلت فَللَّه كل شئ وَلَيْسَ هَذَا من إِيَاس إِلَّا ليبين أَن التَّصَرُّفَات الْوَاقِعَة فِي مكله تَعَالَى فَلَا يكن ظلما بِمُوجب حَدهمْ وَهَذَا لَا نزاع فِيهِ بَين أهل الْإِثْبَات فَإِنَّهُم متفقون مَعَ أهل الْإِيمَان بِالْقدرِ على أَن كل مَا فعله الله فَهُوَ عدل فَرَأى إِيَاس أَن هَذَا الْجَواب المطابق لحدهم خَاصم لَهُم وَلم يدْخل مَعَهم فِي التَّفْصِيل الَّذِي يطول وَبِالْجُمْلَةِ كَمَا قَالَ ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن لغيلان حِين قَالَ لَهُ غيلَان نشدتك الله أَتَرَى الله يحب ان يَعْصِي فَقَالَ ربيعَة نشدتك الله أرى الله يعْصى قسرا فَكَأَنَّمَا ألقمه حجرا فَإِن قَوْله يحب أَن يَعْصِي لفظ فِيهِ إِجْمَال وَقد لَا يَأْتِي فِي المناظرة تَفْسِير المجملات خوفًا من لدد الْخصم فَيُؤتى بالواضحات كَمَا ألزمهُ بِالْعَجزِ الَّذِي هُوَ لَازم للقدرية وَلمن هُوَ شَرّ مِنْهُم من الدَّهْر والفلاسفة

وَغَيرهم فَقَوله لَا يخَاف ظلما وَلَا هضما قَالَ أهل التَّفْسِير لَا يخَاف أَن يظلم فَيحمل عَلَيْهِ سيئات غَيره وَلَا يهضم فينقصه من حَسَنَاته وَلَا يجوز أَن يكون هَذَا الظُّلم هُوَ شَيْئا مُمْتَنعا غير مَقْدُور عَلَيْهِ فَيكون التَّقْدِير فَلَا يخَاف مَا هُوَ مُمْتَنع لذاته خَارج عَن الممكنات والمقدورات فَإِن مثل هَذَا إِذا لم يكن وجوده مُمكنا حَتَّى يَقُولُوا إِنَّه غير مَقْدُور وَلَو أَرَادَهُ كخلق الْمثل فَكيف يعقل وجوده فضلا عَن أَن يتَصَوَّر خَوفه حَتَّى ينفى خَوفه ثمَّ أى فَائِدَة فِي نفي خوف هَذَا وَقد علم من سِيَاق الْكَلَام أَن الْمَقْصُود بَيَان أَن هَذَا الْعَامِل لَا يجزى على إحسانه بالظلم والهضم فَعلم أَن الظُّلم المنفى يتَعَلَّق بالجزاء كَمَا ذكره أهل التَّفْسِير وَأَن الله لَا يجْزِيه رلا بِعَمَلِهِ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَاب أَن الله لَا يعذب رلا من أذْنب وَكَذَا قَوْله وَمَا رَبك بظلام للعبيد يدل الْكَلَام على أَنه لَا يظلم محسنا فينقصه من حَسَنَاته أَو يَجْعَلهَا لغيره وَلَا يظلم مسيئا فَيحمل عَلَيْهِ إساءة غَيره بل لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا أكتسبت وَهَذَا كَقَوْلِه {أم لم ينبأ بِمَا فِي صحف مُوسَى وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وفى أَلا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} فَلَيْسَ على أحد وزر غَيره وَلَا يسْتَحق أحد إِلَّا ماسعاه وكلا الْقَوْلَيْنِ حق على ظَاهره وَكَذَلِكَ قَوْله فِيمَن عاقبهم وَمَا ظلمناهم كَانُوا هم الظَّالِمين بَين أَن عِقَاب الْمُجْرمين عدل لذنوبهم واخاذهم الْآلهَة الَّتِي لَا تغنى عَنْهُم شَيْئا لَا لأَنا ظلمناهم فعاقبناهم لغير ذَنْب وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم مثل يَوْم الْأَحْزَاب مثل دأب قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من بعدهمْ وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد} بَين أَن هَذَا الْعقَاب لم يكن ظلما بل هُوَ لاستحقاقهم ذَلِك وزيضا فَالْأَمْر الَّذِي لَا يُمكن الْقُدْرَة عَلَيْهِ لَا يصلح أَن يمدح الممدوح بِعَدَمِ

فصل

إِرَادَته وَفعله وَإِنَّمَا يكون الْمَدْح بترك الْأَفْعَال إِذا كَانَ الممدوح قَادِرًا عَلَيْهَا فَعلم أَنه قَادر على مَا نزه نَفسه عَنهُ من الظُّلم وَأَنه لَا يَفْعَله وَبِذَلِك يَصح قَوْله إِنِّي حرمت الظُّلم على نَفسِي فَلَا يجوز أَن يكون فِيمَا هُوَ مُمْتَنع لذاته فَلَا يصلح أَن يُقَال حرمت أَو منعت نَفسِي من خلق مثلي أَو من جعل الْمَخْلُوقَات خالقه وَنَحْو ذَلِك من المحالات الَّتِي يعلم كل أحد أَنَّهَا لَيست مرَادا للرب وَالَّذِي قَالَه النَّاس إِن الظُّلم وضع الشئ فِي غير مَوْضِعه يتَنَاوَل هَذَا الْمَقْدُور دون ذَاك الْمُمْتَنع كَقَوْل بَعضهم الظُّلم إِضْرَار غير الْمُسْتَحق فَالله لَا يُعَاقب أحدا بِغَيْر حق وَكَذَلِكَ من قَالَ هُوَ نقص الْحق كَقَوْلِه {كلتا الجنتين آتت أكلهَا وَلم تظلم مِنْهُ شَيْئا} وَمن قَالَ هُوَ التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر فَلَيْسَ بمطرد وَلَا منعكس فقد يتَصَرَّف الإسنان فِي ملك غَيره بِحَق وَلَا يكون ظلما وَقد يتَصَرَّف فِي ملكه بِغَيْر حق فَيكون ظلما وظلم العَبْد نَفسه كثير فِي الْقُرْآن فصل فَتبين بِمَا قدمْنَاهُ الْوسط وَهُوَ الْحق أَن الظُّلم الَّذِي حرمه الله عَليّ نَفسه مثل أَن يتْرك حَسَنَات المحسن فَلَا يجْزِيه بهَا ويعاقب البرئ على مالم يَفْعَله من السَّيِّئَات ويعاقب هَذَا بذنب غَيره أَو يحكم بَين النَّاس بِغَيْر الْقسْط وَنَحْو ذَلِك من الْأَفْعَال الَّتِي نزه نَفسه سُبْحَانَهُ عَنْهَا لقسطه وعدله وَهُوَ قَادر عَلَيْهَا وَإِنَّمَا اسْتحق الْحَمد وَالثنَاء لِأَنَّهُ ترك هَذَا الظُّلم وَهُوَ قَادر عَلَيْهِ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة للنَّاس فِي أَفعَال الله بِاعْتِبَار مَا يصلح مِنْهُ وَيجوز وَمَا لَا يجوز

لَهُ حَتَّى وضعُوا لَهُ شَرِيعَة التَّعْدِيل والتجويز لَا يمعنى أَن الْعقل آمُر لَهُ وناه فَإِن هَذَا لَا يَقُوله عَاقل بل بِمَعْنى أَن تِلْكَ الْأَفْعَال مِمَّا علم بِالْعقلِ وُجُوبهَا وتحريمها وَلَكِن أدخلُوا فِي ذَلِك من النكرات مَا بنوه على بدعتهم من التَّكْذِيب بِالْقدرِ وتوابع ذَلِك الطّرف الثَّانِي الغلاة فِي الرَّد عَلَيْهِم وهم الَّذين قَالُوا لَا ينزه الرب عَن فعل من الْأَفْعَال وَلَا يعلم وَجه امْتنَاع الْفِعْل مِنْهُ إِلَّا من جِهَة خَبره أَنه لَا يَفْعَله المطابق لعلمه بِأَنَّهُ لَا يَفْعَله فَهَؤُلَاءِ منعُوا حَقِيقَة مَا أخبر تَعَالَى بِهِ أَنه كتب على نَفسه الرَّحْمَة وَحرم على نَفسه الظُّلم الطّرف الثَّالِث القَوْل الْوسط أَنه سُبْحَانَهُ عَليّ كل شئ قدير وَله الْخلق وَالْأَمر وَأَنه مَعَ ذَلِك حرم على نَفسه أَشْيَاء وَأخْبر أَنه لَا يَفْعَلهَا وَهِي مقدورة لَهُ وَيتْرك أَشْيَاء مَعَ قدرته عَلَيْهَا لِأَنَّهُ عَادل لَيْسَ بظالم كَمَا ينزه نَفسه عَن عُقُوبَة الْأَنْبِيَاء وكما ينزه نَفسه أَن يحمل البرئ ذنُوب الْمُعْتَدِينَ وَقَوله لَا تظالموا فِيهِ كل الدّين فالجملة الأولى قَوْله إِنِّي حرمت الظُّلم عَليّ نَفسِي يجمع حل مسَائِل الصِّفَات إِذا أَعْطَيْت حَقّهَا من التَّفْسِير وَهَذِه تَتَضَمَّن الدّين كُله فَإِن كل مانهى الله عَنهُ واجع إِلَى اظلم وكل مَا أَمر بِهِ رَاجع إِلَى الْعدْل وَلما ذكر مَا أوجبه من الْعدْل وَحرمه منالظلم عَليّ نَفسه وَعلي عباده ذكر إحسانه إِلَى عباده مَعَ غناهُ عَنْهُم وفقرهم رليه وَأَنَّهُمْ لَا يقدرُونَ على جلب مَنْفَعَة لأَنْفُسِهِمْ وَلَا دفع مضرَّة رلا أَن يكون هُوَ سُبْحَانَهُ الميسر لذَلِك وَأمر الْعباد بِأَن يسألوه ذَلِك وَأخْبر أَنهم لَا يقدرُونَ عَليّ نَفعه وَلَا ضره مَعَ عظم مَا يوصله إِلَيْهِم من النعماء وَمَا يدْفع عَنْهُم من الْبلَاء وجلب الْمَنْفَعَة وَدفع الْمضرَّة إِمَّا أَن يكون للدّين أَو الدُّنْيَا فَصَارَت أَرْبَعَة أَقسَام

الْهِدَايَة وَالْمَغْفِرَة وهما جلب الْمَنْفَعَة وَدفع الْمضرَّة فِي الدّين وَالطَّعَام والسكوة وهما جلب الْمَنْفَعَة وَدفع الْمضرَّة فِي الدُّنْيَا وَإِن شِئْت قلت الْهِدَايَة وَالْمَغْفِرَة متعلقتان بِالْقَلْبِ الَّذِي ملك الْبدن وَهُوَ الأَصْل فِي الْأَعْمَال الإرادية وَالطَّعَام وَالْكِسْوَة متعلقتان بِالْبدنِ الطَّعَام لجلب الْمَنْفَعَة وَالْكِسْوَة لدفع الْمضرَّة وَفتح الْأَمر كُله بالهداية فَإِنَّهَا وَإِن كَانَت الْهِدَايَة النافعة هِيَ الْمُتَعَلّقَة بِالدّينِ فَكل أَعمال النَّاس تَابِعَة لهداية الله إيَّاهُم قَالَ وَالَّذِي قدر فهدى وهديناه النجدين إِنَّا هديناه اليسبيل وَلِهَذَا قيل إِن الْهِدَايَة النافعة أَرْبَعَة أَقسَام أَحدهَا الْهِدَايَة إِلَيّ مصَالح الدُّنْيَا الثَّانِي الْهِدَايَة بِمَعْنى دُعَاء الْخلق إِلَى مَا يَنْفَعهُمْ وَأمرهمْ بذلك الثَّالِث الَّذِي لاا يقدر عَلَيْهِ رلا الله وَهُوَ جعل الْهدى فِي الْقلب لقَوْله تَعَالَى {من يهد الله فَهُوَ الْمُهْتَدي} وَهُوَ لذِي يُسَمِّيه بَعضهم بالإلهام والإرشاد وَهَذَا يُنكر الْقَدَرِيَّة أَن يكون الله هُوَ الْفَاعِل لَهُ بل يَزْعمُونَ أَن العَبْد يهدي نَفسه وَهَذَا الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم حَيْثُ قَالَ فاستهدوني أهدكم بعد قَوْله {كلكُمْ ضال إِلَّا من هديته} وَعِنْدهم لَا يقدر الله على شئ من الْهدى رلا مَا فعله من إرْسَال الرُّسُل وَنصب الْأَدِلَّة وإزاحة الْعِلَل وَلَا مزية للْكَافِرِ عَليّ الْمُؤمن فِي هِدَايَة الله وَلَا نعْمَة لله على الْمُؤمن عِنْدهم أعظم من نعْمَته على الْكَافِر فِي بَاب الْهدى وَالْقسم الرَّابِع الْهدى فِي الآخر كَمَا قَالَا لله تَعَالَى {وهدوا إِلَى الطّيب من القَوْل وهدوا إِلَى صِرَاط الحميد} وَأما قَوْله {كلكُمْ جَائِع إِلَّا من أطعمته وكلكم عَار إِلَّا من كسوته} فَيَقْتَضِي أصلين عظيمين أَحدهمَا وجوب التَّوَكُّل عَليّ الله فِي الرزق واللباس وَأَنه لَا يقدر أحد

غير الله ذَلِك قدرَة مُطلقَة وَالْقُدْرَة الَّتِي تحصل لبَعض الْعباد تكون على بعض أَسبَاب ذَلِك وَلِهَذَا قَالَ {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ} فَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَات مَا هُوَ وَحده سَبَب تَامّ لحُصُول الْمَطْلُوب فَمن ظن الِاسْتِغْنَاء بِالسَّبَبِ عَن التَّوَكُّل فقد ترك الْوَاجِب عَلَيْهِ من التَّوَكُّل وأخل بِوَاجِب التَّوْحِيد وَلِهَذَا يخذل هَؤُلَاءِ كَمَا أَن من دخل فِي التَّوَكُّل وَترك مَا أَمر بِهِ من الْأَسْبَاب فَهُوَ جَاهِل ظَالِم عَاص لله يتْرك مَا أمره بِهِ فان فعل الْمَأْمُور بِهِ عبَادَة الله قَالَ الله {فاعبده وتوكل عَلَيْهِ} {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} وَفِي هَذَا رد على من جعل الْأَخْذ بِالسَّبَبِ نقصا أَو قدحا فِي التَّوْحِيد والتوكل وَأَن تَركه من كَمَال التَّوَكُّل وَهُوَ ملبوس عَلَيْهِم وَقد يقْتَرن بذلك اتِّبَاع الْهوى وميل النَّفس إِلَى البطالة وَلِهَذَا تجدعامة هَذَا الضَّرْب يتعلقون بِأَسْبَاب دون ذَلِك إِمَّا بالخلق رَغْبَة وَرَهْبَة وَإِمَّا أَن يتْركُوا وَاجِبَات أَو مستحبات أَنْفَع لَهُم من ذَلِك كمن يصرف همته فِي توكله إِلَى شِفَاء مَرضه بلادواء أَو نيل رزقه بِلَا سعى فقد يحصل لَهُ ذَلِك وَلَكِن كَانَت مُبَاشرَة الدَّوَاء وَالسَّعْي الْيَسِير وَصرف الهمة فِي عمل صَالح أَنْفَع لَهُ وَفَوق هَؤُلَاءِ من يَجْعَل التَّوَكُّل والدعاد نقصا وانقطاعا عَن الْخَاصَّة أَن مُلَاحظَة مَا فرغ مِنْهُ فِي الْقدر هُوَ حَال الْخَاصَّة فقد قَالَ هَذَا {كلكُمْ جَائِع إِلَّا من أطعمته وكلكم عَار إِلَّا وَكسوته فاستطعموني أطْعمكُم واستكسوني أكسكم} وَإِنَّمَا غلطوا لظنهم أَن سبق التَّقْدِير بِمَنْع أَن يكون بِالسَّبَبِ الْمَأْمُور بِهِ كمن يتزندق فَيتْرك الْأَعْمَال الْوَاجِبَة بِنَاء على زن الْقدر قد سبق بِأَهْل السَّعَادَة والشقاوة أَو لم يعلم أَن الْقدر سبق بالأمور على ماهي عَلَيْهِ بِأَسْبَاب بهَا وَطَائِفَة تظن أَن التَّوَكُّل إِنَّمَا هُوَ من مقامات الْخَاصَّة المتقربين بالنوافل وَكَذَلِكَ قَوْلهم فِي أَعمال الْقلب وتوابعها من الْحبّ والرجاء وَالْخَوْف وَالشُّكْر

وَنَحْوه وَهَذَا ضلال مُبين بل جَمِيع هَذِه الْأُمُور فرض على الْأَعْيَان بِاتِّفَاق أهل الْإِيمَان وقله {يَا عبَادي إِنَّكُم تخطئون باليل وَالنَّهَار وَأَنا أَغفر الذُّنُوب جَمِيعًا} فالمغفرة الْعَامَّة نَوْعَانِ أَحدهمَا الْمَغْفِرَة لمن تَابَ وَهَذِه عَامَّة فِي جَمِيع الذُّنُوب على الصَّحِيح خلافًا لمن يسْتَثْنى بعض الذُّنُوب كتوبة الداعية إِلَى الْبدع لَا تقبل بَاطِنا وكتوبة الْقَاتِل وَنَحْوه لِأَن الله قد ذكر أَنه يَتُوب على أَئِمَّة الْكفْر الَّذِي هُوَ أعظم من الْبدع وَغَيرهم وَالتَّوْبَة الْعَامَّة كَمَا فِي قَوْله تعال ي {قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} النَّوْع الثَّانِي من الْمَغْفِرَة الْعَامَّة الَّتِي دلّ عَلَيْهَا قَوْله {يَا عبَادي إِنَّكُم تخطئون بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وَأَنا أَغفر الذُّنُوب جَمِيعًا} الْمَغْفِرَة بِمَعْنى تَخْفيف الْعَذَاب أَو تَأْخِيره إِلَى أحل مُسَمّى وَهَذَا عَام مُطلقًا وَلِهَذَا شفع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي زبي طَالب مَعَ مَوته على الشّرك فَنقل من غنرة النَّار حَتَّى جعل فِي ضحضاح يغلى مِنْهَا رَأسه وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بِمَا كسبوا مَا ترك على ظهرهَا من دَابَّة} {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} وَأما قَوْله {إِنَّكُم لن تبلغوا ضرى فتضروني وَلنْ تبلغو نفعي فتنفعوني} فَإِنَّهُ بَين بذلك إِنَّه لَيْسَ هُوَ بمستعيض فِيمَا يحسن بِهِ إِلَيْهِم من إِجَابَة الدعْوَة وغفران الذُّنُوب بذلك جلب مَنْفَعَة أَو دفع مضرَّة كَمَا يَفْعَله الْخلق مَعَ بَعضهم لبَعض فَقَالَ {إِنَّكُم لن تبلغوا ضرى فتضروني وَلنْ تبلغوا نفعى فتنفعوني} فلست إِذا هديتكم وأطعمتكم وكسوتكم بِالَّذِي أطلب أَن تنفعواني وَلَا إِذا غفرت خَطَايَا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار أتقى بذلك أَن تضروني فَإِنَّكُم لن تبلغوا ذَلِك بل عاجزون عَن ذَلِك كُله بل لَا تقدرون رلا عَليّ مَا أقدره لكم وأريده وَكَذَلِكَ مَا يَأْمُركُمْ

بِهِ من الطَّاعَات وَمَا يَنْهَاكُم عَنهُ من السيذات فَإِنَّهُ لَا يتَضَمَّن استجلاب نَفعه كأمر السَّيِّد لعَبْدِهِ وَالْوَالِد لوَلَده وَلَا دفع مضرتهم كنهى هَؤُلَاءِ وَغَيرهم فنزه نَفسه سُبْحَانَهُ عَن لُحُوق نفعهم وضرهم فَلهَذَا ذكر هذَيْن الْأَصْلَيْنِ بعد ذَلِك فَذكر أَن برهم وفحورهم وطاعتهم ومعصيتهم لَا تزيد ملكه وَلَا تنقص وَأَن مَا يعطيهم غَايَة مَا يسألونه نسبته إِلَيّ مَا عِنْده أدنى نِسْبَة فَقَالَ {يَا عبَادي لَو أَن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم على أفجر قلب رجل وَاحِد مَا زَاد ذَلِك فِي ملكي شَيْئا وَلَو أَن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كَانُوا على أتقى قلب رجل مِنْكُم مَا زَاد ذَلِك فِي ملكي شَيْئا} إِذْ ملكه قدرته عَليّ التَّصَرُّف فَلَا تزيد وَلَا تنقص كَمَا تزداد قدرَة الْملك بِكَثْرَة المطعين لَهُ وتنقص بقلة المطيعين فرن ملكه سُبْحَانَهُ مُتَعَلق بِنَفسِهِ وَهُوَ خَالق كل شئ وربه يُؤْتِي الْملك من يَشَاء وينزعه مِمَّن شاد ثمَّ ذكر حَالهم فِي النَّوْعَيْنِ سُؤال بره وَطَاعَة أمره اللَّذين ذكرهمَا فِي الحَدِيث وَذكر الاستهداء والاستطعام والاستكساء وَذكر الغفران وَالْبر والفجور فَقَالَ {لَو أَن أولكم وأخركم وإنسكم جنكم قَامُوا فِي صَعِيد وَاحِد فسألوني فَأعْطيت كل وَاحِد مَسْأَلته مَا نقص ذَلِك مِمَّا عِنْدِي أَلا كَمَا ينقص الْمخيط أذا أَدخل الْبَحْر} فَذكر أَن جَمِيع الْخَلَائق إِذا سَأَلُوهُ وهم فِي مَكَان وَاحِد وزمان وَاحِد فَأعْطى كل وَاحِد مَسْأَلته لم ينقص ذَلِك مماعنده رلا كَمَا ينقص الْمخيط وَهِي الإبرة إِذا غمس فِي الْبَحْر وَقَوله لم ينقص مِمَّا عِنْدِي فِيهِ قَولَانِ أَحدهمَا يدل على أَن عِنْده أمورا مَوْجُودَة

وعَلى هَذَا فَيُقَال لفظ النَّقْص على حَاله لِأَن الْإِعْطَاء من الْكثير وَإِن كَانَ قَلِيلا فَلَا بُد أَن ينقص شَيْئا مَا وَمن رَوَاهُ لم ينقص من ملكي يحمل عَليّ مَا عِنْده وَقد يُقَال الْمُعْطى إِن كَانَ أعيانا قَائِمَة فقد تنقل من مَحل إِلَى مَحل فَيظْهر النَّقْص وَإِن كَانَ صِفَات فَلَا تنقل من محلهَا وَإِنَّمَا يُوجد نظيرها فِي مَحل آخر كَمَا يُوجد نَظِير علم الْمعلم فِي قلب المتعلم من غير زَوَال علم الْمعلم وكما يتَكَلَّم الْمُتَكَلّم بِكَلَام الْمُتَكَلّم قبله من غير انْتِقَال كَلَام الأول إِلَى الثَّانِي وعَلى هَذَا فالصفات لَا تنقص مِمَّا عِنْده شَيْئا وَهِي من المسؤل كالهدى وَقد يُجَاب عَن هَذَا بِأَنَّهُ من الْمُمكن فِي بعض الصِّفَات أَن لَا يثبت مثلهَا فِي الْمحل الثَّانِي حَتَّى تَزُول عَن الأول كاللون وكالروائح الَّتِي تعبق بمَكَان وتزول كَمَا دَعَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ حمى الْمَدِينَة أَن تنْتَقل إِلَيّ الْجحْفَة وَهل هَذَا الِانْتِقَال بانتقال عين الْعرض الأول أَو بِوُجُود مثله من غير انْتِقَال عينه فِيهِ للنَّاس قَولَانِ وَالْقَوْل الثَّانِي أَن النَّقْص هُنَا كالنقص الَّذِي فِي حَدِيث مُوسَى وَالْخضر فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه قَالَ لمُوسَى وَقد وَقع عُصْفُور على قاب السَّفِينَة فَنقرَ فِي الْبَحْر فَقَالَ مَا نقص علمي وعلمك من علم الله إِلَّا كَمَا نقص هَذَا العصفور من هَذَا الْبَحْر وَمَعْلُوم أَن نفس علم الله الْقَائِم بِهِ لَا يَزُول مِنْهُ شئ بتَعَلُّم الْعباد وَإِنَّمَا الْمَقْصُود أَن نِسْبَة علمي وعلمك إِلَى علم الله كنسبة مَا علق بمنقار العصفور إِلَى الْبَحْر وَمن هَذَا الْبَاب كَون الْعلم يُورث وَكتاب يُورث وَتَحْقِيق الْأَمر مَا أحَاط علمي وعلمك من علم الله إِلَّا كَمَا ينقص هذطا العصفور نِسْبَة هَذَا كنسبة هَذَا إِلَيّ هَذَا وَإِن كَانَ الْمُشبه بِهِ جسما ينْقل من مَحل إِلَيّ مَحل يَزُول عَن مَحل وَلَيْسَ الْمُشبه كَذَلِك

فَهَذَا الْفرق يُعلمهُ المستمع من غير التباس ثمَّ خَتمه بتحقيق مَا بَينه فِيهِ من عدله وإحسانه فَقَالَ {إِنَّمَا هِيَ أَعمالكُم أحصيها لكم ثمَّ أَو فِيكُم إِيَّاهَا فَمن وجد خيرا فليحمد الله وَمن وجد غير ذَلِك فَلَا يَلُومن رلا نَفسه} فَبين أَنه محسن رلى عباده فِي الجزاءأ على أَعْمَالهم إحسانا يسْتَحق بِهِ الْحَمد لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنعم بِالْأَمر بهَا والارساد إِلَيْهَا والإعانة عَلَيْهَا ثمَّ إحصائها ثمَّ توفيه جزائها فَكل ذكل فضل مِنْهُ وإحسان فَكل نعْمَة مِنْهُ فضل وكل نقمة مِنْهُ عدل وَإِن كَانَ ذَلِك أوجبه عَليّ نَفسه فَلَيْسَ هُوَ كوجوب حُقُوق النَّاس بَعضهم على بعض لكَون إِحْسَان بعض النَّاس إِلَى بعض لحق الْمُعَاوضَة ورجاء الْمَنْفَعَة وَقد تبين عدم ذَلِك فِي حَقه فَلَيْسَ لأحد من جِهَة نَفسه عَلَيْهِ حق بل هُوَ الَّذِي أَحَق الْحق على نَفسه بكلماته فَهُوَ المحسن بِالْإِحْسَانِ وباحقاقه وكتابته على نَفسه فَهُوَ محسن إحسانا مَعَ إِحْسَان ثمَّ بَين أَنه عَادل فِي الْجَزَاء عَليّ السَّيِّئَات فَقَالَ {وَمن وجد غير ذَلِك فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه} كَمَا تقدم {وَمَا ظلمناهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} وَهَذِه نُكْتَة مختصرة تنبه الْفَاضِل على مَا فِي الْحَقَائِق من لجوامع والفوارق الَّتِي تفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل فِي هَذِه المضايق وَالله ينفعنا وَسَائِر إِخْوَاننَا بِمَا علمنَا ويعلمنا مَا ينفعنا ويريدنا علما وَلَا حول وَلَا قُوَّة رلا بِاللَّه وَعَلِيهِ التكلان

فصل

فصل وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام دَعْوَة أخي ذِي النُّون لَا إِلَه رلا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين مَا دَعَا بهَا مكروب رلا فرج الله تَعَالَى كربته اعْلَم أَن لفظ الدُّعَاء والدعوة يتَنَاوَل معنين دُعَاء الْعِبَادَة ودعاد الْمَسْأَلَة وكل عَابِد سَائل وكل سَائل عَابِد فأحد الاسمين يتَنَاوَل الآخر عِنْد تجرده عَنهُ وَإِذا جمع بَينهمَا فَإِنَّهُ يُرَاد بالسائل الَّذِي يطْلب جلب الْمَنْفَعَة وَدفع الْمضرَّة بصيغ السُّؤَال والطلب وَيُرَاد بالعابد من يطْلب ذَلِك بامتثال الْأَمر وَإِن لم يكن هُنَاكَ صِيغَة سُؤال وَلَا طلب وَلَا يتَصَوَّر زن يَخْلُو دَاع لله دُعَاء عبَادَة أَو دُعَاء مَسْأَلَة من الرغب والرهب وَالْخَوْف والطمع وَمَا يذكر عَن بعض الشُّيُوخ أَنه جعل الْخَوْف والرجاء من مقامات الْعَامَّة فَهَذَا قد يُفَسر مُرَاده بِأَن المقربين يُرِيدُونَ وَجه الله فيقصدون التَّلَذُّذ بِالنّظرِ إِلَيْهِ وَإِن لم يكن هُنَاكَ مَخْلُوق يتلذذ بِهِ سُبْحَانَهُ وَهَؤُلَاء يرجون حُصُول هَذَا الْمَطْلُوب وَيَخَافُونَ حرمانه أَيْضا فَلم يخلوا عَن الْخَوْف والرجاء لككن مرجوهم ومخوفهم بِحَسب مطلوبهم وَمن قَالَ من هَؤُلَاءِ لم أعبدك خوفًا من نارك وَلَا شوقا إِلَى جنتك فَهُوَ يظنّ أَن الْجنَّة اسْم لما يتمتع بِهِ من الْمَخْلُوقَات وَأَن النَّار اسْم لما لَا عَذَاب فِيهِ سوى ألم الْمَخْلُوقَات وَهَذَا قُصُور مِنْهُم عَن فهم مُسَمّى الْجنَّة وَمَا فيهم من النَّعيم بل كل مَا أعد الله لأولياذه فَهُوَ من الْجنَّة وَالنَّظَر إِلَيْهِ هُوَ من الْجنَّة وَلِهَذَا كَانَ أفضل الْخلق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْأَل ربه الْجنَّة ويستعيذ بِهِ من النَّار

مسألة وَقد أنكر على من يَقُول أَسأَلك لَذَّة النّظر إِلَى وَجهك فريق من أخهل الْكَلَام فظنوا أَن الله لَا يتلذذ بِالنّظرِ رلي وَجهه وَأَنه لَا نعيم إِلَّا بمخلوق فغلطوا فِي معنى الْجنَّة كَمَا غلط أُولَئِكَ السائلون لكن أُولَئِكَ طلبُوا مَا يسْتَحق أَن يطْلب وَهَؤُلَاء أَنْكَرُوا ذَلِك وَأما التألم بالنَّار فَهُوَ أَمر ضَرُورِيّ وَمن قَالَ لَو أدخلني النَّار كنت رَاضِيا فَهُوَ عزم مِنْهُ والعزائم قد تَنْفَسِخ عِنْد وجود الْحَقَائِق وَمثل هَذَا يَقع فِي كَلَام طَائِفَة مثل سمنون الَّذِي قال فَلَيْسَ لي فِي سواك حَظّ ... فكيفما شذت فامتحني فَابْتلى بعسر الْبَوْل فَجعل يطوف على صبيان الْمكَاتب وَيَقُول ادعوا لعمكم الْكذَّاب وَبَعض من تكلم فِي علل المقامات وَجعل الْحبّ وَالرِّضَا وَالْخَوْف والرجاء من مقامات الْعَامَّة بِنَاء على مشادة الْقدر وَأَن من نظر إِلَى الْقدر فقد نظر إِلَى تَوْحِيد الْأَفْعَال حَتَّى فنى من لم يكن وبقى من لم يزل يخرج عَن هَذِه الْأُمُور وَهَذَا كَلَام مُسْتَدْرك حَقِيقَة وَشرعا وَأما الْحَقِيقَة فَإِن الْحَيّ لَا يتَصَوَّر إِلَّا حساسا محبا لما يائمه مبغضا لما ينافره وَمن قَالَ إِن الْحَيّ يتَصَوَّر عِنْده أَن يستوى جَمِيع المقدورات فَهُوَ أحد رجلَيْنِ إِمَّا جَاهِل وَإِمَّا مكابر معاند لَا يتَصَوَّر مَا يَقُول فَمن زعم أَن الْمشَاهد لمقام تَوْحِيد الربوبية يدْخل إِلَيّ مقَام الْجمع والفناء فَلَا يشْهد فرقا فَإِنَّهُ غالط غَلطا فَاحِشا بل ال بُد من الْفرق فرنه أَمر ضَرُورِيّ لَكِن إِذا خرج عَن الْفرق الشَّرْعِيّ بقى الْفرق الطبيعي فَيبقى مُتبعا لهواه لَا مُطيعًا لمَوْلَاهُ وَلِهَذَا لما وَقعت هَذِه الْمَسْأَلَة بَين الْجُنَيْد وَأَصْحَابه ذكر لَهُم الْفرق الثَّانِي وَهُوَ أَن يفرق بَين الْمَأْمُور والمحظور وَبَين مَا يُحِبهُ الله ويكرهه مَعَ شُهُوده الْقدر الْجَامِع فَيشْهد الْفرق فِي الْقدر الْجَامِع

وَمن لَا يفرق بَين الْمَأْمُور والمحضور فقد خرج عَن دين الْإِسْلَام وَخرج إِلَى وحدة الْوُجُود الَّتِي لَا يفرق معتقدوها بَين الْخَالِق والمخلوق وَلَكِن لَيْسَ كل هَؤُلَاءِ إِلَيّ هَذَا الْإِلْحَاد بل قد يفرقون من وَجه دون وَجه فيطيعون الله وَرَسُوله تَارَة ويعصون الله وَرَسُوله أُخْرَى كالعصاة من أهل الْقبْلَة ودعوة ذِي النُّون تتَنَاوَل نَوْعي الدُّعَاء فَقَوله لَا إِلَه إِلَّا أَنْت اعْتِرَاف بتوحيد الإلهية وتوحيد الألهية يتَضَمَّن أحد نَوْعي الدعاد فَإِن الْإِلَه هُوَ الْمُسْتَحق لِأَن يدعى عبَادَة وَدُعَاء مَسْأَلَة وهوالله الَّذِي لَا رله رلا هُوَ وَقَوله إِي كنت من الظَّالِمين اعْتِرَاف بالذنب وَهُوَ يتَضَمَّن طلب الْمَغْفِرَة فَإِن الطّلب تَارَة يكون بِصِيغَة الطّلب وَتارَة يسزل بصسغة الْخَبَر إِمَّا بوص حَاله وَإِمَّا بِوَصْف حَال المسذول وَإِمَّا بِوَصْف الْحَالين وَقد صَحَّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أفضل مَا قلت أَنا والنبيون من قبلي يَوْم عَرَفَة لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شئ قدير وَسُئِلَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة رَحمَه الله تَعَالَى عَن أفضل الدُّعَاء فَذكر هَذَا الحَدِيث وَأنْشد قَول أُميَّة بن أبي الصَّلْت يمدح ابْن جدعَان ... أأذكر حَاجَتي أم قد كفاني ... حباؤك إِن شيتك الحباء ... إِذا أثنى عَلَيْك الْمَرْء يَوْمًا ... كَفاهُ من تعرضه الثَّنَاء ... قَالَ فَهَذَا مَخْلُوق يُخَاطب مخلوقا فَكيف بالخالق تَعَالَى وأكمل أَنْوَاع الطّلب مَا تضمن وصف حَال الدَّاعِي والمدعو وَالسُّؤَال بالمطابقة كَحَدِيث أبي بكر رَضِي الله عَنهُ اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا وَلَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك وارحمني إِنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم أَخْرجَاهُ فِي الصحيحن لَكِن صَاحب الْحُوت مقَامه مقَام اعْتِرَاف فَنَاسَبَ حَاله صِيغَة الْوَصْف وَالْخَبَر

فصل

دون صِيغَة الطّلب كَأَنَّهُ قَالَ مَا أصابني الشَّرّ رلا بِسَبَب ذَنبي وَالْمَقْصُود دفع الضَّرَر وَالِاسْتِغْفَار جَاءَ بِالْقَصْدِ الثَّانِي فَلم يذكر صِيغَة الطّلب لاستشعاره أَنه مسئ ظَالِم وَأَنه هُوَ الَّذِي أَدخل الضَّرَر عَليّ نَفسه فَذكر مَا يرفعهُ من الِاعْتِرَاف بظلمه وَقَوله سُبْحَانَكَ يتَضَمَّن تَعْظِيم الرب وتنزيهه عَن الظُّلم والعقوبة بِغَيْر ذَنْب يَقُول أَنْت مقدس منزه عَن ظلمي وعقوبتي بِغَيْر ذَنْب بل أَنا الظَّالِم الَّذِي ظلمت نَفسِي لَا إِلَه إِلَّا أَنْت فَهُوَ الاله الَّذِي يسْتَحق أَن يكون مألوها وَحده مألوه لما يُريدهُ وَيُعْطِيه من الرَّحْمَة وَمَا اتّصف بِهِ من كَمَال الْقُدْرَة وَالْحكمَة وَغير ذَلِك من الصِّفَات الَّتِي تسلتزم أَن سُكُون هُوَ الْحُبُوب غَايَة الجحب المخضوع لَهُ غَايَة الخضوع وَالْعِبَادَة تَتَضَمَّن غياة الْحبّ بغاية الذل وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَنْبَغِي لعبد أَن يَقُول إِنَّه من يُونُس مَتى فَلَيْسَ لأحد من الْعباد أَن يُبرئ نَفسه عَن هَذَا الْوَصْف لَا سِيمَا فِي مقَام مناجاته لرَبه فَمن ظن أَنه خير من يُونُس بن متي فَهُوَ كَاذِب إِذْ زعم أَنه ليسش عَلَيْهِ أَن يعْتَرف بظُلْم نَفسه فَمن ادّعى ذَلِك فقد كذب وَلِهَذَا كَانَ سَادَات الخلاذق يعترفون بذلك كإبراهيم وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصل لفظ الْأَيْمَان إِذا أفرد ذخل فِيهِ الْأَعْمَال الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة مِمَّا يُحِبهُ الله وَرَسُوله وَقيل الْإِيمَان قَول عمل أَي قَول الْقلب وَاللِّسَان وَعمل الْقلب والجوارح وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِيمَان بضع وَسِتُّونَ أَو بضع وَسَبْعُونَ شُعْبَة أَعْلَاهَا قَول ال رله إِلَّا الله وَأَدْنَاهَا إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق وَالْحيَاء شُعْبَة ن الْإِيمَان وَقَوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا} الْآيَة

فالإيمان الْمُطلق يدْخل فِيهِ الْإِسْلَام كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لوفد عبد الْقَيْس آمركُم بِالْإِيمَان بِاللَّه أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَان بِاللَّه شَهَادَة أَلا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّد رَسُول الله وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَأَن تُؤَدُّوا خمس مَا غَنِمْتُم وَلِهَذَا قَالَ من قَالَ من السّلف كل مُؤمن مُسلم وَلَيْسَ كل مُسلم مُؤمنا فَأَما إِذا اقْترن لفظ الْإِيمَان بِالْعَمَلِ أَو بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يفرق بَينهمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وكما فِي الصَّحِيح لما سزله جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَالْإِحْسَان فَقَالَ الْإِسْلَام أَن تشهد أَلا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّد رَسُول الله وتقيم الصَّلَاة وتؤتى الزَّكَاة وتصوم رَمَضَان وتحج الْبَيْت قَالَ فَمَا الْإِيمَان قَالَ أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله والبعث بعد الْمَوْت وتؤمن بِالْقدرِ خَيره وشره قَالَ فَمَا الْإِحْسَان قَالَ أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك فَفرق بَين الْإِيمَان وَالْإِسْلَام لما فرق السَّائِل بَينهمَا وَفِي ذَلِك النَّص أَدخل الْإِسْلَام فِي الْإِيمَان لما أفرده بِالذكر وَكَذَلِكَ لفظ الْعَمَل فرن الْإِسْلَام هُوَ من الْعَمَل الظَّاهِر هُوَ مُوجب إِيمَان الْقلب وَمُقْتَضَاهُ وَإِذا حصل إِيمَان الْقلب حصل إِيمَان الْجَوَارِح ضَرُورَة وَلَا بُد فِي إِيمَان الْقلب من تَصْدِيق الْقلب وانقياده ورلا فَلَو زعم أَنه صدق قلبه أَن مُحَمَّد رَسُول الله وَهُوَ ببغضه ويحسده ويستكبر عَن مُتَابَعَته لم يكن قد آمن قلبه وَالْإِيمَان وَإِن تضمن التصذيق فَلَيْسَ هُوَ مُرَاد مَا قَالَه فَلَا يُقَال لكل مُصدق بشئ إِنَّه مُؤمن بِهِ فَلَو قَالَ أَنا أصدق بِأَن الْوَاحِد نصف الْإِثْنَيْنِ وَأَن السماد فَوْقنَا وَالْأَرْض تحتنا وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يُشَاهِدهُ النَّاس لم يقل لهَذَا إِنَّه

مُؤمن بذلك بل لَا يسْتَعْمل رلا فِيمَا أخبر بِهِ عَن شئ من الْأُمُور الغاذبة كَقَوْل إحوة يُوسُف لأبيهم وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا فَإِنَّهُم أَخْبرُوهُ بِمَا غَابَ عَنهُ وَفرق بَين آمن لَهُ وآمن بِهِ فَالْأول يُقَال للمخبر وَالثَّانِي للمخبر بِهِ كَمَا قَالَ إخْوَة يُوسُف وكما قَالَ تَعَالَى {يُؤمن بِاللَّه ويؤمن للْمُؤْمِنين} فَفرق بَين إيمَانه بِاللَّه وإيمانه للْمُؤْمِنين لِأَن المُرَاد تَصْدِيق إِذا أَخْبرُوهُ وَأما إيمَانه بِاللَّه فَهُوَ من بَاب الْإِقْرَار بِهِ وَمِنْه قَوْله {أنؤمن لبشرين مثلنَا} أَي نقر لَهما ولصدقهما وَمِنْه {أفتطمعون أَن يُؤمنُوا لكم} وَقَوله {فَآمن لَهُ لوط} وَمن الْمَعْنى الآخر {يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ} و {آمن الرَّسُول بِمَا أنزل إِلَيْهِ} {وَلَكِن الْبر من آمن بِاللَّه} أَي أقرّ بذلك فالمقصود أَن لفظ الْإِيمَان إِنَّمَا يسْتَعْمل فِي بعض الْأَخْبَار وَهُوَ مَأْخُوذ من الْأَمْن كَالْإِقْرَارِ مَأْخُوذ من قر فالمؤمن صَاحب أَمن كَا الْمقر صَاحب إِقْرَار فَلَا بُد فِي ذَلِك من عمل الْقلب بِمُوجب تَصْدِيقه فَإِذا علم أَن مُحَمَّد رَسُول الله وَلم يقْتَرن بِهِ حبه وَلَا تَعْظِيمه بل كَانَ يحسده فانه لَيْسَ بِمُؤْمِن بل هُوَ كَافِر وَمن هَذَا الْبَاب كفر إِبْلِيس وَفرْعَوْن وَأهل الْكتاب الَّذين يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم فمجرد علم الْقلب لَا يَكْفِي بل لَا بُد من عمل الْقلب بِمُوجب علمه مثل محبَّة الْقلب لَهُ واتباعه لَهُ بل أَشد النَّاس عذَابا مالم لم يَنْفَعهُ الله بِعِلْمِهِ كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من علم لَا ينفع وَلَكِن الْجَهْمِية ظنُّوا أَن مُجَرّد علم الْقلب وتصديقه هُوَ لإيمان وَأَن من دلّ الشَّرْع عَليّ أَنه لَيْسَ بِمُؤْمِن فَإِن ذَلِك يدل على عدم علم قلبه وَهَذَا من أعظم الْجَهْل شرعا وعقلا

وَحَقِيقَة قَوْلهم توجب التَّسْوِيَة بَين الْمُؤمن وَالْكَافِر وَلِهَذَا أطلق الشَّافِعِي وَأحمد وَغَيرهم القَوْل بكفرهم بذلك فَإِن من الْمَعْلُوم أَن الْإِنْسَان يعلم بِقَلْبِه الْحق وَقد يبغضه لغَرَض آخر فَلَيْسَ كل مستكبر عَن الْحق يكون غير عَالم بِهِ فَحِينَئِذٍ لَا بُد من تَصْدِيق الْقلب وَعَمله وَهَذَا معنى قَول السّلف الْإِيمَان قَول وَعمل ثمَّ إِذا تحقق الْقلب بالتصديق والمحبة التَّامَّة المتضمنة للإرادة لزم وجود الْأَفْعَال الظَّاهِرَة فَإِن الْإِرَادَة الجازمة إِذا اقْترن بهَا الْقُدْرَة التَّامَّة ازم وجود المُرَاد قطعا وَأَبُو طَالب وَإِن كَانَ عَالما بِأَن مُحَمَّد رَسُول الله وَهُوَ محب لَهُ فَلم تكن محبته لَهُ كمحبة الله بل لِأَنَّهُ ابْن أَخِيه فَيُحِبهُ لِلْقَرَابَةِ وإدا أحب ظُهُوره فَلَمَّا كَانَ يحصل لَهُ بِهِ من الشّرف والرياسة فَأصل محبوبه الرياسة وَلِهَذَا لما عرض عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشَّهَادَة عِنْد الْمَوْت أحب دينه أَكثر من دين ابْن أَخِيه فَم يقر بِهِ لِئَلَّا يَزُول عَن دينه فَلَو كَانَ حبه كحب أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَغَيره من الْمُؤمنِينَ لنطق بِالشَّهَادَتَيْنِ قطعا فَلهَذَا كَانَ حبه حبا مَعَ الله لَا حبا لله فَلم يقبل الله مِنْهُ مَا فعله مَعَ الرَّسُول من نصرته ومؤازرته لِأَنَّهُ لم يعمله لله بِخِلَاف أبي بكر الَّذِي فعله ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى فَهَذَا يُحَقّق أَن الْإِيمَان والتوحيد لَا بُد فيهمَا من أَعمال الْقلب فَلَا بُد من إخلاص الدّين لله وَالدّين لَا يكون دينا رلا بِعَمَل صَالح وَكَذَا لفظ الْعِبَادَة والتوكل رذا أطلقت الْعِبَادَة دخل فِيهَا التَّوَكُّل وَنَحْوه كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} وَقَوله {اعبدوا ربكُم} وَإِذا قرنت اخْتصّت كَقَوْلِه {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} وَقَوله {فاعبده وتوكل عَلَيْهِ} وتنوع دلَالَة لفظ الشئ فِي عُمُومه وخصوصه بِحَسب الْإِفْرَاد والاقتران

كثير كَلَفْظِ الْمَعْرُوف وَالْمُنكر نَحْو يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن النكر فَيدْخل فِي الْمُنكر كل مَا كرهه الله تَعَالَى كَمَا يدْخل فِي الْمَعْرُوف كل مَا يُحِبهُ وَفِي لفظ الْفَقِير والمسكين إِذا أفرد أَحدهمَا دخل فِيهِ الآخر وَإِذا اقْترن اخْتصَّ وَكَذَا الْإِلَه والرب مثل قَوْله {الْحَمد لله رب الْعَالمين} فَإِن الْإِلَه هُوَ المعبود والرب هُوَ الَّذِي يرب غَيره فيدبره وَلِهَذَا كَانَت الْعِبَادَة مُتَعَلقَة باسم الْإِلَه مُتَعَلق باسم الرب وَلما كَانَت الْعِبَادَة مُتَعَلقَة باسم الله جَاءَت الْأَذْكَار الْمَشْرُوعَة بِهَذَا الِاسْم كَلِمَات الْأَذَان الله أكبر وَمثل الشَّهَادَتَيْنِ والتحيات لله وَالتَّسْبِيح والتهليل سُبْحَانَ الله الْحَمد لله وَالله أكبر وَأما السُّؤَال فكثيرا مَا يَجِيء باسم الرب نَحْو رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا رب أعوذ بك من همزات الشَّيَاطِين رَبِّي إِنِّي ظلمت نَفسِي رَبنَا إِنِّي أسكت من ذريتي بواد غير ذى زرع الْآيَة وَقد نقل عَن مَالك أَنه قَالَ أكره أَن يَقُول فِي دُعَائِهِ يَا سَيِّدي ياحنان يَا منان وَلَكِن بِمَا دعت بِهِ الْأَنْبِيَاء رَبنَا رَبنَا نَقله عَنهُ الْعُتْبِي فِي الْغَنِيمَة فَإِذا سبق إِلَى الْقلب قصد السُّؤَال ناسب أَن يسْأَل باسم الرب وَلَو سَأَلَ باسم الله لتَضَمّنه اسْم الرب كَانَ حسنا وَأما إِذا سبق إِلَيّ الْقلب قصد الْعِبَادَة فاسم الله أولى بذلك وَلما كَانَ يُونُس المغاضبة ومنازعة الْقدر وَنَوع مُعَارضَة فِي خلقه وَأمره ووساوس فِي حكمته ورجته احْتَاجَ أَن يدْفع عَنهُ ذَلِك فَيحْتَاج العَبْد أَن يدْفع عَنهُ ذَلِك وَيعلم أَن الْحِكْمَة وَالْعدْل فِيمَا اقْتَضَاهُ علمه وحكمته فروى أَن يُونُس نَادَى بارتفاع الْعَذَاب عَن قومه بعد أَن أظلهم وَخَافَ أَن ينْسب إِلَيّ الْكَذِب فَنَادَى من الْقدر وَحصل من منازعته الْإِرَادَة مَا يزاحم الإلهية فَنَاسَبَ أَن يجرد الإلهية ويخلصها لله وَحده

وَقَوله تَعَالَى {لَا إِلَه إِلَّا أَنْت} يتَضَمَّن الْبَرَاءَة مِمَّا سوى الله من الْآلهَة الْبَاطِلَة سَوَاء قدر هوى النَّفس أَو طَاعَة الْخلق أَو غير ذَلِك بِخِلَاف آدم فَإِنَّهُ اعْترف أَولا بِذَنبِهِ فَقَالَ رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا لِأَنَّهُ لم يكن عِنْده شئ من مُنَازعَة الْإِرَادَة لما أَمر الله بِهِ مَا يزاحم الإلهية بل ظن صدق إِبْلِيس فَنَاسَبَ رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا فيكوننا قبلنَا تغريره بِنَا وَمَا أظهر من نصحنا فَقَصره فَكَانَ مُحْتَاجين إِلَى أَن يربيهما بربوبتيه بِكُل حَال فَلَا يغترا بِمثل ذَلِك فشهدا حاجتهما إِلَى ربهما الَّذِي لَا يقْضِي حاجتهما غَيره وَهَذَا مبْنى على القَوْل بالعصمة وَالنَّاس متفقون عَليّ أَن الآنبياء معصومون فِيمَا يبلغون عَن الله فَلَا يقرونَ فِي ذَلِك على خطأ بِاتِّفَاق الْمُسلمين لَكِن هَل يتَصَوَّر مَا يَسْتَدْرِكهُ الله فَينْسَخ مَا يلقى الشَّيْطَان وَيحكم الله آيَاته فَهَذَا فِيهِ قَولَانِ والمأثور عَن السّلف يُوَافق الْقُرْآن بذلك وَأما الْعِصْمَة فِي غير مَا يتَعَلَّق بتبليغ الرسَالَة فللناس فِيهِ نزاع هَل هُوَ ثَابت بِالْعقلِ أَو بِالسَّمْعِ ومتنازعون فِي الْعِصْمَة من الكباذر والصغاذر أَو من بَعْضهَا وَهَذِه الْعِصْمَة إِنَّمَا هِيَ فِي الإفرار عَلَيْهَا لافي فعلهَا أم لَا يجب القَوْل بالعصمة إِلَّا فِي التَّبْلِيغ فَقَط وَهل تجب الْعِصْمَة من الْكفْر والذنُوب قبل الْبعْثَة أم لَا وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور الْمُوَافق للأثر إِثْبَات الْعِصْمَة من الْإِقْرَار على الذُّنُوب مُطلقًا وَقَول من يجوز إقرارهم عَلَيْهَا وحجج الْقَائِلين بالعصمة إِذا حررت إِنَّمَا تدل عَليّ هَذَا القَوْل وحجج النفاة لَا تدل على وُقُوع ذَنْب أقرّ عَلَيْهِ الأنبياد فَإِن وُقُوع الذَّنب إِذا لم يقر عَلَيْهِ لم يحصل بِهِ تنفير وَلَا نقص فَإِن التَّوْبَة النصوح بِرَفْع اله بهَا صَاحبهَا أَكثر مِمَّا كَانَ أَولا وَكَذَلِكَ التأسي بالأنبياء إِنَّمَا هُوَ فِيمَا أقرُّوا عَلَيْهِ بِدَلِيل النّسخ وَنَحْوه

فصل

وَمن قَالَ إِن إِلْقَاء يُونُس إِلَيّ بطن الْحُوت كَانَ قبل النُّبُوَّة فَلَيْسَ هُوَ من هَذَا الْبَاب فصل وَتَصِح التَّوْبَة من ذَنْب مَعَ إصراره عَليّ آخر عِنْد السّلف وَالْخلف وَقَالَ طَائِفَة من أهل الْكَلَام كَأبي هَاشم لَا تصح رلا بِالتَّوْبَةِ من الْجَمِيع وَحكى القَاضِي وَابْن عقيل هَذَا عَن أَحْمد وَالْمَعْرُوف الأول وَمَا روى عَنهُ مَحْمُول على أَنَّهَا لَيست تَوْبَة تَجْعَلهُ تَائِبًا مُطلقًا فَإِن الدي ذكر الْمروزِي عَنهُ أَنه سذل عَمَّن تَابَ عَن الْفَاحِشَة ولميتب عَن النّظر فَقَالَ أَي تَوْبَة ذه هَذَا لَا يعْطى مَا قَالَه عَنهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا لَيست تَوْبَة عَامَّة يحصل بهَا تَوْبَة مُطلقَة لم يرد أَن هَذَا كالمصر على الْكَبَائِر فَإِن نصوصه المتوتره عَنهُ تنافى ذَلِك فَحمل كَلَامه على مَا يُوَافقهُ أولى لَا سِيمَا إِذا كَانَ القَوْل الآخر مبتدعا لَا يعرف لَهُ سلف وَأحمد من أَشد النَّاس وَصِيَّة بِاتِّبَاع السّلف وَوَصِيَّة بِالسنةِ والاتباع أَكثر من أَن يحصر وَمن تَابَ من بعض ذنُوبه فَإِن التَّوْبَة تقتضى مغْفرَة مَا تَابَ مِنْهُ فَقَط وَمَا علمت فِيهِ نزاعا إِلَّا فِي الْكَافِر إِذا أسلم فَإِنَّهُ إِسْلَامه يغْفر الله لَهُ بِهِ الْكفْر وَهل يغْفر لَهُ الذُّنُوب الَّتِي فعلهَا فِي حَال كفره وَلم يتب مِنْهَا فِي الْإِسْلَام عَليّ قَوْلَيْنِ معروفين الصَّحِيح أَنه إِذا لم يتب من الذَّنب بقى عَلَيْهِ حكمه وَلَا يغْفر إِلَّا بِمَشِيئَة الله تَعَالَى كَغَيْرِهِ من الْمُسلمين الَّذين عمِلُوا الذُّنُوب فِي الْإِسْلَام

فصل

فصل الْإِنْسَان قد يستحضر ذنوبا فيتوب مِنْهَا وَقد يَتُوب تَوْبَة مُطلقَة لايستحضر مَعهَا ذنُوبه لَكِن إِذا كَانَت نِيَّته التَّوْبَة الْعَامَّة فهى تتَنَاوَل كل مَا يرَاهُ ذَنبا لِأَن التَّوْبَة الْعَامَّة تَتَضَمَّن عزما عَاما عَليّ فعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور وككذلك تَتَضَمَّن ندما عَاما على كل مَحْظُور والندم سَوَاء قيل إِنَّه من بَاب الاعتقادات أَو من بَاب الإرادات أَو من الْأَلَم الَّذِي يلْحق النَّفس بِسَبَب فعل مَا يَضرهَا فَإِذا استشعر الْقلب أَنه فعل مَا يضرّهُ حصل لَهُ معرفَة بِأَن الَّذِي فعله كَانَ من السَّيِّئَات وَهَذَا من بَاب الاعتقادات أَو كَرَاهِيَة لما كَانَ فعله وَهُوَ من جنس الإرادات أَو حصل لَهُ أَذَى وغم لما كَانَ فعله وَهَذَا من بَاب الآلام كالغموم وَالْأَحْزَان كَمَا أَن الْفَرح وَالسُّرُور هُوَ من بَاب اللَّذَّات لَيْسَ من بَاب الاعتقادات والإرادات وَمن قَالَ من الفلاسفة إِن اللَّذَّة هِيَ إِدْرَاك الملائم والألم وَهُوَ إِدْرَاك المنافر فقد غلط فَإِن اللَّذَّة والالم حالات يعقبان إِدْرَاك الملائم والمنافر فَإِن الْحبّ لما يلائمه كالطعام المشتهى لَهُ ثَلَاثَة أَحْوَال أَحدهَا الْحبّ كالشهوة وَالثَّانِي هُوَ إِدْرَاك المحبوب كَأَكْل الطَّعَام وَالثَّالِث اللَّذَّة الْحَاصِلَة واللذة أَمر مُغَاير للشهوة وللذوق المشتهى بل هِيَ حَاصِلَة بالذوق المشتهى وَلَيْسَت نفس الذَّوْق وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوه كالضرب فان كَرَاهَته شئ وحصوله شئ آخر والألم الْحَاصِل بِهِ شئ ثَالِث إِذا عرف ذَلِك فَمن تَابَ تَوْبَة عَامَّة كَانَت مقتضية الغفران الذُّنُوب كلهَا وَإِن لم يستحضر أَعْيَان الذُّنُوب إِلَّا أَن يكون بعض الذُّنُوب لَو استحضره لم يتب مِنْهُ لقُوَّة إِرَادَته إِيَّاه أَو لاعْتِقَاده أَنه حسن لَيْسَ قبيحا فَمَا كَانَ لَو استحضره لم يتب مِنْهُ لم يدْخل فِي التَّوْبَة بِخِلَاف مَا لَو كَانَ لَو استحضره لتاب مِنْهُ فَإِنَّهُ يدْخل فِي عُمُوم التَّوْبَة

فصل

وَأما التَّوْبَة الْمُطلقَة وَهِي أَن يَتُوب تَوْبَة مجملة وَلَا يلْتَزم التَّوْبَة من كل ذَنْب فَهَذِهِ لَا توجب دُخُول كل فَرد وَلَا تمنع دُخُوله كاللفظ الْمُطلق لَكِن هَذِه تصلح أَن تكون سَببا لغفران معِين كَمَا لَا تصلح أَن تكون سَببا لغفرانه بِخِلَاف الْعَامَّة فَإِنَّهَا مقتضية للغفران الْعَام فصل فان قيل مَا السَّبَب فِي أَن الْفرج يَأْتِي عِنْد انْقِطَاع الرَّجَاء عَن الْخلق وَمَا الْحِيلَة فِي صرف الْقلب عَن التَّعَلُّق بهم وتعلقه بِاللَّه فَيُقَال سَبَب هَذَا تَحْقِيق تَوْحِيد الربوبية وتوحيد الالهية فتوحيد الربوبية أَنه لَا خَالق إِلَّا الله فَلَا بستقل شئ سواهُ بإحاديث أَمر من الْأُمُور بل مَا شاد الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن فَإِذا تحقق ذَلِك كَانَ سَببا لِأَن ينَال مَطْلُوبه ويأتيه الْفرج وَأما من تعلق قلبه بمخلوق فالمخلوق عاججز إِن لم يَجعله الله فَاعِلا لذَلِك وَهَذَا من الشّرك الَّذِي لَا يغفره الله أَن يَرْجُو العَبْد قَضَاء حَاجته من غير ربه فَمن أنعم الله عَلَيْهِ من الْمُؤمنِينَ بِنِعْمَة التَّوْحِيد منع حُصُول مَطْلُوبه بذلك الشّرك حَتَّى يصرف قلبه إِلَى التَّوْحِيد وَالله ينزل بِعَبْدِهِ الْمُؤمن من الشدَّة والضر مَا يلجئه إِلَى توحيده فيدعوه مخلصا لَهُ الدّين وَلَا يَرْجُو أحدا سواهُ وَيتَعَلَّق قلبه بِهِ وَحده فَيحصل لَهُ من التَّوَكُّل والإنابة وحلاوة الْإِيمَان وذوق طعمه والبراءة من الشّرك مَا هُوَ أعظم نعْمَة من زَوَال ضرَّة فَإِن مَا يحصل لأهل التَّوْحِيد لَا يُمكن وَصفه من ذَلِك فَإِن الضّر فِي الدُّنْيَا من الْمَرَض والعسر والألم وَغَيره يشْتَرك فِي زَوَاله وذوق لَذَّة حلاوته الْمُؤمن وَالْكَافِر لِأَنَّهُ من أُمُور الدُّنْيَا بِخِلَاف حلاوة الْإِيمَان فَلَا يُمكن أَن يعبر عَنهُ بمقال

فصل

وَلكُل امْرِئ من الْمُؤمنِينَ نصيب بِقدر إيمَانه فَمن تجرد توحيده لله بِحَيْثُ يجب فِي الله ويوالي فِيهِ ويعادى فِيهِ ويتوكل عَلَيْهِ فَلَا يسْأَل إِلَّا إِيَّاه وَلَا يَرْجُو غَيره بِحَيْثُ يكون عَن الْحق خلق وَعند الْخلق بِلَا هوى قد فنيت عَنهُ إِرَادَة مَا سواهُ بإرادته ومحبة مَا سواهُ بمحبته وَخَوف مَا سواهُ بخوفه ورجاء مَا سواهُ برجائه وَدُعَاء مَا سواهُ بدعائه هُوَ أَمر لَا بعرفه بالذوق والوجد رلا من لَهُ مِنْهُ نصيب وَمَا من مُؤمن إِلَّا وَله مِنْهُ نصيب وَهَذَا هُوَ حَقِيقَة الْإِسْلَام وقطب رحى الْقُرْآن بِهِ بعث الله الرُّسُل وَبِه أنزل الْكتب وَالله الْمُسْتَعَان وَعَلِيهِ التكلان فصل أجمع الْمُسلمُونَ على أَن العَبْد الْمُسلم يجوز لَهُ أَن يشتكى إِلَى الله تَعَالَى مَا ينزل بِهِ من الضّر وَلَيْسَ ذَلِك منافيا للصبر بل الشكوى إِلَى الْخلق قد تنافى الصَّبْر وَمن قَالَ أَن نَبيا من الْأَنْبِيَاء أكله الْقمل فاشتكى إِلَى ربه فَأوحى الله إِلَيْهِ لذن اختلج هَذَا فِي سرك لأمحونك من ديوَان الْأَنْبِيَاء فَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَن يحْكى إِمَّا لِأَنَّهُ كذب أَو مُخَالف لشريعة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل كَانَ الْأَنْبِيَاء يَشكونَ إِلَيّ رَبهم كيعقوب وَأَيوب وذى النُّون ونوح عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فَهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاء شكوا إِلَيّ رَبهم وكشف الله مَا بهم من الضّر وَالْغَم لَكِن يَنْبَغِي الرضى وَلَيْسَ هُوَ بِوَاجِب فِي أصح قولى الْعلمَاء بل هُوَ مُسْتَحبّ

فصل

وَإِنَّمَا الْوَاجِب الصَّبْر وَلَا يُنَافِي الشكوى واختلاج السِّرّ لَا ينافى الرضى بِالْقضَاءِ بافاق الْعُقَلَاء والرضى يكون بعد الْقَضَاء فصل أصل الْإِيمَان فِي الْقلب وَهُوَ قَول الْقلب وَعَمله وَهُوَ إِقْرَار الْقلب بالتصديق وَالْحب والانقياد وَلَا بُد أَن يظْهر مُوجبه وَمُقْتَضَاهُ على الْجَوَارِح فالأعمال الظَّاهِرَة من مُوجب إِيمَان الْقلب وَدَلِيل عَلَيْهِ وَشَاهد لَهُ وَشعْبَة من مَجْمُوع الْإِيمَان الْمُطلق وَبَعض لَهُ وَمَا فِي الْقلب أصل لَهَا وَهُوَ الْملك والأعضاء جُنُوده وَقد ظن طوائف أَن الْإِيمَان هُوَ مافي الْقلب خَاصَّة وَمَا على الْجَوَارِح لَا يدْخل فِي مُسَمَّاهُ لَكِن هُوَ من ثَمَرَته ونتائجه حَتَّى آل الْأَمر بغلاتهم كجهم ابْن صَفْوَان وَأَتْبَاعه إِلَى أَن قَالُوا يُمكن أَن يصدق بِقَلْبِه لَا يظْهر بِلِسَانِهِ رلا الْكفْر وَيكون مَا فِي الْقلب إِيمَانًا نَافِعًا لَهُ وَإِذا حكم الشَّرْع بِكفْر أحد بِعَمَل أَو قَول فلكونه دَلِيلا على انْتِفَاء مَا فِي الْقلب فتناقض قَوْلهم فَإِنَّهُ إِذا كَانَ دَلِيلا مستلزما لانْتِفَاء الْإِيمَان من الْقلب امْتنع أَن يكون الْإِيمَان فِي الْقلب مَعَ الدَّلِيل المستلزم نَفْيه وَإِن لم يكن دَلِيلا لم يجزأن يسْتَدلّ بِهِ على المفر الْبَاطِن فالتحقيق أَن اسْم الْإِيمَان الْمُطلق قد تنَاول الأَصْل مَعَ الْفَرْع وَقد يخص بِالِاسْمِ وَحده وبالاسم مَعَ الاقتران وَقد لَا يتَنَاوَل رلا الأَصْل إِذا لم يخص رلا هُوَ كاسم الشَّجَرَة يتَنَاوَل الأَصْل وَالْفرع إِذا وجد وَلَو قطعت الْفُرُوع لتناول اسْم الشَّجَرَة الأَصْل وَحده

وَكَذَا اسْم الْحَج يتَنَاوَل كل مَا شرع من ركن وواجب ومستحب وَهُوَ أَيْضا تَامّ بِدُونِ المستحبات وَحج نَاقص بِدُونِ الْوَاجِبَات والشارع لَا يَنْفِي اسْم الايمان عَن العَبْد لترك مُسْتَحبّ لَكِن لترك وَاجِب وَلَفظ الْكَمَال يُرَاد بِهِ الْكَمَال الْوَاجِب والكمال الْمُسْتَحبّ فَلَمَّا قَالَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ وَنَحْو ذَلِك كَانَ المُرَاد أَنه يَنْفِي بعض مَا وَجب فِيهِ لَا يَنْفِي الْكَمَال الْمُسْتَحبّ وَالْإِيمَان يَتَبَعَّض ويتفاضل النَّاس فِيهِ كَالْحَجِّ وَالصَّلَاة وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يخرج من النَّار من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان ومثقال شعيرَة وَأما إِذا اسْتعْمل اسْم الْإِيمَان مُقَيّدا كَقَوْلِه تَعَالَى {الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِيمَان أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وكته وَرُسُله والبعث بعد الْمَوْت فَهُنَا قد يُقَال إِنَّه متناول لذَلِك وَأَن عطف ذَلِك عَلَيْهِ من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام كَقَوْلِه تَعَالَى {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال} وَقد يُقَال إِن دلَالَة الإسم متنوعة بِالْإِفْرَادِ والاقتران كَلَفْظِ الْفَقِير والمسكين إِذا أفرد أَحدهمَا تنَاول الآخر وَإِذا جمع بَينهمَا كَانَا صنفين وَلَا ريب أَن فروع الْإِيمَان مَعَ أُصُوله كالمعطوفين وَهِي مَعَ جَمِيعه كالبعض مَعَ الْكل وَمن هُنَا نَشأ النزاع والاشتباه هَل الْأَعْمَال دَاخِلَة الْإِيمَان أم لَا لكَونهَا عطفت عَلَيْهِ فِي الْآيَات وَالْأَحَادِيث وَقد يعْطف على الْإِيمَان بعض شُعْبَة فَيُقَال هَذَا أرفع الْإِيمَان أَي الْيَقِين وَالْمُؤمن الَّذِي مَعَه يَقِين وَعلم أرفع من الْمُؤمن الَّذِي مَعَه يَقِين وَلَيْسَ مَعَه علم وَمَعْلُوم أَن النَّاس يتقاضون فِي نفس الْإِيمَان والتصديق فِي قوته وَضَعفه وعمومه وخصوصه وبقائه ودوامه وموجبه ومقتضيه وَغير ذَلِك من أُمُوره

فيخص أحد نوعيه باسم يفضل بِهِ على النَّوْع الآخر وَيبقى اسْم الْإِيمَان وَمثل ذَلِك متناول للقسم الآخر كَمَا يُقَال خير الْحَيَوَان وَالْإِنْسَان خير الدَّوَابّ وَإِن كَانَ الْإِنْسَان يدْخل فِي الدَّوَابّ فِي قَوْله تَعَالَى {إِن شَرّ الدَّوَابّ} فَإِذا عرف ذَلِك فَحَيْثُ وجد تَفْضِيل شَيْء على الْإِيمَان فَإِنَّمَا هُوَ تَفْضِيل خَاص على عُمُومه أَو تَفْضِيل بعض شُعْبَة الْعَالِيَة على غَيرهَا وَاسم الْإِيمَان قد يتَنَاوَل النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا وَقد يخص أَحدهمَا كَمَا تقدم وَأكْثر اخْتِلَاف الْعُقَلَاء من جِهَة اشْتِرَاك الْأَسْمَاء وَالْإِيمَان لَهُ نور فِي الْقلب قَالَ تَعَالَى {مثل نوره كمشكاة فِيهَا مِصْبَاح} أَي مثل نوره فِي قلب الْمُؤمن كمشكاة فِيهَا مِصْبَاح إِلَى قَوْله {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} وَقَالَ تَعَالَى {أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا} فَسمى الايمان الَّذِي يَهبهُ للْعَبد نورا وَلَا ريب أَنه يحصل بسبب مثل سَماع الْقُرْآن وتدبره وَمثل رُؤْيَة أهل الايمان وَالنَّظَر فِي أَحْوَالهم وَمَعْرِفَة أَحْوَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومعجزاته وَالنَّظَر فِي آيَات الله والتفكر فِي ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض والتأمل فِي أَحْوَال نفس الْإِنْسَان والضرورات الَّتِي يحدثها الله تَعَالَى للْعَبد يضطره بهَا إِلَى ذكر الله والاستسلام لَهُ واللجأ إِلَيْهِ وَقد يكون هَذَا سَببا لشَيْء من الْإِيمَان وَهَذَا سَببا لشَيْء آخر بل كل مَا يكون فِي الْعَالم فَلَا بُد لَهُ من سَبَب وَسبب الْإِيمَان وشعبه يكون تَارَة من العَبْد وَتارَة من غَيره مثل من يقيض لَهُ من يَدعُوهُ إِلَى لإيمان ويأمره بِالْخَيرِ وينهاه عَن الشَّرّ ثمَّ قد يكون بعض أَسبَابه أَهْون على بعض النَّاس من بَعْضهَا الآخر وَمِنْهُم من يكون الْعلم أيسر عَلَيْهِ من الزهرد وَبِالْعَكْسِ

فصل

وَمِنْهُم من تكون عَلَيْهِ المبادة أيسر مِنْهُمَا والمشروع لكل إِنْسَان أَن يفعل مَا يقدر عَلَيْهِ من الْخَيْر كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} وَإِذا ازدحمت شعبه قدم مَا كَانَ أرْضى الله وَهُوَ عَلَيْهِ أقدر فقد يكون على الْمَفْضُول أقد مِنْهُ على الْفَاضِل وَيحصل لَهُ أفضل بِمَا يحصل لَهُ من الْفَاضِل فَالْأَفْضَل لهَذَا أَن يطْلب مَا هُوَ أَنْفَع لَهُ وَهُوَ فِي حَقه أفضل لَا يطْلب مَا هُوَ أفضل مُطلقًا إِذا كَانَ متعسرا عَلَيْهِ إِذْ قد يفوتهُ مَا هُوَ أفضل وأنفع كمن يقدر أَن يقْرَأ الْقُرْآن بِاللَّيْلِ فيتدبره وَينْتَفع بتلاوته وَالصَّلَاة تثقل عَلَيْهِ وَلَا ينْتَفع مِنْهَا بطائل أَو ينْتَفع بِالذكر أعظم مِمَّا ينْتَفع بِالْقِرَاءَةِ فَأَي عمل كَانَ لَهُ أَنْفَع وَللَّه أطوع فَهُوَ أفضل فِي حَقه من عمل لَا يَأْتِي بِهِ على وَجهه وَمَعْلُوم أَن الصَّلَاة آكِد من الْقِرَاءَة وَالْقِرَاءَة أفضل من الذّكر وَالدُّعَاء وَمَعْلُوم أَن الذّكر فِي وقته الْخَاص كالركوع وَالسُّجُود أفضل من قِرَاءَة الْقُرْآن فِي ذَلِك الْمحل وَأَن الذّكر وَالْقِرَاءَة وَالدُّعَاء عِنْد طُلُوع الشَّمْس وغروبها خير من الصَّلَاة فصل والزهد هُوَ ضد الرَّغْبَة وَهُوَ كالبغض الْمُخَالف للمحبة وَالْكَرَاهَة الْمُخَالفَة للارادة وَحَقِيقَة الْمَشْرُوع مِنْهُ أَن يكون بغضه وحبه وزهده فِيهِ أَو تَابعا لحب الله وكراهته فيحب مَا أحبه الله وَيبغض مَا أبغضه ويرضى مَا يرضاه ويسخط مَا يسخطه بِحَيْثُ لَا يكون تَابعا لهواه بل لأمر مَوْلَاهُ فَإِن كثيرا من الزهاد فِي الدُّنْيَا أَعرضُوا عَن فضولها وَلم يقبلُوا على مَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله وَلَيْسَ هَذَا

فصل

الزّهْد هُوَ الَّذِي أَمر الله بِهِ وَلِهَذَا كَانَ فِي الْمُشْركين زهاد وَفِي أهل الْكتاب زهاد وَفِي أهل الْبدع زهاد وَمن النَّاس من يزهد طلبا للراحة من تَعب الدُّنْيَا أَو من مَسْأَلَة أَهلهَا والسلامة من أذاهم أَو لطلب الرِّئَاسَة إِلَى أَمْثَال هَذِه الْأَنْوَاع الَّتِي لم يَأْمر الله بهَا وَلَا رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما مَا أَمر الله بِهِ وَرَسُوله فَهُوَ أَن يزهد فِيمَا لَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله ويرغب فِيمَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله فَيكون زهده عَمَّا لم يَأْمر الله بِهِ أَمر إِيجَاب أَو اسْتِحْبَاب سَوَاء كَانَ محرما أَو مَكْرُوها أَو مُبَاحا وَيكون مَعَ ذَلِك مُقبلا على مَا أَمر الله بِهِ وَلَا يتْرك الْمَكْرُوه بِدُونِ فعل المحبوب فَإِن الْمَقْصُود بِالْقَصْدِ الأول فَهُوَ فعل المحبوب وَترك الْمَكْرُوه معِين على ذَلِك فتزكو النَّفس بذلك كَمَا يزكو الزَّرْع إِذا نقى من الدغل وَطَرِيق الْوُصُول إِلَى ذَلِك هُوَ الِاجْتِهَاد فِي فعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور والاستعانة بِاللَّه على ذَلِك فَمن فعل ذَلِك وصل إِلَى حَقِيقَة الْإِيمَان لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احرص على مَا ينفعك واستعن الله بعد قَوْله الْمُؤمن الْقوي خير وَأحب إِلَى الله من الْمُؤمن الضَّعِيف وَفِي كل خير احرص على مَا ينفعك واستعن بِاللَّه وَلَا تعجز وَإِن أَصَابَك بِشَيْء فَلَا نقل لَو أَنِّي فعلت كَذَا وَكَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِن قل قدر الله وَمَا شَاءَ فعل فَإِن لَو تفتح عمل الشَّيْطَان فصل لَا ريب أَن الَّذين أُوتُوا الْعلم وَالْإِيمَان أرفع من الَّذين أُوتُوا الْإِيمَان فَقَط كَمَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وَالْعلم الممدوح هُوَ الَّذِي ورثته الْأَنْبِيَاء

وَهَذَا الْعلم ثَلَاثَة أَقسَام علم بِاللَّه وأسمائه وَصِفَاته وَمَا يتبع ذَلِك وَفِي مثله أنزل الله سُورَة الْإِخْلَاص وَآيَة الْكُرْسِيّ وَنَحْوهمَا وَالْقسم الثَّانِي الْعلم بِمَا أخبر الله تَعَالَى بِهِ مِمَّا كَانَ من الْأُمُور الْمَاضِيَة وَمِمَّا يكون من الْمُسْتَقْبلَة وَمَا هُوَ كَائِن من الْأُمُور الْحَاضِرَة وَفِي مثله أنزل الله الْقَصَص والوعد والوعيد وَصفَة الْجنَّة وَالنَّار وَالْقسم الثَّالِث الْعلم بِمَا أَمر الله بِهِ من الْأُمُور الْمُتَعَلّقَة بالقلوب والجوارح من الْإِيمَان بِاللَّه وَمن معارف الْقُلُوب وَأَحْوَالهَا الْجَوَارِح وأعمالها وَهَذَا ينْدَرج فِيهِ الْعلم بأصول الْإِيمَان وقواعد الْإِسْلَام وَالْعلم بالأقوال وَالْأَفْعَال الظَّاهِرَة مِمَّا هُوَ فِي كتب الفقة وَقد يكون الرجل حَافِظًا لحروف الْعلم وَلَا يكون مُؤمنا بل منافقا فالمؤمن الَّذِي لَا يحفظ الْعلم وصوره خير مِنْهُ وَإِن كَانَ ذَلِك الْمُنَافِق قد ينْتَفع بِهِ الْغَيْر كَمَا ينْتَفع بالريحان فَأَما الَّذِي أُوتِيَ الْعلم وَالْإِيمَان فَهُوَ مُؤمن عليم هَذَا أصل وأصل آخر وَهُوَ أَنه لَيْسَ كل عمل أورث كشفا أَو تَصرفا فِي الْكَوْن يكون أفضل من الْعَمَل الَّذِي لَا يُورث ذَلِك فَإِن الْكَشْف إِن لم يكن مِمَّا يستعان بِهِ على دين الله وَالْإِيمَان بِهِ كَانَ من مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَقد يحصل ذَلِك للْكفَّار وَإِن لم يحصل لأهل الْإِيمَان وفضائل الْأَعْمَال ودرجاتها لَا تتلقى عَن مثل من يحصل لَهُ هَذَا بل من الْكتاب وَالسّنة فَأكْرم الْخلق عِنْد الله أنقاهم لله وتفضيل الْعَمَل قد يكون مُطلقًا وَقد يكون مُفِيدا فِي وَقت أَو زمَان أَو شخص وَقد يَأْتِي الرجل بِالْعَمَلِ الْفَاضِل ويفوت شُرُوطه وَغَيره يَأْتِي بالفضول مكملا فَيكون هَذَا أفضل من ذَلِك

فصل

فصل إِذا قَرَأَ القارىء بِغَيْر حرف ابْن كثير كَانَ تَركه للتكبير هُوَ الْأَفْضَل بل هُوَ الْمَشْرُوع الْمسنون فَإِن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة نقلوا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نقل تَوَاتر فَيمْتَنع أَن يَكُونُوا أضاعوا فِيهَا مَا أَمرهم بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَنهم أهل تَوَاتر وأبلغ من ذَلِك الْبَسْمَلَة فَإِن فِي الْقُرَّاء من لَا يفصل بهَا مَعَ كَونهَا مَكْتُوبَة فِي الْمَصَاحِف وَلَيْسَ التَّكْبِير من الْقُرْآن بِاتِّفَاق الْمُسلمين بِخِلَاف الْبَسْمَلَة فَإِن مَذْهَب مَاتَ أَنَّهَا لَيست من الْقُرْآن إِلَّا فِي سُورَة النَّمْل وَهُوَ قَول فِي ذهب أَحْمد وَأبي حنيفَة وَلَيْسَ لمن يقْرَأ الْقُرْآن وَالنَّاس يصلونَ تَطَوّعا أَن يجْهر جَهرا يشغلهم فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج على أَصْحَابه من السحر فَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس كلكُمْ يُنَاجِي ربه فَلَا يجْهر بَعْضكُم على بعض فِي الْقِرَاءَة وَصلَاته النَّافِلَة فِي الْجُمْلَة أفضل من اسْتِمَاع الْقُرْآن لَكِن قد تكون الْقِرَاءَة واستماعها أفضل لبَعض النَّاس وَقَوله تَعَالَى {إِن من أزواجكم وَأَوْلَادكُمْ عدوا لكم} من للتَّبْعِيض بالانفاق وَقد يكون العابد بِغَيْر علم شرا من الْعَالم الْفَاسِق وَقد يكون الْعَالم الْفَاسِق شرا مِنْهُ وَأما العابد بِعلم فَهُوَ خير من الْفَاسِق إِلَّا أَن يكون لِلْفَاسِقِ حَسَنَات تفضل على سيئاته بِحَيْثُ يفضل لَهُ أَكثر من حَسَنَات ذَلِك العابد

باب الكسوف

بَاب الْكُسُوف الْكُسُوف والخسوف لَهما أَوْقَات مقدرَة كَمَا أَن لطلوع الْهلَال وقتا مُقَدرا وَذَلِكَ مِمَّا أجْرى الله تَعَالَى عَادَته كالليل وَالنَّهَار والشتاء والصيف وَسَائِر مَا يتبع جَرَيَان الشمسو الْقَمَر وَذَلِكَ من آيَات الله تَعَالَى فَكَمَا أَن الْعَادة أَن الْهلَال لَا يستهل إِلَّا لَيْلَة ثَلَاثِينَ أَو إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَن الشَّهْر لاي كَون إِلَّا ثَلَاثِينَ أَو تسعا وَعشْرين فَكَذَلِك أجْرى الله تَعَالَى الْعَادة أَن الشَّمْس لَا تنكسف إِلَّا وَقت الاستسرار وَأَن الْقَمَر لَا يخسف إِلَّا وَقت الإبدار وللشمس وَالْقَمَر لَيَال مُعْتَادَة من عرفهَا عرف الْكُسُوف والخسوف كَمَا أَن من علم كم مضى من الشَّهْر يعلم أَن الْهلَال يطلع فِي الميلة الْفُلَانِيَّة لَكِن الْعلم بالهلال هُوَ علم عَام للنَّاس وَأما علم الْكُسُوف فَهُوَ لمن يعرف حِسَاب جريانهما وَلَيْسَ خير الحاسب بذلك من بَاب علم الْغَيْب بل مثل الْعلم بأوقات الْفُصُول وَمن قَالَ من الْفُقَهَاء إِن الشَّمْس فِي غير وَقت الاستسرار فقد غلط وَقَالَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ علم وَمَا يرْوى عَن الْوَاقِدِيّ من ذكره أَن إِبْرَاهِيم بن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاتَ يَوْم الْعَاشِر وَهُوَ الَّذِي كسفت فِيهِ الشَّمْس فغلط والواقدي لَا يحْتَج بمسانيده فَكيف بمراسيله هَذَا فِيمَا لم يعلم أَنه خطأ فَكيف وَهَذَا فَهُوَ خطأ قطعا وَأما مَا ذكره طَائِفَة من الْفُقَهَاء من اجْتِمَاع صَلَاة الْعِيد والكسوف فَذكره فِي ضمن كَلَامهم فِيمَا إِذا اجْتمع صَلَاة الْكُسُوف وَغَيرهَا من الصُّور الْمَفْرُوضَة كَمَا قد ذكرُوا اجْتِمَاع الْوتر وَالظّهْر وَذكروا الْعِيد مَعَ عدم استحضارهم هَل ذَلِك مُمكن أم لَا

لَكِن استفدنا من تقديرهم الْعلم بالحكم فَقَط على تَقْدِير وجوده كَمَا يقدرُونَ مسَائِل يعلم أَنَّهَا لَا نفع لتحرير الْقَوَاعِد وتمرير الأذهان على ضَبطهَا وَبِكُل حَال فالمخبر بذلك قد يكون غالطا أَو فَاسِقًا لَكِن إِذا تواطأوا على ذَلِك لَا يكَاد يخطىء وَبِكُل حَال فَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ حكم شَرْعِي فَإنَّا لَا نصلي صلَة الخسوف والكسوف إِلَّا إِذا شاهدنا ذَلِك وَقد أخبر الصَّادِق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهُمَا آيتان من آيَات الله يخوف الله بهما عباده وَهَذَا بَيَان أَنَّهُمَا سَبَب لنزول الْعَذَاب فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا يزِيل الْخَوْف من الصَّلَوَات وَالدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار وَالصَّدَََقَة وَالْعِتْق حَتَّى ينْكَشف مَا بِالنَّاسِ وَصلى بِالْمُسْلِمين صَلَاة طَوِيلَة وَقد رُوِيَ فِي صَلَاة الْكُسُوف أَنْوَاع لَكِن الَّذِي استفاض عِنْد أهل الْعلم بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلذَلِك استحبه أَكثر أهل الْعلم كمالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد أَنه صلى بهم رَكْعَتَيْنِ فِي كل رَكْعَة ركوعان يقْرَأ قِرَاءَة طَوِيلَة ثمَّ يرْكَع رُكُوعًا طَويلا دون الْقِرَاءَة ثمَّ يقوم فَيقْرَأ قِرَاءَة طَوِيلَة دون الْقِرَاءَة الأولى ثمَّ يرْكَع رُكُوعًا دون الرُّكُوع الأول ثمَّ يسْجد سَجْدَتَيْنِ طويلتين وَثَبت فِي الصَّحِيح أَنه كَانَ يجْهر بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا وَالْمَقْصُود أَن تكون صَلَاة الْكُسُوف إِلَى أَن يتجلى فان فرغ قبل التجلى ذكر الله وَدعَاهُ إِلَى أَن يتجلى والكسوف يطول زَمَانه تَارَة وَيقصر أُخْرَى

فصل وَهَذِه النُّجُوم من آيَات الله الدَّالَّة عَلَيْهِ المسبحة لَهُ الساجدة كَمَا قَالَ تَعَالَى {ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر وَالدَّوَاب وَكثير من النَّاس} ثمَّ قَالَ {وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب} وَهَذَا التَّفْرِيق يبين أَنه لم يرد سجودها لمُجَرّد مَا فِيهَا من الدّلَالَة على ربوبيته كَمَا يُقَال ذَلِك طوائف من النَّاس إِذْ هده الدّلَالَة يشْتَرك فِيهَا جَمِيع الْمَخْلُوقَات وَهُوَ قد فرق فَعلم أَن ذَلِك قدر زَائِدَة على الدّلَالَة وَمَعَ ذَلِك فقد جعلهَا مَنَافِع لِعِبَادِهِ وسخرها لَهُم وَمن مَنَافِعهَا الظَّاهِرَة مَا جعله سُبْحَانَهُ بالشمس من الْحر وَالْبرد وَاللَّيْل وَالنَّهَار وإنضاج الثِّمَار وَخلق الْحَيَوَان والنبات والمعادن والترطيب والتيبيس وَغير ذَلِك من الْأُمُور المشهودة كَمَا جعل فِي النَّار الْإِشْرَاق والإحراق وَفِي المَاء التَّطْهِير والسقي وأمثال ذَلِك من نعمه الَّتِي يذكرهَا فِي كِتَابه وَقد أخبر الله فِي غير مَوضِع أَنه يحيى بعض مخلوقاته بِبَعْض كَمَا قَالَ {لنحيي بِهِ بَلْدَة مَيتا} وَمن قَالَ من أهل الْكَلَام إِنَّه يفعل ذَلِك عِنْده لَا بِهِ فعبارته مُخَالفَة لكتاب الله والأمور الْمَشْهُورَة كَمَا أَن من زعم أَنَّهَا مُسْتَقلَّة بِالْفِعْلِ فَهُوَ شرك مُخَالف لِلْعَقْلِ وَالدّين وَمن قَالَ إِن لَهَا تَأْثِيرا وعني بذلك مَا قد علم بالحس مِمَّا جعله الله تَعَالَى فِيهَا مِمَّا ذكره سُبْحَانَهُ فَهُوَ حق وَلَكِن قد أَمر الله وَرَسُوله الْعباد بِمَا يدْفع سَبَب الْعَذَاب الْحَاصِل بهَا مثل صَلَاة الْكُسُوف وَالذكر عِنْد الرّيح مثل قَوْله اللَّهُمَّ

إِنَّا نَسْأَلك خير هَذِه الرّيح وَخير مَا أرْسلت بِهِ ونعوذ بك من شَرها وَشر مَا أرْسلت بِهِ فَهَذِهِ هِيَ السّنة فِي أَسبَاب الْمخبر وَالشَّر أَن يفعل العَبْد عِنْده هَذِه الْأَسْبَاب مَا علمه الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما الْأَسْبَاب الَّتِي تخفى فَلَيْسَ العَبْد مَأْمُورا بِأَن يتَكَلَّف مَعْرفَتهَا بل يَتَّقِي الله وَيفْعل مَا أمره بِهِ فان فعل كَفاهُ الله مُؤنَة الشَّرّ وَيسر لَهُ أَسبَاب الْخَيْر قَالَ تَعَالَى {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} وَفِي سنَن أبي دَاوُد من اقتبس شُعْبَة من النُّجُوم فقد اقتبس شُعْبَة من السحر وَالسحر محرم بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَذَلِكَ أَن النُّجُوم الَّتِي هِيَ من السحر نَوْعَانِ أَحدهمَا على وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بحركات النُّجُوم على الْحَوَادِث من جنس الاستسقام بالأزلام وَالثَّانِي عَمَلي وَهُوَ الَّذِي يَقُولُونَ فِيهِ إِنَّه تَأْثِير القوى السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية كالطلاسم وَنَحْوهَا وَهَذَا من أرفع أَنْوَاع السحر وكل مَا حرمه الله وَرَسُوله فضرره أعظم من نَفعه فَالثَّانِي وَإِن نوهم المتوهم أَن فِيهِ تقدمة للمعرفة بالحوادث وَأَن ذَلِك ينفع فالجهل فِي ذَلِك أظهر ومضرة ذَلِك أعظم وَلِهَذَا فقد علم بالتواتر أَن مَا يحكم بِهِ المنجمون يكون الْكَذِب فِيهِ أَضْعَاف الصدْق وهم فِي ذَلِك من نوع الْكُهَّان وَلما ناظرت بِدِمَشْق من حضرني من رُؤَسَائِهِمْ وبينت لَهُ فَسَاد صناعتهم بالأدلة قَالَ وَالله إِنَّا لنكذب مائَة كذبة حَتَّى نصدق فِي وَاحِدَة وَذَلِكَ أَن مَبْنِيّ علمهمْ على أَن الحركات العلوية هِيَ السَّبَب فِي الْحَوَادِث وَالْعلم بِالسَّبَبِ يُوجب الْعلم بالمسبب وَهَذَا إِنَّمَا يكون إِذا علم السَّبَب التَّام وَهَؤُلَاء أَكثر مَا يعلمُونَ إِن علمُوا جُزْءا يَسِيرا من جملَة الْأَسْبَاب الْكَثِيرَة

وَلَا يعلمُونَ بَقِيَّة الْأَسْبَاب وَلَا الشُّرُوط وَلَا الْمَوَانِع مثل من يعلم أَن الشَّمْس فِي الصَّيف تعلو الإرض حِين يشْتَد الْحر فيريد أَن يعلم من هَذَا مثلا أَنه حِينَئِذٍ أَن الْعِنَب الَّذِي فِي الأَرْض الْفُلَانِيَّة يصير زبيبا بِنَاء على أَن هُنَاكَ عنبا وَأَنه ينضج وينشره صَاحبه فِي الشَّمْس وَقت الْحر فيزبب وَهَذَا وَإِن كَانَ كثيرا لَكِن أَخذ هَذَا من مُجَرّد حر الشَّمْس جهل عَظِيم إِذْ قد يكون هُنَاكَ شجر عِنَب وَقد لَا يكون وَقد يُثمر ذَلِك الشّجر وَقد لَا يُثمر وَقد يُؤْكَل عنبا وَقد يسرق والأدلة على فَسَاد هَذِه الصِّنَاعَة وتحريمها كَثِيرَة جدا وَقد ثَبت فِي صَحِيح مُسلم من أَتَى عرافا فَسَأَلَهُ لم يقبل الله صلَاته أَرْبَعِينَ يَوْمًا والعراف اسْم للكاهن والمنجم والرمال وَنَحْوهم مِمَّن يتَكَلَّم فِي تقدمة الْمعرفَة بِهَذِهِ الطّرق وَأما إِنْكَار بعض النَّاس أَن يكون شَيْء من حركات الْكَوَاكِب وَغَيرهَا من الْأَسْبَاب فَهُوَ أَيْضا قَول بِلَا علم بل النُّصُوص تدل على خلاف ذَلِك كَمَا فِي السّنَن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نظر إِلَى الْقَمَر فَقَالَ يَا عَائِشَة تعوذي بِاللَّه من شَرّ هَذَا يَعْنِي الْقَمَر فَهَذَا الْفَاسِق إِذا وَقب وَحَدِيث الْكُسُوف حَيْثُ أخبر أَن الله يخوف بهما عباده وأنهما لَا يخسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ وَإِن كَانَ موت بعض النَّاس قد يَقْتَضِي حُدُوث أَمر فِي السَّمَوَات كَمَا فِي الصَّحِيح إِن عرش الرَّحْمَن اهتز لمَوْت سعد بن معَاذ رَضِي الله عَنهُ وَأما كَون الْكُسُوف أَو غَيره قد يكون سَببا لحادث فِي الأَرْض من عَذَاب يَقْتَضِي موتا أَو غَيره فَهَذَا قد أثْبته الحَدِيث وَلَا يُنَافِي ذَلِك كَونه الْكُسُوف لَهُ وَقت محدد يكون عِنْد أَجله يَجعله الله سَببا لما يَقْضِيه من عَذَاب وَغَيره كَمَا أَن تَعْذِيب الله لمن عذبه بِالرِّيحِ الشَّدِيدَة كَمَا فِي لوقت الْمُنَاسب وَهُوَ آخر الشتَاء وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رأى مخيلة وَهُوَ السَّحَاب الَّذِي يخال فِيهِ الْمَطَر

أقبل وَأدبر وَتغَير فَقَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا إِن النَّاس إِذا رَأَوْهُ اسْتَبْشَرُوا فَقَالَ وَمَا يؤمنني وَقد رأى قوم عَاد الْعَذَاب فَقَالُوا هَذَا عَارض مُمْطِرنَا قَالَ الله تَعَالَى {بل هُوَ مَا استعجلتم بِهِ ريح فِيهَا عَذَاب أَلِيم} وَكَذَلِكَ الْأَوْقَات الَّتِي تنزل فِيهَا الرَّحْمَة كالعشر الْأَوَاخِر من رَمَضَان وَالْأولَى من ذِي الْحجَّة وكجول اللَّيْل وَغير ذَلِك هِيَ أَوْقَات محدودة تنزل فِيهَا الرَّحْمَة مَالا تنزل فِي غَيرهَا واعتقاد أَن نجما من النُّجُوم السَّبْعَة هُوَ الْمُتَوَلِي لسعد فلَان ونحسه اعتقادا فَاسد وَإِن اعْتقد أَنه هُوَ الْمُدبر لَهُ فَهُوَ كَافِر وخصوصا إِذا انْضَمَّ إِلَى ذَلِك دعاؤه والاستغاثة بِهِ كَانَ كفرا وشركا مَحْضا وَغَايَة من يَقُول ذَلِك يبنيه على أَن هَذَا الْوَلَد ولد بِهَذَا الطالع وَهَذَا الْقدر يمْتَنع أَن يكون وَحده هُوَ الْمُؤثر فِي أَحْوَال هَذَا الْمَوْلُود بل غَايَته أَن يكون جُزْءا يَسِيرا من جملَة الْأَسْبَاب وَهَذَا الْقدر لَا يُوجب مَا ذكر بل مَا علم حَقِيقَة تَأْثِيره فِيهِ مثل حَال الْوَالِدين والبلد الَّذِي هُوَ فِيهِ فَإِن ذَلِك سَبَب محسوس فِي أَحْوَال الْمَوْلُود وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ هَذَا سَببا مُسْتقِلّا ثمَّ إِن الْأَوَائِل من المنجمين الْمُشْركين الصابئين وأتباعهم قد قيل إِنَّهُم كَانُوا إِذا ولدهم الْمَوْلُود أخذُوا طالع الْمَوْلُود وسموه باسم يدل على الطالع فَإِذا كبر سُئِلَ عَن اسْمه أَخذ السَّائِل حَال الطّلع فجَاء هَؤُلَاءِ الطرقية يسْأَلُون الرجل عَن اسْمه وَاسم أمه ويزعمون أَنهم يَأْخُذُونَ من ذَلِك الدّلَالَة على أَحْوَاله وَهَذِه ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض مُنَافِيَة لِلْعَقْلِ وَالدّين وَأما اختباراتهم أَن يَأْخُذُوا الطالع للسَّفر مثلا أَن يكون الْقَمَر فِي شروفه وَهُوَ السرطان وَألا يكون فِي هُبُوطه وَهُوَ الْعَقْرَب فَهُوَ من هَذَا الْبَاب المذموم وَلما أَرَادَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن يُسَافر لقِتَال الْخَوَارِج عرض لَهُ منجم فَقَالَ لَا تُسَافِر فَإِن الْقَمَر فِي الْعَقْرَب فَإنَّك إِن سَافَرت وَالْقَمَر فِي الْعَقْرَب يهْزم

جيشك فَقَالَ بل نسافر ثِقَة بِاللَّه وتوكلا على الله وتكذيبا لَك فسافر فبورك لَهُ فِي هَذَا السّفر وَقتل عَامَّة الْخَوَارِج وَكَانَ ذَلِك من أعظم مَا سر بِهِ حَيْثُ كَانَ قِتَاله لَهُم بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا يذكرهُ بعض النَّاس من أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تسافروا وَالْقَمَر فِي الْعَقْرَب فكذب مختلق بِاتِّفَاق أهل الحَدِيث وَمن قَالَ إِن هَذِه الصَّنْعَة مَأْخُوذَة عَن إِدْرِيس فَهُوَ قَول بِلَا علم وَلَكِن فِي كتب هَؤُلَاءِ هومس ويزعمون أَنه إِدْرِيس والهرمس عِنْدهم اسْم جنس وَلِهَذَا يَقُولُونَ هرمس الهرامسة وَبِهَذَا تعلم أَن مَا عِنْدهم يَسْتَحِيل أَن يكون مأخوذا عَن نَبِي من الْأَنْبِيَاء لما فِيهِ من الْكَذِب وَالْبَاطِل وَلَو فرض أَنه كَانَ مَوْجُودا عَن إِدْرِيس لم يكن لَهُم فِيهِ حجَّة فَإِنَّهُ كَانَ معْجزَة لَهُ وعلما أعطَاهُ الله إِيَّاه فَيكون من الْعُلُوم النَّبَوِيَّة وَهَؤُلَاء إِنَّمَا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بالتجربة وَالْقِيَاس لَا يَقُول أحد من الْأَنْبِيَاء وَلَو كَانَ بعضه مأخوذا عَن نَبِي فَفِيهِ من زياداتهم من الْكَذِب وَالْبَاطِل أَضْعَاف مَا هُوَ مَأْخُوذ عَن ذَلِك النَّبِي وَمَعْلُوم أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى عِنْدهم من الْعُلُوم الْمَأْخُوذَة عَن الْأَنْبِيَاء مَا هُوَ أقل كذبا من هَؤُلَاءِ فَإنَّا قد تَيَقنا قطعا أَن أصل دينهم مَأْخُوذ عَن الْمُرْسلين ثمَّ أخبرنَا الله أَنهم قد حرفوا وكذبوا وكتموا فَإِذا كَانَ هَذَا حَال الْوَحْي الْمُحَقق الَّذِي هُوَ أقرب إِلَيْنَا من إِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام فَمَا الظَّن بِهَذَا الْقدر إِن كَانَ فِيهِ مَا هُوَ مَنْقُول عَن إِدْرِيس فَإنَّا نعلم أَن فِيهِ من الْكَذِب وَالْبَاطِل أعظم مِمَّا فِي عُلُوم أهل الْكتاب وَقد ثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَحِيح البُخَارِيّ أَنه قَالَ إِذا حَدثكُمْ أهل الْكتاب فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تكذبوهم فَكيف تَصْدِيق هَؤُلَاءِ السَّحَرَة فِيمَا يَزْعمُونَ أَنه مَأْخُوذ عَن إِدْرِيس مَعَ أَنَّهَا أبعد من أهل الْكتاب

وَأما علم الْحساب من معرفَة أقدار الأفلاك وَالْكَوَاكِب وصفاتها ومقاديرها فَهَذَا فِي الأَصْل علم صَحِيح لَا ريب فِيهِ كمعرفة الأَرْض وصفاتها لَكِن جُمْهُور الدَّقِيق مِنْهُ كثير التَّعَب قَلِيل الْفَائِدَة كَالْعلمِ بمقادير الدقائق والثواني والثوالث فِي حركات السَّبْعَة الْمُتَحَيِّرَة {بالخنس الْجوَار الكنس} فَهَذَا يُمكن أَن يكون أَصله عَن إِدْرِيس وَالله أعلم بِحَقِيقَة ذَلِك كَمَا يَقُول نَاس إِن أصل الطِّبّ مَأْخُوذ عَن بعض الْأَنْبِيَاء وَأما الْأَحْكَام الَّتِي هِيَ من جنس السحر فَمن الْمُمْتَنع أَن يكون نَبِي من الْأَنْبِيَاء كَانَ ساحرا وهم يذكرُونَ أنواعا من السحر وَيَقُولُونَ هَذَا يصلح لعمل النواميس أَي الشَّرَائِع وَالسّنَن وَمِنْهَا مَا هُوَ دُعَاء للكواكب وَعبادَة لَهَا وأنواع من الشّرك الَّذِي يعلم كل من آمن بِاللَّه وَرَسُوله بالاضطرار أَن نَبينَا من الْأَنْبِيَاء محَال أَن يَأْمر بِشَيْء من ذَلِك وَلَا علمه وَإِضَافَة ذَلِك إِلَى نَبِي من الْأَنْبِيَاء كاضافة من أضَاف ذَلِك السحر إِلَى سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لما سخر الله لَهُ الْجِنّ فَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كفر سُلَيْمَان وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا} وَكَذَلِكَ الِاسْتِدْلَال على الْحَوَادِث بِمَا يستدلون بِهِ من الحركات العلوية على اخْتِيَار أَوْقَات الْأَعْمَال كل هَذَا مِمَّا يعلم قطعا أَن نَبينَا من الْأَنْبِيَاء لم يَأْمر قطّ بِهِ إِذْ فِيهِ من الْكَذِب وَالْبَاطِل مَا ينزه عَنهُ الْعُقَلَاء الَّذين هم دون الْأَنْبِيَاء قَالَ إِمَام هَؤُلَاءِ أَبُو نصر الفارابي مَا مضمونه إِنَّك لَو نقلت أوضاع المنجمين فَجعلت مَكَان السعد نحسا وَمَكَان النحس سَعْدا أَو مَكَان الْحَار بَارِدًا وَمَكَان الْبَارِد حارا أَو مَكَان الذّكر مؤنثا وَمَكَان الْمُؤَنَّث مذكرا وحكمت لَكَانَ حكمك من جنس أحكامهم تصيب تَارَة وتخطىء أُخْرَى وَمَا كَانَ بِهَذِهِ المثابة فهم ينزهون عَنهُ بقراط وأفلاطون وإرسطو وَأَصْحَابه الفلاسفة المشاءين الَّذِي يُوجد فِي كَلَامهم من الْبَاطِل مَا هُوَ أبطل مِمَّا يُوجد فِي كَلَام الْيَهُود وَالنَّصَارَى فاذا كَانُوا ينزهون عَنهُ هَؤُلَاءِ الصابئين وأتباعهم الَّذين هم أقل مرتبَة

وَأبْعد عَن معرفَة الْحق من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَكيف يجوز نِسْبَة ذَلِك إِلَى نَبِي كريم وَنحن نعلم من أَحْوَال أمتنَا أَنه قد أضيف إِلَى جَعْفَر الصَّادِق وَلَيْسَ هُوَ نَبِي من الْأَنْبِيَاء مَا هُوَ من جنس هَذِه الْأُمُور مِمَّا يُعلمهُ كل عَالم بِحَال جَعْفَر أَن جَعْفَر مَكْذُوب عَلَيْهِ حَتَّى نسبوا إِلَيْهِ أَحْكَام الحركات السفلية كاختلاج الْأَعْضَاء وحوادث الجو من الرَّعْد والبرق والهالة وقوس الله الَّذِي يُقَال لَهُ قَوس قزَح وأمثال ذَلِك وَالْعُلَمَاء يعلمُونَ أَنه بَرِيء من ذَلِك كُله وَكَذَلِكَ ينْسب إِلَيْهِ الْجَدْوَل الَّذِي يبْنى عَلَيْهِ الضلال طَائِفَة الرافضة وَهُوَ كذب افتعله عَلَيْهِ عبد الله بن مُعَاوِيَة الْكذَّاب وَكَذَلِكَ أضيف إِلَيْهِ كتاب الجفر والنظافة والهفت حَتَّى أضييف إِلَيْهِ رسائل إخْوَان الصَّفَا وَهَذَا فِي غَايَة الْجَهْل فَإِن هَذِه الرسائل إِنَّمَا وضعت بعد مَوته بِأَكْثَرَ من مِائَتي سنة فَإِنَّهُ توفّي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة وَهَذِه الرسائل وضعت فِي دولة بني بويه فِي أثْنَاء الْمِائَة الرَّابِعَة فِي أَوَائِل دولة بني عبيد الَّذين بنوا الْقَاهِرَة وَضعهَا جمَاعَة وَزَعَمُوا أَنهم جمعُوا بهَا بَين الشَّرِيعَة والفلسفة فضلوا وأضلوا وَكَذَلِكَ كثير مِمَّا ينْسبهُ أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ إِلَى جَعْفَر فِي كتاب حقائق التَّفْسِير هُوَ من الْكَذِب الَّذِي لَا يشك أحد فِي كذبه وَكَذَلِكَ كثير من الْمذَاهب الْبَاطِلَة الَّتِي يحكيها عَنهُ الرافضة وَهِي من أبين الْكَذِب عَلَيْهِ وَأول من ابتدع الرافض عبد الله بن سبأ كَانَ منافقا زنديقا أَرَادَ بذلك فَسَاد دين الْمُسلمين كَمَا فعل بولص صَاحب الرسائل الَّتِي بأيدي النَّصَارَى حَيْثُ ابتدع لَهُم بدعا أفسد بهَا دينهم وَكَانَ يَهُودِيّا فأظهر النَّصْرَانِيَّة نفَاقًا لقصد إِفْسَاد ملتهم وَكَذَلِكَ كَانَ ابْن سبأ يَهُودِيّا فقصد بذلك وسعى فِي الْفِتْنَة وَلم يتَمَكَّن

لَكِن حصل بِسَبَبِهِ بَين الْمُؤمنِينَ تحريش وفتنة قتل فِيهَا عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَللَّه الْحَمد فَلم تَجْتَمِع هَذِه الْأمة على الضلال بل لَا تزَال طَائِفَة مِنْهُم ظَاهِرين على الْحق حَتَّى تقوم السَّاعَة وَلما حدثت بدع الشِّيعَة فِي خلَافَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ ردهَا وَكَانَت ثَلَاث طوائف غَالِيَة وسبئية ومفضلة فَحرق على الغالية لما خرج إِلَيْهِم من بَاب كِنْدَة فسجدوا لَهُ فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا أَنْت هُوَ الله فَخدَّ الأخاديد وأضرم فِيهَا النَّار ثمَّ قذفهم فِيهَا وَقَالَ لما رَأَيْت الْأَمر أمرا مُنْكرا ... أحجت نَارِي ودعوت قنبرا وَأما السبئية فَلَمَّا بلغ عليا أَن ابْن سبأ أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا طلبه ليَقْتُلهُ فهرب إِلَى قريسيا وَكَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ يُدَارِي أمراءه لِأَنَّهُ لم يكن مُتَمَكنًا وَلم يَكُونُوا مُطِيعِينَ لَهُ فِي كل مَا يَأْمُرهُم بِهِ وَأما المفضلة فَقَالَ لَا أُوتِيَ بِأحد يُفَضِّلُنِي على أبي بكر وَعمر إِلَّا جلدته حد المفترى وأضافت إِلَيْهِ القرامطة والباطنية والخرمية والمزدكية والاسماعيلية والنصيرية مذاهبها الَّتِي هِيَ من أفسد مَذَاهِب الْعَالم وَادعوا أَن ذَلِك من الْعُلُوم الموروثة عَنهُ فَإِذا كَانَ هَذَا فِي الزَّمن الْقَرِيب الَّذِي هُوَ أقل من سَبْعمِائة سنة قد كذب على عَليّ وعَلى أهل بَيته وَأَصْحَابه وَغَيرهم وأضيف إِلَيْهِم من مَذَاهِب الفلاسفة والمنجمين مَا يعلم كل عَاقل براءتهم مِنْهُ ونفق ذَلِك على طوائف كَثِيرَة فنسبه إِلَى هَذِه الْمَسْأَلَة مَعَ وجود من يبين كذب هَؤُلَاءِ وَيُنْهِي عَن ذَلِك ويذب عَن الْمَسْأَلَة وَالْيَد وَاللِّسَان فَكيف الظَّن بِمَا يُضَاف إِلَى إِدْرِيس وَغَيره من الْأَنْبِيَاء من أُمُور المنجمين والفلسفة مَعَ تطاول الزَّمَان وتنوع الْحدثَان وَاخْتِلَاف الْملَل والأديان وَعدم من يبين حَقِيقَة ذَلِك بِحجَّة أَو برهَان مَعَ اشْتِمَال ذَلِك على مَا لَا يُحْصى من الْكَذِب والبهتان

وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْمُدعى أَن نجم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعقرب والمريخ وَنجم أمته بالزهرة هُوَ من أوضح الهذيان فَإِن من أوضح الْكَذِب قَوْلهم إِن نجم الْمُسلمين بالزهرة وَنجم النَّصَارَى بالمشتري مَعَ قَوْلهم إِن المُشْتَرِي يَقْتَضِي الْعلم وَالدّين والزهرة تَقْتَضِي اللَّهْو اللّعب وكل عَاقل يعلم أَن النَّصَارَى أعظم الْملَل جهلا وضلالة وَأَكْثَرهم اشتغالا بالملاهي وتعبدا بهَا والفلاسفة متفقون على أَنه مَا قرع الْعَالم ناموس أعظم من الناموس الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمته أكمل الْأُمَم عقلا ودينا وعلما بِاتِّفَاق الفلاسفة حَتَّى فلاسفة الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُم لَا يرتابون فِي أَن الْمُسلمين أفضل عقلا ودينا من كل أمة وَإِنَّمَا يصر أحدهم على دينه لهواه أَو ظنا مِنْهُ أَن يجوز التَّمَسُّك بِأَيّ مِلَّة كَانَت وَأَنَّهَا كالمذاهب فَإِن جُمْهُور الفلاسفة من المنجمين وأمثالهم يَقُولُونَ ذَلِك ويجعلونها بِمَنْزِلَة الدول الصَّالِحَة وَإِن كَانَ بَعْضهَا أفضل من بعض فَظهر جهلهم على مُقْتَضى اعْتِقَادهم وصنعتهم فَإِن الْمُسلمين بِاتِّفَاق كل ذِي عقل أولى بِالْعلمِ وَالدّين وَالْعقل وَالْعدْل وأمثال ذَلِك مِمَّا يُنَاسب عِنْدهم آثَار المُشْتَرِي وَالنَّصَارَى أبعد عَن ذَلِك مِمَّا يُنَاسب عِنْدهم آثَار الزهرة وَبِذَلِك كَانَ مَا ذَكرُوهُ ظَاهر الْفساد حَتَّى إِن كَبِير الفلاسفة الَّذِي يسمونه فيلسوف الْإِسْلَام يَعْقُوب بن إِسْحَاق الْكِنْدِيّ عمل تيسيرا لهَذِهِ الْأمة وَزعم أَنَّهَا تَنْقَضِي عَام ثَلَاث وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَزعم من زعم أَنه استخرج ذَلِك من حِسَاب الْجمل الَّذِي للحروف الَّتِي فِي أَوَائِل السُّور وَهِي مَعَ حذف المكرر أَرْبَعَة عشر حرفا وحسابها فِي الْجمل الْكَبِير سِتّمائَة وَثَلَاثَة وتعسون وَهَذَا أَيْضا مِمَّا ذكر فِي التَّفْسِير أَنه لما نزل آلم قَالَ بعض الْيَهُود بَقَاء هَذِه الْأمة أحد وَثَلَاثُونَ فَلَمَّا نزل آلر والمر قَالُوا خلط علينا فَهَذِهِ الْأُمُور وأشباهها خَارِجَة عَن دين الْإِسْلَام مُحرمَة فِيهِ يجب إنكارها

باب في الاستسقاء

وَالنَّهْي عَنْهَا وَاجِب على الْمُسلمين على كل قَادر بِالْعلمِ وَالْبَيَان وَالْيَد وَاللِّسَان فَإِن ذَلِك من أعظم مَا أوجبه الله من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَهَؤُلَاء وأشباههم هم أَعدَاء الرُّسُل وسوس الْملك وَلَا ينْفق الْبَاطِل فِي الْوُجُود إِلَّا بشوب من حق كَمَا أَن أهل الْكتاب لبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ فَيحصل بذلك فتْنَة فِي الدّين وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم بَاب فِي الاسْتِسْقَاء يحول رِدَاءَهُ لِيَتَحَوَّل الْقَحْط من النَّاس من قَالَ إِن الْيَد لَا ترفع إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء وَتركُوا رفع الْيَدَيْنِ فِي سَائِر الْأَدْعِيَة وَمِنْهُم من فرق بَين دُعَاء الرَّغْبَة وَدُعَاء الرهبة فَقَالَ فِي دُعَاء الرَّغْبَة يَجْعَل ظَاهر كفيه إِلَى السَّمَاء وباطنهما إِلَى الأَرْض وَفِي الرهبة بِالْعَكْسِ يَجْعَل باطنهما إِلَى السَّمَاء وظاهرها إِلَى الأَرْض وَقَالُوا الرَّاغِب كالمستطعم والراهب كالمستجير وَالصَّحِيح الرّفْع مُطلقًا فقد تَوَاتر عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا فِي الصِّحَاح أَن الطُّفَيْل قَالَ يَا رَسُول الله إِن دوسا قد عَصَتْ وأبت فَادع الله عَلَيْهِم فَاسْتقْبل الْقبْلَة وَرفع يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ اهد دوسا وائت بهم وَفِي الصَّحِيحَيْنِ لما دَعَا لأبي عَامر رفع يَدَيْهِ وَفِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لما دَعَا لأهل البقيع رفع يَدَيْهِ ثَلَاث مَرَّات رَوَاهُ مُسلم وَفِيه أَيْضا أَنه رفع يَدَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ أمتِي أمتِي وَفِي آخِره ان الله تَعَالَى قَالَ إِنَّا سنرضيك فِي أمتك وَلَا نسوءك

وَفِيه أَنه لما نظر إِلَى الْمُشْركين وهم ألف وَأَصْحَابه ثَلَاثمِائَة معد يَدَيْهِ وَجعل يَهْتِف بربه فَمَا زَالَت يَهْتِف بربه مَادًّا يَدَيْهِ حَتَّى سقط رِدَاؤُهُ عَن مَنْكِبه الحَدِيث وَفِي حَدِيث قيس بن سعد رَضِي الله عَنهُ فَرفع يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُول اللَّهُمَّ اجْعَل صلواتك ورحمتك على أبي سعد بن عبَادَة وَبعث جَيْشًا فِيهِ عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَرفع يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ لَا تمتنى حَتَّى تريني عليا وَلما كَانَ أُسَامَة بن زيد رَضِي الله عَنهُ رديفة قَالَ فَرفع يَدَيْهِ يَدْعُو فَسقط خطام الناقلة فتناوله بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَهُوَ رَافع الْأُخْرَى وَفِي حَدِيث الْقُنُوت رفع يَدَيْهِ يَدْعُو عَلَيْهِم رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَالْأول رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره وروى عَنهُ أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يرفع يَدَيْهِ فِي شَيْء من دُعَائِهِ إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِيهِمَا أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ حَتَّى بَيَاض إبطَيْهِ وينحى فِيهِ يَدَيْهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا الابتهال وَجعل الْمَرَاتِب ثَلَاثًا الْإِشَارَة بإصبع وَاحِدَة كَمَا كَانَ يفعل يَوْم الْجمع على الْمِنْبَر وَالثَّانيَِة الْمَسْأَلَة وَهُوَ أَن تجْعَل يَديك حَذْو منكبيك كَمَا فِي أَكثر الْأَحَادِيث الثَّالِثَة الابتهال وَهُوَ الَّذِي ذكره أنس رَضِي الله عَنهُ وَلِهَذَا قَالَ كَانَ يرفع يَدَيْهِ حَتَّى يرى بَيَاض إبطه وَهُوَ الرّفْع إِذا اشْتَدَّ وَكَانَ بطُون يَدَيْهِ مِمَّا يَلِي وَجهه وَالْأَرْض وَظُهُورهمَا مِمَّا يَلِي السَّمَاء وَقد يكون أنس رَضِي الله عَنهُ أَرَادَ بِالرَّفْع على الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة كَمَا فِي مُسلم وَغَيره أَنه كَانَ لَا يزِيد على أَن يرفع إصبعه المسبحة

وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة قَولَانِ هما وَجْهَان فِي مَذْهَب أَحْمد فِي رفع الْخَطِيب يَدَيْهِ قيل يسْتَحبّ قَالَه ابْن عقيل وَقيل لَا يسْتَحبّ بل هُوَ مَكْرُوه وَهُوَ أصح قَالَ إِسْحَاق بن رَاهْوَيْةِ هُوَ بِدعَة للخطيب وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم باصبعه إِذا دَعَا وَأما فِي الاسْتِسْقَاء فَإِنَّهُ لما استسقى على الْمِنْبَر رفع يَدَيْهِ كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ فقد روى فِي الحَدِيث أَنه استسقى بهم يَوْم الْجُمُعَة على الْمِنْبَر فَرفع يَدَيْهِ وَقد ثَبت أَنه لم يكن يرفع يَدَيْهِ على الْمِنْبَر فِي غير الاسْتِسْقَاء فَيكون أنس أَرَادَ هَذَا الْمَعْنى لَا سِيمَا وَقد كَانَ عبد الْملك بن مَرْوَان أحدث رفع الْأَيْدِي على الْمِنْبَر وَأنس رَضِي الله عَنهُ أدْرك هَذَا الْعَصْر وَقد أنكر ذَلِك على عبد الْملك عَاصِم بن الْحَارِث فَيكون هُوَ أخبر بِالسنةِ الَّتِي أخبر بهَا غَيره من أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يرفع يَدَيْهِ يَعْنِي على الْمِنْبَر إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء وَهَذَا يبين أَن الاسْتِسْقَاء مَخْصُوص بمزيد الرّفْع وَهُوَ الابتهال الَّذِي ذكره ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فالأحاديث تأتلف وَلَا تخْتَلف وَمن ظن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرّفْع المعتدل جعل ظهر كفيه إِلَى السَّمَاء فقد أَخطَأ وَكَذَلِكَ من ظن أَنه قصد بِوَجْهِهِ وَظهر يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء فقد أَخطَأ فَإِنَّهُ نهى عَن ذَلِك فَقَالَ إِذا سَأَلْتُم الله فأسألوه ببطون أكفكم وَلَا تسألوه بظهورها أخرجه أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس قَالَ وَهُوَ من غير وَجه عَن مُحَمَّد بن كَعْب كلهَا واهية وروى أَحَادِيث أخر فِي أبي دَاوُد وَغَيره

فصل

وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا هُوَ الرّفْع الَّذِي استفاضت بِهِ الْأَحَادِيث وَعَلِيهِ الْأَئِمَّة والمسلمون من زمن نَبِيّهم إِلَى هَذَا التَّارِيخ وَحَدِيث أنس الَّذِي تقدم يدل على أَنه لشدَّة الرّفْع انحنت يَدَاهُ فَصَارَ كَفه مِمَّا يَلِي السَّمَاء لشدَّة الرّفْع لَا قصدا لذَلِك كَمَا جَاءَ أَنه رفعهما حذاء وَجهه وَتقدم حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ فَفِيهِ أَنه رَآهُ يَدْعُو بباطن كفيه وظاهرهما فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَنْوَاع فِي هَذَا الرّفْع الشَّديد رفع الابتهال يذكر فِيهِ أَن بطونها مِمَّا يَلِي وَجهه وَهَذَا أَشد وَتارَة يذكر هَذَا وَهَذَا فَتبين بذلك أَنه لم يقْصد فِي هَذَا الرّفْع الشَّديد لَا ظهر الْيَد وَلَا بَطنهَا لِأَن الرّفْع إِذا قوى تبقى أصابعهما نَحْو السَّمَاء مَعَ نوع من الانحناء الَّذِي يكون فِيهِ هَذَا تَارَة وَهَذَا تَارَة وَأما إِذا قصد تَوْجِيه بطن الْيَد أَو ظهرهَا لاظهر الْيَد وَلَا بَطنهَا لِأَن الرّفْع إِذا قوى تبقى أصابعهما نَحْو السَّمَاء مَعَ نوع من الانحناء الَّذِي يكون فِيهِ هَذَا تَارَة وَهَذَا تَارَة وَأما إِذا قصد تَوْجِيه بطن الْيَد أَو ظهرهَا فَإِنَّمَا كَانَ تَوْجِيه بَطنهَا وَهَذَا فِي الرّفْع الْمُتَوَسّط الَّذِي هُوَ رفع الْمَسْأَلَة الَّتِي يُمكن فِيهَا الْقَصْد وَرفع مَا يخْتَار من الْبَطن وَالظّهْر بِخِلَاف الرّفْع الشَّديد الَّذِي يرى بِهِ بَيَاض إبطَيْهِ فَلَا يُمكن فِيهِ تَوْجِيه بَاطِنهَا بل ينحنى قَلِيلا بِحَسب الرّفْع فَبِهَذَا تتألف الْأَحَادِيث وَتظهر السّنة فصل وَالسَّمَوَات مستديرة عِنْد عُلَمَاء الْمُسلمين حكى الْإِجْمَاع على ذَلِك غير وَاحِد مثل أبي الْحُسَيْن أَحْمد بن جَعْفَر الْمَنَاوِيّ من الطَّبَقَة الثَّانِيَة وَأبي مُحَمَّد بن حزم وَابْن الْجَوْزِيّ والاستسرار اجْتِمَاع القرصين

وَظن طَائِفَة من الْجُهَّال أَنهم يضبطون وَقت طُلُوع الْهلَال بمعرفتهم وَقت ظُهُوره بعد استسراره وبمعرفة بعده عَن الشَّمْس بعد مفارقتها وَقت الْغُرُوب وضبطهم قَوس الرُّؤْيَة وَهَذَا الْخَلْط الْمَفْرُوض مستديرا قطعه من دَائِرَة وَقت الاستهلال فَإِن هَذِه دَعْوَى بَاطِلَة عُلَمَاء الشَّرِيعَة على تَحْرِيم الْعَمَل بذلك فِي الْهلَال فانفق عُلَمَاء الْحساب الْعُقَلَاء على أَن معرفَة الْهلَال لَا تنضبط بِالْحِسَابِ ضبطا صَحِيحا قطّ وَلم يتَكَلَّم فِيهِ إِلَّا قوم من الْمُتَأَخِّرين تَقْرِيبًا وَذَلِكَ ضلال عَن دين الله وتغيير لَهُ شَبيه بضلال الْيَهُود وَالنَّصَارَى عَمَّا أمروا بِهِ من الْهلَال إِذا باعت الشَّمْس وَقت اجْتِمَاع القرصين وكبس الشُّهُور الْهِلَالِيَّة وَذَلِكَ من النسيء الَّذِي كَانَ فِي الْعَرَب زِيَادَة فِي الْكفْر فَمن أَخذ علم الْهلَال بِالْحِسَابِ فَهُوَ فَاسد الْعقل وَالدّين وَإِذا صَحَّ حِسَاب الحاسب فَأكْثر مَا يُمكنهُ ضبط الْمسَافَة الَّتِي بَين الشَّمْس وَالْقَمَر وَقت الْغُرُوب مثلا وَهُوَ الَّذِي يُسمى بعد الْقَمَر عَن الشَّمْس أما كَونه يرى أَولا يرى فَلَا يعلم بذلك فَإِن الرُّؤْيَة تخْتَلف بعلو الأَرْض وانخفاضها وصفاء الجو وَكَذَلِكَ لم يتفقوا على قَوس وَاحِد للرؤية بل اضْطَرَبُوا فِيهِ كثيرا وَلَا أصل لَهُ وَإِنَّمَا مرجعه إِلَى الْعَادة وَلَيْسَ لَهُ ضَابِط حسابي فَمنهمْ من ينقصهُ عَن عشر دَرَجَات وَمِنْهُم من يزِيدهُ عَنْهَا وَفِي الزِّيَادَة وَالنَّقْص أَقْوَال متقابلة

كتاب في ترك الصلاة

كتاب فِي ترك الصَّلَاة الحكم فِيمَن تَركهَا قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ من غير عذر من الْكَبَائِر رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا وَقَالَ الْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أهل الْعلم والأثر وتفويت الْعَصْر أعطم من تَفْوِيت غَيرهَا فَإِنَّهَا الْوُسْطَى وَعرضت على من كَانَ قبلنَا فضيعوها وَمن حَافظ عَلَيْهَا فَلهُ الْأجر مرَّتَيْنِ وَلما فَاتَت سُلَيْمَان فعل بِالْخَيْلِ مَا فعل وَفِي الصَّحِيح من فَاتَتْهُ صَلَاة الْعَصْر فقد حَبط عمله وَفِيه فقد وتر أَهله وَمَاله فِي حَدِيث آخر وَكَذَلِكَ كل من أخر صَلَاة عَن وَقتهَا فقد أَتَى بَابا من الْكَبَائِر وَكَذَلِكَ من ترك الطَّهَارَة أَو الْقبْلَة أَو ترك من فعلهَا رُكُوعًا أَو سجودا أَو الْقِرَاءَة الْوَاجِبَة أَو غير ذَلِك مُتَعَمدا فقد فعل كَبِيرَة بل تتوزع فِي كفره إِذا لم يسْتَحل ذَلِك أما لَو استحله فقد كفر بِلَا ريب وَلَا نزاع أَنه إِذا علم العادم للْمَاء أَنه يجده بعد الْوَقْت يُمكنهُ أَن يفعل ذَلِك كَانَ الْوَاجِب عَلَيْهِ أَن يُصَلِّي فِي الْوَقْت بِحَسب إِمْكَانه وَمن قَالَ يجوز تَأْخِير الصَّلَاة لمشتغل بشرطها فَهَذَا لم يقلهُ أحد قبله من أَصْحَابنَا بل وَلَا من سَائِر طوائف الْمُسلمين إِلَّا أَن يكون بعض الشَّافِعِيَّة فَهَذَا

شكّ فِيهِ وَلَا ريب أَنه لَيْسَ على عُمُومه وإطلاقه بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَإِنَّمَا أَرَادَ صُورَة مَعْرُوفَة كَمَا إِذا أمكن الْوُصُول إِلَى الْبِئْر بعد أَن يصنع حبلا يستقى بِهِ لَا يفرغ إِلَّا بعد الْوَقْت أَو أمكن الْعُرْيَان أَن يخيط لَهُ ثوبا لَا يفرغ مِنْهُ إِلَّا بعد الْوَقْت وَنَحْو هَذِه الصُّور وَمَعَ ذَلِك فالدين قَالُوا هَذَا قد خالفوا الْمَذْهَب الْمَعْرُوف عَن أَحْمد وَأَصْحَابه وَغَيرهم إِلَّا مَا ذَكرْنَاهُ وَهُوَ محجوج بِإِجْمَاع الْمُسلمين فَإِنَّهُ لَو دخل الْوَقْت وَأمكنهُ أَن يجد المَاء ويطلبه بعد الْوَقْت لم يجز لَهُ التَّأْخِير بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَإِن كَانَ مشتغلا بِالشّرطِ وَكَذَلِكَ الْعُرْيَان لَو أمكنه أَن يذهب إِلَى قَرْيَة يَشْتَرِي لَهُ ثوبا وَلَا يُصَلِّي إِلَّا بعد خُرُوج الْوَقْت لم يجز لَهُ التَّأْخِير بِلَا نزاع وَكَذَلِكَ من لَا يعلم الْفَاتِحَة إِلَّا بعد الْوَقْت وَالتَّكْبِير وَالتَّشَهُّد إِذا ضَاقَ الْوَقْت وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَة إِذا كَانَ دَمهَا يَنْقَطِع بعد الْوَقْت فَكل هَؤُلَاءِ يصلونَ فِي الْوَقْت بِحَسب الْحَال وَلَا يجوز لَهُم التَّأْخِير وَأما من يجمع مَا ثَبت الْجمع فِيهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ لم يُؤَخر عَن الْوَقْت بل لَا يحْتَاج الْجمع إِلَى نِيَّة وَلَا الْقصر فِي إِحْدَى الْقَوْلَيْنِ إِلَى نِيَّة وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالْجُمْهُور وَكَذَا صَلَاة الْخَوْف تفعل فِي الْوَقْت بِحَسب الْحَال وَلَا تُؤخر لتفعل تَامَّة وَكَذَا من اشتبهت عَلَيْهِ الْقبْلَة لَا يؤخرها حَتَّى يعلمهَا بعد الْوَقْت بل يُصَلِّي على حسب حَاله بِالِاجْتِهَادِ وَأما نزاع النَّاس فِيمَا إِذا أمكنه التَّعَلُّم بدلائل الْقبْلَة وَلَكِن يخرج عَن الْوَقْت فَهَذَا هُوَ القَوْل الْمُحدث الشاذ الَّذِي تقدم وَإِنَّمَا النزاع الْمَعْرُوف فِيمَا اذا اسْتَيْقَظَ النَّائِم فِي آخر الْوَقْت وَلم يُمكنهُ أَن يُصَلِّي قبل خُرُوج الْوَقْت بِوضُوء هَل يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ أَو يتَوَضَّأ وَيُصلي بعد الْوَقْت على قَوْلَيْنِ

الأول قَول مَالك مُرَاعَاة للْوَقْت وَالثَّانِي قَول الْأَكْثَرين وَمن هُنَا توهم قوم أَن الشَّرْط مقدم على الْوَقْت وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن الْوَقْت فِي حق الناذم حِين يَسْتَيْقِظ فَلَيْسَ فِي النّوم تَفْرِيط بِخِلَاف المستيقظ وَقد نَص جُمْهُور الْعلمَاء على أَنه إِذا ضَاقَ الْوَقْت وَلم يصل قتل وَلَو قَالَ أَنا أقضيها كَمَا إِذا قَالَ أَنا أُصَلِّي بِغَيْر وضوء أَو قَالَ أترك فرضا مجمعا عَلَيْهِ قتل وَلَا يقتل حَتَّى يُسْتَتَاب وَهل هِيَ وَاجِبَة أَو مُسْتَحبَّة أَو مُؤَقَّتَة بِثَلَاثَة أَيَّام فِيهِ نزاع وَهِي يقتل بِصَلَاة أَو بِثَلَاثَة على رِوَايَتَيْنِ وَهل يشْتَرط ضيق وَقت الَّتِي بعْدهَا أَو يَكْفِي ضيق وَقتهَا على وَجْهَيْن وَوجه ثَالِث الْفرق بَين صَلَاتي الْجمع وَغَيرهَا وَمن لَا يعْتَقد وجوب الصَّلَاة عَلَيْهِ فَهُوَ فِي الْبَاطِن كَافِر وَيجْرِي عَلَيْهِ فِي الظَّاهِر أَحْكَام الْإِسْلَام كالمنافقين وَإِن لم يكن فِي الْبَاطِن مُكَذبا للرسول لَكِن معرض عَمَّا جَاءَ بِهِ وَلَا يخْطر بِقَلْبِه الصَّلَاة هَل هِيَ وَاجِبَة أَو لَيست وَاجِبَة وَإِن خطر ذَلِك لَهُ أعرض عَنهُ واشتغل بأموره وشهواته عَن أَن يعْتَقد الْوُجُوب ويعزم على الْفِعْل فَهَؤُلَاءِ وَإِن صلوا لم تقبل صلَاتهم وَإِذا تَابَ فَاعْتقد الْوُجُوب وعزم على الْفِعْل كَانَ بِمَنْزِلَة من تَابَ من الْكفْر فَإِن أصح قولي الْعلمَاء وَأَكْثَرهم لَا يُوجب على من تَابَ من الْكفْر قَضَاء مَا تَركه قبل الْإِسْلَام من صَلَاة وَغَيرهَا وَلِهَذَا لم يكن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر من تَابَ من الْمُنَافِقين بِإِعَادَة مَا فَعَلُوهُ أَو تَرَكُوهُ وَلَا أَمر الْمُرْتَدين الَّذين تَابُوا بِقَضَاء مَا تَرَكُوهُ حَال الرِّدَّة وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد فِي الظَّاهِر عَنهُ وَمذهب الشَّافِعِي الْقَضَاء وَبَنوهُ على أَنه هَل يحبط عمله بِنَفس الرِّدَّة أَو بهَا مَعَ الْمَوْت وَفِيه كَلَام لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه

فصل

أما الَّذِي تَركهَا تكاسلا مَعَ اعْتِقَاده وُجُوبهَا فَيجب عَلَيْهِ الْقَضَاء عِنْد الْجُمْهُور وَعند بَعضهم لَا يجب إِذا تَابَ بِخِلَاف النَّائِم وَالنَّاسِي فَيَقْضِي بِالْإِجْمَاع وتارك الصَّلَاة يجب أَن يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا عُوقِبَ عُقُوبَة شَدِيدَة إِلَّا أَن يُصَلِّي بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَأَكْثَرهم يحكم بقتْله إِمَّا كفرا أَو حدا على قَوْلَيْنِ لِأَحْمَد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ فصل يجب على الْإِنْسَان أَن يَأْمر بِالصَّلَاةِ كل من يقدر على أمره إِذا لم يقم بِهِ غَيره فَإِن لم يَأْمُرهُ عزّر تعزيرا بليغا وَلم يسْتَحق أَن يكون من جند الْمُسلمين وَيَأْمُر زَوجته ويحضها بالرغبة والرهبة فَإِن أصرت على ترك الصَّلَاة طَلقهَا فِي الصَّحِيح وَمن ترك الزَّكَاة أخذت مِنْهُ قهرا فَإِن غيب مَاله قَتله فِي أحد قولي الْعلمَاء وَفِي الآخر لَا يزَال يضْرب ضربا مَا بعد ضرب حَتَّى يظْهر مَاله فَيُؤْخَذ مِنْهُ الزَّكَاة وَمن عرف حَاله فَيَنْبَغِي أَن يهجره فَلَا يسلم عَلَيْهِ وَلَا يُجيب دَعوته ويوبخه ويغلظ عَلَيْهِ حَتَّى يُقيم الصَّلَاة ويؤتي الزَّكَاة وَلَا نَفَقَة للزَّوْجَة مُدَّة تَركهَا الصَّلَاة وَإِذا هجرها وَامْتنع من وَطئهَا كَانَ محسنا وَيجوز أَن يُقَال عَنهُ إِنَّه تَارِك للصَّلَاة بل يَنْبَغِي أَن يشاع عَنهُ ذَلِك حَتَّى يُصَلِّي وكل طَائِفَة ممتنعة عَن شَرِيعَة من شرائع الْإِسْلَام الظَّاهِرَة الْمَعْلُومَة يجب قتالها وَلَو تشهدوا مثل أَن لَا يصلوا أَو لَا يزكوا أَو لَا يَصُومُوا أَو لَا يحجوا الْبَيْت أَو قَالُوا نَفْعل هَذَا وَلَا نَدع الْخمر وَلَا الزِّنَا أَو الرِّبَا أَو الْفَوَاحِش أَو لَا نجاهد أَو لَا نضرب الْجِزْيَة على أهل الذِّمَّة أَو نَحْو ذَلِك قوتلوا حَتَّى يكون الدّين كُله لله

فصل

كتاب الْجَنَائِز كَانَ الْمَيِّت على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخرج بِهِ الرِّجَال يحملونه إِلَى الْمقْبرَة لَا يسرعون وَلَا يبطئون بل عَلَيْهِم السكينَة لَا نسَاء مَعَهم وَلَا يرفعون أَصْوَاتهم لَا بِقِرَاءَة وَلَا غَيرهَا وَهَذِه هِيَ السّنة بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَعمل الْعرس للْمَيت من أعظم الْبدع الْمُنْكَرَات وَكَذَلِكَ الضَّرْب بالدف عِنْد الْجِنَازَة لَكِن يضْرب بِهِ عِنْد الْعرس وَكَرِهَهُ بَعضهم مُطلقًا وَالصَّحِيح الْفرق وَكَانَ دفهم لَيْسَ لَهُ صلاصل وَلِهَذَا تنَازع الْعلمَاء فِي دف الصلاصل على قَوْلَيْنِ وَأما الشَّابَّة فَلم يرخص أحد من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فِي حُضُورهَا مُجْتَمع الرِّجَال الْأَجَانِب لَا فِي الْجِنَازَة وَلَا فِي الْعرس وتلقين الْمَيِّت بعد دَفنه قيل مُبَاح وَقيل مُسْتَحبّ وَقيل مَكْرُوه وَفعله وائلة بن الْأَسْقَع وَأَبُو أُمَامَة وَالْأَظْهَر أَنه مَكْرُوه لِأَنَّهُ لم يَفْعَله الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل الْمُسْتَحبّ الدُّعَاء لَهُ كَمَا فِي سنَن أبي دَاوُد أَنه كَانَ إِذا مَاتَ رجل من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقوم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قَبره فَيَقُول اسألوا لَهُ التثبيت فَإِنَّهُ الْآن يسْأَل فصل الْقُبُور ثَلَاثَة مُتَّفق على صِحَّته كقبر نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصاحبيه أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَمِنْهَا مَا هُوَ كذب لَا ريب فِيهِ مثل قبر أبي بن كَعْب بِدِمَشْق وَكَذَلِكَ اتّفق الْمُسلمُونَ على أَن أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ بِالْمَدِينَةِ فَمن قَالَ إِن

أم حَبِيبَة بِدِمَشْق قد كذب وَلَكِن قبر بِلَال مُمكن فَإِنَّهُ دفن بِبَاب الصَّغِير وَأَسْمَاء بنت يزِيد بن السكن توفيت بِالشَّام صحابية رَضِي الله عَنْهَا وَكَذَلِكَ قبر أويس غربي دمشق كذب وَكذب قبر هود وَالثَّالِث مُخْتَلف فِيهِ كقبر خَالِد فِي حمص قيل هُوَ خَالِد بن الْوَلِيد بن يزِيد أَخُو مُعَاوِيَة بن يزِيد الَّذِي خَارج بَاب الصَّغِير وَكَذَلِكَ قبر أبي مُسلم الْخَولَانِيّ بداريا فِيهِ قَولَانِ وَمن الْكَذِب قطعا قبر الْحُسَيْن بن عَليّ بِمصْر وَكَذَا قبر نوح بجبل بعلبك كذب قطعا وَكَذَلِكَ قبر عَليّ الَّذِي بالنجف فَإِنَّهُ إِنَّمَا دفن بِالْكُوفَةِ بقصر الْإِمَارَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ بقصر الْإِمَارَة بِمصْر وَمُعَاوِيَة بقصر الْإِمَارَة بِدِمَشْق خوفًا عَلَيْهِم من الْخَوَارِج وَكَذَا قبر جَابر فِي حران كذب إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَدِينَة بالانفاق وقبر عبد الله بن عمر لَيْسَ بالجزيرة بل هُوَ بِمَكَّة اتِّفَاقًا وَكَذَا قبر رقية وَأم كُلْثُوم رَضِي الله عَنْهُمَا مِمَّا هُوَ بِالشَّام أَو غَيرهَا فَإِن النَّاس متفقون على أَنَّهُمَا ماتتا فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحت عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَبِهِمَا سمي بِذِي النورين وَلَكِن قد يتَّفق اسْم مَعَ اسْم آخر من النَّاس فيظن الْجُهَّال أَنه فلَان مثلا لشهرته وَيكون غَيره وَكَذَلِكَ الْمَسْجِد الَّذِي بِجَانِب عَرَفَة يُقَال لَهُ مَسْجِد إِبْرَاهِيم فقد يظنّ بَعضهم أَنه إِبْرَاهِيم الْخَلِيل وَإِنَّمَا هُوَ من ولد الْعَبَّاس وَكَانَ بحران مَسْجِد إِبْرَاهِيم فيظن الْجُهَّال أَنه ابراهيم الْخَلِيل وَإِنَّمَا هُوَ ابراهيم بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله ابْن عَبَّاس الَّذِي كَانَت لَهُ الدعْوَة العباسية مَاتَ هُنَاكَ فِي الْحَبْس وَأوصى إِلَى أَخِيه السفاح قبل الْمَنْصُور وَأما قبر الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فقد قَالَ الْعلمَاء إِنَّه حق لَكِن كَانَ

فصل

مسدودا بِمَنْزِلَة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأحدث عَلَيْهِ الْمَسْجِد وَكَانَ أهل الْعلم وَالدّين الْعَالمُونَ بِالسنةِ لَا يصلونَ هُنَاكَ فصل وَينزل عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على المنارة الْبَيْضَاء شَرق دمشق وَيدْرك الدَّجَّال بِبَاب اللد الشَّرْقِي فيقتله وَيَأْمُر الله بعد قَتله أَن تحْشر النَّاس إِلَى الطّور وَيُقَال لَهُ يَا روح الله تقدم فصل بِنَا فَيَقُول لَا إِن بَعْضكُم على بعض أَمِير فَيصَلي بِالْمُسْلِمين بَعضهم وَيتم الصَّلَاة وَلَا يحدث فِيهَا والاستئجار على نفس تِلَاوَة الْقُرْآن غير جَائِز وَإِنَّمَا النزاع فِي التَّعْلِيم وَنَحْوه مِمَّا فِيهِ مصلحَة تصل إِلَى الْغَيْر وَالثَّوَاب لَا يصل إِلَى الْمَيِّت إِلَّا إِذا كَانَ الْعَمَل لله وَمَا وَقع بِالْأَجْرِ من النُّقُود وَنَحْوهَا فَلَا ثَوَاب فِيهِ وَإِن قيل يَصح الِاسْتِئْجَار عَلَيْهِ فَإِذا أوصى الْمَيِّت أَن يعْمل لَهُ ختمة فَيَنْبَغِي أَن يتَصَدَّق بذلك على المحاويج من أهل الْقُرْآن أَو غَيره فَذَلِك أفضل وَأحسن فصل والأنبياء أَحيَاء فِي قُبُورهم كَمَا رأى مُحَمَّد مُوسَى صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِمَا وعَلى ساذر الْأَنْبِيَاء فِي قَبره لَيْلَة الأسراء وَقد جَاءَ فِي أَحَادِيث

فصل

حسان أَن الْعَمَل الصَّالح يصور لصَاحبه صُورَة حَسَنَة والسيء صُورَة قبيحة ينعم بِهِ صَاحبه أَو يعذب وَجَاء مَخْصُوصًا بِبَعْض الْأَعْمَال مثل الْقُرْآن وَغَيره وَذَلِكَ فِي البرزخ وَفِي عرصات الْقِيَامَة وَأما جَزَاء الْأَعْمَال بِالْأَعْمَالِ فَإِن كَانَ الْمَعْنى أَن عبورهم على الصِّرَاط بِحَسب أَعْمَالهم فَهَذَا حق وَأما تَصْوِير الْعَمَل لصَاحبه على الصِّرَاط فَلم يبلغنِي فِيهِ شَيْء فصل قَالَ عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ من كَانَ مستنا فَليَسْتَنَّ بِمن قد مَاتَ فَإِن الْحَيّ لَا تؤمن عَلَيْهِ الْفِتْنَة أُولَئِكَ أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبر هَذِه الْأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اخْتَارَهُمْ الله لصحبة نبيه وَإِقَامَة دينه فاعرفوا لَهُم حَقهم وتمسكوا بهديهم فَإِنَّهُم كَانُوا على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَقَالَ حُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِي الله عَنهُ يَا معشر الْقُرَّاء اسْتَقِيمُوا وخذوا بطرِيق من قبلكُمْ فو الله لَئِن اسْتَقَمْتُمْ لقد سبقتم سبقا بَعيدا وَلَئِن أَخَذْتُم يَمِينا أَو شمالا لقد ضللتم ضلالا بَعيدا فَلم يكن من عَادَة السّلف إِذا صلوا أَو صَامُوا أَو حجُّوا تَطَوّعا أَو قرءوا الْقُرْآن أَن يهدوا ثَوَاب ذَلِك للموتى بل كَانَ من عَادَتهم أَن يعبدوا الله بأنواع الْعِبَادَات المشروعات ويدعوا للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات لأحيائهم وأمواتهم فِي صلَاتهم على الْجِنَازَة وَعند زِيَارَة قُبُورهم وَغير ذَلِك رُوِيَ أَن عِنْد كل ختمة دَعْوَة مستجابة فَإِذا دَعَا عقيب الختمة لنَفسِهِ ولوالديه ولمشايخه وَغَيرهم من الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات كل مَشْرُوعا وَكَذَلِكَ مَوَاطِن الْإِجَابَة كجوف اللَّيْل وَنَحْوه فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُول عَن طريقهم إِلَى طَرِيق المبتدعين وَإِن كَانُوا كثيرين

فصل

فصل يجوز ركُوب الْبَحْر إِذا غلب على طنه السَّلامَة وَلَو مَاتَ غريقا فَهُوَ شَهِيد وَدفن الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد حرَام بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَمن يحدث بِأَحَادِيث مفتعلة ليضحك النَّاس أَو لغَرَض آخر فَهُوَ عَاص لله وَلِرَسُولِهِ مُسْتَحقّ للعقوبة الَّتِي تردعه وَأما عرض الْأَدْيَان على الْمَيِّت عِنْد الْمَوْت فَلَيْسَ هُوَ أمرا عَاما لكل ميت وَلَا عَدمه أَيْضا أمرا عَاما عَن كل أحد بل قد يعرض على وَاحِد دون غَيره وَقد يعرض قبل الْمَوْت وَذَلِكَ من فتْنَة الْمحيا الَّتِي أمرنَا بالاستعاذة مِنْهَا وَلَكِن روى إِن الشَّيْطَان أَشد مَا يكون عِنْد الْمَوْت يَقُول لأعوانه دونكم إِن فاتكم لم تظفروا بِهِ أبدا وحكاية الإِمَام أَحْمد رَحمَه الله تَعَالَى مَشْهُورَة وفتة الْقَبْر عَامَّة إِلَّا لِلنَّبِيِّينَ وَغير الْمُكَلّفين ففيهم خلاف وَقد تنازعوا فِي الْمُرْتَد هَل كَانَ إيمَانه صَحِيحا يحبط بِالرّدَّةِ أم يُقَال بِالرّدَّةِ تَبينا أَن إيمَانه كَانَ فَاسِدا وَأَن الْإِيمَان الصَّحِيح لَا يَزُول الْبَتَّةَ على قَوْلَيْنِ للنَّاس وعَلى ذَلِك يَنْبَنِي قَول الْمُسْتَثْنى أَنا مُؤمن إنْشَاء الله وَهل يعود إِلَى كَمَال الْإِيمَان فِي الْحَال أَو يعود إِلَى الْوَفَاء فِي الْمَآل وَفِي لحد الرجل للْمَرْأَة نزاع الصَّحِيح أَنه إِن كَانَ من أهل الْخَيْر يلحدها وَيجوز حجَّة عَنْهَا اتِّفَاقًا وَفِي حجمها عَنهُ نزاع فصل وَلَا يسْتَحبّ حفر الْقَبْر قبل الْمَوْت وَرُوِيَ ابْن حبَان فِي صَحِيحه وَغَيره أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الْمَيِّت يبْعَث فِي ثِيَابه الَّتِي قبض فِيهَا

فصل

ودعا أَبُو سعيد رَضِي الله عَنهُ بِثِيَاب جده فلبسها عِنْد الْمَوْت وَقَالَ ذَلِك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحمل الحَدِيث على ثِيَابه الَّتِي يقبض فِيهَا لَا على كتفه فَقيل يبْعَث فِي نفس الثَّوْب الظَّاهِر وَقيل إِن المُرَاد أَنه يبْعَث على مَا مَاتَ عَلَيْهِ من الْعَمَل كَمَا قَالَ أَكثر الْمُفَسّرين فِي قَوْله تَعَالَى {وثيابك فطهر} أَي عَمَلك يُؤَيّد ذَلِك مَا ثَبت فِي الصَّحِيح أَنهم يحشرون حُفَاة عُرَاة غرلًا ثمَّ قَرَأَ {كَمَا بدأنا أول خلق نعيده} قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا النِّسَاء وَالرِّجَال ينظر بَعضهم الى بعض قَالَ نعم قَالَت وافضحيتاه قَالَ الْأَمر أَشد من ذَلِك فصل إِذا قضيت الْحَاجة عِنْد قبر من قُبُور الْأَوْلِيَاء فَمن أَيْن يعرف أَن قضاءها لأجل الْقَبْر فقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن النّذر لَا يَأْتِي بِخَير وَإِنَّمَا يسْتَخْرج بِهِ الْبَخِيل وَفِي لفظ النّذر لَا يَأْتِي لِابْنِ بِآدَم بِشَيْء وَلَكِن يلقيه الْقدر فَيعْطى على النّذر مَالا يعْطى على غَيره فَإِن كَانَ ذَلِك فِي النّذر الَّذِي نقضي أَكثر الْحَوَائِج عِنْده فَكيف يكون عِنْد غَيره نقضي بِهِ الْحَاجة فالحاجة إِمَّا أَن تكون قد قضيت بِغَيْر دُعَائِهِ فَلَا كَلَام وَإِمَّا بدعائه فَيكون قد اجْتهد فِي الدُّعَاء اجْتِهَادًا لَو اجتهده فِي غير تِلْكَ الْبقْعَة أَو عِنْد الصَّلِيب مثلا لقضبت فَيكون السَّبَب اجْتِهَاده فِي الدُّعَاء لَا خُصُوص الْقَبْر وَلِهَذَا قد نقضي حوائج الْمُشْركين عِنْد أوثانهم وصلبانهم وكنائسهم فَهَل يقوم مُسلم إِنَّه يجوز قصد صلبانهم وأوثانهم لذَلِك

فصل

وَلَو قيل إِن للقبر تَأْثِير فِي ذَلِك سَوَاء كَانَ باتصال روح الدَّاعِي وروح الْمَيِّت فيقوى بذلك كَمَا يزعمه ابْن سينا وَأَبُو حَامِد الْغَزالِيّ وأمثالهما فِي زِيَارَة الْقُبُور أَو كَانَ بِسَبَب آخر فَيُقَال لَيْسَ كل سَبَب نَالَ الانسان حَاجته يكون مَشْرُوعا وَلَا مُبَاحا وَإِنَّمَا يكون مَشْرُوعا إِذا غلبت مصْلحَته على مفسدته مِمَّا أذن فِيهِ الشَّرْع وَمن هَذَا الْبَاب تَحْرِيم السحر مَعَ مَاله من التَّأْثِير وَقَضَاء بعض الْحَاجَات وَمَا يدْخل فِي ذَلِك من عبَادَة الْكَوَاكِب ودعائها واستحضار الْجِنّ وَالْكهَانَة والاستسقام بالأزلام وأنواع السحريات مَعَ كَونهَا لَهَا نوع كشف وتأثير وَفِي هَذَا تَنْبِيه على جملَة الْأَسْبَاب الَّتِي تقضي بهَا الْحَوَائِج وَأما تَفْصِيل ذَلِك فَلهُ مَوضِع آخر لكل الْعَاقِل يعلم أَن أمة من الْأُمَم لَا تَجْتَمِع على أَمر بِلَا سَبَب فلأجل ذَلِك اجْتمع نَاس بالسحرة وناس بالشرك وَعبادَة الْأَصْنَام والخليل يَقُول {رب إنَّهُنَّ أضللن كثيرا من النَّاس} وَلم يقل أحد إِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ إِن الْأَصْنَام تخلق وتحيي وتجلب الرزق بل عبدوها لحاجتهم إِلَيْهَا من حسن قصد الْمُشْركين للقبور المعظمة وَقصد النَّصَارَى لصورة القديسين يتخذونهم شُفَعَاء ووسائط ووسائل وَيَكْفِي الْمُسلم أَن يعلم أَن الله لم يحرم شَيْئا إِلَّا ومفسدته مَحْضَة أَو غالبة فصل تعود الرّوح إِلَى الْمَيِّت وتفارقه وَهل يُسمى ذَلِك موتا فِيهِ قَولَانِ والنفخ ثَلَاثَة أَحدهَا الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {ينْفخ فِي الصُّور فَفَزعَ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض} وَنفخ الصَّعق وَالْقِيَام الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {وَنفخ فِي الصُّور فَصعِقَ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من شَاءَ الله ثمَّ نفخ فِيهِ أُخْرَى فَإِذا هم قيام ينظرُونَ}

فصل

وَقَوله تَعَالَى {إِلَّا من شَاءَ الله} متناول لأهل الْجنَّة من الْحور وَغَيرهم مِمَّن يُعلمهُ الله تَعَالَى فصل ذهب طَائِفَة من الْمُتَأَخِّرين إِلَى جَوَاز إهداء الْأَعْمَال الصَّالِحَة من الصَّدَقَة وَالصَّلَاة وَالْقِرَاءَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأزواجه وَفِي إهداء الْفَرِيضَة وَجْهَان وَأما السّلف فَلم يَكُونُوا يَفْعَلُونَ شَيْئا من ذَلِك وهم أخلق بالاتباع وَحَدِيث أبي الَّذِي فِيهِ أجعَل صَلَاتي كلهَا عَلَيْك قَالَ إِذا يَكْفِيك الله همك وَيغْفر ذَنْبك المُرَاد أَنه يَجْعَل لَهُ ربع دُعَائِهِ أَو نصفه أَو ثلثه إِلَى أَن قَالَ كلهَا أَي كل دعائي فَإِن الصَّلَاة فِي اللُّغَة الدُّعَاء وَلِهَذَا قَالَ لَهُ إِذن يَكْفِيك الله همك وَيغْفر ذَنْبك فَإِنَّهُ إِذا صلى عَلَيْهِ مرّة صلى الله بهَا عَلَيْهِ عشرا وَمن دَعَا لِأَخِيهِ وكل الله بهَا ملكا يَقُول وَلَك بِمثلِهِ فَإِذا صلى عَلَيْهِ بدل دُعَائِهِ كَفاهُ الله همه وَحصل لَهُ مَقْصُود ذَلِك الدُّعَاء من كِفَايَة همه وغفران ذَنبه وَالله فِي عون العَبْد مَا كَانَ العَبْد فِي عون أَخِيه فَكيف بِمن يَدْعُو للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بدل نَفسه إِنَّه لحقيق أَن يحصل لَهُ أَكثر مِمَّا يَطْلُبهُ لنَفسِهِ وَقد يتَوَهَّم متوهم من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صلى عَليّ مرّة صلى الله عَلَيْهِ بهَا عشرا أَنه يحصل للْمُصَلِّي أَكثر مِمَّا يحصل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بل لَهُ مثل أجر الْمصلى الَّذِي حصل لَهُ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي علمه وَسن لَهُ ذَلِك فَلهُ على ذَلِك مثل أجره

فصل

وَلَيْسَ للْأَب إِلَّا مَا يَدعُونَهُ بِهِ الْوَلَد لَهُ فَظهر معنى قَوْله تَعَالَى {النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم} فَهُوَ الْأَب الروحاني وَالْوَالِد الْأَب الجثماني وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبَب السَّعَادَة الأبدية لِلْمُؤمنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَالْأَب سَبَب لوُجُوده فِي الدُّنْيَا وَمَعْلُوم أَن الْإِنْسَان يجب عَلَيْهِ أَن يُطِيع معلمه الَّذِي يَدعُوهُ إِلَى الْخَيْر ويأمره بِمَا أمره الله وَلَا يجوز لَهُ أَن يطبع أَبَاهُ فِي مُخَالفَة هَذَا الدَّاعِي لِأَنَّهُ يدله على مَا يَنْفَعهُ ويقربه إِلَى ربه وَيحصل لَهُ باتباعه السَّعَادَة الأبدية فَظهر فضل الْأَب الروحاني على الْأَب الجثماني فَهَذَا أَبوهُ فِي الدّين وَذَلِكَ أَبوهُ فِي الطين وَأَيْنَ هَذَا من هَذَا وَأَزْوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ فِي الْحُرْمَة لَا فِي الحرمية ولهن من الاحترام مَا لَيْسَ للْأُم الوالدة فصل لِقَاء الله تَعَالَى قد فسره طَائِفَة من السّلف أَنه الْمُشَاهدَة والمعاينة وَاسْتدلَّ بِهِ قوم على رُؤْيَة الله تَعَالَى وَقَوله تَعَالَى {وَلَقَد كُنْتُم تمنون الْمَوْت من قبل أَن تلقوهُ فقد رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُم تنْظرُون} لِأَن الْإِنْسَان يُشَاهد بنسفه هَذِه الْأُمُور وَقد قيل إِن الْمَوْت نَفسه يُشَاهد وَيرى ظَاهرا وَقيل المرئي أَسبَابه وَقد تنَازع النَّاس فِي الْكفَّار هَل يرَوْنَ رَبهم أول مرّة ثمَّ يحتجب عَنْهُم أم لَا يرونه بِحَال على قَوْلَيْنِ وَالْأول أصح وَهُوَ قَول أهل الحَدِيث وَأكْثر الْفُقَهَاء وَالثَّانِي قَول الْمُتَكَلِّمين

فصل

فصل نطق الْكتاب وَالسّنة بمحبته تَعَالَى وَهِي على حَقِيقَتهَا عِنْد سلف الْأمة وائمتها ومشايخها وَأول من أنكر حَقِيقَتهَا شيخ الْجَهْمِية الْجَعْد بن دِرْهَم فَقتله خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي بواسط يَوْم النَّحْر وَقد فسروا محبته تَعَالَى بمحبة عِبَادَته وطاعته وَلَا ريب أَن الْمُؤمنِينَ يعْرفُونَ رَبهم فِي الدُّنْيَا ويتفاوتون فِي دَرَجَات الْعرْفَان وَأكل الشَّيْطَان لَو تصور لَكَانَ من أعظم الْمُحرمَات لما فِيهِ من الْخبث وَالْبَغي والعدوان فَمن قَالَ إِن آدم سلقه وَأكله فَمن أقبح الْبُهْتَان وَأما عرض السُّجُود على إِبْلِيس عِنْد قبر آدم فقد ذكره بعض النَّاس وَأما عرض السُّجُود على إِبْلِيس عِنْد قبر آدم فقد ذكره بعض النَّاس وَأما عرضه عَلَيْهِ فِي الْآخِرَة فَمَا علمت أحدا ذكره وَكِلَاهُمَا بَاطِل وَاتفقَ سلف الْأمة وأئمتها على أَن من الْمَخْلُوقَات مَالا يعْدم وَهُوَ الْجنَّة وَالنَّار وَالْعرش وَغير ذَلِك وَلم يقل بِفنَاء جَمِيع الْمَخْلُوقَات إِلَّا طَائِفَة من أهل الْكتاب المبتدعين وَهُوَ قَول بَاطِل فصل قَوْله أَنا فِي بركَة فلَان أَو تَحت نظره أَو يَا فلَان مدنِي بخاطرك فَإِن أَرَادَ أَن نظره أَو خاطرة أَو بركته مُسْتَقلَّة بتحصيل الْمَنَافِع وَدفع المضار فَهُوَ كذب وشرك وَإِن أَرَادَ أَن فلَانا دَعَا فانتفعت بدعائه أَو أَنه عَلمنِي أَو أَنه أدبني وَأَنا فِي بركَة مَا انتفعت بِهِ من تَعْلِيمه وتأديبه فَهُوَ صَحِيح

وَإِن أَرَادَ أَنه بعد مَوته يجلب الْمَنَافِع أَو يدْفع المضار فَهُوَ كذب محرم وَهُوَ الشّرك الَّذِي حظره الله على عباده وَالَّذِي لَا يغْفر إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ وَلَا يجوز الدُّعَاء للْوَالِدين إِذا مَاتَا على الشّرك وَقَول الشَّخْص اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد فِي الْأَوَّلين لَيْسَ هُوَ مأثورا وَالْمرَاد بالأولين من قبل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبالآخرين أمته قَالَه الْجُمْهُور وَقيل الْأَوَّلين والآخرين أمته وَالْأول أصح قيل ذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى {ثلة من الْأَوَّلين وَقَلِيل من الآخرين} وَلَفظ الأول إضافي فَلَا شخص إِلَّا وَقَبله أول وَبعده آخر وَقَوله اللَّهُمَّ صل على سيدنَا مُحَمَّد فِي الْأَوَّلين إِن أَرَادَ بهم من قبل مُحَمَّد أَو من قبل الْمصلى فمحتمل لَكِن يكون المُرَاد بِهِ صل عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلين وَإِن كَانُوا مَاتُوا فَالْمُرَاد أَزوَاجهم فَإِنَّهُنَّ موجودات أَو صل عَلَيْهِ فِي الْمَوْجُودين فَهَذَا مُجمل حسن وَفِي الآخرين أَي فِيمَن يُوجد من الْمُتَأَخِّرين وَقد يكون المُرَاد صلى عَلَيْهِ فَمن يُصَلِّي عَلَيْهِم من الْأَوَّلين والآخرين وَالْمَلَأ الْأَعْلَى أَي صل عَلَيْهِ فِي كل طَائِفَة صليت عَلَيْهَا فَهُوَ معنى صَحِيح

فصل

فصل روى مَالك فِي موطئِهِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهم عَن أسلم مولى عمر وَفِي لفظ عَن نعيم بن ربيعَة أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} الْآيَة فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ إِن الله خلق آدم ثمَّ مسح ظَهره بِيَمِينِهِ فاستخرج ذُريَّته فَقَالَ جعلت هَؤُلَاءِ للجنة وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ ثمَّ مسح ظَهره فاستخرج مِنْهُ ذُريَّته فَقَالَ خلقت هَؤُلَاءِ للنار وبعمل أهل للنار وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ فَقَالَ رجل يَا رَسُول الله فَفِيمَ الْعَمَل فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله إِذا خلق الرجل للجنة اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى يَمُوت على عمل من أَعمال أهل الْجنَّة فَيدْخل بِهِ الْجنَّة وَإِذا خلق الرجل النَّار اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل النَّار حَتَّى يَمُوت على عمل من أَعمال أهل النَّار فَيدْخل بِهِ النَّار وَفِي حَدِيث الحكم بن سِنَان عَن ثَابت عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله قبض قَبْضَة فَقَالَ إِلَى الْجنَّة برحمتي وَقبض قَبْضَة فَقَالَ إِلَى النَّار وَلَا أُبَالِي وَهَذَا الْمَعْنى مَشْهُور عَنهُ من وُجُوه مُتعَدِّدَة

وَفِيه فصلان أَحدهمَا الْقدر السَّابِق وَهُوَ أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علم أهل الْجنَّة من أهل النَّار قبل أَن يعملوا الْأَعْمَال وَهَذَا حق يجب الْإِيمَان بِهِ بل قد نَص الْأَئِمَّة كمالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد أَن من جحد هَذَا فقد كفر بل يجب الْإِيمَان بِهِ فَإِن الله علم مَا سَيكون كُله قبل أَن يكون كَمَا فِي صَحِيح مُسلم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله قدر مقادير الْخَلَائق قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة وَكَانَ عَرْشه على المَاء وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عمرَان بن حُصَيْن رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ كَانَ الله وَلَا شَيْء غَيره وَكَانَ عَرْشه على المَاء وَكتب فِي الذّكر كل شَيْء وَخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَفِي الْمسند عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِنِّي عِنْد الله لمكتوب خَاتم النَّبِيين وَإِن آدم لَمُنْجَدِل فِي طينته وسأنبئكم بِأول ذَلِك دَعْوَة أبي إِبْرَاهِيم وبشرى أخي عِيسَى ورؤيا أُمِّي رَأَتْ حُسَيْن ولدتني أَنه خرج مِنْهَا نور أَضَاءَت لَهُ قُصُور الشَّام وَنَحْوه كثير كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَليّ حَدِيث بَقِيع الْغَرْقَد وَفِي الصَّحِيح قَالُوا يَا رَسُول الله علم الله أهل الْجنَّة من أهل النَّار فَقَالَ نعم قيل فيمَ الْعَمَل قَالَ اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ وَذَلِكَ أَن الله علم الْأَشْيَاء كَمَا هِيَ عَلَيْهِ وَقد جعل لَهَا أسبابا تكون بهَا وَيعلم أَنَّهَا تكون بِتِلْكَ الْأَسْبَاب فَلَو قَالَ قَائِل إِذا علم الله أَنه يُولد لي ولد فَلَا حَاجَة لي بِالزَّوْجَةِ كَانَ أَحمَق فَإِن الله يعلم مَا سَيكون بأسبابه بِمَا قدره من الْوَطْء وَغَيره وَكَذَلِكَ علم مَا سَيكون من أَن هَذَا يشْبع بِالْأَكْلِ وَهَذَا يَمُوت بِالْقَتْلِ

فَلَا بُد من الْأَسْبَاب الَّتِي قد علمهَا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الدُّعَاء وَالسُّؤَال وَغَيره فَلَا ينَال العَبْد شَيْئا إِلَّا بِمَا قدره الله من جَمِيع الْأَسْبَاب وَالله خَالق ذَلِك الشَّيْء وخالق الْأَسْبَاب وَلِهَذَا قيل الِالْتِفَات إِلَى الْأَسْبَاب شرك فِي التَّوْحِيد ومحو الْأَسْبَاب أَن تكون أسبابا نقص فِي الْعقل والاعراض عَن الْأَسْبَاب بِالْكُلِّيَّةِ قدح فِي الشَّرْع وَمُجَرَّد الْأَسْبَاب لَا توجب حُصُول الْمُسَبّب بل لَا بُد من تَمام الشُّرُوط وَزَوَال الْمَوَانِع فَكل ذَلِك بِقَضَاء الله وَقدره وَكَذَلِكَ أَمر الْآخِرَة فَلَيْسَ بِمُجَرَّد عمل العَبْد ينَال الْإِنْسَان السَّعَادَة بل الْعَمَل سَبَب كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لن يدْخل أحد مِنْكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ الحَدِيث وَقَالَ تَعَالَى {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَهَذِهِ بَاء السَّبَب أَي بِسَبَب أَعمالكُم وَالَّذِي نَفَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَاء الْمُقَابلَة والمعارضة كَمَا يُقَال اشْتريت هَذَا بِهَذَا أَي لَيْسَ الْعَمَل عوضا أَو ثمنا كَافِيا فِي دُخُول الْجنَّة بل لَا بُد مَعَه من عَفوه تَعَالَى وَرَحمته وفضله ومغفرته وفضله ومغفرته فغفرته تمحو السَّيِّئَات وَرَحمته تَأتي بالخبرات وتضاعف الْحَسَنَات وَهنا ضل فريقان فريق أخذُوا بِالْقدرِ وأعرضوا عَن الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة والأعمال الصَّالِحَة وظنوا أَن ذَلِك كَاف وَهَؤُلَاء يؤول أَمرهم إِلَى الْكفْر بِاللَّه وَكتبه وَرُسُله وفريق أخذُوا يطْلبُونَ الْجَزَاء من الله كَمَا يَطْلُبهُ الْأَجِير من الْمُسْتَأْجر متكلين على حَولهمْ وقوتهم وعملهم وهم جهال ضلال فَإِن الله لم يَأْمر الْعباد بِمَا أَمرهم بِهِ عَن حَاجَة مِنْهُ إِلَيْهِم وَإِنَّمَا أَمرهم بِمَا فِيهِ صَلَاحهمْ وَلَا نَهَاهُم عَن شَيْء بخلا بل نَهَاهُم عَمَّا فِيهِ فسادهم وكما قَالَ يَا عبَادي لن تبلغوا ضري

فتضروني وَلنْ تبلغوا نفعي فتنفعونني وَهُوَ مَعَ غناء عَن الْعَالمين أرسل إِلَيْهِم الرُّسُل بفضله سُبْحَانَهُ وَإِن كَانَ أوجب على نَفسه الرَّحْمَة وَحرم عَلَيْهَا الظُّلم فَهُوَ وَاقع لَا محَالة وَاجِب بِحكم إِيجَابه ووعده لَا أَن الْخلق يوجبون على الله شَيْئا أَو يحرمُونَ عَلَيْهِ شَيْئا بل هم أعجز من ذَلِك وكل نعْمَة مِنْهُ فضل وكل نقمة من عدل كَمَا فِي قَوْله فِي الحَدِيث فَمن وجد خيرا فليحمد الله وَمن وجد غير ذَلِك فَلَا يلو من إِلَّا نَفسه فَمن أعرض عَن الْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد نَاظرا إِلَى الْقدر فقد ضل وَمن طلب الْمقَام بِالْأَمر وَالنَّهْي معرضًا عَن الْقدر فقد ضل بل لَا بُد من الْأَمريْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} فنعبده اتبَاعا لِلْأَمْرِ ونستعينه إِيمَانًا بِالْقدرِ فَكل عمل يعمله الْعَامِل وَلَا يكون طَاعَة وَعبادَة وَعَملا صَالحا فَهُوَ بَاطِل فَإِن الدُّنْيَا ملعونة مَلْعُون مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ لله وَلَو نَالَ بذلك الْعَمَل رياسة ومالا فغاية المترئس أَن يكون كفرعون وَغَايَة المتمول أَن يكون كقارون وَقد ذكر الله فِي سُورَة الْقَصَص من قصتهما مَا فِيهِ عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب وكل عمل لَا يعين الله العَبْد عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يكون وَلَا يَقع فَمَا لَا يكون بِهِ لَا يكون وَمَا لَا يكون لَهُ لَا يَدُوم وَلَا ينفع فَلذَلِك أَمر العَبْد أَن يَقُول {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} فِي كل صَلَاة وَلِلْعَبْدِ حالان حَال قبل الْقدر فَعَلَيهِ أَن يَسْتَعِين بِاللَّه ويتوكل عَلَيْهِ ويدعوه وَحَال بعد الْقدر فَعَلَيهِ أَن يحمد الله فِي الطَّاعَة ويصبر ويرضى فِي الْمُصِيبَة ويستغفر فِي الذَّنب وَفِي الطَّاعَة من النَّقْص ويشكره عَلَيْهَا إِذْ هِيَ من نعْمَته فَينْظر إِلَى الْقدر عِنْد الْمُصِيبَة بعد وُقُوعهَا ويستغفر عِنْد الْمعْصِيَة قَالَ تَعَالَى لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {فاصبر إِن وعد الله حق واستغفر لذنبك} وَقَالَ تَعَالَى {مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها إِن ذَلِك على الله يسير لكَي لَا تأسوا على مَا فاتكم وَلَا تفرحوا بِمَا آتَاكُم}

فصل

فصل فِي الْأَحَادِيث الَّتِي سُئِلَ فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن السَّاعَة فَقَالَ إِن يَعش هَذَا الْغُلَام لن يُدْرِكهُ الْهَرم حَتَّى تقوم السَّاعَة المُرَاد بذلك سَاعَة الْقرن وَهن مَوْتهمْ فَإِن فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت كَانَ الْأَعْرَاب إِذا قدمُوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلُوهُ مَتى السَّاعَة فَينْظر إِلَى أحدث إِنْسَان مِنْهُم فَيَقُول إِن يَعش هَذَا الْغُلَام لم يُدْرِكهُ الْهَرم حَتَّى تقوم عَلَيْكُم سَاعَتكُمْ قَالَ هِشَام يَعْنِي مَوْتهمْ فَهَذَا يبين تِلْكَ الْأَحَادِيث وَقد يُرَاد بالقيامة الْمَوْت وَأَن من مَاتَ فقد قَامَت قِيَامَته كَمَا قَالَ الْمُغيرَة ابْن شُعْبَة رَضِي الله عَنهُ أَيهَا النَّاس إِنَّكُم تَقولُونَ الْقِيَامَة الْقِيَامَة وَإِن من مَاتَ فقد قَامَت قِيَامَته وَلَيْسَ وَاحِد من هذَيْن النَّوْعَيْنِ منافيا لما أخبر الله بِهِ من الْقِيَامَة الْكُبْرَى الَّتِي يقوم فِيهِ النَّاس من قُبُورهم لرب الْعَالمين حُفَاة عُرَاة بعد أَن تُعَاد الْأَرْوَاح إِلَى الأجساد وَإِنَّمَا يُنكر هَذَا أهل الزندقة من الفلاسفة وَنَحْوهم ويتأولون مَا فِي الْقُرْآن من ذَلِك وَمن ذكر الْقِيَامَة على أَن المُرَاد بهَا الْمَوْت {وَإِذا النُّجُوم انكدرت} إِنَّهَا أَعْضَاء الْإِنْسَان وحواسه {وَإِذا الْجبَال سيرت} إِنَّهَا أعضاؤه الْكِبَار الَّتِي يحملهَا الحاملون إِلَى الْقَبْر {وَإِذا العشار عطلت} إِنَّهَا مَا فِي بدنه من الْأَرْوَاح البخارية وقواها وأمثال هَذِه التأويلات الَّتِي يذكرونها السهرودي الْمَقْتُول على الزندقة فِي الْأَرْوَاح الْعمادِيَّة ويذكرها من المتفلسفة القرامطة الباطنية فَإِن الْقِيَامَة الْكُبْرَى مِمَّا علم بالاضطرار من دين الْإِسْلَام وَمن تدبر الْقُرْآن

وَتَفْسِيره وَالْأَحَادِيث المتواترة عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن أَصْحَابه وَسَائِر الْأَئِمَّة علم ذَلِك كَمَا يعلم أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصَّلَاةِ وبالصوم وَحج الْبَيْت الْعَتِيق وَتَحْرِيم الْفَوَاحِش وَنَحْو ذَلِك كَمَا فِي أول سُورَة الْوَاقِعَة وَقَالَ فِي آخر السُّورَة فلولا إِذا بلغت الْحُلْقُوم فَهَذَا تَفْصِيل لحَال الْمَوْت كَمَا أَن أول السُّورَة لذكر الْقِيَامَة وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لَا أقسم بِيَوْم الْقِيَامَة} ثمَّ قَالَ {وَلَا أقسم بِالنَّفسِ اللوامة أيحسب الْإِنْسَان ألن نجمع عِظَامه} فَجمع عِظَامه هُوَ فِي الْقِيَامَة الْكُبْرَى إِلَى قَوْله {أذا بلغت التراقي وَقيل من راق وَظن أَنه الْفِرَاق} فَبين مَا يَقُوله عِنْد الْمَوْت إِلَى قَوْله {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى ألم يَك نُطْفَة من مني يمنى} إِلَى أَن قَالَ {أَلَيْسَ ذَلِك بِقَادِر على أَن يحيي الْمَوْتَى} فاستدل سُبْحَانَهُ بقدرته على الْخلق الأول على قدرته على إحْيَاء الْمَوْتَى وَذَلِكَ فِي الْقُرْآن كثير يسْتَدلّ بالنشأة على الْبَعْث فِي الْقِيَامَة الْكُبْرَى وَتارَة يبين الْعَبَث بِبَيَان قدرته على خلق الْحَيَوَان وَتارَة بِخلق النَّبَات كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم فِي ريب من الْبَعْث} الْآيَة وَقَوله {وَترى الأَرْض هامدة فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت وربت} إِلَى قَوْله {وَأَنه يحيي الْمَوْتَى وَأَنه على كل شَيْء قدير وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا وَأَن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور} وَقَوله {وأحيينا بِهِ بَلْدَة مَيتا كَذَلِك الْخُرُوج} {كَذَلِك النشور} فَهَذَا كُله بَيَان للقيامة الْكُبْرَى وَتارَة يسْتَدلّ عَلَيْهَا بقدرته على خلق الْعَالم كَمَا فِي قَوْله فِي سُورَة ق {أفلم ينْظرُوا إِلَى السَّمَاء} إِلَى قَوْله {ونزلنا من السَّمَاء مَاء مُبَارَكًا} إِلَى قَوْله {كَذَلِك الْخُرُوج} ثمَّ ذكر الْمَوْت بقوله {وَجَاءَت سكرة الْمَوْت بِالْحَقِّ} وَقَوله {أَو لَيْسَ الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِقَادِر على أَن يخلق مثلهم} وَقَوله {لخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق النَّاس} وَقَوله تَعَالَى

{أَو لم يرَوا أَن الله الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلم يعي بخلقهن بِقَادِر على أَن يحيي الْمَوْتَى بلَى إِنَّه على كل شَيْء قدير} وَتارَة يسْتَدلّ بالنشأة الأولى نَحْو قَوْله {وَضرب لنا مثلا} ألايات وَقَوله تَعَالَى {قل كونُوا حِجَارَة أَو حديدا} الْآيَة وَذكر إحْيَاء الْمَوْتَى فِي غير مَوضِع نَحْو قَوْله تَعَالَى {ثمَّ بعثناكم من بعد موتكم} وَقَالَ فِيهَا أَيْضا {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِك يحيي الله الْمَوْتَى} وَقَالَ فِيهَا {ألم تَرَ إِلَى الَّذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت فَقَالَ لَهُم الله موتوا ثمَّ أحياهم} وَقَالَ فِيهَا {وَانْظُر إِلَى الْعِظَام كَيفَ ننشزها ثمَّ نكسوها لَحْمًا} وَذَلِكَ أَكثر من أَن يحصر وَأما أَشْرَاط السَّاعَة الَّتِي ذكر الله تَعَالَى أَنه لَا يعلمهَا إِلَّا هُوَ مثل الدَّجَّال وَالدَّابَّة وطلوع الشَّمْس من معربها وَغير ذَلِك فَهِيَ من أشرط السَّاعَة وَهِي الْقِيَامَة الْكُبْرَى الَّتِي لَا يعلمهَا أحد إِلَّا الله فَهَذِهِ ابساعة لَا يعلمهَا أحد غَيره سُبْحَانَهُ بِخِلَاف غَيرهَا من موت الْإِنْسَان وانخرام الْقرن فَإِنَّهُ يعرفهُ من الْخلق من شَاءَ الله مِنْهُم وَجُمْهُور الْخلق يعلمُونَ ذَلِك تَقْرِيبًا وَإِن لم يعلموه تحديدا كَمَا يعمون أَن غَالب الْخلق لَا يبقون مائَة سنة وَنَحْو ذَلِك مِمَّا جرت بِهِ الْعَادة وَقد يعلم ذَلِك بطرِيق أُخْرَى مِمَّا لَا يَتَّسِع لَهُ هَذَا الْموضع فَلَا يُقَال فِي تِلْكَ السَّاعَة الصُّغْرَى {لَا يجليها لوَقْتهَا إِلَّا هُوَ ثقلت فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أَي حفي علمهَا على أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض وَقَالَ {إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله} وَقد قَالَ {إِن الله عِنْده علم السَّاعَة وَينزل الْغَيْث وَيعلم مَا فِي الْأَرْحَام وَمَا تَدْرِي نفس مَاذَا تكسب غَدا وَمَا تَدْرِي نفس بِأَيّ أَرض تَمُوت إِن الله عليم خَبِير} وَالنَّاس فِي الْمعَاد على أَرْبَعَة أَصْنَاف

فَالَّذِي عَلَيْهِ الرُّسُل وأتباعهم الَّذين لَا بِدعَة فيهم هُوَ الاقرار بمعاد الْأَبدَان والأرواح وَأكْثر هَؤُلَاءِ الدهرية كذبُوا بالمعاد مُطلقًا وَبَين هذَيْن طَائِفَتَانِ طَائِفَة من أهل الْكَلَام أقرُّوا بمعاد الْأَبدَان وَالْقِيَامَة الْكُبْرَى وأنكروا أَمر الرّوح فَلم يقرُّوا بِأَنَّهُ بعد الْمَوْت يكون فِي نعيم أَو عَذَاب وَمِنْهُم من أقرّ بِالْعَذَابِ على الْبدن فَقَط دون الرّوح وَزعم أَن الرّوح هِيَ الْحَيَاة الَّتِي للبدن وَمِنْهُم من يقر بمعاد الرّوح فَقَط وَطَائِفَة من المتفلسفة أقرُّوا بمعاد الْأَنْفس فَقَط دون الْأَبدَان وَكَفرُوا بِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وَقد دخل مَعَ أُولَئِكَ من متكلمى الْإِثْبَات جمَاعَة كَالْقَاضِي أبي بكر بن الطّيب وَأَمْثَاله مِمَّن يزْعم أَن الرّوح لَيست جواهرا قَائِما لَكِنَّهَا عرض من أَعْرَاض الْبدن وَمِنْهُم من جعل الرّوح جَزَاء من أَجزَاء الْبدن وَهُوَ الرّيح الَّذِي يدْخل الْبدن وَيخرج مِنْهُ البخار الَّذِي من الْقلب وَهَذِه الْأَقْوَال فَاسِدَة وَالَّذِي عَلَيْهِ السّلف أَن الرّوح الَّتِي تقبض بِالْمَوْتِ لَيست هِيَ الْبدن وَلَا جُزْء مِنْهُ وَلَا صفة من صِفَاته بل هِيَ جَوْهَر قَائِم بِنَفسِهِ وَدَلَائِل الْكتاب وَالسّنة على ذَلِك كَثِيرَة جدا لَكِن هَؤُلَاءِ مَعَ غلطهم وضلالهم أقرب إِلَى الْإِسْلَام مِمَّن قَالَ إِن هَذِه الرّوح لَيست دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا تُوصَف بحركة وَلَا سُكُون وَلَا دُخُول وَلَا خُرُوج وَلَا تحول وَلَا انْتِقَال وَأَن الْمعَاد لَيْسَ إِلَّا لَهَا وَالْبدن لَا يُعَاد فَإِن إِنْكَار معاد الْأَبدَان كفر بَين وَقد علم من دين الْإِسْلَام فَسَاده وَأَن المكذبين بالمعاد مراغمون للرسل مراغمة بَيِّنَة كَمَا قد بسط فِي موصعه وَالله أعلم

فصل

فصل وولدان أهل الْجنَّة خلق الْجنَّة وَأَبْنَاء الدُّنْيَا إِذا دخلُوا الْجنَّة يكمل خلقهمْ على صُورَة آدم أَبنَاء ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ طول سِتِّينَ ذِرَاعا وروى أَن الْعرض سَبْعَة أَذْرع وأرواح الْمُؤمنِينَ تنعم فِي الْجنَّة وأرواح الْكفَّار تعذب فِي النَّار وَولد الزِّنَا كَغَيْرِهِ يجازى بِعَمَلِهِ لَا ينْسبهُ وَإِنَّمَا يذم ولد الزِّنَا لمظنة أَن يعْمل خبيثا كَمَا هُوَ الْغَالِب عَلَيْهِ وَأكْرم الْخلق عِنْد الله أَتْقَاهُم لله وَأَوْلَاد الْمُشْركين فيهم عدَّة أَقْوَال أَصَحهَا جَوَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا من مَوْلُود إِلَّا يُولد على الْفطْرَة الحَدِيث إِلَى قَوْله قيل يَا رَسُول الله أَرَأَيْت من يَمُوت من أَطْفَال الْمُشْركين فَقَالَ الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين يَعْنِي الله أعلم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ لَو عاشوا حَتَّى يبلغُوا الْحلم وَقد روى أَنهم فِي الْقِيَامَة يبْعَث إِلَيْهِم رَسُول الله فَيظْهر فيهم مَا علم من الطَّاعَة والمصية وَقد روى أَنهم يحبسن فِي عرصات الْقِيَامَة وَقد دلّت الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة أَن بَعضهم فِي الْجنَّة وَبَعْضهمْ فِي النَّار وَلَيْسَ فِي الْجنَّة شمس وَلَا قمر وَلَا ليل وَلَا نَهَار وَلَكِن تعرف البكرة والعشية بأنوار تظهر من قبل الْعَرْش

قَاعِدَة علم الله السَّابِق يُحِيط بالأشياء على مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي نفس الْأَمر فَلَا محو فِيهِ وَلَا تَغْيِير وَلَا إِثْبَات وَلَا نقص وَلَا زِيَادَة وَأما اللَّوْح الْمَحْفُوظ الَّذِي لَا يطلع عَلَيْهِ غَيره فَهَل فِيهِ محو وَإِثْبَات على قَوْلَيْنِ وَأما الصُّحُف الَّتِي بأيدي الْمَلَائِكَة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيُؤْمَر بكتب رزقه وَعَمله وأجله وشقي أَو سعيد فَهَل يصل فِيهَا المحو وَالْإِثْبَات فَإِنَّهُ قد يقدر لَهُ من الْعُمر مُدَّة لم يعْمل شَيْئا يزِيد بِهِ على ذَلِك مِمَّا علمهمْ الله أَن يَفْعَله مثل أَن يصل رَحمَه فَفِي الصَّحِيحَيْنِ من سره أَن يبسط لَهُ فِي رزقه وينسأ لَهُ فِي أَثَره فَليصل رَحمَه أَو غير ذَلِك من الْأَسْبَاب كَمَا روى التِّرْمِذِيّ إِن الله أرى آدم ابْنه دَاوُد فأعجبه فَسَأَلَ عَن عمر فَقَالَ أَرْبَعِينَ سنة فوهبه آدم من عمره سِتِّينَ سنة وَكتب عَلَيْهِ بذلك كتابا ثمَّ بعد ذلكك أنكر ونسى فَجحد فَجحدت ذُريَّته فقد علم أَن الله قدر لَهُ أَرْبَعِينَ سنة بِلَا سَبَب وَعلم أَنه يحصل لَهُ سِتُّونَ بِسَبَب هبة أَبِيه لَهُ وَقَوله تَعَالَى {أولم نُعَمِّركُمْ مَا يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر} فَيكون المُرَاد طول الْأَعْمَار وقصرها وَقَوله تَعَالَى {وَمن أعرض عَن ذكري فَإِن لَهُ معيشة ضنكا} الْآيَة

تَشْمَل الْكَافِر فَلهُ مِنْهَا حق الْوَعيد وتشمل الْمُؤمن المرتكب الْكَبِيرَة فَلهُ نصيب من ضنك الْعَيْش بِقدر إعراضه عَن الذّكر وَمذهب أهل السّنة أَن الشَّخْص الْوَاحِد تَجْتَمِع فِيهِ الْحَسَنَات والسيئات فَيسْتَحق الثَّوَاب وَالْعِقَاب جَمِيعًا وَسَمَاع الْمَيِّت لقرع نعَالهمْ وَالسَّلَام عَلَيْهِ وَنَحْو ذَلِك مِمَّا ثَبت أَن جنس الْأَمْوَات يسمعونه لَيْسَ ذَلِك مَخْصُوصًا بِقوم مُعينين بل هُوَ مُطلق وَقَوله تَعَالَى {فَإنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} المُرَاد السماع المعتاذ الَّذِي يتَضَمَّن الْقبُول وَالِانْتِفَاع كَمَا فِي حق الْكفَّار السماع النافع فِي قَوْله {وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} وَقَوله تَعَالَى {لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل} فَإِذا كَانَ قد نفى عَن الْكَافِر السّمع مُطلقًا وَعلم أَنه إِنَّمَا نفى سمع الْقلب المتضمن للفهم وَالْقَبُول لَا مُجَرّد سَماع الْكَلَام فَكَذَلِك الْمُشبه بِهِ وَهُوَ الْمَيِّت والْحَدِيث الَّذِي قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ إِن الْمَيِّت إِذا حمل قَالَ قدموني أَو يَقُول يَا وَيْلَهَا الحَدِيث لَيْسَ هَذَا هُوَ الْكَلَام الْمُعْتَاد بتحريك اللِّسَان فَإِنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لسمعه كل أحد وَلكُل هُوَ أر بَاطِن آخر وَلَيْسَ هُوَ مُجَرّد الرّوح فَإِن الرّوح مُنْفَصِل عَن الْبدن فالنائم قد يسمع وَيتَكَلَّم وَذَلِكَ بِرُوحِهِ وبدنه الْبَاطِن بِحَيْثُ يظْهر أثر ذَلِك فِي بدنه حَتَّى إِنَّه قد يقوم ويصيح وَيَمْشي ويتنعم بدنه ويتعذب وَمَعَ ذَلِك فعيناه مغمضتان وغالبهم أَن لِسَانه لَا يَتَحَرَّك لَكِن إِذا قوي أَمر الْبَاطِن فقد ينْطَلق المسان الظَّاهِر حَتَّى يصوت بِهِ وَلَو نُودي من حَيْثُ الظَّاهِر لَا يسمع فَكَمَا أَن النَّائِم حَاله لَا تشبه حَال الْيَقظَان وَلَا أَحْوَاله مُخْتَصَّة بِالروحِ فالميت أبلغ من ذَلِك فَإِن مَعْرفَته بالأمور أكمل من النَّائِم وإرداك الْإِنْسَان بعد مَوته لأمور الْآخِرَة أكمل من إِدْرَاك أهل الدُّنْيَا وَإِن

كَانَ قد تعرض للْمَيت حَال لَا يدْرك فِيهَا كَمَا قد يعرض ذَلِك للنائم وَقد روى من مَاتَ وَلم يوص لَا يَسْتَطِيع الْكَلَام وأرواح الْمُؤمنِينَ وَإِن كَانَت فِي الْجنَّة فلهَا اتِّصَال بِالْبدنِ إِذا شَاءَ الله تَعَالَى من غير زمن طَوِيل كَمَا تنزل الْمَلَائِكَة فِي طرفَة عين قَالَ مَالك رَحْمَة الله تَعَالَى بَلغنِي أَن الرّوح مُرْسلَة تذْهب حَيْثُ شَاءَت وَلِهَذَا روى أَنَّهَا على أفنية الْقُبُور وَأَنَّهَا فِي الْجنَّة والجميع حق وَفِي الصِّحَاح أَنَّهَا ترد إِلَيْهِ بعد الْمَوْت وَيسْأل وَترد فَتكون مُتَّصِلَة بِالْبدنِ بِلَا ريب وَالله أعلم وَقد استفاضت الْأَخْبَار بِمَعْرِِفَة الْمَيِّت بِحَال أَهله وَأَصْحَابه فِي الدُّنْيَا وَأَن ذَلِك يعرض عَلَيْهِ وَأَنه يرى ويدري بِمَا يفعل عِنْده وَيسر بِمَا كَانَ حسنا ويتألم بِمَا كَانَ قبيحا وَرُوِيَ أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بعد أَن دفن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَت تستتروتقول كَانَ أبي وَزَوْجي فَأَما عمر فأجنبي تَعْنِي أَنه يَرَاهَا وروى أَن الْمَوْتَى يسْأَلُون الْمَيِّت عَن حَال أَهْليهمْ فيعرفهم أَحْوَالهم وَأَنه ولد لفُلَان ولد وَتَزَوَّجت فُلَانُهُ وَمَات فلَان فَمَا جَاءَ فَيَقُولُونَ رَاح إِلَى أمه الهاوية مَسْأَلَة بِنَاء الْمَسَاجِد على الْقُبُور محرم بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة وَلَو بنى على الْقَبْر مَسْجِد نهى عَنهُ أَيْضا بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَإِنَّمَا تنازعوا فِي تطيينه فَرخص فِيهِ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَكَرِهَهُ أَبُو حنيفَة كالتجصيص وَبِنَاء القباب والمساجد على الْقُبُور مُحدث فِي الْإِسْلَام من قريب وَكَذَلِكَ تَرْتِيب الْقِرَاءَة على الْقُبُور مُحدث

وَقد تنَازع الْعلمَاء فِيمَن أهْدى للْمَيت عبَادَة بِذَنبِهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَام وَالْقِرَاءَة فمذهب أَحْمد وَأبي حنيفَة وَغَيرهمَا وُصُول ذَلِك وَالْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ أَن ذَلِك لَا يصل وَاتَّفَقُوا على وُصُول الْعِبَادَات الْمَالِيَّة كَالْعِتْقِ وَالْوَقْف على من يتَعَلَّم الْقُرْآن ويعلمه أَو الحَدِيث أَو الْعلم أَو نَحوه من الْأَعْمَال الْمَأْمُور بهَا فِي الشَّرِيعَة فَهَذَا أفضل من الْوَقْف على من يقْرَأ وَيهْدِي ثَوَابه لأي من كَانَ نَبِي أَو غَيره وَلم يقل أحد إِن الْقِرَاءَة عِنْد الْقَبْر أفضل من غَيره وكل من وقف وَقفا على شَيْء من أَعمال البركان لَهُ أجره وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ وَسلم أجر ذَلِك كُله لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي علم الدّين وَسن للنَّاس وعلمهم جَمِيع الْخيرَات فَلهُ أجر من عمل بذلك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من غير أَن ينقص من أُجُورهم شَيْء فَإِنَّهُ هُوَ الدَّاعِي إِلَى كل خير وَهدى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَسْأَلَة الدّين الَّذِي بعث الله بِهِ رسله وَأنزل بِهِ كتبه هُوَ عبَادَة الله وَحده لَا شريك لَهُ فَإِذا كَانَ مَطْلُوب العَبْد من الْأُمُور الَّتِي لَا يقدر عَلَيْهَا إِلَّا الله مثل شِفَاء مريضه أَو وَفَاء دينه من غير جِهَة مُعينَة أَو عافيته مِمَّا بِهِ من بلَاء الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أَو انتصاره على عدوه أَو هِدَايَة قلبه أَو غفران ذَنبه أَو دُخُوله الْجنَّة من النَّار أَو أَن يتَعَلَّم الْعلم وَالْقُرْآن أَو أَن يصلح قلبه وَيحسن خلقه وَذَلِكَ فَهَذَا لَا يجوز أَن يطْلب إِلَّا من الله تَعَالَى وَلَا يجوز أَن يُقَال لملك وَلَا نَبِي وَلَا شيخ ميت أَو حَيّ اغْفِر لي ذَنْب

وَانْصُرْنِي على عدوي فَمن سَأَلَ مخلوقا شَيْئا من ذَلِك فَهُوَ مُشْرك بِهِ قد أَتَّخِذ لله ندا يجب أَن يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل وَهَذَا مثل دين النَّصَارَى وَكَذَا قَوْله يَا سَيِّدي فلَان أَنا فِي حَسبك أَو فِي جيرتك فلَان يظلمني يَا شَيْخي فلَان انصرفي عَلَيْهِ وَأما مَا يقدر عَلَيْهِ العَبْد فَيجوز أَن يطْلب مِنْهُ فِي بعض الْأَحْوَال دون بعض فَإِن مَسْأَلَة الْمَخْلُوق قد تكون جَائِزَة وَقد تكون مَنْهِيّا عَنْهَا وَمن ذَلِك قَوْله يَا فلَان ادْع الله لي اسْأَل الله لي كَذَا فَطلب الدُّعَاء مِمَّن هُوَ فَوْقه أَو دونه مَشْرُوع وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سَأَلَ الله لي الْوَسِيلَة حلت عَلَيْهِ شَفَاعَتِي وَذَلِكَ لأجل منفعَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِطَلَب الْوَسِيلَة لَهُ ومنفعتنا بالشفاعة وَفرق بَين من يطْلب من غَيره الدُّعَاء لمنفعته مِنْهُ وَبَين من يسْأَل غَيره لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ فَقَط وَفِي الصَّحِيح أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذا أجد بِنَا نتوسل إِلَيْك نبيك فتسقينا وَإِنَّا نتوسل إِلَيْك بعم نَبينَا فاسقنا وَأما زِيَارَة الْقُبُور الْمَشْرُوعَة فَهِيَ أَن يسلم على الْمَيِّت وَيَدْعُو لَهُ فَقَط كَالصَّلَاةِ على جنَازَته فَلَيْسَ فِي الزِّيَارَة الْمَشْرُوعَة حَاجَة للحي إِلَى الْمَيِّت وَلَا توسل بِهِ بل فِيهَا مَنْفَعَة الْمَيِّت كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالله يرحم هَذَا ويثيبه على عمله وَيرْحَم هَذَا ويثيبه على دُعَائِهِ للْمَيت وتذكره الدَّار الْآخِرَة كَمَا علم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّحَابَة الزِّيَارَة وكما كَانَ هُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يزور وَالْمَقْصُود أَن من يَأْتِي إِلَى الْقَبْر أَو إِلَى رجل صَالح ويستنجده فَهَذَا على ثَلَاث دَرَجَات

إِحْدَاهمَا أَن يسْأَل حَاجته مثل أَن يكون أَن يَقُول اغْفِر لي وَنَحْوه فَهَذَا شرك كَمَا تقدم الثَّانِيَة أَن يطْلب مِنْهُ أَن يَدْعُو لَهُ لِأَنَّهُ أقرب إِلَى الْإِجَابَة فَهَذَا مَشْرُوع فِي الْحَيّ وَأما الْمَيِّت فَلم يشرع لنا أَن نقُول لَهُ ادْع لنا وَلَا اسْأَل لنا رَبك وَلم يفعل ذَلِك أحد من الصَّحَابَة وَلَا التَّابِعين وَلَا أَمر بِهِ أحد من الْأَئِمَّة وَلَا ورد فِيهِ حَدِيث بل فِي الصَّحِيح أَن عمر رَضِي الله عَنهُ استسقى بِالْعَبَّاسِ وَلم يَأْتِ قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل كَانُوا إِذا جَاءُوا قَبره سلمُوا عَلَيْهِ فَإِذا دعوا استقبلوا الْقبْلَة ودعوا الله وَحده لَا شريك لَهُ كَمَا يَدعُونَهُ فِي سَائِر الْبِقَاع وَقد ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن إتْيَان قَبره واتخاذه عيدا ومسجدا فِي أَحَادِيث كَثِيرَة وَلِهَذَا قَالَ الْعلمَاء إِنَّه لَا يجوز بِنَاء الْمَسَاجِد على الْقُبُور وَلَا يجوز أَن ينذر للقبر وَلَا للمجاورين عِنْده شَيْء من الْأَشْيَاء لَا دَرَاهِم وَلَا زَيْت وَلَا شمع وَلَا حَيَوَان وَلَا غير ذَلِك وَلم يقل أحد من أَئِمَّة الْمُسلمين إِن الصَّلَاة عِنْد الْقُبُور عِنْد الْقُبُور وَفِي مشَاهد الْمَوْتَى مُسْتَحبَّة أَو فِيهَا فَضِيلَة وَلَا أَن الدُّعَاء وَالصَّلَاة أفضل عِنْد الْقُبُور مِنْهَا عِنْد غَيرهَا بل اتَّفقُوا كلهم على أَن الصَّلَاة فِي الْمَسَاجِد والبيوت أفضل من الصَّلَاة عِنْد قُبُورهم الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ وَقد شرع الله الصَّلَاة فِي الْمَسَاجِد دون الْمشَاهد وَلِهَذَا اتّفق الْمُسلمُونَ على أَن من زار قبرهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو غَيره

من أهل بَيته أَو غَيرهم أَنه لَا يتمسح بِهِ وَلَا يقبل مَا أقيم عَلَيْهِ من الانصاب وَلَا يُطَاف حوله بل لَيْسَ شَيْء يشرع تقبيله إِلَّا الْحجر الْأسود وَقد ثَبت أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ فِيك إِنَّك حجر لَا تضر وَلَا تَنْفَع وَلَكِن تنَازع الْفُقَهَاء فِي وضع الْيَد على مِنْبَر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما كَانَ الْمِنْبَر مَوْجُودا فكرهه مَالك وَغَيره وَأما التمسح بِقَبْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتَقْبِيله فكلهم نهى عَنهُ أَشد النَّهْي وَذَلِكَ أَنهم علمُوا مَا قَصده الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حسم مَادَّة الشّرك وَتَحْقِيق التَّوْحِيد لله وَحده وَهَذَا مِمَّا يظْهر بِهِ الْفرق بَين سُؤال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته وَبعد مَوته وسؤال العَبْد الصَّالح فِي حَيَاته وَبعد مَوته وَذَلِكَ أَن أحدا فِي حَيَاته لَا يعبد لِأَنَّهُ لَا يُمكن أحدا من ذَلِك كَمَا قَالَ الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام مَا قلت لَهُم إِلَّا مَا أَمرتنِي بِهِ أَن اعبدوا الله رَبِّي وربكم وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دَامَت فيهم فَلَمَّا توفيتني كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد وَقَالَ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تطروني كَمَا أطرت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن مَرْيَم فَإِنَّمَا أَنا عبد فَقولُوا عبد الله وَرَسُوله وَكَذَا لما سجد لَهُ معَاذ رَضِي الله عَنهُ نَهَاهُ وَقَالَ إِنَّه لَا يصلح السُّجُود إِلَّا لله وم كَانَ أحد أحب إِلَيْهِم من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا كَانُوا يقومُونَ لَهُ إِذا قدم عَلَيْهِم مَا يرَوْنَ من كَرَاهَته لذَلِك فَهُوَ شَأْن أَنْبيَاء الله تَعَالَى وأوليائه وَإِنَّمَا يقر على الغلو فِيهِ وتعظيمه من يُرِيد الْعُلُوّ فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ كفرعون ومشائخ الضَّلَالَة الَّذين غرضهم الْعُلُوّ فِي الأَرْض

والفتنة بالأنبياء وَالصَّالِحِينَ واتخاذهم أَرْبَابًا والاشراك بهم فِي غيبتهما أقرب من الْفِتْنَة بالملوك ورؤساء الدُّنْيَا فَظهر الْفرق بَين سُؤال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْعَبْد الصَّالح فِي حَيَاته بِحُضُورِهِ وَبَين سُؤَاله فِي ماته وغيبته وَمن أعظم الشّرك أَن يستغيث الْإِنْسَان بِرَجُل ميت عِنْد المصائب فَيَقُول يَا سَيِّدي فلَان كَأَنَّهُ يطْلب مِنْهُ إِزَالَة ضَرَره أَو جلب نَفعه كَمَا هُوَ حَال النَّصَارَى فِي الْمَسِيح وَأمه وأجبارهم وَرُهْبَانهمْ فَإِذا حصل هَذَا الشّرك نزلت عَلَيْهِم الشَّيَاطِين وأغوتهم وَرُبمَا خاطبتهم كَمَا كَانَت نَفْعل مَعَ أَصْحَاب الْأَصْنَام لَا سِيمَا عِنْد سَماع المكاء والتصدية فَإِن الشَّيَاطِين تتنزل عَلَيْهِم عِنْده وَقد يُصِيب أحدهم من الإرغاء والأزباء والصباح الْمُنكر وتكلمه بِمَا لَا يعقله هُوَ وَلَا الْحَاضِرُونَ وأمثال ذَلِك وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ أَن يَقُول اللَّهُمَّ بجاه فلَان عنْدك أَو ببركة فلَان أَو بِحرْمَة فلَان عنْدك أفعل لي كَذَا وَكَذَا فَهَذَا يَفْعَله كثير من النَّاس لَكِن لم ينْقل عَن أحد من الصَّحَابَة وَلَا التَّابِعين وَلَا سلف الْأمة أَنهم كَانُوا يدعونَ بِمثل هَذَا الدُّعَاء قَالَ شيخ الْإِسْلَام رَحمَه الله تَعَالَى لم يبلغنِي عَن أحد من الْعلمَاء فِي ذَلِك مَا أحكيه إِلَّا مَا رَأَيْته فِي فتاوي الْعِزّ بن عبد السَّلَام فَإِنَّهُ أفتى أَنه لَا يجوز

لأحد أَن يفعل هَذَا إِلَّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن صَحَّ الحَدِيث فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو معنى ذَلِك وَذَلِكَ أَنه روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه علم بعض أَصْحَابه أَن يَدْعُو فَيَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك وأتوسل إِلَيْك بنبيك نَبِي الرَّحْمَة يَا مُحَمَّد يَا رَسُول الله إِنِّي أتوسل بك إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتي ليقضيها لي اللَّهُمَّ شُفْعَة فِي فَهَذَا الحَدِيث اسْتدلَّ بِهِ طَائِفَة على التوسل بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته ومماته وَلَيْسَ فِيهِ على فرض صِحَّته أَنه دَعَاهُ واستغاث بِهِ بل فِيهِ أَنه سَأَلَهُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث الْمَشْي إِلَى الصَّلَاة اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك بِحَق السَّائِلين بِحَق السَّائِلين وبحق ممشاي هَذَا فَالله قد جعل على نَفسه حَقًا فَقَالَ تَعَالَى وَكَانَ حَقًا نصر الْمُؤمنِينَ وَقَالَت طَائِفَة لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث جَوَاز التوسل بِهِ فِي مماته وَلَا مغيبه بل إِنَّمَا فِيهِ التوسل بِهِ فِي حَيَاته بِحُضُورِهِ كَمَا استسقى عمر بِالْعَبَّاسِ لما مَاتَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّا كُنَّا نتوسل إِلَيْك نَبينَا وَذَلِكَ أَن التوسل بِهِ فِي حَيَاته هُوَ أَنهم كَانُوا يتوسلون بِهِ أَي يسألونه أَن يَدْعُو الله فيدعو لَهُم وَيدعونَ فيتوسلون بِشَفَاعَتِهِ ودعائه كَمَا سَأَلُوهُ أَن يستسقى لَهُم يَوْم الْجُمُعَة وَكَذَلِكَ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ لما استسقى قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّا نتشفع إِلَيْك بخيارنا يزِيد بن الْأسود الجرشِي ارْفَعْ يَديك يَا يزِيد إِلَى الله فَرفع يَدَيْهِ ودعا ودعوا فسقوا وَكَذَلِكَ قَالَ الْعلمَاء يسْتَحبّ أَن يستسقى بِأَهْل الصّلاح وَالدّين وَإِن كَانُوا من أهل بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أحسن وَلم يذكر أحد من الْعلمَاء أَنه يشرع التوسل بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

وَلَا بِالرجلِ الصَّالح بعد مَوته وَلَا فِي مغيبه وَلَا استحبوا ذَلِك فِي الأستسقاء وَلَا فِي الاستنصار وَلَا غير ذَلِك من الْأَدْعِيَة وَالدُّعَاء مخ الْعِبَادَة وَالْعِبَادَة مبناها على السّنة والاتباع لَا على الْهوى والابتداع فَإِنَّمَا يعبد بالأهواء والبدع وَأما وضع الرَّأْس عِنْد الكبراء من الشُّيُوخ أَو غَيرهم أَو تَقْبِيل الأَرْض أَو نَحْو ذَلِك فَهُوَ مِمَّا لَا نزاع بَين الْأَئِمَّة فِي النَّهْي عَنهُ بل مُجَرّد الانحناء بِالظّهْرِ لغير الله منهى عَنهُ وَقَول الْقَائِل انْقَضتْ حَاجَتي ببركة فلَان فمنكر من القَوْل وزور لِأَن قَائِلا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا شَاءَ الله وشئت فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجعلني الله ندا بل مَا شَاءَ وَحده وَقَول الْقَائِل ببركة الشَّيْخ فقد يَعْنِي بِهِ معنى صَحِيحا مثل بركَة دُعَائِهِ أَو بركَة مَا أَمر بِهِ من الْخَيْر أَو بركَة اتِّبَاعه لَهُ على الْحق وطاعته لَهُ من طَاعَة الله أَو بركَة معاونته على الْحق وموالاته فِي الدّين وَنَحْو ذَلِك وَقد يَعْنِي بِهِ معنى بَاطِلا مثل دُعَائِهِ الْمَيِّت وَالْغَائِب واستقلال الشَّيْخ بذلك تَأْثِيرا أَو فعله لَا يقدر عَلَيْهِ إِلَّا الله أَو مُتَابَعَته أَو مطاوعته على الْبدع والمنكرات وَنَحْو هَذِه الْمعَانِي الْبَاطِلَة فَالَّذِي لَا ريب فِيهِ أَن الْعَمَل بِطَاعَة الله وَدعَاهُ الْمُؤمنِينَ بَعضهم لبَعض وَنَحْو ذَلِك هُوَ نَافِع فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَذَلِكَ بِفضل الله وَرَحمته وَأما قَول الْقَائِل إِن الْغَوْث هُوَ القطب الْجَامِع فِي الْوُجُود وَتَفْسِير ذَلِك بِأَنَّهُ مدد الْخَلَائق فِي رزقهم ونصرتهم حَتَّى إِنَّه مدد الْمَلَائِكَة وَالْحِيتَان فِي الْبَحْر فهذ كفر بالِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ إِن عني بالغوث مَا يَقُوله بَعضهم إِن فِي الأَرْض ثَلَاثمِائَة وَبضْعَة عشر رجلا النجباء مِنْهُم سَبْعُونَ نفسا وَمِنْهُم أَرْبَعُونَ أبدالا وَمِنْهُم سَبْعَة

أقطاب وَمِنْهُم أَرْبَعَة أوتاد وَمِنْهُم وَاحِد غوث وَأَنه مُقيم بِمَكَّة وَأَن أهل الأَرْض إِذا نابهم نائبة ونصرهم فزعوا إِلَى الثلاثمائة والبضعة عشر وَأُولَئِكَ يفزعون إِلَى السّبْعين وَالسَّبْعُونَ إِلَى الْأَرْبَعين والأرعون إِلَى السَّبْعَة والسبعة إِلَى الْأَرْبَعَة وَالْأَرْبَعَة إِلَى الْوَاحِد وَبَعْضهمْ يزِيد فِي ذَلِك وَينْقص فِي الْأَعْدَاد والأسماء والمراتب فَإِن لَهُم فِي هَذَا الْبَاطِل مقالات حَتَّى يَقُول بَعضهم إِن رزقه ينزل من السَّمَاء باسم غوث الْوَقْت واسْمه خضر بِنَاء عَليّ قَول من يَقُول مِنْهُم إِن الْخضر مرتبَة وَإِن لكل زمَان خضرًا وَإِن لهمفي قَوْلَيْنِ فَهَذَا كُله بَاطِل لَا أصل لَهُ فِي كتاب الله وَلَا فِي سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا قَالَه أحد من سلف الْأمة وَلَا أئمتها وَلَا من الشُّيُوخ الْكِبَار الْمُتَقَدِّمين الَّذين يصلحون للاقتداء بهم وَمَعْلُوم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر وَعمر وعليا رَضِي الله عَنْهُم كَانُوا خير هَذِه الْخَلَائق فِي زمانهم وَكَانُوا بِالْمَدِينَةِ لم يَكُونُوا بِمَكَّة وَمثل ذَلِك مَا يَقُوله الفلاسفة من الْعُقُول الْعشْرَة الَّتِي يَزْعمُونَ أَنَّهَا الْمَلَائِكَة وَهُوَ مثل مَا يَقُوله النَّصَارَى فِي الْمَسِيح كل ذَلِك كفر بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة وَقد روى بَعضهم حَدِيثا فِي أبي لؤلؤة غُلَام الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَأَنه أحد السَّبْعَة وَهُوَ كذب بِاتِّفَاق أهل الْمعرفَة وَقد يرْوى بعض هَذِه الْأَحَادِيث أَبُو معيم فِي الْحِلْية وَالشَّيْخ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى فَلَا يغتر بشئ مِنْهَا وَكَذَلِكَ يُقَال ثَلَاثَة مَالهَا أصل بَاب النَّصَارَى وغوث الصُّوفِيَّة ومتنظر الرافضة وَالصَّوَاب أَن الْخضر مَاتَ فَإِنَّهُ لَو كَانَ مَوْجُودا فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لآمن بِهِ وجاهد مَعَه

ثمَّ لَيْسَ للْمُسلمين بِهِ حَاجَة فَإِنَّهُم أخذُوا دينهم عَن الْمَعْصُوم النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي علمهمْ الْكتاب وَالْحكمَة ثمَّ كَيفَ يظْهر للْمُشْرِكين وَلَا يظْهر للسابقين الْمُوَحِّدين وَكَيف يظْهر لقوم كفار يرفع سفينتهم وَلَا يظْهر لخير أمة أخرجت للنَّاس وَقد قَالَ نَبِيّهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو كَانَ مُوسَى حَيا مَا وَسعه إِلَّا آتباعي وَقَالَ لَو اتبعتموه وتركتموني لَو كَانَ حَيا للضللتم وَإِذا نزل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام من السَّمَاء فانا يحكم بِملَّة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَامة مَا يحْكى عَن الْخضر إِمَّا كذب وَإِمَّا مبْنى على ظن مثل الَّذِي رأى شخصا فَقَالَ لَهُ إِنَّه الْخضر وَهَذَا مثل قَول الرافضة فِي المنتظر ويروى عَن الإِمَام أَحْمد رَضِي الله عَنهُ أَنه ذكر لَهُ ذَلِك فَقَالَ من أحالك على غَائِب فَمَا أنصفك وَمَا لبس عَلَيْهِ الإ الشَّيْطَان وَقد يُرَاد بالغوث أَنه أفضل أهل زَمَانه فَهَذَا مُمكن لَكِن قد يكون ذَلِك جمَاعَة وَقد يتساوون وَقد يتقاضلون من وَجه دون وَجه وَبِكُل حَال فتسمية هَذَا غوثا أَو قطبا أَو جَامعا بِدعَة وضلالة مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان وَلَا يعلم بهَا أحد من السّلف وَمَا زَالَ السّلف يظنون فِي بعض النَّاس أَنه أفضل أهل زَمَانه وَلَا يطلقون هَذِه التَّسْمِيَة عَلَيْهِ وَقَالَ بعض الْكِبَار المنتحلين لهَذَا إِن القطب ينْطق علمه من علم الله وَقدرته عَن قدرَة اله فَيعلم مَا يُعلمهُ الله وَيقدر على مَا يقدر عَلَيْهِ الله وَزعم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ كَذَلِك وانتقل ذَلِك عَنهُ إِلَى أبي الْحسن ثمَّ انْتقل إِلَى شَيْخه فَهَذَا كفر قَبِيح وَجَهل صَرِيح وَالله الْمُسْتَعَان مَسْأَلَة الاعتداء فِي الدُّعَاء غير جَائِز منهى عَنهُ فِي الْقُرْآن وَالسّنة وَهُوَ أَن يسْأَل الله منَازِل الْأَنْبِيَاء أَو أَكثر من ذَلِك من السُّؤَال الَّذِي لَا يصلح

والاعتداء فِي الطُّهْر عَنهُ وَهُوَ الزِّيَادَة على الْمَشْرُوع قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَيكون فِي هَذِه الْأمة قوم يَعْتَقِدُونَ فِي الطُّهْر وَالدُّعَاء مَسْأَلَة عِيسَى بن مَرْيَم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى رَفعه الله تَعَالَى إِلَيْهِ بِرُوحِهِ وبدنه وَقَوله تَعَالَى {إِنِّي متوفيك} أَي قابضك وَكَذَلِكَ ثَبت أَنه ينزل على المنارة الْبَيْضَاء شَرْقي دمشق فَيقْتل الدَّجَّال وَيكسر الصَّلِيب وَيقتل الْخِنْزِير وَيَضَع الْجِزْيَة حكما عدلا مقسطا وَيُرَاد بالتوفي الِاسْتِيفَاء وَيُرَاد بِهِ الْمَوْت وَيُرَاد بِهِ النّوم وَيدل على كل وَاحِد الْقَرِينَة الَّتِي مَعَه وَلَا يجوز ذبخ الضَّحَايَا وَلَا غَيرهَا فِي الْمَسْجِد وَلَا الدّفن فِيهِ وَلَا تَغْيِير الْوَقْف عَلَيْهِ لغير مصلحَة وَلَا الِاسْتِنْجَاء فِي الْمَسْجِد وَفِي كَرَاهَة الْوضُوء فِيهِ نزاع إِلَّا أَن يحصل مَعَه بصاق أَو مخاط فِي الْمَسْجِد فَإِن البصاق فِيهِ خَطِيئَة وكفارتها دَفنهَا فَكيف بالمخاط وَمن لم يأتمر بِمَا أَمر الله بِهِ وَرَسُوله وَلم ينْتَه عَمَّا نهى الله عَنهُ وَرَسُوله بل يرد على من أمره بِالْمَعْرُوفِ أَو نَهَاهُ عَن الْمُنكر يُعَاقب الْعقُوبَة الشَّرْعِيَّة وَلَا تغسل الْمَوْتَى فِي الْمَسْجِد وَلَا يحدث فِيهِ مَا يضر بالمصلين فَإِن أحدث أزيل وأعيد إِلَى الصّفة الأولى وَأصْلح مِنْهَا مَسْأَلَة قَالَ أَبُو الْعَالِيَة سَأَلت أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا التَّوْبَة على الله للَّذين يعْملُونَ السوء بِجَهَالَة} فَقَالُوا اكل من عصى الله فَهُوَ جَاهِل وكل مَا تَابَ قبل الْمَوْت فقد تَابَ من قريب وَأما كِتَابَة لَا إِلَه إِلَّا الله على الدَّرَاهِم فمحدث من خلَافَة عبد الْملك بن مَرْوَان وَإِلَى الْآن وَكَانُوا يَكْتُبُونَ عَلَيْهَا نَحوا من ذَلِك وَيجوز للمحدث مسكها وَإِذا كَانَت مَعَه فِي منديل أَو خريطة وشق عَلَيْهِ مسكها جَازَ أَن يدْخل بهَا بَيت الْخَلَاء

وَلم يضْرب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أَصْحَابه دَرَاهِم وَإِنَّمَا حدث ضربهَا فِي خلَافَة عبد الْملك كَمَا تقدم وَمَرْيَم بنت عمرَان وآسيا زَوْجَة فِرْعَوْن من أفضل النِّسَاء والفواضل من هَذِه الْأمة كخديجة وَعَائِشَة وَفَاطِمَة رَضِي الله عَنْهُن أفضل مِنْهَا كَمَا أَن المفضلين من رجال هَذِه الْأمة أفضل من فضلاء رجال غَيرهَا فَإِن الصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّة الْمُسلمين وَحكى الْإِجْمَاع عَلَيْهِ غير وَاحِد أَنَّهُمَا ليستا نبيتين وَإِنَّمَا غايتهما الصديقية كَمَا دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن وصديقوا هَذِه الْأمة رجالها ونساؤها أفضل من صديق غَيرهَا وَأما الْأَبْكَار فَالله يزوجهن فِي الْجنَّة وَمَا أعلم صِحَة ذَلِك وَالله أعلم وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين أَن من لم يُؤمن بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد بُلُوغ رسَالَته إِلَيْهِ أَنه كَافِر مخلد فِي النَّار وَمن ارتاب فِي ذَلِك فَهُوَ كَافِر يجب قَتله كَمَا استتاب عمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا طَائِفَة جهلت حُرْمَة الْخمر فضلت أَنَّهَا تُبَاح للصالحين دون غَيرهم وَاتفقَ الصَّحَابَة على أَن هَؤُلَاءِ إِن أصروا قتلوا مَسْأَلَة نقل عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَوْم يكْشف عَن سَاق} أَنه قَالَ عَن شدَّة وَثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيثه الطَّوِيل الَّذِي فِيهِ تجلي الله تَعَالَى لعبادة يَوْم الْقِيَامَة وَأَنه يحتجب ثمَّ يتجلى قَالَ فَيكْشف عَن سَاقه فينطرون إِلَيْهِ وَالَّذِي فِي الْقُرْآن سَاق لَيست مُضَافَة فَلهَذَا وَقع النزاع هَل هُوَ من الصِّفَات أم لَا قَالَ شيخ الْإِسْلَام رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَلَا أعلم خلافًا عَن الصَّحَابَة فِي شَيْء

مِمَّا يعد من الصِّفَات الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن إِلَّا هَذِه الْآيَة لعدم الْإِضَافَة فِيهَا وَالَّذِي يَجْعَلهَا من الصِّفَات يَقُول فِيهَا كَقَوْلِه فِي قَوْله تَعَالَى {لما خلقت بيَدي} وَقَوله تَعَالَى {وَيبقى وَجه رَبك} وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ مَعَ الصِّفَات تثبت وَيجب تَنْزِيه الرب تَعَالَى عَن التَّمْثِيل لِأَنَّهُ لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير وَمن نبش قُبُور الْمُسلمين عُدْوانًا عُوقِبَ بِمَا يردعه وَأَمْثَاله عَن ذَلِك وَكَذَا من خرب مَسْجِدهمْ فَعَلَيهِ إِعَادَته من مَاله مَسْأَلَة خرج مُسلم عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَت سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قَوْله تَعَالَى {يَوْم تبدل الأَرْض غير الأَرْض وَالسَّمَاوَات وبرزوا لله الْوَاحِد القهار} فَأَيْنَ يكون النَّاس يَوْمئِذٍ قَالَ على الصِّرَاط فالأرض تبدل كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّاس يحشرون على أَرض بَيْضَاء عفراء كقرصة النقى لَيْسَ فِيهَا علم لأحد قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ هِيَ أَرض بَيْضَاء كَهَيئَةِ الْفضة لم يعْمل عَلَيْهَا خَطِيئَة وَلَا سفك فِيهَا دم حرَام وَيجمع النَّاس فِي صَعِيد وَاحِد ينفذهم الْبَصَر وَيسْمعهُمْ الدَّاعِي حُفَاة عُرَاة غرلًا كَمَا خلقُوا فَيَأْخُذ النَّاس من كرب ذَلِك الْيَوْم وشدته حَتَّى يلجمهم الْعرق وَبَعْضهمْ يرفعهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَا هُوَ مُجَاهِد وَغَيره من السّلف فَهَذَا الحَدِيث وَسَائِر الْآثَار تبين أَن النَّاس يحشرون على الأَرْض المبتلة وَالْقُرْآن يُوَافق على ذَلِك كَقَوْلِه تَعَالَى {يَوْم تبدل الأَرْض غير الأَرْض وَالسَّمَاوَات وبرزوا لله الْوَاحِد القهار} وحشرهم وحسابهم يكون قبل الصِّرَاط فَإِن الصِّرَاط عَلَيْهِ ينجون إِلَى الْجنَّة وَيسْقط أهل النَّار فِيهَا كَمَا ثَبت فِي الْأَحَادِيث

وَحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا الْمُتَقَدّم يدل على أَن التبديل وهم على الصِّرَاط لَكِن البُخَارِيّ لم يُورِدهُ فَلَعَلَّهُ تَركه لهَذِهِ الْعلَّة وَغَيرهَا فَإِن سدنه جيد أَو يُقَال تبدل الأَرْض قبل الصِّرَاط وعَلى الصِّرَاط تبدل السَّمَوَات وَأما قَوْله {يَوْم نطوي السَّمَاء كطي السّجل للكتب} فالطي غير التبديل وَقَالَ تَعَالَى {وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه يطوى السَّمَوَات ثمَّ يأخذهن بِيَمِينِهِ ثمَّ يَقُول أَنا الْملك أَنا الْجَبَّار أَيْن الجبارون أَيْن المتكبرون وَفِي لفظ يَأْخُذ الجهار سمواته وأرضه بِيَدِهِ وَهُوَ فِي أَحَادِيث كَثِيرَة فطى السَّمَوَات لَا يُنَافِي أَن يكون الْخلق فِي موضعهم وَلَيْسَ فِي شَيْء من الحَدِيث أَنهم يكونُونَ عِنْد الطي على الجسر كَمَا روى ذَلِك وَقت تبدل الأَرْض غير الأَرْض وَإِن كَانَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَة مَا فِيهَا وَالَّذِي لَا ريب فِيهِ أَنه لَا بُد من تبديلها وطيبها وَمذهب سلف الْأمة إِثْبَات الصِّفَات لله كَمَا جَاءَت إِثْبَاتًا بِلَا تَمْثِيل وتنزيها بِلَا تَعْطِيل وَفِي يَوْم الْقِيَامَة تبدل الْجُلُود فِي النَّار كَمَا أخبر سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ فَقيل إِنَّه تغير الْجُلُود فِي الصِّفَات لَا فِي الذوات فَكلما تَغَيَّرت الصِّفَات صَار هَذَا غير هَذَا وَإِن كَانَ الأَصْل وَاحِدًا وَهَذَا كَمَا تمد الأَرْض وَتَكون السَّمَاء كَالْمهْلِ وكما يُعَاد خلق الانسان وَيبقى طوله سِتُّونَ ذِرَاعا

قَاعِدَة الَّذِي اتّفق عَلَيْهِ أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَن النَّار لَا يخلد فِيهَا أحد من أهل الْإِيمَان والتوحيد كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الْأَحَادِيث إِنَّه يخرج من النَّار من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من الْإِيمَان وَنَحْوه وَلَكِن لَا بُد أَن يدْخل النَّار عصاة أهل التَّوْحِيد بِذُنُوبِهِمْ ويعاقبون على مِقْدَار ذنوبهم ثمَّ يخرجُون بشفاعة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيره وَأما أهل الْبدع فَلهم أَقْوَال مضطربة بَاطِلَة فجمهور الْمُعْتَزلَة والخوارج يَقُولُونَ من دخل النَّار خلد فِيهَا وَآخَرُونَ من المرجئة يَقُولُونَ إِنَّا لَا نقطع لمُعين فَأُولَئِك اعتقدوا أَن الْإِيمَان مَتى ذهب بعضه ذهب جَمِيعه قَالُوا وَالْفَاسِق قد نقص إيمَانه وَالْحق مَا عَلَيْهِ السّلف وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن الحَدِيث إِنَّمَا سلبه كَمَال الْإِيمَان الْوَاجِب وَحَقِيقَته الَّتِي بهَا يسْتَحق الْجنَّة والنجاة من النَّار وَكَذَلِكَ قَوْله من غَشنَا لَيْسَ منا وَشبهه وَمَا ورد من نُصُوص الْوَعيد الْمُطلقَة كَقَوْلِه تَعَالَى {فَسَوف نصليه نَارا} فَهُوَ مُبين ومفسر بِمَا فِي الْكتاب وَالسّنة من النُّصُوص المبينة لذَلِك الْمقيدَة لَهُ وَكَذَلِكَ مَا ورد من نُصُوص الْوَعْد الْمُطلقَة وَكَذَلِكَ بَين أَن الْحَسَنَات تمحو السَّيِّئَات والخطايا تكفر بالمصائب وَغَيرهَا من الْعَمَل الصَّالح من غَيره كالدعاء لَهُ وَالصَّدَََقَة عَنهُ وَالصِّيَام وَالْحج عَنهُ فَقَوله لَا يدْخل النَّار من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان نفي بِهِ الدُّخُول الْمُطلق الَّذِي توعد بِهِ فِي الْقُرْآن توعدا مُطلقًا وَهُوَ دُخُول الخلود فِيهَا وَأَنه

لَا يخرج مِنْهَا بشفاعة وَلَا غَيرهَا مثل قَوْله {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى} وَقَوله تَعَالَى {سيدخلون جَهَنَّم داخرين} فَيُقَال إِن من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان يمْنَع من هَذَا الدُّخُول الْمَعْرُوف لَا أَنه لَا يصبهُ شَيْء من عَذَاب النَّار لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَقُول الله تَعَالَى أخرجُوا من النَّار من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان وَقَالَ وَأما أهل النَّار الَّذين هم أَهلهَا فَإِنَّهُم لَا يموتون فِيهَا وَلَا يحيون وَلَكِن نَاس أَصَابَتْهُم بِذُنُوبِهِمْ فأماتتهم إمانة حَتَّى إِذا كَانَ حما أذن فِي الشَّفَاعَة فَخَرجُوا ضبائر ضبائر فينبتون على نهر الْجنَّة وَكَذَلِكَ قَوْله لَا يدْخل الْجنَّة من فِي قلبة مِثْقَال ذرة من كبر نفي الدُّخُول الْمُطلق الْمَعْرُوف وَهُوَ دُخُول الْمُؤمنِينَ الَّذين أعدت لَهُم الْجنَّة كَقَوْلِه تَعَالَى {وسيق الَّذين اتَّقوا رَبهم إِلَى الْجنَّة زمرا حَتَّى إِذا جاؤوها وَفتحت أَبْوَابهَا} الْآيَة وَقَوله {يَا لَيْت قومِي يعلمُونَ بِمَا غفر لي رَبِّي وَجَعَلَنِي من الْمُكرمين} وأمثال ذَلِك مِمَّا يُطلق فِيهِ الدُّخُول وَالْمرَاد الدُّخُول ابْتِدَاء من غير سبق عَذَاب فِي النَّار بِحَيْثُ لَا يفهم من ذَلِك يُعَذبُونَ فَهَذَا الدُّخُول لَا يَنَالهُ من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من كبر وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَحَادِيث مُبين فِيهَا سَبَب دُخُوله الْجنَّة من الْعَمَل الصَّالح وَسبب دُخُول النَّار كالكبر فَإِن وجد فِي العَبْد أحد السببين فَقَط فَهُوَ من أَهله وَإِن وجدا فِيهِ مَعًا ستحق الْجنَّة وَالنَّار وَمن مَعَه كبر وايمان يسْتَحق النَّار فيعذب فِيهَا حَتَّى يَزُول الْكبر من قلبه وَحِينَئِذٍ يدْخل الْجنَّة وَلم يبْق فِي قلبه كبر وَلَا مِثْقَال ذرة مِنْهُ كَمَا أَنه لَو تَابَ مِنْهُ لم يكن من أَهله وَكَذَا إِذا عذب بِذَنبِهِ فِي الدُّنْيَا أَو فِي الْآخِرَة لم يكن حِينَئِذٍ من أَهله

فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا نفس مُؤمنَة حق إِذا أُرِيد بِهِ الدُّخُول الْمُطلق الْكَامِل أُرِيد بالمومن الْكَامِل الْمُطلق وَإِذا أُرِيد بِالدُّخُولِ مُطلق الدُّخُول فقد يتَنَاوَل الدُّخُول بعد الْعَذَاب فَإِنَّهُ يُرَاد بِهِ مُطلق الْمُؤمن حَتَّى يتَنَاوَل الْفَاسِق الَّذِي فِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان فَإِن هَذَا يدْخل ي مُطلق المومن كَقَوْلِه تَعَالَى {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} وَلَا يدْخل فِي الْمُؤمن الْمُطلق كَقَوْلِه تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا} الْآيَة وَمثل هَذَا كثير فِي الْكتاب وَالسّنة ينتفى الِاسْم عَن الْمُسَمّى تَارَة لنفي حَقِيقَته وكماله وَيثبت لَهُ تَارَة لوُجُود أَصله وَبَعضه حَتَّى يُقَال للْعَالم الْقَاصِر والصانع الْقَاصِر هَذَا عَالم وَهَذَا صانع بِالنِّسْبَةِ إِلَى من لَا يعلم وَإِلَى من لَا يصنع وَيُقَال هَذَا لَيْسَ بعالم وَلَا صانع لوُجُود نَقصه وتقصيره وَيُقَال للكامل هُوَ الْعَالم والصانع وَهَذَا هُوَ الشجاع وَأَمْثَاله كثير من الْأَسْمَاء وَالصِّفَات كالمؤمن وَالْكَافِر وَالْفَاسِق وَالْمُنَافِق وَالله أعلم وورود حَوْض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل الصِّرَاط فَيردهُ قوم ويذاد عَنهُ آخَرُونَ وَقد بدلُوا وغيرو وَالله أعلم وَلَا ريب أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده إِنَّمَا كَانَ أَرَادَ أَن يكْتب لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ الْعَهْد بالخلافة بعده كَمَا فسر ذَلِك فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنهُ يَوْم الْخَمِيس قَالَ لَهَا ادعِي لَهَا أَبَاك وأخاك أكتب لأبي بكر كتابا لَا يخْتَلف النَّاس بعدِي ثمَّ أعلم أَن الله يَأْبَى ذَلِك والمؤمنون إِلَّا أَبَا بكر وَذَلِكَ لما أَنه كَانَ نصب لَهُم من الْعَلامَة على خِلَافَته من الصَّلَاة بِالنَّاسِ إِمَامًا وسد خوخة غَيره وإخباره بحبه أَكثر من غَيره وَغير ذَلِك من العلامات ثمَّ قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ نسخ الله كِتَابه ذَلِك عَن

فصل

النَّاس وَإِلَّا فَلَمَّا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتْرك حكم الله وَلَا يبلغهُ لقَوْل عمر وَقَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس} المُرَاد بِهِ فِي حق من شكّ فِي خلَافَة أبي بكر وَصدق ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَإِنَّهَا رُؤْيا حق من شَاءَ الله فتْنَة وَأما من أَرَادَ الله هداه فَذَلِك خير لمزيد اجْتِهَاده وموافقته الْحق وَالله يبتلى بِمَا يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم فصل مَا يذكر عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه لما مَاتَ ركب فَوق نَاقَة أَو دَابَّة وسيبت وَدفن حَيْثُ يتبرك بِهِ وَأَنه أوصى بذلك وَفعل بِهِ فَهَذَا كذب مختلق بِاتِّفَاق أهل الْعلم لم يوص على شَيْء من ذَلِك وَلَا فعل بِهِ شَيْء من ذَلِك وَلَا يحل أَن يفعل هَذَا بِأحد من موتى عوام الْمُسلمين فضلا عَن عَليّ وَلَا يحل لأحد أَن يُوصي بذلك وَهَذَا مثله بِالْمَيتِ وَقد تنَازع الْعلمَاء فِي مَوضِع قَبره وَالْمَعْرُوف أَنه دفن بقصر الْإِمَارَة بِالْكُوفَةِ وعمى قَبره لِئَلَّا تنبشه الْخَوَارِج الدّين كَانُوا يكفرونه ويستحلون قَتله فَإِن الَّذِي قَتله هُوَ عبد الرَّحْمَن بن ملجم الرادى أَحْمد الْخَوَارِج وَكَانَ قد تعاهد هُوَ وآخران على قتل على وَمُعَاوِيَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنْهُم فَإِنَّهُم كَانُوا يكفرون هَؤُلَاءِ كلهم وكل من لم يوافقهم على أهوائهم وَقد تَوَاتَرَتْ النُّصُوص على قَتلهمْ رَوَاهَا مُسلم وَالْبُخَارِيّ من عشرَة أوجه وَاتفقَ الصَّحَابَة على قِتَالهمْ لَكِن الَّذِي بَاشر قَتلهمْ وَأمر بِهِ على رَضِي الله عَنهُ كَمَا ثَبت ذَلِك فِي

الصَّحِيحَيْنِ وَكَانُوا اجْتَمعُوا فِي حروراء فَلذَلِك قيل لَهُم الْخَوَارِج والحرورية وَمُعَاوِيَة أَرَادَ الآخر فجرحه فَاتخذ الْمَقْصُورَة وَأما الَّذِي أَرَادَ قتل عَمْرو بن الْعَاصِ فَذهب إِلَى عَمْرو وانتظره فِي صَلَاة فَكَانَ عَمْرو قد اسْتخْلف ذَلِك الْيَوْم خَارِجَة فَظن الْخَارِجِي أَنه عَمْرو فَقتله فَلَمَّا تبين لَهُ قَالَ أردْت عمرا وَأَرَادَ الله خَارجه وَصَارَت مثلا فَكَتَمُوهُ قبر على رَضِي الله عَنهُ لذَلِك وقبر مُعَاوِيَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ كَذَلِك بقصر الامارة خوفًا عَلَيْهِم من الْخَوَارِج ودفنوا مُعَاوِيَة دَاخل الْحَائِط القبلى من جَامع دمشق فِي قصر الْإِمَارَة الَّذِي كَانَ يُقَال لَهُ الخضراء وَهُوَ الَّذِي تسميه الْعَامَّة قبر هود وَهود عَلَيْهِ السَّلَام لم يَجِيء إِلَى دمشق بل قَبره بِبِلَاد الْيمن وَقبل بِمَكَّة وَأما المشهد الَّذِي بالنجف فَأهل الْمعرفَة مثقفون على أَنه لَيْسَ قبر عَليّ بل قيل إِنَّه قبر الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَإِنَّمَا قيل إِنَّه قبر عَليّ بعد وَفَاته بِأَكْثَرَ من ثَلَاثمِائَة سنة وَأما أهل الْبَيْت وإركابهم على الْإِبِل حِين سيبوا بعد وقْعَة كربلا وَأَن الله خلق لَهَا سنامان هِيَ البخاتي فَهَذَا أَيْضا من أقبح الْكَذِب وأبينه وَهُوَ مِمَّا افتراه الزَّنَادِقَة المُنَافِقُونَ الَّذِي مقصودهم الطعْن فِي الْإِسْلَام وَهَذَا مثل كذبهمْ فِي أَن عليا رَضِي الله عَنهُ نصب يَده حَتَّى مر عَلَيْهَا الْجَيْش بِخَيْبَر فواطئته البغلة فَقَالَ لَهَا قطع الله نسلك

فَإِن كل عَاقل يعلم أَن البغلة لم يكن لَهَا نسل مُنْذُ خلقهَا الله مَعَ أَنهم لم يكن مَعَهم بِخَيْبَر بِغَلَبَة وَأما الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ وَلعن من قَتله وَمن رضى بقتْله فالشمر حض على قَتله وسعى فِيهِ إِلَى نَائِب السلطنة على الْعرَاق عبيد الله بن زِيَاد فَأمر نَائِبه عمر بن سعد بن أبي وَقاص بقتاله فقاتلوه وقتلوه ظلما ثمَّ حملُوا ثقله وَأَهله إِلَى يزِيد بن مُعَاوِيَة بِدِمَشْق وَلم يكن أَمر بقتْله وَلَا ظهر مِنْهُ سرُور بذلك بل قَالَ كلَاما فِيهِ ذمّ لمن قَتله قيل إِنَّه قَالَ لقد كنت أرْضى من طَاعَة أهل الْعرَاق بِدُونِ ذَلِك وَقَالَ لعن الله ابْن رَيْحَانَة عني عبد الله بن زِيَاد أما وَالله لَو كَانَ بَينه وَبَين الْحُسَيْن رحم لما قَتله يعرض بالطعن فِي نسبه لِأَنَّهُ كَانَ ينْسب إِلَى أبي سُفْيَان بن حَرْب بن أُميَّة وَبَنُو أُميَّة وَبَنُو هَاشم هما بَنو عبد منَاف وروى أَنه لما قدم عَلَيْهِ بِأَهْل الْحُسَيْن ظهر من دَاره الْبكاء والصراخ لَكِن مَعَ ذَلِك لم يقم حق الله من قَتله وَلَا اقْتصّ لَهُ بل قَتله أعوانه لإدامة ملكه وَقد نقل عَنهُ أَنه كَانَ يتَمَثَّل بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ ... لما بَدَت تِلْكَ الحمول ... تِلْكَ الرؤس على ربى جيرون ... نعق الْغُرَاب فَقلت نح أَو لَا تَنَح فقد قصيت على النَّبِي ديوني ... وَهَذَا الشّعْر كفر وَمن النَّاس من يكفره وهم الرافضة حَتَّى يكفرون أَبَاهُ وَأَبا بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم وَمِنْهُم من يَجعله من أَئِمَّة الْهدى وَالْعدْل حَتَّى جعله بَعضهم نَبيا وَبَعْضهمْ صحابيا وَهَذَا كُله من أبين الْجَهْل والضلال

بل الْحق فِيهِ أَنه كَانَ ملكا من مُلُوك الْمُسلمين لَهُ حَسَنَات وَله سيئات وَالْقَوْل فِيهِ كالقول فِي أَمْثَاله من الْمُلُوك لَا نحبه وَلَا نسبه وَهُوَ أول من غزا قسطنطينية وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول جَيش يغزوها يغْفر لَهُم وَفعل من أهل الْمَدِينَة مَا فعل وَقد توعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قتل فِيهَا قَتِيلا ولعنه وَأما رَأس الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ فَإِن الْحُسَيْن قتل بكربلاء قَرِيبا من الْفُرَات وَدفن جسده حَيْثُ قتل وَحمل رَأسه إِلَى قُدَّام عبيد الله بن زِيَاد بِالْكُوفَةِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ وَأما حَملَة إِلَى الشَّام فَلم يثبت وَإِن كَانَ قد رُوِيَ وَأما حمله إِلَى مصر فَالْعُلَمَاء متفقون على أَنه كذب والمشهد الَّذِي بِمصْر بِالْقَاهِرَةِ بَاطِل لَيْسَ فِيهِ رَأس الْحُسَيْن وَلَا شَيْء مِنْهُ وَإِنَّمَا أحدث فِي دولة بني عبيد القداح فِي أثْنَاء الْمِائَة الْخَامِسَة نقل هَذَا المشهد الصَّالح بن رزيك من عسقلان وعقيب ذَلِك انقرضت دولة العبيدين الَّذين ابتدعوه على يَد صَلَاح الدّين الأيوبي وَالَّذِي رَجحه أهل الْعلم أَن رَأس الْحُسَيْن حمل إِلَى الْمَدِينَة المنورة وَدفن بهَا وَهَذَا مقارب وَمَا ذكر أَنه بعسقلان فَأبْطل الْبَاطِل لَا نقبله بل قد أحدث بعد السّبْعين والأربعمائة فَهُوَ يحدث بعد قتل الْحُسَيْن بِأَكْثَرَ من أَرْبَعمِائَة وَثَلَاثِينَ سنة ثمَّ زَعَمُوا أَنه نقل بعد ذَلِك إِلَى الْقَاهِرَة وَكَذَلِكَ أحدث قبر نوح بِالْبَقَاءِ فِي أثْنَاء الْمِائَة السَّابِعَة وَكَذَلِكَ مشْهد أبي بن كَعْب بِدِمَشْق كذب بالِاتِّفَاقِ وَلم يثبت سوى قبر نَبينَا وَفِي الْخَلِيل نظر صلى الله عَلَيْهَا وَسلم

فصل

فصل قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الطرقات وَفِي الْأَسْوَاق منهى عَنْهَا لِأَنَّهُ للتأكل بِالْقُرْآنِ وَفِيه ابتذال الْقُرْآن وَلَا يصغى اليه أحد وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ فقد أشكل على كثير فطائفة ظنت إِنَّه غير صَحِيح كعائشة وَالشَّافِعِيّ وَمن النَّاس من يتأوله على مَا أوصى بِهِ الْمَيِّت قبل مَوته وَمِنْهُم من يتأوله على مَا إِذا لم ينْه عَنهُ فِي حَيَاته مَعَ اعتياده لَهُ وَهَؤُلَاء ظنُّوا أَن الْعَذَاب لَا يكون إِلَّا على ذَنْب فاحتاجوا أَن يجْعَلُوا للْمَيت ذَنبا يسْتَحق عَلَيْهِ الْعَذَاب وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بل الْعَذَاب يكون على ذَنْب وَقد لَا يكون قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب وَهُوَ لم يقل إِنَّه يُعَاقب بل قَالَ يعذب وَالْمعْنَى يتألم بالاعتداء كَمَا قد يتألم الْحَيّ بشم الرَّائِحَة الكريهة فَلهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للنِّسَاء ارْجِعْنَ مَأْزُورَات إنكن تؤذين الْمَيِّت وَقَالَ مامن ميت يَمُوت فَيَقُول قَائِلهمْ واجبلاه وَنَحْوه إِلَّا وكل بِهِ ملكان يلهزانه أهكذا أَنْت فَيكون قَوْله يعذب أَي يتألم ويتأذى وَهَذَا لَا ريب فِيهِ كَمَا ثَبت خُصُوصا إِذا علم أَنه يسمع ويبصر وَيدْرك عِنْده

فصل في الروح

فصل فِي الرّوح روح الْإِنْسَان مخلوقة بِاتِّفَاق سلف الْأمة وأئمتها حكى الْإِجْمَاع على ذَلِك غير وَاحِد مثل مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي الإِمَام الَّذِي هُوَ أعلم أهل زَمَانه بِالْإِجْمَاع وَالِاخْتِلَاف وَأبي مُحَمَّد بن قُتَيْبَة وَالَّذين قَالُوا إِنَّهَا لَيست مخلوقة هم الزَّنَادِقَة وَالنَّصَارَى فِي عِيسَى فَقَط والقائلون بقدمها صنفان أَحدهمَا من الصابئة والفلاسفة فَإِنَّهُم يَقُولُونَ هِيَ قديمَة أزلية لَكِن لَيست من ذَات الله كَمَا يَقُولُونَ ذَلِك فِي الْعُقُول والنفوس الفلكية وَزعم من دخل مَعَهم من أهل الْملَل أَنَّهَا هِيَ الْمَلَائِكَة وصنف من زنادقة هَذِه الْأمة من المتصرفة والمتكلمة والمتحدثة يَزْعمُونَ أَنَّهَا من ذَات الله هَؤُلَاءِ شَرّ من أُولَئِكَ فَإِنَّهُم جعلُوا الآدمى نِصْفَيْنِ نصف لَا هوت وَهُوَ روحه وَنصف ناسوت وَهُوَ جسده نصف رب وَنصف عبد وَقد كفر الله النَّصَارَى بِنَحْوِ من هَذَا القَوْل الَّذِي قَالُوهُ فِي الْمَسِيح فَقَط فَكيف بِمن يزْعم ذَلِك لكل النَّاس حَتَّى فِي فِرْعَوْن وهامان وَقَارُون وَالنَّاس فِي روح الأدمِيّ على طرفى نقيض فكثير من المتكلمة يَجْعَلهَا جَزَاء من هَذَا الْبدن أوصفة من صِفَاته وَهَذَا خطأ بل روح أَمر غير الْبدن وأبعاضة وَصِفَاته وَلِهَذَا تكون بَاقِيَة بعد مُفَارقَة الْبدن وَكثير من المتفلسفة يبالغون فِي عدم تحيزها ووصفها بِالصِّفَاتِ السلبية حَتَّى يَقُولُونَ لَيست دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا متحركة وَلَا سَاكِنة وَلَا تخْتَص بمَكَان دون مَكَان كَمَا يَقُولُونَ فِي وَاجِب الْوُجُود وَهَذَا القَوْل أَيْضا ضلال وباطل

هَل يكون العَبْد قَادِرًا على غير الْفِعْل الَّذِي فعله الَّذِي سبق الْعلم بِهِ من الله تَعَالَى هَذَا مِمَّا تنَازع فِيهِ النَّاس كَمَا تنازعوا فِي أَن الِاسْتِطَاعَة هَل تكون مُقَارنَة للْفِعْل أَو يجب أَن تتقدمه فَمن قَالَ إِن الِاسْتِطَاعَة لَا تكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل يَقُول إِن العَبْد لَا يَسْتَطِيع غير مَا فعله وَهُوَ مَا تقدم بِهِ الْعلم وَالْكتاب وَمن قَالَ إِن الِاسْتِطَاعَة قد تقدم الْفِعْل وَقد تُوجد بِدُونِ الْفِعْل فَإِنَّهُ يَقُول إِنَّه سَيكون مستطيعا لما يَفْعَله وَلما علم وَكتب أَنه لَا يَفْعَله وَفصل الْخطاب أَن الِاسْتِطَاعَة فِي الْكتاب وَالسّنة نَوْعَانِ أَحدهمَا الِاسْتِطَاعَة المصححة للْفِعْل وَهِي متناوله لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي لقَوْله تَعَالَى

{وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} وَقَوله تَعَالَى {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم}

فَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَة مُقَدّمَة على الْفِعْل لِأَنَّهَا لَو كَانَت لاتوجد إِلَّا مَعَ الْفِعْل لوَجَبَ أَلا يجب الْحَج إِلَّا على من حج

وَأما الِاسْتِطَاعَة الَّتِي يكون مَعهَا الْفِعْل فقد يُقَال هِيَ المقرونة بِالْفِعْلِ الْمُوجبَة لَهُ

وَهَذَا النَّوْع الثَّانِي نَحْو قَوْله تَعَالَى {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمع وَمَا كَانُوا يبصرون}

فَإِن الِاسْتِطَاعَة الْمَشْرُوطَة فِي الْأَمر وَالنَّهْي الَّتِي هِيَ منَاط التَّكْلِيف كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} لَكِن قد يُقَال إِن الِاسْتِطَاعَة هُنَا كالاستطاعة المنفية فِي قَول الْخضر

لمُوسَى عَلَيْهِم السَّلَام {إِنَّك لن تَسْتَطِيع معي صبرا} فَإِن هَذِه لَو أُرِيد بهَا مُجَرّد الْمُقَارنَة فِي الْفَاعِل والتارك لم يكن هُنَاكَ فرق بَين الْمُجْرمين والمؤنين وَلَا

بَين مُوسَى وَالْخضر فَإِن كل وَاحِد فعل أَو لم يفعل لَا تكون الِاسْتِطَاعَة الْمُقَارنَة مَوْجُودَة قبل فعله

وَالْقُرْآن يدل على أَن هَذِه الِاسْتِطَاعَة إِنَّمَا نفيت عَن التارك لَا عَن الْفَاعِل فَعلم أَنَّهَا تقوم بِالْعَبدِ من الْوَاقِع الَّتِي تصدر عَن إِرَادَة الْفِعْل وَعَمله بِكُل حَال

فَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَة منتفية فِي حق من كتب عَلَيْهِ أَنه لَا يفعل وَقضى عَلَيْهِ ذَلِك

وَإِذا عرف هَذَا الْقسم علم أَن إِطْلَاق القَوْل بِأَن العَبْد لَا يَسْتَطِيع غير مَا فعل وَلَا يَسْتَطِيع خلاف الْمَعْلُوم الْمَقْدُور وَأَن إِطْلَاق القَوْل بِأَن استطاعة الْفَاعِل

والتارك سَوَاء أَن الْفِعْل لَا يخْتَص من التارك بإستطاعة خَاصَّة الإطلاقين خطأ بِدعَة

وَلِهَذَا أتفق سلف الْأمة وأئمتها على ان الله قَادر على مَا علمه وَأخْبر أَنه لَا يكون وعَلى مَا يمْتَنع ضَرُورَة عَدمه لعدم إِرَادَته لَا لعدم قدرته عَلَيْهِ ش

وَإِنَّمَا خَالف فِي ذَلِك أهل الضلال من الْجَهْمِية والقدرية والمتفلسفة الصابئة وَالَّذين يَزْعمُونَ انحصار الْمَقْدُور فِي الْمَوْجُود ويخصون قدرته بِمَا شاءه

وَعلمه وَقد قَالَ تَعَالَى {أيحسب الْإِنْسَان ألن نجمع عِظَامه بلَى قَادِرين على أَن نسوي بنانه} وَقَالَ تَعَالَى {هُوَ الْقَادِر على أَن يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم}

وَقد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ حِين نزلت هَذِه الْآيَة {من فَوْقكُم} أعوذ بِوَجْهِك {أَو من تَحت أَرْجُلكُم} أعوذ بِوَجْهِك {أَو يلْبِسكُمْ شيعًا وَيُذِيق بَعْضكُم بَأْس بعض} قَالَ هَاتَانِ أَهْون

وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها} وَمن حكى عَن أحد أَن العَبْد لَيْسَ قَادِرًا على غير مَا فعل الَّذِي هُوَ خلاف

الْمَعْلُوم فَإِنَّهُ مُخطئ فِيمَا نَقله عَنْهُم من نفى الْقُدْرَة مُطلقًا ومصيب فِيمَا نَقله عَنْهُم من نفي الْقُدْرَة الَّتِي اخْتصَّ بهَا الْفَاعِل دون التارك

وَأما مَا يجب على أعيانهم فَهَذَا يتنوع بتنوع قدرهم ومعرفتهم وحاجتهم وَهَذَا من أصُول تنازعهم فِي جَوَاز تَكْلِيف مَا لَا يُطلق فَإِن من يَقُول إِن الِاسْتِطَاعَة لَا تكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل والتارك لَا استطاعة

لَهُ بِحَال يَقُول كل من عصى الله فَمَا عَصَاهُ إِلَّا أَنه كلفه مَا لَا يطيقه كَمَا قد يَقُولُونَ إِن جَمِيع الْعباد كلفوا مَالا يُطِيقُونَ

وَمن يَقُول إِن استطاعة الْفِعْل هِيَ التّرْك يَقُول إِن الْعباد لم يكلفوا إِلَّا بِمَا هم مسبوقون فِي طَاعَته وقدرتهت والاستطاعة لَا يخْتَص الْفَاعِل دون التارك باستطاعة خَاصَّة فإنطلاق القَوْل بِأَنَّهُ كلف مَالا يطيقه كإطلاقه بِأَنَّهُ مجبور عَليّ أَفعاله إِذا سلب الْقُدْرَة فِي الْمَأْمُور نَظِير إِثْبَات الْجَبْر فِي الْمَحْظُور وَإِطْلَاق القَوْل بِأَن العَبْد لَيْسَ مجبورا بِحَال كإطلاقه بِأَن العَبْد قَادِرًا على خلاف مَعْلُوم الله وَتَقْدِيره وَسلف الْأمة وأئمتها يُنكرُونَ هَذِه الإطلاقات كلهَا لاشتمال كل وَاحِد من طرفِي النَّفْي وَالْإِثْبَات عَليّ بَاطِل وَإِن كَانَ فِيهِ حق بل الْوَاجِب إِطْلَاق الْعبارَات الْحَسَنَة وَهِي الْمَأْمُور بهَا الَّتِي جَاءَت بهَا النُّصُوص وَالتَّفْصِيل فِي الْعبارَات المجملة المشتبهة وَكَذَلِكَ الْوَاجِب نَظِير ذَلِك فِي ساذر زبواب أصُول الدّين أَن يَجْعَل نُصُوص الْكتاب وَالسّنة هِيَ الأَصْل الْمُعْتَمد الَّذِي يجب اتِّبَاعه ويسوغ إِطْلَاقه وَتجْعَل الْأَلْفَاظ الَّتِي تنَازع فِيهَا النَّاس نفيا أَو إِثْبَاتًا موقوفاة على الاسفسار وَالتَّفْصِيل وَيمْنَع من إِطْلَاق نفي مَا أطلقهُ الله وَرَسُوله وَإِطْلَاق إِثْبَات مَا نفى الله ورسلوه وَفصل الْخطاب أَن النزاع فِي أصلين أَحدهمَا أَن التَّكْلِيف الْوَاقِع اتّفق الْمُسلمُونَ على وُقُوعه فِي الشَّرِيعَة وَهُوَ أَمر الْعباد كلهم بِمَا أَمرهم الله وَرَسُوله من الأذمان بِهِ وتقواه وَهل يُسمى هَذَا أَو شَيْء مِنْهُ تَكْلِيف لَا يُطَاق

فالقائل إِن الْقُدْرَة لَا تكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل يَقُول إِن الْمعاصِي مِمَّا لَا يُطَاق وَيَقُول كل أحد كلف حِين كَانَ مطيقا وَكَذَلِكَ من زعم أَن تقدم الْعلم وَالْكتاب بالشئ يمْنَع أَن يقدر العَبْد عَليّ خِلَافه وَكَذَلِكَ من يَقُول إِن الْعرض لَا يبْقى زمانين يَقُول إِن الِاسْتِطَاعَة الْمُتَقَدّمَة لَا تبقى رلى حِين الْفِعْل وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة لَيْسَ دَائِما فِي الْأَفْعَال الَّتِي أَمر الله بهَا أَو نهى عَنْهَا هَل يَتَنَاوَلهَا التَّكْلِيف وَقد قدمنَا أَن الْقُدْرَة نَوْعَانِ وَأَن من يُطلق القَوْل بِأَن الِاسْتِطَاعَة لَا تكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل فإطلاقه مُخَالف فِي الْمَسْأَلَة وَقَول ثَالِث كَانَ مُمْتَنعا لذاته كالجمع بَين النقيضين مُخَالف لما ورد فِي الْكتاب وَالسّنة كإطلاق الْخَيْر وَإِن كَانَ قد أطلق ذَلِك طوائف من المنتسبين إِلَى السّنة وَمنع الاطلاق فِي ذَلِك مَنْقُول عَن شُرَيْح والقلانسي وَنقل عَن أبي حنيفَة وَهُوَ مُقْتَضى قَول الْأَئِمَّة وَامْتنع أَبُو إِسْحَاق بن شاقلا وَحكى فِيهِ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا ذكره عَن القَاضِي أبي يعلى الِاسْتِطَاعَة مَعَ الْفِعْل أَو قبله وَهَذَا كَمَا أَن من قَالَ لَيْسَ للْعَبد إِلَّا قدرَة وَاحِدَة يقدر بهَا على الْفِعْل وَالتّرْك فَهُوَ بَاطِل وهم الْقَدَرِيَّة الَّذين يَقُولُونَ إِن العَبْد لَا يفْتَقر حَال الْفِعْل إِلَى الله يُعينهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا إوجده الْفِعْل وَأَن الله لَيْسَ لَهُ نعْمَة بهَا على من آمن بِهِ وأطاعه أَكثر من نعْمَته على من كفر بِهِ وَعَصَاهُ وَاتفقَ أهل السّنة على تضليل هَؤُلَاءِ ثمَّ النزاع بَينهم بعد ذَلِك مِنْهُ لفظى وَمِنْه اعتبارى كتنازعهم فِي أَن الْعرض هَل يبْقى زمانين أم لَا وبنوا عَلَيْهِ بَقَاء الِاسْتِطَاعَة

فَالْوَاجِب أنتجعل نُصُوص الْكتاب وَالسّنة هِيَ الأَصْل كَمَا قدمنَا وَأما الأَصْل الثَّانِي وَهُوَ مَا اتّفق النَّاس عَليّ أَنه غير مَقْدُور للْعَبد وَتَنَازَعُوا جَوَاز التَّكْلِيف بِهِ فَهُوَ نَوْعَانِ أَحدهمَا مَا هُوَ مُمْتَنع عَادَة كالمشي على الْوَجْه والطيران وَنَحْو ذَلِك وَالثَّانِي مَا هُوَ مُمْتَنع فِي نَفسه كالجمع بَين الضدين فَهَذَا فِي جَوَازه عقلا ثَلَاثَة أَقْوَال كَمَا تقدم وَأما وُقُوعه فِي الشَّرِيعَة وجوازه شرعا فقد اتّفق حَملَة الشَّرِيعَة عَليّ أَن مثل هَذَا لَيْسَ بواقع فِي الشَّرِيعَة وَحكى الْإِجْمَاع على ذَلِك غير وَاحِد وَمِنْهُم ابْن الزاغرانى قَالَ إِن التَّكْلِيف على ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا مَالا يُطَاق لوُجُود ضِدّه من الْعَجز كنقط الْكتاب للأعمى فَلَا يجوز الاجماع على ذَلِك وَالثَّانِي تَكْلِيف مَالا يُطَاق لوُجُود ضِدّه من الْعَجز مثل أَن يُكَلف الْكَافِر الَّذِي سبق فِي علمه تَعَالَى أَنه لَا يستجيب للتكليف كفرعون وهامان وَأبي جهل فَهَذَا جَائِز وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن تَكْلِيف مَالا يُطَاق غير جَائِز وَهَذَا الْإِجْمَاع الَّذِي ذكره هُوَ إِجْمَاع الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء فَإِنَّهُ قد ذهب طاذفة من أهل الْكَلَام إِلَى أَن التَّكْلِيف بالمتنع لذاته وَاقع فِي الشَّرِيعَة وَهُوَ قَول الرَّازِيّ وَطَائِفَة قبله وَزَعَمُوا أَن تَكْلِيف أبي جهل من هَذَا الْقَبِيل حَيْثُ كلف أَن يصدق بالأخبار الَّتِي من جُمْلَتهَا الْإِخْبَار بِأَنَّهُ لَا يُؤمن وَهَذَا غلط فَإِن من أخبر أَنه لَا يُؤمن بعد دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه إِلَى الْإِيمَان فقد حقت عَلَيْهِ كملة الْعَذَاب كَالَّذي يعاين الملاذكة وَقت الْمَوْت وَلم يبْق بعد هَذَا مُخَاطبا من جِهَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَيْنِ الْأَمريْنِ المتناقضين

فصل

وَكَذَلِكَ من قَالَ تَكْلِيف الْعَاجِز وَاقع محتجا بقوله {يَوْم يكْشف عَن سَاق وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} فَإِنَّهُ لَا يُنَاقض هَذَا الْإِجْمَاع أَو مَضْمُون الْإِجْمَاع ينفى وُقُوعه فِي الشَّرِيعَة وَأَيْضًا فَإِنَّهُ خطاب تعجيز على وَجه الْعقُوبَة لَهُم لتركهم السُّجُود وهم سَالِمُونَ فيعاقبون على ترك الْعِبَادَة فِي حَال قدرتهم بِأَن أمروا بهَا حَال عجزهم وخطاب الْعقُوبَة هُوَ من جنس خطاب التكوين لَا يشْتَرط فِيهِ قدرَة الْمُخَاطب رذ لَيْسَ الْمَطْلُوب فعله فَإِذا ثبتَتْ الْأَنْوَاع والأقسام زَالَ الِاشْتِبَاه والإبهام وَالله أعلم فصل قد قَالَ بعض النَّاس إِنَّه تجوهر وَهَذَا قَول قوم داوموا على الرياضة مُدَّة فَقَالُوا لَا نبالى بِمَا عَملنَا بعد ذَلِك وَإِنَّمَا الْأَمر والنهى رسم للعوام لَو تجوهروا مثلنَا لسقط عَنْهُم وَحَاصِل النُّبُوَّة ترجع إِلَى الْحِكْمَة والمصلحة وَالْمرَاد مِنْهَا ضبط الْعَوام ولسنا من الْعَوام فندخل فِي التَّكْلِيف لأَنا قد تجوهرنا وعرفنا الْحِكْمَة فَهَؤُلَاءِ أَكثر من الْيَهُود وَالنَّصَارَى بل هم أكفر أهل الأَرْض فَإِن الْيَهُود وَالنَّصَارَى آمنُوا بِبَعْض الْكتاب وَكَفرُوا بِبَعْض وَهَؤُلَاء كفرُوا بِالْجَمِيعِ فهم خارجون عَن الْتِزَام شئ من الْحق

لَكِن كثير من هؤلاد لَا يطلقون السَّلب الْعَام مُطلقًا بل يَزْعمُونَ سُقُوط بعض الْوَاجِبَات عَنْهُم وَحل بعض الْمُحرمَات لَهُم وَمِنْهُم من يزْعم أَنه يقطت عَنهُ الصَّلَاة لوصوله إِلَى مقصودها وَبَعْضهمْ يزْعم سُقُوطهَا وَقت الْمُشَاهدَة وَبَعْضهمْ يزْعم سُقُوط الْجُمُعَات اسْتغْنَاء بالنوبة والحضور وَبَعْضهمْ يسْقط الْحَج وَمِنْهُم من يسْتَحل الْفطر فِي رَمَضَان لغير عذر شَرْعِي وَمِنْهُم من يسْتَحل الْخمر أَو يزْعم أَنَّهَا تحرم على الْعَامَّة دون الْخَاصَّة الْعُقَلَاء فَإِن أهل الْأَنْفس الزكية والأعمال الصَّالِحَة لَا يَقع مِنْهُم مَا يَقع من الْعَوام وَهَذَا كَانَ قد حصل لبَعض الْأَوَّلين فِي الْخمر فاتفق الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على قَتلهمْ أَن لم يتوبوا فَإِن قدامَة بن عبد الله شربهَا هُوَ وَطَائِفَة وتأولوا قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح} الْآيَة فَلَمَّا ذكر ذَلِك لعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ اتّفق مَعَ على سَائِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على أَنهم إِن اعْتَرَفُوا بِالتَّحْرِيمِ جلدُوا وَإِن أصروا على استحلالها قتلوا وَكَذَلِكَ ثَبت أَن الْآيَة نزلت فِي الَّذين شَرِبُوهَا قبل تَحْرِيمهَا وماتوا قي وقْعَة أحد ثمَّ علم قدامَة وَأَصْحَابه أَنهم قد أخطئوا وَأَيِسُوا من التَّوْبَة حَتَّى كتب إِلَيْهِم عمر ابْن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ حم تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْعَلِيم غَافِر الذَّنب وقابل التوب وَكتب إِلَيْهِ مَا أدرى أى ذَنْبك أعظم أستحلالك الْمحرم أَولا أم يأسك من التَّوْبَة ثَانِيًا وَالَّذِي اتّفق عَلَيْهِ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْأَئِمَّة رَحْمَة الله عَلَيْهِم لَا ينازعون فِي شئ من ذَلِك وَمن جحد وجوب بعض الْوَاجِبَات الظَّاهِرَة المتواترة كَالصَّلَاةِ أَو حجد تَحْرِيم الْمُحرمَات الظَّاهِرَة المتواترة كالفواحش وَالظُّلم وَالْخمر وَالزِّنَا والربا أَو حجد حل بعض المباحثات الظَّاهِرَة المتواترة كالخبز وَاللَّحم وَالنِّكَاح فَهُوَ كَافِر مُرْتَد يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل وَمن أضمره فَهُوَ زنديق مُنَافِق لَا يُسْتَتَاب عِنْد أَكثر الْعلمَاء

وَمن هَؤُلَاءِ من يسْتَحل بعض الْفَوَاحِش كمؤاخاة النِّسَاء الْأَجَانِب وَالْخلْوَة بِهن والمباشرة لَهُنَّ يزْعم أَنه يحصل لَهُنَّ الْبركَة بِمَا يَفْعَله فِيهِنَّ وَإِن كَانَ محرما فِي الشَّرِيعَة وَمِنْهُم من يسحل ذَلِك من المردان وَيَزْعُم أَن التَّمَتُّع بِالنّظرِ رليهم ومباشرتهم هُوَ طَرِيق لبَعض السالكين حَتَّى يترقى من محبَّة الْمَخْلُوق إِلَى محبَّة الْخَالِق ويأمرون بمقدمات الْفَاحِشَة الْكُبْرَى وَقد يسْتَحلُّونَ الْفَاحِشَة الْكُبْرَى كَمَا يستحلها من يَقُول إِن اللواط مُبَاح بِملك الْيَمين فَهَؤُلَاءِ كلهم كفار بِاتِّفَاق أَئِمَّة الْمُسلمين لَكِن من النَّاس من يكون جَاهِلا بِبَعْض ذَلِك فَلَا يحكم بكفرة حَتَّى تقوم عَلَيْهِ الْحجَّة {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة} كَمَا لَو أسلم رجل وَلم يعلم أَن الصَّلَاة وَاجِبَة ثمَّ علم هَل يجب عَلَيْهِ قَضَاء مَا تَركه حَال جَهله عَليّ قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره أَحدهمَا لَا يجب وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالثَّانِي يجب وَهُوَ قَول الشَّافِعِي الْمَشْهُور عَن أَصْحَابه بل النزاع فِي كل من ترك وَاجِبا قبل بُلُوغ الْحجَّة مثل من ترك الصَّلَاة عِنْد عدم المَاء زعما مِنْهُ أَنَّهَا لَا تصح مَعَ التَّيَمُّم أَو أكل حَتَّى تبين لَهُ الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود كَمَا جرى لبَعض الصَّحَابَة أَو مس ذكره أَو أكل لحم أبل وَلم يتَوَضَّأ ثمَّ تبين لَهُ وجوب ذَلِك وأمثال هَذِه الْمسَائِل وأصل ذَلِك أَن الْخطاب هَل يثب فِي حق الْمُكَلف قبل التَّمَكُّن من سَمَاعه على ثَلَاثَة أَقْوَال لِأَحْمَد وَغَيره قيل يثبت وَقيل لَا يثبت وَقيل يفرق كَمَا فِي خطاب النّسخ وكما يفرق بَين الْمُبْتَدِئ وَغير الْمُبْتَدِئ وكما فِي الْقبْلَة وَالصَّحِيح أَنه لَا يثبت قبل التَّمَكُّن وَأَن الْقَضَاء لَا يجب فِي الصُّورَة

الْمَذْكُورَة مَعَ اتِّفَاقهم على انْتِفَاء الْإِثْم وَجَاء فِي الحَدِيث يَأْتِي على النَّاس زمَان لَا يعْرفُونَ فِيهِ صَلَاة وَلَا زككاة وَلَا صوما وَلَا حجا رلا الشَّيْخ الْكَبِير والعجوز الْكَبِيرَة يَقُولُونَ أدركنا النَّاس وهم يَقُولُونَ لَا إِلَه إِلَّا الله فَقيل لِحُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِي الله عَنهُ مَا تغنى عَنْهُم لَا إِلَه رلا الله بِلَا صَوْم وَلَا زَكَاة وَلَا حج فَقَالَ تنجيهم من النَّار وَجَمِيع الْأَنْبِيَاء قد أَتَوا بِالْأَمر والنهى إِلَى حِين موت العَبْد فَلَا يضاد الْعَمَل مَا فِي قبله من خضوع وَإِقْرَار بِأَن الله إِلَه الْعَالم لِأَن الْإِلَه هُوَ الَّذِي يعبد دَائِما وتجوهر النَّفس وصفاؤها وطهارتها عَن الأكوان البشرية مُمْتَنع فِي حق الْبشر وَلِهَذَا كَانَ سلف الْأمة وأئمتها يدينون بِأَن الْأَنْبِيَاء إِنَّمَا هم معصومون من الْإِقْرَار عَليّ الذُّنُوب وَأَن الله يستدركهم بِالتَّوْبَةِ وَإِن كَانَت حَسَنَات الْأَبْرَار سيئات المقربين وَأَن ذَلِك إِنَّمَا كَانَ لكَمَال النِّهَايَة بِالتَّوْبَةِ لَا لنَقص الْبِدَايَة بالذنب وَأما غَيرهم فَلَا تجب لَهُم الْعِصْمَة وَإِنَّمَا يدعى الْعِصْمَة الْمُطلقَة لغير الْأَنْبِيَاء الْجُهَّال من الرافضة وغالية النساك وَمن هَؤُلَاءِ من يزْعم استغناءه عَن النَّوَافِل حِينَئِذٍ وَهُوَ مفتون منكوس وَلَفظ الشَّرْع يُطلق على ثَلَاثَة معَان شرع منزل وَشرع مؤول وَشرع مبدل فالمنزل الْكتاب وَالسّنة فَهَذَا الَّذِي يجب اتِّبَاعه عَليّ كل أحد والمؤول هُوَ رد الِاجْتِهَاد الَّذِي تنَازع فِيهِ الْفُقَهَاء فاتباع الْمُجْتَهدين جَائِز لمن اعْتقد حجَّة متبوعة هِيَ القوية أَو لمن سَاغَ لَهُ تَقْلِيده والمبدل مثل الْأَحَادِيث الموضعة والتأويلات الْفَاسِدَة والفتيا الْبَاطِلَة والتقليد الْمحرم فَهَذَا يحرم اتِّبَاعه وَهَذَا مِثَال النزاع فَإِن كثيرا من النَّاس يُوجب اتِّبَاع حاكمه وإمامه وَشَيْخه والتزام حكمهم ظَاهرا وَبَاطنا وَيرى أَن الْخُرُوج عَن اتِّبَاعه خُرُوج عَن الشَّرِيعَة

فصل

المحمدية وَهَذَا جهل مِنْهُ وظلم بل دَعْوَى ذَلِك على الْإِطْلَاق كفر ونفاق وَالله أعلم فصل لَيْسَ للْمَرْأَة أَن تَجِد على غير زَوجهَا فَوق ثَلَاث لَا أَبِيهَا وَلَا أَخِيهَا وَهَذَا بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة فَإِن تَعَمّدت ترك بعض الثِّيَاب للْمَيت غير الزَّوْج فَهَذَا منهى عَنهُ وَالله أعلم والعمر يطول والرزق يبسط بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَار وَالْعَمَل الصَّالح كَمَا أَن الْهَلَاك والاغراق اسْتَحَقَّه قوم نوح بالْكفْر والتكذيب وَقد قَالَ تَعَالَى {وَأَن اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يمتعكم مَتَاعا حسنا إِلَى أجل مُسَمّى} وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أحب أَن ينسأ لَهُ فِي عمره ويبسط لَهُ فِي رزقه فَليصل رَحمَه وَالله يعلم مَا كَانَ وَمَا يكون وَمَا لَا يكون لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يكون وَالله أعلم أما تغشية قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ وَغَيرهم بالأغشية من الثِّيَاب الحريرية وَغَيرهَا فَلَيْسَ مَشْرُوعا فِي الدّين وَلَا قربَة لرب الْعَالمين فَلَا يجب الْوَفَاء بِهِ إِذا نذر بِلَا نزاع بَين الْعلمَاء وَالْأَئِمَّة بل ينْهَى عَن ذَلِك وَهل على ناذره كَفَّارَة على قَوْلَيْنِ وَكَذَلِكَ الزَّيْت والحصر لمَكَان لَا يصلى فِيهِ الْمُسلمُونَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ لَيْسَ بِطَاعَة الله وَلَا ينْعَقد نَذره وَلَكِن من الْعلمَاء من أوجب عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين أَو صرف النّذر فِي طَاعَة الله نَظِير هَذِه وَمِنْهُم من لَا يُوجب شَيْئا فَيكون هَذَا مَالا ضائعا لَا مُسْتَحقّ لَهُ فَيصْرف فِي مصَالح الْمُسلمين حَيْثُ يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَسْجِد أَو غَيره

فصل

فصل مَا ذكر من نزُول الْمَلَائِكَة إِلَى الأَرْض وَأَنَّهُمْ يعْبدُونَ الله فِيهَا ويموتون فِيهَا لَا أصل لذَلِك وَكَذَلِكَ طى السَّمَاء قبل الأَرْض بِأَرْبَعِينَ سنة بَاطِل وَلَا أعلم أحد من الْعلمَاء المعتبرين ذكر ذَلِك وَأما الْأَحَادِيث المأثورة فِي المهدى فَمِنْهَا مَا هُوَ صَحِيح وَمِنْهَا مَا هُوَ حسن وَقد صحّح الترمذى حَدِيث ابْن مَسْعُود وَأم سَلمَة وَغَيرهمَا رَضِي الله عَنْهُم قَالُوا لَو لم يبْق من الدُّنْيَا رلا يَوْم لطول الله ذَلِك الْيَوْم حَتَّى يبْعَث فِيهِ رجلا من أهل بَيْتِي يواطئ اسْمه اسْمِي وَاسم أَبِيه اسْمه اسْم إبي يمْلَأ الأَرْض قسطا وعدلا كَمَا ملئت جورا وظلما وروى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ المهدى من ولد الْحُسَيْن وَمَا يرْوى لَا مهدى رلا عِيسَى حَدِيث ضَعِيف رَوَاهُ ابْن ماجة وَقد ادعيت هَذِه المهدية لعدد كثير من الدجالين وكل ذَلِك بَاطِل مثل ادِّعَاء الرافضة ذَلِك لمُحَمد بن الْحسن الدَّاخِل فِي السرادب فَهَذَا مِمَّا يعلم بُطْلَانه عقلا وَمثل ادِّعَاء مُحَمَّد بن تومرت أَنه المهدى الَّذِي بشر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد اتّفق أهل الدّين على أَنه كَاذِب وَطَوَائِف ادعوا ذَلِك مِنْهُم من قتل وَمِنْهُم من عزّر وَحبس وَمِنْهُم من راج أمره على طَائِفَة من الضلال حَتَّى انْكَشَفَ مَا فعله من الْمحَال وَالله الْمُسْتَعَان

فصل

فصل وَأما الْجِنَازَة الَّتِي فِيهَا مُنكر مثل أَن يحمل قدامها أَو وَرَاءَهَا الْخبز وَالْغنم أَو غير ذَلِك من الْبدع الفعلية أَو القولية أَو يَجْعَل على النعش شنخانات فَهَل لَهُ أَن يمْتَنع من تشييعها على قَوْلَيْنِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وَالصَّحِيح أَنه يشيعها لِأَنَّهُ حق للْمَيت فَلَا يسْقط بِفعل غَيره وينكر النكر بِحَسبِهِ وَإِن كَانَ مِمَّن إِذا امْتنع تركُوا النكر امْتنع بِخِلَاف الْوَلِيمَة فَإِن صَاحب الْحق هُوَ فَاعل النكر فَسقط حَقه لمعصيته كالمتلبس بِمَعْصِيَة لَا يسلم عَلَيْهِ حَال تلبسه بهَا وَالله أعلم فصل الَّذِي عَلَيْهِ أهل السّنة أَن الله لَا يخلد فِي النَّار أحدا من أهل الْإِيمَان وَخَالف فِي ذَلِك قوم من أهل الْبدع والخوارج والحرورية والمعتزلة فَقَالُوا إِن أهل الكباذر يخلدُونَ فِيهَا وَمن دَخلهَا لم يخرج مِنْهَا بشفاعة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا غَيره وكذبوا وعارض هَؤُلَاءِ قوم من المرجئة وَزَعَمُوا أَن الْإِيمَان حَاصِل من الْخلق جَمِيعهم وَأَن إِيمَان الملاذكة والأنبياء وَالصديقين كَإِيمَانِ أهل الْكَبَائِر وكذبوا وغلاتهم تزْعم أَنه لَا يدْخل فِي النَّار أحد ويحرقون الْكَلم عَن موَاضعه وكل هَؤُلَاءِ ضالون فالطائفة الأولى نظرُوا إِلَى نُصُوص الْوَعيد

وَالثَّانيَِة نظرُوا إِلَى نُصُوص الْوَعْد وَأما أهل اسنة فآمنوا بِكُل مَا جَاءَ من عِنْد الله وَلم يضْربُوا بعض ذَلِك بِبَعْض ونظروا فِي الْكتاب وَالسّنة فوجدوا أَن أهل الْكَبَائِر من الْمُوَحِّدين الَّذين توعدهم الله بالعقاب بَين أَن عقابهم يَزُول عَنْهُم بِأَسْبَاب أَحدهَا التَّوْبَة فَإِن الله يغْفر بِالتَّوْبَةِ النصوح الذُّنُوب جَمِيعًا السَّبَب الثَّانِي الْحَسَنَات الماحية كَمَا قَالَ {وَالْوَزْن يَوْمئِذٍ الْحق} الْآيَة السَّبَب الثَّالِث مصائب الدُّنْيَا والبرزخ السَّبَب الرَّابِع الدُّعَاء والشفاعة مثل الصَّدَقَة عَلَيْهِ بعد مَوته وَالدُّعَاء لَهُ وَالِاسْتِغْفَار السَّبَب الْخَامِس الْأَعْمَال الصَّالِحَة الَّتِي يهديها لَهُ غَيره من عتاقة وَصدقَة السَّبَب السَّادِس رَحْمَة ربه فَكل حَدِيث فِيهِ عَن مُؤمن أَنه دخل النَّار أَو أَنه لَا يدْخل الْجنَّة قد فسره الْكتاب وَالسّنة أَنه عِنْد انْتِفَاء هَذِه الْمَوَانِع وَكَذَلِكَ نُصُوص الْوَعْد مَشْرُوطَة بِعَدَمِ الْأَسْبَاب الْمَانِعَة مندخول الْجنَّة وَأَعْظَمهَا أَن يَمُوت كَافِرًا وَمِنْهَا أَن تكْثر ذنُوبه وظلمه فَيُؤْخَذ من حَسَنَاته حَتَّى تذْهب ثمَّ تُوضَع عَلَيْهِ سيئات من ظلمهم وَمِنْهَا أَن يعقب الْعَمَل مَا يُبطلهُ كالمن واأذى وَترك صَلَاة الْعَصْر قيل تحبط عمل ذَلِك الْيَوْم وَقيل الْعَمَل كُله وكما قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لم يدع قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ لله حَاجَة فِي أَن يدع طَعَامه وَشَرَابه فَانْتفى هَذَا الدُّخُول الْمُطلق وَهُوَ دُخُول الْجنَّة بِلَا عَذَاب فَمن أَتَى بالكباذر لم يسْتَحق هَذَا الدُّخُول الْمُطلق الَّذِي لَا عَذَاب قبله وَهَذَا مثل قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من غَشنَا فَلَيْسَ منا فَإِن الِاسْم

الْمُطلق للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالَّذين آمنُوا مَعَه هُوَ الْإِيمَان الْكَامِل الْمُطلق الَّذِي يسْتَحقُّونَ بِهِ الثَّوَاب وَيدْفَع الله بِهِ عَنْهُم الْعقَاب فَمن غشهم لم يكن من هَؤُلَاءِ بل مَعَه أصل الْإِيمَان الَّذِي يُفَارق بِهِ الْكفَّار ويخرجه من النَّار وَإِذا جَاءَ من مَاتَ وَهُوَ يعلم أَن لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة وَإِن زنا وَإِن شرب الْخمر وَنَحْوه فَهَذَا يعْطى أَن صَاحب الْإِيمَان مُسْتَحقّ للجنة وزن الذُّنُوب لَا تَمنعهُ ذَلِك لَكِن قد يحصل لَهُ قبل الدُّخُول نوع من الْعَذَاب إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي البرزخ وَإِمَّا فِي الْعَرَصَة وَإِمَّا فِي النَّار وَكَذَلِكَ نُصُوص الْوَعيد كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل الْجنَّة قَاطع رحم وَكَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم ملك كَذَّاب وَشَيخ زاني وعائل مستكبر وَلَا يدْخل الْجنَّة من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من كبر وَلَا يدْخل النَّار من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان وَمن شرب الْخمر فِي الدُّنْيَا لم يشْربهَا فِي الْآخِرَة وَمن لبس الْحَرِير فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة والمستكبر والمنان والمنفق سلْعَته بِالْحلف الْكَاذِب لَا يكلمهم الله وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم وَثَلَاثَة أخر رجل على فضل مَاء يمنعهُ من ابْن السَّبِيل فَيَقُول الله الْيَوْم أمنعك فضلى كَمَا منعت فضل مَا لم تعْمل يداك وَرجل بَايع إِمَامًا لَا يبايعه إِلَّا للدنيا وَرجل يحلف على سلْعَة بعد الْعَصْر كَاذِبًا لقد أعْطى أَكثر مِمَّا أعْطى وَلَا يدْخل الْجنَّة بخيل وَلَا منان ولاسئ الملكة فؤن الْبُخْل من الكباذر وَهُوَ منع الواجباب من الزَّكَاة وصلَة الرَّحِم وقرى الضَّيْف وَترك الاعطاء فِي النوائب وَترك الانفاق فِي سَبِيل الله وعقوق الْوَالِدين وَشَهَادَة الزُّور وَأكل مَال الْيَتِيم وَقذف الْمُحْصنَات والتولى يَوْم الزَّحْف وَالسحر وَأكل الرِّبَا كل ذَلِك من الْكَبَائِر بل كل ذَنْب فِيهِ حد الله فِي الدُّنْيَا أَو وَعِيد فِي الْآخِرَة مثل غضب الله ولعنته وَالنَّار فَهُوَ من الْكَبَائِر

فصل

وَهَذَا بَاب يطول وَصفه لَكِن ذكرنَا الأَصْل الْجَامِع فِي ذَلِك وَمن تَابَ من ذَنْب فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى نرجوا أَن الله يَتُوب عَلَيْهِ وَإِن كَانَ من مظالم الْعباد مثل ظلم أَبَوَيْهِ فَعَلَيهِ أَن يفعل مَعَهم الْحَسَنَات بِقدر مافعل مَعَهم من السَّيِّئَات حَتَّى يقوم هَذَا بِهَذَا فصل وَقد ثَبت بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع أَمر الثقلَيْن الْجِنّ وَالْإِنْس وَثَبت أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِمَا وَاتَّفَقُوا على ثَوَاب الْإِنْس بِالطَّاعَةِ وَاخْتلفُوا فِي الْجِنّ هَل يثابون أَولا ثَوَاب لَهُم إِلَّا النجَاة من الْعَذَاب عَليّ قَوْلَيْنِ الأول قَول الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَغَيرهم الثَّانِي مأثور عَن طَائِفَة مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَقد اخْتلف هَل من شَرط الْوُجُوب الْعقَاب على ترك على قَوْلَيْنِ فَأَما الثَّوَاب عَليّ الْفِعْل فَوَاجِب بِالسَّمْعِ وَمن لَا تَكْلِيف عَلَيْهِ هَل يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة فالإنس وَالْجِنّ جَمِيعًا بالِاتِّفَاقِ لوم يَخْتَلِفُوا فِيمَا علمت رلا فِيمَن لم ينْفخ فِيهِ الرّوح وَاخْتَارَ القَاضِي بَعثه وَذكره عَن أَحْمد وَأما البهاذم فَهِيَ مبعوثة بِالْكتاب وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء ثمَّ إِلَى رَبهم يحشرون} وَقَالَ {وَإِذا الوحوش حشرت} والْحَدِيث فِي قَول الْكَافِر يَوْم الْقِيَامَة {يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} لما روى من جعل الْبَهَائِم تُرَابا مَعْرُوف وَمَا أعلم فِيهِ خلافًا

فصل

وَلَكِن اخْتلف بَنو آدم فِي معاد الْآدَمِيّين على أَرْبَعَة أَقْوَال أَحدهَا قَول الْمُسلمين أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وجماهير الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس أَن الْمعَاد للروح وَالْبدن يُنكرُونَ معاد روح قاذمة بِنَفسِهَا وَالثَّانِي أَن الْمعَاد للبدن دون الرّوح وَالثَّالِث ضد هَذَا وَهُوَ قَول الفلاسفة وَمن نصر مَذْهَبهم من متكلمى أهل الْقبْلَة ومتصوفيهم أَن الْمعَاد للروح دون الْبدن الرَّابِع أَنه لَا معاد للبدن وَلَا للروح وَهُوَ قَول مُشْركي الْعَرَب والبطائعيين والمنجمين وَبَعض الإليهين من المتفلسفة فعلى هذَيْن الْقَوْلَيْنِ يقطع قائلوها بِعَدَمِ حشر الباهاذم وعَلى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين يقبل الْخلاف فصل من لَا تَكْلِيف عَلَيْهِ مِمَّن رفع عَنهُ الْقَلَم يعذب فِي الْآخِرَة وَتَأْتِي هُنَا مَسْأَلَة أَطْفَال الْمُشْركين فَمن قَالَ من أَصْحَابنَا وَغَيرهم إِنَّهُم يُعَذبُونَ تبعا لِآبَائِهِمْ قَالَ تَعْذِيب غير الْمُكَلف تبعا للمكلف وَمن قَالَ من أَصْحَابنَا وَغَيرهم يدْخلُونَ الْجنَّة قَالَ ينعمهم اسْتِقْلَالا الوصواب أَنهم لَا يُعَذبُونَ جَمِيعهم بل فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير وَهَذَا مُقْتَضى نُصُوص أَحْمد فَإِن أَكثر نصوصه الْوَقْف لَا يحكم بجنة وَلَا بِنَار فَدلَّ على جَوَاز الْأَمريْنِ عِنْده فِي حق الْمعِين وَأما تَحْرِير الْأَمر مجموعهم فَلَا يلْزم الْبَحْث عَنْهُم وَهُوَ قَول الْأَشْعَرِيّ وَغَيره وَبِهَذَا أجَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين فَبين أَن الْأَمر رَاجع إِلَى علم الله فِيمَا كَانُوا يعْملُونَ لَو بلغُوا وَيجوز قتل الصَّبِي إِذا قَاتل أوصال كالجنون والبهيمة

فصل

وَحَدِيث عَائِشَة عُصْفُور من عصافير الْجنَّة فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو غير ذَلِك يَا عَائِشَة إِن الله خلق للجنة خلقا وهم فِي أصلاب آبَائِهِم وَخلق للنار خلقا وهم فِي أصلاب آبَائِهِم وَثَبت أَن الْغُلَام الَّذِي قَتله الْخضر طبع على الْكفْر وَقَتله قبل الِاحْتِلَام وَكَانَ أَبوهُ مُؤمنين وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا لَا يشْهد لأحد بِعَيْنِه من أَطْفَال الْمُؤمنِينَ أَنه فِي الْجنَّة وَلَكِن يُطلق القَوْل أَن أَطْفَال الْمُؤمنِينَ فِي الْجنَّة وَقد روى أَحَادِيث حسان أَن الله يمْتَحن يَوْم الْقِيَامَة من لم يُكَلف الدُّنْيَا من الصّبيان والمجانين وَمن مَاتَ فِي الفترة فَمن أطَاع دخل الْجنَّة وَمن عصى دخل النَّار فَهَذَا التَّفْصِيل هُوَ الصَّوَاب وَأما الْبَهَائِم فعامة الْمُسلمين أَنه لَا عِقَاب عَلَيْهِم إِلَّا مَا يحْكى عَن التناسخية فصل الدُّنْيَا دَار تَكْلِيف بِلَا خلاف وَكَذَلِكَ البرزخ وعرصة الْقِيَامَة وَإِنَّمَا يَنْقَطِع التَّكْلِيف بِدُخُول دَار الْجَزَاء وَهِي الْجنَّة أَو النَّار كَمَا صرح بذلك أَصْحَابنَا وَغَيرهم

فصل

والامتحان فِي البرزخ لمن لم يكن مُكَلّفا فَفِيهِ الْقَوْلَانِ لِأَصْحَابِنَا وَغَيرهم وعَلى هَذَا لاخلاف فِي امتحانهم فِي الْعَرَصَة وَغير الْمُكَلف قد يرحم فَإِن أَطْفَال الْمُؤمنِينَ مَعَ آبَائِهِم فِي الْجنَّة فصل والتكليف بِالْأَمر والنهى ثَابت فِي الشَّرْع والاتفاق وَفِي ثُبُوته بِالْعقلِ اخْتِلَاف بَين الْعلمَاء من أَصْحَابنَا وَغَيرهم وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب مَعْلُوم بِالسَّمْعِ وَهُوَ قَول كثير من أَصْحَابنَا والأشعرية وَغَيرهم وَذهب طوائف إِلَى أَنه يعلم بِالْعقلِ والوصاب أَن مَعْرفَته بِالسَّمْعِ وَاجِبَة وَأما بِالْعقلِ فقد يعرف وَقد لَا يعرف وَلَيْسَت مَعْرفَته بِالْعقلِ بممتنعة وَلَا هِيَ وَاجِبَة وَالله أعلم فصل وَأما الشَّهَادَة لرجل بِعَيْنِه بِأَنَّهُ من أهل النَّار أَو الْجنَّة فَلَيْسَ لأحد ذَلِك إِلَّا بِنَصّ صَحِيح يجوب كالعشرة الَّذين بشرهم الصَّادِق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْجنَّةِ وَمِنْهُم من جوز ذَلِك لمن استفاض فِي الْأمة الثَّنَاء عَلَيْهِ كعمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ وَأَمْثَاله وَقد كَانَ بعض السّلف يمْنَع أَن يشْهد بِالْجنَّةِ لغير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى نَاظر على بن المدينى أَحْمد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَقَالَ أَقُول إِنَّهُم فِي الْجنَّة وَلَا أشهد لمُعين قَالَ أَحْمد مَتى قلت إِنَّهُم فِي الْجنَّة فقد شهِدت أَنهم فِي الْجنَّة وَأما توقف النَّاس فِي الْقطع بِالْجنَّةِ فلخوف الخاتمة وَمَعَ هَذَا فنرجو لَهُ حسن ونخاف على الْمُسِيء

فصل

وَمن ظهر مِنْهُ أَفعَال يُحِبهَا الله وَرَسُوله وججب أَن يُعَامل بِمَا يُوجِبهُ ذَلِك من الملاة والمحبة وَالْإِكْرَام وَمن ظهر مِنْهُ خلاف ذَلِك عومل مُقْتَضَاهُ فصل فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي قَالَ فِي آخِره عَن الله تَعَالَى {قد غفر لعبدي فليعمل مَا شَاءَ} هَذَا الحَدِيث لم يَجعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَاما فِي كل دنب من ككل من أذْنب وَتَابَ وَعَاد وَإِنَّمَا ذكره حِكَايَة حَال عَن عبد كَانَ مِنْهُ ذَلِك فَأفَاد أَن العَبْد قد يعْمل من الْحَسَنَات الْعَظِيمَة مَا يُوجب غفران مَا تَأَخّر من ذنُوبه وَإِن غفر لَهُ بِأَسْبَاب أخر وَهَذَا مثل حَدِيث حَاطِب بن أبي بلتعة رَضِي الله عَنهُ الَّذِي قَالَ فِيهِ لعمر وَمَا يدْريك أَن الله اطلع على أهل بدر فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم وَمَا جَاءَ من أَن غُلَام حَاطِب شكاه فَقَالَ وَالله يَا رَسُول الله ليدخلن حَاطِب النَّار فَقَالَ كذبت إِنَّه قد شهد بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَة فَفِي هَذِه الْأَحَادِيث بَيَان أَن الْمُؤمن قد يعْمل من الْحَسَنَات مَا يغْفر لَهُ بهَا مَا تَأَخّر من ذَنبه وَإِن غفر بِأَسْبَاب غَيرهَا وَيدل عَليّ أَنه يَمُوت مُؤمنا وَيكون من أهل الْجنَّة وَإِذا وَقع مِنْهُ ذَنْب يَتُوب الله عَلَيْهِ كَمَا تَابَ عَليّ بعض الْبَدْرِيِّينَ كقدامة بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ لما شرب الْخمر متأولا واستتابه عمر وَأَصْحَابه رَضِي الله عَنهُ وجلدوه وطهر بِالْحَدِّ وَالتَّوْبَة وَإِن كَانَ مِمَّن قيل لَهُ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم ومغفرة الله لعَبْدِهِ لاتنافى أَن تكون الْمَغْفِرَة بأسبابها وَلَا تمنع أَن تصدر مِنْهُ تَوْبَة إِذا مغْفرَة الله لعَبْدِهِ مقتضاها أَن لَا يعذبه بعد الْمَوْت وَهُوَ سُبْحَانَهُ يعلم الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَإِذا علم من العَبْد أَنه يَتُوب أَو يعْمل حَسَنَات ماحية

غفر لَهُ فِي نفس الْأَمر إِذْ لَا فرق بَين من يحكم لَهُ بالمغفرة أَو بِدُخُول الْجنَّة وَمَعْلُوم أَن بشارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْجنَّةِ إِنَّمَا هِيَ لعلمه بِمَا يَمُوت علسيه المبشر وَلَا يمْنَع أَن يعْمل سَببهَا وَعلم الله بالأشياء وآثارها لَا ينافى مَا علقها عَلَيْهِ من الْأَسْبَاب كَمَا أخبر أَن مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وَقد كتب مَقْعَده من الْجنَّة أَو النَّار وَمَعَ ذَلِك قَالَ اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ وَلَا من أخبرهُ أَنه ينتصر على عدوه لَا يمْنَع أَن يَأْخُذ أَسبَابه وَلَا من أخبرهُ أَنه يكون لَهُ ولد لَا يمْنَع أَن يتَزَوَّج أَو يتسرى وَكَذَا من أخبرهُ بالمغفرة أَو الْجنَّة لَا يمْنَع أَن يَأْخُذ بِسَبَب ذَلِك مرِيدا للآخرة وساعيا لَهَا سعيها وَمن ذَلِك الدُّعَاء الْمَذْكُور فِي آخر سُورَة الْبَقَرَة فقد ثَبت أَن الله تَعَالَى قَالَ قد فعلت وَمَعَ ذَلِك فَمن الْمَشْرُوع لنا أَن نَدْعُوهُ وَمِنْه قَول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سلوا الله لي الْوَسِيلَة فحصول الْمَوْعُود لَا ينافى السَّبَب الْمَشْرُوع وَمِنْه قَوْله تَعَالَى لنَبيه سنة سِتّ من الْهِجْرَة {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} وَمَعَ هَذَا فَمَا زَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَغْفر ربه بَقِيَّة عمره وَأنزل عَلَيْهِ فِي آخر عمره سُورَة النَّصْر {فسبح بِحَمْد رَبك وَاسْتَغْفرهُ إِنَّه كَانَ تَوَّابًا} وَكَانَ يتَأَوَّل ذَلِك فِي رُكُوعه وَسُجُوده أى يمتثل مَا أمره ربه فَإِذا كَانَ سيد الْمُرْسلين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَغْفر ربه كَيفَ لَا يسْتَغْفر غَيره وَيَتُوب وَإِن قيل لَهُ ذَلِك أبي وأخذته الْعِزَّة وَلِهَذَا مَا زَالَ سُبْحَانَهُ يُخَاطب أهل وبيعة الرضْوَان بِالْأَمر والنهى والوعد والوعيد وَيذكر أَنه عَلَيْهِم كَمَا قَالَ تَعَالَى {لقد تَابَ الله على النَّبِي والمهاجرين وَالْأَنْصَار الَّذين اتَّبعُوهُ فِي سَاعَة الْعسرَة من بعد مَا كَاد يزِيغ قُلُوب فريق مِنْهُم ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم إِنَّه بهم رؤوف رَحِيم} وَقد نزلت بعد عَام

الْحُدَيْبِيَة بِثَلَاث سِنِين وَقد كَانَ من شَأْن مسطح الَّذِي كَانَ يصله أَبُو بكر لرحمه مَا كَانَ وَهُوَ من أهل بدر رَضِي الله عَنْهُم وعده الله فِي قَوْله {لكل امْرِئ مِنْهُم مَا اكْتسب من الْإِثْم} وَقَوله {وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم} وَقَوله {إِن الَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات الْغَافِلَات الْمُؤْمِنَات لعنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلَهُم عَذَاب عَظِيم} وَقد روى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جلدهمْ فقد وَقع هَذَا البدرى رَضِي الله عَنهُ المغفور لَهُ فِي هَذَا الْإِفْك الْعَظِيم لَكِن تَابَ مِنْهُ بِلَا ريب فَتبين أَن قَوْله {قد غفر لكم} لَا منع أَن يعلمُوا بعد ذَلِك ذنوبا ويتوبون مِنْهَا بل لَا بُد أَن يكون لِئَلَّا يتكلوا عَليّ الْأَخْبَار فَقَط بل لَا بُد من فعل السَّبَب من التَّوْبَة والحسنات الماحيات الْمُتَقَدّمَة أَو غير ذَلِك من الْأَسْبَاب كالمصائب فِي الدِّينَا أَو فِي البرزخ أَو عرصات الْقِيَامَة أويرحمهم وَهَذِه الْأَسْبَاب يشْتَرك فِيهَا من علم أَنه قد غفر لَهُ وَمن لم يعلم لَكِن قد علم أَن الله يغْفر للتائب ويدخله الْجنَّة وَأما الْجَاهِل بِحَالهِ فَلَا يدْرِي حَاله عِنْد الله فَعلمه بِأَن الله يغْفر الذَّنب وَيَأْخُذ بِهِ وإيمانه الْعَظِيم الَّذِي فِي قلبه بذلك أَفَادَهُ أَنه صَار عِنْد الله مِمَّن يغْفر لَهُ لَا محَالة فَلَا بُد لَهُ من الْأَسْبَاب فَإِنَّهُ لَا بُد أَن يَدُوم عَليّ الْإِيمَان ودوامه عَليّ الْإِيمَان من أعظم الْحَسَنَات الماحية وَأَن يصلى وَيَتُوب ويستغفر وَنَحْو ذَلِك من مُوجبَات الرَّحْمَة وعزاذم الْمَغْفِرَة وَمن كرر التَّوْبَة مَرَّات واسترسل فِي الذُّنُوب وَتعلق بِهَذَا الحَدِيث كَانَ مخدوعا مغرورا من وَجْهَيْن أَحدهمَا ظَنّه أَن الحَدِيث عَام فِي حق كل نَائِب وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَة حَال فَيدل عَليّ أَن من عباد الله من هُوَ كَذَلِك وَالثَّانِي أَن هَذَا لَا يقتضى أَن يغْفر لَهُ بِدُونِ أَسبَاب الْمَغْفِرَة كَمَا قدمنَا وَمن كرر التَّوْبَة الْمَذْكُورَة وَالْعود للذنب لَا يجْزم لَهُ أَنه قد دخل فِي معنى

هَذَا الحَدِيث وَأَنه قد يعْمل بعد ذَلِك مَا شَاءَ لَا يُرْجَى لَهُ أَنه يكون من أهل الْوَعْد وَلَا يجْزم لمُعين بِهَذَا الحكم كَمَا لَا يجْزم فِي حق معِين بالوعيد كساذر نُصُوص الْوَعْد والوعيد فَإِن هَذَا كَقَوْلِه من فعل كَذَا دخل الْجنَّة وَمن فعل كَذَا دخل النَّار لَا يجْزم لمُعين لَكِن يُرْجَى للمحسن وَيخَاف على المسئ وَمن هَذَا الْبَاب حَدِيث البطاقة الَّتِي قدر الْكَفّ فِيهَا التَّوْحِيد وضعت فِي الْمِيزَان فرجحت عَليّ تِلْكَ السجلات من السيذات وَلَيْسَ كل من تكلم بالسهادتين كلن بِهَذِهِ المنرلة لِأَن هَذَا العَبْد صَاحب البطاقة كَانَ فِي قلبه من التَّوْحِيد وَالْيَقِين وَالْإِخْلَاص مَا أوجب أَن عظم قدره حَتَّى صَار راجحا على هَذِه السَّيِّئَات وَمن أحل ذَلِك صَار الْمَدّ من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أفضل من مثل جبل أحد ذَهَبا من غَيرهم وَمن ذَلِك حَدِيث الْبَغي الَّتِي سقت كَلْبا فغفر لَهَا فَلَا يُقَال فِي كل بغى سقت كَلْبا غفر لَهَا لِأَن هَذِه البغى قد حصل لَهَا من الصدْق وَالْإِخْلَاص وَالرَّحْمَة بِخلق الله مَا عَادل إِثْم البغى وَزَاد عَلَيْهِ مَا أوجب الْمَغْفِرَة وَالْمَغْفِرَة تحصل بِمَا يحصل فِي الْقلب من الْإِيمَان الَّذِي يعلم الله وَحده مِقْدَاره وَصفته وَهَذَا يفتح بَاب الْعَمَل ويجتهد بِهِ العَبْد أَن يَأْتِي بِهَذِهِ الْأَعْمَال وأمثالها من مُوجبَات الرَّحْمَة وعزائم الْمَغْفِرَة وَيكون مَعَ ذَلِك بَين الْخَوْف والرجاء كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا وَقُلُوبهمْ وَجلة أَنهم إِلَى رَبهم رَاجِعُون} وَلِهَذَا اسْتثْنى ابْن مَسْعُود وَغَيره فِي الْإِيمَان فَكَانَ يَقُول أحدهم أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله فَإِن الْإِيمَان الْمُطلق الْكَامِل يقتضى أَدَاء الْوَاجِب وأحدهم لَا يعلم بِيَقِين أَنه أدّى كل الْوَاجِب كَمَا أَمر وَلَئِن فَهُوَ فضل من الله ورحة فَلهَذَا استثنوا فِيهِ واستثنوا فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا لِأَنَّهُ لَا يجْزم بِأَنَّهُ أَتَى بهَا عَليّ وَجههَا فيأتى بِمَا أَتَى بِهِ من الْخَيْر وَقَلبه وَجل

فصل

وَإِن كَانَ للاستثناء وَجه آخر وَهُوَ خوف الخاتمة وَأَن الْمُؤمن الْمُطلق هُوَ من علم الله أَنه يَمُوت عَليّ الْإِيمَان الْكَامِل وَوجه ثَالِث وَهُوَ التَّبَرُّك بِمَشِيئَة الله وَمثل تهذا الحَدِيث يُوجب فائدتين عظيمتين أَحدهمَا أَن يعْمل الْإِنْسَان مثل هَذَا الْعَمَل مُجْتَهدا فِي تقوى الله تَعَالَى حَتَّى يثيبه بِمثل هَذَا الْجَزَاء الثَّانِي أَنه إِذا رأى غَيره من الْمُؤمنِينَ لَهُ من الذُّنُوب مَا يُمكن أَن يكون لَهُ مَعهَا مثل هَذِه الْحَسَنَة الَّتِي يكون صَاحبهَا مغفورا لَهُ لم يشْهد لَهُ بالنَّار وَلم يعامله بِمَا يُعَامل بِهِ أهل الكباذر بل يرجوا أَن يرحمه الله بل قد يكون من أَوْلِيَاء الله فَإِن من كَانَ مُؤمنا نقيا كَانَ لله وليا فَلَا يحكم على أحد معِين من أهل الْقبْلَة أَنه من أهل النَّار وَلَو قتل نَفسه إِلَّا أَن يكون مَعَه علم يَقِين كَالَّذي شهد لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه من أهل النَّار لقَتله نَفسه بالمشقص وَعبد الله بن أبي بن سلول وإبليس وَالله أعلم فصل فِي الصَّحِيح أَنه قَالَ من أحب أَن يبسط لَهُ فِي رزقه وينسأ لَهُ فِي عمره فَليصل رَحمَه وَقد تَأَول بَعضهم أَنه يُبَارك لَهُ فِي عمره حَتَّى قد يعْمل فِيهِ من الْخَيْر فِي الْعُمر الْقصير مَا يعْمل فِي الْعُمر الطَّوِيل وَالصَّحِيح أَنه يزِيد وَينْقص فِيمَا فِي أَيدي الْمَلَائِكَة من الصُّحُف كَمَا تقدم وَلَيْسَ لأحد اطلَاع عَليّ اللَّوْح سوى الله وَمَا يُوجد فِي كَلَام بعض الشُّيُوخ والمتكلمين من الِاطِّلَاع عَلَيْهِ فمبنى على

فصل

مَا اعتقدوا من أَن اللَّوْح هُوَ الْعقل الفعال وَأَن نفوس الْبشر تتصل بِهِ كَمَا يذكر ذَلِك أَصْحَاب رساذل إخْوَان الصفاء وَقد يُوجد فِي كَلَام أبي حَامِد الْغَزالِيّ فِي مثل جَوَاهِر الْقُرْآن والإحياء ويظن من لَا يعرف حَقِيقَة هَؤُلَاءِ وَلَا حَقِيقَة دين الْإِسْلَام أَن هَذَا من كَلَام أَوْلِيَاء الله المكاشفين وَلَا يعلم هَذَا الْجَاهِل أَن الفلاسفة الصوفين تَقوله فِي الْعقل الفعال وَأَن الْعلم السُّفْلى يفِيض عَنهُ وَأَنه فِي الْحَقِيقَة ربه ومدبره وَكَذَلِكَ مَا يَقُولُونَهُ فِي الْعُقُول الْعشْرَة من كَون كل عقل يفِيض عَنهُ مَا تَحْتَهُ وَهُوَ كفر بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَهَؤُلَاء يَأْخُذُونَ لب الصابئة ويكسونه لحى الْإِسْلَام وهم من جنس الْمَلَاحِدَة الْمُنَافِقين يلبسُونَ على الْمُسلمين وَإِن كَانَ مِنْهُم من قد تَابَ أَو تلبس عَلَيْهِ مَعَ أَن أصل الْإِيمَان مَعَه وَأَخْطَأ فِي بعض ذَلِك أخطاء قد يغفرها الله لَهُ ويزعمون أَنه لم يسْجد لآدَم شئ من الْمَلَائِكَة وَأَن الشَّيَاطِين امْتَنعُوا عَن السُّجُود لَهُ لأَنهم يفسرون الْمَلَائِكَة وَالشَّيَاطِين بقوى النَّفس قوى الْخَيْر وَالشَّر ويجعلون كَلَام الله للأنبياء مَا يفِيض عَلَيْهِم من نفوس الْأَنْبِيَاء وَغَيرهم وَمَلَائِكَته مَا يكون فِي نُفُوسهم من الأشكال النورانية وَالْمَقْصُود أَنه يُوجد فِي عِبَارَات هَؤُلَاءِ إِطْلَاق اللَّوْح والقلم وَالْمَلَائِكَة وَنَحْو ذَلِك من عِبَارَات الْمُسلمين وَلَكِن المُرَاد بهَا عِنْدهم مَا هُوَ من دين الصائبة وَلَيْسَ من دين الْمُسلمين فصل أما الدُّعَاء بطول الْعُمر فقد كرهه الْأَئِمَّة وَكَانَ أَحْمد إِذا دَعَا لَهُ أحد بطول الْعُمر يكره ذَلِك وَيَقُول هَذَا أَمر قد فرغ مِنْهُ وَحَدِيث أم حَبِيبَة رضى الله عَنْهَا لما طلبت امتاعها يُزَوّجهَا وأبيها وأخيها

فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلت الله لآجال مَضْرُوبَة وآثار مبلوغة وأرزاق مقسومة فَفِيهِ أَن الْعُمر لَا يطول بِهَذَا السَّبَب الَّذِي هُوَ الدُّعَاء فَقَط وَقد تنَازع النَّاس فِي الدُّعَاء مُطلقًا فَقَالَت طَائِفَة لَا فَائِدَة فِيهِ وهم المتفلسفة والمتصوفة وتبعهم طاذفة من الْمُؤمنِينَ باشراذع قَالُوا إِنَّه عبَادَة مَحْضَة وَقَالَ آخَرُونَ بل هُوَ أَمارَة وعلامة على حُصُول الْمَطْلُوب وكل هَذَا بَاطِل بل الْحق أَنه من أعظم الْأَسْبَاب الَّتِي جعلهَا الله سَببا وَالصَّوَاب أَن الله جعل فِي الْأَجْسَام القوى الَّتِي هِيَ الطباذع فَإِن من أهل الْإِثْبَات من أنكرها وَقَالَ إِن الله جعل الْآثَار عِنْدهَا لَا بهَا فيخلق الشِّبَع عِنْد الْأكل لَا بِهِ وَهَذَا خلاف الْكتاب وَالسّنة فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {فأنزلنا بِهِ المَاء فأخرجنا بِهِ من كل الثمرات} وَفِي الْقُرْآن من هَذَا كثير فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَإِن كَانَ جعل فِي الْأَجْسَام قوى مهيذة فَكَذَلِك الدُّعَاء من جملَة الْأَسْبَاب الَّتِي خلقهَا وَالسَّبَب لَا يسْتَقلّ بالحكم وَلَا يُوجِبهُ بل قد يتَخَلَّف الحكم عَنهُ لمَانع فاذا كَانَ متوقفا على وجود أَسبَاب أخر وَانْتِفَاء مَوَانِع فَلَيْسَ فِي الْوُجُود مَا يسْتَقلّ بالتأثير إِلَّا الله الَّذِي هُوَ خَالق كل شئ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن قَالَ تَعَالَى {وَمن كل شَيْء خلقنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} فتعملون أَن خَالق الْأزْوَاج وَاجِد وَقد بسطنا الْكَلَام فِي بطلَان مَا قَالَه المتفلسفون فِي أَن الْوَاحِد لَا يصدر عَنهُ رلا وَاحِد وَمَا ذَكرُوهُ من التَّرْتِيب الَّذِي وضعوه لخيالاتهم الْفَاسِدَة فِي غير هَذَا الْموضع

فصل

فصل لَا نعلم فِي الْقيام للمصحف شَيْئا مأثورا عَن السّلف وَقد سُئِلَ أَحْمد عَن تقبيله فَقَالَ مَا سَمِعت فِيهِ شَيْئا وَلَكِن روى عَن عِكْرِمَة ابْن أبي جهل أَنه كَانَ يفتح الْمُصحف وَيَضَع وجهة عَلَيْهِ وَيَقُول كَلَام رَبِّي كَلَام رَبِّي وَالسَّلَف وَإِن لم يكن من عَادَتهم قيام بَعضهم لبَعض رلا لمثل القادم من غيبَة وَنَحْو ذَلِك وَلم يكن أحد أحب إِلَيْهِم من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يَكُونُوا يقومُونَ لَهُ لما يرَوْنَ فِي وجهة من كَرَاهَته لذَلِك وَالْأَفْضَل للنَّاس اتِّبَاع السّلف فِي كل شئ فَأَما إِذا اعتادوا الْقيام لبَعْضهِم بَعْضًا فقد يُقَال إِن تركُوا الْقيام للمصحف مَعَ تعود الْقيام لبَعْضهِم لم يَكُونُوا محسنين بل هم إِلَيّ الذَّم أقرب حَيْثُ يجب للمصحف من احترامه وتعظيمه مَا لَا يجب لغيره وَفِي ذَلِك تَعْظِيم حرمات الله وشعائره وَقد ذكر بعض الْفُقَهَاء الْكِبَار قيام النَّاس للمصحف ذكر مقررا لَهُ غير مُنكر وَأما جعله عِنْد الْقَبْر وَإِيقَاد الْقَنَادِيل هُنَاكَ فَهُوَ منهى عَنهُ وَلَو جعل للْقِرَاءَة هُنَاكَ فَكيف إِذا لم يقْرَأ فِيهِ وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن الله زوارات الْقُبُور والمتخذين عَلَيْهَا السرج والمساجد وترتيب الذَّم على الْمَجْمُوع يقتضى أَن كل وَاحِد لَهُ تَأْثِير فِي الذَّم وَالْحرَام لَا يتَوَلَّد بالانضمام الْمُبَاح وَالنَّاس قد تنازعوا فِي الْقِرَاءَة عِنْد الْقَبْر

فصل

وَجعل الْمُصحف عِنْد القر ليقْرَأ فِيهِ بِدعَة مُنكرَة لم يَفْعَلهَا السّلف بل يدْخل فِي معنى اتِّخَاذ الْمَسَاجِد على الْقُبُور وَلَا نزاع فِي النمهى عَن إتخاذها ماسجد وَمَعْلُوم أَن الْمَسَاجِد بنيت للصَّلَاة وَالدُّعَاء وَالذكر وَالْقِرَاءَة فصل وَأما استفتاح الفأل بالمصحف فَلم ينْقل عَن السّلف فِيهِ شئ وَقد تنَازع فِيهِ الْمُتَأَخّرُونَ وَذكر القَاضِي أَبُو يعلى أَن ابْن بطة فعله وَذكر عَن غَيره أَنه كرهه وَإِنَّمَا كَانَ الفال أَن تسمع نَحْو يَا بُرَيْدَة قَالَ يَا أَبَا بكر يرد أمرنَا وَأما الطَّيرَة فَأن يكون قد بَدَأَ فِي فعل أَمر أَو عزم عَلَيْهِ فَيسمع كلمة مَكْرُوهَة مثل مَا يتم فيتركه فَهَذَا منهى عَنهُ وَالَّذِي يَنْبَغِي الاستخارة الَّتِي علمهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته لم يَجْعَل الفأل والطيرة أمرا باعثا عَليّ شئ من الْفِعْل أَو التّرْك وَإِنَّمَا يأتمر وينتهى بذلك أهل الْجَاهِلِيَّة الَّذين يستقسمون بالأزلام وَقد حرم الله الاستقسام بهَا كالضرب بالحصا وَالشعِير واللوح والخشب وَالْوَرق الكتوب عَلَيْهِ حُرُوف أبجد وأبيات شعر وَنَحْو ذَلِك منهى عَنهُ لِأَنَّهَا من أَسبَاب الاستقسام بالازلام فصل فِيمَن قَالَ لَا بُد لنا من وَاسِطَة بَيْننَا وَبَين الله تَعَالَى فَإِذا أَرَادَ بالواسطة أَنه لَا بُد من وَاسِطَة تبلغه أَمر الله وَنَهْيه فَهَذَا حق لَا بُد للنَّاس من رَسُول يبلغ عَن الله أمره وَنَهْيه وَيُعلمهُم دين الله الَّذِي تعبدهم بِهِ

فصل

فَهَذَا مِمَّا أجمع عَلَيْهِ أهل الْملَل وَمن أنكر ذَلِك فَهُوَ كَافِر بِالْإِجْمَاع وَإِن أَرَادَ بالواسطة أَنه لَا بُد مِنْهُ فِي جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار ورزق الْعباد وهداهم فَهَذَا شرك وَقد كفر الله بِهِ الْمُشْركين حَيْثُ اتَّخذُوا من دونه شُفَعَاء وأولياء يستجلبون بهم الْمَنَافِع فَمن جعل الْمَلَائِكَة أَو غَيرهم أَرْبَابًا أَو وَاسِطَة يَدعُوهُم ويتوكل عَلَيْهِم ويسألهم أَو يسْأَل الله بهم غفران الذُّنُوب وهداية الْقُلُوب وتفريج الكربات وَنَحْو ذَلِك فَهُوَ كَافِر بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَمن جعل الْمَشَايِخ من أهل الْعلم وَالدّين وسائط عَن الرَّسُول يبلغون الْأمة شرائع الرَّسُول وهديه فقد أصَاب وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء وكل أحد يُؤْخَذ من كَلَامه وَيتْرك إِلَّا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن أثبتهم وسائط بِمَعْنى الْحجاب الَّذين بَين الْملك ورعيته بِحَيْثُ يكونُونَ هم يرفعون إِلَى الله حوائج خلقه فَهَذَا شرك وَكفر فصل وَأعظم نعْمَة أنعمها الله على الْعباد هِيَ الْإِيمَان وَهُوَ قَول وَعمل يزِيد وَينْقص يزِيد بِالطَّاعَةِ والحسنات وَينْقص بالفسوق والعصيان فَكلما ازْدَادَ الْإِنْسَان عملا للخير ازْدَادَ إيمَانه هَذَا هُوَ الايمان الْحَقِيقِيّ الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم} بل نعم الدُّنْيَا نعْمَة الدّين وَهل هِيَ نعْمَة أم لَا فِيهِ قَولَانِ مشهوران للْعُلَمَاء من أَصْحَابنَا وَغَيرهم وَالتَّحْقِيق أَنَّهَا نعْمَة من وَجه وَإِن لم تكن نعْمَة تَامَّة من كل وَجه

فصل

وَأما الإنعام بِالدّينِ من فعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور فَهُوَ الْخَيْر كُله وَهُوَ النِّعْمَة الْحَقِيقِيَّة عِنْد أهل السّنة إِذْ عِنْدهم أَن الله هُوَ الَّذِي أنعم بِالْخَيرِ كُله والقدرية عِنْدهم أَنه إِنَّمَا أنعم بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَهِي صَالِحَة للضدين فَقَط فصل قد حرم الله تَعَالَى على العَبْد أَن يسْأَل العَبْد مَسْأَلَة إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة وَإِن كَانَ إِعْطَاء السَّائِل مستحيا فَمن طلب من غَيره وَاجِبا أَو مُسْتَحبا كَانَ قَصده مصلحَة المسؤل أَو مصلحَة نَفسه فَهُوَ مثاب عَليّ ذَلِك فَإِن قصد حُصُول مَطْلُوبه من غير قصد بِحُصُول النَّفْع للمسؤل فَهَذَا من نَفسه أَتَى وَمثل هَذَا السُّؤَال لَا يَأْمر الله بِهِ قطّ إِذْ هُوَ سُؤال مَحْض الْمَخْلُوق من غير قصد لنفعه وَالله يَأْمُرنَا أَن نعبده وَحده ويأمرنا أَن نحسن إِلَيّ عبَادَة وَهَذَا لم يقْصد لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَلم يقْصد الرَّغْبَة إِلَى الله وَلَا إِلَى دُعَائِهِ وَلَا قصد الْإِحْسَان إِلَى عبَادَة الَّذِي هُوَ الزَّكَاة وَإِن كَانَ قد لَا يَأْثَم بِمثل هَذَا السُّؤَال لَكِن فرق بَين مَا يُؤمر العَبْد بِهِ وَبَين مَا يُؤذن لَهُ فِيهِ أَلا ترى أَن السّبْعين ألفا الَّذين يدْخلُونَ الْجنَّة بِلَا حِسَاب هم الَّذين لَا يسْتَرقونَ وَإِن كَانَ من الاسترقاء مَا هُوَ جَائِز فصل والإله هُوَ الَّذِي تألهه الْقُلُوب بِكَمَال الْمحبَّة والتعظيم والإجلال والرجاء وَالْخَوْف وَمَعَ علم الْمُؤمن أَن الله رب كل شئ ومليكه فَلَا يُنكر مَا خلقه الله من الْأَسْبَاب فَيَنْبَغِي أَن يعرف فِي الْأَسْبَاب ثَلَاثَة أُمُور أَحدهَا أَن السَّبَب الْمعِين لَا يسْتَقلّ بالمطلوب بل لَا بُد مَعَه من أَسبَاب أخر وَمَعَ هَذَا فلهَا مَوَانِع

فصل

الثَّانِي لَا يجوز أَن يعْتَقد أَن الشئ سَبَب لَا يعلم فَمن أثبت سَببا بِلَا علم أَو بِخِلَاف الشَّرْع كَانَ مُبْطلًا كمن يظنّ أَن النّذر سَبَب فِي رفع الْبلَاء الثَّالِث أَن الْأَعْمَال الدِّينِيَّة لَا يجوز أَن يتَّخذ شئ مِنْهَا سَببا للدنيا إِلَّا أَن تكون مَشْرُوعَة فَإِن الْعِبَادَة مبناها على الإذان من الشَّارِع فَلَا يجوز أَن يُشْرك بِاللَّه فيدعو غَيره وَإِن ظن أَن ذَلِك سَبَب فِي حُصُول بعض أغراضه وَكَذَلِكَ لَا يعبد الله بالبدع وَإِن ظن فِي ذَلِك ثَوابًا فَإِن الشَّيْطَان قد تعين الْإِنْسَان على بعض مقاصده إِذا أشرك وَقد يحصل لَهُ بالْكفْر وَالْفِسْق والعصيان بعض أغراضه فَلَا يجوز لَهُ ذَلِك فصل الْعَذَاب أَو النَّعيم فِي البرزخ هَل هُوَ على الرّوح فَقَط أَو على الْبدن فَقَط أَو عَلَيْهِمَا فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال للْمُسلمين وَهل يجب أَن يكون على كل بدن أَو لبَعض الْأَشْخَاص وَفِي بعض الْأَحْوَال على قَوْلَيْنِ فَإِذا مَاتَ الْإِنْسَان وَتَفَرَّقَتْ أوصاله بتحريق أَو أكل سبع وَلم يبْق لَهُ أثر كَيفَ يضغطه الْقَبْر وَكَيف ينعم أَو يعذب فَمن قَالَ إِن ذَلِك عَليّ روح لَا يرد عَلَيْهِ وَمن قَالَ إِنَّه على الْبدن أَو على الرّوح وعَلى الْبدن أَو هُوَ مُخْتَصّ بِبَعْض النَّاس لَا يرد عَلَيْهِ أَيْضا وَمن قَالَ إِنَّه عَام فَلهم فب الْأَبدَان قَولَانِ أَحدهمَا أَن الله يُوصل ذَلِك إِلَى جُزْء من الْبدن وَهُوَ الْجَوْهَر الْفَرد وَالْقَوْل الثَّانِي أَن الْبدن يبْلى إِلَّا عجب الذَّنب كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح فالنعيم وَالْعَذَاب يتَّصل إِلَيْهِ مَعَ الرّوح وَتعلق الرّوح بِالْبدنِ بعد الْمَوْت نوع آخر وَالْعَذَاب أَنْوَاع قد شَاهده فِي

فصل

زَمَاننَا غير وَاحِد وَسمع أَصْوَاتهم وَلِهَذَا إِذا أصَاب الْخَيل مغل قربت من قُبُور الْكفَّار فيزول عَنْهَا لما تسمعه فتفزع فينحل بَطنهَا كَمَا يحصل للخائف فَإِن الْفَزع يحل الْبَطن فصل والمعاصى فِي الْأَيَّام المفضلة والأمكنة المفضلة تغلظ وَالْعِقَاب عَلَيْهَا على قدر ذَلِك الْمَكَان وَالزَّمَان وَلَا يجوز كِتَابَة الْقُرْآن حَيْثُ يهان كَمَا لَو كتب عَليّ نصيبة قبر تبول عَلَيْهِ الْكلاب ويدوسه النَّاس كَمَا لَا يجوز أَن يُسَافر بِهِ إِلَيّ أَرض الْعَدو فتجنب إِزَالَته وَإِزَالَة مَا كتب فِيهِ من مَوضِع الإهانة بالِاتِّفَاقِ مَسْأَلَة وَالله تَعَالَى إِذا أَرَادَ أَن يجمع بَين أحد من أَعلَى الْجنَّة أنزلهُ إِلَى الْأَسْفَل وَقَالَ رجل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي أحبك مَا أَسْتَطِيع أَن أَصْبِر عَنْك وَإنَّك فِي أَعلَى الْجنَّة فَلَا أَرَاك فَأنْزل الله تَعَالَى {وَمن يطع الله وَالرَّسُول فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا} وإبليس لعنة الله يعذب بالنَّار هُوَ وَذريته وَإِن كَانَ من نَار فالإنسان مَخْلُوق من صلصال لَو ضرب بالصلصال لقَتله وَالله أعلم

فصل

كتاب الزَّكَاة إِذا خلف مورث مَالا من إبل أَو غنم أَو غَيرهَا فِيهِ شئ حرَام من غصب أَو غَيره لَا يعرفهُ الْوَارِث عينا يعرف مَالِكه أَو لَا يعرفهُ وَقدر نصيب الْحَرَام غير مَعْرُوف فَإِنَّهُ ينصفه نِصْفَيْنِ نصفه لهَذِهِ الْجِهَة وَنصفه لهَذِهِ الْجِهَة كَمَا فعل عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي مشاطرة الْعمَّال أَمْوَالهم لما تبين لَهُ أَن فِي مَالهم شَيْئا من بَيت المَال وَمَا هُوَ خَالص لَهُم وَلم يتَبَيَّن الْقدر فَجعل عمر أَمْوَالهم نِصْفَيْنِ وَلِأَنَّهُ مَال مُشْتَرك وَالشَّرِكَة الْمُطلقَة تقتضى التَّسْوِيَة وَلَا تجوز الْقرعَة ووقف الْأَمر إِضَاعَة للحقوق وَالْقَوْل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بِالْقِسْمَةِ تَارَة والقرعة تَارَة وإنفاقها فِي الْمصَالح تَارَة خير من حَبسهَا بِلَا فَائِدَة وَقَالَت طَائِفَة تجب الزَّكَاة فِي خمس من الْبَقر كالاإبل وَرووا فِيهِ أثرا فَقَالُوا هَذَا آخر الْأَمريْنِ فصل وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من صَاحب إبل لَا يُؤدى حَقّهَا يُرَاد بِالْحَقِّ الزَّكَاة وَيُرَاد بِهِ مَا يجب من غير الزَّكَاة مثل الْإِعْطَاء فِي النوائب لِابْنِ السَّبِيل والمسكين وذى الرَّحِم وَمن حَقّهَا حلبها يَوْم وردهَا لأجل ابْن السَّبِيل وَنَحْوهم فَإِنَّهُم يَقْعُدُونَ عَليّ المَاء فَإِن إطْعَام الْمُحْتَاج وسقيه فرض كِفَايَة وَأما مَا يَأْخُذهُ الْعداد فان كَانَ هُوَ من أهل الزَّكَاة أَجْزَأت عَن صَاحبهَا

فصل

عِنْد الْأَئِمَّة وَإِن كَانَ من الكلف الَّتِي وَضعهَا الْمُلُوك فَإِنَّهَا لَا تُجزئ عَن الزَّكَاة وَمن أنكر زَكَاة السَّائِمَة وَجَبت استتابته فصل الإقطاع الْيَوْم إقطاع استغلال لَيْسَ لَهُ بَيْعه وَلَا وهبته بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة وَلَا ينْتَقل إِلَيّ ورثته بِخِلَاف مَا كَانَ فِي العصور الأولى وَمَا يَأْخُذهُ الْجند لَيْسَ أُجْرَة للْجِهَاد لِأَنَّهُ لَو كَانَ أُجْرَة كَانَ لفعل الْجِهَاد وَإِنَّمَا عَلَيْهِم أَن يقاتلوا فِي سَبِيل الله لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا وَيكون الدّين كُله لله وأجرهم عَليّ الله فَإِن الله تَعَالَى اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة والاقطاع يأخذونه معاونة لَهُم وَرِزْقًا لنفقة عِيَالهمْ ولأقامة الْخَيل وَالسِّلَاح وَفِي الحَدِيث مثل الَّذِي يَغْزُو من أمتى فِي سَبِيل اله مثل أم مُوسَى ترْضع ابْنهَا وَتَأْخُذ أجرهَا فهى ترْضِعه لما فِي قَلبهَا عَلَيْهِ من الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة لَا لأجل أجرهَا كَذَا الْمُجَاهِد ويغزو لما فِي قلبه من الْإِيمَان بِاللَّه وَالدَّار الْآخِرَة لَا لأجل المَال وَإِذا كَانَ الله قد أَمر الْمُسلمين من الصَّحَابَة وَغَيرهم أَن يجاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم وَأوجب عَلَيْهِم عشر أَمْوَالهم من الْخَارِج من الأَرْض فَكيف لَا يجب على من يعْطى مَالا ليجاهد وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جهز غازيا فقد غزا وَمن خَلفه فِي أَهله فقد غزا فَالَّذِي يعْطى الْمُجَاهِد يكون مُجَاهدًا بِمَالِه والمجاهد يُجَاهد بِنَفسِهِ وَأجر كل وَاحِد مِنْهُمَا على الله لَا ينقص أَحدهمَا من الآخر شَيْئا وَلم يكن هَذَا أَجِيرا لهَذَا وَلَو أعْطى رجل من الْمُسلمين رجلا أَرضًا يستغلها وَيكون هُوَ يُجَاهد فِي سَبِيل الله لوَجَبَ عَلَيْهِ فِيهَا الْعشْر وَلم يسْقط لأجل الْجِهَاد فَإِن الإقطاع أولى

وَولى الْأَمر لَا يعطيهم من مَاله وَإِنَّمَا يقسم بَينهم حَقهم كَمَا يقسم التَّرِكَة بَين الْوَرَثَة وَلِهَذَا يجوز لَهُم إجَازَة كَمَا يجوز لأهل الْوَقْف كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {الَّذين إِن مكناهم فِي الأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر وَللَّه عَاقِبَة الْأُمُور} فَمن قَامَ بِهَذِهِ الْأُمُور نَصره الله على عدوه فعلى كل من أنبت الله لَهُ زرعا الْعشْر سَوَاء كَانَ بِأَرْض مصر أَو غَيرهَا من كمالك ومستأجر ومقطع ومستعير وَكَذَلِكَ التَّمْر وَالزَّبِيب وَنَحْوه مِمَّا تجب فِيهِ لزكاة فَلَا تخلى الأَرْض من عشر أَو خراج بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَلَكِن اخْتلفُوا هَل يجْتَمع الْعشْر وَالْخَرَاج الَّذِي هُوَ خراج الاسلام فَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا وَقَالَ الْبَاقُونَ نعم وَالْأَرْض الخراجية عِنْد أبي حنيفَة هِيَ الَّتِي يملكهَا صَاحبهَا وَعَلِيهِ فِيهَا الْخراج وَله بيعهَا وهبتها وتورث عَنهُ فَمن قَالَ إِن أَرض مصر الْيَوْم لَا عشر عَلَيْهَا عِنْد أبي حنيفَة فقد أَخطَأ لِأَن الْجند لَا يملكونها وَلَا الفلاحون وَلم يضْرب على المقطع خراج فِي خدمته وَإِذا تركت الأَرْض الْمَمْلُوكَة بِلَا عشر ولاخراج كَانَ هَذَا مُخَالفا لإِجْمَاع الْمُسلمين وَمن أفتى بخلو هَذِه الأَرْض عَن الْعشْر وَالْخَرَاج يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل وَمن زعم أَن الْجِهَاد هُوَ عوض الْخراج فقد أَخطَأ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنهم لَا يملكُونَ الْخراج بل تنَازع النَّاس فِي إجَازَة الإقطاع حَتَّى ظن طوائف من الحنيفة وَغَيرهم أَنه لَا يُؤجر لِأَن المقطع لم يملك الْمَنْفَعَة بِنَفسِهِ وَالْأَرْض الخراجية يؤجرها من عَلَيْهِم الْخراج بِالْإِجْمَاع الثَّانِي أَن مَا يعطاه الجندي من الرزق لَيْسَ خراجا عَلَيْهِم وَلَا أُجْرَة للْجِهَاد

بل هم أعظم الْمُسْتَحقّين وَغَيره من أصُول الفئ والفئ إِمَّا أَن يختصوا بِهِ فِي أحد الْقَوْلَيْنِ وَإِمَّا أَن يَكُونُوا من أَحَق الْمُسلمين بِهِ فَكيف يكون الْخراج مأخوذا مِنْهُم وَقَول الْقَائِل الامام أسقط عَنْهُم الْخراج لكَوْنهم من الْمُقَاتلَة فصاروا كَأَنَّهُمْ يؤدونه يُقَال لَهُ هَذَا لَا يسْقط الزَّكَاة لِأَن إقطاعهم إِيَّاهَا لأجل أَن يستغلوها بِلَا خراج وَلَو كَانَ كالخراجية لجازلهم بيعهَا وَالَّذِي تنقل إِلَيْهِ إِمَّا أَن يُؤدى خراجهات أَو يسْقط عَنهُ الْخراج إِن كَانَ من الْمُقَاتلَة فَأَما مَا لم يكن لَهُم ذَلِك علم أَنه لَا خراج عَلَيْهِم وَلَو اسْتَأْجر الْمُجَاهِد أَرضًا كَانَ عَلَيْهِ الْعشْر عِنْد الْجُمْهُور وَعَلِيهِ الْأُجْرَة لرب الأَرْض وَهُوَ قَول صَاحِبي أبي حنيفَة وَأَبُو حنيفَة يَقُول الْعشْر على الْمُؤَجّر فَلَا يجْتَمع عِنْده الْأُجْرَة وَالْعشر وَأَبُو حنيفَة أسقط الْعشْر عَمَّن عَلَيْهِ الْخراج قَالَ لِأَن كِلَاهُمَا حق وَجب بِسَبَب الأَرْض والمقطع لم يُعْط شَيْئا غير مَا أعد نَفسه لَهُ من الْقِتَال أَلا ترى أَنه لَو أَخذ بعض الْمُسلمين أَرضًا خَرَاجِيَّة كَانَ عَلَيْهِ الْعشْر مَعَ الْجِهَاد يُوضح ذَلِك أَن الأَرْض لَو كَانَت عشرِيَّة وَصَارَت لبيت المَال بطرِيق الْإِرْث فأقطعها السُّلْطَان لمن يستغلها من المقالتة فَهَل يكون ذَلِك مسْقطًا للعشر فَمن يَجْعَل الاقطاع اسْتِئْجَار يَجْعَل الْمُجَاهدين بِمَنْزِلَة من يستأجره الإِمَام للعمارة والفلاحة يَقُول إِذا كَانَ الْخراج على شخص فاعتاض عَنهُ الإِمَام بِبَعْض هَذِه الاعمال كَانَت الأَرْض خَرَاجِيَّة وَهَذَا غلط عَظِيم فَإِنَّهُ يخرج الْجِهَاد عَن أَن يكون قربَة وَطَاعَة وَيجْعَل الْمُجَاهدين فِي سَبِيل الله بِمَنْزِلَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى استؤجروا الْعِمَارَة وصنعة سلَاح وَالْفُقَهَاء متفقون على الْفرق بَين الِاسْتِئْجَار عَليّ الْقرب وَبَين رزق أَهلهَا

فصل

فرزق الْمُقَاتلَة والقضاة المؤذنين وَالْأَئِمَّة جاذز بِلَا نزاع وَأما الِاسْتِئْجَار فَلَا يجوز عِنْد أَكْثَرهم لَا سِيمَا أَوب حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَإِن جوزوه على الْإِمَامَة فَإِنَّهُ لَا يجوز عَليّ الْجِهَاد لِأَنَّهُ يصير مُتَعَيّنا فَهَؤُلَاءِ غلطوا على الْأَئِمَّة عُمُوما وعَلى أبي حنسفة خُصُوصا فصل يجوز أَن توكل من يقبض لَهُ شَيْئا من الزَّكَاة مَا تيَسّر وَإِن كَانَ مَجْهُولا وَلَا مَحْذُور فِيهِ وَإِن اسْتَأْجر أَرضًا فَعِنْدَ انْعِقَاد الْحبّ أمْطرت السَّمَاء حِجَارَة أهلكت زرعه قبل حَصَاده سقط الْعشْر وَفِي وجوب الْأُجْرَة نزاع الْأَظْهر أَنه إِن لم يكن تمكن من اسْتِيفَاء الْمَنْفَعَة الْمَقْصُودَة بِالْعقدِ فَلَا أُجْرَة فصل لَا يَنْبَغِي أَن تُعْطى الزَّكَاة لمن لَا يَسْتَعِين بهَا على طَاعَة الله فان الله فَرضهَا مَعُونَة عَليّ طَاعَته فَمن لَا يصلى لَا يعْطى حَتَّى يَتُوب ويلتزم بأَدَاء الصَّلَاة وَمَا يُؤْخَذ من التُّجَّار بِغَيْر اسْم الزَّكَاة من الْوَظَائِف السُّلْطَانِيَّة فَلَا يعْتَبر من الزَّكَاة وَأما مَا يُؤْخَذ باسم الزَّكَاة فَفِيهِ نزاع وَالْأولَى إِعَادَتهَا إِذا غلب على الظَّن أَنَّهَا لَا تصرف إِلَى مستحقيها وَإِذا أَخذ ولى الْأَمر الْعشْر أَو زَكَاة التِّجَارَة فصرفها فِي مصرفها أَجْزَأت بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَأما إِذا كَانَ ولى الْأَمر مِمَّن يتَعَدَّى فِي صرفهَا فَالْمَشْهُور عِنْد الْأَئِمَّة أَنه يجزى أَيْضا كَمَا نقل ذَلِك عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم

فصل

فصل إِذا زرع الجندي إقطاعة فَعَلَيهِ فِيهِ الزَّكَاة وَمذهب ساذر الْأَئِمَّة أَنه لَا بُد فِي الأَرْض من عشر أَو خراج وَهل يَجْتَمِعَانِ قَالَ أَبُو حنيفَة لَا فَلَو كَانَ على مصر خراج كَمَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام كَانَ فِي وجوب الْعشْر عَلَيْهَا نزاع فَأَما الْيَوْم فَلَا خراج عَلَيْهَا لِأَن الأَرْض الخراجية عِنْد أبي حنيفَة هِيَ الَّتِي يملكهَا صَاحبهَا وَعَلِيهِ خراجها وَهُوَ لخراج الَّذِي ضربه عمر على مَا فتح من الأَرْض عنْوَة وأقراها فِي أَيدي أَرْبَابهَا بالخراج الَّذِي ضربه فَأَما الْجند فَلَا يملكُونَ الأَرْض الْيَوْم فَلَا خراج عَلَيْهِم فَيكون عَلَيْهِم الْعشْر بِلَا نزاع لَكِن لَو اسْتَأْجرهَا رجل وزرعها فالعشر على الْمُسْتَأْجر صَاحب الزَّرْع عِنْدهم إِلَّا أَبَا حنيفَة فَقَالَ على رب الأَرْض الْمُؤَجّر لَهَا فصل دفع الزَّكَاة إِلَى الْوَالِد لَا يجوز عِنْد الْأَئِمَّة المتبوعين فِي الْمَشْهُور عَنْهُم إِلَّا إِذا أَخذهَا لكَونه غارما لإِصْلَاح ذَات الْبَين أَو للْجِهَاد وَنَحْوه مِمَّا فِيهِ مصلحَة للْمُسلمين وَأما إِذا كَانَ غارما فِي مصلحَة نَفسه فَفِيهِ خلاف وجوازه قوي متحبه ويدفعها إِلَيّ أبنائه إِن كَانَ عَاجِزا عَن نَفَقَتهم فِي قَول بَعضهم وَإِن دَفعهَا إِلَيّ غَرِيمه وشارطه أَن يُوفيه إِيَّاهَا فَلَا يجوز وَإِن قصد ذَلِك من غير شَرط فَفِيهِ نزاع وَإِن دَفعهَا لَا تجب عَلَيْهِ نَفَقَة من هم فِي عِيَاله فيعطيهم مَا لم تجر عَادَتهم بانفاقه من مَاله وَإِن أَعْطَاهُم مَا هومعتاد إِنْفَاقه من مَاله فَفِيهِ نزاع والمأثور عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا الْمَنْع وَذكر أَحْمد رَضِي الله عَنهُ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ كَانَ القماء رَحِمهم الله

فصل

يَقُولُونَ لَا يحابي بهَا قَرِيبا وَلَا يدْفع بهَا مذلة وَلَا مذمة وَلَا يقى بهَا مَاله وَالله أعلم فصل فِي المَال حُقُوق سوى الزَّكَاة مثل صلَة الرَّحِم من النَّفَقَة الْوَاجِبَة وَحمل الْعقل عَن الْمَعْقُول عَنهُ وَاجِب بِالْإِجْمَاع وَمثل إطْعَام الجاذع وَكِسْوَة العارى وَنَحْو ذَلِك فَهُوَ فرض كِفَايَة فَمن غلب ظَنّه أَن غَيره لَا يقوم بذلك تعين عَلَيْهِ وَمثل الْإِعْطَاء فِي النواذب مثل النَّفَقَة فِي الْجِهَاد وقرى الضَّيْف فَهُوَ وَاجِب بِالسنةِ الصَّحِيحَة فصل كل مَا أعد للتِّجَارَة من مَاء وحطب وَغَيره فَفِيهِ الزَّكَاة وَمَا أعد للكراء كالقدور وَالْجمال وَالْعَقار وَغَيرهَا فَفِيهِ نزاع فِي مَذْهَبنَا وَغَيره وَمن السّلف من يُوجب الزَّكَاة فِي الْمعد للكراء إِذا قبض الْأُجْرَة فصل إِذا اشْترى من قبض الزَّكَاة ليدفعها إِلَى أَهلهَا عقارا وَنَحْوه فَإِن عَلَيْهِ أَن يُؤدى إِلَى الثَّمَانِية الْأَصْنَاف مِقْدَار الَّذِي قَبضه وَمَا حصل من نَمَاء يقسمهُ بَينه وَبينهمْ وَإِذا منع بَنو هَاشم حَقهم من الْخمس فَلَا يجوز لَهُم أَخذ الصَّدَقَة إِلَّا عِنْد بعض الْمُتَأَخِّرين وَلَيْسَ هُوَ قولا لأحد المتبوعين فصل إِذا فرط الْإِنْسَان وَلم يخرج الزَّكَاة حَتَّى مَاتَ فعلى الْوَرَثَة الْإِخْرَاج عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَكَذَلِكَ كل حق لله وَعند غَيرهمَا لَا يجب عَليّ الْوَرَثَة مَعَ أَنه يعذب بِتَرْكِهِ الزَّكَاة

وَأما إِذا مَاتَ الْمَيِّت وَله غُرَمَاء مديونون لم يسْتَوْف مِمَّا عَلَيْهِم شَيْئا فَهَل مطالبتهم للْمَيت أَو للْوَرَثَة اضْطر فِيهِ النَّاس وَالصَّوَاب إِن كَانَ الْحق مظالم لم يتَمَكَّن هُوَ وَلَا ورثته من استيفائها من قَود أَو قذف أَو غصب فَهُوَ المطالب وَإِن كَانَ دينا ثَبت بِاخْتِيَارِهِ وَتمكن من استيفاذه فَلم يستوفه حَتَّى مَاتَ فورثته تطالب بِهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَإِن كَانَ دينا عجز عَن استيفاذه هُوَ وورثته فالأشبه أَنه هُوَ الَّذِي يُطَالب بِهِ فَإِن الْعَجز إِذا كَانَ ثَابتا فِيهِ وَفِي الْوَارِث وَلم يتَمَكَّن أَحدهمَا من الِانْتِفَاع بذلك فِي الدُّنْيَا لم يدْخل فِي الْمِيرَاث فَيكون الْمُسْتَحق أَحَق بِحقِّهِ فِي الْآخِرَة كَمَا فِي الْمَظَالِم وَالْإِرْث مَشْرُوط بالتمكن من الِاسْتِيفَاء كَمَا أَنه مَشْرُوط بِالْعلمِ بالوارث فَلَو مَاتَ لَهُ عصبَة بعيدَة لَا يعرف نسبهم لم يرثوه لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة وَهَذَا عَام فِي جَمِيع الْحُقُوق الَّتِي لله ولعباده هِيَ مَشْرُوطَة بالتمكن من الْعلم وَالْقُدْرَة والمجهول والمعجوز عِنْد كالعدوم وَلِهَذَا قَالَ الْعلمَاء إِن مَا يجهل مَالِكه من الْأَمْوَال الَّتِي قبضت بِغَيْر حق كالمكوس أَو قبضت بِحَق كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِية وَجَهل صَاحبهَا بِحَيْثُ تعذر ردهَا إِلَيْهِ فَإِنَّهَا تصرف فِي مصَالح الْمُسلمين وَتَكون حَلَالا لمن أَخذهَا بِحَق كَأَهل الْحَاجة والاستعانة بهَا على مصَالح الْمُسلمين دون من أَخذهَا بباطل كمن يَأْخُذ فَوق حَقه ثمَّ الْمَظْلُوم إِذا طَالب بهَا يَوْم الْقِيَامَة وَعَلِيهِ زَكَاة فَلَا تقوم هَذِه بِالزَّكَاةِ بل عُقُوبَة الزَّكَاة أعظم من حَسَنَة الْمَظَالِم والوعيد بترك الزَّكَاة عَظِيم وَلَكِن الَّذِي ورد أَن الفرذض تجبر بالنوافل فَهَذَا إِذا تصدق بِاخْتِيَارِهِ صَدَقَة تطوع لَا يكون شَيْئا خرج بِغَيْر اخْتِيَاره فَإِنَّهُ يرجي لَهُ أَن يُحَاسب بِمَا

تَركه من الزَّكَاة إِذا كَانَ من أَهلهَا العازمين عَليّ فعلهَا وَأول مَا يُحَاسب بِهِ العَبْد يَوْم الْقِيَامَة الصَّلَاة فَإِن أكملها وإلاقيل انْظُرُوا إِن كَانَ لعبدي تطوع فيكمل بهَا فريضته ثمَّ الزَّكَاة كَذَلِك ثمَّ تُؤْخَذ الْأَعْمَال على حِسَاب ذَلِك روى ذَلِك أَحْمد فِي الْمسند وَهَذَا لِأَن التَّطَوُّع من جنس الْفَرِيضَة فَأمكن الْجبرَان بِهِ عِنْد التَّعَذُّر كَمَا قَالَ الصّديق رَضِي الله عَنهُ إِن الله لَا يقبل نَافِلَة حَتَّى تُؤدِّي الْفَرِيضَة فَيكون من رَحْمَة الله بِهِ أَن يَجْعَل النَّفْل مثل الْفَرْض بِمَنْزِلَة من أحرم بِالْحَجِّ تَطَوّعا وَعَلِيهِ فَرْضه فَإِنَّهُ يَقع عَن فَرْضه عِنْد طاذفة كالشافعي وَأحمد فِي الْمَشْهُور وَكَذَلِكَ فِي رَمَضَان عِنْد أبي حنيفَة وَقَول فِي مَذْهَب أَحْمد وَكَذَلِكَ من شكّ هَل وَجب عَلَيْهِ غسل أَو وضوء بحذث أم لَا فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ غسل وَكَذَلِكَ الْوضُوء عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء لَكِن يسْتَحبّ لَهُ التطهر احْتِيَاطًا وَإِذا فعل ذَلِك وَكَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ فِي نفس الْأَمر أَجْزَأَ عَنهُ لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا وَكَذَلِكَ الشَّارِع جعل عمل الْغَيْر عَنهُ يقوم مقَام فعله فِيمَا عجز عَنهُ مثل من وَجب عَلَيْهِ الْحَج وَهُوَ معضوب أَو مَاتَ وَلم يحجّ أَو نذر صوما أَو غَيره وَمَات قبل فعله فعله عَنهُ وليه فقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دين أَحَق بِالْقضَاءِ أَي أَحَق أَن يسْتَوْفى من وَارِث الْغَرِيم لِأَنَّهُ أرْحم من الْعباد فَهَذَا تشهد لَهُ الْأُصُول أما أَن يعْتد لَهُ بِالدّينِ عَليّ النَّاس مَعَ كَونه لم يخرج الزَّكَاة فَلَا يَصح نعم لَو كَانَ للنَّاس عَلَيْهِ مظالم أَو دُيُون بِقدر مَاله عِنْد النَّاس كَانَ يسوغ أَن يُقَال يُحَاسب بذلك فَيُؤْخَذ حَقه من هَذَا وَيصرف إِلَى هَذَا كَمَا يفعل فِي الدُّنْيَا بالمدين الَّذِي لَهُ وَعَلِيهِ

فصل

وكل هَذَا من حكم الْعدْل بَين الْعباد وَلَا يظلم رَبك أحدا فصل لَا يجوز دفع الزَّكَاة إِلَيّ الْوَالِدين رلا إِذا غرموا أَو كَانُوا مكاتبين فِي وَجه وَالْأَظْهَر الْجَوَاز وَأما إِذا كَانُوا فُقَرَاء وَهُوَ عَاجز عَن نفقتهما فالأقوى جَوَازه فِي هَذِه الْحَال والأحوة أولى فَإِن اسْتَووا فالقرابة أولي من الْأَجْنَبِيّ فصل إِذا أعْطى الْوَرَثَة من لَهُ دين على مُورثهم إِن كَانَ مُسْتَحقّا لِلزَّكَاةِ دَرَاهِم أَجْزَأَ بِلَا ريب وَأما إِذا أَعْطوهُ الْقيمَة فَفِيهِ نزاع هَل يجوز مُطلقًا أَو لَا يجوز مُطلقًا أَو يجوز فِي بعض الصُّور للْحَاجة أَو الْمصلحَة الراجحة على ثَلَاثَة أَقْوَال فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وَهَذَا القَوْل هُوَ أعدل الْأَقْوَال فَإِن كَانَ آخذ الزَّكَاة يُرِيد أَن يشترى هبا كسْوَة فَاشْترى رب المَال لَهُ بهَا كسْوَة وَأَعْطَاهُ فقد أحسن إِلَيْهِ وَأما إِذا قوم هُوَ الثِّيَاب الَّتِي عِنْده وَأَعْطَاهَا إِيَّاه فقد يقومها بِأَكْثَرَ من السّعر وَقد يَأْخُذ الثِّيَاب من لَا يحْتَاج إِلَيْهَا بل يَبِيعهَا فَيغرم أُجْرَة المادى وَرُبمَا خسرت فَيكون فِي ذَلِك ضَرَر عَليّ الْفُقَرَاء والأصناف الَّتِي يتجر فِيهَا يجوز أَن يخرج عَنْهَا جميعاض دَرَاهِم بِالْقيمَةِ فَإِن لم يكن عِنْده دَرَاهِم فَأعْطى مقدارها من جنس مَا يتجر فِيهِ فَالْأَظْهر أَنه يجوز لِأَنَّهُ واسى الْفُقَرَاء فَأَعْطَاهُمْ من جنس مَاله وَأما الدّين الَّذِي عَليّ الْمَيِّت فَيجوز أَن يُوفى من الزَّكَاة فِي أحد فولى الْعلمَاء وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {والغارمين} وَلم يقل وللغارمين فالغارم لَا يشْتَرط تَمْلِيكه على هَذَا وَعلي هَذَا يجوز الْوَفَاء عَنهُ وَأَن يملك لوَارِثه وَلغيره وَلَكِن الَّذِي عَلَيْهِ الدّين لَا يعْطى ليوفى دينه وَالله أعلم

فصل

فصل وَالْمَرْأَة يكون لَهَا صَدَاقهَا عِنْد زَوجهَا تمر عَلَيْهِ السنون المتوالية لَا يُمكنهَا أَن تطالبه بِهِ لِئَلَّا تقع الْفرْقَة بَينهمَا فيعوضها عَن صَدَاقهَا بعقار أَو يدْفع لَهَا الصَدَاق جملَة بعد مُدَّة من السنين فَهَل عَلَيْهَا فِيهِ الزَّكَاة السنين الْمَاضِيَة بِمُجَرَّد قبضهَا لَهُ أم إِلَى أَن يحول عَلَيْهِ الْحول من حِين قَبضته هَذِه الْمَسْأَلَة فِيهَا للْعُلَمَاء أَقْوَال قيل يجب تَزْكِيَة السنين الْمَاضِيَة سَوَاء كَانَ الزَّوْج مُوسِرًا أَو مُعسرا كَأحد الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد وَقد نَصره طاذفة من أصحابهما وَقيل تجب مَعَ يسَاره وتمكنها من قَبضه دون مَا إِذا لم يُمكن تمكينها من الْقَبْض كالقول الآخر فِي مَذْهَبهمَا وَقيل تجب لسنة وَاحِدَة كَقَوْل مَالك وَقَول فِي مَذْهَب أَحْمد وَقيل لَا تجب بِحَال كَقَوْل أبي حنيفَة وَقَول فِي مَذْهَب أَحْمد وأضعف الْأَقْوَال قَول من يُوجِبهَا لسنين الْمَاضِيَة حتي مَعَ الْعَجز عَن قَبضه فَإِن هَذَا القَوْل بَاطِل فَأَما أَن يجب للفقاء مَا يأخذونه مَعَ أَنه لم يحصل لَهُم شئ فَهَذَا مُمْتَنع فِي الشَّرِيعَة ثمَّ إِذا طَال الزَّمَان كَانَت الزَّكَاة أَكثر من المَال ثمَّ إِذا نقص النّصاب وَقيل إِن الزَّكَاة تجب فِي عين النّصاب وَقيل إِن الزَّكَاة تجب فِي عين النّصاب لم يعلم الْوَاجِب إِلَّا بِحِسَاب طَوِيل يمْتَنع إتْيَان الشِّيعَة بِهِ وَأقرب الْأَقْوَال قَول من لَا يُوجب فِيهِ سيذا بِحَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول أَو يُوجب فِيهِ زَكَاة عِنْد الْقَبْض فَلهَذَا القَوْل وَجه وَلِهَذَا وَجه وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَهَذَا قَول مَالك وَكِلَاهُمَا قيل بِهِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَالله أعلم

فصل

فصل صَدَقَة الْفطر قدرهَا صَاع من الشّعير أَو التَّمْر وَنصفه من الْبر عِنْد أبي حنيفَة وَاخْتِيَار الشَّيْخ وخرجه على قَوَاعِد أَحْمد وَإِذا كَانَ الْفُقَرَاء مُجْتَمعين فِي مَوضِع وأكلهم جَمِيعًا فِي سماط وهم مشتركون فِيمَا يَأْكُلُون فِي الصَّوْم وَيَوْم الْعِيد لم يكن لأَحَدهم أَن يعْطى فطرته لوَاحِد من هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاء وَكَذَلِكَ إِن دَفعهَا إِلَى وَاحِد على أَن يَدْفَعهَا إِلَى الآخر وَأما إِذا كَانُوا متفقين على أَن الصَّدَقَة الَّتِي يَأْخُذهَا أحدهم يشتركون جَمِيعًا فِي أكلهَا فَهَذَا لَا يجوز بِلَا ريب

كتاب الصيام

كتاب الصَّيام إِذا غم الْهلَال أَو حَال دونه غيم أَو قتر لَيْلَة الثَّلَاثِينَ من شعْبَان فللناس فِي صَوْمه ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا يجب صَوْمه وَهُوَ قَول كثير من أَصْحَاب أَحْمد وَضعف أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل هَذَا والأولون يذكرُونَ أَن هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عَنهُ وَلم أجد فِيمَا وقفت عَلَيْهِ من كَلَام أَحْمد مَا يَقْتَضِي أَنه كَانَ يُوجِبهُ وَلَكِن الَّذِي وجدته أَنه كَانَ يَصُومهُ أَو يسْتَحبّ صَوْمه اتبَاعا للصحابة رَضِي الله عَنْهُم وَكَذَلِكَ القَوْل عَن الصَّحَابَة يَقْتَضِي جَوَاز صَوْمه أَو اسْتِحْبَابه لَا وُجُوبه وَالْقَوْل الثَّانِي أَنه جَائِز وَلَا وَاجِب وَلَا محرم وَهَذَا القَوْل أعدل وَهل يجل تعْيين النِّيَّة لرمضان فمذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ تجب فَلَو نوى نِيَّة مُطلقَة أَو معلقَة لم تجزه وَعند أبي حنيفَة لَا يجب التَّعْيِين فَلَو نوى نِيَّة مُطلقَة أَو معلقَة تقع عَن رَمَضَان فِي هَذِه الصُّورَة وَفِي هَذِه الصُّورَة فِي مَذْهَب أَحْمد ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا كمذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ يجب وَالثَّانِي كَقَوْل أبي حنيفَة وَالثَّالِث تقع عَن رَمَضَان مَعَ الْإِطْلَاق لَا مَعَ نِيَّة غير رَمَضَان وَهَذَا اخْتِيَار الْخرقِيّ فِي شرح الْمُخْتَصر وَاخْتِيَار جدي الْمجد عبد السَّلَام وَغَيرهم وَالَّذِي يجب أَن يفرق بَين الْعَالم فَمن علم أَن غَدا من رَمَضَان وَلم يُنَوّه بل نوى غَيره فَقَط ترك الْوَاجِب فَلم يجزه وَمن لم يعلم فَنوى صوما مُطلقًا للِاحْتِيَاط أَو صوما مُقَيّدا فَهَذَا إِذا قيل بِجَوَازِهِ كَانَ مُتَوَجها

فصل

وَيَوْم الشَّك يَوْم يتحدث النَّاس بِرُؤْيَة الْهلَال وَيَرَاهُ من لَا يثبت بقوله وَيكون صحوا أما يَوْم الْغَيْم فَهَل هُوَ يَوْم شكّ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَقد يُقَال إِن أصل ذَلِك أَن الْهلَال اسْم لما يرَاهُ النَّاس ويستهلون بِهِ أَو هُوَ اسْم لما يطلع فِي السَّمَاء وَإِن لم يره النَّاس على قَوْلَيْنِ وَالْقَوْل الثَّالِث فِي الْمَسْأَلَة أَنه ينْهَى عَن صَوْم هَذَا الْيَوْم لِأَنَّهُ يَوْم الشَّك إِلَّا أَن يُوَافق عَادَة وَهل من نهي أَو تَنْزِيه على قَوْلَيْنِ وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَات عَنهُ وَعنهُ رِوَايَة ثَالِثَة أَن النَّاس تبع للامام فصل وَمن شكّ فِي مِقْدَار مَا وَجب من الصَّلَاة عَلَيْهِ وَفِي قدر مَا وَجب من الزَّكَاة كمن قَالَ لَا أَدْرِي أبلغ مَالِي مَا تجب فِيهِ الزَّكَاة من سنة أم من سنتَيْن أَو حَال على مَالِي حول أَو حولان فَعَلَيهِ الْيَقِين وَمن لم يعلم أَن الْهلَال رؤى إِلَّا من النَّهَار هَل يلْحق بِأَهْل الْأَعْذَار مبناه على أَن الْهلَال هَل هُوَ اسْم لما يستهل أَي يتَكَلَّم بِهِ النَّاس أَو اسْم لما يطلع فِي السَّمَاء وَإِن لم يتكلموا ثمَّ إِذا قيل هُوَ اسْم لما يتَكَلَّم بِهِ النَّاس فَهُوَ يخْتَص بِمن تكلم بِهِ أَو بِغَيْرِهِ فِيهِ نزاع أَيْضا وَمن نذر صَوْم يَوْم يقدم فلَان فَقدم نَهَارا فَأمْسك من حِين علم بِهِ فَهَل يجْزِيه فِيهِ قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد فَمن لم يلْحقهُ بِأَهْل الاعذار قَالَ إِذا علم من النَّهَار فَعَلَيهِ أَن يمسك كَمَا يَقُوله طَائِفَة من أَصْحَاب أَحْمد وَغَيره وَمن ألحقهُ بِأَهْل الْأَعْذَار قَالَ إِذا لم يعلم إِلَّا بِالنَّهَارِ فَلَا يجْزِيه الصَّوْم سَوَاء علم قبل

فصل

الزَّوَال أَو بعده كمن نذر صَوْم يَوْم يقدم فلَان فَقدم نَهَارا وَهُوَ مُمْسك فَنوى حِين قدومه أَجزَأَهُ فِي أحد الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد كَمَا قدمْنَاهُ وَالْأُخْرَى يقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ وَإِن قدم وَهُوَ مفطر أَو يَوْم عيد أَو فِي رَمَضَان فَهَل عَلَيْهِ الْقَضَاء على رِوَايَتَيْنِ فصل قَضَاء الصَّلَاة لم يجب على الْحَائِض لِأَنَّهُ لَا يجب فِي الْيَوْم أَكثر من خمس صلوَات وَلم تكن الصَّلَاة إِلَّا فِي أَوْقَاتهَا فَلَمَّا وَجب فِيهِ خمس أَدَّاهُ لم يجب فِيهِ خمس أُخْرَى قَضَاء بِخِلَاف الصَّوْم فَإِنَّهُ يجب فِي وَقت الْحيض فَلَا يكون فِيهِ صَوْم آخر عَلَيْهَا فصل الْفطر للْمُسَافِر جَائِز بِاتِّفَاق الْمُسلمين سَوَاء كَانَ سفر حج أَو جِهَاد أَو تِجَارَة أَو نَحْو ذَلِك من الْأَسْفَار الَّتِي لَا يكرهها الله وَرَسُوله وَتَنَازَعُوا فِي سفر الْمعْصِيَة كَالَّذي يُسَافر ليقطع الطَّرِيق وَنَحْو ذَلِك على قَوْلَيْنِ مشهورين كَمَا تنازعوا فِي قصر الصَّلَاة فَأَما السّفر الَّذِي تقصر فِيهِ الصَّلَاة فَإِنَّهُ يجوز فِيهِ الْفطر مَعَ الْقَضَاء بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة وَيجوز الْفطر للْمُسَافِر بِاتِّفَاق الْأمة سَوَاء كَانَ قَادِرًا على الصّيام أَو عَاجِزا وَسَوَاء شقّ عَلَيْهِ الصَّوْم أَو لم يشق بِحَيْثُ لَو كَانَ مُسَافِرًا فِي الظل وَالْمَاء وَمَعَهُ من يَخْدمه جَازَ لَهُ الْفطر وَالْقصر وَمن قَالَ إِن الْفطر لَا يجوز إِلَّا لمن عجز عَن الصّيام فَإِنَّهُ يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل وَكَذَلِكَ من أنكر على الْمُفطر فطره فَإِنَّهُ يُسْتَتَاب من ذَلِك وَمن قَالَ إِن الْمُفطر عَلَيْهِ إِثْم فَإِنَّهُ يُسْتَتَاب من ذَلِك فَإِن هَذِه الْأَحْوَال

خلاف كتاب الله وَخلاف سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخلاف إِجْمَاع الْأمة وَهَكَذَا السّنة للْمُسَافِر أَنه يُصَلِّي الرّبَاعِيّة رَكْعَتَيْنِ وَالْقصر أفضل لَهُ من التربيع عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة كمذهب مَالك وَأبي حنيفَة وَأحمد وَالشَّافِعِيّ فِي أصح قوليه وَلم تتنازع الْأمة فِي جَوَاز الْفطر للْمُسَافِر بل تنازعوا فِي جَوَاز الصّيام للْمُسَافِر فَذهب طَائِفَة من السّلف وَالْخلف إِلَى أَن الصَّائِم فِي السّفر كالمفطر فِي الْحَضَر وَإِذا صَامَ لم يجزه بل عَلَيْهِ أَن يقْضِي ويروي هَذَا عَن عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف وَأبي هُرَيْرَة وَغَيرهمَا من السّلف وَهُوَ مَذْهَب أهل الظَّاهِر وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَيْسَ من الْبر الصَّوْم فِي السّفر لَكِن مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة أَنه يجوز للْمُسَافِر أَن يَصُوم وَأَن يفْطر كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس قَالَ كُنَّا نسافر مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رَمَضَان فمنا الصَّائِم وَمنا الْمُفطر فَلَا يعيب الصَّائِم على الْمُفطر وَلَا الْمُفطر على الصَّائِم وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَمن كَانَ مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} وَفِي الْمسند عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله يحب أَن يُؤْخَذ بِرُخصِهِ كَمَا يكره أَن تُؤْتى مَعْصِيَته وَفِي الصَّحِيح أَن رجلا قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي رجل أَكثر الصَّوْم أفأصوم فِي السّفر فَقَالَ إِن أفطرت فَحسن وَإِن صمت فَلَا بَأْس وَفِي حَدِيث آخر خياركم الَّذِي يقصرون فِي السّفر ويفطرون وَأما مِقْدَار السّفر الَّذِي يقصر فِيهِ وَيفْطر فمذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد أَنه مسيرَة يَوْمَيْنِ قَاصِدين بسير الْإِبِل والأقدام وَهُوَ سِتَّة عشر فرسخا كَمَا بَين مَكَّة

وَعُسْفَان وَمَكَّة وَجدّة وَقَالَ أَبُو حنيفَة مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها وَقَالَ طَائِفَة من السّلف وَالْخلف بل يقصر وَيفْطر فِي كل مَا يُسمى سفرا وان كَانَ أقل من يَوْمَيْنِ وَهَذَا قَول قوي فَإِنَّهُ قد ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي بِعَرَفَة ومزدلفة وَمنى يقصر الصَّلَاة وَخَلفه أهل مَكَّة وَغَيرهم يصلونَ بِصَلَاتِهِ لم يَأْمر أحدا مِنْهُم بإتمام الصَّلَاة وَإِذا سَافر فِي أثْنَاء يَوْم فَهَل يجوز لَهُ الْفطر على قَوْلَيْنِ مشهورين للْعُلَمَاء هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد أظهرهمَا أَنه يجوز ذَلِك كَمَا ثَبت فِي السّنَن أَن من الصَّحَابَة من كَانَ يفْطر إِذا خرج من يَوْمه وَيذكر أَن ذَلِك سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه نوى الصَّوْم فِي السّفر ثمَّ إِنَّه رُبمَا بِمَاء فَأفْطر وَالنَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ وَأما الْيَوْم الثَّانِي فيفطر فِيهِ بِلَا ريب وَإِن كَانَ مِقْدَار سَفَره يَوْمَيْنِ فِي مَذْهَب جُمْهُور الْأَئِمَّة وَالْأمة وَأما إِذا قدم الْمُسَافِر فِي أثْنَاء يَوْم فِي وجوب الْإِمْسَاك عَلَيْهِ نزاع مَشْهُور بَين الْعلمَاء لَكِن عَلَيْهِ الْقَضَاء سَوَاء أمسك أَو لم يمسك وَيفْطر من عَادَته السّفر إِذا كَانَ لَهُ بلد يأوى إِلَيْهِ كالتاجر الْجلاب الَّذِي يجلب الطَّعَام وَغَيره من السلفع وكالمكاري الَّذِي يكرى دوابه من الْجلاب وَغَيرهم وكالبريد الَّذِي يُسَافر فِي مصَالح الْمُسلمين وَنَحْوهم وَكَذَلِكَ الملاح الَّذِي لَهُ مَكَان فِي الْبر يسكنهُ فَأَما من كَانَ مَعَه فِي السَّفِينَة امْرَأَته وَجَمِيع مَصَالِحه وَلَا يزَال مُسَافِرًا فَهَذَا لَا يقصر وَلَا يفْطر

وَأهل الْبَادِيَة كأعراب الْعَرَب والأكراد وَالتّرْك وَغَيرهم الَّذين يشتون فِي مَكَان ويصيفون فِي مَكَان إِذا كَانُوا فِي حَال ظعنهم من المشتى إِلَى المصيف وَمن المصيف إِلَى المشتى فَإِنَّهُم يفطرون ويقصرون وَأما إِذا نزلُوا بمشتاهم ومصيفهم لم يفطروا وَلم يقصروا وَإِن كَانُوا يتتبعون المراعي والكلأ وَالله أعلم صَلَاة التَّرَاوِيح هَل هِيَ وَاجِبَة على الْكِفَايَة فِيهِ قولانه للْعُلَمَاء وَلَو نذر الصَّلَاة فِي وَقت النَّهْي فَفِي صِحَّتهَا لكَونه يفعل فيهمَا الْوَجْهَانِ فِي مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد الصَّوَاب أَنه لَا يَصح صَوْم رَجَب وأفراد رَجَب بِالصَّوْمِ مَكْرُوه نَص على ذَلِك الْأَئِمَّة كالشافعي وَأحمد وَغَيرهمَا وَسَائِر الْأَحَادِيث الَّتِي رويت فِي فضل الصَّوْم فِيهِ مَوْضُوعَة لَكِن لَو صَامَ أَكْثَره فَلَا بَأْس فَلَو نذر صَوْمه قصدرا فَهُوَ مثل من نذر صَوْم يَوْم الْجُمُعَة وَغَيره من الْعِبَادَات الْمَكْرُوهَة وَالْوَاجِب أَن يَصُوم شهرا آخر وَهل عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين على قَوْلَيْنِ لنا ولغيرنا وَإِنَّمَا يلْزم الْوَفَاء بِمَا كَانَ طَاعَة بِدُونِ النّذر وَالنّذر فِي نَفسه لَيْسَ بِطَاعَة وَلَكِن يَجْعَل الطَّاعَة وَاجِبَة وَالصَّلَاة فِي وَقت النَّهْي منهى عَنْهَا فَلَا تصير بِالنذرِ طَاعَة وَاجِبَة فصل إِذا دخل الْمُسَافِر فَنوى الْإِقَامَة فِي رَمَضَان أقل من أَرْبَعَة أَيَّام فَلهُ أَن يفْطر وَقد تقل عَن طَائِفَة من السّلف أَن الْغَيْبَة والنميمة وَنَحْوهمَا تفطر الصَّائِم وَذكر وَجها فِي مَذْهَب أَحْمد

وَتَحْقِيق الْأَمر فِي ذَلِك أَن الله تَعَالَى أَمر بالصيام لأجل التَّقْوَى وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لم يدع قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ لله حَاجَة فِي أَن يدع طَعَامه وَشَرَابه فاذا لم تحصل لَهُ التَّقْوَى لم يحصل لَهُ مَقْصُود الصَّوْم فينقص من أجر الصَّوْم بِحَسب ذَلِك والأعمال الصَّالِحَة لَهَا مقصودان حُصُول الثَّوَاب واندفاع الْعقَاب فَإِذا فعلهَا مَعَ المنهيات من الْغَيْبَة والنميمة وَأكل الْحَرَام وَغَيره فَأَنَّهُ الثَّوَاب فَقَوْل الْأَئِمَّة لَا يفْطر أَي لَا يُعَاقب عِقَاب الْمُعْلن بِالْفطرِ وَمن قَالَ إِنَّه يفْطر بِمَعْنى أَنه لم يحصل لَهُ مَقْصُود الصَّوْم أَو قد يذهب بِأَجْر الصَّوْم فَقَوله مُوَافق لقَوْل الْأَئِمَّة وَمن قَالَ إِنَّه يفْطر بِمَعْنى أَنه يُعَاقب على التّرْك فَهُوَ مُخَالف لأقوالهم وَأما نقص الْغَيْبَة والنميمة للْوُضُوء فقد نقل عَن طَائِفَة من السّلف وَبَعض الْخلف القَوْل بِالنَّقْضِ وَالتَّحْقِيق أَن الطَّهَارَة لَهَا مَعْنيانِ أَحدهمَا الطَّهَارَة من الذُّنُوب كَقَوْلِه تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} وَقَوله {إِنَّهُم أنَاس يتطهرون} وَقَوله {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا} وَالْمعْنَى الثَّانِي الطَّهَارَة الحسية بِالْمَاءِ وَالتُّرَاب وَإِنَّمَا أَمر بِهَذِهِ لتتحقق تِلْكَ فالفاعل للمهى عَنهُ خرج مَقْصُود الطَّهَارَة فَيُسْتَحَب لَهُ إِعَادَة الْوضُوء وَأما أَنه بعض كالنقض بِقَضَاء الْحَاجة فَلَا وَلَكِن إِن صلى بعد الْغَيْبَة كَانَ أجره على صلَاته أنقص بِقدر نقص الطَّهَارَة النفسية فتخريج كَلَامهم على هَذَا لَا يُنَافِي قَول الْأَئِمَّة

فصل

فصل الْيَوْم الثَّامِن من شَوَّال لَيْسَ لأحد أَن يَتَّخِذهُ عيدا وَلَا هُوَ عبد الْأَبْرَار بل هُوَ عيد الْفجار وَلَا يحل أَن يحدث فِيهِ الْمُسلم شَيْئا من شَعَائِر الأعياد فَإِن الْمُسلمين متفقون على أَنه لَيْسَ بعيد وَكره بَعضهم صَوْم السِّت من شَوَّال عقب الْعِيد مُبَاشرَة لِئَلَّا يكون فطر يَوْم الثَّامِن كَأَنَّهُ الْعِيد فينشأ عَن ذَلِك أَن بعده عوام النَّاس عيدا آخر فصل صَحَّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ صِيَام يَوْم عَرَفَة يكفر سنتَيْن وَصِيَام يَوْم عَاشُورَاء يكفر سنة لَكِن إِطْلَاق القَوْل بِأَنَّهُ يكفر لَا يُوجب أَن يكفر الْكَبَائِر بِلَا تَوْبَة فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة ورمضان إِلَى رَمَضَان كَفَّارَة لما بَينهُنَّ إِذا اجْتنبت الْكَبَائِر وَمَعْلُوم أَن الصَّلَاة هِيَ أفضل من الصّيام وَصِيَام رَمَضَان أعظم من صِيَام يَوْم عَرَفَة وَلَا يكفر السَّيِّئَات إِلَّا باجتناب الْكَبَائِر كَمَا قَيده النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكيف يظنّ أَن صَوْم يَوْم أَو يَوْمَيْنِ تَطَوّعا يكفر الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَشرب الْخمر وَالْميسر وَالسحر وَنَحْوه فَهَذَا لَا يكون

فصل

فصل والاتمام بِإِمَام التَّرَاوِيح ليحصل صَلَاة الْجَمَاعَة أولى من صلَاته وَحده كَمَا رجح الْعلمَاء صَلَاة الْمَرِيض قَاعِدا فِي الْجَمَاعَة على صلَاته قَائِما وَحده والتراويح سنة وَإِن سَمَّاهَا عمر رَضِي الله عَنهُ بِدعَة لِأَنَّهَا لم تفعل قبل ذَلِك على الْوَجْه الَّذِي جمع النَّاس فِيهِ عَن أبي كَمَا أخرج عمر الْيَهُود وَالنَّصَارَى من الجزيرة وكما قَاتل أَبُو بكر وَالصَّحَابَة أهل الرِّدَّة وكما جمع أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ الْمُصحف وكما قَاتل عَليّ رَضِي الله عَنهُ الْخَوَارِج وكما شَرط عمر على أهل الذِّمَّة الشُّرُوط وَغير ذَلِك من الْأُمُور الَّتِي فَعَلُوهَا عملا بِكِتَاب الله واتباعا لسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن لم يتَقَدَّم نظيرها وكضرب عمر رَضِي الله عَنهُ النَّاس على الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر وعَلى إِلْزَامه الافطار فِي رَجَب وَكسر أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ كيزان أَهله فِي رَجَب وَقَالَ لَا تشبهوه برمضان فَهَذِهِ الْعقُوبَة الْبَدَنِيَّة والمالية لمن كَانَ يعْتَقد أَن صَوْم رَجَب مَشْرُوع مُسْتَحبّ وَأَنه أفضل من صَوْم غَيره من الْأَشْهر وَهَذَا الِاعْتِقَاد خطأ وضلال وَمن صَامَهُ على هَذَا الِاعْتِقَاد الْفَاسِد كَانَ عصيا فيعزر على ذَلِك وَلِهَذَا كرهه من كرهه خشيَة أَن يتعوده النَّاس وَقَالَ يسْتَحبّ أَن يفْطر بعضه وَمِنْهُم من رخص فِيهِ إِذا صَامَ مَعَه شهرا آخر من السّنة كالمحرم وَوَجَب أحد الْأَشْهر الْحرم وَله فضل على غَيره من الْأَشْهر الَّتِي لَيست بحرم وكما كَانَ الْمَكَان وَالزَّمَان أفضل كَانَت الطَّاعَة فِيهِ أفضل والمعاصي فِيهِ أَشد وَلَيْسَ هُوَ أفضل الْمَشْهُور عِنْد الله بل شهر رَمَضَان أفضل مِنْهُ كَمَا أَن يَوْم الْجُمُعَة أفضل أَيَّام الْأُسْبُوع وَصَلَاة الرغائب بِدعَة محدثة وَأما لَيْلَة النّصْف من شعْبَان فَفِيهَا فضل وَكَانَ من السّلف من يُصليهَا لَكِن اجْتِمَاع النَّاس فِيهَا لاحيائها فِي الْمَسَاجِد بِدعَة وَالله أعلم

وَصَلَاة الألفية فِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان والاجتماع على صَلَاة راتبة فِيهَا بِدعَة وَإِنَّمَا كَانُوا يصلونَ فِي بُيُوتهم كقيام اللَّيْل وَإِن قَامَ مَعَه بعض النَّاس من غير مداومة على الْجَمَاعَة فِيهَا وَفِي غَيرهَا فَلَا بَأْس كَمَا صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة بِابْن عَبَّاس وَلَيْلَة بحذيفة وَولي الْأَمر يَنْبَغِي أَن ينْهَى عَن هَذِه الاجتماعات البدعية الِاعْتِكَاف والفطرة لَيْسَ للمعتكف أَن يخيط ثوبا وَقيل يجوز أَن يخيط لنَفسِهِ لَا ليكتسب وَقيل يجوز الْيَسِير وَهَذِه الثَّلَاثَة الْأَقْوَال فِي الْمَذْهَب وَزَكَاة الْفطر هَل تجْرِي مجْرى زَكَاة المَال أَو مجْرى الْكَفَّارَات على قَوْلَيْنِ فَإِن أجريت مجْرى الْكَفَّارَات تُعْطى لمن هُوَ أحْوج لحَاجَة نَفسه لَا فِي الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم والرقاب وَهَذَا أقوى دَلِيلا وَمن قَالَ بالإجزاء استوعب الْأَصْنَاف الثَّمَانِية إِن كَانَ مذْهبه ذَلِك وَإِلَّا فَلَا وأضعف الْأَقْوَال قَول من يَقُول يجب دَفعهَا لاثنى عشر أَو ثَمَانِيَة عشرا أَو ثَمَانِيَة وَعشْرين أَو اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَو نَحْو ذَلِك

كتاب الحج

كتاب الْحَج الْحَج على الْوَجْه الْمَشْرُوع أفضل من الصَّدَقَة الَّتِي لَيست بواجبة وَأما إِن كَانَ لَهُ أقَارِب محاويج أَو هُنَاكَ فُقَرَاء تضطرهم الْحَاجة إِلَى نَفَقَة فالصدقة عَلَيْهِم أفضل أما إِذا كَانَ كِلَاهُمَا تَطَوّعا فالحج أفضل لَكِن بِشَرْط أَن يُقيم الْوَاجِب وَيتْرك الْمُحرمَات وَيُصلي الصَّلَوَات وَيصدق الحَدِيث وَيُؤَدِّي الْأَمَانَة وَلَا يتَعَدَّى على أحد فَمن فعل شَيْئا من تِلْكَ الْمُحرمَات فقد يكون إئمة أعظم من أجره فَأَي فَضِيلَة فِي هَذَا قَالَ تَعَالَى {الْحَج أشهر مَعْلُومَات فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج فَلَا رفث وَلَا فسوق وَلَا جِدَال فِي الْحَج} فِيهِ قراءتان {فَلَا رفث وَلَا فسوق} بِالرَّفْع {وَلَا جِدَال} بِالْفَتْح وَالْقِرَاءَة الثَّانِيَة التَّسْوِيَة بَين الْكل بِالْفَتْح فالقراءة الأولى توَافق الحَدِيث فِي الصَّحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من حج هَذَا الْبَيْت فَلم يرْفث وَلم يفسق رَجَعَ كَيَوْم وَلدته أمه جعل الْوَعْد بالمغفرة لمن لم يرْفث وَلم يفسق فالمنهي عَنهُ الْمحرم فِي الْآيَة هُوَ الرَّفَث وَهُوَ الْجِمَاع ودواعيه قولا وفعلا والفسوق هُوَ الْمعاصِي كلهَا هَذَا الَّذِي نهى عَنهُ الْمحرم وَقَوله وَلَا جِدَال نهى الْمحرم عَن الْجِدَال مُطلقًا بل الْجِدَال بِالَّتِي هِيَ أحسن قد يُؤمر بِهِ الْمحرم وَغَيره وَالْمعْنَى أَن أَمر الْحَج قد بَينه الله وأوضحه فَلم يكن فِيهِ جِدَال وَأما الْقِرَاءَة الْأُخْرَى فَقَالُوا فِي أحد الْقَوْلَيْنِ نهى الْمحرم عَن الثَّلَاثَة الرَّفَث وَالْجِمَاع وَذكره والفسوق وَهُوَ السباب والجدال

فصل

وَالتَّحْقِيق أَن الفسوق أَعم من السباب والجدال الْمَكْرُوه الْمحرم هُوَ المُرَاد وَالْخُصُومَة من الْجِدَال لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ترك المراء وَهُوَ محق نَبِي الله فِي أَعلَى الْجنَّة وَمن تَركه وَهُوَ مُبْطل نَبِي الله لَهُ بَيْتا فِي ربض الْجنَّة وَقَالُوا فِي القَوْل الآخر حكم هَذِه الْقِرَاءَة حكم الأولى فِي أَن المُرَاد نهى الْمحرم عَن الرَّفَث والفسوق وَهِي الْمعاصِي كلهَا وَبَين الله سُبْحَانَهُ بعد ذَلِك أَن الْحَج قد اتَّضَح أمره فَلَا جِدَال بِالْبَاطِلِ أَي لَا تجادلوا فِيهِ بِغَيْر حق فقد ظهر وَبَان وَهَذَا القَوْل أصح لموافقته الحَدِيث الْمُتَقَدّم فَإِن فِيهِ من حج فَلم يرْفث وَلم يفسق فَقَط وَبِكُل حَال فالحاج مَأْمُور بِالْبرِّ وَالتَّقوى وَالْبر إطْعَام الطَّعَام وإفشاء السَّلَام كَذَا روى فِي الحَدِيث وَهُوَ يتَضَمَّن الْإِحْسَان إِلَى النَّاس بِالنَّفسِ وَالْمَال وَإِذا حصل من الْحَاج المشاجرة وَالْخُصُومَة والسب فكفارته الاسْتِغْفَار وَفعل الْحَسَنَات المساحية إِلَى من جهل عَلَيْهِ وَغَيره فَيحسن إِلَيْهِ ويستغفر لَهُ وَيَدْعُو لَهُ ويداريه ويلاينه وَإِن اغتاب غَائِبا وَهُوَ لم يعلم دَعَا لَهُ وَلَا يحْتَاج إِلَى إِعْلَامه فِي أصح قولي الْعلمَاء فصل مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه تمتّع فَإِنَّهُ فسر التَّمَتُّع بِأَنَّهُ قرن بَين الْعمرَة وَالْحج وَهُوَ تمتّع يجب فِيهِ هدى التَّمَتُّع وَمن روى أَنه إفرد الْحَج فَإِنَّهُ فسره بِأَنَّهُ لم يفعل غير أَعمال الْحَج وَلم يحل من إِحْرَامه كَمَا يحل الْمُتَمَتّع

وَهنا مَسْأَلَة وَهِي أَن الْقَارِن هَل يطوف طوافين وَيسْعَى سعيين أم يَكْفِيهِ طواف وَاحِد وسعى وَاحِد فمذهب أبي حنيفَة أَنه يطوف وَيسْعَى للْعُمْرَة أَولا ثمَّ يطوف وَيسْعَى لِلْحَجِّ ثَانِيًا وَإِذا فعل مَحْظُورًا فَعَلَيهِ فديتان وَقد روى عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا وَأما الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة فعندهم وَيسْعَى مرّة وَاحِدَة وَعمل الْعمرَة دخل فِي الْحَج كَمَا يدْخل الْوضُوء فِي الْغسْل لِأَن الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة تبين أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يطف وَلم يسع إِلَّا طَوافا وَاحِدًا وسعيا وَاحِدًا وَذَلِكَ كُله قبل التَّعْرِيف فَأَما بعد التَّعْرِيف فَإِنَّهُ يطوف طواف الْحَج وَهُوَ طواف الزِّيَارَة وَهُوَ طواف الْإِفَاضَة وَهُوَ ركن الْحَج الَّذِي بِهِ تَمَامه وَلَيْسَ عَلَيْهِ بعده سعي إِلَّا أَن يكون لم يسع مَعَ طواف الْقدوم فَأَما الْمُتَمَتّع فَلَا بُد أَن يسْعَى قبل ذَلِك وَهل عَلَيْهِ سعي ثَان فِيهِ رِوَايَتَانِ هما قَولَانِ للْعُلَمَاء وَذَلِكَ لما روى أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم تمَتَّعُوا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج وَلم يسعوا بَين الصَّفَا والمروة إِلَّا مرّة وَاحِدَة مَعَ طواف الْقدوم وَهَذَا بَيَان أَن عمْرَة الْمُتَمَتّع بعض حجه كَمَا أَن وضوء المغتسل بعض غسله فَيَقَع السَّعْي عَن جملَة النّسك كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخلت الْعمرَة فِي الْحَج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَالله أعلم وَمن حج بِمَال حرَام لم يتَقَبَّل الله مِنْهُ حجَّة وَهل عَلَيْهِ الْإِعَادَة على قَوْلَيْنِ للْعُلَمَاء

فصل

فصل من ترك طواف الزِّيَارَة حَتَّى رَجَعَ إِلَى بَلَده موطىء امْرَأَته لزمَه الرُّجُوع وَالْإِحْرَام من الْمِيقَات بِعُمْرَة فَإِذا طَاف وسعى وَقصر للْعُمْرَة طَاف حِينَئِذٍ كطواف الزِّيَارَة الَّذِي تَركه نَص عَلَيْهِ أَحْمد وَغَيره بِخِلَاف من يخرج إِلَى التَّنْعِيم فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ للْعُمْرَة ذَلِك وَلَا يخرج من مَكَّة وَمن لم يُمكنهُ الطّواف إِلَّا عُريَانا فطوافه عُريَانا هُوَ من جنس صلَاته عُريَانا إِذا لم يستره وَهُوَ وَاجِب بالِاتِّفَاقِ فالطواف مَعَ العري إِذا لم يُمكنهُ إِلَّا ذَلِك أولى وَأَحْرَى وَهَذَا الْعذر نَادِر لَا يكَاد الشَّخْص يعجز عَن الستْرَة لَكِن لَو سلب ثِيَابه والقافلة خارجون وَلَا يُمكنهُ أَن يتَخَلَّف عَنْهُم فَالْوَاجِب فعل مَا قدر عَلَيْهِ من الطّواف مَعَ العري وَهُوَ الْأَظْهر وَكَذَلِكَ تَطوف الْحَائِض وَمن بِهِ سَلس الْبَوْل وَطواف الْحَائِض فَإِذا جَازَ فِي الْعُرْيَان الْعَاجِز فَهِيَ الْحَائِض إِذا عجزت وأفضى إِلَى تخلفها وَانْقِطَاع الطَّرِيق وَعدم وَمَعَهَا مُسَافر بهَا وهلاكها بذلك أولى وَأَحْرَى فَمن جعل الطَّهَارَة وَاجِبَة فِي الطّواف فَإِنَّهُ يَقُول إِذا طَاف مُحدثا وَأبْعد عَن مَكَّة لم يلْزمه الْعود للمشقه فَكيف يجب على الْحَائِض مَالا يُمكنهَا إِلَّا بِمَشَقَّة أعظم من ذَلِك وَمن جعلهَا شرطا فَلَيْسَ كَونهَا شرطا فِيهِ أعظم من كَونهَا شرطا فِي الصَّلَاة وشروط الصَّلَاة تسْقط بِالْعَجزِ فشروط الطّواف أولى وَأَحْرَى أَن تسْقط بِالْعَجزِ

فصل

فصل من اغتصب إبِلا أَو اشْتَرَاهَا بِثمن مغضوب أَو بعضه وَأَرَادَ الْحَج وَلَيْسَ لَهُ مَال يحجّ بِهِ غَيره فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ أَن يعوض أَرْبَابهَا إِن أمكن معرفتهم وَإِلَّا تصدق بِقدر قيمَة الثّمن عَنْهُم فَإِن عجز عَن الصَّدَقَة تصدق وَقت قدرته بعد ذَلِك وَإِن عرفهم فِي قَرْيَة وَلَا يعرف أعيانهم تصدق على فُقَرَاء تِلْكَ الْقرْيَة وَقد طَابَ لَهُ الْحَج وَالله أعلم وَإِذا ندب الإِمَام من يحجّ لخفارة من الْحَاج من الْجند المرتبين فِي الدِّيوَان وَأمر الْجَمَاعَة الَّذين لم يخرجُوا أَن يُعْطوا الَّذِي يحجّ مَا يَحْتَاجهُ فَلهُ أجر ذَلِك وَهُوَ حَلَال فَإِن هَذَا خرج بِنَفسِهِ وَهَؤُلَاء بِأَمْوَالِهِمْ وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي أَن يكون عدلا بَين الْجَمِيع وَسَوَاء شَرط هَذَا عَلَيْهِم فِي الإقطاع أولى وَله أجر الْحَج وَأجر الْجِهَاد بِالدفع عَن الْوَفْد وَإِقَامَة حُرْمَة الْحَج إِلَى بَيت الله تَعَالَى وَلَا يسْقط الْوُقُوف بِعَرَفَة شَيْئا من فَرَائض الْإِسْلَام الْوَاجِبَة لَا من حق الله تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَلَا من حق الْآدَمِيّين وَالْأَمْوَال وَمَكَّة لَا تشفع لأحد فصل الْأَفْضَل لمن كَانَ بِمَكَّة من مجاور ومستوطن وقادم الطّواف بِالْبَيْتِ وَهُوَ أفضل من الْعمرَة سَوَاء خرج إِلَى التَّنْعِيم أَو غَيره من أدنى الْحل أَو أقْصَى الْحل كالجعرانة وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ وَإِنَّمَا النزاع فِي أَنه هَل يكون للمكي أَن يخرج للاعتمار من الْحل أم لَا وَهل يكره أَن يعْتَمر من يشرع الله الْعمرَة كالآفاقي فِي السّنة أَكثر من عمْرَة أم لَا وَهل يسْتَحبّ الاعتمار أم لَا وَهل يكره فَهَذَا فِيهِ النزاع

فصل

وَلَا يشرع الطّواف بِغَيْر الْكَعْبَة من سَائِر الأَرْض بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَمن أَتَّخِذ ذَلِك عرف واستتيب فَإِن أصر قتل بالِاتِّفَاقِ وَهل كَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لما اعْتَمَرت من التَّنْعِيم قارنة حِين حَاضَت أَو كَانَت قد رفضت إحرامها على قَوْلَيْنِ للْعُلَمَاء وَالثَّانِي قَول أبي حنيفَة فصل لما نهى عمر رَضِي الله عَنهُ عَن الاعتمار فِي أشهر الْحَج قصد أَمرهم بالأفضل لأَنهم تركُوا الاعتمار فِي سفرة مُفْردَة فِي غير أشهر الْحَج وصاروا فِي عهد أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنهُ يقتصرون فِي الْعمرَة على الْعمرَة فِي أشهر الْحَج مَعَ الْحَج ويتركون السّفر إِلَى الْعمرَة سَائِر الْأَشْهر فَصَارَ الْبَيْت يعرى عَن الْعِمَارَة من أهل الْأَمْصَار فِي سَائِر الْحول فَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ من شفقته على رعتيه اخْتَار الْأَفْضَل لإعراضهم عَنهُ كَالْأَبِ الشفيق يَأْمر وَلَده بِمَا هُوَ الْأَصْلَح لَهُ وَهَذَا كَانَ مَوضِع اجْتِهَاد مِنْهُ لرعيته فألزمهم بذلك وَخَالفهُ عَليّ وَعمْرَان بن حُصَيْن وَغَيرهمَا من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلم يرَوا أَن يلزموا النَّاس بل يتركونهم وَمَا يختارون فَمن أحب شَيْئا عمله قبل أشهر الْحَج أَو فِيهَا وَإِن الأول أكمل وقوى النزاع فِي ذَلِك فِي خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ حَتَّى ثَبت أَنه كَانَ ينْهَى عَن الْمُتْعَة فَلَمَّا رَآهُ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أهل بهما وَقَالَ لم أكن لأدع سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْل أحد وَنهى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ عَن الْمُتْعَة لاختيار الْأَفْضَل وليعمر الْبَيْت بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ فِي كل سنة لَا نهى كَرَاهَة للْعَمَل فِي ذَاته فَلَمَّا قتل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ صَار النَّاس شيعتين قدما يميلون إِلَى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وقوما يميلون إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَصَارَ قوم من بني أُميَّة من شيعَة عُثْمَان ينهون عَن الْمُتْعَة ويعاقبون على ذَلِك وَلَا يمكنون أحدا من الْعمرَة فِي أشهر الْحَج وَكَانَ فِي ذَلِك نوع من الظُّلم وَالْجهل فَلَمَّا رأى ذَلِك عُلَمَاء الصَّحَابَة

فصل

كَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَغَيرهمَا رَضِي الله عَنْهُم جعلُوا يُنكرُونَ ذَلِك ويأمرون بِالْمُتْعَةِ اتبَاعا للسّنة فَصَارَ بعض النَّاس يناظرهم بهَا بوهمه على أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَيَقُولُونَ لِابْنِ عمر إِن أَبَاك كَانَ ينْهَى عَنْهَا فَيَقُول رَضِي الله عَنهُ إِن أبي لم يرد ذَلِك وَلَا كَانَ يضْرب النَّاس عَلَيْهَا وَيبين لَهُم أَن قصد عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ الْأَفْضَل لَا تَحْرِيم الْمَفْضُول فَكَانُوا ينازعونه فَكَانَ يَقُول لَهُم قدرُوا أَن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَانُوا يعارضونه بِمَا توهموا على أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَيَقُول لَهُم يُوشك أَن ينزل عَلَيْكُم حِجَارَة السَّمَاء أَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتقولون قَالَ أَبُو بكر وَعمر فصل فِي الصَّحِيح عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أفرد وَفِيه أَنه قرن وروى أَنه تمتّع وكل ذَلِك صَحِيح بِمَعْنى وَاحِد فَمَعْنَى أَنه قرن وتمتع وَاحِد لِأَن الْقرَان تمتّع عَام مَشْهُور والتمتع بِمَعْنى أَنه يحل من الْعمرَة ثمَّ يحجّ فِي أشهر الْحَج فِي عَام وَاحِد اصْطِلَاح خَاص وَمن روى أَنه أفرد فَمَعْنَاه أَنه لم يحل من عمرته بل أفرد أَفعَال الْحَاج وَلم يكن فِي أَفعاله زِيَادَة على عمل الْمُفْرد فَالْمَعْنى وَاحِد وَلِهَذَا كَانَ رُوَاة الْإِفْرَاد هم رُوَاة الْقُرْآن فروايات الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم متفقة وفسروا التَّمَتُّع بِالْقُرْآنِ وَرووا فِيهِ صَرِيحًا أَنه قَالَ لبيْك حجا وَعمرَة وَأَنه قَالَ أتأتي آتٍ فِي وَاد العقيق فَقَالَ قل عمْرَة وَحجَّة قَالَ الإِمَام أَحْمد رَضِي الله عَنهُ لَا شكّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارنا والتمتع أحب إِلَى أَي لمن لم يسق الْهدى فَإِنَّهُ

فصل

لَا يخْتَلف قَوْله أَنه من جمع الْحَج وَالْعمْرَة فِي سفرة وَاحِدَة وَلم يسق الْهدى أَن هَذَا التَّمَتُّع لَهُ أفضل بل هُوَ الْمَطْلُوب لأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه بذلك فَأَما من سَاق الْهدى فَهَل الْقرَان لَهُ التَّمَتُّع ذكرُوا عَنهُ رِوَايَتَيْنِ فَأَما من أفردهما فِي سفرتين أَو اعْتَمر قبل أشهر الْحَج وَأقَام إِلَى الْحَج فَهَذَا أفضل من التَّمَتُّع وَهُوَ قَول الْخُلَفَاء الرَّاشِدين رَضِي الله عَنْهُم وَقَول أَحْمد وَغَيره وَبَعض أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهم وَهل على المنتفع بعد طواف الْإِفَاضَة سعى غير السَّعْي الأول الَّذِي كَانَ عقيب طواف الْعمرَة فِيهِ قَولَانِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وَمَالك وَإِن كَانَ يخْتَار الْإِفْرَاد لمن يعْتَمر عقيب الْحَج كالمحرم وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام رَحمَه الله تَعَالَى وَلَا أحفظ قَول الشَّافِعِي فِيمَن يعْتَمر عقيب الْحَج وَإِن كَانَ من أَصْحَابه من يَجْعَل هَذَا هُوَ أفضل كَمَا يظنّ كثير من أَصْحَاب أَحْمد أَن الْمُتْعَة أفضل من الاعتمار قبل أشهر الْحَج فالغلط كثير فصل الَّذِي يَنْبَغِي أَن يُقَال إِن مَا اخْتَارَهُ الله لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الْأَفْضَل وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو اسْتقْبلت من أمرى مَا اسْتَدْبَرت لم أسق الْهدى فَهُوَ حكم مُعَلّق على شَرط وَالتَّعْلِيق على شَرط بِعَدَمِ عَنهُ عَدمه فَمَا اسْتقْبل من مرّة مَا استدبر وَقد اخْتَار لَهُ ربه أَنه لم يسْتَقْبل من أمره مَا استدبر وَلَكِن هَذَا يبين أَن الْمُوَافقَة إِذا كَانَت فِي تنويع الْأَعْمَال تفرق وَلَيْسَ هُوَ أولى من تنويعها وتنويعها هُوَ بِاخْتِيَار الْقَادِر للأفضل وَالْعَاجِز للمفضول كَمَا اخْتَار من قدر على سوق الْهدى الْأَفْضَل مِمَّن لم يقدر على سوقه مَعَ السَّلامَة وَجُمْهُور الْعلمَاء على أَن طواف القادمين أفضل من الصَّلَاة لتحية الْمَسْجِد فان تَحِيَّة الْمَسْجِد الْحَرَام هُوَ الطّواف مَعَ فضيلتها أَيْضا وَكَذَلِكَ الطّواف للقادم أفضل

صَحَّ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ حِين أَرَادَ تَقْبِيل الْحجر الْأسود إِنِّي لأعْلم أَنَّك حجر لَا تضر وَلَا تَنْفَع وَلَوْلَا أَن رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبلك لما قبلتك وَزَاد بَعضهم أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ قَالَ بل ينفع ويشفع وَهَذَا كذب وَاضح وروى الْأَزْرَقِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي ذَلِك أثرا لَكِن إِسْنَاده ضَعِيف واه وَالْبَيْت زَاده الله تَشْرِيفًا وتعظيما ومهابة وَبرا لَهُ الشّرف من وُجُوه كَثِيرَة مِنْهَا نفس الْبقْعَة شرفعها الله على غَيرهَا كَمَا شرف فِي بَقِيَّة الْأَنْوَاع بعض أشخاصها وكما خص بعض النَّاس بِنَوْع من الْفضل وَمِنْهَا أَن الله بوأه لخليلة ابراهيم خير الْبَريَّة فَلَيْسَ بعد مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل من ابراهيم الَّذِي بناه ودعا النَّاس إِلَيْهِ وَمِنْهَا أَنه جعل على النَّاس حج الْبَيْت حَتَّى حجَّة الْأَنْبِيَاء كموسى وَيُونُس وَغَيرهمَا وَفِيه آيَات كَثِيرَة مثل مقَام ابراهيم وَمثل الْأمان الَّذِي جعله للنَّاس وَالطير والوحش وَمن إهلاك الْجَبَابِرَة الَّذِي قصدُوا انتهاكه إِلَى غير ذَلِك مِمَّا فِيهِ من العلامات والدلالات على حرمته وعظمته وَمن دخله كَانَ آمنا فَلَا يقتل الْجَانِي فِيهِ عِنْد أَحْمد وَأبي حنيفَة وَكَانَ الْكفَّار يعظمونه حَتَّى ليلقى الرجل قَاتل أَبِيه فَلَا يقْتله والاسلام زَاده حُرْمَة وَأما أَن يظنّ أَن من دخله كَانَ آمنا من عَذَاب الله مَعَ تَركه الْفَرَائِض واتخاذه الأنداد من دون الله فخلاف إِجْمَاع الْمُسلمين

فصل

فصل هَل تجوز الصَّلَاة على غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِفْرَاد مثل اللَّهُمَّ صل على أبي بكر أَو عمر أَو عَليّ رَضِي الله عَنْهُم فَذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَطَائِفَة من الْحَنَابِلَة إِلَى أَن لَا يُصَلِّي على غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُفردا وَذهب الإِمَام أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه إِلَى أَنه لَا بَأْس بذلك لِأَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ لعمر بن الْخطاب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا أصح وَأولى لَكِن إِفْرَاد وَاحِد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَو من الْقَرَابَة كعلي بِالصَّلَاةِ دون غَيره مضاهاة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَيْثُ يَجْعَل ذَلِك شعارا مَقْرُونا باسمه هُوَ بِدعَة سُؤال فِي خطْبَة بَين صَلَاتَيْنِ كِلَاهُمَا لوَقْتهَا فِي سَاعَة مشكلة الْعين وَاعْتِبَار الشَّرْط فِيهَا كَمَا فِي غَيرهَا من هَيْئَة الدّين كالطهر والسترة وَالْوَقْت والقبلة أَيْضا بِالتَّأْذِينِ الْجَواب هَذِه الْمَسْأَلَة قد تنزل على عدَّة مسَائِل بَعْضهَا مُتَّفق عَلَيْهِ وَبَعضهَا متنازع فِيهِ مِنْهَا إِذا اجْتمع عيد وجمعة فَمن قَالَ إِن الْعِيد فرض يَقُول إِن خطْبَة الْجُمُعَة هِيَ خطْبَة بَين صَلَاتَيْنِ كِلَاهُمَا فرض بِخِلَاف خطْبَة الْعِيد فَإِنَّهُ يَقُول لَيست فرضا وَإِمَّا أَن ينزل على مَا إِذا عقدت جمعتان فِي مَوضِع فَلَا تصح فِيهِ جمعتان فَإِنَّهُ تصح الأولى وَتبطل الثَّانِيَة إِذا كَانَتَا بِإِذن الإِمَام فَإِن أشكل عين السَّابِق بطلتا جَمِيعًا وصلوا ظهرا فَإِن الْخطْبَة الَّتِي قبل الثَّانِيَة إِذا كَانَتَا بِإِذن الإِمَام قد

أذن فِي كل مِنْهُمَا واعتقدوا أَن الْجُمُعَة لَا تقم عِنْدهم فكلاهما يعْتَقد أَن جمعته فرض وَيُمكن أَن يُرِيد السَّائِل الْفجْر وَالْجُمُعَة فَإِن الْفجْر فرض وَقتهَا وَالْجُمُعَة فرض وَقتهَا وَبَينهمَا خطْبَة وَيُمكن أَن يُرِيد السَّائِل خطْبَة الْحَج فَإِن خطْبَة عَرَفَة تكون بَين الصَّلَاة بِعَرَفَة وَبَين صَلَاة الْمغرب فكلاهما فرض وَالْخطْبَة يَوْم النَّحْر تكون بعد الْفجْر وَالظّهْر وَكِلَاهُمَا فرض فصل دم الْمَنْفَعَة دم نسك وَهدى وَهُوَ مِمَّا وسع الله فِيهِ على الْمُسلمين فأباح لَهُم التَّحَلُّل فِي أثْنَاء الْإِحْرَام وَعَلَيْهِم مَا استبشر من الْهدى لما فِي اسْتِمْرَار الْإِحْرَام من الْمَشَقَّة فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْقصر فِي السّفر وَالْفطر وَالْمسح فَهُوَ أفضل وَلأَجل ذَلِك من سنّ لَهُم الْأكل مِنْهُ فقد أكل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هَدِيَّة وَأطْعم نِسَاءَهُ من الْهدى ذبحه عَنْهُن وَكن متمتعات وَهُوَ كَانَ مُتَمَتِّعا التَّمَتُّع الْعَام فَدلَّ على اسْتِحْبَاب الْأكل من هدى التَّمَتُّع وَدم الْجِيرَان لَيْسَ كَذَلِك وَأَيْضًا فَهُوَ بِسَبَب فعل مَحْظُور كَالْوَطْءِ وَفعل الْمَحْظُورَات أَو ترك الْوَاجِبَات والتمتع جَائِز مُطلقًا فَلَا يقْدَح دم التَّمَتُّع فِيهِ ويجعله مفضولا وَالْهدى وَإِن كَانَ بَدَلا عَن ترفهه لسُقُوط أحد السفرين فَهُوَ أفضل لمن جمع بَينهمَا وَقدم فِي أشهر الْحَج من أَن يَأْتِي بِحَجّ مُفْرد يعْتَبر عَقِيبه وَالْبدل يكون وَاجِبا كَالْجُمُعَةِ وكاليتيم للعاجز عَن اسْتِعْمَال المَاء فَإِن الْجُمُعَة وَالتَّيَمُّم وَاجِب عَلَيْهِ وَهُوَ بدل فَإِذا جَازَ كَون الْبَدَل وَاجِبا فكونه مُسْتَحبا أولى بِالْجَوَازِ وَكَذَلِكَ الْمَرِيض وَالْمُسَافر يسْتَحبّ لَهما أَن يفطرا ويقضيا وَالْقَضَاء بدل وتحلل الْإِحْلَال لَا يمْنَع أَن يكون الْجمع بِمَنْزِلَة الْعِبَادَة الْوَاحِدَة كطواف

فصل

الْفَرْض فَإِنَّهُ من تَمام الْحَج بالِاتِّفَاقِ وَلَا يفعل المتحلل الأول وكرمي الْجمار فانه من تَمام الْحَج وَإِذا طَاف قبل ذَلِك فقد رمى بعد الْحلَل التَّام وَهُوَ السّنة كَمَا فعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصَوْم رَمَضَان يَتَخَلَّل صِيَام أَيَّامه فطر اللَّيْل فصل لم يخْتَلف النَّقْل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عَن أحد من أهل الْعلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَصْحَابه بِفَسْخ الْحَج إِلَى الْعمرَة وَأَنه أَمرهم إِذا طافوا بِالْبَيْتِ وبالصفا والمروة أَن يحلوا من إحرامهم فَهُوَ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيث وَلم يَخْتَلِفُوا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعْتَمر بعد حجَّة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أحد من أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم إِلَّا عَائِشَة رصي الله عَنْهَا لَكِن تنازعوا فِي إِحْرَامه هَل كَانَ مُتَمَتِّعا أَو قَارنا أَو مُفردا أَو أحرم مُطلقًا واضطربت عَلَيْهِم الْأَحَادِيث وَهِي بِحَمْد الله متفقة لمن فيهم مرادها وَالْمَنْصُوص على أَحْمد أَنه كَانَ قَارنا وَهُوَ قَول إِسْحَاق بن رَاهْوَيْةِ وَغَيره وَهُوَ الصَّوَاب وَأول من أدعى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّمَتُّع الْخَاص القَاضِي أَبُو يعلى ثمَّ الَّذين قَالُوا إِنَّه كَانَ مُتَمَتِّعا على قَوْلَيْنِ أضعفهما أَنه حل من إِحْرَامه مَعَ سوقه الْهدى وحملوا الْهدى على أَن الْمُتْعَة كَانَت خَاصَّة وَأَنَّهُمْ حلوا من الْإِحْرَام مَعَ سوى الْهدى وَهَذِه طَريقَة القَاضِي وَهِي مُنكرَة عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء القَوْل الثَّانِي أَنه تمتّع بِمَعْنى أَنه أحرم بِالْعُمْرَةِ وَلم يحل لسوق الْهدى

وَأحرم بِالْحَجِّ بعد أَن طَاف وسعى للْعُمْرَة وَهِي طَريقَة الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الْمَقْدِسِي وَقد يسمون هَذَا قَارنا وَأما الشَّافِعِي فَقَالَ تَارَة إِنَّه أفرد وَتارَة إِنَّه تمتّع إِنَّه أحرم مُطلقًا وَأحمد يَقُول من روى الْإِفْرَاد كعائشة وَابْن عمر لكَونه أحفظ وَجَابِر قَالَ وَظن أَن الْأَحَادِيث فِيهَا مَا يُخَالف بعضة بَعْضًا خطأ فَإِن قَالَ قَائِل فَمن أَيْن أثبت حَدِيث عَائِشَة وَجَابِر وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم وَفِي الصَّحَابَة من قَالَ قرن قيل لتقدم صُحْبَة جَابر وَحسن سياقته لحجة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولفضل حفظ عَائِشَة ولقرب ابْن عمر مِنْهُ قلت وَالصَّوَاب أَن الْأَحَادِيث متفقة الْإِسْنَاد إِلَّا شَيْئا يَسِيرا وَالِاخْتِلَاف يَقع مثله فِي غير ذَلِك فقد كَانَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ينْهَى عَن الْمُتْعَة وَكَانَ على رَضِي الله عَنهُ يَأْمر بهَا فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ لقد علمت أَنا تَمَتعنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عُثْمَان أجل وَلَكِن كُنَّا خَائِفين فقد اتّفق عُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا أَنهم تمَتَّعُوا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ الصَّحِيح وَقَول عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ كُنَّا خَائِفين فَإِنَّهُم مَا كَانُوا خَائِفين إِلَّا فِي عمْرَة الْقَضِيَّة وَكَانُوا اعتمروا فِي أشهر الْحَج وكل من اعْتَمر فِي أشهر الْحَج يُسمى مُتَمَتِّعا والناهون عَن الْمُتْعَة كَانُوا ينهون عَن الْعمرَة فِي أشهر الْحَج مُطلقًا فَفِي الصَّحِيح عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ لما بلغه أَن مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ نهى عَن الْمُتْعَة قَالَ فعلناها مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا كَافِر بالعرش يَعْنِي مُعَاوِيَة

وَمَعْلُوم أَن مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ كَانَ مُسلما فِي حجَّة الْوَدَاع بل وَفِي عمْرَة الْجِعِرَّانَة عَام الْفَتْح وَلَكِن فِي عمْرَة الْقَضِيَّة كَانَ كَافِرًا بالعرش بِمَكَّة فقد سمى سعد رَضِي الله عَنهُ عمْرَة الْقَضِيَّة وَكَانُوا خَائِفين أَيْضا عَام الْفَتْح أما عَام حجَّة الْوَدَاع فَكَانُوا آمِنين وَلِهَذَا قَالُوا صلينَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى آمن مَا كَانَ النَّاس رَكْعَتَيْنِ فَلَعَلَّهُ قد اشْتبهَ حَالهم هَذَا الْعَام بحالهم ذَاك الْعَام كَمَا اشْتبهَ على من روى أَنه نهى عَن مُتْعَة النِّسَاء فِي حجَّة الْوَدَاع وَإِنَّمَا كَانَ النَّهْي عَنْهُمَا فِي غزَاة الْفَتْح وكما ظن بَعضهم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل الْكَعْبَة فِي حج أَو عمْرَة وَإِنَّمَا دَخلهَا عَام الْفَتْح وَلم يقل أحد إِنَّه دَخلهَا فِي حج وَلَا عمْرَة أَو يكون مُرَاد عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَن غَالب أهل الأَرْض كَانُوا كفَّارًا مخالفين لنا والآن فقد فتحت الأَرْض فَيمكن الْإِنْسَان أَن يذهب إِلَى مقرة ثمَّ يرجع لعمرة وَهَذَا لم يكن مُمكنا فِي حجَّة الْوَدَاع لمن كَانَ مجاور الْعَدو بِالشَّام وَالْعراق ومصر وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن مطرف بن عبد الله بن الشخير قَالَ قَالَ لي عمرَان بن حُصَيْن رَضِي الله عَنهُ أحَدثك حَدِيثا لَعَلَّ الله ينفعك بِهِ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمع بَين حجَّته وعمرته ثمَّ إِنَّه لم ينع عَنهُ حَتَّى مَاتَ وَلم ينزل فِيهِ قُرْآن يحرمه وَفِي رِوَايَة تمتّع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتمتعنا مَعَه فَهَذَا عمرَان بن حُصَيْن من أجل السَّابِقين الْأَوَّلين أخبر أَنه تمتّع وَأَنه جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة وَفِي مُسلم عَن غنيم بن قيس قَالَ سَأَلت سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ عَن الْمُتْعَة فِي الْحَج فَقَالَ فعلناها وَهَذَا كَافِر بالعرش يَعْنِي مُعَاوِيَة وَهُوَ إِنَّمَا كَانَ كَافِرًا فِي عمْرَة الْقَضِيَّة

فَكَانَ السَّابِقُونَ ينهون عَن الِاعْتِمَاد فِي أشهر الْحَج فَصَارَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم يوردون السّنة فِي ذَلِك ردا على من نهى عَن ذَلِك فالقارن عِنْدهم متمتع وَلِهَذَا وَجب على الْقَارِن أَن يهدي هَديا وَدخل فِي قَوْله تَعَالَى {فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج} وَفِي البخار عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول أَتَانِي آتٍ من رَبِّي فَقَالَ صل فِي هَذَا الْوَادي الْمُبَارك وَاديا لعتيق وَقل عمْرَة فِي حجَّة فَهَذِهِ الْأَحَادِيث صَرِيحَة فِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارنا بِلَا شكّ والقارن يسمونه مُتَمَتِّعا وَفِي الصحيحن عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة قَالَ بكر فَحَدِيث ابْن عمر قَالَ لبّى بِالْحَجِّ وَحده فَلَقِيت أنسا فَقَالَ رَضِي الله عَنهُ مَا يعدونا إِلَّا صبيانا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة جَمِيعًا وَقد روى الثِّقَات مثل سَالم روى عَن ابْن عمر أَنه قَالَ تمتّع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ بِالْعُمْرَةِ وَالْحج وَهَؤُلَاء أثبت عَن ابْن عمر من بكر وَغلط بكر أولى من غلط سَالم على أَبِيه وتغليطه هُوَ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونسبته إِلَى ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ لَهُ أفرد الْحَج فَظن هُوَ أَنه قَالَ لبّى بِالْحَجِّ فَإِنَّهُم كَانُوا يطلقون إِفْرَاد الْحَج ويريدون إِفْرَاد أَعماله وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن سَالم عَن أَبِيه رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ تمتّع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج قَالَ الزُّهْرِيّ وحَدثني عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بِمثل حَدِيث سَالم عَن أَبِيه فَهَذَا أصبح حَدِيث على وَجه الأَرْض

وَثَبت عَنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتَمر أَربع عمر الرَّابِعَة مَعَ حجَّته وَلم يعْتَمر بعد حجَّته بِاتِّفَاق الْمُسلمين فَتعين أَن يكون كَانَ تمتّع قرَان وَأما الَّذين نقلوا أَنه أفرد فيهم ثَلَاثَة عَائِشَة وَابْن عمر وَجَابِر رَضِي الله عَنْهُم وَالثَّلَاثَة نقل عَنْهُم أَنهم كَانُوا يتمتعون وَحَدِيث عَائِشَة وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج أصح من حَدِيثهمَا أَنه أفرد الْحَج وَلَئِن صَحَّ ذَلِك عَنْهُمَا فَمَعْنَاه إِفْرَاد أَعمال الْحَج وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه أَمر أَزوَاجه أَن يتحللن عَام حجَّة الْوَدَاع قَالَت حَفْصَة رَضِي الله عَنْهَا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا مَنعك أَن تحل قَالَ إِنِّي لبدت رَأْسِي وقلدت هَدْيِي فَلَا أحل حَتَّى أنحر وَفِي حَدِيث عَائِشَة وَابْن عمر رَضِي الله عَنهُ فَطَافَ بالصفا وَطَاف بالمروة ثمَّ لم يحل من شَيْء حرم مِنْهُ حَتَّى قضى حجَّة وَنحر هَدْيه يَوْم النَّحْر وأفاض بالمروة ثمَّ لم يحل من شَيْء حرم مِنْهُ حَتَّى قضى حجه وَنحر هَدْيه يَوْم النَّحْر وأفاض بِالْبَيْتِ ثمَّ حل من كل شَيْء وَفِي رِوَايَة قَالَت حَفْصَة رَضِي الله عَنْهَا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا شَأْن النَّاس حلوا وَلم تحل أَنْت من عمرتك فَقَالَ إِنِّي لبدت رَأْسِي وقلدت هَدْيِي فَلَا أحل حَتَّى أنحر فَهَذَا يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مُعْتَمِرًا وَلَيْسَ فِيهِ أَنه لم يكن مَعَ الْعمرَة حَاجا فقد تبين أَن الرِّوَايَات الْكَثِيرَة الثَّابِتَة عَن ابْن عمر وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم توَافق مَا نَقله سَائِر الصَّحَابَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مُتَمَتِّعا التَّمَتُّع الْعَام وَمن قَالَ إِنَّه أحرم مُطلقًا يحْتَج بِحَدِيث مُرْسل فَلَا يُعَارض هَذِه الْأَحَادِيث الثَّابِتَة فقد تبين أَن من قَالَ إِنَّه أفرد الْحَج وَأَرَادَ أَنه آعتمر بعد حجَّة كَمَا يَظُنّهُ بعض المتفقهة فَهَذَا مخطىء بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَأَن من قَالَ أفرد الْحَج بِمَعْنى أَنه

لم يَأْتِ مَعَ حجه بِعُمْرَة فقد اعتقده بعض الْعلمَاء فَهُوَ غلط لأَنهم اتَّفقُوا على أَنه اعْتَمر أَربع عمر الرَّابِعَة مَعَ حجه وَمن قَالَ إِنَّه أحرم إحراما مُطلقًا فَقَوله غلط لم ينْقل عَن أحد من الصَّحَابَة وَمن قَالَ إِنَّه تمتّع بِمَعْنى أَنه حل من إِحْرَامه فَهُوَ أَيْضا مخطىء بِاتِّفَاق الْعلمَاء العارفين بالأحاديث وَمن قَالَ إِنَّه قرن بِمَعْنى أَنه طَاف طوافين وسعى سعيين فقد غلط أَيْضا وَلم ينْقل ذَلِك أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فالغلط وَقع مِمَّن هُوَ دون الصَّحَابَة مِمَّن لم يفهم كَلَامهم وَأما الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فنقولهم متفقة وَمِمَّا يبين أَنه لم يطف طوافين وَلَا سعى سعيين لَا هُوَ وَلَا أَصْحَابه مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ من كَانَ مَعَه هدى فليهل بِالْحَجِّ مَعَ الْعمرَة ثمَّ لَا يحل حَتَّى يحل مِنْهُمَا جَمِيعًا وَقَالَت فِيهِ فَطَافَ الَّذين كَانُوا أهلوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة ثمَّ حَلقُوا ثمَّ طافوا آخر بعد أَن رجعُوا لحجهم وَأما الَّذين جمعُوا الْحَج وَالْعمْرَة فَإِنَّمَا طافوا طَوافا وَاحِدًا وَفِي مُسلم عَنَّا أَنَّهَا قَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم يسعك طوافك لحجك وعمرتك فَأَبت فبعثها مَعَ أَخِيهَا عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر إِلَى اتنعيم فاعتمرت بعد الْحَج وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسّنَن أَنه قَالَ لَهَا يسعك طوافك لحجك وعمرتك يَكْفِيك طوافك لحجك وعمرتك وَقد حللت من حجك وعمرتك جَمِيعًا قَالَت يَا رَسُول الله إِنِّي أجد فِي نَفسِي أَنِّي لم أطف بِالْبَيْتِ حَتَّى حججْت قَالَ فَاذْهَبْ بهَا يَا عبد الرَّحْمَن فأعمرها من التَّنْعِيم وَذَلِكَ لَيْلَة الحصبة فقد أخْبرت أَن الَّذين قرنوا لم يطوفوا بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة إِلَّا الطّواف

فصل

الأولى الَّذِي طافه المتمتعون أَولا وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهَا يسعك طوافك لحجك وعمرتك فَدلَّ على أَنَّهَا كَانَت قارنة وَأَنه أجزأها طواف وَاحِد وسعي وَاحِد كالمفرد لَا سِيمَا وَهِي لم تطف أَولا طواف قدم بل وَلم تطف إِلَّا بعد التَّعْرِيف وسعت مَعَ ذَلِك وَإِذا كَانَ طواف الْإِفَاضَة وَالسَّعْي بعده يَكْفِي الْقَارِن فَلِأَن يَكْفِيهِ طواف الْقدوم مَعَ طواف الْإِفَاضَة وسعى وَاحِد مَعَ أَحدهمَا بطرِيق الأولى وَقد صحّح عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ دخلت الْعمرَة فِي الْحَج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَإِذا دخلت الْعمرَة فِي الْحَج لم يحْتَج إِلَى عمل زَائِد لَهَا فقد تبين أَن من سَاق الْهدى فالقرآن لَهُ أفضل وَمن لم يسْبق الْهدى فالتمتع لَهُ أفضل كَمَا عَلَيْهِ عَامَّة أَصْحَاب الحَدِيث كأحمد وَغَيره وَالله أعلم فصل قَالَ الله تَعَالَى {قل هَذِه سبيلي أَدْعُو إِلَى الله على بَصِيرَة أَنا وَمن اتبعني} فالدعوة إِلَى الله هِيَ الدعْوَة إِلَى الْإِيمَان بِهِ وَبِمَا جَاءَت بِهِ رسله وَذَلِكَ يتَضَمَّن الدعْوَة إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَصَوْم رَمَضَان وَحج الْبَيْت وَالْإِيمَان بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله والبعث بعد الْمَوْت والايمان بِالْقدرِ خَيره وشره والدعوة إِلَى أَن يعبد العَبْد ربه كَأَنَّهُ يرَاهُ فَإِن الدَّرَجَات الثَّلَاث وَهِي الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَالْإِحْسَان دَاخِلَة فِي الدّين وأصل الدّين عبَادَة الله وَحده لَا شريك لَهُ كَمَا اتّفق على ذَلِك جَمِيع الرُّسُل قَالَ تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول إِلَّا نوحي إِلَيْهِ أَنه لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدون}

فالدين وَاحِد وَإِنَّمَا تنوعت شرائع الْأَنْبِيَاء ومناهجهم قَالَ تَعَالَى {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} فالرسل متفقون فِي الدّين الْجَامِع لِلْأُصُولِ الاعتقادية والعملية فالاعتقادية الْإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله وَالْيَوْم الآخر والعملية كأعمال الْعِبَادَة الْعَامَّة الْمَذْكُورَة فِي سور الْأَنْعَام والأعراف وَبني إِسْرَائِيل كَقَوْلِه تَعَالَى {قل تَعَالَوْا أتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم} إِلَى آخر الْآيَات الثَّلَاث وَقَوله تبَارك وَتَعَالَى {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} إِلَى آخر الْوَصَايَا وَقَوله {قل أَمر رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأقِيمُوا وُجُوهكُم عِنْد كل مَسْجِد} وَقَوله {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق} فالدعوة إِلَى الله الْأَمر بِعِبَادَتِهِ وَحب كل مَا أحبه وَمن أحبه وبغض كل مَا أبغضه الله وَرَسُوله من بَاطِن وَظَاهر فَمن الدعْوَة إِلَى الله النهى عَمَّا نهى عَنهُ ولاتتم الدعْوَة إِلَى الله إِلَّا بذلك سَوَاء كَانَ من الْأَقْوَال الْبَاطِنَة أَو الظَّاهِرَة أَو من الْأَعْمَال الْبَاطِنَة أَو الظَّاهِرَة كالتصديق بِمَا أخبر بِهِ الرَّسُول من أَسمَاء الله وَصِفَاته والمعاد وَمَا أخبر بِهِ عَن ساذر الْمَخْلُوقَات كالعرش والكرسي وَالْمَلَائِكَة والأنبياء السَّابِقين وأممهم وأعدائهم كإخلاص الدّين لله وَأَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا وكالتوكل عَلَيْهِ والرجاء لِرَحْمَتِهِ وخشية غَضَبه وعذابه وَالصَّبْر لحكمه وأمثال ذَلِك وكصدق الحَدِيث وَأَدَاء الْأَمَانَة وَالْوَفَاء بالعهد وصلَة الْأَرْحَام وَحسن الْجوَار وكالجهاد فِي سَبِيل الله بِالْقَلْبِ وَالْبدن وَاللِّسَان إِذا تبين ذَلِك فالدعوة إِلَى الله وَاجِبَة على من اتبع الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على طَرِيقه وهم أمته الَّذين يدعونَ إِلَى الله تَعَالَى كَمَا دَعَا هُوَ إِلَيْهِ ويتناول الْأَمر بِكُل مَعْرُوف والنهى عَن كل مُنكر كَمَا وَصفهم الله تَعَالَى بقوله {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر}

وَهَذَا وَاجِب كفائى على كل الْأمة إِن قَامَ بِهِ طاذفة سقط عَن البَاقِينَ فمجموع أمته تقوم فِي الدعْوَة إِلَى الله تَعَالَى وَلِهَذَا كَانَ إِجْمَاعهم حجَّة قَاطِعَة فَلَا تَجْتَمِع أمته على ضَلَالَة وكل وَاحِد من الْأمة يجب عَلَيْهِ أَن يقوم من الدعْوَة بِمَا يقدر عَلَيْهِ إِذا لم يقم بِهِ غَيره فَيجب على كل من يقدر على شئ أَن يَدْعُو إِلَيْهِ من تَعْلِيم الْعلم وَالْجهَاد وَالْعَمَل وتبيين الْأَمر وَغير ذَلِك والدعوة إِلَى الله هِيَ الدعْوَة إِلَى سَبيله وسبيله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَصْدِيقه فِيمَا أخبر وطاعته فِيمَا أَمر وَقد تبين أَنَّهُمَا واجبان على كل فَرد من أَفْرَاد الْمُسلمين وجوب فرض الْكِفَايَة وَالْقِيَام بِالْوَاجِبِ من الدعْوَة والواجبة وَغَيرهَا بِثَلَاثَة شُرُوط كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث يَنْبَغِي لمن أَمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهى عَن الْمُنكر أَن يكون فقهيا فِيمَا يَأْمر بِهِ فَقِيها فِيمَا ينْهَى عَنهُ رَفِيقًا فِيمَا يَأْمر بِهِ وفيقا ينْهَى عَنهُ حَلِيمًا فِيمَا يَأْمر بِهِ حَلِيمًا فِيمَا ينْهَى عَنهُ فالتفقه ليعرف بِهِ والرفق ليسلك بِهِ وَهُوَ أقرب الطّرق تَحْصِيل الْمَقْصُود والحلم ليصير على الْأَذَى فكثيرا مَا يحصل لَهُ الْأَذَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {واصبر على مَا أَصَابَك} بعد أَن قَالَ {وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وانه عَن الْمُنكر} وَقَوله تَعَالَى لنَبيه {ولربك فاصبر} وَقَوله {واصبر على مَا يَقُولُونَ} وَهُوَ كثير فِي الْقُرْآن وَالسّنة وَلَكِن للآنر أَن يدْفع عَن نَفسه فَإِذا أَرَادَ الْمَأْمُور أَن يُؤْذِيه فَلهُ أَن يدْفع أَذَاهُ عننفسه قبل الْإِيقَاع بِهِ أما بعد وُقُوع الْأَذَى وَالتَّوْبَة فيصبر ويحلم والكمال حَال نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد ثَبت أَنه مَا انتقم لنَفسِهِ وَلَا ضرب خَادِمًا وَلَا زَوْجَة وَلَا دَابَّة وَلَا نيل مِنْهُ فانتقم لنَفسِهِ إِلَّا أَن

تنتهك حرمكات الله فَإِذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شئ حَتَّى ينْتَقم لله فالآمر الناهي إِذا نيل مِنْهُ ثمَّ تَابَ الْمَأْمُور الَّذِي قدنال مِنْهُ وَقبل الْحق فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يقْتَصّ مِنْهُ ويعقب على أَذَاهُ فَإِنَّهُ قد سقط عَنهُ بِالتَّوْبَةِ كَمَا تسْقط عَن الْكَافِر إِذا اسْلَمْ حُقُوق الله وَلم يضمن مَا أتْلفه للْمُسلمين من الدِّمَاء وَالْأَمْوَال بل أجر الْمُسلمين عَليّ الله وَلَو أسلم وَبِيَدِهِ مَال للْمُسلمين كَانَ ملكا لَهُ عِنْد الْجُمْهُور وَهُوَ الَّذِي مَضَت بِهِ السّنة وَفِي الحَدِيث الْإِسْلَام يهدم مَا كَانَ قبله وَالتَّوْبَة تهدم مَا كَانَ قبلهَا أما إِذا كَانَ الْمَأْمُور المنهى مستحلا لأَذى الْآمِر كالرافضى وَغَيره الَّذِي يسب الصَّحَابَة ويكفرهم فَإِذا تَابَ من هَذَا الِاعْتِقَاد وَصَارَ يُحِبهُمْ لم يبْق لَهُم قبله حق بل دخل حَقهم فِي حق الله تَعَالَى وَلِهَذَا كَانَ أصح قولى الْعلمَاء أَن أهل البغى لَا يضمنُون مَا أتلفوه عَليّ أهل الْعدْل وَكَذَلِكَ الْمُرْتَد وَهَذَا بِخِلَاف شَأْن من يعْتَقد أَن مَا يَفْعَله بغى وعدوان كَالْمُسلمِ إِذا ظلم الْمُسلم وَالْمُرْتَدّ الَّذِي أتلف مَالا لمُسلم وَلَيْسَ بمحارب بل هُوَ فِي الظَّاهِر مُسلم أَو معاهد فَإِن هَؤُلَاءِ يضمنُون مَا أتلفوه بالِاتِّفَاقِ فَمن اعْتقد أذي الآخر بِتَأْوِيل فَهُوَ من المتأولين وَحقّ الْآمِر الناهى دَاخل فِي حق الله تَعَالَى فَإِذا تَابَ سقط عَنهُ الحقان فَهُوَ كالحاكم إِذا اجْتهد فَأَخْطَأَ وكالمفتى وكالشاهد إِذا اجتهدوا فأخطأوا وَقد يُقَال إِنَّه سقط عَنهُ الْجَزَاء على وَجه الْقصاص الَّذِي يجب فِي الْعمد لَا فِي الْخَطَأ كَمَا تجب وكما يجب ضَمَان الْأَمْوَال الَّتِي يتلفها الصّبيان والمجانين وَالْقَاتِل خطأ الدِّيَة على عَاقِلَته وَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي ظلم خطأ لَكِن يُقَال الْفرق بَين مَا كَانَ حَقًا لله وَحقّ الآدمى تبع لَهُ أَو مَا كَانَ حَقًا لآدمى مَحْضا أَو غَالِبا وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالْجهَاد من هَذَا

الْبَاب مُوَافق لقَوْل الْجُمْهُور الَّذين يوجبون عَليّ أهل البغى ضَمَان مَا أتلفوه لأهل الْعدْل بالتأويل فَهَذَا من با الِاجْتِهَاد الَّذِي يَقع فِيهِ الْأجر عَليّ الله تَعَالَى وَهَذَا مَا يتَعَلَّق بِالْعَبدِ الْآمِر الناهي وَالْإِنْسَان قد تزين لَهُ نَفسه أَن عَفوه عَن ظالمه ذل فَتلْزمهُ أَن لَا بُد أَن يجْزِيه عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِك فقد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَحِيح ميلم ثَلَاث إِن كنت لحافا عَلَيْهِنَّ مَا زَاد الله عبدا بالغفو إِلَّا عزا وَمَا نقصت صَدَقَة من مَال وَمَا تواضع أحد لله إِلَّا رَفعه فَالَّذِي يَنْبَغِي للانسان أَن يعْفُو عَن حَقه ويتوقى حُدُود الله تَعَالَى بِحَسب الْإِمْكَان قَالَ تَعَالَى {وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} قَالَ النَّخعِيّ كَانُوا يكْرهُونَ أَن يسذلوا فَإِذا قدرُوا عفوا قَالَ الله تَعَالَى {هم ينتصرون} يمدحهم بِأَن فيهم همة الِانْتِصَار للحق وَالْحمية لَيْسُوا بِمَنْزِلَة الَّذين يعفون عَجزا وذلا بل هَذَا مِمَّا قد ذمّ بِهِ الرجل

فصل

فصل الصّفة الَّتِي كَانَت شمَالي الْمَسْجِد كَانَ ينزلها الْمُهَاجِرُونَ الْفُقَرَاء فَمن تأهل مِنْهُم أَو سَافر أَو خرج غازيا خرج مِنْهَا وَقد كَانُوا يكونُونَ فِي الْوَقْت الْوَاحِد سبعين أَو أقل أَو أَكثر وَمِنْهُم سعد بن أبي وَقاص وَأَبُو هُرَيْرَة وخبيب وسلمان الْفَارِسِي وَغَيرهم رَضِي الله عَنْهُم وَقد جمع أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى تاريخهم وهم نَحْو سِتّمائَة أَو سَبْعمِائة أَو غير ذَلِك وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين أَنهم كَانُوا كَافِرين جاهلين بِاللَّه وَرَسُوله حَتَّى هدَاهُم الله بكتابه وَرَسُوله مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبعد الْإِسْلَام كَانَ غَيرهم مِمَّن لَيْسَ من أهل الصّفة كَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُم أعلم بِاللَّه مِنْهُم وَأعظم يَقِينا من عامتهم وَكَانُوا من أعظم النَّاس جهادا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا وَصفهم الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ هم الصادقون وَالَّذين تبوؤوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبلهم يحبونَ من هَاجر إِلَيْهِم} الْآيَة وَقَالَ {للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله لَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي الأَرْض} الْآيَة وَقتل مِنْهُم يَوْم بِئْر مَعُونَة سَبْعُونَ وهم الَّذين قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الَّذين قتلوهم وَأخْبرهُ جِبْرِيل عَنْهُم وَأما وَصفهم بنهم تتقى بهم المكاره وتسد بهم الثغور وَأَنَّهُمْ أول النَّاس ورودا على الْحَوْض وَأَنَّهُمْ الشعث رُءُوسًا الذنس ثيابًا الَّذين لَا ينْكحُونَ الْمُنَعَّمَاتِ وَلَا تفتح لَهُم أَبْوَاب السدد فَذَلِك لم يكن خَاصّا بِأَهْل الصّفة بل كَانَ الْخُلَفَاء الراشدون رَضِي الله عَنْهُم وقواد الْمُسلمين من السَّابِقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم كَذَلِك يقى الله بهم الْمُسلمين

فصل

المكاره وَلم يَكُونُوا مفتونين بزينة الدُّنْيَا وزخرفها الْكَاذِب رَضِي الله عَنْهُم وَأما إِنَّهُم قبل مبعثه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا مهتدين فعلى من قَالَ هَذَا لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ بل لَا خلاف أَنهم كَانُوا كَافِرين وَكَذَلِكَ من قَالَ إِنَّهُم عرفُوا مَا أوحاه الله إِلَى نبيه لَيْلَة الْمِعْرَاج فكذب مَلْعُون قَائِله والمعراج كَانَ بِمَكَّة وَالصّفة بِالْمَدِينَةِ بعد الْمِعْرَاج بِكَثِير وَكَذَلِكَ من يَقُول إِن عمر كَانَ يكون كالزنجي بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وأنهما يتكلمان بمالا يفهم فكدب نعم كَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أقرب النَّاس إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأعلمهم بمراده لِأَنَّهُ لم يسْبقهُ إِلَى الاسلام وملازمة صَحبه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحد قطّ وَكَذَلِكَ من يَقُول إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَنا من الله والمؤمنون مني فكذب على قَائِله أَو مفتريه لَعنه الله وليتبوأ مَقْعَده من النَّار بل من اعْتقد صِحَة مَجْمُوع هَذِه الْأَحَادِيث وَجَبت استتابته فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل وَهَذَا كُله وَاضح عِنْد من عرف الله وَكَانَ مُؤمنا حَنِيفا وإنمات يَقع فِي هَذِه الجهالات من نقص علمه واستكبر على الْحق حَتَّى صَار بِمَنْزِلَة فِرْعَوْن وَالله علينما وَعَلَيْهِم شَهِيد ووكيل وحسيب فصل مَا روى أَن من وقف بِعَرَفَة غفر لَهُ ذنُوبه وَمن ظن أَنه لم يغْفر لَهُ فَلَا غفر الله لَهُ وَلَو مر بهَا راعي غنم غفر لَهُ وَإِن لم يعلم أَنه يَوْم عَرَفَة وَمَا نسبوه إِلَيّ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَوْلهم وَمن حج وَلم يزرني فقد جفاني وَمن زارني وَجَبت لَهُ شَفَاعَتِي لَيْسَ مِنْهَا حَدِيث صَحِيح بل مِنْهَا مَا مَعْنَاهُ مُخَالف للسّنة فَإِنَّهُ لَو وقف

رجل خَائِف أَن الله لَا يغْفر لَهُ ذنُوبه لم يقل أحد إِن الله لَا يغفرله فَإِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا بِالتَّوْبَةِ وَيغْفر غير الشّرك لمن يَشَاء والمسلمون متفقون على أَن من وقف بِعَرَفَة لم يسْقط عَنهُ مَا وَجب عَلَيْهِ من صَلَاة وَزَكَاة وَكَذَلِكَ حُقُوق الْعباد من الْمُسلمين بل لم يثبت عَنهُ سُقُوط شئ من الْمَظَالِم بِالْوُقُوفِ بعوفة وجفاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محرم وزيارة قَبره لَيست وَاجِبَة بِاتِّفَاق الْمُسلمين بل لم يثبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيث وَاحِد فِي زِيَارَة قَبره وَيجوز الْحَج بِمَال يُؤْخَذ على وَجه النِّيَابَة اتِّفَاقًا أما عَليّ وَجه الْإِجَازَة فَفِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء وهما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد إِحْدَاهمَا يجوز كَمَا هُوَ عِنْد الشَّافِعِي وَالْآخر لَا يجوز كَمَا عِنْد أبي حنيفَة ثمَّ إِن كَانَ قَصده الْحَج أَو نفع الْمَيِّت كَانَ لَهُ فِي ذَلِك أجر وثواب وَإِن كَانَ لَيْسَ لَهُ مقصد إِلَّا أَخذ الْأُجْرَة فَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من خلاق وَإِذا كَانَت الْمَرْأَة من الْقَوَاعِد وَقد يئست من النِّكَاح وَلَا محرم لَهَا فَيجوز لَهَا أَن تحج مَعَ من تأمنه فِي أحد قولي الْعلمَاء هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وَمذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَمن اسْتَطَاعَ الْحَج بالزاد وَالرَّاحِلَة وَجب عَلَيْهِ الْحَج بِالْإِجْمَاع فَإِن خرج عقيب ذَلِك بِحَسب الْإِمْكَان وَمَات فِي الطَّرِيق وَقع أجره على الله وَمَات غير عَاص وَإِن كَانَ فرط ثمَّ خرج بعد ذَلِك وَمَات قبل الْحَج مَاتَ عَاصِيا وَله أجر مَا فعله وَلم يسْقط عَنهُ الْفَرْض بل يحجّ عَنهُ من حَيْثُ بلغ وَفِي أحد قولي الْعلمَاء لَا يكون هَديا إِلَّا ماسيق من الْحل إِلَى الْحَرَام وسوقه من الْمِيقَات أفضل من أدنى الْحل

كتاب اللباس

كتاب اللبَاس هَذِه العمائم الَّتِي يلبسهَا النِّسَاء حرَام بِلَا ريب الَّتِي مثل أسنمة البخت لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صنفان من أمتِي لم أرهما بعد نسَاء كاسيات عاريات على رءوسهن مثل أسنمة البخت الحَدِيث وَمَا رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم سَلمَة تتعصب قَالَ لَهَا لية لَا ليتين وحياصة الذَّهَب مُحرمَة وَأما حياصة الْفضة فَفِيهَا نزاع وَأما كِتَابَة آيَة من الْقُرْآن عَلَيْهَا أَو على آلَات الْحَرْب فتشبه الْكِتَابَة على الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَلَكِن تمتاز لِأَنَّهُ يُعَاد إِلَى النَّار وَهَذَا كُله مَكْرُوه وَلبس الْحَرِير عِنْد ضَرُورَة الْقِتَال جَائِز إِذا كَانَ لَا يقوم غَيره مقَامه من دفع السِّلَاح وَأما لِبَاسه لإرهاب الْعَدو فَفِيهِ نزاع الْأَظْهر الْجَوَاز وَالْعلم الْحَرِير أَربع أَصَابِع جَائِز وَفِي الْعلم جَائِز وَفِي الْعلم الذَّهَب نزاع الْأَظْهر جَوَازه وَخَاتم الْفضة مُبَاح وَخَاتم الذَّهَب حرَام بِاتِّفَاق الْأَرْبَعَة على الرِّجَال وَتجوز تحلية السَّيْف بِيَسِير الْفضة وَفِي الذَّهَب خلاف وَالأَصَح جَوَازه وحيلة الحياصة بِيَسِير الْفضة جَائِز عَليّ الْأَصَح والكلاليب إِذا احْتِيجَ إِلَيْهَا وَكَانَت بزنة الْخَاتم كالمثقال وَنَحْوه صَحَّ فَهُوَ أولى من الْخَاتم

ويسير الذَّهَب التَّابِع لغيره كالطراز وَنَحْوه جَائِز فِي الْأَصَح من مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وقبع الْحَرِير حرَام عَليّ الرِّجَال إِجْمَاعًا وعَلى النِّسَاء لِأَنَّهُ لعن من تشبه من النِّسَاء بِالرِّجَالِ وَأما الصّبيان فَفِيهِ قَولَانِ الْأَظْهر أَنه لَا يجوز وَمَا حرم لبسه لم يحل صناعته وَلَا بَيْعه لمن يلْبسهُ من أهل التَّحْرِيم وَلَا يخيط لمن يحرم عَلَيْهِ لبسه لما فِيهِ من الْإِعَانَة على الْإِثْم والعدوان فَهُوَ مثل الْإِعَانَة على الْفَوَاحِش وَلَا يُبَاع الْحَرِير لرجل يلْبسهُ أما بَيْعه للنِّسَاء فَجَائِز وَكَذَلِكَ بَيْعه لكَافِر لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ أرسل بحلة حيرير إِلَى رجل مُشْرك وَلَا يجوز أَن يُبَاع المسترسل رلا بالسعر الَّذِي يُبَاع بِهِ غَيره فَلَا يغبن بِالرِّيحِ غبنا يخرج عَن الْعَادة وَقدره بَعضهم بِالثُّلثِ وَبَعْضهمْ بالسدس بَعضهم بِمَا جرت بِهِ الْعَادة وَالرِّيح على المتماكسين يجوز ربحه على المسترسل المسترسل فسر بِأَنَّهُ الَّذِي لَا يماكس بل يَقُول أَعْطِنِي وَبِأَنَّهُ الْجَاهِل يقيمة الْمَبِيع فَلَا يغبن غبنا فَاحِشا لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَفِي الحَدِيث غين المسترسل رَبًّا وَمن علم أَنه يغبنهم يسْتَحق الْعقُوبَة بل يمْنَع من الْجُلُوس فِي سوق الْمُسلمين وللمغبون فسخ البيع ورده وَإِذا تَابَ هَذَا الْغبن وَلم يُمكنهُ رد الْمَظَالِم فليتصدق بِمِقْدَار مَا ظلمهم بِهِ عَنْهُم لتبرأ ذَنبه من ذَلِك وَكَذَلِكَ الْمُضْطَر وَمن لَا يجد حَاجته إِلَّا عِنْد شخص لَا يَبِعْهُ إِلَّا بِأَكْثَرَ من الرِّبْح الْمُعْتَاد يَنْبَغِي لَهُ يربح عَلَيْهِ مثل مَا يربح على غير الْمُضْطَر وَلَو كَانَت الضَّرُورَة

إِلَى مَالا بدمنه مثل أَن يضْطَر النَّاس إِلَيّ ماعنده من الطَّعَام واللباس فَيجب عَلَيْهِ أَن لَا يبيعهم إِلَّا بِالْقيمَةِ الْمَعْرُوفَة بِغَيْر اخْتِيَاره وَلَا يعطوه زِيَادَة على ذَلِك والصمت وملازمة لبس الصُّوف والتعري وَالْقِيَام فِي الشَّمْس أَو لبس الليف أَو أَن يغطى وَجهه أَو يمْتَنع من أكل الْخبز وَاللَّحم أَو شرب المَاء وَنَحْوه كُله بِدعَة مَرْدُودَة لَيست من الدّين فَإِن المبتدع لذَلِك قَصده أَن يعظمه النَّاس ويزار فَلَيْسَ عمله لله وَلَا صَوَابا بل هُوَ زغل وناقص بِمَنْزِلَة خِنْزِير ميت حرَام من وَجْهَيْن فَيجب الْإِنْكَار عَليّ أهل هَذِه الْبدع بِحسن قصد بجيث يكون الْمَقْصُود طَاعَة الله وَرَسُوله لَا اتِّبَاع الْهوى وَلَا مُنَافَسَة المريدين للعظمة وَطول الْقَمِيص وَسَائِر اللبَاس لَيْسَ لَهُ أَن يَجعله أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ

كتاب البيوع

كتاب الْبيُوع من اشْترى عشرَة أَزوَاج بِثمن وَاحِد فقسم الثّمن على قدر كل وَاحِد مِنْهَا بِالْعَدْلِ وَأخْبرهُ بِصُورَة الْحَال فقد صدق وَمَتى ظهر الْمَبِيع مُسْتَحقّا فللمشترى أَن يرجع بِالثّمن عَليّ من قَبضه مِنْهُ أَو يُبدلهُ فَإِن كَانَ الْقَابِض غَائِبا إِذا قَامَت الْحجَّة وَسلم إِلَى الْمَحْكُوم لَهُ حَقه من مَال الغاذب مَعَ بَقَائِهِ على حجَّته وَمن اشْترى جَارِيَة فأبقت وَكَانَت مَعْرُوفَة بالإباق قبل ذَلِك وكتم البَائِع فَلِلْمُشْتَرِي أَن يُطَالب البَائِع بِالثّمن إِذا أبقت عِنْد المُشْتَرِي فِي أصح قولي الْعلمَاء كَمَا هُوَ مَذْهَب مَالك وَالْمَنْصُوص عَن أَحْمد وَفِي الْأُخْرَى يُطَالب بِالْأَرْشِ وَإِن حدث الْعَيْب فَلَا ردله إِلَّا عِنْد مَالك فانه قَالَ لَهُ الرَّد إِلَى تَمام ثَلَاثَة أَيَّام والبخس فِي الميكال وَالْمِيزَان من الْأَعْمَال الَّتِي أهلك الله بهَا قوم شُعَيْب والإصرار عَلَيْهِ من أعظم الكباذر وَيُؤْخَذ مِنْهُ مَا بخسه على طول الزَّمَان وَيصرف فِي مصَالح الْمُسلمين إِذا لم يُمكن إِعَادَته إِلَى أَصْحَابه وَالَّذِي بخس لغيره هُوَ من أخسر النَّاس صَفْقَة إِذْ بَاعَ آخرته بدنيا غَيره ولايحل أَن يَجْعَل بَين النَّاس وزانا يبخس أَو يحابي كَمَا لَا يحل أَن يكون بَينهم مقوم يحابي بِحَيْثُ يَكِيل أَو يزن أَو يقوم لمن يرجوه أَو يخَاف شَره أَو يكون لَهُ جاه وَنَحْوه بِخِلَاف مَا يَكِيل أَو يزن أَو يقوم لغيره أَو يظلم من يبغضه وَيزِيد من يُحِبهُ وَمن أعْتقهُ سَيّده وَهُوَ بطال وَله عائلة هَل يجوز بَيْعه أما البيع الشَّرْعِيّ فَلَا وَلَكِن إِذا انْضَمَّ إِلَيّ بعض الْمُلُوك أَو الْأُمَرَاء باسم مَمْلُوك فَيَجْعَلهُ من مماليكه الَّذين يعتقهم لَا يَتَمَلَّكهُ بِملك الأرقاء فَهَذَا يشبه

ملك السَّيِّد الأول فَإِن هَذَا الدي يَفْعَله هَؤُلَاءِ إِنَّمَا هُوَ بيع عادي وَإِطْلَاق عادي وَأكْثر المماليك ملك بَيت المَال وولاؤهم للْمُسلمين وَلَا بَأْس أَن ينضاف الْإِنْسَان إِلَيّ من يُعْطِيهِ حَقه وَعَلِيهِ طَاعَة من ولاه الله أمره وَلَا يطيعوا أحدا فِي مَعْصِيّة الله وَلَا يحل لأحد أَن يضمن من وُلَاة الْأُمُور أَن لَا يَبِيع الصِّنْف الْفُلَانِيّ إِلَّا هُوَ وَإِن كَانَ يَشْتَرِي بِمَال حَلَال جَازَ الشِّرَاء وَإِن اشْترى بِمَال من يَظْلمه فَهُوَ كالمغضوب وَحكمه ظَاهر وَإِن كَانَ أصل مَاله حَلَالا وَلَكِن ربح فِيهِ بِهَذِهِ الْمَعيشَة حَتَّى زَاد فقد صَار فِيهِ شُبْهَة إِن كَانَ الغلب حَلَالا جَازَ الشِّرَاء وَتَركه ورع وَإِن كَانَ الْغَالِب حَرَامًا فَهَل الشِّرَاء مِنْهُ حَلَال على وَجْهَيْن والنبات الَّذِي ينْبت بِغَيْر فعل الْآدَمِيّ كالكلأ ينبته الله فِي ملك الْإِنْسَان وَنَحْوه لَا يجوز بَيْعه فِي أحد قولي الْعلمَاء لَكِن إِن قصد صَاحب الأَرْض تَركهَا بِغَيْر زرع لينبت فِيهَا الْكلأ فَبيع هَذَا أسهل لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة استنباته وَإِذا دخل الْمُسلم إِلَى بِلَاد الْحَرْب بِغَيْر أَمَان فَاشْترى مِنْهُم أَوْلَادهم وَخرج إِلَى دَار الْإِسْلَام كَانُوا ملكا لَهُ بِاتِّفَاق وَله مَعَهم وَكَذَلِكَ إِن بَاعَ الْحَرْبِيّ نَفسه للْمُسلمين وَخَرجُوا بِهِ بل لَو أعْطى الحربيون أَوْلَادهم للْمُسلمين بِغَيْر ثمن وَخَرجُوا بهم ملكوهم وَكَذَا لَو سرقهم الْمُسلم أما لَو دخل بِأَمَان فَفِيهِ قَولَانِ أَحدهمَا لَهُ شِرَاء أَوْلَادهم وَالْآخر لَا يجوز وَكَذَلِكَ لَو هادن الْمُسلمُونَ أهل بَلْدَة فسباهم ثمَّ اعهم للْمُسلمين وَلَو قهر أهل الْحَرْب بَعضهم بَعْضًا أَو اشْترى بَعضهم بَعْضًا أَو سرقهم فوهبهم أَو باعهم للْمُسلمين ملكوهم

فصل فيما يجوز بيعه ومالا يجوز

فصل فِيمَا يجوز بَيْعه ومالا يجوز إِذا اتّفق أهل السُّوق أَن لَا يزِيدُوا فِي سلْعَة لَهُم فِيهَا غَرَض ليشتريها أحدهم ويتقاسموها فَهَذَا يضر بِالْمُسْلِمين أَكثر من تلقى الركْبَان أما إِذا اتّفق اثْنَان وَفِي السُّوق من يزِيد فَلَا يحرم ذَلِك لِأَن بَاب المزايدة مَفْتُوح وَلَا يجوز أَن يطْلب بالسلعة ثمنا كثيرا ليغرى الْمُشْتَرى بهَا فَيدْفَع مَا يزِيد عَليّ قمتها إِذا كَانَ جَاهِلا بِالْقيمَةِ وَهل يلْزم الْوَكِيل عُهْدَة العقد إِذا سمى موكلا على قَوْلَيْنِ هما رِوَايَتَانِ وَإِن لم يسم طُولِبَ بدرك الْمَبِيع وَالْمَاء والكلأ الَّذين يكون فِي الأَرْض الْمُبَاحَة يجوز بَيْعه بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَلَا يجوز للْمَالِك أَن يزِيد فِي السّلْعَة فانه يكون ظَالِما ناجشا بل هُوَ أعظم من نجش الْأَجْنَبِيّ فَإِنَّهُ لَا يطْلب البيع أَي نجش الْأَجْنَبِيّ إِذا لم يواطئه رب السّلْعَة وَأما الباذع رذا ناجش أَو واطأ من يناجش فَفِي بطلَان البيع قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ وَلَا يجوز خلط المَاء بِاللَّبنِ لمن يُرِيد بَيْعه وَلَو أعلم بِهِ الْمُشْتَرى فَإِنَّهُ لَا يعلم قدر مَا شابه من المَاء والشريكان فِي الْعقار وَنَحْوه يجوز لكل وَاحِد أَن يُؤَاجر للْآخر ويؤاجره لغَيرهم ويتهايآينه بِالْمَكَانِ والزمانومن المتنع من المؤاجرة والمهايأة أجبر عَلَيْهَا وَعند جُمْهُور الْعلمَاء إِلَّا الشَّافِعِي فِي الْإِجْبَار على الْمُهَايَأَة أَقْوَال ثَلَاثَة مَعْرُوفَة

باب الربا

بَاب الرِّبَا الذَّهَب المخيش بِالْفِضَّةِ رذا علم مِقْدَار مَا فِيهِ من الْفضة وَالذَّهَب فَهَل يجوز بَيْعه بِأَحَدِهِمَا إِذا كَانَ الْمُفْرد أَكثر من الَّذِي مَعَه غَيره فَهَذِهِ على ثَلَاثَة أَنْوَاع أَحدهَا أَن يكون الْمَقْصُود بيع فضَّة بِفِضَّة مُتَفَاضلا أَو بيع ذهب بِذَهَب مُتَفَاضلا وَيضم رلى الأنقص من غير جنسه حِيلَة فَلَا يجوز ذَلِك أصلا وَالثَّانِي أَن يكون الْمَقْصُود بيع أَحدهمَا أَو بيع عرض بِأَحَدِهِمَا وَفِي الْعرض مَا لَيْسَ مَقْصُودا مثل بيع السِّلَاح بِأَحَدِهِمَا وَفِيه حلية يسيرَة أَو بيع عقار بِأَحَدِهِمَا وَفِي سقفه وحيطانه أَحدهمَا وَكَذَلِكَ مثل بيع غنم ذَات صوف بصوف وَذَات لبن بِلَبن فَيجوز هَذَا عِنْد أَكثر الْعلمَاء وَهُوَ الصَّوَاب أَو بيع المخيشة بِذَهَب عِنْد السبك بِفِضَّة مثله هُوَ من هَذَا الْبَاب فَإِذا بِيعَتْ الْفضة المصنوعة المخشية بِذَهَب أوبيعت بِذَهَب مَقْبُوض جَازَ ذَلِك ورذا بِيعَتْ الْفضة المصنوعة بِفِضَّة أَكثر مِنْهَا لأجل الصِّنَاعَة لم يجز وَالثَّالِث أَن يكون كلا الْأَمريْنِ مَقْصُودا مثل أَن يكون على السِّلَاح ذهب أَو فضَّة كثير فَهَذَا إِذا كَانَ مَعْلُوم الْمِقْدَار أَو بيع بِأَكْثَرَ من ذَلِك فَفِيهِ نزاع مَشْهُور الْأَظْهر جَوَازه وَإِذا بِيعَتْ الْفضة المصنوعة بِفِضَّة أَكثر مِنْهَا لم يجز وَمن احْتَاجَ إِلَى دَرَاهِم فَاشْترى سلْعَة ليبيعها فِي الْحَال فَهُوَ مَكْرُوه فِي أظهر قولي الْعلمَاء وَأما حياصة الذَّهَب أَو الْفضة فَلَا تبَاع إِلَى أجل بِذَهَب أَو فضَّة لَكِن تبَاع بِعرْض إِلَى أجل وَمن اشْترى قمحا إِلَى أجل ثمَّ عوض البَائِع عَن الثّمن سلْعَة إِلَى أجل لم يجز وَكَذَلِكَ إِن احتال على أَن يزِيدهُ فِي الثّمن ويزيده ذَلِك فِي الْأَجَل بِصُورَة

يظْهر رباها لم يجز وَلم يكن لَهُ عِنْده إِلَّا الدّين الأول فَإِن هَذَا هُوَ الرِّبَا الَّذِي أنزل الله فِيهِ الْقُرْآن يَقُول الرجل لغريمه عِنْد مَحل الْأَجَل تقضى أَو تربى فَإِن قَضَاهُ وَإِلَّا زَاده هَذَا فِي الْأَجَل فَحرم الله ذَلِك وآذن بِحَرب من لم ينْتَه عَنهُ وَمن تدين من رجل دينا فَدخل بِهِ السُّوق فَاشْترى شَيْئا بِحَضْرَة الرجل ثمَّ بَاعه عَلَيْهِ بفائدة فَهِيَ على ثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أَن يكون بَينهم مواطأة لفظية أَو عرفية على أَن يَشْتَرِي السّلْعَة من رب الْحَانُوت ثمَّ يَبِيعهَا للْمُشْتَرِي ثمَّ تُعَاد إِلَى صَاحب الْحَانُوت فَلَا يجوز ذَلِك الثَّانِي أَن يَشْتَرِيهَا مَعَه ثمَّ يُعِيدهَا إِلَيْهِ فَلَا يجوز لحَدِيث أم ولد زيد ابْن أَرقم رَضِي الله عَنهُ الثَّالِث أَن يَشْتَرِي السّلْعَة شِرَاء ثَابتا ثمَّ يَبِيعهَا للمستدين ثَانِيًا فيبيعها أَحدهمَا فَهَذِهِ تسمى التورق لِأَن غَرَض المُشْتَرِي هُوَ الْوَرق فَيَأْخُذ مائَة وَيبقى عَلَيْهِ مائَة وَعِشْرُونَ مثلا فقد نَازع فِي ذَلِك السّلف والأقوى أَنه ينْهَى عَنهُ قَالَ عمر بن الْعَزِيز التورق رَبًّا فَإِن الله حرم أَخذ دَرَاهِم بِدَرَاهِم أَكثر مِنْهَا إِلَى أجل لما فِي ذَلِك من ضَرَر الْمُحْتَاج وَأكل مَاله بِالْبَاطِلِ وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي هَذِه الصُّورَة وَإِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَالَّذِي أَبَاحَهُ الله للْبيع وَالتِّجَارَة وكل قرض جر مَنْفَعَة فَهُوَ رَبًّا كَمَا يقْرض صناعه ليحابوه بِالْأُجْرَةِ أَو يقْرضهُ مَائه ويبيعه سلْعَة تَسَاوِي مائَة بِمِائَة وَخمسين وَنَحْو ذَلِك فَهُوَ رَبًّا وَيجب على الْمُقْتَرض أَن يُوفي الْمقْرض فِي الْبَلَد الَّذِي اقْترض فِيهِ وَلَا يكلفه شَيْئا من مُؤنَة السّفر إِلَى بلد آخر وَمؤنَة حمل ذَلِك فَإِن قَالَ مَا أوفيك إِلَّا فِي بلد أُخْرَى كَانَ عَلَيْهِ مُؤنَة الْمقْرض وَمَا يُنْفِقهُ على الْمَعْرُوف وَلَا يجوز الْوَفَاء فُلُوسًا إِلَّا برضى البَائِع وَإِذا وفاه فُلُوسًا فَلَا يكون إِلَّا بالسعر الْوَاقِع أما النَّقْد ان فَيجوز اسْتِيفَاء النَّقْدَيْنِ أَحدهمَا عَن الآخر كاستيفاء

أَحدهمَا عَن نَفسه فَلَا يكون ذَلِك من بَاب الْمُعَارضَة وَلَا يجوز فِيهِ الزِّيَادَة بِالشّرطِ كَمَا لَا يجوز فِي الْقَرْض وَنَحْوه مِمَّا يُوجب الْمُمَاثلَة فَإِن اتفقَا على أَن يُوفي أَحدهمَا أَكثر من قِيمَته كَانَ كالانفاق أَن يُوفي عَنهُ أَكثر مِنْهُ من جنسه بِخِلَاف الزِّيَادَة من غير شَرط وعَلى هَذَا فالفلوس النافقة قد يكون فِيهَا شوب قوي من الأتمان فيوفيها على أحد النَّقْدَيْنِ كتوفية أَحدهمَا عَن صَاحبه وَإِذا قوم السّلْعَة بِقِيمَة حَالَة ثمَّ بَاعهَا إِلَى أجل بِأَكْثَرَ من ذَلِك فَهَذَا مَنْهِيّ عَنهُ فِي أصح قولي الْعلمَاء كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ إِذا أسلمت بِنَقْد ثمَّ بِعْت بِنَقْد فَلَا بَأْس وَإِذا أسلمت بِنَقْد ثمَّ بِعْت نَسِيئَة بِأَكْثَرَ من الثّمن فَهَذَا هُوَ الرِّبَا إِذا كَانَ لَهُ عَليّ رجل دَرَاهِم مُؤَجّلَة فباعة بِأَقَلّ مِنْهَا حَالَة فَهَذَا رَبًّا وَإِن كَانَت حَالَة فَأخذ الْبَعْض وأبرأه من الْبَعْض فقد أحسن وأجره على الله وَإِذا ابتيعت أسورة ذهب بِذَهَب أوفضة إِلَى أجل لم يجز بِاتِّفَاق الْعلمَاء بل يجب رد الأسورة إِن كَانَت بَاقِيَة ورد بدلهَا إِن كَانَت فَائِتَة وَمن قَالَ لتاجر أَعْطِنِي هَذِه السّلْعَة فَقَالَ التَّاجِر مشتراها ثَلَاثُونَ وَمَا أبيعها إِلَّا بِخَمْسِينَ إِلَى أجل فَهِيَ على ثَلَاثَة أَنْوَاع أَحدهَا أَن يكون مَقْصُوده السّلْعَة ينْتَفع بهَا للْأَكْل أَو الشّرْب أَو اللّبْس وَنَحْوه وَالثَّانِي أَن يكون مَقْصُوده التِّجَارَة فهذان جائزان بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَلَا بُد من مُرَاعَاة الشُّرُوط الشَّرْعِيَّة فَإِذا كَانَ المُشْتَرِي مُضْطَرّا لم يجز أَن يُبَاع إِلَّا بِقِيمَة الْمثل مثل أَن يضْطَر الْإِنْسَان إِلَى شِرَاء طَعَام لَا يجده إِلَّا عِنْد شخص فَعَلَيهِ أَن يَبِيعهُ إِيَّاه بِقِيمَة الْمثل فَأن أَبى أَن يَبِيعهُ إِلَّا بِأَكْثَرَ فَلِلْمُشْتَرِي

فصل

أَخذه قهرا بِقِيمَة الْمثل وَإِذا أعطَاهُ إِيَّاه لم يجب عَلَيْهِ إِلَّا قيمَة الْمثل وَإِن بَاعه إِيَّاه إِلَى أجل بَاعه بِالْقيمَةِ إِلَى ذَلِك الْأَجَل وَيَأْخُذ قسطا من الثّمن وَالنَّوْع الثَّالِث أَن يكون المُشْتَرِي إِنَّمَا يُرِيد دَرَاهِم مثلا ليوفي بهَا دينه فيتفقان على أَن يُعْطِيهِ مثلا الْمِائَة بِمِائَة وَعشْرين إِلَى أجل فَهَذَا منهى عَنهُ فَإِن اتفقَا على أَن يُعِيد السّلْعَة إِلَيْهِ فَهُوَ بيعان فِي بيعَة وَإِن أدخلا بَينهمَا ثَالِثا فيشتري مِنْهُ السّلْعَة ثمَّ تُعَاد إِلَيْهِ فَكَذَلِك وَإِن بَاعه وأقرضه فَكَذَلِك وَإِن كَانَ المُشْتَرِي يَأْخُذ السّلْعَة فيبيعها فِي مَوضِع آخر فيشتريها بِمِائَة ويبيعها بتسعين لأجل الْحَاجة إِلَى الدَّرَاهِم فَهِيَ مَسْأَلَة التورق وَفِيه نزاع والأقوى أَنه منهى عَنهُ وَأَنه أصل الرِّبَا كَمَا قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَطَائِفَة الْمَالِكِيَّة وَغَيرهم وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد وَرخّص فِيهِ آخَرُونَ والأقوى كَرَاهَته وَالله أعلم فصل مَا يصنعه ابْن آدم من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَغَيرهمَا من أَنْوَاع الْجَوَاهِر وَالطّيب واللؤلؤ والياقوت والمسك والعنبر وَمَاء الْورْد وَغير ذَلِك كُله لَيْسَ بِمثل مَا يخلقه الله من ذَلِك بل هُوَ مشابه لَهُ من بعض الْوُجُوه لَيْسَ هُوَ مُسَاوِيا لَهُ لَا فِي الْحَد وَلَا فِي الْحَقِيقَة وَذَلِكَ محرم فِي الشَّرْع بِلَا نزاع بَين الْعلمَاء الَّذين يعلمُونَ حَقِيقَة ذَلِك وَحَقِيقَة الكيمياء تَشْبِيه الْمَصْنُوع بالمخلوق وَهُوَ بَاطِل فِي الْعقل وَالله تَعَالَى لَيْسَ كمثله شَيْء لَا فِي ذَاته وَلَا فِي صِفَاته وَلَا فِي أَفعاله فَلَنْ يقدر الْعباد أَن يصنعوا مثل مَا خلق وَمَا يصنعونه لم يخلق لَهُم مثله فَلم يخلق طَعَاما مخلوقا وَلَا ثوبا منسوجا وَقد اسْتَقر أَن الْمَخْلُوق لَا يكون مصنوعا والمصنوع لَا يكون مخلوقا عِنْد

الْمُسلمين وَعند أَوَائِل الفلاسفة الَّذين تكلمُوا فِي الطبائع قَالَ الله تَعَالَى {أم جعلُوا لله شُرَكَاء خلقُوا كخلقه فتشابه الْخلق عَلَيْهِم قل الله خَالق كل شَيْء} وَفِي الصَّحِيح عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يروي عَن ربه وَمن أظلم مِمَّن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا بعوضة الحَدِيث وَقد لمن المصورين وَقَالَ من صور صُورَة كلف أَن ينْفخ فِيهَا الرّوح وَلَيْسَ بنافخ وَقَالَ أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة الَّذين يضاهون خلق الله وَلَيْسَ فِي التَّصْوِير تلبيس وَأَن كل أحد يعلم أَن صُورَة الْحَيَوَان المصورة لَيست حَيَوَانا وَلِهَذَا يفرق فِي التَّصْوِير فَيجوز تَصْوِير الشّجر والمعادن فِي الثِّيَاب والحيطان وَلِهَذَا قَالَ جِبْرِيل مر بِالرَّأْسِ فليقطع وَنَصّ الْأَئِمَّة على ذَلِك وَقَالُوا الصُّورَة بِلَا رَأس لَا يبْقى فِيهَا حَيَاة فَتبقى مثل الجمادات وَأما الكيمياء فَإِنَّهَا غش وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غَشنَا فَلَيْسَ منا وَلم يكن من الْأَنْبِيَاء وَلَا الصَّالِحين وَلَا الْعلمَاء من هُوَ من أهل الكيمياء وأقدم من يحْكى عَنهُ ممارسة الكيمياء خَالِد بن يزِيد بن مُعَاوِيَة وَلَيْسَ هُوَ مِمَّن يَقْتَدِي بِهِ الْمُسلمُونَ فِي دينهم فَإِن ثَبت النَّقْل عَن جَعْفَر الصَّادِق فقد دلّس عَلَيْهِ فَإِنَّهَا على مَرَاتِب مِنْهَا مَا يفْسد بعد بضع سِنِين أَو أَكثر كَمَا دلّس على غَيره كمحمد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ المتطبب وَكَانَ من المصححين لَهَا وَمَا أعلم الْأَطِبَّاء الإسلاميين من كَانَ فِيهَا مِنْهُ وَهِي أَشد تَحْرِيمًا من الرِّبَا وَمن قَالَ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَملهَا فَقَوله مُسْتَلْزم للكفر وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول {لَا أجد مَا أحملكم عَلَيْهِ} وَكَانَ يُمكنهُ أَن يعْمل الكيمياء على قَول هَذَا المفتري وَيكون عِنْده مَا يحملهم عَلَيْهِ وَكَثِيرًا مَا ينضاف إِلَيْهِ السحر كَمَا كَانَ ابْن سبعين والسهروردي وَالْحُسَيْن

فصل

الحلاج المقتولان على الزندقة وَالسحر من الْكَبَائِر والكيمياء من السحر فصل بيع الدَّرَاهِم بأنصاف أَصله مَسْأَلَة مد عَجْوَة وَهِي ثَلَاثَة أَقسَام يجمعها بيع رِبَوِيّ بِجِنْسِهِ ومعهما أَو مَعَ أَحدهمَا صنف آخر من غير جنسه الْقسم الأول أَن يكون الْمَقْصُود بيع رِبَوِيّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا أَو يضم إِلَى الْأَقَل غير الْجِنْس حِيلَة مثلي ألفي دِينَار بِأَلف دِينَار ومنديل فَالصَّوَاب فِي مثل هَذَا الْجَزْم بِالتَّحْرِيمِ كَمَا هُوَ مَذْهَب أَحْمد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِلَّا فَلَا يعجز أحد عَن رَبًّا الْفضل الْقسم الثَّانِي أَن يكون الْمَقْصُود بيع غير رِبَوِيّ وَإِنَّمَا دخل الرِّبَوِيّ ضمنا وتبعا كَبيع شَاة ذَات صوف وَلبن بِشَاة ذَات صوف وَلبن أَو سيف فِيهِ فضَّة يسيرَة بِسيف أَو غَيره فِيهِ فضَّة أَو دَار مموهة بدار مموهة فَهُنَا الصَّحِيح فِي مَذْهَب مَالك وَأحمد الْجَوَاز وَكَذَلِكَ لَو كَانَ الْمَقْصُود بيع الرِّبَوِيّ بِغَيْر الرِّبَوِيّ مثل بيع الدَّار وَالسيف بِذَهَب أَو بَيْعه بِجِنْسِهِ وهما يتساويان وَمَسْأَلَة الدَّرَاهِم المغشوشة فِي زَمَاننَا من هَذَا الْبَاب فَإِن الْفضة الَّتِي فِي أحد

الدرهمين مثل الْفضة الَّتِي فِي الدِّرْهَم الآخر والنحاس تَابع غير مَقْصُود وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيح جَوَاز ذَلِك بِخِلَاف الْقسم الثَّالِث وَهُوَ مَا إِذا كَانَ كِلَاهُمَا مَقْصُودا مثل بيع مد عَجْوَة وَدِرْهَم بمدين ودرهمين أَو بيع دِينَار بِنصْف دِينَار وَعشرَة دَرَاهِم ورطل نُحَاس بِعشْرَة دَرَاهِم ورطلي نُحَاس فَمثل هَذِه فِيهَا نزاع مَشْهُور فَأَبُو حنيفَة يجوزه وَقَالَ فِي مَوضِع اخر وَهُوَ الْأَشْبَه إِذا لم تشتبه بالربا وَالْأَصْل حمل الْعُقُود على الصِّحَّة فَحصل أَن مَسْأَلَة بيع الدَّرَاهِم النقرة الَّتِي ثلثهَا فضَّة بالسود الَّتِي ربعهَا فضَّة مخرجة على مَسْأَلَة مد عَجْوَة وَالنَّاس بَين مفرط ومفرط ومتوسط فَإِذا كَانَ الْمَقْصُود بيع الرِّبَوِيّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا فَحَرَام وَإِن كَانَ الْمَقْصُود البيع الْجَائِز وَمَا فِيهِ من رِبَوِيّ تبع فَالصَّوَاب جَوَازه كَمَا جَازَ فِي بيع الثَّمَرَة قبل بَدو صَلَاحهَا تبعا وَأما إِن كَانَ كلا الصِّنْفَيْنِ مَقْصُودا فَفِيهَا النزاع الْمَشْهُور مِنْهُم من حرمه لكَونه ذَرِيعَة إِلَى الرِّبَا وَلكَون الصّفة الْمُشْتَملَة على عوضين يقسم الثّمن عَلَيْهَا بِالْقيمَةِ وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى يجوز إِذا كَانَ الْمُفْرد أَكثر وَجوز أَبُو حنيفَة بيع النقرة بالنقرة والمغشوشة والنقرة بِالسَّوْدَاءِ إِذا لم يقْصد بيع فضَّة مُتَفَاضلا يخرج على النزاع الْمَشْهُور فِي مد عَجْوَة وَالشَّافِعِيّ يحرمه وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ وَمَالك يفصل بَين الثَّلَاث وَغَيرهَا

كتاب الأطعمة وغيرها

كتاب الْأَطْعِمَة وَغَيرهَا إِذا بَاعَ الرجل سلْعَته وَأخذ عَلَيْهِ مكس من البَائِع أَو من المُشْتَرِي لم يحرم ذَلِك السّلْعَة وَلَا الشِّرَاء لَا على بَائِعهَا وَلَا على مشتريها وَلَا شُبْهَة فِي ذَلِك أصلا وَلَو كَانَ الْمَأْخُوذ بعض السّلْعَة كسواقط الشَّاة مثلا وَأما إِذا ضمن نوعا من السّلع لَا يَبِيعهَا إِلَّا هُوَ فَهُوَ ظَالِم وَهَذَا نَوْعَانِ مِنْهُم من يسْتَأْجر حانوتا بِأَكْثَرَ من قيمتهَا إِمَّا لمقطع أَو غَيره على أَن لَا يَبِيع فِي الْمَكَان إِلَّا هُوَ وَيجْعَل عَلَيْهِ مَالا يُعْطِيهِ لمقطع أَو غَيره بِلَا اسْتِئْجَار حَانُوت وَلَا غَيره فكلاهما ظَالِم النَّوْع الثَّانِي أَن يكون عَلَيْهِم ضَمَان لَكِن يلتزمونه بِالْبيعِ للنَّاس كالطحانين والخبازين وَنَحْوهم مِمَّن لَيْسَ عَلَيْهِم وَظِيفَة كمن عَلَيْهِ أَن يَبِيع كل يَوْم شَيْئا مُقَدرا وَيمْنَعُونَ من سواهُم من البيع وَلِهَذَا جَازَ التسعير على هَؤُلَاءِ وَإِن لم يجز التسعير على الْإِطْلَاق فَإِنَّهُم قد وَجَبت عَلَيْهِم الْمُبَايعَة لهَذَا الصِّنْف وَمنع غَيرهمَا عَن ذَلِك فَلَو مكنوا أَن يبيعوا بِمَا شَاءُوا كَانَ ظلما للْمَسَاكِين بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ النَّاس كلهم متمكنين من ذَلِك لَكِن لم يجز أَن يلزموا أَن يبيعوا بِدُونِ ثمن الْمثل كَمَا لَا يبيعون بِمَا شَاءُوا وَهل يجوز أَن يلزموا بِمثل ذَلِك فَيُقَال أما إِذا اخْتَارُوا أَن يلزموا بِمَا يحْتَاج النَّاس إِلَيْهِ من تِلْكَ المبيعات وَألا يبيعوا إِلَّا بِقِيمَة الْمثل على أَن يمْنَع غَيرهم من البيع وَمن اخْتَار الدُّخُول دخل مَعَهم فِي ذَلِك إِن أمكن فَهَذَا لَا يبين تَحْرِيمه بل قد يكون فِيهِ مصلحَة عَامَّة للنَّاس فهم لم يلزموا بل دخلُوا باختيارهم وَمنع غَيرهم لمصْلحَة عَامَّة النَّاس فَإِن دخل فِي هَذِه الْمصلحَة مكن وَقد يُقَال هَذَانِ نَوْعَانِ من الظُّلم إِلْزَام لشخص أَن يَبِيع وَأَن يكون

بَيْعه بِثمن الْمثل وَفِي هَذَا فَسَاد وَحِينَئِذٍ فَإِن كَانَ أَمر النَّاس صَالحا بِدُونِ هَذَا لم يجز احْتِمَال هَذَا بِلَا مصلحَة راجحة وَأما أَن كَانَ بِدُونِ هَذَا لَا يحصل للنَّاس مَا يكفيهم من الطَّعَام وَنَحْوه أَو لَا يكون ذَلِك إِلَّا بأثمان مُرْتَفعَة وَبِذَلِك يحصل مَا يكفيكم بِثمن الْمثل فَهَذِهِ الْمصلحَة الْعَامَّة يفْتَقر فِي جَانبهَا مَا ذكر من المتع وَأما إِذا ألزم النَّاس بذلك فَفِيهِ تَفْصِيل فَإِن النَّاس إِذا اضطروا إِلَى مَا عِنْد الْإِنْسَان من السّلْعَة وَالْمَنْفَعَة وَجب عَلَيْهِ أَن يبذلها لَهُم بِقِيمَة الْمثل وَيمْنَع أَن لَا يَبِيع سلْعَة حَتَّى يَبِيع مِقْدَار معينا وتفصيل ذَلِك لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه إِذا تبين ذَلِك فَالَّذِي يضمن كُله من الكلف على أَن لَا يَبِيع السّلْعَة إِلَّا هُوَ ويبيعها بِمَا يخْتَار لَا ريب أَنه من جنس الكلف السُّلْطَانِيَّة وسبيل أهل الْوَرع لَا يَأْكُلُون من الشِّرَاء المضمن أَو الْملح المضمن فَإِنَّهُ مَكْرُوه لأجل الشُّبْهَة فَإِنَّهُ إِذا كَانَ لَا يَبِيع إِلَّا هُوَ بِمَا يخْتَار صَار كَأَنَّهُ يكره النَّاس على الشِّرَاء مِنْهُ فَيَأْخُذ مِنْهُم أَكثر مِمَّا يجب عَلَيْهِم ويختلط بِمَالِه فَيكون بِمَالِه شُبْهَة وَمن أحد ذَلِك من الْمُبَاح وَإِن كَانَ إِنَّمَا بِضَمَان فَلَيْسَتْ كَغَيْرِهَا فَإِن أصل الْملح مُشْتَرك بَين النَّاس وَلَا يحرم شِرَاؤُهُ لِأَن المُشْتَرِي لَا يظلم أحد والمباح لم يملكهُ بِمَالِه فَيجوز للْمُشْتَرِي دفع المَال ليَأْخُذ مَا كَانَ لَهُ أحد بِغَيْر شَيْء كَمَا لَا يجوز أَن يَشْتَرِي الرجل ملكه المغضوب من غاضبه وَله بذل ثمنه وَإِن حرم على البَائِع كَمَا يجوز رشوة الْعَامِل ليدفع الظُّلم عَن نَفسه لَا لمنع الْحق وإرشاؤه حرَام فِيهَا وَكَذَلِكَ الْأَسير وَالْعَبْد الْمُعْتق وَالزَّوْجَة الْمُطلقَة إِذا أنكر الآسر وَسيد العَبْد وَالزَّوْج الْمُطلق جَازَ لَهُم دفع شَيْء ليقروا بِالْحَقِّ وَإِن حرم على الْآخِذ وَنَحْو ذَلِك وَمَا وَفِي الْعرض بِهِ صَدَقَة وَلَو أعْطى الرجل شَاعِرًا لِئَلَّا يكذب عَلَيْهِ يهجو أَو غَيره أَو لِئَلَّا يَقُول فِي عرضه مَا يحرم عَلَيْهِ كَانَ بذله لذَلِك جَائِزا وَأما أَخذ الشَّاعِر ذَلِك لِئَلَّا يَظْلمه فَحَرَام لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِ ترك ظلمه وَترك الْكَذِب عَلَيْهِ بِلَا عوض فَإِذا لم يتْركهُ

إِلَّا بِمَال كَانَ حَرَامًا تسميه الْعَامَّة قطع مصانعه فالمباحات الَّتِي يشْتَرك فِيهَا الْمُسلمُونَ كالصيود الْبَريَّة والبحرية والمعادن إِذا تحجرها السُّلْطَان وَأمر أَن لَا يَأْخُذهَا إِلَّا نوابه وتباع للنَّاس لم يحرم على النَّاس شراؤها ونواب السُّلْطَان يستخرجونها بأثمانها الَّتِي أخذوها ظلما وَنَحْو ذَلِك من الظُّلم قبل تِلْكَ الْأَمْوَال أخذت من الْمُسلمين ظلما فالمسلمون هم المظلومون وَذَلِكَ لَا يحرم عَلَيْهِم مَا كَانَ حَلَالا لَهُم وَهَذَا طَاهِر فِيمَا إِذا كَانَ الظُّلم مناسبا مثل أَن يُبَاع كل مِقْدَار بِثمن معِين وَيُؤْخَذ من تِلْكَ الْأَثْمَان مَا يسْتَخْرج بِتِلْكَ الْمُبَاحَات بِدُونِ الْمُعَامَلَة بالأموال السُّلْطَانِيَّة الْمُشْتَركَة أما لَو سخر نواب السُّلْطَان بِغَيْر حق من يسْتَخْرج تِلْكَ الْمُبَاحَات فَهَذِهِ بِمَنْزِلَة أَن يغْضب من يطْبخ لَهُ طَعَاما أَو ينسج لَهُ ثوبا أَو يطْبخ بحطب مغضوب فَهَذَا فِيهِ شُبْهَة وَطَرِيقَة التَّخَلُّص أَن ينظر النَّفْع الْحَاصِل فِي تِلْكَ الْعين ويقدره بِعَمَل الْمَظْلُوم فيعطيه أجرته وَإِن تعذر معرفَة الْمَظْلُوم تصدق بهَا عَنهُ كَمَا لَو اخْتَلَط مَاله بِمَا غَضَبه فَلَا يُوجب تَحْرِيم كل مَاله عَلَيْهِ لِأَن الْمُحرمَات نَوْعَانِ محرم عَلَيْهِ لوصفه وعينه كَالدَّمِ وَالْميتَة فَهَذَا إِن اخْتَلَط بالمائع وَظهر فِيهِ حُرْمَة ومحرم لكسبه كالنقدين والحبوب الثِّمَار وَأَمْثَاله فَهَذَا لَا تحرم أعيانه تَحْرِيمًا مُطلقًا بل تحرم على آخذها ظلما أَو بِوَجْه محرم فَإِذا الرجل مِنْهَا شَيْئا وخلطه بِمَالِه فَالْوَاجِب إِخْرَاج قدره وَمَا بَقِي من مَاله حَلَالا فَهُوَ حَلَال لَهُ وَلَو أخرج مثل الْحَرَام من غَيره فَفِيهِ وَجْهَان لأَصْحَاب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَهَذَا أصل فِيمَا يحصل فِي يَد الْإِنْسَان من وَدِيعَة وعارية وغصوب لَا يعرف صَاحبهَا يتَصَدَّق بِهِ عَنهُ فِي مصَالح الْمُسلمين على مَذْهَب مَالك وَأحمد وَأبي حنيفَة وَغَيرهم وَيجوز للْفُقَرَاء أَخذهَا فَإِن الْمُعْطى نَائِب صَاحبهَا بِخِلَاف من تصدق من غلُول وَهُوَ الَّذِي يحوز المَال وَيتَصَدَّق بِهِ مَعَ إِمْكَان رده أَو يتَصَدَّق بِهِ صَدَقَة

فصل

متقرب فَهُوَ كَمَاله وَأما ذَاك فَيتَصَدَّق صَدَقَة متحرج متأتم بِمَنْزِلَة أَدَاء الَّذين وَأَدَاء الْأَمَانَة إِلَى أَصْحَابه وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود وَمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اللّقطَة فَإِن جَاءَ رَبهَا وَإِلَّا فَهِيَ مَال الله يؤتيه من يَشَاء فَجَعلهَا للملتقط إِذا تعذر معرفَة صَاحبهَا وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي جَوَاز صدقته بهَا وَإِنَّمَا نزاعهم فِي جَوَاز تملكه لَهَا مَعَ الْغَنِيّ وَالْجُمْهُور على جَوَازه مَعَ الْجَزْم بِأَنَّهَا سَقَطت من مَالك فَكيف بِمَا يجهل فِيهِ ذَلِك فصل فِي كلب نزا على نعجة فَولدت خروفا نصفه كلب وَنصفه خروف وَهُوَ نِصْفَانِ بالطول لَا يُؤْكَل مِنْهُ شَيْء وَإِن كَانَ مهْرا وَلِأَن الْأكل بعد التذكية وَلَا يَصح تذكية مثل هَذَا لأجل الِاخْتِلَاط وَأما الْمُتَوَلد بَين حمَار وَحشِي وَفرس فَهُوَ بغل حَلَال بِخِلَاف الْمُتَوَلد بَين حمَار إنسي وَفرس وعناق أرضعتها كلبة مرّة يجوز أكلهَا وَشرب لَبنهَا وَمَا روى فِي الْبِطِّيخ إِنَّه مَكْتُوب عَلَيْهِ لَا إِلَه إِلَّا الله وَمن أكله بقشره فَلهُ كَذَا أَو ببذره فَلهُ كَذَا فكله كذب مفترى وَلَا بَأْس بِالْأَكْلِ وَالشرب قَائِما مَعَ الْعذر كَمَا شرب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من زَمْزَم قَائِما لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوضِع جُلُوس وَأما مَعَ عدم الْحَاجة فَيكْرَه لنَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ وَبِهَذَا التَّفْصِيل يحصل الْجمع بَين النُّصُوص وَفِيه عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ قيل يكره وَقيل لَا

وَمن قَالَ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أكل الْعِنَب دو دو فَهُوَ كذب لَا أصل لَهُ وَمن أكل الطَّيِّبَات بِدُونِ الشُّكْر الْوَاجِب فَهُوَ مَذْمُوم قَالَ تَعَالَى {ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم} أَي عَن شكر النَّعيم والإسراف فِي الْأكل هُوَ مُجَاوزَة الْحَد وَمن أكل بنية الِاسْتِعَانَة على الْعِبَادَة كل مأجورا وَإِذا أَضَافَهُ رجل فِي مَاله شُبْهَة قَليلَة وَفِي التّرْك مفْسدَة من قطيعة رحم أَو فَسَاد ذَات الْبَين فليجبه وَإِن لم يكن فِي التّرْك مفْسدَة وَفِيه مصلحَة الْإِجَابَة فَقَط وَفِي الْإِجَابَة مفْسدَة أكل مَا فِيهِ شُبْهَة فَأَيّهمَا أرجح فِيهِ نزاع وَقَوْلهمْ من أكل مَعَ مغْفُور غَفُور لَهُ لم ينْقل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَفظه وَإِنَّمَا ذكر أَنه رُؤْيا رَآهَا رَاء وَلَيْسَ هَذَا على إِطْلَاقه صَحِيحا وَأكل الْحَيَّات والعقارب حرَام مجمع عَلَيْهِ فَمن أكلهَا مستحلا لَهَا استتيب وَمن عتقد التَّحْرِيم وأكلها فَهُوَ فَاسق عَاص لله وَرَسُوله فَكيف يكون صَالحا وَلَو ذكى الْحَيَّة كَانَ أكلهَا بعد ذَلِك حَرَامًا عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء وَأما من يَأْكُل الْحَيَّات والثعابين ويجعله من بَاب الكرامات فَهُوَ شَرّ مِمَّن يأكلها فسقا فان كرامات الْأَوْلِيَاء لَا تكون بِمَا نهى الله عَنهُ من أكل الْخَبَائِث كَمَا لَا تكون بترك الْوَاجِبَات وَلَا يجوز إِعَانَة هَؤُلَاءِ المشعبذين بِالصَّدَقَةِ وَنَحْوهَا على أَن يقيموا الصناعات والشعبذات الْمُحرمَة ويفعلون مَالا يرضى الله من إِقَامَة مشيخة تخَالف الْكتاب وَالسّنة وَلَا يعْطى رزقه على مشيخة جَاهِلِيَّة تخَالف كتاب الله وَإِنَّمَا يعان بالرزق من قَامَ بِطَاعَة الله وَرَسُوله وَعمل مَا ينفع الْمُسلمين فِي دنياهم ودعا إِلَى طَاعَة الله وَرَسُوله

فصل في بيع الأصول والثمار

والسياحة فِي الْبِلَاد لغير مقصد مَشْرُوع كَمَا يعانيه بعض النساك أَمر منهى عَنهُ قَالَ الإِمَام أَحْمد لَيست السياحة من الْإِسْلَام فِي شَيْء وَلَا من فعل النَّبِيين وَلَا الصَّالِحين وَقَوله تَعَالَى {السائحون} المُرَاد بِهِ الصائمون فصل فِي بيع الْأُصُول وَالثِّمَار إِذا ضمن الْبُسْتَان بِحَيْثُ يكون الضَّامِن هُوَ الَّذِي يزرع أرضه ويسقي شَجَره كَالَّذي يسْتَأْجر الأَرْض فللعلماء فِي ذَلِك ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا أَنَّهَا دَاخِلَة فِي النَّهْي عَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا وعَلى هَذَا فَمنهمْ من يحتال على ذَلِك بِإِجَارَة الأَرْض وَالْمُسَاقَاة على الشّجر كَمَا يَقُول طَائِفَة من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَبَعض أَصْحَاب أَحْمد مِنْهُم القَاضِي أَبُو يعلى فِي إبِْطَال الْحِيَل وَالْمَنْصُوص عَن أَحْمد بطلَان الْحِيَل القَوْل الثَّانِي قَول من يفرق بَين كَون الأَرْض كَثِيرَة أَو قَليلَة فَإِن كَانَت الأَرْض الْبَيْضَاء أَكثر من الثُّلثَيْنِ وَالشَّجر أقل من الثُّلُث جَازَ إِجَارَة الأَرْض وَدخل فِيهَا بيع الثَّمَرَة تبعا وعَلى هَذَا قَول مَالك وَفِي وقف الثُّلُث قَولَانِ القَوْل الثَّالِث جَوَاز ذَلِك مُطلقًا وَهُوَ قَول طَائِفَة من السّلف وَالْخلف مِنْهُم ابْن عقيل وَغَيره وَهُوَ الْمَأْثُور عَن الصَّحَابَة

وَقد روى سعيد بن مَنْصُور عَن عمر بِإِسْنَاد ثَابت أَنه قبل حديقة أسيد بن الْحضير لغرمائه ثَلَاث سِنِين وَكَانَ لَهُم عَلَيْهِ سِتَّة آلَاف دِرْهَم لما مَاتَ وفيهَا النّخل وَالثَّمَر وتسلف الْقَابِلَة ووفى دينه وَلم يُنكر ذَلِك أحد من الصَّحَابَة وَأَيْضًا وضع الْخراج على أَرض الْخراج وَالْأَعْنَاب وَالْخَرَاج أُجْرَة عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي الْمَشْهُور وَهَذَا القَوْل أصح الْأَقْوَال وَبِه يَزُول الْحَرج عَن الْمُسلمين وَله مأخذان أَحدهمَا أَنه لَا بُد من إجَازَة الأَرْض وَلَا يُمكن إِلَّا مَعَ الشّجر فَجَاز للْحَاجة كَمَا إِذا بدا صَلَاح بعض ثَمَر شَجَرَة جَازَ بيع جَمِيعهَا اتِّفَاقًا وَقد يدْخل من الْغرَر فِي الْعُقُود مَالا يدْخل أصلا كأساسات الْحِيطَان الدَّاخِلَة وَمَا يدْخل من الزِّيَادَة بعد بَدو الصّلاح وكما يجوز بيع الْعَرَايَا للْحَاجة كالمضاربة والمسافاة والمزارعة المأخذ الثَّانِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع الثَّمَرَة قبل بَدو صَلَاحهَا وَالْحب قبل اشتداده ثمَّ إِنَّه يجوز عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة إِجَارَة الأَرْض لمن يعْمل عَلَيْهَا حَتَّى ينْبت الزَّرْع وَلَيْسَ ذَلِك بيعا للحب كَذَلِك تَقْبِيل الشّجر لمن يعْمل عَلَيْهِ حَتَّى يُثمر لَيْسَ هُوَ بيعا للثمرة أَلا ترى أَن الْمُزَارعَة على الأَرْض كالمساقاة على الشّجر وَالثَّمَرَة وَإِن كَانَت أعيانا فَإِنَّهَا تجْرِي مجْرى الْفَوَائِد والنفع لِأَنَّهَا يسْتَخْلف بدلهَا كاللبن فِي استرضاع الظِّئْر لما كَانَ يسْتَخْلف بدله أجْرى مجْرى النَّفْع وَلِهَذَا فِي بَاب بيع الثَّمر إِنَّمَا يقوم البَائِع بسقايتها وكمالها والقبالة الَّتِي فعلهَا عمر رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا يقوم فِيهَا المتقبل بسقاية الشّجر وَمؤنَة حُصُول الثَّمر الْمُتَّصِل فَلَا يُقَاس هَذَا بِهَذَا

وَنَهْيه عَن بيع الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه لم يتَنَاوَل هَذِه القبالة بِلَا ريب ثمَّ إِن قدر أَن الثَّمَرَة لم تطلع أَو تلفت بعد طُلُوعهَا بِدُونِ تَفْرِيط المتقبل كَانَ بِمَنْزِلَة تعطل الْمَنْفَعَة فِي الْإِجَارَة وَهُوَ لَا يسْتَحق أُجْرَة إِذا لم يتَمَكَّن الْمُسْتَأْجر من الِانْتِفَاع وَأما إِذا كَانَ المُشْتَرِي اشْترى مُجَرّد الثَّمَرَة فَقَط ومؤنه السَّقْي عَن البَائِع وَقد أطلع الثَّمر وَلم يبد صَلَاح جيمعه بل نوع دون نوع فَفِيهِ قَولَانِ أَحدهمَا يجوز بيع جَمِيع الْبُسْتَان لِأَن فِي التَّفْرِيق ضَرَرا وَهُوَ أقوى وَمن النَّاس من قَالَ لَا يجوز بَيْعه وَهُوَ الْمَشْهُور وَإِذا استثنيت الْعرية من الْمُزَابَنَة للْحَاجة جَازَ فَلِأَن يجوز بيع النَّوْع تبعا لنَوْع آخر مَعَ أَن الْحَاجة فِي ذَلِك أَشد أولى وَنَهْيه عَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا فقد خص بيعهَا تبعا للشجرة فَعلم أَنه إِنَّمَا نهى عَن مُفْرد الثَّمَرَة كنهية عَن الذَّهَب وَالْحَرِير مُفردا وَالْحمل لَا يجوز إِفْرَاده بِالْبيعِ وَيجوز تبعا وسر الشَّرِيعَة أَن الْفِعْل إِذا اشْتَمَل على مفْسدَة منع إِلَّا إِذا عارضها مصلحَة راجحة كَمَا فِي إِبَاحَة الْميتَة للْمُضْطَر وَبيع الْغرَر وَنهى الله عَنهُ لِأَنَّهُ نوع ميسر من كَونه أكل مَال بِالْبَاطِلِ فَإِذا عَارضه ضَرَر أعظم من أباحة دفعا لأعظم الفسادين بِاحْتِمَال أدناهما وَالله أعلم وَيجوز بيع قصب السكر والجوز واللوز فِي أصح قولي الْعلمَاء وَكَذَلِكَ القت والقلقاس فِي أصح الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ قَول لِأَحْمَد وَكَذَلِكَ بيع المقاتي بعروقها وكل ذَلِك من بَاب تجويزه للْحَاجة لِأَن فِي تَحْرِيمه فَسَادًا أعظم مِنْهُ عِنْد جَوَازه ثمَّ إِن كَانَت الجوائح تُوضَع إِن تلف فَهُوَ كالثمرة والشريعة اسْتَقَرَّتْ على أَن مَا يحْتَاج إِلَى بَيْعه يجوز وَإِن كَانَ مَعْدُوما كالمنافع وَإِجَارَة الثَّمر الَّذِي لم يبد

صَلَاحه مَعَ الأَصْل وَالَّذِي بدا صَلَاحه مُطلقًا كَمَا اسْتَقر أَن ذَلِك يجوز تبعا وَإِن لم يجز مُفردا وَمِنْه مَا روى مُسلم من بَاعَ عبدا وَله مَال فَمَاله للْبَائِع إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع فصل ظَاهر مَذْهَب أَحْمد أَن مَا كَانَ مُتَعَيّنا بِالْعقدِ لَا يحْتَاج إِلَى تَوْفِيَة بكيل أَو وزن وَنَحْوهمَا بِحَيْثُ يكون المُشْتَرِي قد تمكن من قَبضه فَهُوَ من ضَمَانه قَبضه أَو لم يقبضهُ كصبره اشْتَرَاهَا جزَافا وَنَحْوه وَهُوَ قَول مَالك وَأما عِنْد الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة فَإِنَّهَا من ضَمَان البَائِع وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّد لَكِن الصَّوَاب فِي ذَلِك أَنَّهَا متنوعة فمذهب أبي حنيفَة لَا يدْخل الْمَبِيع كُله فِي ضَمَان المُشْتَرِي إِلَّا بِالْقَبْضِ إِلَّا الْعقار وَعند الشَّافِعِي الْعقار وَغَيره سَوَاء وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد وَعنهُ رِوَايَة أُخْرَى بِالْفرقِ بَين الْمكيل وَالْمَوْزُون وَغَيرهمَا وَرِوَايَة بِالْفرقِ بَين الطَّعَام وَغَيره وَبَين المطعوم الْمكيل أَو الْمَوْزُون أَو غَيره وَهَذَا فِي الْقَبْض وَعنهُ الرِّوَايَات فِي الرِّبَا وَهل جَوَاز التَّصَرُّف وَالضَّمان متلازمان فِيهِ نزاع فطريقة القَاضِي أبي يعلى وَأَصْحَابه والمتأخرين من أَصْحَاب أَحْمد مَعَ أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ يَقُولُونَ يتلازم التَّصَرُّف وَالضَّمان فَمَا دخل فِي ضَمَان المُشْتَرِي جَازَ تصرفه فِيهِ ومالا فَلَا وطرد الشَّافِعِي ذَلِك فِي بيع الثِّمَار على الشّجر فَلم يقل بِوَضْع الجوائح بِنَاء على أَن المُشْتَرِي إِذا قبضهَا جَازَ تصرفه فِيهَا فَصَارَ ضَمَانهَا عَلَيْهِ وَالْقَوْل الثَّانِي فِي مَذْهَب أَحْمد الَّذِي ذكره الْخرقِيّ وَغَيره من الْمُتَقَدِّمين وَعَلِيهِ تدل أصُول أَحْمد أَن الضَّمَان وَالتَّصَرُّف لَا يتلازمان وَلِهَذَا كَانَ ظَاهر

مذْهبه وضع الجوائح فِي الثِّمَار وَجَوَاز تصرفه فِيهِ بِالْبيعِ وَغَيره مَعَ كَون ضَمَانهَا على البَائِع فَهِيَ كمنافع الْإِجَارَة مَضْمُونَة على الْمُؤَجّر قبل الإستيفاء فَلَو مَاتَ الدَّابَّة فتعطلت الْمَنَافِع كَانَت من ضَمَان الْمُؤَجّر مَعَ أَنه يجوز للْمُسْتَأْجر التَّصَرُّف فِيهَا فِي ظَاهر الْمَذْهَب وَلِهَذَا كَانَ الظَّاهِر فِي مذْهبه فِي بَاب ضَمَان العقد الْفرق بَين مَا يتَمَكَّن من قَبضه وَمَا لم يتَمَكَّن لَيْسَ هُوَ الْفرق بَين الْمَقْبُوض وَغَيره كَمَا قَالَ الْخرقِيّ وَغَيره فِي بيع الصُّبْرَة الْمَبِيعَة جزَافا تدخل فِي ضَمَان المُشْتَرِي بِالْعقدِ وَلَا يجوزون للْمُشْتَرِي بيعهَا حَتَّى ينقلها فجوز التَّصَرُّف فِي الثَّمَرَة مَعَ كَون ضَمَانهَا على البَائِع وَمنع الصُّبْرَة مَعَ كَون ضَمَانهَا على المُشْتَرِي فَثَبت عدم التلازم وَلَو عتق العَبْد الْمَبِيع قبل قَبضه نفذ عتقه إِجْمَاعًا وَقد تنَازع النَّاس فِي الْهِبَة وَغَيرهَا وأصول الشَّرِيعَة توَافق هَذِه الطَّرِيقَة فَلَيْسَ كل مَا كَانَ مَضْمُونا على شخص يجوز لَهُ التَّصَرُّف فِيهِ كالمغضوب وَالْعَارِية وَلَيْسَ كل مَا جَازَ التَّصَرُّف فِيهِ كَانَ مَضْمُونا على الْمُتَصَرف كالمالك لَهُ أَن يتَصَرَّف فِي المغضوب والمعار فيبيع الْمَغْصُوب من غاصبه أَو مِمَّن يقدر على تخليصه وَإِن كَانَ مَضْمُونا على الْغَاصِب كَمَا أَن الضَّمَان بالخراج إِنَّمَا هُوَ فِيمَا اتّفق ملكا ويدا أما إِذا كَانَ الْملك لشخص وَالْيَد لآخر فقد يكون الْخراج للْمَالِك وَالضَّمان على وَاضع الْيَد مَعَ أَن الدّين لَيْسَ مَضْمُونا على الْمَالِك وَأَيْضًا فالبائع إِذا مكن المُشْتَرِي وَلم يتَمَكَّن من الْقَبْض فقد قضى مَا عَلَيْهِ وَظَاهر الْمَذْهَب فِي الثَّمَرَة إِذا بِيعَتْ بعد بَدو الصّلاح أَنَّهَا من ضَمَان البَائِع لِأَن عَلَيْهِ الْقَبْض إِلَى كَمَال الْجذاذ وَالْمُشْتَرِي لم يتَمَكَّن من جذاذها وَلَكِن جَازَ لَهُ التَّصَرُّف فِيمَا بدا مِنْهَا إِذا خلى بَينه وَبَينهَا فَجعل فِي التَّصَرُّف قبضهَا بِالتَّخْلِيَةِ وَجعل فِي الضَّمَان قبضهَا بالتمكن من

الاتنفاع الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود بِالْعقدِ ولعوض مَأْخَذ هَذِه الْمسَائِل تنَازع الْفُقَهَاء فِيهَا كثيرا فَمِنْهُ من يلحظ فِيهَا معنى بل يتَمَسَّك فِيهَا بِظَاهِر النُّصُوص لِأَن أُجْرَة الْمثل فِي الأَرْض المغروسة تقدر بِالْأَرْضِ الْبَيْضَاء لاغراس فِيهَا المهيأة لِأَن يغْرس فِيهَا فَمَا بلغ فَهُوَ من أُجْرَة الْمثل فصل فِي الْمُصراة وَغَيرهَا وَلَا يجوز بيع الْمَغْشُوش وَلَا عمله إِذا لم يعلم قدر الْمَغْشُوش وَلَو أعلم المُشْتَرِي أَنه مغشوش لم يجز بَيْعه كاللبن المشوب بِالْمَاءِ وَالصُّوف المشوب بالمشاقة لِأَن المُشْتَرِي لَا يعلم قدر الْخَلْط فَيبقى الْمَبِيع مَجْهُولا وَكَذَا كل مَا كَانَ من الْغِشّ فِي المطعوم والملابس وَغَيرهَا وَقد أفتى طَائِفَة من الْعلمَاء من أَصْحَاب أَحْمد وَمَالك وَغَيرهم أَن من صنع مثل هَذَا فَإِنَّهُ يجوز أَن يُعَاقب بتمزيق الثَّوْب الَّذِي غشه وَالتَّصَدُّق بِالطَّعَامِ الَّذِي غشه كَمَا يجوز شقّ ظروف الْخمر وَكسر دنانها كَمَا أَمر عمر رَضِي الله عَنهُ بتحريق كل مَكَان يُبَاع فِيهِ الْخمر وَقد نَص عَلَيْهِ أَحْمد وَغَيره وكما أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عجل السامري وَلم يعده إِلَى أَهله وكما تكسر آلَات الملاهي وَهَذِه تبنى على أَن الْعُقُوبَات فِي الْأَمْوَال يتبع فِيهَا مَا جَاءَت بهَا الشَّرِيعَة كالأبدان يتبع فِيهَا مَا جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة وَادّعى قوم أَن الْعُقُوبَات الْمَالِيَّة مَنْسُوخَة وَلَا حجَّة مَعَهم فِي ذَلِك أصلا كَمَا أَن الْبدن إِذا قَامَ بِالْفُجُورِ أقيم عَلَيْهِ الْحَد وان كَانَ قد يتْلف بِإِقَامَة الْحَد كَذَلِك الَّذِي قَامَ بِهِ صَنْعَة الْفُجُور مثل الصَّنَم يجوز إِتْلَافه وتحريقه كَمَا حرق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَصْنَام وَكَذَلِكَ من صنع صَنْعَة مُحرمَة فِي طَعَام أَو لِبَاس أَو نَحْو ذَلِك

وَلَا يجوز للدلال أَن يكون شَرِيكا فِي أَن يزِيد من غير علم البَائِع لانه يجب أَن لَا يزِيد أحد عَلَيْهِ فَلَا ينصح وَإِذا تواطأ جمَاعَة على ذَلِك استحقوا التَّعْزِير وَمن تعزيرهم أَن يمنعوا من المناداة حَتَّى يتوبوا وَتظهر تَوْبَتهمْ وكل بيع غرر مثل الطَّائِر فِي الْهَوَاء والشارد والآبق وَالثَّمَرَة قبل بَدو صَلَاحهَا وَبيع الْحَصَاة من الميسر الَّذِي حرمه الله فِي الْقُرْآن لِأَنَّهُ إِن قدر عَلَيْهِ كَانَ المُشْتَرِي قد قمر البَائِع حَيْثُ أَخذ مَاله بِدُونِ قِيمَته وَإِن لم يقدر عَلَيْهِ كَانَ البَائِع قد قمر المُشْتَرِي وَفِي كل مِنْهُمَا أكل مَال بِالْبَاطِلِ فَهُوَ قمار وَمِنْه أَن يَبِيعهُ مَا فِي بطن الدَّابَّة وَنَحْوهَا وَيجوز بيع الْغرَر لحَاجَة البَائِع كَمَا قد بسط ذَلِك فِي مَوْضِعه إِذا أنزى على بهائمه فَحل غَيره فاللقاح لَهُ وَلَكِن إِذا كَانَ ظَالِما بالإنزاء بِحَيْثُ يضر بالفحل المنزى فَعَلَيهِ ضَمَان مَا نقص لصَاحبه فَإِن لم يعرف لَهُ صاحبا تصدق عَنهُ وَأما أَن كَانَ لَا يضرّهُ فَلَا قيمَة لَهُ وَإِذا مَاتَ رب المَال فِي الْمُضَاربَة انْفَسَخت ثمَّ إِذا علم الْعَامِل بِمَوْتِهِ وَتصرف بِغَيْر إِذن الْوَرَثَة فَهُوَ غَاصِب وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الرِّبْح هَل هُوَ للْمَالِك فَقَط كَمَاء الْأَعْيَان أَو لِلْعَامِلِ فَقَط لِأَن عَلَيْهِ الضَّمَان أَو يتصدقان بِهِ لِأَنَّهُ ربح خَبِيث أَو يكون بَينهمَا على أَرْبَعَة أَقْوَال أَصَحهَا الرَّابِع وَبِه حكم أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِيمَا أَخذ ابناه من بَيت المَال فاتجروا فِيهِ بِغَيْر اسْتِحْقَاق فَجعله مُضَارَبَة وَعَلِيهِ اعْتمد الْفُقَهَاء فِي بَاب الْمُضَاربَة أَن الرِّبْح مِمَّا حصل من مَنْفَعَة بدن هَذَا وَمَال هَذَا يكون بَينهمَا

فصل

فصل إِذا أعْطى الدَّلال قماشا يَبِيعهُ ويختمه فَمَا وجد الختام فأودعه عِنْد شخص أَمِين عَادَتهم أَن يودعوا عِنْده فَعدم مِنْهُ شَيْء فَإِذا كَانَ عَادَتهم أَن يودعوا وَأَصْحَاب القماش يعلمُونَ ذَلِك ويقرونهم عَلَيْهِ فَلَا شَيْء على الدَّلال وَأما إِن كَانَ الدَّلال فرط فتصرف بِمَا لم يُؤذن لَهُ فِيهِ لَا لفظا وَلَا عرفا ضمن وَمن استودع وَدِيعَة فحفظها مَعَ مَاله فسرقت دون مَاله كَانَ ضَامِنا الْوَدِيعَة فِي أحد قولي الْعلمَاء هما رِوَايَتَانِ فَإِن عمر رَضِي الله عَنهُ ضمن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ وَدِيعَة ادعِي أَنَّهَا ذهبت دون مَاله وَأما إِن ادّعى أَنَّهَا ذهبت مَعَ مَاله ثمَّ ظهر أَن مَاله لم يذهب بل بَاعه أَو نَحوه فَهُنَا أوكد أَن يضمن فَإِن ادّعى صَاحبهَا أَنه طلبَهَا من الْمُودع فَلم يُسَلِّمهَا أَو أَنه خَان فِيهِ كَانَ القَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه أقوي وآكد بل يسْتَحق الْمُودع التَّعْزِير على كذبه وَإِن كَانَ من أهل الذِّمَّة فَشهد عَلَيْهِ من أهل دينه المقبولين عِنْدهم قبلت شَهَادَتهم فِي أحد قولي الْعلمَاء هما رِوَايَتَانِ وَقبُول شَهَادَتهم هُنَا أوكد فَإِنَّهُ يحكم بِيَمِين الْمُدَّعِي عَلَيْهِ لرجحان قَول الْمُدعى فِي قوليهم أَيْضا وَأما من كَانَ من أهل الذِّمَّة يؤوى أهل الْحَرْب ويعاونهم على الْمُسلمين فقد انْتقض عَهده وَحل مَاله وَدَمه ورذا أودع رجل شخصا مَالا ليوصله إِذا مَاتَ لأولاده فَمَاتَ وَترك غير أَوْلَاده وَرَثَة أخر فَإِذا كَانَ المَال الْمُودع وَجب أَن يُوصل إِلَى وَارِث حَقه سَوَاء خص بِهِ الْوَالِد الْأَوْلَاد أَولا وَلَيْسَ للمستودع أَن يخص بِهِ بعض الْوَرَثَة إِلَّا بِإِجَازَة البَاقِينَ وَلَو صرح لَهُ الْمَالِك بالتخصيص فَلَا يجوز ويحفظ نصيب هَؤُلَاءِ لصغار فَإِن كَانَ فِي الْبَلَد حَاكم عَالم عَادل قَادر يحفظ هَذَا المَال سلم إِلَيْهِ

وَإِن لم يجد من يحفظه أبقاه بِيَدِهِ يتجر فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ وَالرِّبْح للْيَتِيم وأجره على الله تَعَالَى وَيجوز صرف مَال الْأَسير فكاكه بِلَا إِذْنه وَالْمَال الْمُوصى بِهِ فِي يَد النَّاظر أَمَانَة يجب عَلَيْهِ حفظه تحفظ الْأَمَانَات وَلَا يودعه لحَاجَة فَإِن أودعهُ عِنْد من يغلب على الظَّن حفظه فالحاكم الْعَادِل إِن وجد أَو غَيره بِحَيْثُ لَا يكون فِي إيداعه تفريطا فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ وَإِن أودعهُ لخائن أَو عَاجز مَعَ إِمْكَانه أَن لَا يفعل فَهُوَ مفرط وَأما الْمُودع إِذا لم يعلم أَنه وَدِيعَة فَفِي تَضْمِينه قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ أظهرهمَا لَا ضَمَان عَلَيْهِ وَمَا حصل على التَّرِكَة بِسَبَب ظلم من المغارم فَهُوَ على المَال جَمِيعه وَإِذا غضِبت الْوَدِيعَة فللناظر الْمُطَالبَة بهَا وللمودع أَيْضا فِي غيبته وَإِذا مَاتَ الْمُودع وَلم يعلم حَال الْوَدِيعَة هَل أخذت أَو تلقت فَإِنَّهَا تكون دينا على تركته فِي أظهر قولي الْعلمَاء كَأبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد وَظَاهر نَص الشَّافِعِي تُؤْخَذ من مَاله فَإِن لم يكن لَهُ مَال سوى الْوَقْف فَفِيهِ نزاع مَشْهُور فِي وقف الدّين الَّذِي أحَاط الدّين بِمَالِه وَكَذَلِكَ الْوَقْف الَّذِي لم يخرج عَن يَده حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهُ يبطل فِي أحد قولي مَالك وَأحد الْقَوْلَيْنِ لِأَحْمَد وَأبي حنيفَة وَإِن كَانَ الْوَقْف قد صَحَّ وَلزِمَ وَله مستحقون وَلم يكن صَاحب الدّين يتَنَاوَلهُ الْوَقْف لم يكن وَفَاء الدّين فِي ذَلِك لَكِن إِن كَانَ مِمَّن تنَاوله الْوَقْف مثل أَن يكون على الْفُقَرَاء وَصَاحب الدّين فَقير فَلَا ريب أَن الصّرْف إِلَى هَذَا الْفَقِير الَّذِي لَهُ دين على الْوَقْف أولى من الصّرْف إِلَى غَيره

فصل

فصل فِي رجل أسلف مائَة دِرْهَم على حَرِير فَلَمَّا حل الْأَجَل لم يكن عِنْده بِمَا يرضيه فَقَالَ رب الدّين اشْتَرِ مني هَذَا الْحَرِير إِلَى أجل وأحضر حَرِيرًا بِمِائَة وَخمسين ثمَّ قَالَ أوفى هَذَا الْحَرِير عَن السّلف الَّذِي عنْدك فو رَبًّا حرَام وَهَذَا المربي لَا يسْتَحق مَا فِي ذمم النَّاس إِلَّا مَا أَعْطَاهُم أَو نَظِيره فَأَما الزِّيَادَات فقد يكون مَا قَبضه قبل ذَلِك رَبًّا وَلَكِن يُعْفَى عَنهُ وَأما مَا بَقِي فِي الذمم فَهُوَ سَاقِط لقَوْله تَعَالَى {وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين} وَقَوله {وَإِن تبتم فلكم رُؤُوس أَمْوَالكُم} وَالله أعلم إِذا أسلف فِي حِنْطَة فاعتاض عَنْهَا شَعِيرًا فَفِيهِ قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ أصَحهمَا الْجَوَاز إِذا كَانَ بِسعْر الْوَقْت أَو أقل وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَمن بَاعَ قمحا إِلَى أجل بِدَرَاهِم فَلَا يجوز أَن يعتاض عَنهُ بِمَا يجْرِي فِيهِ الرِّبَا فِي قَول مَالك وَالْمَشْهُور عَن أَحْمد وَقَالَ بعض أَصْحَابه يجوز وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمن بَاعَ عقارا فَخرج مُسْتَحقّا وَكَانَ الْمُشْتَرط عَالما ضمن الْمَنْفَعَة سَوَاء انْتفع بهَا أَولا وَإِن لم يعلم فقرار الضَّمَان على الظَّالِم وَإِذا انتزع الْمَبِيع من يَد المُشْتَرِي وَأخذت مِنْهُ الْأُجْرَة وَهُوَ مغرور رَجَعَ بذلك على البَائِع الغر لَهُ وَإِذا أسرت الْمَرْأَة وَلها ملك فرهنه أَخُوهَا أَو زَوجهَا لأجل أَن يخلصها فَلَا شَيْء عَلَيْهِم فَلَو وجدهَا قد خلصت أعَاد إِلَيْهَا مَا قَبضه ويفك الرَّهْن عَن ملكهَا وَمن أَخذ من تَاجر مَالا وَامْتنع من إِعْطَائِهِ جَازَ ضربه ليؤدي المَال وَمن غيب المَال وَجحد مَوْضِعه ضرب حَتَّى يدل على مَوْضِعه

وكل من عَلَيْهِ حق لَا يُوفيه مطلا جَازَت عُقُوبَته حَتَّى يُوفيه بِضَرْب مرّة بعد أُخْرَى وَمِنْهُم من قَالَ كل مرّة تِسْعَة وَثَلَاثِينَ وَمِنْهُم من يقدره وَله أَن يُعَاقِبهُ حَتَّى يَنْوِي توفيته فَلَيْسَ على الْحَاكِم إِلَّا ذَلِك وَإِن كَانَ يجوز لَهُ بيع مَاله ووفاء دينه لَكِن مَتى رأى أَن يلْزمه إِيَّاه إِمَّا بنقله عَنهُ وَإِمَّا لخوف مفْسدَة أَو ردعه جَازَ لَهُ ذَلِك وَمن عَلَيْهِ مَال وَلم يوفه حَتَّى شكى رب المَال ومحرم عَلَيْهِ مَالا وَكَانَ الَّذِي عَلَيْهِ حق قَادِرًا على الْوَفَاء ومطل حَتَّى أحْوج مَالِكه إِلَى الشكوى فَمَا غرم بِسَبَب ذَلِك فَهُوَ على الظَّالِم الماطل إِذا كَانَ غرمه على الْوَجْه الْمُعْتَاد وَمن حبس بدين وَله رهن لَا وَفَاء لَهُ غَيره وَجب على رب الدّين إمهالة حَتَّى يَبِيعهُ وَهُوَ فِي الْحَبْس ضَرَر وَجب إِخْرَاجه ليَبِيعهُ وَيضمن عَلَيْهِ أَو يمشي مَعَه الدَّائِن أَو وَكيله وَمن عَلَيْهِ دين وَله ملك لَا يُمكنهُ بَيْعه إِلَّا بِدُونِ ثمن الْمثل الْمُعْتَاد غَالِبا فِي ذَلِك الْبَلَد لم يجب بَيْعه وَيلْزم الْغَرِيم إنظاره إِلَى ميسرَة إِلَّا أَن يكون تغير تغيرا مُسْتَقرًّا فَيكون حِينَئِذٍ ثمن الْمثل قد نقص فَيُبَاع بِثمن الْمثل المستقر وَله أَن يطْلب مِنْهُ كل وَقت مَا يقدر عَلَيْهِ وَهُوَ التقسيط وَمن هرب وَعِنْده أمانات لَا يعرف حَالهَا وَكَانَ عَلَيْهَا عَلامَة من اسْم كل وَاحِد على متاعة أَو نَحوه عمل بذلك وَإِن تعذر ذَلِك كُله أَقرع بَين المدعين فَمن خرجت قرعته على عين أَخذهَا مَعَ يَمِينه وَمن علم حَقه بِبَيِّنَة أَخذه وَإِذا حبست زَوجهَا على كسوتها وَكَانَ مُعسرا فَلَا نَفَقَة لَهَا أَيَّام حَبسه لِأَنَّهَا منعته ظلما وَإِن كَانَ مماطلا مَعَ قدرته وَهِي باذلة نَفسهَا فَعَلَيهِ نَفَقَتهَا وَمن أعْطى رجل مَالا قراضا ثمَّ ظهر عَلَيْهِ دين قبل الفراض فَلَا يجوز

فصل في الحجر

أَن يُوفي الدّين من مَال الْقَرَاض إِلَّا أَن يخْتَار رب المَال وَإِذا ادّعى مَا يُمكن فِي الْعَادة من نقص الْقَرَاض أَو عَدمه فَالْقَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه وَإِن ادّعى مَا يُخَالف الْمَادَّة لم يقبل بِمُجَرَّد قَوْله وَمن ادّعى عَلَيْهِ حق فَطلب أَن يعْقد فِي الترسيم حَتَّى يَبِيع مَاله ويوفي وَجب تَمْكِينه وَلم يجز حَبسه الْحَبْس الحاجز لَهُ عَن ذَلِك وَهَذَا بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَكَذَا إِن أمكنه أَن يحتال لوفاء دينه باقتراض أمْهل بِقدر ذَلِك وَلم يجز منفعه من ذَلِك بحبسه وَالْحَال لَا يتأجل وَقيل بلَى وَقيل فِي المفاوضات يتأجل دون التَّبَرُّعَات وَالثَّلَاثَة لِأَحْمَد رَحمَه الله تَعَالَى فصل فِي الْحجر إِذا تزوجت لم يجب عَلَيْهَا طَاعَة أَبِيهَا وَلَا أمهَا فِي فِرَاق زَوجهَا وَلَا فِي زيارتهم وَنَحْو ذَلِك بل الْوَاجِب عَلَيْهَا طَاعَة زَوجهَا إِذا لم يأمرها بِمَعْصِيَة وطاعته أَحَق من طاعتهما وَأَيّمَا امْرَأَة رَاض عَنْهَا دخلت الْجنَّة وَإِذا أَرَادَت الْأُم التَّفْرِيق بَين ابْنَتهَا وَزوجهَا فَهِيَ من حبس هَارُون وماروت لَا طَاعَة لَهَا وَلَو دعت عَلَيْهَا اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يَكُونَا مجتمين على مَعْصِيّة الله أَو تكون أمرت الْبِنْت بِطَاعَة الله وَرَسُوله ومنعها الزَّوْج ذَلِك وَطَاعَة الله وَاجِبَة على كل مُسلم وَالله أعلم وَمن تزوج امْرَأَة وَبعد مُدَّة جَاءَ والدها فطلبت مِنْهُ شَيْئا لمصلحتها فَقَالَ أَنا تَحت الْحجر فَلَا يقبل قَوْله بل الْأَصَح صِحَة التَّصَرُّف وَعدم الْحجر حَتَّى يثبت وَمن كَانَ مِنْهُمَا تَحت حجر أَبِيه فَلهُ عَلَيْهِ الْيَمين أَنه لَا يعلم رشده إِذا طلب ذَلِك وَلم تقم بَيِّنَة وَإِن أَقَامَ بَيِّنَة برشده فك عَنهُ الْحجر وَإِن لم يعْتَرف بِهِ أَبوهُ وَمن قَالَ ازوجته أَنْت طَالِق فأبرأته وَلَيْسَت تَحت الْحجر وَلَا لَهَا أَب ثمَّ ادَّعَت السَّفه ليسقط الْإِبْرَاء لم تقبل دَعْوَاهَا وَلَو أَقَامَت بَيِّنَة بَينه أَنَّهَا كَانَت سَفِيهَة

فصل في الصلح

وَإِن لم تكن تَحت الحجز لم يبطل الْإِبْرَاء بذلك وَإِن كَانَت هِيَ المتصرفة لنَفسهَا وَمن ثَبت أَنه ضَامِن بِإِقْرَار أَو بَيِّنَة أَو بخطة لزمَه ماضمنه فَإِن ادّعى أَنه كَانَ تَحت الْحجر لم يقبل بِمُجَرَّد الدَّعْوَى وَإِذا قَالَ إِن الْمَضْمُون لَهُ يعلم ذَلِك فَلهُ إحلافه وَكَذَا لَو ادّعى الْإِكْرَاه وَإِذا مَاتَ الْوَصِيّ وَلم يعلم الْيَتِيم قد ذهب بِغَيْر تَفْرِيط فَهُوَ فِي تركته لَكِن هَل هُوَ دين يحاص بِهِ الْغُرَمَاء أم أَمَانَة يقدم بهَا فِيهِ نزاع فصل فِي الصُّلْح وَمن شَارك كَافِرًا فِي بِنَاء فَلَيْسَ لَهُ رفْعَة على بِنَاء الْمُسلمين وَإِن أَرَادَ ذَلِك واستخدم الْكَافِر فِي بناءأ أَو شَاركهُ وَقصد بجاه الْإِسْلَام رَفعه فقد بخس الاسلام وَاسْتحق أَن يهان الإهانة الإسلامية وَيجوز أَن يَبْنِي من وقف الْمَسْجِد خَارج الْمَسْجِد بَيْتا ينْتَفع بِهِ أهل الِاسْتِحْقَاق لريع الْوَقْف القائمين بمصلحة الْوَقْف وَيجوز أَن يعْمل مَكَانا لمصْلحَة الْمَسْجِد وَأَهله من تَغْيِير الْعِمَارَة من صُورَة إِلَى صُورَة وَنَحْو ذَلِك مثل أَن يعْمل ميضأة مَكَانا للْوُضُوء وَلَا مَحْذُور فِيهِ فَإِن الْوضُوء فِي الْمَسْجِد جَائِز بل لَا يكره عِنْد الْجُمْهُور وَلَيْسَ لأحد التحجير على مَقْبرَة الْمُسلمين ليختص هُوَ بِموضع وَلَا بِنَاء حَائِط وَنَحْوه ومالا تقوم الْعِمَارَة إِلَّا بهم من الْعمَّال والحساب فهم من أهل الْعِمَارَة وَلَا يجوز بيع شئ من طَرِيق الْمُسلمين سَوَاء كَانَت وَاسِعَة أَو ضيقَة وَإِذا صَالح على بعض الْحق خوفًا من ذهَاب جَمِيعه فَهُوَ مكره لَا يَصح صلحه لَهُ أَن يُطَالِبهُ بِالْحَقِّ بعد ذَلِك إِذا أقرّ بِهِ أَو ثَبت بِبَيِّنَة وَإِذا لم يبْق فِي الْقرْيَة من أهل الذِّمَّة أحد بل مَاتُوا أَو أَسْلمُوا جَمِيعًا جَازَ أَن تتَّخذ الْبيعَة مَسْجِدا لَا سِيمَا إِن كَانَت بِبِلَاد الشَّام فَإِنَّهُ فتحت عنْوَة

فصل في الضمان

مَسْأَلَة لَا يجوز لأحد أَن يخرج فِي طَرِيق الْمُسلمين شَيْئا من أحزاء الْبناء حَتَّى إِنَّه نهى عَن تَخْصِيص الْحَائِط إِلَّا أَن يدْخل فِي حَده بِقدر الجص وَلَا يجوز قسْمَة الْوَقْف إِذا كَانَ عَليّ جِهَة وَاحِدَة اتِّفَاقًا وَقد صرح طَائِفَة فِي قسْمَة الْوَقْف بِوَجْهَيْنِ وصرحوا بِأَن الْوَقْف إِنَّمَا يقسم إِذا كَانَ على جِهَتَيْنِ وَلَيْسَ لأحد اتِّخَاذ الْمَسْجِد طَرِيقا فصل فِي الضَّمَان إِذا تعدى الْمَضْمُون فهرب بذلك مَعَ قدرته على الْوَفَاء فَمَا لزم الضَّامِن من غَرَامَة فَلهُ أَن يرجع بهَا على الْمَضْمُون الَّذِي ظلمه إِذا كَانَ مَا غرمه بِالْمَعْرُوفِ ضَمَان مالم يجب وَضَمان الْمَجْهُول جاذز عنجمهور الْعلمَاء كمالك وَأبي حنيفَة وَأحمد وَلَا يجوز عِنْد الشَّافِعِي وَيجوز لِلْكَاتِبِ وَالشَّاهِد أَن يكْتب العقد وَيشْهد عَلَيْهِ وَلَو لم ير جَوَازه لِأَنَّهُ من مسَائِل الإجتهاد وَولى الْأَمر يحكم بِمَا يرَاهُ من الْقَوْلَيْنِ وَإِذا كَانَ على الْوَلَد فتغيب فَلَا يُطَالب بِهِ وَالِده إِذا لم يكن ضامنه وَلَا لَهُ عِنْده مَال لَكِن إِن أمكنه مَعُونَة صَاحب الْحق على إِحْضَار وَلَده بالتعريف مَكَانَهُ وَنَحْوه لزمَه ذَلِك وَإِلَّا فَلَا شئ عَلَيْهِ وَمن سلم غَرِيمه إِلَى السجان ففرط السجان فِيهِ حَتَّى هرب فالسجان وَنَحْوه مِمَّن هُوَ وَكيل على بدن الْغَرِيم بِمَنْزِلَة الْكَفِيل للْغَرِيم يتَوَجَّه عَلَيْهِ إِحْضَاره فَإِن تعذر ضمن مَا عَلَيْهِ من المَال عندنَا وَعند مَالك وَإِذا أسلم الْكَفِيل الْغَرِيم وَهُوَ فِي حبس الشَّرْع برِئ وَلَا يلْزمه إِخْرَاجه من الْحَبْس وتسليمه إِلَى المككفول لَهُ بل يَكْفِي تَسْلِيمه وَهُوَ فِي الْحَبْس وَمن كَانَ فِي يَده دَوَاب لغيره من رَاع وَنَحْوه فَحصل مرض وَخَافَ مَوتهَا

فَلهُ ذَبحهَا وَلَا شئ عَلَيْهِ فَإِن ذَبحهَا خير من تَركهَا حَتَّى تَمُوت وَقد فعل مثل هَذَا رَاع عَليّ عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يُنكر عَلَيْهِ وَلَا بَين أَنه ضَامِن وَهُوَ نَظِير خرق صَاحب مُوسَى السَّفِينَة ينْتَفع بهَا أَهلهَا مَرْقُوعَة خير من ذهابها بِالْكُلِّيَّةِ وَمثل مَا لَو رأى الرجل مَال أَخِيه يتْلف بِمثل هَذَا فَأصْلح مِنْهُ بِحَسب الْإِمْكَان كَانَ مأجورا عَلَيْهِ وَإِن نقصت قيتهت فناقص خير من تَالِف فَكيف إِذا كَانَ مؤتمنا كَالرَّاعِي والمستكرى وَنَحْوه وَمن كَانُوا مماليك لرجل نحس يمنعهُم من طَاعَة الله ويكرههم على مَعْصِيَته وَيطْلبُونَ البيع فيضربهم فهوبوا مِنْهُ فَلَا شئ عَلَيْهِم بل الْوَاجِب عَلَيْهِم ذَلِك وَقد أَحْسنُوا فَلَا حُرْمَة لمن يكون كَذَلِك لَو كَانَ فِي طَاعَة الْمُسلمين فَكيف إِذا ك ان فِي طَاعَة الْمُشْركين فَإِنَّهُ يجب قِتَاله وَإِن كَانَ مُسلما وَهَؤُلَاء الْمُهَاجِرُونَ الَّذين فروا بِأَنْفسِهِم قد أَحْسنُوا وَالْعَبْد إِذا هَاجر من أَرض الْحَرْب فَهُوَ حر وَمن دخل إِلَى دَوَاب غَيره فَلهُ إخْرَاجهَا بأسهل مَا يُمكن فَإِذا أمكن إحراجها بِغَيْر العرقية فعرقبها عزّر عَليّ تَعْذِيب الْحَيَوَان بِغَيْر حق وعَلى الْعدوان على أَمْوَال النَّاس وَضمن بدلهَا لمَالِكهَا وعَلى أهل الزَّرْع حفظ زرعهم نَهَارا وعَلى أهل الْمَوَاشِي حفظ دوابهم لَيْلًا كَمَا أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن ربط جملَة فِي الرّبيع بِجنب جمل غَيره فَانْقَلَبَ عَلَيْهِ فَقتله فَإِن كَانَ فرط فِي ربط بِقَيْد ضَعِيف فَعَلَيهِ ضَمَان مَا أتْلفه من جمل أَو غير وَإِلَّا فَلَا ومنشارك بِبدنِهِ وَمَال صَاحبه وَتلف المَال أَو بعضه من غير عدوان من صَاحب الْبدن الْعَامِل فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ من المَال سَوَاء كَانَت الْمُضَاربَة صَحِيحَة أَو فَاسِدَة بِاتِّفَاق الْعلمَاء

فصل

وَمن اتهمَ بقتل فأحضر إِلَى النَّائِب وألزموه بعقابه وضمنوا دَمه فَعُوقِبَ حَتَّى مَاتَ وَلم يقر بشئ وَلَا ظهر عَلَيْهِ شئ لَزِمَهُم دَمه بل يعاقبون كَمَا عُوقِبَ روى أَبُو دَاوُد فِي السّنَن عَن النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله عَنهُ أَنه قضى بِنَحْوِ ذَلِك فصل يجب أَن يُولى الامامة وَالنَّظَر على الْمَسَاجِد شرعا وهم الأقرأ لكتاب الله والأعلم بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ الأسبق إِلَى الْأَعْمَال الصَّالِحَة مثل أَن يكون أسبق إِلَى الْهِجْرَة أَو أقدم سنا فَكيف إِذا كَانَ الأحق هُوَ المتولى فَلَا يجوز عَزله بِاتِّفَاق الْعلمَاء وللشريك إِلْزَام شَرِيكه بِالْقِسْمَةِ إنكان الْمَكَان مِمَّا يقسم بِلَا ضَرَر وَإِن كَانَ فِيهِ ضَرَر فَلهُ الْمُطَالبَة بِبيع الْجَمِيع ليقتسما الثّمن وَمن شهد عَليّ بيع ظلم يعلم أَنه ظلم فَشهد مَعُونَة على ذَلِك فقد أعَان على الْإِثْم بل صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لعن آكل الرِّبَا وموكله وَشَاهده وكاتبه وَقَالَ إِنِّي لَا أشهد على جور وَمن فعل ذَلِك مصرا عَلَيْهِ قدح ذَلِك فِي عَدَالَته وَإِذا مَاتَ الْوَصِيّ وَلم يعلم الْيَتِيم فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا يقسم بَينهمَا وَهُوَ قو أبي حنيفَة وَالثَّانِي يُوقف الْأَمر حَتَّى يصطلحا كَقَوْل الشَّافِعِي وَالثَّالِث وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد يقرع بَينهمَا فَمن قرع حلف وَأخذ لما روى أَبُو دَاوُد أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا فِي مَتَاع وَلَا بَيِّنَة لوَاحِد مِنْهُمَا فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتهمَا عَلَيْهِ

وَإِذا طلب الشَّرِيك أَن يُؤجر الْعين المشركة ويقتسموا الْأُجْرَة أَو أَن يتهايؤها بقسم الْمَنْفَعَة وَجب على الشُّرَكَاء إجَابَته إِلَى أحد الْأَمريْنِ وَلَيْسَ لَهُم الغلو وَهُوَ قَول مَالك وَأحمد وَأبي حنيفَة وَيجب عَليّ الشَّرِيك أَن يعْمل مَعَ شَرِيكه فِي أصح قَول الْعلمَاء فَإِن أجابوه إِلَى الْمُهَايَأَة وطلبوا تَطْوِيل الدّور الَّذِي يَأْخُذ فِيهِ نصِيبه وَهُوَ تَقْصِيره وَجب إجَابَته دونهم فَإِن الْمُهَايَأَة فِيهَا تَأْخِير حُقُوق بعض الشُّرَكَاء وَكلما كَانَ أقرب كَانَ أولى لِأَن الأَصْل اسْتِيفَاء الشُّرَكَاء جَمِيعهم حُقُوقهم وَالتَّأْخِير لأجل الْحَاجة فَكلما قل زمن التَّأْخِير كَانَ أولى وَلَيْسَ للشَّرِيك أَن يقسم بِنَفسِهِ شَيْئا أَو يَأْخُذ نصِيبه مِنْهُ وَإِذا امْتنع بعض الشُّرَكَاء من الزَّرْع جَازَ لبَعْضهِم أَن يزرع فِي مِقْدَار نصِيبه وَيخْتَص بِمَا زرعه وَإِذا اشْترك الشُّرَكَاء وَنَحْوهم فَمُقْتَضى عقد الشُّرَكَاء الْمُطلقَة التَّسْوِيَة فِي الْعَمَل وَالْأَجْر فَإِن عمل بَعضهم أَكثر مُتَبَرعا ساووه فِي الْأجر وَإِن لم يتَبَرَّع طالبهم بِمَا زَاد فِي الْعَمَل الزَّائِد بِأُجْرَة وَإِن اتَّفقُوا عَليّ شَرط زِيَادَة لَهُ جَازَ وَلَيْسَ لوَلِيّ الْأَمر أَن يحمل النَّاس عَليّ مذْهبه فِي منع مُعَاملَة لَا يَرَاهَا وَلَا للْعَالم والمفتي أَن يلزما النَّاس باتباعهما فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد بَين الْأَئِمَّة بل قَالَ الْعلمَاء إِجْمَاعهم قَاطِعَة وَاخْتِلَافهمْ رَحْمَة وَاسِعَة وَمثل هَذِه الْمسَائِل الاجتهادية لَا تنكر بِالْيَدِ ورذا لم يتَّفق الشريكان فِي الدَّابَّة يَجْعَلهَا عِنْد أَحدهمَا أَو غَيرهمَا جعلهَا الْحَاكِم عَن ثَالِث يحتاره لَهما فَإِن طلب أَحدهمَا مفاظلة الآخر فيهمَا بِيعَتْ جَمِيعهَا قسم ثمنهَا بَينهمَا وَكَذَا الدَّار إِذا طلب أَحدهمَا الْقِسْمَة وَكَانَت تقبلهَا قسمت وأجبر الْمُمْتَنع عِنْد الْأَرْبَعَة وَإِذا كَانَ طَالب الْقِسْمَة طلب فَيجْبر الْمُمْتَنع وَيقسم بَينهمَا الثّمن فِي مَذْهَب مَالك وزبي حنيفَة وَالْإِمَام أَحْمد وَمن اشْترك هُوَ وَآخر من أَحدهمَا الدَّابَّة وَمن الآخر دَرَاهِم نظر فِي قيمَة

فصل في الوكالة

الدَّابَّة فَتكون هِيَ وَالدَّرَاهِم رَأس المَال وَذَلِكَ مُشْتَرك بَينهمَا لِأَن عندنَا الشّركَة وَالْقِسْمَة تصح بالأبدان لَا تفْتَقر رلي خلط وتمييز فسخا الشّركَة بِيعَتْ الدَّابَّة واقتسما ثمنهَا هَذَا إِذا صححنا الشّركَة بالعروض وَأما إِذا أبطناها فَحكم الْفَاسِدَة حكم الصَّحِيحَة فِي الضَّمَان وَعَدَمه وَصِحَّة التَّصَرُّف وفساده وَإِنَّمَا يفترقان فِي الْحل وَمِقْدَار الرِّبْح على أحد الْقَوْلَيْنِ وَظَاهر مَذْهَب أَحْمد أَن الرِّبْح عَليّ ماشرطا وعَلى القَوْل الآخر الرِّبْح تبع لِلْمَالِ وَللْآخر أُجْرَة الْمثل وَالأَصَح فِي هَذَا أَن لَهُ ربح الْمثل والأقوال ثَلَاثَة وَإِذا كَانَت غنم الخلطاء مَعَ رَاع واحتاجت إِلَى نَفَقَة فَبَاعَ بَعْضهَا وأنفقه عَليّ الْبَاقِي اقتسموا الْبَاقِي على قدر رُءُوس الْأَمْوَال أَو غرم الرَّاعِي قيمَة مَا بَاعَ وَإِذا كَانَ الشَّرِيك فِي الْبَقَرَة يَأْخُذ اللَّبن وَهُوَ قدر الْعلف فَلَا شئ عَلَيْهِ وَإِن كَانَ انتفاعه بهَا أَكثر من الْعلف أعْطى شَرِيكه نصِيبه من الْفضل وَلَا يجوز أَن يَبِيعهُ عَليّ أَن يقْرضهُ وَلَا يؤجره على أَن يساقيه وَلَا يُشَارِكهُ على أَن يقْرضهُ وَلَا يَبِيعهُ عَليّ أَن يبْتَاع مِنْهُ باتفاقهم فصل فِي الْوكَالَة إِذا قَالَ لرجل إِن لم ترض زَوْجَتي بِالنَّفَقَةِ سلم إِلَيْهَا كتابها فقد وَكله وَهَذَا القَوْل كِنَايَة فِي الطَّلَاق فَإِن قَالَ الْمُوكل أردْت بِهِ الطَّلَاق أَو علم ذَلِك بِقَرِينَة الْحَال ملك الْوَكِيل أَن يُطلق وَاحِدَة لَا ثَلَاثًا إِلَّا بِإِذن الْمُوكل فَإِذا قَالَ لم أرد إِلَّا وَاحِدَة كَانَ القَوْل قَوْله وَللزَّوْج أَن يُرَاجِعهَا وَإِذا أجر أَرض مُوكله عَن شَرِيكه مثل أَن يؤجرها بِنصْف أُجْرَة الْمثل كَانَ الْوَكِيل ضَامِنا للنقص

وَهل للْمَالِك إبِْطَال الْإِجَارَة فِيهِ نزاع وَمن طلق زَوجته ثمَّ تزوج غَيرهَا ووكل الثَّانِيَة فِي طَلَاق الأولى فَقَالَ مَتى رددت أم أَوْلَادِي كَانَ طَلاقهَا بِيَدِك لم تطلق الَّتِي وَكلهَا وَبَطلَت وكانتها فِي ذَلِك بِخِلَاف مَا لَو وَكلهَا فِي بيع وَنَحْوه ثمَّ طَلقهَا ثَلَاثًا لم تبطل الْوكَالَة بالتطليق هُنَا كَمَا ذكر ذَلِك الْفُقَهَاء وَقد يظنّ صِحَة التَّوْكِيل فِي التَّطْلِيق وَالصَّوَاب أَنه يبطل توكيلها فِي طَلَاق الأولى إِذا طَلقهَا لِأَن مَقْصُوده أَن لَا أجمع بَيْنك وَبَينهَا إِلَّا برضاك لما تكره منالضرر بمشاركتها لَهَا فِيمَا تستحقه من ذَلِك بالقسم وننحوه فَإِذا بتها لم يبْق لَهَا عَلَيْهِ حق فَلَا تزاحمها تِلْكَ فِي الْحُقُوق وَلَا يعْتَبر رِضَاهَا فِي تزَوجه لَهَا عَليّ ذَلِك لِأَن الْعَادة أَنه يرضى زَوجته وَهُوَ قد أسخطها بِطَلَاقِهَا فَكيف يقْصد رِضَاهَا بِمَا هُوَ دونه وَمن كَانَ مَمْلُوكه يتَصَرَّف لَهُ تصرف الْوَكِيل من البيع وَالْإِجَارَة وَنَحْوهَا وَهُوَ يعلم ذَلِك فَفعل شَيْئا من االبيع وَالْإِجَارَة فَقَالَ السَّيِّد لَيْسَ هُوَ وَكيلِي فِي ذَلِك لم يقبل إِنْكَاره حَتَّى لَو قدر أَنه لم يُوكله فتفريطه وتسليطه عدوان مِنْهُ يُوجب الضَّمَان وَمن وكل رجلا فِي تَحْصِيل أَمْوَاله والتحدث فِيهَا بالعشر أَو وَكله مُطلقًا عَليّ الْوَجْه الْمُعْتَاد الَّذِي يقتضى فِي الْعرف أَن لَهُ الْعشْر فَلهُ ذَلِك فَإِنَّهُ يسْتَحق الْعشْر بِشَرْط لَفْظِي أَو عرفي وَهَذَا كاستئجار الأَرْض للزَّرْع بِجُزْء من زَرعهَا وَهِي مَسْأَلَة قفيز الطَّحَّان وَمن نقل النهى عَن أَحْمد فقد أَخطَأ وَاسْتِيفَاء المَال بِجُزْء شاذع مِنْهُ جَائِز فِي أظهر قولي الْعلمَاء وَإِن كَانَ قد عمل لَهُ عَليّ أَن يُعْطِيهِ عوضا وَلم يعين فَلهُ أجر الْمثل الَّذِي جرت بِهِ الْعَادة وَإِذا اسْتحق عَلَيْهِ شَيْئا فَلهُ استيفاءه من تركته بِدُونِ إِذْنه وَإِن لم يسْتَحق شَيْئا لم يَأْخُذ شَيْئا إِلَّا بِإِذْنِهِ

وَمن وكل رجلا وكَالَة مُطلقَة فِي إجَازَة أَو نَحْوهَا فأجر أرضه بِخَمْسَة آلَاف وأجرتها تَسَاوِي عشرَة آلَاف فَلهُ تضمين الْوَكِيل مَا فرط فِيهِ وَأكْثر الْفُقَهَاء يَقُولُونَ الْإِجَارَة بَاطِلَة كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحد قولي أَحْمد لَكِن إِن كَانَ الْمُسْتَأْجر مغرورا لم يعلم بِحَال الْوَكِيل بل ظن أَنه مَالك علم بِالْقيمَةِ فَلهُ الرُّجُوع على من غره بِمَا لم يلْزم فِي أصح قولي الْعلمَاء وزرعه مُحْتَرم لَا يقْلع مجَّانا بل يتْرك بِأُجْرَة الْمثل وَإِن كَانَ عَالما فَهُوَ ظَالِم غَاصِب وَهل للْمَالِك قلعه مجَّانا عَليّ قَوْلَيْنِ وَهل يملكهُ بِنَفَقَتِهِ عَليّ قَوْلَيْنِ وَيملك إبقاءه بِأُجْرَة الْمثل اتِّفَاقًا وَإِذا ادّعى الْمُسْتَأْجر أَنه غير عَالم بِالْحَال فَأنْكر الْمُؤَجّر فَالْقَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه وَمن وكل وَكيلا فِي بيع ملكه فَبَاعَهُ لشخص وَثَبت البيع والحيازة وَحكم بِهِ حَاكم ثمَّ وَقفه الْمُشْتَرى وَحكم حَاكم بِصِحَّة الْوَقْف وَالْمُوكل عَالم بذلك كُله وَلم يبد فِيهِ مطعنا ثمَّ ادّعى أَنه كَانَ قد عزل الْوَكِيل قبل البيع وَلم يعلم الْوَكِيل وَأقَام بَيِّنَة وَحكم بِهِ حَاكم فَمن قَالَ لَا يَنْعَزِل قبل الْعلم وَهُوَ الْمَشْهُور مَذْهَب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَقَول مَالك فعلى هَذَا لَا يقبل بِمُجَرَّد قَوْله بِمُجَرَّد دَعْوَاهُ الْعَزْل قبل التَّصَرُّف ورذا أَقَامَ بِهِ بَيِّنَة بِبَلَد آخر كَانَ حكما عَليّ الْغَائِب إِذا قيل بصتح فالغائب على حجَّته فَلهُ الْقدح فِي الشُّهُود وَفِي الحكم بِمَا يسوغ من كَون الْحَاكِم الَّذِي حكم لَا يرى الْعَزْل وَكَون الشُّهُود فسقه أَو متهمين ثمَّ الَّذِي حكم بِصِحَّة البيع وَالْوَقْف إِن كَانَ مِمَّن لَا يرى عزل الْوَكِيل قبل علمه وَقد بلغه ذَلِك فَحكمه نَافِذ لَا يجوز نقضه بِحَال بل من نقضه نقض حكمه وَإِن كَانَ لم يعلم ذَلِك ومذهبه عدم الحكم بِصِحَّتِهِ إِذا ثَبت كَانَ وجود حكمه كَعَدَمِهِ وَالْحكم الثَّانِي إِذا لم يعلم الْعَزْل قبل البيع أَو علم بذلك وَهُوَ لَا يرَاهُ أَو رَآهُ وَهُوَ لَا يرى نقض الحكم الْمُتَقَدّم وَمَا ذكر من علم الْمُوكل بِمَا جرى وسكوته كَانَ وجود حكمه كَعَدَمِهِ واستوثق الحكم فِي الْقَضِيَّة وَقبض الْمُوكل الثّمن دَلِيل عَليّ بَقَاء الْوكَالَة إِ لم يعرضه معَارض راحج

وَأكْثر الْعلمَاء يقبلُونَ مثل هَذِه الْحَج ويدفعون بهَا دَعْوَى الْعَزْل لَا يسما مَعَ كَثْرَة شُهُود الزُّور وَلَو حكم بِبُطْلَان الْوَقْف لم يجب على الْوَكِيل وَلَا على المُشْتَرِي رد مَا اسْتَوْفَاهُ من الْمَنْفَعَة لِأَنَّهُمَا مغروران غرهما الْمُوكل فَلَا تضمن لَهُ الْمَنْفَعَة وَالْقَوْل فِي دفع الثّمن إِلَى الْمُوكل قَول الْوَكِيل إِن كَانَ بِلَا جعل وَإِن كَانَ يَجْعَل فَقَوْلَانِ وَإِذا فسخ الْوَكِيل النِّكَاح الْمَأْذُون لَهُ فِي فَسخه بعد تَمْكِين الْحَاكِم لَهُ صَحَّ فَسخه وَلم يحْتَج بعد ذَلِك إِلَيّ حكم بِصِحَّة الْفَسْخ فِي مَذْهَب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَغَيرهم وَلَكِن الْحَاكِم نَفسه إِذا فعل فعلا مُخْتَلفا فِيهِ من عقد أَو فسخ كتزويج بِلَا ولي ومشترى عين غَائِبَة ليتيم ثمَّ رفع إِلَى حَاكم لَا يرَاهُ فَهَل لَهُ نقضه قبل أَن يحكم بِهِ أَو يكون فعل الْحَاكِم حكما رَافعا للْخلاف عَليّ وَجْهَيْن فِي مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد وَالْحَاكِم هُنَا لَيْسَ هُوَ الفاسخ وَإِنَّمَا هُوَ الْآذِن وَالْحَاكِم بِجَوَازِهِ كَمَا لَو حكم بميراث وَأذن لَهُ فِي التَّصَرُّف أَو حكم بِأَنَّهُ ولي الْيَتِيم وَأذن لَهُ فِي التَّصَرُّف فَفِي كل مَوضِع حكم لشخص بِاسْتِحْقَاق العقد أَو الْفَسْخ فعقد هَذَا الْمُسْتَحق أَو فسخ لم يحْتَج بعد ذَلِك إِلَيّ حكم حَاكم للصِّحَّة أَو للْفَسْخ بِلَا نزاع فِي مثل هَذَا وَإِنَّمَا النزاع فِيمَا إِذا كَانَ هُوَ الْعَاقِد أَو الفاسخ وَالصَّحِيح أَن عقده وفسخه لَا يحْتَاج إِلَيّ حكم حَاكم فِيهِ يرى أَن لَا يفْسخ بِالِاعْتِبَارِ كَأبي حنيفَة أما من يرى الْفَسْخ فَلَيْسَ لَهُ نقض الحكم بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة وكل تصرف متنازع فِيهِ رذا حكم بِصِحَّتِهِ لم يكن لغيره نقضه إِذا لم يُخَالف نصا وَلَا إِجْمَاعًا وَمن صَالح عَليّ بعض الْحق خوفًا من ذهَاب جمعيه فَهُوَ مكره لم يَصح صلحه وَله أَن يُطَالب بِالْحَقِّ بعد ذَلِك إِذا ثَبت بِبَيِّنَة أَو إِقْرَار

فصل في الإقرار

وَإِذا غر الْوَكِيل شخصا وأجره أَرضًا بِدُونِ أُجْرَة الْمثل فَهَل لأَصْحَاب الأَرْض تضمين الْمُسْتَأْجر عَليّ قَوْلَيْنِ وَإِذا ضمنوه فَهَل لَهُ الرُّجُوع عَليّ الْغَار الَّذِي هُوَ الْوَكِيل بِمَا يلْتَزم ضَمَانه بِالْعقدِ عَليّ قَوْلَيْنِ لِأَحْمَد وَغَيره وَإِن علم الْمُسْتَأْجر ضمن مَا اسْتَوْفَاهُ من الْمَنْفَعَة وَإِن لم يكن استوفى بعد فللمالك مَنعه من الِاسْتِيفَاء فصل فِي الْإِقْرَار وَمن اتهمَ غُلَامه بِسَرِقَة شئ فَذكر الْغُلَام أَنه أودعهُ عِنْد فلَان مثلا فَلَا يجوز مُؤَاخذَة فلَان بقول الْغُلَام بِاتِّفَاق الْمُسلمين سَوَاء كَانَ الحكم قَاض الحكم أَو ولي الْأَمر بل الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْفُقَهَاء فِي الْمُتَّهم بِسَرِقَة وَنَحْوهَا أَن ينظر فِي الْمُتَّهم فإمَّا أَن يكون مَعْرُوفا بِالْفُجُورِ أَو مَجْهُول الْحَال فَإِن كَانَ مَعْرُوفا بِالْبرِّ وَالتَّقوى لم يجز مُطَالبَته وَلَا عُقُوبَته وَهل يحلف عَليّ قَوْلَيْنِ للْعُلَمَاء وَمِنْهُم من قَالَ يعززمن رَمَاه بالتهمة فَأَما إِن كَانَ مَجْهُول الْحَال فَإِنَّهُ يجنس حَتَّى يكْشف أمره وَقيل يحبس شهرا وَقيل بِقدر اجْتِهَاد ولي الْأَمر لما فِي السّنَن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه حبس فِي تُهْمَة وَكَذَلِكَ نَص عَلَيْهِ الْفُقَهَاء من أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهم وَإِن كَانَ الرجل مَعْرُوفا بافجور الْمُنَاسب للتُّهمَةِ فَقَالَ طَائِفَة من الْفُقَهَاء يضْربهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي وَقَالَ طَائِفَة يضْربهُ الْوَالِي فَقَط ذكر ذَلِك طوائف من أَصْحَاب مَالك وَالْإِمَام أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَمن الْفُقَهَاء من قَالَ لَا يضْرب وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الزبير أَن يمس بعض المعاهدين بِالْعَذَابِ لما كتم إخْبَاره بِالْمَالِ

حبن سَأَلَهُ عَن كنز حَيّ بن أَخطب فَقَالَ يَا مُحَمَّد أذهبته النَّفَقَات والحروب فَقَالَ المَال كثير والعهد أقرب من هَذَا ثمَّ قَالَ للزبير دُونك هَذَا فمسه الزبير بشئ من الْعَذَاب فدلهم على المَال وَأما إِذا ادعِي أَنه استودعه فلَانا فَهُوَ أخف فَإِذا كَانَ مَعْرُوفا بِالْخَيرِ لم يجز إِلْزَامه بِالْمَالِ بِاتِّفَاق الْمُسلمين بل يحلف الْمُدَّعِي عَلَيْهِ سَوَاء كَانَ الحكم والبا أَو قَاضِيا وَمن أقرّ بِوَطْء جَارِيَته فَأَتَت بِولد يُمكن كَونه مِنْهُ لحقه وَلَيْسَ لَهُ بيعهَا وَلَا وَلَدهَا لَكِن إِن ادّعى الِاسْتِبْرَاء فَفِي قبُول قَوْله وتخليفه نزاع بَين الْعلمَاء وَمن ادّعى بِحَق بعد مُدَّة طَوِيلَة من غير مَانع يعرف فَلَا تقبل الدَّعْوَى فِي أحد قولي الْعلمَاء وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَغَيره وَمن كَانَ عَلَيْهِ حق شَرْعِي فتبرع بِملكه بِحَيْثُ لَا يبْقى لأهل الْحُقُوق مَا يستوفونه فَهُوَ بَاطِل فِي أحد قولي الْعلمَاء وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد من جِهَة أَن قَضَاء الدّين وَاجِب وَنَفَقَة الْوَلَد كَذَلِك فَيحرم عَلَيْهِ أَن يدع الْوَاجِب وبصرفه فِيمَا لَا يجب فَيرد إِلَى ملكه ويصرفه فِيمَا يجب من قَضَاء دينه وَنَفَقَة وَلَده وَإِن أقرّ لفُلَان بِمَال وَلم يكن لَهُ قبل هَذَا الْإِقْرَار شئ لم يصر لَهُ عَلَيْهِ شئ بِهَذَا الْإِقْرَار بل الْإِقْرَار بَاطِل كذب وَلَو جعله لَهُ فِي ذمَّته لم تكن عطيته أمرا وَاجِبا وَالْعدْل بَين أَوْلَاده وَاجِب فِي أصح قولي الْعلمَاء ورذا قَالَ أعْطوا هَذَا لأيتام فلَان وَثمّ قرينَة تبين مُرَاده هَل هُوَ إِقْرَار أَو وَصِيَّة عمل بهَا وَإِن لم يعرف فَمن كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِهِ لم يزل عنملكه بِلَفْظ مُجمل بل يَجْعَل وَصِيَّة لَا إِقْرَارا وَالله أعلم وَمن أقرّ لزوجته بشئ وَلَا شئ لَهَا قبل ذَلِك لم يحل لَهَا أَخذه فَإِنَّهُ يكون

وَصِيَّة لوَارث فَلَا تَأْخُذهُ رلا بِإِجَازَة الْوَرَثَة وَأما فِي الحكم فَلَا تُعْطى حَتَّى تصدق على إِقْرَار وَإِن كَانَ فِي مرض الْمَوْت كَانَ بَاطِلا عِنْد أَكثر الْعلمَاء وَإِذا صدقت على الْإِقْرَار فَادّعى وَصِيَّة أَو ورثته أَنه إِقْرَار من غير اسْتِحْقَاق فَإِن ذَلِك بِمَنْزِلَة أَن يدعى فِي الْإِقْرَار أَنه أقرّ قبل الْقَبْض وَمثل هَذَا تنَازع الْعلمَاء فِي التَّحْلِيف عَلَيْهِ وَالصَّحِيح التَّحْلِيف وَمن أعتق أمة ثمَّ تزَوجهَا ثمَّ ملكهَا فِي صِحَة من عقله جَمِيع مَا حوى مسكهم الَّذِي هم فِيهِ من نُحَاس وقماش وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ خَارج عَن لبسه ثمَّ زقر لَهَا بذلك إِقْرَارا فَأجَاب ابْن جمَاعَة بدر الدّين إِن كَانَ الَّذِي ملكهَا إِيَّاه معينا وأقبضها إِيَّاه فِي صِحَة مِنْهُ وَجَوَاز تصرف صَحَّ التَّمْلِيك بِشُرُوطِهِ وَالله أعلم وَأجَاب شيخ الْإِسْلَام أَبُو الْعَبَّاس رذا زقر أَن جَمِيع مَا فِي بَيته ملك زَوجته رلا السِّلَاح وَالدَّوَاب وَآله الْخَيل كَانَ هَذَا الْإِقْرَار صَحِيحا يعْمل بِمُوجبِه بِلَا خلاف وَكَأن مُسْتَنده فِي ذَلِك أَنه ملكه لزوجته تمليكها شَرْعِيًّا لَازِما بَاطِنا وظاهرا وَالله أعلم مَسْأَلَة فِي الْأُمَرَاء الَّذين يستدينون مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَيكْتب الْأَمِير خطه لصَاحبه أَو يُقَيِّدهُ وَكيله أَو نَائِبه فِي دفتره أَو يقْرض دَرَاهِم وكل ذَلِك بِغَيْر حجج وَلَا إِشْهَاد ثمَّ يَمُوت فَكل مَا وجد بِخَط الْأَمِير أَو أخبر بِهِ كَاتبه أَو وَكيله فِي ذَلِك مثل أسناد دَاره فَإِنَّهُ يجب الْعَمَل بذلك لِأَن خطة كلفظه وَإِقْرَار وَكيله فِيمَا وَكله فِيهِ مَقْبُول فَلَا يحْتَاج أَصْحَاب الْحُقُوق إِلَى بَيِّنَة لِأَن فِيهِ ظلما للأموات والأحياء وخروجا عَن الْعدْل الْمَعْرُوف وَإِذا أَبرَأته من صَدَاقهَا ثمَّ أقرّ لَهَا بِهِ لم يجز هَذَا الْإِقْرَار لِأَنَّهُ قد علم أَنه كذب وَلَو جعله تَمْلِيكًا بدل ذَلِك لم يجز أَيْضا عِنْد الْجُمْهُور وَلَا أَن يَجْعَل ذَلِك دينا فِي ذمَّته لِأَن التَّمْلِيك لَا يكون فِي الذِّمَّة

كتاب الغصب

كتاب الْغَصْب من اسْتعَار فرسا إِلَى مَكَان معِين فَزَاد عَنهُ ضمن نقص الْفرس إِن نقصت وَكَانَ ظَالِما ورذا طلبت الْجَارِيَة شيذا من شخص عَليّ لِسَان سيدتها وَلم تكن السيدة أَذِنت لَهَا كَانَت الْجَارِيَة غاصبة قابضة ذَلِك بِغَيْر حق فَإِن تلف فضمانه فِي رقبَتهَا وَمن كَانَ مَعَه دَرَاهِم حَرَامًا قد أَعْطَاهَا إِيَّاه وَاحِد وبدلها من دَرَاهِم وَالِده بِدَرَاهِم حَلَال فَحكم الْبَدَل حكم الْمُبدل مِنْهُ فَإِذا نمت بِفِعْلِهِ وريحت أَو كسبت فَفِيهِ نزاع أعدل الْأَقْوَال التَّقْسِيم بَين مَنْفَعَة المَال وَمَنْفَعَة الْعَامِل بِمَنْزِلَة الْمُضَاربَة كَمَا فعل عمر رَضِي الله عَنهُ فِي المَال الَّذِي اتّجر فِيهِ أَوْلَاده من بَيت المَال والكلف الَّتِي تطلب من النَّاس بِحَق أَو بغيرحتى يحب الْعدْل وَيحرم أَن يوفر فِيهَا بعض النَّاس وَيجْعَل قسطه على غَيره وَمن قَامَ فِيهَا بنية الْعدْل وَتَخْفِيف الظُّلم مهما أمكن وإعانة الضَّعِيف لِئَلَّا يتَكَرَّر الظُّلم بِلَا نِيَّة إِعَانَة الظَّالِم كَانَ كالمجاهد فِي سَبِيل الله تَعَالَى إِذا تحرى الْعدْل وابتغى وَجه الله تَعَالَى وَالثَّوَاب وَالْجَزَاء إِنَّمَا هُوَ على الصَّبْر على الْمُصِيبَة لَا على الْمُصِيبَة لِأَن الْمُصِيبَة من فعل الله تَعَالَى وَهِي من جَزَاء الله للْعَبد على ذَنبه يكفر لَهُ ذَنبه بهَا وَفِي الْمسند أَنهم دخلُوا على أبي عُبَيْدَة بن الْجراح رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ مَرِيض فَذكرُوا أَنه يُؤجر على مَرضه فَقَالَ مَالِي من الْأجر وَلَا مثل هَذِه وَلَكِن المصائب خطه فَتبين أَن نفس الْمَرَض لَا يُؤجر عَلَيْهِ بل يكفر بِهِ عله وَكَثِيرًا مَا يفهم من هَذَا الْأجر غفران الذُّنُوب فَيكون فِيهِ الْأجر بِهَذَا الِاعْتِبَار

وَمن النَّاس من قَالَ لَا بده من التعويض وَالْأَجْر وَالْإِنْسَان قد يحصل لَهُ ثَوَاب بِغَيْر عمل مِنْهُ كَمَا يفعل عَنهُ من أَعمال الْبر وَأما الصَّبْر فَفِيهِ أجر عَظِيم فَمن أُصِيب بِجرح وَنَحْوه فَعَفَا عَن جارحه كَانَ الْجرْح مُصِيبَة يكفر بهَا عَنهُ ويؤجر على صبره وعَلى إحسانه إِلَى الظَّالِم بِالْعَفو عَنهُ فَمن توهم أَن بِالْعَفو قد يسْقط حَقه أَو ينقص قدره أَو يحصل لَهُ ذل فَهُوَ غالط كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ثَلَاث إِن كنت لحالفا عَلَيْهِنَّ مَا زَاد الله عبدا بِعَفْو إِلَّا عزا وَمَا نقصت صَدَقَة من مَال وَمَا تواضع أحد لله إِلَّا رَفعه وَهَذَا رد لما يَظُنّهُ من النَّقْص والذل أتباعا للظن وَمَا تهوى الْأَنْفس من أَن الْعَفو مذلة وَالصَّدَََقَة تنقص مَاله والتواضع يخفضه وَمَا انتقم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لنَفسِهِ قطّ إِلَّا أَن تنتهك محارم الله فينتقم لله وَالنَّاس أَرْبَعَة مِنْهُم من ينتصر لنَفسِهِ ولربه وَهُوَ الَّذِي فِيهِ دين وَغَضب الله وَمِنْهُم من لَا ينتصر لنَفسِهِ وَلَا لرَبه وَهُوَ الَّذِي فِيهِ جبن وَضعف دين وَمِنْهُم من ينْتَقم لنَفسِهِ لَا لرَبه وَهُوَ شَرّ الْأَقْسَام وَأما الْكَامِل فَهُوَ الَّذِي ينتصر لحق الله وَيَعْفُو عَن حق نَفسه عِنْد الْمقدرَة وَمن غضب زرع رجل وحصده أُبِيح للْفُقَرَاء الْتِقَاط المتساقط كَمَا لَو حصدها الْمَالِك كَمَا يُبَاح رعي الْكلأ فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة نَص أَحْمد على هَذَا الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَن مَا يُبَاح من الْكلأ واللفاظ لَا يخْتَلف بِالْغَضَبِ وَعَدَمه وَلَا يمنعهُ حق الْمَالِك وَمن وهب ربع مَكَان فَتبين أَنه أقل من ذَلِك لم تبطل الْهِبَة

باب الشفعة

بَاب الشُّفْعَة لَا يحل الْكَذِب والتحيل على إِسْقَاط حق الْمُسلم من الشفعية وَغَيرهَا وَيجب على المُشْتَرِي تَسْلِيم الثشقص بِالثّمن الَّذِي وَقع البيع عَلَيْهِ بَاطِنا والتحميل على إِسْقَاطهَا بعد رُجُوعهَا بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَإِنَّمَا النزاع فِي الاحتيال عَلَيْهَا قبل الْوُجُوب وَإِن بَاعَ المُشْتَرِي الشّقص الْمَشْفُوع فَلَا تسْقط الشُّفْعَة وَإِن وقْعَة أَو وهبه فَفِيهِ نزاع وَحَيْثُ حكم الْحَاكِم للشَّفِيع بِالشُّفْعَة فَلَا ينقص الحكم إِلَّا إِذا أَخذ الشَّفِيع الشّقص أما مُجَرّد الحكم باستحقاقه فَلَا لَكِن مَا وجد من التَّصَرُّفَات لأجل الاحتيال على إِسْقَاط الشُّفْعَة فَهُوَ بَاطِل فَإِذا أظهر صُورَة أَن البيع بَاطِل لتخلف شَرطه بِأَن ادّعى عدم الرُّؤْيَة الْمُعْتَبرَة ورد الْمَبِيع ثمَّ وقف البَائِع على المُشْتَرِي حِيلَة فكله بَاطِل وَحَتَّى الشَّفِيع ثَابت إِلَّا أَن يتْركهُ وَالْمَال المكسوب عوضا عَن عين مُحرمَة مُحرمَة أَو مَنْفَعَة إِن كَانَت الْعين أَو الْمَنْفَعَة مُبَاحَة فِي نَفسهَا وَإِنَّمَا حرمت بِالْقَصْدِ مثل من يَبِيع عنبا لمن يتخذها خمرًا أَو من يسْتَأْجر لعصر الْخمر أَو حملهَا فَهَذَا يَفْعَله بِالْعِوَضِ لَكِن لَا يطيب لَهُ أكله وَأما إِن كَانَت الْعين أَو الْمَنْفَعَة مُحرمَة كمهر الْبَغي وَثمن الْخمر فَهُنَا لَا يقْضِي لَهُ بِهِ قبل الْقَبْض وَلَو أعطَاهُ إِيَّاه لم يحكم برده إِلَى باذله فَإِن هَذَا مَعُونَة لَهُم على الْمعاصِي إِذْ لَهُ بَين الْعِوَض والمعوض وَلَا يحل هَذَا المَال للبغايا أَو الْخمار أَو نَحْوهمَا لَكِن يصرف إِلَيْهِم من هَذَا المَال مِقْدَار حَاجتهم فَإِن كَانَ وَاحِد مِنْهُم يقدر أَن يتجر أَو يعْمل صَنْعَة كالنسج والغزل أعْطى مَا يكون لَهُ رَأس مَال وَإِن افترضوا مِنْهُ شَيْئا ليكتسبوا بِهِ وَلم يردوا عوض الْقَرْض كَانَ أحسن

وَإِمَّا إِذا تصدق بِهِ لاعْتِقَاده أَنه لَا يحل لَهُ أَن يتَصَدَّق بِهِ فَهَذَا يُثَاب على ذَلِك وَأما إِذا تصدق ب كَمَا يتَصَدَّق الْمَالِك بِملكه فَهَذَا لَا يقبله الله إِن لَا يقبل إِلَّا الطّيب وَهَذَا خَبِيث كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مهر الْبَغي خَبِيث وَلَا يجوز خياطه الْحَرِير لمن يلْبسهُ لباسا محرما مثل لبسه مصمتا للرجل فِي غير حَرْب وَلَا تداو بِهِ وَلِأَنَّهُ من الْإِعَانَة على الْإِثْم والعدوان وَكَذَلِكَ مَا كَانَ من هَذَا الْبَاب مثل صَنْعَة الذَّهَب لمن يلْبسهُ لباسا محرما وَكَذَلِكَ الْآتِيَة من الذَّهَب وَالْفِضَّة على أصح الْقَوْلَيْنِ عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء وَكَذَلِكَ صَنْعَة آلَات اللَّهْو وتصوير وَالْحَيَوَان وتصوير الْأَوْثَان والصلبان وأمثال ذَلِك مِمَّا فِيهِ تَصْوِير الشَّيْء على صُورَة يحرم اسْتِعْمَالهَا فِيهِ وَكَذَلِكَ صَنْعَة الْخمر وَأمكنهُ الْكفْر والمعاصي والعوض الْمَأْخُوذ على ذَلِك الْعَمَل الْمحرم خَبِيث وَيجب إِنْكَار ذَلِك وَأما خياطته لمن يلْبسهُ لباسا جَائِزا فَهُوَ يُبَاح وَإِن كَانَ الرجل يمسهُ عِنْد الْخياطَة وَيجوز اسْتِعْمَال خيوط الْحَرِير فِي لِبَاس الرجل وَكَذَلِكَ الْعلم والسجاف مَوضِع اثْنَيْنِ أَو ثَلَاث أَو أَرْبَعَة أَصَابِع وَمن ورث من آبَائِهِ ملكا هُوَ السُّلْطَان يقاسم بِالثُّلثِ مثل الْمغل فَلَيْسَ لأحد أَن ينْزع حُقُوق النَّاس الَّتِي بِأَيْدِيهِم وَلَا يجوز رفع أَيدي الْمُسلمين الثَّانِيَة على حُقُوقهم إِذْ الأَرْض الخراجية كالسواد وَغَيره نقل من المخارجة إِلَى الْمُقَاسَمَة كَمَا فعل ذَلِك الْمَنْصُور بسواد الْعرَاق وأقرت أَيدي أَهلهَا وَهل تنْتَقل عَن أَهلهَا إِلَى ذُرِّيتهمْ وَغَيره بِالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّة وَالْهِبَة وَكَذَلِكَ بِالْبيعِ تنْتَقل فِي أصح قَول الْعلمَاء إِذْ حكمهَا بيد المُشْتَرِي كحكمها بيد البَائِع وَلَيْسَ هَذَا بيعا للْوَقْف الَّذِي لَا يُبَاع وَلَا يُوهب وَلَا يُورث كَمَا غلط فِي ذَلِك من منع بيع أَرض السوَاد مُعْتَقدًا أَنَّهَا كالوقف الَّذِي لَا يجوز مَعَه مَعَ أَنه يجوز أَن يُورث ويوهب

باب المساقاة

إِذا لَا خلاف فِي هَذَا بل يَنْبَغِي أَن يُبَاع مَا لبيت المَال من هَذِه الْأَرْضين وَمَال بَيت المَال من الْمَغَانِم الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَة الْخراج فَمثل هَذَا لَا يُبَاع لما فِيهِ من إِضَاعَة حُقُوق الْمُسلمين وَمن أغضب مَالا استفادة صَاحبه من حَلَال فَاشْترى بِهِ مماليك وأعتقهم فَإِن كَانَ اشْترى بِإِذْنِهِ فَلَا يَصح الْعتْق إِلَّا بِإِذْنِهِ وَإِن اشْترى بِمَالِه بِغَيْر إِذْنه فَلصَاحِب المَال أَخذهم وَله أَن يغرمه مَاله وَإِذا أعتقهم هَذَا المُشْتَرِي إِذن فَلصَاحِب المَال أَخذهم وَالْعِتْق بَاطِل وَلَا يجوز أَن يزاحم من فرض لَهُ ولي الْأَمر على الصَّدقَات قرضا لأجل فقره فَلَا يجوز انْتِزَاعه من يَده وَإِذا حرم السمُوم على سوم الرجل فِي الْمُعَاوَضَات فَهَذَا أَشد تَحْرِيمًا من ذَلِك نتاج الدَّابَّة المغضوبة لمَالِكهَا وَلَا يحل للْغَاصِب لَكِن إِن كَانَ النِّتَاج مستولدا من عمل الْغَاصِب فَمن النَّاس من يَجْعَل النَّمَاء مقاسمة بَين الْمَالِك وَالْغَاصِب كالمضاربة وَنَحْوهَا بَاب الْمُسَاقَاة الْمُزَارعَة على الأَرْض بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا جَائِز سَوَاء الْبذر من رب الأَرْض أَو من الْعَامِل هَذَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي دلّت عَلَيْهِ سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ زارع أهل خَيْبَر على شطر مَا يخرج مِنْهَا من ثَمَر وَزرع على أَن يعمروها من أَمْوَالهم والمزارعة على الأَرْض الْبَيْضَاء مَذْهَب الثَّوْريّ وَابْن أبي ليلى وَأحمد وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن والمحققين من أَصْحَاب الشَّافِعِي وعلماء الحَدِيث وَبَعض أَصْحَاب مَالك وَغَيرهم

وَنَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن المخابرة هِيَ أَنَّهَا كَانُوا يعاملون ويشترطون للْمَالِك بقْعَة مُعينَة من الأَرْض وَهَذَا بَاطِل بالِاتِّفَاقِ كَمَا لَو شَرط دَرَاهِم مقدرَة فِي الْمُضَاربَة وَمن اسْتَأْجر أَرضًا بِجُزْء من زَرعهَا فَظَاهر الْمَذْهَب صِحَّتهَا سَوَاء سميت إجَازَة أَو مزرعة فَإِن لم تزرع الأَرْض وصححناها ضمنت بِالْمُسَمّى وَالصَّحِيح هُنَا لَيْسَ هُوَ فِي الذِّمَّة ينظر إِلَى معدل الْمغل فَيجب الْقسْط الْمُسَمّى فِيهِ وَإِذا جعلناها مُزَارعَة صَحِيحَة فَيَنْبَغِي أَن تضمن بِمثل ذَلِك لِأَن الْمَعْنى وَاحِد وَإِن أفسدناها وسميناها إِجَارَة فَفِي الْوَاجِب قَولَانِ أَحدهمَا أُجْرَة الْمثل وَهُوَ ظَاهر قَول أَصْحَابنَا وَغَيرهم وَالثَّانِي قسط الْمثل وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق وَأجَاب بعض النَّاس أَن هَذِه إجَازَة فَاسِدَة فَيجب بِالْقَبْضِ فِيهَا أُجْرَة الْمثل وَضَمان الْبَسَاتِين الَّتِي فِيهَا أَرض وَشَجر عدَّة سِنِين صَحِيح فِي أحد قولي الْعلمَاء فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وَهُوَ الصَّحِيح الَّذِي اخْتَارَهُ ابْن عقيل وَغَيره وَثَبت عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَنه ضمن حديقة لأسيد ابْن حضير بعد مَوته ثَلَاث سِنِين ووفى بِالضَّمَانِ دينه فَهَذِهِ الضمانات الَّتِي الْبَسَاتِين دمشق الشتوية الَّتِي فِيهَا أَرض وَشَجر صَحِيحَة وَإِن كَانَ قد كتب فِي الْمَكْتُوب إِجَارَة الأَرْض وَالْمُسَاقَاة على الشّجر فالمقصود الَّذِي اتفقَا عَلَيْهِ هُوَ الضَّمَان الْمَذْكُور وَالْعبْرَة فِي الْعُقُود بِالشُّرُوطِ الَّتِي اتّفق عَلَيْهَا المتعاقدان والمقاصد مُعْتَبرَة فِي الْعُقُود والعقود الَّتِي نهى عَنْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بيع الثَّمر قبل بَدو صَلَاحهَا هُوَ بيع الثَّمر الْمُجَرّد كَمَا تبَاع الكروم فِي دمشق بِحَيْثُ يكون السَّقْي وَالْعَمَل على البَائِع والضمانات مبينَة بالمؤاجرة

وَمن أعْطى أرضه لرجل يغرسها بِجُزْء مَعْلُوم وَشرط عَلَيْهِ عمارتها فغرس بعض الأَرْض وتعطل بَاقِي الأَرْض من الْغِرَاس فَإِذا لم يقم بِمَا شَرط عَلَيْهِ كَانَ لرب الأَرْض الْفَسْخ وَإِذا فسخ الْعَامِل كَانَت فلزب الأَرْض تملك نصيب الغارس بِقِيمَتِه إِذا اتفقَا على الْقلع وَمن رتب على فائض مَسْجِد رزقه على الحكم أَو الخطابة فَبَقيَ سِنِين لَا يتَنَاوَل شَيْئا لعدم الفائض ثمَّ زَادَت الْأُجْرَة فِي السّنة الثَّانِيَة وَلَيْسَ لَهُ مصارف شَرْعِيَّة وَاقْتضى نظر الإِمَام أَن يصرفهُ إِلَى الإِمَام أَن يصرفهُ إِلَى الإِمَام عوضا عَمَّا فَاتَهُ فِي الْمَاضِي جَازَ ذَلِك وَإِن كَانَ لَهُ مصارف شَرْعِيَّة بِالشّرطِ لم يجز بل يصرف إِلَى مصارفه ومزارعة الإقطاع جَائِزَة كالملك فِي أصح قولي الْعلمَاء وَلَا يجوز أَن يشْتَرط على الْعَامِل شَيْئا معينا كالدجاجة وَنَحْوهَا وَتجوز الشَّهَادَة عَلَيْهَا وَلَو كَانَ الشَّاهِد مِمَّن لَا يجوزها لِأَنَّهُ عقد مُخْتَلف فِيهِ وَالشَّاهِد يشْهد بِمَا رأى والمحققون من أَصْحَاب أبي حنيفَة ويجوزنها كَمَا هُوَ مَذْهَب فُقَهَاء الحَدِيث وَإِذا ألزموا الْفَلاح بِعشر مَا على الجندي الْمزَارِع فيؤديه من مَال الجندي فَهُوَ حق ثَابت بَين لَا نزاع فِيهِ وَلَيْسَ حَقًا خفِيا وَلَا يُمكن الجندي جَحده فَهُوَ بِمَنْزِلَة حق هِنْد بنت عتبَة على أبي سُفْيَان فَإِن حق النَّفَقَة للزَّوْجَة على زَوجهَا ظَاهر لَا يُمكن جَحده وَلذَلِك قَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ بِخِلَاف الْحق الْخَفي الَّذِي قَالَ فِيهِ أد الْأَمَانَة إِلَى من ائتمنك وَلَا تخن من خانك لما قَالَ لَهُ إِن لنا جيرانا لَا يدعونَ لنا شَاذَّة وَلَا فاذة إِلَّا أخذوها فَإِذا قَدرنَا لَهُم على شَيْء أفتأخذه فَقَالَ أد الْأَمَانَة إِلَى من ائتمنك وَلَا تخن من خانك لِأَن الْحق هُنَا خَفِي فَإِذا أَخذ شَيْئا من غير اسْتِحْقَاق ظَاهر كَانَ خِيَانَة

باب الاجارة

بَاب الاجارة إِذا دلّس الْمُسْتَأْجر على الْمُؤَجّر مثل أَن يكون أخبرهُ أَن قيمَة الأَرْض فِي النَّاحِيَة الْفُلَانِيَّة كَذَا بِمَا ينقص عَن قيمتهَا وَلم يكن الْأَمر كَذَلِك فَأَجره بِمَال ثمَّ تبين لَهُ هَذَا التَّدْلِيس فَلهُ فسخ الْإِجَارَة كَذَلِك إِن أُجْرَة موهما لَهُ أَنه لَيْسَ هُنَاكَ من يستأجرها وَكَانَ لَهَا طلاب أَو أخبرهُ أَن هَذَا سعرها وَلم يكن سعرها وأمثال ذَلِك وَإِذا أجر الوصى بِدُونِ الْمثل كَانَ ضَامِنا لما فَوْقه على الْيَتِيم وَلَيْسَت الْإِجَارَة لَازِمَة فلليتيم فَسخهَا بعد رشده بل هِيَ ياطلة فِي أحد قولي الْعلمَاء وَفِي الآخر لَهُ أَن يفسخها ثمَّ إِن كَانَ الْمُسْتَأْجر غير عَالم بِتَحْرِيم مَا فعله الْوَصِيّ كَانَ لَهُ أَن يضمنهُ مالم يلْتَزم ضَمَانه فَإِن علم اسْتَقر الضَّمَان عَلَيْهِ بل إِذا أجره بِأُجْرَة الْمثل مُدَّة يعلم أَن الصَّبِي يبلغ فِي أَثْنَائِهَا فَأكْثر الْعلمَاء يجوزون للْيَتِيم الْفَسْخ وصناعة التنجيم وَالِاسْتِدْلَال بهَا على الْحَوَادِث محرم بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَأخذ الْأجر على ذَلِك سحت وَيمْنَعُونَ من الْجُلُوس فِي الحوانيت والطرقات وَيمْنَع النَّاس أَن يكرموهم وَالْقِيَام فِي مَنعهم عَن ذَلِك من أفضل الْجِهَاد فِي سَبِيل الله تَعَالَى وَلَيْسَ لوَرَثَة الْمُؤَجّر فسخ الْإِجَارَة وتستوفى من تركته عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء لَكِن مِنْهُم من قَالَ قَالَ تحل الْأُجْرَة بِالْمَوْتِ وتستوفي من تركته فان لم يكن لَهُ تَرِكَة فسخ الْإِجَارَة وَمِنْهُم من قَالَ لَا تحل رلا إِذا وَافق الْوَرَثَة وَهَذَا أظهر الْقَوْلَيْنِ لِأَحْمَد وَالله أعلم وَمن أجر أرضه وساقاه على الشّجر ثمَّ قطع الْمُؤَجّر بعض الشّجر فقد نقص من الْعِوَض الْمُسْتَحق بِقدر مَا نقص من الْمَنْفَعَة وَهَذَا وَإِن كَانَ فِي اللَّفْظ إِجَارَة ومساقاة فَهِيَ عَليّ الْمَعْنى الْمَقْصُود عِنْد الْجَمِيع

وَقد تنَازع الْعلمَاء فِي صِحَة هَذَا العقد سَوَاء قيل بِصِحَّتِهِ أَو فَسَاده فَمَا ذهب من الشّجر ذهب مَا يُقَابله من الْعِوَض سَوَاء كَانَ بِقطع الْمَالِك أَو غير قطعه وَجوز إِجَارَة أَرض مصر سَوَاء شملها مَاء الرى أَو لم يشملها إِذا كَانَت الأَرْض مِمَّا قد جرت الْعَادة بِأَن الرى يشملها كَمَا تكرى الأَرْض الَّتِي جرت عَادَتهَا أَن تشرب من المَاء قبل أَن ينزل الْمَطَر عَلَيْهَا وَهَذَا مَذْهَب أَئِمَّة الْمُسلمين مَالك وَأبي حنيفَة وَأحمد وَهُوَ إيضا مَذْهَب الشَّافِعِي الصَّحِيح عَنهُ وَلَكِن بعض أَصْحَابه غلط فِي مَعْرفَته فَلم يفرق بَين الأَرْض الَّتِي ينالها المَاء غَالِبا وَالَّتِي لَا ينالها إِلَّا نَادرا كَالَّتِي تشرب فِي غَالب الْأَوْقَات ثمَّ هَذِه الأَرْض الَّتِي صحت إِجَارَتهَا إِن شملها الرى وَأمكن مجئ الزَّرْع الْمُعْتَاد وَجَبت الْأُجْرَة وَإِن لم يرو مِنْهَا شئ فَلَيْسَ على الْمُسْتَأْجر شئ من الْأُجْرَة وَإِن روى بَعْضهَا وَجب من الْأُجْرَة بِقَدرِهِ وَمن ألزم الْمُسْتَأْجر بِالْأُجْرَةِ إِذا لم ترو الأَرْض فقد خَالف إِجْمَاع الْمُسلمين وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَا حَاجَة إِلَى قَوْله أجرتكها مقيلا أَو مراحا وَلَا فَائِدَة فِيهِ وَإِنَّمَا فعل ذَلِك من ظن أَنه لَا تجوز الْإِجَارَة قبل رى الأَرْض وَالَّذِي فَعَلُوهُ من إِجَارَتهَا مقيلا أَو مراحا بَاطِل بِإِجْمَاع الْمُسلمين من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنَّهَا لَا تصلح مقيلا وَلَا مراحا لِأَن الْمَاشِيَة لَا تقبل إِلَّا بِأَرْض تقيم بهَا عَادَة بِقرب مَا ترعاه وتشرب من مَائه أما الأَرْض الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَاء وَلَا زرع وَلَا عمَارَة فَلَا تصلح مقيلا وَلَا مراحا وَإِجَارَة الْعين لمَنْفَعَة لَيست فِيهَا بَاطِلَة الثناي أَن هَذِه الْمَنْفَعَة إِذا كَانَت حَاصِلَة فَهِيَ غير مُتَقَومَة فِي مثل هَذِه الأَرْض بل الْبَريَّة كلهَا تشارك هَذِه الأَرْض فِي كَونهَا مقيلا ومراحا وَالْمَنْفَعَة الَّتِي لَا قيمَة لَهَا فِي الْعَادة بِمَنْزِلَة الْأَعْيَان الَّتِي لَا قيمَة لَهَا لَا يصلح أَن يرد عَلَيْهَا عقد

فصل

إِجَارَة وَلَا بيع بِاتِّفَاق كالاستظلال بشجرة والاستضاءة بناره من بعد وَالنَّاس يعلمُونَ فِي الْعدة هَل رويت أم لَا فصل إِذا كَانَت الْإِجَارَة لَازِمَة فَلَيْسَ للمؤجر أَن يخرج الْمُسْتَأْجر عَن الْعين قبل انْقِضَاء الْمدَّة سَوَاء حصلت زِيَادَة فِي أثْنَاء الْمدَّة أَو لم تحصل وَسَوَاء كَانَت الْعين وَقفا أَو ملكا ليتيم أَو غَيره وَهَذَا مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم وَلم يقل أحد من الْمُسلمين إِن الْإِجَارَة الْمُطلقَة تكون لَازِمَة من أحد الطَّرفَيْنِ فِي وَقت وَلَا غَيره وَإِن شَذَّ بعض المتأجرين فَحكى نزاعا فِي بعض ذَلِك فَهُوَ مَسْبُوق بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة قبله فَلَا تجوز قبُول الزِّيَادَة فِي وقف وَلَا غَيره الا حَيْثُ لَا تكون الْأُجْرَة لَازِمَة مثل كل يَوْم بِكَذَا فَفِي كل يَوْم لَهُ أَن يُخرجهُ وَله أَن يخرج فَهُوَ مُتَمَكن من الإخلاء والمؤجر كَذَلِك مثله لَيْسَ للنَّاظِر وَلَا لوَلِيّ الْيَتِيم أَن يسلم مَا يتَصَرَّف فِيهِ إِلَّا بِإِجَارَة شَرْعِيَّة وَكَذَلِكَ الْوَكِيل مَعَ مُوكله متصرف بِحكم الْولَايَة لَيْسَ للنَّاظِر أَن يَجْعَل الْإِجَارَة لَازِمَة من جِهَة الْمُسْتَأْجر جَائِزَة من جِهَته فَإِن هَذَا خلاف الْإِجْمَاع إِن اعْتقد صِحَة الْإِجَارَة والنفع وَنَحْوهَا مِمَّا جرت بِهِ الْعَادة كَمَا هُوَ قَول الْجُمْهُور جَازَ لَهُ أَن يُسلمهُ الْعين بِمَا هُوَ إِجَارَة فِي الْعرف وَإِن كَانَ لَا يرى صِحَة ذَلِك إِلَّا بِاللَّفْظِ كَانَ عَلَيْهِ أَن لَا يُسَلِّمهَا إِلَّا إِذا أجرهَا بِاللَّفْظِ وَمن اعْتقد جَوَاز بيع المعاطاه سَلمَة الْمَبِيع بِهَذَا البيع وَإِن اعْتقد عدم صِحَّته لم يكن لَهُ أَن يُسلمهُ بالمعاطاة فَكل من اعْتقد شَيْئا وَجب عيه الْعَمَل بِهِ لَهُ وَعَلِيهِ وَلَيْسَ لأحد أَن يعْتَقد

فصل

أحد الْقَوْلَيْنِ فِيمَا لَهُ دون مَا عَلَيْهِ كمن يعْتَقد أَنه إِذا كَانَ جارا اسْتحق شُفْعَة الْجوَار وَإِذا كَانَ مُشْتَريا لم تجب عَلَيْهِ شُفْعَة الْجوَار وَإِذا كَانَ من الْإِخْوَة من الْأُم فِي المشركة أسقط ولد الْأَبَوَيْنِ وَإِن كَانَ هُوَ من الْأُخوة لِلْأَبَوَيْنِ ورث وشارك وَإِذا كَانَ هُوَ الْمُدعى قضى بِالنّكُولِ وَإِذا كَانَ مدعى عَلَيْهِ قضى برد الْيَمين وأمثال ذَلِك كثير فَلَيْسَ لأحد أَن يعْتَقد فِي مَسْأَلَة نزاع مثل هَذَا بِاتِّفَاق الْمُسلمين فَإِن مَضْمُون هَذَا أَنه يحلل لنَفسِهِ مَا يحرمه على مثله وَبِالْعَكْسِ وَيُوجب على غَيره مَالا يُوجِبهُ على نَفسه مَعَ تساويهما فَمن اعْتقد جَوَاز فَهُوَ كَافِر فالمؤجر يلْتَزم لَهُ وَعَلِيهِ مَا يَعْتَقِدهُ فَإِذا سلم الْعين بِإِجَارَة يجوزها لنَفسِهِ وَيُطَالب بِالْأُجْرَةِ الَّتِي سَمَّاهَا لم يحل لَهُ أَن يقبل زِيَادَة وَمن ذَلِك من زَاد على من يكترى أَو ساوم على من ركن إِلَيْهِ وَجب تعزيز المزايد والمساوم الَّذِي يضارره وَيجوز إِجَارَة الإقطاع وَإِذا أقطعت لآخر صَارَت لَهُ من حِين أقطع فَإِن شَاءَ أجرهَا لذَلِك الْمُسْتَأْجر وَإِن شَاءَ لم يؤجرها لَهُ وَإِن كَانَ للْمُسْتَأْجر فِيهَا زرع أبقاه بأجره الْمثل إِلَى حِين تَمام صَلَاحه فصل هَل يجوز ضممان الْبَسَاتِين وَالْأَرْض الَّتِي فِيهَا النّخل أَو الشّجر الَّذِي لم يبد صَلَاح ثَمَرَة فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال قيل لَا يجوز بِحَال بِنَاء على أَنه دَاخل فِيمَا نهى عَنهُ من بيع الثَّمَرَة قبل بَدو صَلَاحهَا وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف عَن الشَّافِعِي وَأحمد نَص عَلَيْهِ وَمذهب أبي حنيفَة أَشد منعا وتنازع هَؤُلَاءِ هَل يجوز الاحتيال على ذَلِك بِأَن يُؤجر

الأَرْض ويساق على الشّجر يجزء يسير على قَوْلَيْنِ الْمَنْصُوص عَن أَحْمد أَنه لَا يجوز وَذكر القَاضِي أَبُو يعلى أَنه يجوز وَهُوَ الْمَعْرُوف عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي وَهَذِه الْحِيلَة قد تتعذر عَليّ أصل مصححي الْحِيَل وَهِي بَاطِلَة من وُجُوه أَحدهَا أَن الأَرْض قد تكون وَقفا أَو ليتيم وَنَحْوه فَمن يتَصَرَّف فِي مَاله بِحكم الْولَايَة فالمساقاه عَليّ ذَلِك بِجُزْء يسير لَا يجوز وَاشْتِرَاط أحد الْعقْدَيْنِ فِي الآخر لَا يجوز الثَّانِي أَن الْفساد الَّذِي نهى من أَجله عَن بيع الثَّمَرَة قبل بَدو صَلَاحهَا من كَونه غررا هُوَ من جنس الْقمَار مَوْجُود فِي هَذِه الْمُعَامَلَة أَكثر من وجوده عِنْد مُجَرّد بيع الثَّمَرَة الثَّالِث أَن اسْتِئْجَار الأَرْض الَّتِي تَسَاوِي مائَة بِأَلف وَالْمُسَاقَاة عَليّ الثَّمَرَة بِجُزْء من ألف جُزْء فعل السُّفَهَاء الَّذين يسْتَحقُّونَ الْحجر عَلَيْهِم فضلا عَن إِمْضَاء فعلهم وَالْحكم بِصِحَّتِهِ وَأَيْضًا لَهُ أَن يُطَالِبهُ بِجَمِيعِ الْأُجْرَة حصلت الثَّمَرَة أَو لم تحصل فَلَيْسَ هَذَا من أَفعَال الرَّاشِدين لَا سِيمَا إِن كَانَ الْمُتَصَرف مِمَّا لَا يملك التَّبَرُّع وَلَيْسَ الْفَقِيه من عمد إِلَيّ مَا نهى عَنهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دفعا لفساد يحصل لَهُم فَعدل عَنهُ إِلَى مَا فَسَاده أَشد مِنْهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة المستجير من الرمضاء بالنَّار وَهَذَا يسلم من قَاعِدَة إبِْطَال الْحِيَل فَإِن كثيرا مِنْهَا يتَضَمَّن من الْفساد وَالضَّرَر أَكثر مِمَّا فِي إِثْبَات المنهى عَنهُ ظَاهرا كَمَا قَالَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ يخادعون الله كَأَنَّمَا يخادعون الصّبيان لَو أَتَوا الْأَمر على وَجهه كَانَ أَهْون على وَلِهَذَا يُوجد فِي نِكَاح التَّحْلِيل من الْفساد أعظم مِمَّا يُوجد فِي نِكَاح الْمُتْعَة إِذا الْمُتَمَتّع قَاصد للنِّكَاح إِلَى وَقت والمحلل غير قَاصد لنكاح فَكل فَسَاد نهى عَنهُ فِي التَّمَتُّع فَهُوَ فِي التَّحْلِيل وَزِيَادَة وَلِهَذَا تنكر قُلُوب النَّاس التَّحْلِيل أعظم من إنكارها الْمُتْعَة والمتعة أبيحت أول الاسلام وتنازع السّلف فِي نسخهَا والتحليل لم يبح قطّ وَمن شنع على الشِّيعَة

بِإِبَاحَة الْمُتْعَة مَعَ إِبَاحَته التَّحْلِيل فقد سلطهم عَليّ الْقدح فِي السّنة كَمَا يُسَلط النَّصَارَى على الْقدح فِي الاسلام بِمثل إِبَاحَة التَّحْلِيل حَتَّى قَالُوا إِن هَؤُلَاءِ قَالَ لَهُم نَبِيّهم إِذا طلق أحدكُم امْرَأَته لم حل لَهُ حَتَّى تَزني وَذَلِكَ أَن التَّحْلِيل سفاح كَمَا سَمَّاهُ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم القَوْل الثَّانِي أَنه إِن كَانَت مَنْفَعَة الأَرْض هِيَ الْمَقْصُود وَالشَّجر تَابع جَازَ أَن يُؤجر الأَرْض وَيدخل فِي ذَلِك الشّجر تبعا وَهَذَا قَول مَالك يقدر البَائِع بِقدر الثُّلُث وَيجوز من بيع الثَّمَرَة قبل بَدو صَلَاحهَا مَا يدْخل ضمنا وتبعا كَمَا أجَاز أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع الثَّمَرَة بعد أَن يُؤثر الشّجر فالمبتاع قد اشرى الثَّمَرَة قبل بَدو صَلَاحهَا لَكِن تبعا لذَلِك القَوْل الثُّلُث أَنه يجوز ضَمَان الأَرْض وَالشَّجر جَمِيعًا وَإِن كَانَ أَكثر وَهُوَ قَول ابْن عقيل وَهُوَ مأثور عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي بيعَة حُذَيْفَة أسيد بن حضير رَضِي الله عَنهُ لما قبلهَا ثَلَاث سِنِين ووفي دين أسيد بن حضير روى ذَلِك حَرْب فِي مسائلة عَن أَحْمد وَرَوَاهُ أَبُو ذَر الدِّمَشْقِي وَغَيرهمَا وَهُوَ مَعْرُوف عَن عمر رَضِي الله عَنهُ والحداذق الَّتِي بِالْمَدِينَةِ يغلب عَلَيْهَا الشّجر وَقد ذكر هَذَا الْأَمر بعض فُقَهَاء الْمغرب وَزعم أَنه خلاف الْإِجْمَاع وَلَيْسَ بِشَيْء بل ادِّعَاء الْإِجْمَاع على جَوَازه أقرب فَإِن عمر رَضِي الله عَنهُ فعله بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة بمشهد من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار واشتهر وَلم يُنكر مَعَ أَنهم كَانُوا يُنكرُونَ مادون هَذَا عَليّ عمر كَمَا أنكر عمرَان بن حُصَيْن وَغَيره رَضِي الله عَنْهُم مَا فعله عمر من مُتْعَة الْحَج وَالَّذِي فعله عمر رَضِي الله عَنهُ هُوَ الصَّوَاب وَإِذا تدبر الْفَقِيه أصُول الشَّرِيعَة تبين لَهُ أَنه لَيْسَ دَاخِلا فِيمَا نهى الله عَنهُ لأمور أَحدهَا أَن الأَرْض يُمكن فِيهَا الْإِجَارَة وَيُمكن فِيهَا بيع حبها قبل أَن يشْتَد وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما نهى عَن بيع الْحبّ حَتَّى يشْتَد لم يكن ذَلِك نهيا عَن إِجَارَة الأَرْض وَإِن كَانَ هُوَ مَقْصُود الْمُسْتَأْجر الَّذِي يعْمل فِي الأَرْض

حَتَّى يحصل لَهُ الْحبّ بِخِلَاف الْمُشْتَرى فَإِنَّهُ حبا مُجَردا وعَلى البَائِع خدمته حَتَّى يتَحَصَّل وَكَذَلِكَ نَهْيه عَن بيع الْعِنَب حَتَّى يسود لَيْسَ نهيا لمن يَأْخُذ الشّجر فَيقوم عَلَيْهَا ويسقيها حَتَّى تثمر إِنَّمَا النهى لمن اشْترى عنبا مُجَردا رعلى البَائِع خدمتها حَتَّى تكمل كَمَا يفعل المشترون للأعيان الَّتِي تسمى الكروم وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يبيعونها حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا بِخِلَاف التَّضْمِين الْوَجْه الثَّانِي أَن الْمُزَارعَة عَليّ الأَرْض كالمسافاة على الشَّجَرَة وَكِلَاهُمَا جاذز عِنْد فُقَهَاء الحَدِيث وَإِجْمَاع الصَّحَابَة وَالَّذين نهوا عَنْهَا ظنوها من بَاب الْإِجَارَة بعوض مَجْهُول وَأَبُو حنيفَة طرد قِيَاسه فَلم يجوزها بِحَال وَأما الشَّافِعِي فَإِنَّهُ اسْتثْنى مَا يحْتَاج إِلَيْهِ كالبياض إِذا دخل تبعا للشجر فِي المسافاة وَكَذَلِكَ مَالك يُرَاعى الْقلَّة وَالْكَثْرَة على أَصله هَؤُلَاءِ جعلُوا الْمُضَاربَة بِهِ أَيْضا خَارِجَة الْقيَاس ظنا مِنْهُم أَنَّهَا من بَاب الْإِجَارَة بعوض مَجْهُول وَالتَّحْقِيق أَن هَذِه الْمُعَامَلَات هِيَ من بَاب المشاركات لَا من بَاب المؤاجرات وَالْمُضَاربَة وَالْمُسَاقَاة والمزارعة مُشَاركَة هَذَا بنفع بِبدنِهِ وَهَذَا ينفع مَاله وَمَا قسم الله من الرِّبْح كَانَ بَينهمَا كشركة الْعَنَان وَلَو قيل هِيَ جعَالَة كَانَ أشبه لِأَن الْجعَالَة لَا يكون الْعَمَل فِيهَا مَعْلُوما وَلَكِن لَيست جعَالَة أَيْضا فَإِن الْجعَالَة يكون الْمَقْصُود فِيهَا لأَحَدهمَا من غير جنس مَقْصُود الآخر هَذَا قَصده رد أبقه وَهَذَا قَصده الْجعل بِخِلَاف الْمُسَاقَاة والمزارعة وَالْمُضَاربَة فَإِنَّهُمَا شريكان فِي الْجِنْس الْمَقْصُود وَهُوَ الرِّبْح مستوران فِي المغرم والمغنم وَلِهَذَا وَجب أَن يكون الْمَشْرُوط فِيهَا مشَاعا مُقَدرا مَعْلُوم وَلَو كَانَت إِجَارَة أَو جعَالَة لَكَانَ أقل الْأَحْوَال فِيهَا أَن يجوز كَون الْعِوَض فِيهَا مُقَدرا مَعْلُوما لَا شَائِعا فَلَمَّا كَانَ الْمَشْرُوط لأَحَدهمَا من جنس الْمَشْرُوط للْآخر علم

أَنه من بَاب الْمُشَاركَة كَمَا فِي الشّركَة الْعَنَان وَلَو شَرط لأَحَدهمَا مِقْدَارًا من الرِّبْح أَو غَيره لم يجز لِأَنَّهُ المخابرة فَأَيْنَ من يَجْعَل مَا جَاءَت بِهِ السّنة مُوَافقا لِلْأُصُولِ مِمَّن يَجعله مُخَالفا لِلْأُصُولِ وَإِذا كَانَ كَذَلِك فمعلوم أَنه إِذا ساقاه عَليّ الشّجر بِجُزْء من الثَّمَرَة كَمَا إِذا زارعه عَليّ الأَرْض بِجُزْء من الزَّرْع أَو مُضَارَبَة عَليّ النَّقْد بِجُزْء من الرِّبْح فقد جعلت الثَّمَرَة من بَاب الناء والفائدة الْحَاصِلَة ببدن هَذَا وَمَال هَذَا وَالَّذِي نهى عَنهُ من بيع الثَّمَرَة قبل بَدو صَلَاحهَا لَيْسَ للْمُشْتَرِي عمل فِي حُصُوله أصلا بل الْعَمَل كُله عَليّ البَائِع فَإِذا اسْتَأْجر الأَرْض وَالشَّجر حَتَّى يحصل لَهُ ثَمَر جَازَ كَمَا إِذا استأة ر الأَرْض حَتَّى يحصل لَهُ الزَّرْع الْوَجْه الثَّالِث أَن الثَّمَرَة تجرى الْمَنَافِع والفوائد فِي الْوَقْف وَالْعَارِية وَنَحْوهَا وَيجوز وقف الشّجر لينْتَفع مِنْهُ أهل الْوَقْف بالثمرة كَمَا يقف الأَرْض وَيجوز إِعَارَة الشّجر كَمَا يجوز إفقار الظّهْر وإعارة الدَّار ومنحه اللَّبن فَإِن قيل هَذَا يقتضى أَن الْأَعْيَان مَعْقُود عَلَيْهَا فِي الْإِجَارَة قيل إِن تَقْبِيل الأَرْض وَالشَّجر لَيْسَ هُوَ عقد عَليّ عين وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة إِجَارَة الأَرْض ليحصل لَهُ الزَّرْع لَكِن العقد ورد عَليّ الْمَنَافِع الَّتِي هِيَ مَنْفَعَة هَذِه الْأَعْيَان وَيُقَال ثَانِيًا لَا سنلم أَن ؤجارة الظِّئْر عَليّ خلاف الْقيَاس فَكيف يُقَال ذَلِك وَلَيْسَ فِي الْقُرْآن إِجَارَة مصوصة فِي شريعتنا إِلَّا فِي إِجَارَة الظذر فَمن ظن أَن الْإِجَارَة لَا تكون إلاعلى الْمَنْفَعَة قَالَ ذَلِك وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بل الْإِجَارَة لَا تكون إِلَّا على مَا يسْتَوْفى مَعَ بَقَاء أَصله سَوَاء كَانَ عينا أَو مَنْفَعَة كالظذر ونقع الْبذر فهى يحدثها الله تَعَالَى وَأَصلهَا بَاقٍ فَهِيَ كالمنفعة وَلِهَذَا جَازَ وقف هَذِه الْأُصُول لَا ستمرار هَذِه الْفَوَائِد أعيانها ومنافعها

فَأن قيل فَهَذَا يقتضى جَوَاز إجغارة الْحَيَوَان قيل وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة نزاع بَين الْعلمَاء أَيْضا والمعرضة لَا تكون بِمَسْأَلَة نزاع بل بِدَلِيل شَرْعِي فَإِن كل ماذكرنا من ذَلِك يُوجب صِحَة هَذِه الْإِجَارَة وَلزِمَ طرده ورذا لم يتَمَكَّن الْمُسْتَأْجر من ازدراع الأَرْض لآفة حصلت لم يكن عَلَيْهِ أُجْرَة وَإِن نبت الزَّرْع ثمَّ حصلت آفَة سَمَاوِيَّة أتلفته قبل التَّمَكُّن من حَصَاده فَفِيهِ نزاع نظرا إِلَى أَن الثَّمَرَة وَالْمَنْفَعَة هِيَ الْمَعْقُود عَلَيْهَا وَهَذَا الزَّرْع لَيْسَ بمعقود عَلَيْهِ بل الْمَعْقُود عَلَيْهِ الْمَنْفَعَة وَمن سوى بَينهمَا قَالَ الْمَقْصُود بِالْإِجَارَة هُوَ الزَّرْع فَإِذا حَالَتْ الآفة بَين الْمَقْصُود بِالْإِجَارَة وَالْمُسْتَأْجر كَانَ قد تلف الْمَقْصُود بِالْعقدِ قبل التَّمَكُّن من قَبضه والمؤجر وَإِن لم يعاض عَليّ زرع فقد عاوض عَليّ الْمَنْفَعَة الَّتِي يُمكن بهَا من حُصُول الزَّرْع فَإِذا حصلت الآفة قبل التَّمَكُّن لم تسلم لَهُ الْمَنْفَعَة الْمَعْقُود عَلَيْهَا بل تلفت قبل التَّمَكُّن وَلَا فرق بَين تعطل مَنْفَعَة الأَرْض فِي أول الْمدَّة أَو آخرهَا وعَلى هَذَا بنبني مَسْأَلَة ضَمَان الحداذق وَالله أعلم وَمن لَهَا حلى فأكثرته كِرَاء مُبَاحا لمن تتزين بِهِ ازوجها أَو سَيِّدهَا فَهُوَ حائز وَكَرِهَهُ مَالك وَأحمد وَكثير من أصحابهما كَرَاهَة تَنْزِيه فَإِذا أكرته لحاجتها وأكلت كراءه لم ينْه عَنهُ وَعَلَيْهَا زَكَاته عِنْد أَكْثَرهم أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد فَأَما إِن أكرته لمن تتزين بِهِ للرِّجَال الْأَجَانِب فَلَا يجوز وَأَشد من يَفْعَله للفاحشة قَالَ الله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} وَلَا يجوز أَخذ الْأُجْرَة عَليّ الْإِعَانَة عَليّ الْفَاحِشَة لَا يجلى وَلَا يلبس وَلَا مسكن وَلَا دَابَّة وَلَا غير ذَلِك

وَمن اسْتَأْجر مَا يكون مَنْفَعَة إِجَارَته لعامة النَّاس مثل الْحمام والفندق والقيسارية فنقصت الْمَنْفَعَة الْمَعْرُوفَة لعمل خير منهت أَو قلَّة الزبون لخوف أَو حَرْب أَو تحول ذى سُلْطَان وَنَحْوه يحط عَن الْمُسْتَأْجر من الْأُجْرَة بِقدر مَا نقص من الْمَنْفَعَة سَوَاء رَضِي النَّاظر وَأهل الْوَقْف أَو سخطوا وَالْوَزْن كالوزن بِسَائِر الموازين إِذا وزن بِالْعَدْلِ جَازَ لَهُ أَخذ الْأُجْرَة مِمَّن وزن لَهُ وَإِن وزن باخسا كَانَ من الظَّالِمين الْمُعْتَدِينَ إِذْ أعطَاهُ شمعا وَقَالَ أوقده فَكلما نقص مِنْهُ أُوقِيَّة فَهِيَ بِكَذَا جَازَ ذَلِك كَمَا لَو قَالَ اسكن هَذِه الدَّار كل يَوْم بِكَذَا فِي أظهر قولي الْعلمَاء فَإِنَّهُ إِذن فِي الْإِتْلَاف عَليّ وَجه الِانْتِفَاع وَقَالَ بَعضهم لَيْسَ هُوَ من بَاب الْإِجَارَة وَلَا من بَاب البيع اللَّازِم بل هُوَ مُعَاوضَة جاذزة لَا لَازِمَة كَمَا لَو قَالَ ألق متاعك فِي الْبَحْر وعَلى ثمنه لَكِن لَا بُد أَن يكون الْإِذْن بالايقاد فِي أَمر مُبَاح وعَلى النَّاظر أَن لَا يُؤجر حَتَّى يغلب على ظَنّه أَنه لَيْسَ هُنَاكَ من يزِيد وَعَلِيهِ أَن يشهر الْمَكَان عِنْد أهل الرغبات الَّذين جرت عَادَتهم باستئجار مثل ذَلِك الْمَكَان فَإِذا فعل ذَلِك فقد أجره بأجره الْمثل وَهِي الْإِجَارَة الشَّرْعِيَّة فَإِن حابى بِهِ بعض أصدقائه أَو بعض من لَهُ عِنْده يَد فَأَجره بِدُونِ أُجْرَة الْمثل كَانَ ظَالِما ضَامِنا لما نقص أهل الْوَقْف من أُجْرَة الْمثل وَلَو تَغَيَّرت أسعار الْعقار بعد الْإِجَارَة الشَّرْعِيَّة لم يملك الْفَسْخ بذلك فَإِن هَذَا لَا يَنْضَبِط وَلَا يدْخل فِي التَّكْلِيف وَالْمَنْفَعَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَان قد تخْتَلف فَتكون قيمتهَا فِي الشتَاء أَكثر مِنْهَا فِي الصَّيف وَبِالْعَكْسِ فَلَو قدر أَنَّهَا انْفَسَخت فِي بعض الْحول لسقطت الْأُجْرَة فِي مثل ذَلِك بِالْقيمَةِ رلا بأجزاء الزَّمَان فَيُقَال كم قِيمَته وَقت الصَّيف وَكم قِيمَته وَقت الشتَاء فتقسم الْأُجْرَة ويحسب لكل من الْأُجْرَة بِقدر قِيمَته وَالْوَاجِب على النَّاظر أَن يفعل مصلحَة الْوَقْف من كرائه مساومة أَو شماهرة أَو مانهة

فصل

وَلَيْسَ لَهُ إِخْرَاج الْمُسْتَأْجر قبل انْقِضَاء مدَّته لأجل زِيَادَة أَو غَيرهَا وَمَا فعله بعض متأخرى الْفُقَهَاء من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَأحمد من التَّفْرِيق بَين أَن يُزَاد قدر الثُّلُث أَو أقل فَهُوَ قَول مُبْتَدع لَا أصل لَهُ عِنْد أحد من الْأَئِمَّة لَا بِسَبَب تفَاوت وَقت وَلَا غَيره وَالله أعلم ورذا كَانَ الْوَقْف عَليّ وجهة عَامَّة جَازَت إِجَارَته بِحَسب الْمصلحَة وَلَا يتَقَدَّر بِعَدَد عِنْد أَكثر الْعلمَاء وَإِذا وَقع النزاع بَين الْمَالِك وَالْمُسْتَأْجر فَقَالَ الْمُسْتَأْجر أعرتني وَقَالَ الْمَالِك بل أجرتك فَالْقَوْل قَول الْمَالِك وَفِي الدَّابَّة رِوَايَتَانِ قيل قَول الْمَالِك وَقيل قَول الرَّاكِب وَهُوَ قَول أبي حنيفَة ورذا قُلْنَا فِي الأَرْض مثلا القَوْل قَول الْمَالِك فَهَل يُطَالب بِالْأُجْرَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا أَو بِأُجْرَة الْمثل أَو بِالْأَقَلِّ مِنْهَا عَليّ ثَلَاثَة أَقْوَال فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وَقَالَ مَالك القَوْل قَول الْمَالِك وَمِنْهُم من قَالَ إِلَّا أَن يكون مثله لَا يكرى الدَّوَابّ وَللشَّافِعِيّ فيهمَا قَولَانِ بِالنَّقْلِ والتخريج فَإِنَّهُ نَص فِي الأَرْض أَن القَوْل قَول الْمَالِك وَفِي الدَّابَّة القَوْل قَول الرَّاكِب وَبَعض أَصْحَابه قررالنصين وَفرق بِأَن الدَّابَّة يسمح بعاريتها بِخِلَاف الأَرْض فصل فِي فلاح حرث أَرضًا ثمَّ زَرعهَا غَيره إِذا كَانَت الأَرْض مقاسمة لرب الأَرْض سهم وللفلاح سهم فَإِنَّهُ يقسم نصيب الْفَلاح من الْحَرْث وَالزَّرْع على مِقْدَار مَا يذلاه من نفع وَمَال وَإِذا أجره الْوَصِيّ مُدَّة ثَلَاثِينَ سنة بِغَيْر قيمَة الْمثل ثمَّ توفى الْوَصِيّ وَبَلغت

الْمُوصى عَلَيْهَا رشدها فلهَا أَن تفسخ الْإِجَارَة بِلَا نزاع وَإِنَّمَا النزاع هَل تقع الْإِجَارَة بَاطِلَة من أَصْلهَا ومضمونة عَليّ الْمُؤَجّر أجَاب بذلك فِي رجل تصدق على بنته لصلبه وَأسْندَ وَصيته لرجل فأجر مُدَّة ثَلَاثِينَ سنة فَأجَاب بذلك ورذا أقْرضهُ عشرَة عَليّ أَن يكترى مِنْهُ حانوته بِأَكْثَرَ من أُجْرَة الْمثل لم يجز هَذَا بِاتِّفَاق الْمُسلمين بل لَو قرن بَينهمَا كَانَ بَاطِلا مَنْهِيّا عَنهُ عِنْد أَكثر الْعلمَاء والإقطاع نَوْعَانِ نوع إقطاع تمْلِيك كَمَا يقطع ولي الْأَمر الْموَات لمن يحييه بتملكه وإقطاع استغلال وَهُوَ إقطاع مَنْفَعَة الأروض لمن شَاءَ وَأَن يستغلها أَو يؤجرها أَو يزارع عَلَيْهَا والإقطاع الْيَوْم من هَذَا الْبَاب فَإِن المقطعين لم يقطعوا لمُجَرّد أخراج وَاجِب عَليّ شئ من الأَرْض بيدهم كالخراج الشَّرْعِيّ الَّذِي ضربه عمر رَضِي الله عَنهُ على بِلَاد العنوة وكالإجارة الَّتِي تكون فِي ذمَّة من يسْتَأْجر عقارا لبيت المَال فَمن أقطع ذَلِك فقد أقطع خراجا وَإِذا عرف ذَلِك فَإِذا انْفَسَخ الإقطاع أثْنَاء السّنة إِمَّا لمَوْت المقطع وَإِمَّا لغير ذَلِك كَانَت الْمَنْفَعَة الْحَادِثَة للمقطع الثَّانِي دون الأول بِحَيْثُ لَو كَانَ الأول قد أجر الأَرْض ثمَّ انْفَسَخ إقطاعه انْفَسَخت تِلْكَ الْإِجَارَة كَمَا تَنْفَسِخ إِجَارَة الْبَطن الأول إِذا انْتقل الْوَقْف إِلَى الْبَطن الثَّانِي فِي أصح الْوَجْهَيْنِ فَإِذا انْفَسَخ فِي نصف الْمدَّة كَانَ لَهُ نصف الْمَنْفَعَة وَإِذا انْفَسَخ فِي ربعهَا كَانَ الأول الرّبع وَللثَّانِي ثَلَاثَة أَربَاع الْمَنْفَعَة الْمُسْتَحقَّة وَالْأول لَيْسَ بغاصب بل هُوَ كالمستأجر بل أولى فَهُنَا للفقهاء ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا الزَّرْع للزارع وَعَلِيهِ الْأُجْرَة وَالثَّانِي الزَّرْع لرب الأَرْض وَعَلِيهِ مَا أنفقهُ الأول على زرعه وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ معروفان فِيمَن زرع أَرض غَيره بِغَيْر إِذْنه وَهَذَا لَيْسَ غَاصبا لَكِن

هُوَ بِمَنْزِلَة من زرع أَرض الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه فَهُوَ كَمَا لَو اتّجر فِي مَال يطنه لنَفسِهِ فَبَان أَنه لغيره وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث قضى بِهِ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي نظيرها وَهُوَ أَصَحهَا فَإِنَّهُ كَانَ قد اجْتمع عِنْد أبي مُوسَى الاشعري رَضِي الله عَنهُ مَال للْمُسلمين يُرِيد أَن يُرْسِلهُ إِلَى عمر فَمر بِهِ عبد الله وَعبيد الله ابْنا عمر فاستقرضاه فَقَالَ إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أَن أعطيكما شَيْئا وَلَكِن عِنْدِي مَال أُرِيد أَن أحملهُ إِلَى أبيكما فخذاه اتجرا بِهِ وَأَعْطوهُ مثل المَال فتكونان قد انتفعتما وَالْمَال حصل عِنْده مَعَ ضمانكما لَهُ فاشتريا بِهِ بضَاعَة فَلَمَّا قدما على عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ أكل الْعَسْكَر أقرضهم مثل مَا أقرضكما فَقَالَا لَا ضعا الرِّبْح كُله فِي بَيت المَال فَسكت عبد الله وَقَالَ لَهُ عبيد الله أَرَأَيْت لَو ذهب هَذَا المَال أما كَانَ علينا ضَمَانه قَالَ بلَى فَقَالَ كَيفَ يكون الرِّبْح للْمُسلمين وعلينا ضَمَانه فَوقف عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ لَهُ الصَّحَابَة اجْعَلْهُ مُضَارَبَة بَينهمَا وَبَين الْمُسلمين لَهما النّصْف من الرِّبْح وَالْمُسْلِمين النّصْف فَعمل عمر ذَلِك وَهَذَا أحسن الْأَقْوَال فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الَّتِي تنَازع فِيهَا الْفُقَهَاء وَفِي مَسْأَلَة التِّجَارَة بالوديعة وَغَيرهَا من مَال الْغَيْر فَإِن فِيهَا أَرْبَعَة أَقْوَال لِأَحْمَد وَغَيره هَل الرِّبْح للْمُودع أَو لبيت المَال أَو لِلْعَامِلِ أَو يتصدقان بِهِ أَو يقسم بَينهمَا كالمضاربة وَمَسْأَلَة الإقطاع كَذَلِك فَإِنَّهُ زرع الأَرْض يَظُنهَا لنَفسِهِ فَتبين أَنَّهَا أَو بَعْضهَا لغيره فَجعل الزَّرْع بَينهمَا للمزارعة الْمُطلقَة مشاطرة فَجعل للْأولِ نصف الزَّرْع كالعامل فِي الْمُزَارعَة وَجعل النّصْف الثَّانِي للمنفعة الْمُقطعَة وَالْأول قد اسْتحق ربعهَا فَيجْعَل لَهُ النّصْف بِنَاء على مَا ذكرنَا وَللثَّانِي ثَلَاثَة أَربَاع النّصْف وَهَذَا أعدل الْأَقْوَال فِي مثل هَذِه الْمَسْأَلَة وتضمن ذَلِك أَن المارعة يكون الزَّرْع فِيهَا من الْعَامِل وَهُوَ الصَّوَاب كَمَا عَامل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل خَيْبَر وَأما الْقُوَّة الَّتِي تجْعَل على الأَرْض فَإِنَّهَا لَيست قرضا مَحْضا كَمَا يَظُنّهُ

بَعضهم فَإِن الْقَرْض الْمُطلق يتَصَرَّف فِيهِ بِمَا أَرَادَ وَهَذِه الْقُوَّة مَشْرُوطَة على من يقبضهَا أَن يبذلها فِي الأَرْض لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّف فِيهَا بِغَيْر ذَلِك فقد جعلت قُوَّة فِي الأَرْض ينْتَفع بهَا كل من يسْتَعْمل الأَرْض من مقطع أَو عَامل إِذْ مصلحَة الأَرْض لَا تقوم إِلَّا بذلك وَلِهَذَا يُقَال من دخل على قُوَّة خرج على نظيرها وَحَقِيقَة الْأَمر أَن السُّلْطَان اشْترط على من يقطعهم أَن ينزلُوا على الأَرْض قُوَّة وَإِذا كَانَ الأول قد أنزل فِيهَا قُوَّة وَالثَّانِي مُحْتَاج إِلَيْهَا فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لأحد من وُلَاة الْأَمر أَن يَجْعَل عطاءها للْأولِ فان قسطه بِحَسب الْمصلحَة جَازَ ذَلِك وَإِذا جرت الْعَادة بِأَن من دخل على قُوَّة خرج على نظيرها وَمن أعْطى قُوَّة من عِنْده واستوفاها مُؤَجّلَة كَانَ إقطاع ولي الْأَمر لَهُ بِهَذَا الشَّرْط وَذَلِكَ جَائِز فَإِن الزَّرْع إِنَّمَا ملكه بالإقطاع وإقطاع ولي الْأَمر بِمَنْزِلَة بَيت مَال الْمُسلمين وَلَيْسَت قسْمَة الْأَمْوَال السُّلْطَانِيَّة بِمَنْزِلَة قسْمَة المَال بَين الشُّرَكَاء المعينين لِأَن قسْمَة المَال بَين الشُّرَكَاء مثل قسْمَة الْمِيرَاث يقسم بَين كل صنف فَرْضه مِنْهُ فان قبل الْقِسْمَة وَإِلَّا بيع وَقسم ثمنه بَين الْوَرَثَة عِنْد أَكثر الْفُقَهَاء كمالك وَأحمد وَأبي حنيفَة وَلَيْسَ لأحد الشَّرِيكَيْنِ أَن يخْتَص بصنف وَأما أَمْوَال الْفَيْء فللإمام أَن يخص مِنْهَا طَائِفَة بِنصْف وَطَائِفَة بِنصْف آخر وَكَذَلِكَ فِي الْمَغَانِم على الصَّحِيح كَمَا يجوز تَفْضِيل بعض الغائمين بِمَنْفَعَة على الصَّحِيح فَمَال الْفَيْء يسْتَحق بِحَسب الْحَاجة وَمَال الْغَنَائِم يقسم على الْمُقَاتلَة فَيجب أَن يقسم بِالْعَدْلِ كَمَا يجب الْعدْل على كل حَاكم وكل قَاسم لَكِن إِذا قدر أَن الْحَاكِم أَو الْقَاسِم لَيْسَ عدلا لم تبطل جَمِيع أَحْكَامه وقسمه على الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ السّلف فَإِنَّهُ قد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أَمر بِطَاعَة وُلَاة الْأُمُور مَعَ جَوْرهمْ فَإِذا أَمر بِالْمَعْرُوفِ وَجَبت طَاعَته وَإِن كَانَ ظَالِما وَإِن حكم حكما عدلا وَقسم قسما عدلا كَانَ من الْعدْل الَّذِي يجب طَاعَته والظالم لَو قسم مِيرَاثا بَين

فصل

مستحقيه بِكِتَاب الله كَانَ عدلا بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَلَو قسم مغنما بَين الْغَانِمين بِالْحَقِّ كَانَ عدلا باجماع الْمُسلمين وَلَو حكم بِبَيِّنَة عادلة لَا معَارض لَهَا وَجب طَاعَته فِيهِ فَأَما إِن كَانَت الْقِسْمَة غير عادلة مثل أَن يُعْطي بعض النَّاس فَوق مَا يسْتَحق أَو ينقص بَعضهم فَهَذَا من الأثرة الَّتِي ذكرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ على الْمُسلم السّمع وَالطَّاعَة فِي عسره ويسره ومنشطه ومكرهه وأثرة عَلَيْهِ مَا لم يُؤمر بِمَعْصِيَة وَمَعْلُوم أَن هَذَا مَا زَالَ فِي وُلَاة الْأَمر وَإِنَّمَا يسْتَثْنى الْخُلَفَاء الراشدون وَمن اتبعهم على سُنَنهمْ وَلَيْسَ لقَائِل أَن يَقُول آخذه بِمُجَرَّد الِاسْتِيلَاء كَمَا لَو لم يكن حَاكم وَلَا قَاسم فَإِنَّهُ على نُفُوذ هَذِه الْمقَالة تبطل الْأَحْكَام والأعطية الَّتِي فعلهَا وُلَاة الْأُمُور جَمِيعهم غير الْخُلَفَاء وَحِينَئِذٍ تسْقط طَاعَة وُلَاة الْأُمُور إِذا فرق بَين حكم وَقسم وَبَين عَدمه وَفِي ذَلِك من الْفساد فِي الْعقل وَالدّين مَالا يخفي فَإِنَّهُ لَو فتح ذَلِك الْبَاب أفْضى إِلَى فَسَاد أعظم من الْمَظَالِم ثمَّ كَانَ كل وَاحِد يظنّ أَن مَا يَأْخُذهُ بِنَفسِهِ هُوَ حَقه وَلَيْسَ للْإنْسَان أَن يكون حَاكما لنَفسِهِ وَلَا شَاهدا لَهَا فَكيف يكون قاسما لَهَا وَلَو كَانَ على مَا يَظُنّهُ الْجَاهِل لَكَانَ وجود الْحَاكِم كَعَدَمِهِ وَهَذَا لَا يَقُوله عَاقل بل قَالَ الْعُقَلَاء سِتُّونَ سنة من سُلْطَان ظَالِم خير من لَيْلَة بِلَا سُلْطَان وَمَا أحسن قَول عبد الله بن الْمُبَارك رَحمَه الله تَعَالَى ... لَوْلَا الْأَئِمَّة لم يُؤمن لنا سبل ... وَكَانَ أضعفنا نهبا لاقوانا ... فصل وَيجوز إِجَارَة المقصبة ليقوم عَلَيْهَا الْمُسْتَأْجر ويسقيها فتنبت الْعُرُوق الَّتِي فِيهَا بِمَنْزِلَة من يسْقِي الأَرْض لينبت لَهُ فِيهَا الْكلأ بِلَا بذر

ثَبت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتجم وَأعْطى الْحجام أجره وَلَو كَانَ سحتا لم يُعْطه إِيَّاه وَلَا ريب أَن الْحجام إِذا حجم أعطي أُجْرَة حجمه عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء وَإِن كَانَ فِيهِ قَول ضَعِيف بِخِلَاف ذَلِك وَقد أرخص لَهُ أَن يعلفه نَاضِحَهُ ويطعمه رَقِيقه كَمَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِذَلِك احْتج أَكثر الْعلمَاء على أَنه لَا يحرم وَإِنَّمَا يكره للْخَبَر تَنْزِيها لِأَنَّهُ لَا يَأْمر بإطعام الْحَرَام للرقيق وَقيل بل يحرم لما روى مُسلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كسب الْحجام خَبِيث وَمَا رُوِيَ أَنه نهى عَن ثمن الدَّم قَالَ الْأَولونَ وَكَذَلِكَ قَالَ من أكل من هَاتين الشجرتين الخبيثتين فَلَا يقربن مَسْجِدنَا فسماهما خبيثتين لخبث ريحهما وليستا حَرَامًا وَقَالَ لَا يصلين أحدكُم وَهُوَ مَا يدافعه الأخبثان فَيكون تَسْمِيَته خبيثا لملاقاة النَّجَاسَة لَا لتحريمه بِدَلِيل أَنه أعْطى الْحجام أجره وَأذن أَن يطعمهُ الرَّقِيق والبهائم وَمهر الْبَغي لَا يطعمهُ رَقِيقا وَبِكُل حَال فحال الْمُحْتَاج لَيْسَ كَحال المستغني عَنهُ كَمَا قَالَ بعض السّلف كسب فِيهِ بعض الدناءة خير من مَسْأَلَة النَّاس وَلِهَذَا تنَازع النَّاس أَخذ الْأُجْرَة على تَعْلِيم الْقُرْآن وَنَحْوه على ثَلَاثَة أَقْوَال لِأَحْمَد وَغَيره أَحدهَا أَنه يُبَاح للمحتاج قَالَ أَحْمد أُجْرَة التَّعْلِيم خير من جوائز السُّلْطَان وجوائز السُّلْطَان خير من صلَة الإخوان وأصول الشَّرِيعَة تفرق فِي المنهيات بَين الْمُحْتَاج وَغَيره كَمَا فِي المأمورات

فأبيحت الْمُحرمَات عِنْد الضَّرُورَة لَا سِيمَا إِذا قدر أَنه يعدل على ذَلِك إِلَى سُؤال النَّاس فَالْمَسْأَلَة أَشد تَحْرِيمًا وَلِهَذَا قَالَ الْعلمَاء يجب أَدَاء الْوَاجِبَات وَإِن لم يقم إِلَّا بِالشُّبُهَاتِ كَمَا سُئِلَ الإِمَام أَحْمد رَضِي الله عَنهُ سَأَلَهُ رجل فَقَالَ إِن ابْنا لي مَاتَ وَعَلِيهِ دين وَله دُيُون أَكثر مِمَّا عَلَيْهِ أفأتقاضاها فَقَالَ أتدع ذمَّة ابْنك مرتهنة بدينة وَلِهَذَا اتّفق الْعلمَاء على أَن رزق الْحَاكِم وَأَمْثَاله جَائِز عِنْد الْحَاجة وَتَنَازَعُوا فِي الرزق عِنْد عدمهَا وَأَصله ولي الْيَتِيم يَأْكُل من مَال الْيَتِيم لِحَاجَتِهِ قَالَ الله تَعَالَى {وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} إِذْ الشَّرِيعَة مبناها على تَحْصِيل الْمصَالح وتكميلها وتعطيل الْمَفَاسِد وتقليلها والورع ترجيج خير الخيرين بِتَقْدِيم أَحدهمَا وَدفع شَرّ الشرين وَإِن حصل أدناهما وَقد جَاءَ فِي الْحجامَة أَحَادِيث كَثِيرَة وَفِي الصَّحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ شِفَاء أمتِي فِي ثَلَاث شربة غسل أَو شرطة محجم أَو كَيَّة نَار وَمَا أحب أَن أكتوى والتداوي بالحجامة جَائِز بِالسنةِ المتواترة وَإِجْمَاع الْعلمَاء وَإِذا جَاءَ من يخْتم القماش بِدَرَاهِم يَدْفَعهَا عَن دينه وَذكر أَنَّهَا من غير كَسبه وَغلب عَليّ الظَّن صَدَقَة جَازَ أَخذهَا وَإِن لم يغلب على الظَّن كذبة جَازَ تَصْدِيق إِذا لم يعرف كذبه وَأي الْأَمريْنِ أفضل فِي أَرض تقبل للنَّاس أَن تَأْخُذ أجرتهَا وَتَتَصَدَّق بهَا أَو تقبل بِلَا أُجْرَة إِن كَانُوا فُقَرَاء فَتَركه لَهُم أفضل وَإِن كَانُوا أَغْنِيَاء وَهُنَاكَ مُحْتَاج فَأخذ الْأُجْرَة لأجل الْمُحْتَاج أفضل وَمن اسْتَأْجر أَجِيرا يعْمل فِي بُسْتَان فَترك الْعَمَل الْمَشْرُوط عَلَيْهِ من غير عذر فَتلف من المَال شَيْء ضمن مَا تلف بِسَبَب تفريطه وَمن اسْتَأْجر أَرضًا فَمَا وَالْأُجْرَة مقسطة فَلَا يجب على أَوْلَاده تَعْجِيل جَمِيع الْأُجْرَة لَكِن إِذا لَا يُوثقُوا بِهِ فَلهُ أَن يطالبهم بِمن يضمن لَهُ الْأُجْرَة فِي أقساطها وَهَذَا قَول من يَقُول لَا يحل الدّين الْمُؤَجل بِمَوْت من هُوَ عَلَيْهِ ظَاهر فَأَما على قَول

من يَقُول إِنَّه يحل فَكَذَلِك هُنَا على الصَّحِيح من قولي الْعلمَاء لِأَن الْوَارِث الَّذِي ورث الْمَنْفَعَة عَلَيْهِ أُجْرَة تِلْكَ الْمَنْفَعَة الَّتِي استوفاها بِحَيْثُ لَو كَانَ على الْمَيِّت دُيُون لم يكن للْوَارِث أَن يخْتَص بِمَنْفَعَة ويزاحم أهل الدّين بِالْأُجْرَةِ بِنَاء على أَنَّهَا من الدُّيُون الَّتِي على الْمَيِّت كَمَا لَو كَانَ ثمن مَبِيع نافد بِمَنْزِلَة أَن تنْتَقل الْمَنْفَعَة إِلَى مُشْتَر أَو متهب مثل أَن يَبِيع الأَرْض أَو يَهَبهَا أَو تورث عَنهُ فَإِن أُجْرَة الأَرْض من حِين الِانْتِقَال تلْزم أَو الْمُتَّهب أَو الْوَارِث فِي أصح قولي الْعلمَاء كَمَا عَلَيْهِ عمل الْمُسلمين فَإِنَّهُم يطالبون المُشْتَرِي وَالْوَارِث بالحكر قسطا لَا يطْلبُونَ الحكر جَمِيعه من البَائِع أَو تَركه الْمَيِّت على ذَلِك لِأَن الْمَنَافِع لَا نستقر إِلَّا بِاسْتِيفَاء الْأُجْرَة وَلَو تلفت الْمَنَافِع قبل الِاسْتِيفَاء سَقَطت الْأُجْرَة بِاتِّفَاق وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَغَيره أَن الْأُجْرَة لَا تملك بِالْعقدِ بل بِالِاسْتِيفَاءِ وَلَا يملك الْمُطَالبَة إِلَّا شَيْئا فَشَيْئًا وَلِهَذَا قَالَ إِن الْإِجَارَة تَنْفَسِخ بِالْمَوْتِ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِن قَالَا لَا تملك بِالْعقدِ الْمُطَالبَة بهَا إِذا أسلم الْعين فَلَا نزاع عِنْدهمَا أَنَّهَا تملك إِلَّا بالإستياء وَلَا نزاع أَنَّهَا إِذا كَانَت مُؤَجّلَة لم تطلب إِلَّا عِنْد مَحل الْأَجَل فَإِذا كلف الْوَارِث أَن يعجل الْأُجْرَة الَّتِي لم تجب إِلَّا مؤجرة مَعَ تَأْخِير اسْتِيفَاء حَقه من الْمَنْفَعَة كَانَ هَذَا ظلما لَهُ مُخَالفا للعدل الَّذِي هُوَ مبْنى الْمُعَاوضَة وَإِذا لم يرض الْوَارِث بِأَن يجب عَلَيْهِ الْأُجْرَة وَقَالَ الْمُؤَجّر أَنا مَا أسلم إِلَيْك الْمَنْفَعَة لتوفى حَقك مِنْهَا فأوجبنا عَلَيْهِ أَدَاء الْأُجْرَة حَالَة من التَّرِكَة مَعَ تَأْخِير الْمَنْفَعَة تبين مَا فِي ذَلِك من الحيف عَلَيْهِ وَأما إِذا كَانَ الْمُؤَجّر وَقفا فَهُنَا لَيْسَ للنَّاظِر تَعْجِيل الْأُجْرَة كلهَا بل لَو شَرط ذَلِك لم يجز لِأَن الْمَنَافِع المستقلة إِذن لم يملكهَا وَيملك أجرتهَا من يحدث فِي الْمُسْتَقْبل فَإِذا تعجلت من غير حَاجَة إِلَى عمَارَة كَانَ ذَلِك أخذا لما لم يسْتَحقّهُ الْمَوْقُوف عَلَيْهِ الْآن وَأجَاب لَا يلْزمهُم تَعْجِيل الْأُجْرَة فِي أصح قولي الْعلمَاء لَا سِيمَا إِذا كَانَ الْمُؤَجّر حبسا فَإِن تَعْجِيل الْأُجْرَة فِي الْحَبْس لَا يجوز إِلَّا لعمارة وَنَحْوهَا لِأَن

فصل

مَنَافِع الْحَبْس يَسْتَحِقهَا الْمَوْقُوف عَلَيْهِ بعد بطن وكل قوم يسْتَحقُّونَ أُجْرَة الْمَنَافِع الْحَادِثَة فِي زمانهم فَإِذا استسلقوا للمستقبل كَانُوا قد أخذُوا مالم يستحقوه من الْوَقْف وَهَذَا لَا يجوز لَكِن إِذا طلب من الْوَرَثَة ضمينا فَلم ذَلِك مَعَ أَنه لَو لم يكن وَقفا لم تحل الْأُجْرَة على قَول من يَقُول لَا يحل الدّين الْمُؤَجل بِالْمَوْتِ وَكَذَا على قَول من يَقُول يحل فِي أظهر قوليه أَو يفرقون بَين الْإِجَارَة وَغَيرهَا كَمَا يفرقون فِي الأَرْض المحتكرة إِذا بِيعَتْ أَو ورثت فَإِن الحكر يكون على المُشْتَرِي وَالْوَارِث وَلبس اجرة من البَائِع من تَرِكَة الْمَيِّت فِي أظهر أَقْوَالهم وَالله أعلم فصل ضَمَان الإقطاع صَحِيح لَا نعلم أحدا من الْعلمَاء الَّذين يُفْتى بقَوْلهمْ وَلَا أحدا من المصنفين قَالَ إِنَّه بَاطِل إِلَّا مَا بلغنَا أَن بعض النَّاس حكى فِيهِ خلافًا قولا بِالْجَوَازِ وقولا بِالْمَنْعِ وقولا يجوز سنة فَقَط وَلم يفت أحد بِتَحْرِيمِهِ إِلَّا بعض أهل زمَان لشُبْهَة عرضت لَهُم اعتقدوا أَن المقطع بِمَنْزِلَة الْمُسْتَعِير وغفلوا عَن كَون الْمَنَافِع مُسْتَحقَّة لأهل الإقطاع وغفلوا عَن كَون السُّلْطَان أذن فِي الِانْتِفَاع بالمقطع استغلالا وإيجارا وَلَو أذن الْمُعير بِالْإِجَارَة جَازَت وفَاقا فيكف بالإقطاع وَمن أَخذ عوضا عَن عين مُحرمَة أَو نفع محرم مثل أُجْرَة حمال المحمر وصانع الصَّلِيب وَمهر الْبَغي وَنَحْوه وَأُجْرَة الْبَيْت ليتَّخذ مَكَانا للفسوق ليتصدق بهَا وَتَكون صدقته بذلك كَفَّارَة عَمَّا عمله من الْمحرم فَإِن هَذَا الْعِوَض لَا يجوز الِانْتِفَاع بِهِ لِأَنَّهُ خَبِيث وَلَا يُعَاد إِلَى صَاحبه لِأَنَّهُ إِعَانَة لَهُ على الْإِثْم والعدوان بل

يَتَّصِف بِهِ كَمَا نَص على ذَلِك أَحْمد فِي مثل حَامِل الْخمر وَأَصْحَاب مَالك وَغَيرهم وَمن اكترى لفعل محرم كالغناء وَالزِّنَا وَشَهَادَة الزُّور كَانَ كراؤه محرما وَكَذَلِكَ إِن أكراه لفعل مَا وَجب عَلَيْهِ مثل أَن تتَعَيَّن عَلَيْهِ شَهَادَة بِحَق أَو فيتا فِي مَسْأَلَة أَو قَضَاء فِي حُكُومَة أَو جِهَاد معِين فَإِن هَذَا الْكِرَاء لَا يجوز وَإِن كَانَ الْفِعْل يخْتَص بِأَهْل القربات كالكراء لإقراء الْقُرْآن وَالْعلم والإمامة وَالْأَذَان أَو الْحَج أَو للْجِهَاد الَّذِي لَا يتَعَيَّن فَفِيهِ نزاع وَإِن كَانَ الْكِرَاء لعمل كالخياطة وَالتِّجَارَة وَالْبناء جَازَ بالِاتِّفَاقِ وَإِذا انْتقل نحل إِلَى بلد فَلَا يجوز شَيْئا وَالْعَمَل هُوَ من الطول الَّتِي هِيَ المباحثات وَهِي أَحَق بالبذل من الْكلأ فَإِن هَذِه الطلول لَا يُمكن أَن يجمعها إِلَّا النَّحْل لَكِن إِن كَانَ لصَاحب الأَرْض نحل فَهُوَ أَحَق بالجني فِي أرضه فَإِذا كَانَ جنى ذَلِك النَّحْل يضر بِهِ فَلهُ مَنعه من ذَلِك وَيَقَع اسْتِئْجَار الْأَعْمَى وشراؤه صَحِيحا عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء كمالك وَأبي حنيفَة وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَلَا بُد أَن يُوصف لَهُ الْمَبِيع وَالْمُسْتَأْجر فان وجده بخلافة فَلهُ الْفَسْخ وَلَا يجوز أَن يسْتَأْجر من يُصَلِّي عَنهُ فرضا وَلَا نفلا لَا فِي حَيَاته وَلَا بعد مماته فَإِذا أوصى بِدَرَاهِم لمن يُصَلِّي عَنهُ تصدق الْوَرَثَة بهَا عَنهُ ويخص بِالصَّدَقَةِ أهل الصَّلَاة فَيكون للْمَيت أجر كل صَلَاة يصلونها ويستعينون عَلَيْهَا بِصَدَقَتِهِ من غير أَن ينقص من أجر الْمصلى شَيْئا كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من فطر صَائِما فَلهُ مثل أجره وَمن جهز غازيا فقد غزا وَأما تَعْلِيم الْقُرْآن وَالْعلم بِغَيْر أُجْرَة فَهُوَ أفضل الْأَعْمَال وأحبها إِلَى الله تَعَالَى وَهَذَا مِمَّا يعلم بالاضطرار من الدّين وَكَانَ السّلف لَا يعلمُونَ إِلَّا الله تَعَالَى

وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاء وَيجوز أَن يعْطى رزقا من بَيت المَال مَعَ الْحَاجة وَهل يجوز مَعَ الْغَنِيّ على قَوْلَيْنِ وَإِجَارَة أَرض الإقطاع جَائِزَة وللمستأجر أَن يؤجرها وَأما إِذا مَاتَ المقطع أَو انْقَطع إقطاعه فالمقطع الثَّانِي لَا يلْزمه إِجَارَة الأول فَلَيْسَ لَهُ أَن يقطع مَا فِيهَا من الشّجر وَالزَّرْع مجَّانا بل يُخَيّر بَين أَن يبقيه بِأُجْرَة الْمثل أَو أَن يُؤجر للْمُسْتَأْجر إِجَارَة مستأنفة بِمَا يتفقان عَلَيْهِ لَكِن لَيْسَ لَهُ أَن يلْزمه بِأَكْثَرَ من أُجْرَة الْمثل وَإِذا اسْتَأْجرهَا صَاحب الزَّرْع جَازَ فَإِنَّهُ يتَمَكَّن من الِانْتِفَاع بهَا وَلِصَاحِب الزَّرْع الْفَسْخ فَإِنَّهَا تَنْفَسِخ بانتقال الإقطاع فَلَيْسَ لأَحَدهمَا إِلْزَام الآخر وَلَو اسْتَأْجرهَا غَيره جَازَ على الصَّحِيح وَقَامَ فِيهَا مقَام الْمُؤَجّر وَهَذِه الْمُعَامَلَات الْوَاقِعَة على الْبَسَاتِين الْمُسَمَّاة بِالضَّمَانِ سَوَاء كَانَت قبل ظُهُور الثَّمَرَة وَقبل بَدو صَلَاحهَا أَو بعدهمَا أَو بَينهمَا وَسميت ضمانا أَو سميت ضمانا أَو سميت للتحيل مُسَاقَاة أَو إِجَارَة فَإِنَّهُ إِذا تلف الثَّمر بِآفَة سَمَاوِيَّة وَجب وضع الْجَائِحَة عَن الْمُسْتَأْجر سَوَاء كَانَ العقد فَاسِدا أَو صَحِيحا أَو متحيلا على صِحَّته وَلَو قَالَ الْعَامِل ضمنته بِكَذَا وَإِن كَانَ أكله الْجَرَاد فَهُوَ شَرط فَاسد لِأَنَّهُ شَرط غرر وقمار وَإِن كَانَ مَعَ الشَّرْط قد ضمنه بعوض دون عوض الْمثل الْخَالِي من الشَّرْط فَحِينَئِذٍ يفرق بَين صِحَة العقد وفساده على الْمَشْهُور فَإِذا كَانَ فَاسِدا كَانَ الْوَاجِب الْمَقْبُوض بِهِ أَو قِيمَته وَإِن كَانَ صَحِيحا زيد على نصيب الْبَاقِي من الْمُسَمّى بِقدر قيمَة مَا بَين الْقيمَة مَعَ الشَّرْط وَالْقيمَة مَعَ عَدمه فَإِذا كَانَ الْمُسَمّى أنفًا وَالْبَاقِي ثلث الثَّمَرَة كَانَ نصِيبه ثلث مَا بَقِي من الْألف فَينْظر قيمَة الْجَمِيع بِالشّرطِ فيوجد بسبعمائة فيزاد على الْمُسَمّى أَو يُصِيبهُ ثلثه وَمن اسْتَأْجر دَارا بجوارها رجل سوء فَمثل هَذَا عيب فِي الْعقار إِذا لم يعلم بِهِ الْمُسْتَأْجر فَلهُ فسخ الْإِجَارَة عِنْد الْعلم بِهِ

وَمذهب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة أَن الشبابة حرَام وَلم يتنازع فِيهَا إِلَّا مُتَأَخّر وَأَصْحَاب أَحْمد من الخراسانيين فانهم ذكرُوا وَجْهَيْن وَأما الْعِرَاقِيُّونَ فَقطعُوا بِالتَّحْرِيمِ وهم أعلم بمذهبه وَبِكُل حَال فَهُوَ وَجه ضَعِيف وَقد قَالَ الشَّافِعِي الْغناء مَكْرُوه يشبه الْبَاطِل وَالْمحرم اسْتِمَاع الآت اللَّهْو لاسماعها فَمن اجتاز فَسمع كفرا أوغيبة أَو شَبابَة لم يحرم عَلَيْهِ وَلَو اسْتمع وَلم يُنكر بِقَلْبِه أَو يَده أَو لِسَانه أَثم اتِّفَاقًا وَمَا رُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه سمع راعي غنم يزمر بزمارة فسد أُذُنَيْهِ وَقَالَ لنافع هَل تسمع قَالَ لَا فَأخْرج أَصَابِعه وروى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك هُوَ يبين أَن عدم السماع أولى وَلَا يدل هَذَا على أَن الشبابة جَائِزَة فَإِن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا سامع لَا مستمع وَالسَّامِع لَا يحرم عَلَيْهِ كَمَا لَا يُؤجر السَّامع لقِرَاءَة الْقُرْآن إِنَّمَا يُؤجر المستمع وسد أُذُنَيْهِ رَضِي الله عَنهُ مُبَالغَة فِي التحفظ وَلَو كَانَ مُبَاحا لما سد أُذُنَيْهِ بل سدهما يدل على أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يسمع مَالا يجوز استماعه وَأَيْضًا فرفيقه نَافِع لم يعلم أَنه كَانَ بَالغا فَلَعَلَّهُ كَانَ صَغِيرا وَالصبيان يرخص لَهُم من اللّعب مَا لَا يرخص فِيهِ للبالغين وَأَيْضًا فَلَو قدر أَن الِاسْتِمَاع لَا يجوز فَلَو سد هُوَ ورفيقه أذنيهما لم يعرفا مَتى يَنْقَطِع الصَّوْت وَأَيْضًا زمارة الرَّاعِي لَيست مطربة كالشبابة الَّتِي تصنع من اليراع فَلَو قدر الْإِذْن فِيهَا لم يجز الْإِذْن فِي اليراع الْمَوْصُول وَمَا يتبعهُ من الْأَصْوَات الَّتِي تفعل فِي النُّفُوس فعل حميا الكؤوس وَأَيْضًا فقد ذكر ابْن الْمُنْذر الِاتِّفَاق على تَحْرِيم الْغناء وَالنوح قَالَ أجمع كل من أحفظ عَنهُ من أهل الْعلم على إبِْطَال إِجَارَة الناعية والمغنية فَإِذا كَانَت الْمُغنيَة لَا يجوز استئجارها مَعَ أَن الْغناء رخص فِيهِ النَّاس فِي الْعرس فَكيف

بالشبابة الَّتِي لم يبحها أحد من الْعلمَاء لَا للرِّجَال وَلَا للنِّسَاء وَلَا فِي عرس وَلَا فِي غَيره فَلَا يجوز أَن يُعْطي شَيْئا ينْسب بِهِ لعيشه وَأَيْضًا لَيْسَ كل مَا جَازَ فعله جَازَ أَن يُعْطي الْعِوَض عَلَيْهِ لِأَن فِي الحَدِيث لَا سبق إِلَّا فِي خف أَو حافر أَو نصل فقد نهى عَن السَّبق فِي غير هَذِه الثَّلَاثَة مَعَ جَوَاز المصارعة والمسابقة بالأقدام أما من يصلح لَهُ اللّعب فيرخص لَهُ فِي الأعياد كَمَا كَانَت الجاريتان تُغنيَانِ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسمع وَلما نهاهما أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ أمزمار الشَّيْطَان فِي بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ دعهما يَا أَبَا بكر فَإِنَّهَا أَيَّام عيد أَو كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن اسْتدلَّ بِجَوَاز الْغناء للصغار فِي يَوْم الْعِيد على أَنه مُبَاح للكبار من الرِّجَال وَالنِّسَاء على الاطلاق فَهُوَ مخطىء وَكَذَلِكَ أَخطَأ من اسْتدلَّ على جَوَاز اليراع بِالْحَدِيثِ الَّذِي سد فِيهِ ابْن عمر أُذُنَيْهِ وَسَأَلَ نَافِعًا لَو كَانَ الحَدِيث صَحِيحا فَكيف وَهُوَ حَدِيث مُنكر قَالَه أَبُو دَاوُد وَلَكِن رَوَاهُ الْخلال من وُجُوه يصوب بَعْضهَا بَعْضًا وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا حجَّة فِيهِ لما قدمنَا وَمَا رُوِيَ من علمك آيَة من الْقُرْآن فقد ملك رقك إِن شَاءَ باعك وَإِن شَاءَ أعتقك حَدِيث بَاطِل مُخَالف للاجماع وَمن اعْتقد جَوَاز ملك الْمعلم للَّذي علمه يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل وَالْحر الْمُسلم لَا يسترق وَلَا يَقُول مُسلم من علم امْرَأَة آيَة من الْقُرْآن ملك وَطئهَا

كتاب الوقف

كتاب الْوَقْف يجوز بيع الْأَشْجَار فِي الْمَسْجِد ويشترى بِثمنِهَا مَا يعْمل على الْوَقْف إِذا كَانَ فِيهِ مصلحَة وللناظر أَن يُغير صُورَة الْوَقْف من صُورَة إِلَى صُورَة أصلح مِنْهَا كَمَا غير الْخُلَفَاء الراشدون صُورَة المسجدين المفسدين اللَّذين بالحرمين وكما نقل عمر رَضِي الله عَنهُ مَسْجِد الْكُوفَة من مَوضِع إِلَى مَوضِع وعَلى النَّاظر أَن يعْمل مَا يقدر عَلَيْهِ من الْعَمَل وَيَأْخُذ على ذَلِك الْعَمَل مَا يُقَابله وَله أَن يَأْخُذ على فقرة مَا يَأْخُذهُ الْفَقِير على فقره وَإِذا جعل الْوَاقِف للنَّاظِر أَن يخرج من شَاءَ وَيدخل من شَاءَ وَيزِيد وَينْقص فَذَلِك رَاجع الى الْمصلحَة الشَّرْعِيَّة لَا إِلَى شَرط الْوَاقِف وشهوته وهواه بل يفعل من الْأُمُور الْمُخَير فِيهَا مَا كَانَ أرْضى لله وَرَسُوله وَهَذَا فِي كل من تصرف لغيره بِالْولَايَةِ كَالْإِمَامِ وَالْحَاكِم والواقف وناظر الْوَقْف وَغَيرهم حَتَّى لَو صرح الْوَاقِف بِأَن النَّاظر يفعل مَا يهواه وَمَا يرَاهُ مُطلقًا لم يكن هَذَا الشَّرْط صَحِيحا بل يكون بَاطِلا فَإِنَّهُ شَرط مُخَالف لكتاب الله وَمن شَرط مَا لَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى فَهُوَ بَاطِل فَإِذا عزل عزلا مُوَافقا لأمر الله لم يكن للمعزول أحد شَيْء من الْوَقْف وَإِن كَانَ عَزله غير مُوَافق لأمر الله كَانَ مردودا بِحَسب الْإِمْكَان فقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد وَمن وقف وَقفا لم يُخرجهُ عَن يَده فَفِيهِ قَولَانِ مشهوران أَحدهمَا يبطل وَهُوَ قَول مَالك وَأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأبي حنيفَة وَمُحَمّد وَالثَّانِي يلْزم وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى عَن أَحْمد وَقَول لأبي حنيفَة وَقَول لأبي يُوسُف وَإِذا شَرط الْوَاقِف المحاصصة بَينهم فَهَل يعْطى أَرْبَاب الْوَظَائِف مكملا يُقَال إِن كَانَ الَّذِي يحصل بالمحاصصة لأرباب الْوَظَائِف الَّذِي يستأجرون عَلَيْهَا

كالبواب والقيم والسواق وَنَحْوهم أجره مثلهم أعْطوا وَإِن كَانَ مَا يحصل دون أُجْرَة الْمثل وَأمكن من يعْمل بذلك لم يحْتَج إِلَى الزِّيَادَة وَإِن كَانَ الْحَاصِل لَهُم أقل من أُجْرَة الْمثل وَلَا يُوجد من يعْمل بِأَقَلّ من أُجْرَة الْمثل فَلَا بُد من تَكْمِيل أُجْرَة الْمثل إِذا لم تقم مصلحَة الْمَكَان إِلَّا بهم وَإِن أمكن أَن يجمع بَين الْوَظَائِف لوَاحِد فعل ذَلِك وَلَا يلْزم الْعدَد الَّذِي لَا يحْتَاج إِلَيْهِ مَعَ كَون الْوَقْف قد عَاد إِلَى ريعه وَالْأَصْل أَن كل مَا شَرط من الْعَمَل فِي الْوُقُوف الَّتِي توقف على الْأَعْمَال فَلَا بُد أَن يكون قربَة إِمَّا وَاجِبا وَإِمَّا مُسْتَحبا أما اشْتِرَاط عمل محرم فَلَا يَصح بِاتِّفَاق الْمُسلمين بل كَذَلِك الْمَكْرُوه وَكَذَلِكَ الْمُبَاح على الصَّحِيح وَقد اتّفق الْمُسلمُونَ على أَن شَرط الْوَاقِف تَنْقَسِم إِلَى صَحِيح وفاسد كَمَا فِي سَائِر الْعُقُود وَمن قَالَ إِن شُرُوط الْوَاقِف كنصوص الشَّارِع فمراده أَنَّهَا كالنصوص فِي الدّلَالَة على مُرَاد الْوَاقِف لَا فِي وجوب الْعَمَل بهَا أَي إِن مُرَاد الْوَاقِف يُسْتَفَاد من أَلْفَاظه الْمَشْرُوطَة كَمَا يُسْتَفَاد مُرَاد الشَّارِع من أَلْفَاظه كَمَا يعرف الْخُصُوص والعموم وَالْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد والتشريك من أَلْفَاظ الشَّارِع كَذَلِك يعرف فِي الْوَقْف من أَلْفَاظ الْوَاقِف مَعَ أَن التَّحْقِيق فِي هَذَا أَن لفظ الْوَاقِف كَلَفْظِ الْحَالِف وَالْمُوصى وكل عَاقد يحمل قَوْله على عَادَته فِي خطابه ولغته الَّتِي يتَكَلَّم بهَا سَوَاء وَافَقت الْعَرَبيَّة العرباء أَو الْعَرَبيَّة المولدة أَو الْعَرَبيَّة الملحونة أَو كَانَت غير عَرَبِيَّة وَسَوَاء وَافَقت لُغَة الشَّارِع أَو لم توافقه فَإِن الْمَقْصُود فِي الْأَلْفَاظ دلالتها على مُرَاد الناطقين بهَا فَنحْن نرْجِع فِي معرفَة كَلَام الشَّارِع إِلَى معرفَة لغته وعرفه وعادته وَكَذَلِكَ فِي خطاب كل أمة وكل قوم فَإِذا تخاطبوا بَينهم فِي البيع أَو الْإِجَارَة أَو الْوَقْف أَو الْوَصِيَّة أَو النّذر أَو غير ذَلِك بِكَلَام نرْجِع فِي مَعْرفَته مُرَادهم مِنْهُ إِلَى مَا يدل على مُرَادهم من عَادَتهم فِي الْخطاب وَمَا يقْتَرن بذلك من الْأَسْبَاب

وَأما أَن نجْعَل نُصُوص الْوَاقِف أَو نُصُوص غَيره من الْعَاقِدين كنصوص الشَّارِع فِي وجوب الْعَمَل بهَا فَهَذَا كفر بِاتِّفَاق الْمُسلمين إِلَّا أحد يطاع فِيمَا يَأْمر بِهِ وَينْهى عَنهُ من الْبشر بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والشروط إِن وَافَقت كتاب الله كَانَت صَحِيحَة وَإِن خَالَفت كتاب الله كَانَت بَاطِلَة كَمَا ثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أَيّمَا شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بطال وَإِن كَانَ مائَة شَرط وَهَذَا الْكَلَام حكمه ثَابت فِي البيع وَالْإِجَارَة وَالْوَقْف وَغَيره بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة إِذْ الْأَخْذ بِعُمُوم اللَّفْظ لَا بِخُصُوص السَّبَب فَإِذا شَرط فعلا محرما ظهر أَنه بَاطِل فَإِنَّهُ لَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق وَإِن شَرط شرطا مُبَاحا لَا قربَة كَانَ أَيْضا بَاطِلا لِأَنَّهُ شَرط شرطا لَا مَنْفَعَة فِيهِ لَا لَهُ وَلَا للْمَوْقُوف عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي نَفسه لَا ينْتَفع إِلَّا بِالْبرِّ وَالتَّقوى وَأما بذل المَال فِي مُبَاح فِي حَيَاته فَلهُ فِيهِ مَنْفَعَة أما بعد الْمَوْت فالواقف والموصي لَا ينتفعان بِمَا يفعل الْمُوصي لَهُ وَالْمَوْقُوف عَلَيْهِ من الْمُبَاحَات فِي الدُّنْيَا وَلَا يثابان على بذل المَال فِي ذَلِك فِي الْآخِرَة فَيكون منفقا لِلْمَالِ فِي الْبَاطِل وَهَذَا مسخر معذب وَإِذا كَانَ الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قَالَ لَا سبق إِلَّا فِي خف أَو حافر أَو بصل فَلم يجوز بذل الْجعل فِي شَيْء لَا يستعان بِهِ على الْجِهَاد وَإِن كَانَ مُبَاحا مَعَ أَنه قد يكون فِيهِ مَنْفَعَة كَمَا فِي المصارعة والمسابقة على الْأَقْدَام فَكيف ببذل الْعِوَض المؤبد فِي عمل لَا مَنْفَعَة فِيهِ لَا سِيمَا وَالْوَقْف محبس مؤبد فَيكون فِي ذَلِك ضَرَر على الْوَرَثَة وَسَائِر الْأَقْرَبين بِحَبْس المَال عَنْهُم بِلَا مَنْفَعَة حصلت لَهُم وَفِي ذَلِك ضَرَر على المتناولين باستعمالهم إِيَّاه فِي عمل هم فِيهِ مسخرون يعوقهم عَن مصلحتهم الدِّينِيَّة والدنيوية بِلَا فَائِدَة تحصل لَا لَهُ وَلَا لَهُم وَقد بسطنا الْكَلَام فِي هَذِه الْقَاعِدَة فِي غير هَذَا الْموضع

إِذا عرف ذَلِك فقراءة كل وَاحِد الْقُرْآن على حِدته أفضل من قِرَاءَته مُجْتَمعين بِصَوْت وَاحِد فَإِن هَذِه تسمى قِرَاءَة الإدارة وَقد كرهها طوائف من أهل الْعلم كمالك وَطَائِفَة من أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد وَغَيرهم وَمن رخص فِيهَا كبعض أَصْحَاب احْمَد لم يقل إِنَّهَا أفضل من قِرَاءَة الِانْفِرَاد إِذْ يحصل لكل وَاحِد فِي قِرَاءَة الِانْفِرَاد جَمِيع الْقِرَاءَة وَأما هَذِه فَلَا يحصل لكل وَاحِد جَمِيع الْقِرَاءَة بل هَذَا يتم مَا بَدَأَ فِيهِ هَذَا وَهَذَا يتم مَا بَدَأَ فِيهِ هَذَا وَلَيْسَ فِي الْقِرَاءَة بعد الْمغرب فَضِيلَة مستحية تقدم بهَا على الْقِرَاءَة فِي جَوف اللَّيْل أَو بعد الْفجْر وَنَحْو ذَلِك من الْأَوْقَات فَلَا قربَة فِي تَخْصِيص مثل ذَلِك بِالْوَقْفِ وَلَو نذر صَلَاة أَو صياما أَو قِرَاءَة أَو اعتكافا فِي مَكَان بِعَيْنِه فَإِن كَانَ للمكان الْمُتَعَيّن مزية فِي الشَّرْع كَالصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة لزم الْوَفَاء بِهِ والإلم يتَعَيَّن بِالنذرِ الَّذِي أَمر الله بِالْوَفَاءِ بِهِ فَإِذا كَانَ النّذر الَّذِي أَمر الله بِالْوَفَاءِ بِهِ لَا يجب أَن يُوفي بِهِ إِلَّا فِيمَا كَانَ طَاعَة بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة مُتَابعًا لهدى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَمَانا ومكانا وَصفَة وَحَالا فَلَا يجب أَن يُوفي مِنْهُ بمباح كَمَا لَا يجوز أَن يُوفي مِنْهُ بِمحرم بِاتِّفَاق الْعلمَاء فِي الصُّورَتَيْنِ وَإِنَّمَا تنازعوا فِي لُزُوم الْكَفَّارَة فَكيف بِغَيْر النّذر من الْعُقُود الَّتِي لَيْسَ فِي لُزُومهَا من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة مَا فِي النّذر وَأما اشْتِرَاط إهداء ثَوَاب التِّلَاوَة فَهَذَا مَبْنِيّ على إهداء ثَوَاب الْعِبَادَات الْبَدَنِيَّة كَالصَّلَاةِ وَفِيه ونزاع فَمن كَانَ مذْهبه أَنه لَا يجوز إهداء ثَوابًا كأكثر أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ كَانَ هَذَا الشَّرْط عِنْدهم بَاطِلا كَمَا لَو شَرط أَن يحمل عَن الْوَاقِف ذنُوبه فَإِنَّهُ لَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى وَمن كَانَ مذْهبه أَنه يجوز إهداء ثَوَابهَا للْمَيت كأحمد وأصحابي أبي حنيفَة وَطَائِفَة من أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ فَهَذَا يعْتَبر أمرا آخرا وَهُوَ أَن هَذَا إِنَّمَا يكون

من الْعِبَادَات والعبادات هِيَ مَا قصد بهَا وَجه الله تَعَالَى فَأَما مَا يَقع مُسْتَحقّا بِعقد إِجَارَة أَو جعَالَة فَإِنَّهُ لَا يكون قربَة فَإِن جَازَ أَخذ الْأُجْرَة والجعل عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يجوز الِاسْتِئْجَار على الْإِمَامَة وَالْأَذَان وَتَعْلِيم الْقُرْآن فِي قَول وَأما الصُّوفِي الَّذِي يدْخل فِي الْوَقْف على الصُّوفِيَّة فَلهُ ثَلَاثَة شُرُوط أَحدهَا أَن يكون عدلا فِي دينه وَالثَّانِي أَن يكون ملازما لغالب الْآدَاب الشَّرْعِيَّة فِي غَالب الْأَوْقَات وَإِن لم تكن وَاجِبَة مثل أدب الْأكل وَالشرب واللباس وَالنَّوْم وَالسّفر وَالرُّكُوب والصحبة وَالْعشرَة وَحسن الْمُعَامَلَة مَعَ الْخلق إِلَى غير ذَلِك من الْآدَاب الشَّرْعِيَّة قولا وفعلا وَلَا يلْتَفت إِلَى مَا أحدثه بعض المتصوفة من لاآداب الَّتِي لَا أصل لَهَا فِي الدّين من الْتِزَام شكل مَخْصُوص فِي اللبسة وَنَحْوهمَا مِمَّا لَا يسْتَحبّ فِي الشَّرِيعَة فَإِن مبْنى الْآدَاب على اتِّبَاع السّنة وَلَا يلْتَفت إِلَى مَا يهذر بِهِ بعض المتفقهة من آدَاب ظَنّهَا مَشْرُوعَة يعْتَقد لقلَّة علمه أَن ذَلِك لَيْسَ من آدَاب الشَّرِيعَة لكَونه لَيْسَ فِيمَا بلغه من الْعلم الِاعْتِبَار بالآداب بِمَا جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة قولا وفعلا وتركا وَالشّرط الثَّالِث فِي الصُّوفِي قناعته بالكفاف من الرزق بِحَيْثُ لَا يمسك فِي الدُّنْيَا مَا يفضل عَن حَاجته فَمن كَانَ جَامعا لفضول المَال لم يكن من الصُّوفِيَّة

فصل

الَّذين يقْصد اجراء الأرزاق عَلَيْهِم وَإِن كَانَ قد يفْسخ لَهُم فِي مُجَرّد السُّكْنَى فِي الرَّبْط وَنَحْوهَا وَمن جمع هَذِه الثَّلَاث كَانَ مَقْصُودا بالربط وَالْوَقْف عَلَيْهِ وَأما غير هَؤُلَاءِ من أَرْبَاب والعلية وَالْأَحْوَال الزكية فَيدْخلُونَ فِي الْعُمُوم لَكِن لَا يخْتَص بهم الْوَقْف لقلتهم ولعسر تَمْيِيز الْأَحْوَال الْبَاطِنَة على غَالب الظَّن فَلَا يرْبط اسْتِحْقَاق الدُّنْيَا بذلك وَمَا دون هَذِه الصِّفَات من المقتصرين على مُجَرّد طقوس ورسوم فِي لبسة أَو مشْيَة فانهم لَا يسْتَحقُّونَ فِي الْوَقْف وَلَا يدْخلُونَ فِي مُسَمّى الصُّوفِيَّة لَا سِيمَا إِن كَانَ ذَلِك الرَّسْم مُحدثا فَإِن بذل المَال على مثل هَذِه الرسوم فِيهِ نوع من التلاعب بِالدّينِ وَأكل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ وصدهم عَن سَبِيل الله وَمن كَانَ من الصُّوفِيَّة الْمَذْكُورين فِيهِ قدر زَائِد مثل اجْتِهَاده فِي نوافل الْعِبَادَات أَو سعى فِي تَصْحِيح أَحْوَال الْقلب أَو الْكِفَايَة فَهُوَ أولى من غَيره وَمن لم يكن متأدبا بالآداب الشَّرْعِيَّة فَلَا يسْتَحق شَيْئا الْبَتَّةَ وطالب الْعلم الَّذِي لَيْسَ لَهُ كِفَايَة أولى مِمَّن لَيْسَ مَعَه الْأَدَب الشَّرْعِيّ وَلَا علم عِنْده مثل هَذَا فسبيله أَن لَا يسْتَحق شَيْئا فصل وَلَيْسَ للْحَاكِم أَن يتَوَلَّى نَاظرا وَلَا يتَصَرَّف فِي الْوَقْف بِدُونِ أَمر النَّاظر الشَّرْعِيّ الْخَاص إِلَّا أَن يكون النَّاظر الْخَاص قد تعدى فِيمَا يَفْعَله وللحاكم أَن ينْقض عَلَيْهِ إِذا خرج عَمَّا يجب عَلَيْهِ وَإِذا كَانَ بَين الْحَاكِم والناظر مُنَازعَة حكم بَينهمَا غَيرهمَا حكم الله وقرابة الْوَقْف أَحَق من الْفَقِير الْمسَاوِي لَهُ وَمَا فضل من الْوَقْف يصرف فِي مصَالح مثله مثل مَسْجِد آخر وفقراء الْجِيرَان

وَنَحْو ذَلِك خير من أَن يرصد لعمارة أَو غَيرهَا فَإِنَّهُ لَا فَائِدَة فِي رصده مَعَ زِيَادَة الْوَقْف إِلَّا لمن يتَوَلَّى من المباشرين الظَّالِمين وَأَيْضًا فعمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ يتَصَدَّق كل عَام بكسوة الْكَعْبَة بقسمها بَين الْحجَّاج وَصَرفه إِلَى إِمَامه ومؤذنه مَعَ فقرهما أولى من غَيرهمَا وليعلم أَن الْجِهَات الدِّينِيَّة مثل الخوانق والمدارس وَغَيرهَا لَا يجوز أَن ينزل فِيهَا فَاسِقًا وَسَوَاء كَانَ فسقه بظلمه الْخلق أَو فسقه بتعديه بقوله وَفعله حُدُود الله الَّتِي بَينه وَبَين الله تَعَالَى وَمن نزل بِشَرْط الْوَاقِف لم يجز إِخْرَاجه وَمن أعَان على ذَلِك فقد أعَان عَليّ الْإِثْم والعدوان وَإِذا رأى النَّاظر تَقْدِيم أَرْبَاب الْوَظَائِف الَّذين يَأْخُذُونَ من الْوَقْف على عمل مَعْلُوم كَالْإِمَامِ والمؤذن فقد أصَاب إِذا كَانَ الَّذِي يأخذونه لَا يزِيد عَن جعل مثلهم فِي عَادَة النَّاس كَمَا أَنه يجب تَقْدِيم الجابي وَالْعَامِل والصانع وَالْبناء وَنَحْوهم مِمَّن يَأْخُذ على عمل يعمله فِي تَحْصِيل المَال فَإِن عمار الْمَكَان يُقِيمُونَ بِأخذ الْأُجْرَة والإمامة وَالْأَذَان شَعَائِر لَا يُمكن إِبْطَالهَا وَلَا نَقصهَا بِحَال فَإِن جعل مثل ذَلِك لأصحابها يقدم على مَا يَأْخُذهُ الْفُقَهَاء بِخِلَاف الْمدرس والمعيد وَالْفُقَهَاء فَإِنَّهُم من جنس وَاحِد وَإِذا كَانَ الْوَقْف على معِين وَلم يقبله فالتحقيق أَنه لَيْسَ كالوقف الْمُنْقَطع بل الْوَقْف هُنَا صَحِيح قولا وَاحِد ثمَّ إِنَّه ينْتَقل إِلَى من بعده كَمَا لَو مَاتَ أَو تعذر اسْتِحْقَاقه مثل أَن يقف عَلَيْهِ بِشَرْط كَونه فَقِيرا أَو عدلا ففاتت الصّفة انْتقل الْوَقْف إِلَى من بعده فَإِن الطَّبَقَة الثَّانِيَة يتلقون الْوَقْف عَن الْوَاقِف لَا عَن الْمَوْقُوف عَلَيْهِ فَلَا يشْتَرط فِي اسْتِحْقَاق الطَّبَقَة الثَّانِيَة اسْتِحْقَاق الطَّبَقَة الأولى وَالْقَبُول شَرط للمعين فِي الْمَوْقُوف عَلَيْهِم فَإِذا لم يقبل كَمَا رد الْوَصِيَّة

وَاحِد من الْمُوصى لَهُم لم يقْدَح ذَلِك فِي اسْتِحْقَاق بَقِيَّة الشُّرَكَاء بِخِلَاف مَا إِذا وقف على من لَا يجوز الْوَقْف عَلَيْهِ فَإِن هَذَا يدْخل فِي مسَائِل تَفْرِيق الصَّفْقَة وَيُوجد جهل الْمُسْتَحق أَولا وَلِهَذَا صَار فِيهِ نزاع فَالصَّحِيح أَنه يَصح وَإِن لم يقبل الْمعِين لَكِن لَا يسْتَحق شَيْئا حَتَّى يقبل وَلَو رده لَا يبطل بل ينْتَقل إِلَى من بعده وَمن شَرط كَون المقرىء غزبا مثلا فَهُوَ شَرط بَاطِل والمتأهل أَحَق بِمثل هَذَا من العزب إِذْ لَيْسَ فِي التعزب مَقْصُود شَرْعِي وَهل يجب أَن يُوصي لأقاربه الَّذين لَا يرثونه على قَوْلَيْنِ هما رِوَايَتَانِ بِمذهب معِين فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنه لَو لم يكن فِي الْبَلَد إِلَّا حَاكم على غير الْمَذْهَب الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حَاكم الْبَلَد زمن الْوَاقِف أَن لَا يكون لَهُ نظر وَهَذَا بَاطِل بِاتِّفَاق الْمُسلمين فَإِن ذَلِك يَقْتَضِي بطلَان الشَّرْع فِي الْوُقُوف الْعَامَّة الَّتِي لم يعين ولي الْأَمر لَهَا نَاظرا خَاصّا وَفِي الْوَقْف الْخَاص نزاع مَعْرُوف ثمَّ قد يكون للْحَاكِم وَقت الْوَقْف مَذْهَب وَبعد ذَلِك يكون لَهُ مَذْهَب ثمَّ مَذْهَب آخر وَلَو شَرط الإِمَام على الْحَاكِم أَو شَرط الْحَاكِم على خَلِيفَته أَن يحكم بِمذهب معِين بَطل الشَّرْط وَفِي فَسَاد العقد وَجْهَان وَلَا يسوغ لواقف أَن يمْنَع النّظر على الْوَقْف إِلَّا لذى مَذْهَب معِين دَائِما مَعَ إِمْكَان أَن لَا يتَوَلَّى من أهل هَذَا الْمَذْهَب أحد فَكيف إِذا لم يشْتَرط ذَلِك فالحاكم على أَي مَذْهَب كَانَ إِذا كَانَت ولَايَته تتَنَاوَل النّظر فِي الْوَقْف كَانَ تفويضه سائغا وَلم يجز لحَاكم آخر نقص وَلَو ولي كل حَاكم شخاص كَانَ الْوَاجِب على ولي الْأَمر أَن يقدم أحقهما وَمن وقف على ولديه عمر وعبد الله بَينهمَا بِالسَّوِيَّةِ أبدا مَا عاشوا ثمَّ على أولادهما من بعدهمَا وَأَوْلَاد أولادهما ونسلهما وعقبهما بَطنا بعد بطن فتوفى عبد الله وَخلف أَوْلَادًا فَرفع عمر ولد عبد الله إِلَى حَاكم يرى الحكم بالترتيب بالمجموع وَسَأَلَهُ

رفع يَدَيْهِ ولد عبد الله عَن الْوَقْف وتسليمه إِلَيْهِ فَفعل فَلَيْسَ الحكم جَائِزا فِي جَمِيع الْبُطُون وَلَا يكون حكما لأولاده بِمَا حكم لَهُ بِهِ فَإِن قَوْله ثمَّ على أولادهما هُوَ لترتيب الْمَجْمُوع على الْمَجْمُوع أَو لترتيب الْأَفْرَاد بِحَيْثُ ينْتَقل نصيب كل ميت إِلَى أَوْلَاده فَفِيهِ قَولَانِ فَإِذا حكم بِاسْتِحْقَاق عمر الْجَمِيع بعد موت عبد الله كَانَ الِاعْتِقَاد أَنه لترتيب الْمَجْمُوع فَإِذا مَاتَ عمر فقد يكون ذَلِك الْحَاكِم يرى التَّرْتِيب فِي الطَّبَقَة الأولى فَقَط وَقد يكون يرى التَّرْتِيب فِي جَمِيع الْبُطُون لَكِن تَرْتِيب الْمَجْمُوع على الْمَجْمُوع وتشترك كل طبقَة من الطبقتين فِي الْوَقْف دون من هُوَ أَسْفَل مِنْهَا وَقد يرى غَيره بعد ذَلِك أَنه لترتيب الْأَفْرَاد على الْأَفْرَاد فَإِذا حكم حَاكم ثَان فِيمَا لم يحكم فِيهِ الأول بِمَا لَا يُنَاقض حكمه لم يكن نقضا لحكمه فَلَا ينْقض الثَّانِي إِلَّا لمُخَالفَة نَص أَو أجماع وَلَا يجوز كِرَاء الْوَقْف لمن يضر بِهِ بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَلَا يجوز كِرَاء الشّجر بِحَال وَإِن سوقي عَلَيْهَا بِجُزْء يسير حِيلَة لم يجز ذَلِك فِي الْوَقْف بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَمن وقف مدرسة وَشرط على أَهلهَا الصَّلَوَات الْخمس فِيهَا فَلَيْسَ هَذَا شرطا صَحِيحا يقف الإستحقاق عَلَيْهِ كَمَا كَانَ يُفْتِي بذلك فِي هَذِه الصُّورَة بِعَينهَا الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام وَغَيره من الْعلمَاء لأدلة مُتعَدِّدَة وَقد بسطناها فِي غير هَذَا الْموضع بل للْمَوْقُوف عَلَيْهِم الْمدرسَة أَن يصلوا فِي الْمَسْجِد الْأَقْصَى الصَّلَوَات الْخمس وَلَا يصلونها فِي الْمدرسَة ويستحقون مَعَ ذَلِك مَا قدر لَهُم وَذَلِكَ أفضل لَهُم من أَن يصلوا فِي الْمدرسَة والإمتناع من أَدَاء الْفَرْض فِي الْمَسْجِد الْأَقْصَى وَغَيره لأجل الْجَارِي ورع فَاسد يمْنَع صَاحبه عَن الثَّوَاب الْعَظِيم فِي الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنهُ من اشْترط شرطا لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل وَإِن كَانَ مائَة شَرط كتاب الله أَحَق وَشرط الله أوثق هَذَا حَدِيث مُتَّفق على عُمُومه فَإِنَّهُ من جَوَامِع الْكَلم الَّتِي

أوتيها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبعث بهَا فَهُوَ عَام فِي جَمِيع الْعُقُود وَإِن كَانَ سَببه قصَّة عتق بَرِيرَة فَالْعِبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ لَا بِخُصُوص السَّبَب وَلَكِن تنازعوا فِي الْعُقُود المباحت كَالْبيع وَالْإِجَارَة وَالنِّكَاح هَل معنى الحَدِيث من اشْتِرَاط شرطا لم يثبت أَنه مَأْذُون فِيهِ شرعا أَو من اشْترط شرطا لم يعلم أَنه مُخَالف لما شَرعه الله هَذَا فِيهِ نزاع لِأَن قَوْله فِي آخر الحَدِيث كتاب الله أَحَق وَشرط الله أوثق يدل على أَن الشَّرْط الْبَاطِل مَا خَالف ذَلِك وَقَوله من اشْترط شرطا لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل قد يفهم مِنْهُ مَا لَيْسَ بمشروع وَصَاحب القَوْل الأول يَقُول مَا لم ينْه عَن الْمُبَاحَات فَهُوَ مِمَّا أذن الله فِيهِ فَيكون مَشْرُوعا بِكِتَاب الله وَأما إِذا كَانَ فِي الْعُقُود الَّتِي يقْصد بهَا الطَّاعَات كالنذر فَلَا بُد أَن يكون لله وَأما الْمَنْذُور طَاعَة فَمَتَى كَانَ مُبَاحا لم يجب الْوَفَاء وَكَذَلِكَ الْوَقْف وَحكم الشُّرُوط فِيهِ فَإِذا أوصى أَو وقف على معِين وَكَانَ كَافِرًا أَو فَاسِقًا لم يكن الْكفْر وَالْفِسْق هُوَ سَبَب الِاسْتِحْقَاق لَا شَرط فِيهِ بل هُوَ يسْتَحق مَا أعطَاهُ وَإِن كَانَ مُسلما عدلا فَكَانَت الْمعْصِيَة عديمة التَّأْثِير بِخِلَاف مَا لَو جعلهَا شرطا فِي ذَلِك على الْكفَّار أَو الْفُسَّاق أَو على الطَّائِفَة الْفُلَانِيَّة بِشَرْط أَن يَكُونُوا كفَّارًا أَو فساقا فَهَذَا الَّذِي لَا ريب فِي بُطْلَانه وَهنا أصلان أَحدهمَا أَن بذل المَال لَا يجوز إِلَّا لمَنْفَعَة فِي الدّين أَو الدُّنْيَا وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْعلمَاء وَمن خرج عَن هَذَا كَانَ سَفِيها مبذرا لمَاله وَقد نهى الله تَعَالَى التبذير وَنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن إِضَافَة المَال فِي الحَدِيث وَمن الْمَعْلُوم أَن الْوَاقِف لَا ينْتَفع بوقفه فِي الدُّنْيَا وَلَا ينْتَفع بِهِ فِي الدّين إِن لم يَنْفَعهُ فِي سَبِيل الله طَاعَته وَطَاعَة رَسُوله فَإِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يثيب العَبْد على مَا أنفقهُ فيمَ يُحِبهُ فالمباحات لَا يثيب عَلَيْهَا وَلَا يكون فِي الْوَقْف عَلَيْهَا مَنْفَعَة فِي الدُّنْيَا وَلَا ثَوَاب فالوقف عَلَيْهَا خَال من الْمَنْفَعَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا

فَيكون بَاطِلا كمن خصص الْغنى لكَونه غَنِيا مَعَ مشاركته الْفُقَرَاء عَلَيْهِ فَهَذَا مِمَّا يعلم بالاضطرار أَن الله لَا يُحِبهُ فَلَا يكون اشْتِرَاطه صَحِيحا وَأَيْضًا المَال يمْنَع مِنْهُ الْوَارِث فَلَو أَن فِيهِ مصلحَة لما جَازَ منع الْوَارِث فَأَما منع الْوَارِث مِنْهُ وَلَا مصلحَة فِيهِ للْوَاقِف وَلَا مَنْفَعَة للآخذ فَهَذَا لَا يجوز تنفيذه وَأما الوق على الْأَعْمَال الدِّينِيَّة كالقرآن والْحَدِيث وَالْفِقْه وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا هُوَ الأَصْل الثَّانِي وَلَا يُمكن أَن يكون فِي ذَلِك نزاع فِي جَوَازه إِذا كَانَ على مَا شَرعه الله تَعَالَى وأوجبه من هَذِه الْأَعْمَال فَأَما من ابتدع عملا لم يشرعه الله تَعَالَى وَجعله دينا فَهَذَا ينْهَى عَن عمل هَذَا فَكيف يشرع لَهُ أَن يقف عَلَيْهِ الْأَمْوَال بل هَذَا من جنس الْوَقْف على مَا يعتقدوه الْيَهُود وَالنَّصَارَى عبادات وَهِي من الدّين الْمُبدل الْبَاطِل فباب الْعِبَادَات والديانات متلقى عَن الله وَرَسُوله فَلَيْسَ لأحد أَن يَجْعَل شَيْئا عبَادَة أَو قربَة إِلَّا بِدَلِيل شَرْعِي فالبدع المذمومة شرعا هِيَ مَا لم يشرعه الله أَي لم يدْخل فِي أمره وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين أَن من وقف على صَلَاة أَو صِيَام أَو قِرَاءَة أَو جِهَاد غير شَرْعِي لم يَصح وَقفه وَفرق بَين الْمُبَاح الَّذِي يفعل لِأَنَّهُ مُبَاح وَبَين الْمُبَاح الَّذِي يتَّخذ دينا وَعبادَة وَطَاعَة فَمن جعل مَا لَيْسَ قربَة أَو طَاعَة ودينا وقربة وَطَاعَة كَانَ ذَلِك حَرَامًا باتفاقهم وَوَقفه على ذَلِك بَاطِل وَلَكِن قد يَقع النزاع فِي بعض الْأُمُور هَل هُوَ من بَاب القربات أم لَا كَمَا تنازعوا فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد كمن يرى وجوب الْقِرَاءَة على الْمَأْمُوم وَآخر يَرَاهَا مَكْرُوهَة لَهُ فَمن علم فِي شَيْء أَنه بِدعَة لم يجز أَن يقف عَلَيْهِ بِاتِّفَاق فالشروط المتضمنة لِلْأَمْرِ بِمَا نهى الله وَرَسُوله عَنهُ أَو النَّهْي عَمَّا أَمر الله وَرَسُوله بِهِ مُخَالفَة للنَّص وَالْإِجْمَاع إِذا تبين هَذَا تبين أَو الْوَقْف على الْمُبَاح من الشُّرُوط الْفَاسِدَة المضادة لمحبة

الشَّارِع وَرضَاهُ بل هِيَ من الْغنى وَمَا تبين أَنه مُوَافق لكتاب الله وَسنة رَسُوله أنفذه وَمَا اشْتبهَ أمره أَو كَانَ فِيهِ نزاع فَلهُ حكم نَظَائِره وَمن هَذِه الشُّرُوط مَا يحْتَاج تَفْسِيره إِلَى همة قَوِيَّة وقدرة يؤيدها الله بِالْعلمِ وَالدّين وَإِلَّا فمجرد قيام الشَّخْص فِي هوى نَفسه لجلب دنيا أَو دفع مضرَّة دنيوية إِذا خرج ذَلِك على صُورَة الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر لَا يكَاد ينجح سَعْيه وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه فمبيت الشَّخْص فِي مَكَان معِين دَائِما لَيْسَ قربَة وَلَا طَاعَة بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَلَا يكون إِلَّا نَادرا كالمبيت فِي ليَالِي منى ومبيت الانسان فِي الثغر للرباط أَو فِي الحرس فِي سَبِيل الله أَو عِنْد عَالم أَو رجل صَالح ينْتَفع بِهِ وَأما أَن يرابط دَائِما فِي بقْعَة بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار لغير مصلحَة دينية فَلَيْسَ من الدّين بل تعْيين مَكَان للصلوات الْخمس أَو قِرَاءَة الْقُرْآن أَو هَدِيَّة غير مَا عينه الشَّارِع لَيْسَ مَشْرُوعا باتفاقهم حَتَّى لَو نذر الصَّلَاة فِي مَسْجِد غير الثَّلَاثَة لم يتَعَيَّن وَلَهُم فِي وُصُول الْعِبَادَات قَولَانِ لَكِن لم يقل أحد بالتفاضل فِي مَكَان دون مَكَان وَلم يقل أحد إِن الْقِرَاءَة عِنْد الْقَبْر أفضل وَلَا أَن الْمَيِّت ينْتَفع بسماعها وَمن قَالَ من الْمُتَأَخِّرين ذَلِك فَقَوله بِدعَة بَاطِلَة لِأَن الْمَيِّت بعد مَوته لَا ينْتَفع بأعمال يعلمهَا هُوَ وَلَا غَيره بعد الْمَوْت لَا من اسْتِمَاع وَلَا قِرَاءَة وَلَا غير ذَلِك بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَإِنَّمَا ينْتَفع بآثار أَعماله فِي حَيَاته مَسْأَلَة وإلزام الْمُسلم الَّذِي أَن لَا يعْمل وَلَا يتَصَدَّق إِلَّا فِي بقْعَة مُعينَة مثل كنائسهم وَنَحْوهَا لَا يَصح وَمَتى نَقَصُوا شرطا مِمَّا شَرط لَهُم الْوَاقِف كَانَ لَهُم أَن ينقصوا من الْمَشْرُوط عَلَيْهِم بِحَسب ذَلِك وَالله أعلم إِذا تعدى النَّاظر فِي الْوَقْف مثل أَن يصرف المَال إِلَى من لَا يسْتَحقّهُ سَوَاء إِلَى نَفسه أَو غَيره أَو فرط فِيهِ مثل أَن يدع اسْتِخْرَاج مَا يجب استخراجه من مَال الْوَقْف فَإِن الْوَاجِب إِذا لم يستقم أَن يسْتَبْدل بِهِ نَاظر غَيره يقوم بِالْوَاجِبِ أَو

يضم إِلَيْهِ أَمِين ولمستحق الْوَقْف مُطَالبَة النَّاظر بالمحاسبة على الْمُسْتَخْرج والمصروف الْمُتَعَيّن للأماكن الْمَوْقُوفَة وَتعين المستأجرين لَهَا لينظروا مَالهم ويستدلوا بذلك على صَدَقَة فِيمَا يُخْبِرهُمْ أَو كذبة وعَلى عدله وجوره فقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتعْمل رجلا يُقَال لَهُ ابْن اللتبية فَلَمَّا رَجَعَ حَاسبه مَعَ أَنه كَانَ لَهُ ولَايَة فِي صرفهَا والمستحق غير معِين فَجَاز الْمولى والمستحق ذَلِك وَمن بَاعَ أَرضًا ثمَّ تبين أَنَّهَا وقف عَلَيْهِ صَحِيح لَازم فَالْبيع بعد ذَلِك بَاطِل وَيرجع المُشْتَرِي على من غره بِالثّمن وَبِمَا يغرمه من الْأُجْرَة وَأما إِن لم يكن الْوَقْف كَذَلِك كمن أوقف وَقفا وَلم يُخرجهُ من يَده على مَذْهَب مَالك وَإِحْدَى الرايتين عَن أَحْمد وَأبي حنيفَة فَهُنَا لَا يبطل البيع بِمثل ذَلِك وَمَا يضر أهل الْوَقْف من أُجْرَة تَسْتَقِر على الْغَار الَّذِي غر المُشْتَرِي فَهُوَ على من غره وَإِذا كَانَت يَد الْمُسْتَحقّين على الْوَقْف وَلَهُم عَادَة مستمرة فِي صرفه وَذكر أَن تِلْكَ الْعَادة من شُرُوط بِخِلَافِهِ فَإِن يَد المصارف على الْوَقْف وَالْأَيْدِي المستقرة على الْملك أَو على الْوَقْف لَا ترفع إِلَّا بِحجَّة وَالشَّهَادَة بمصرف الْوَقْف مَقْبُولَة وَإِن كَانَ مستندها الْإِفَاضَة فِي أصح قولي الْعلمَاء وَلَا يعلم مصارف الْوُقُوف المتقادمة إِلَّا بِمثل ذَلِك وَمَا يضر بِأَهْل الْوَقْف من أجره تَسْتَقِر على الْغَار الَّذِي غر المُشْتَرِي فَهُوَ على من غره وَإِذا كَانَت يَد الْمُسْتَحقّين على الْوَقْف وَلَهُم عَادَة مستمرة فِي صرفه وَذكر أَن تِلْكَ الْعَادة من شُرُوط الْوَاقِف بِخِلَافِهِ فَإِن يَد المصارف على الْوَقْف وَالْأَيْدِي المستقرة على الْملك أَو على الْوَقْف لَا ترفع إِلَّا بِحجَّة وَالشَّهَادَة بمصرف الْوَقْف مَقْبُولَة وَإِن كَانَ مستندها الْإِفَاضَة فِي أصح قولي الْعلمَاء وَلَا يعلم مصارف الْوُقُوف المتقادمة إِلَّا بِمثل ذَلِك وَإِذا كَانَ فِي شَرط الْوَاقِف أَنه لَا يؤجرا أَكثر من سنتَيْن فتعطل وَخرب وَلَا يُمكن إِجَارَته وعمارته إِلَّا بِأَرْبَع سِنِين أجر كَذَلِك وَإِن كَانَ فِيهِ مُخَالفَة لشرط الْوَاقِف الْمُطلق وَلَا يفسق النَّاظر بذلك وَمن وقف وَقفا وَشرط نظره لنَفسِهِ مُدَّة حَيَاته ثمَّ من بعده إِلَى الأرشد فالأرشد من أَوْلَاده فَغَاب عَن الْبَلَد فَأجَاب طَائِفَة بِأَن النّظر للْحَاكِم مُدَّة الْغَيْبَة فَإِن الْوَاقِف إِذا خرج عَن الْأَهْلِيَّة كَانَ النّظر للْحَاكِم لَا لوَلَده بِنَاء على أَن الِانْتِقَال إِلَى الْوَلَد لَا يكون إِلَّا بعد ممات الْوَالِد

قَالَ شيخ الاسلام رَحمَه الله كَأَنَّهُمْ جعلُوا تَوْلِيَة الْوَقْف كترويج الأثم إِذا غَابَ الْوَلِيّ الْأَقْرَب وَفِيه نظر لِأَن هَذَا ولَايَة الِاسْتِقْبَال لَا الاسْتِئْذَان وَلَيْسَ فِي التَّأْخِير تَفْوِيت مصلحَة وَكَذَا مَضَت السّنة بِأَن الْأَئِمَّة يولون مَعَ بعد الدَّار شرقا وغربا وَكَذَلِكَ المستحقون وَحفظ الْبضْع بل الْولَايَة على الولايات أوسع من الْولَايَة على الْبضْع وَالْمَال فَإِذا مَاتَ الْمدرس مثلا فَلَا يولي بدله حَاكم الْبَلَد بل يراسل النَّاظر فَأَما الِانْتِقَال بِخُرُوجِهِ عَن الِاسْتِقْلَال بِالْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْت فَينْتَقل إِلَى الْأَبْعَد كَمَا فِي ولي النِّكَاح لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نَبِي بعدِي أَي بعد نبوتي فَقَوله وَالنَّظَر بعده أَي بعد نظره كَمَا أَن قَوْله مُدَّة حَيَاته مَشْرُوط بالأهلية فَقَوله وَالنَّظَر بعده أَي بعد نظره كَمَا أَن قَوْله مُدَّة حَيَاته مَشْرُوط بالأهلية فَقَوله بعد يعود إِلَى الْقسمَيْنِ عدم الْأَهْلِيَّة وتنويره وفرشه وإمامه ومؤذنه كفايتهم بِالْمَعْرُوفِ وَمَا فضل بعد ذَلِك يجوز صرفه إِلَى مَسْجِد آخر وَفِي مصَالح الْجِيرَان بِالْمَعْرُوفِ مثل رزق قَاضِي النَّاحِيَة وَنَحْو ذَلِك وَإِذا حكم حَاكم باختصاص الْوَقْف بفلان لِأَنَّهُ لم يعقب من ولد الْوَاقِف غير أمه وَثَبت أَن فُلَانَة الْأُخْت الْأُخْرَى أعقبت فلَانا قسم بَينهمَا لِأَن بَيِّنَة الْإِثْبَات مُقَدّمَة على النَّفْي وَالْوَقْف على الْيَتَامَى لَا يدْخل فِيهِ يتامى الْكفَّار وَأما الْغُلَام الصَّغِير الَّذِي أعتق وَلَيْسَ لَهُ أَب يعرف فَيدْخل وَإِن لم يعرف هَل مَاتَ أَبوهُ فِي دَار الْحَرْب أَو فِي دَار الاسلام وَإِذا عدم بعض الْمَوْقُوف عَلَيْهِم قبل اسْتِحْقَاقه انْتقل نصِيبه لَو عَاشَ إِلَى وَلَده وَإِن لم يسْتَحق هُوَ شَيْئا لِأَن الطَّبَقَة الأولى أَو بَعضهم لَا يلْزم من حرمانها حرمَان الطَّبَقَة الثَّانِيَة إِذا تحققت فيهم الشُّرُوط وَلَا فرق بَين الصُّورَتَيْنِ

فصل

وَقَول الْوَقْف على زيد ثمَّ على أَوْلَاده ثمَّ أَوْلَاد أَوْلَاده فَفِيهِ للفقهاء من أَصْحَاب أَحْمد وَغَيرهم عَن الْإِطْلَاق قَولَانِ أَحدهمَا أَنه لترتيب الْجمع على الْجمع كالمشهور فِي قَوْله على زيد وَعمر ثمَّ على الْمَسَاكِين وَالثَّانِي أَنه لترتيب الْأَفْرَاد على الْأَفْرَاد كَمَا قَوْله تَعَالَى {وَلكم نصف مَا ترك أزواجكم} أَي لَك وَاحِد نصف مَا تركت زَوجته وَكَذَا {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} إِذْ مُقَابلَة الْجمع بِالْجمعِ تَقْتَضِي توزيع الْأَفْرَاد نَحْو لَيْسَ النَّاس ثِيَابهمْ وَركب النَّاس دوابهم وَيجب على نَاظر الْوَقْف أَن يجْتَهد فِي صرفه فَيقدم الأحق فالأحق وَإِذا اقْتَضَت الْمصلحَة الشَّرْعِيَّة صرفه إِلَى ثَلَاثَة مثل أَن لَا يكفيهم أقل من ذَلِك وَغَيرهم من الْفُقَرَاء يَكْفِي من غير هَذَا الْوَقْف أَو يساويهم فِيمَا يحصل من ريعه وهم أَحَق مِنْهُ عِنْد التزاحم وَنَحْو ذَلِك جَازَ ذَلِك وأقارب الْوَاقِف الْفُقَرَاء أولى من الْأَجَانِب مَعَ التَّسَاوِي فِي الْحَاجة وَيجوز أَن يصرف إِلَيْهِ كِفَايَته إِلَى أَن يُوجد أَحَق مِنْهُ وَإِن قدر وجود فَقير مُضْطَر كَانَ دفع ضَرُورَته وَاجِبا وَإِن قدر تنقيص غَيره من غير ضَرُورَة تحصل لَهُ تعين ذَلِك وَالله أعلم فصل الشَّرْط فِي الْوَقْف كَعَدم الْجمع بَين الوظيفتين وَغَيرهمَا من مدرسة أُخْرَى إِنَّمَا يلْزم الْوَفَاء بِهِ إِذا لم يفض ذَلِك إِلَى الْإِخْلَاص بِالْمَقْصُودِ الشَّرْعِيّ الَّذِي هُوَ وَاجِب أَو مُسْتَحبّ فَأَما الْمُخَالفَة على بعض الشُّرُوط مَعَ فَوَات الْمَقْصُود الشَّرْعِيّ بِالشّرطِ فَلَا يجوز

فاشتراط عدم الْجمع بَاطِل مَعَ ذهَاب بعض أصل الْوَقْف وَعدم حُصُول الْكِفَايَة للمرتب بهَا لَا يجب الْتِزَامه وَلَا يجوز الْإِلْزَام بِهِ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن ذَلِك إِنَّمَا شَرط عَلَيْهِم مَعَ وجود ريع الْوَقْف سَوَاء كَانَ كَامِلا أَو نَاقِصا فَإِذا ذهب بعض أصل الْوَقْف لم تكن الشُّرُوط مَشْرُوطَة فِي هَذِه الْحَال وَفرق بَين نقص ربع الْوَقْف مَعَ وجود أَصله وَبَين ذهَاب بعض أَصله الْوَجْه الثَّانِي أَن حُصُول الْكِفَايَة للمرتب بهَا أَمر لَا بُد مِنْهُ حَتَّى لَو قدر أَن الْوَاقِف صرح بِخِلَاف ذَلِك لَكَانَ شرطا بَاطِلا مثل أَن يَقُول إِن الْمُرَتّب بهَا لَا يرتزق من غَيرهَا وَلَو لم يحصل لَهُ كِفَايَة فَلَو صرح بِهَذَا لم يَصح لِأَنَّهُ مُخَالف لكتاب الله فَإِن حُصُول الْكِفَايَة لَا بُد مِنْهَا وتحصيلها للْمُسلمِ وَاجِب إِمَّا عَلَيْهِ وَإِمَّا على الْكِفَايَة من الْمُسلمين وَالْوَقْف سَوَاء شبه بالجعل أَو بِالْأُجْرَةِ أَو بالرزق فَإِنَّمَا على الْعَامِل أَن يعْمل إِذا أوفى لَهُ بِمَا شَرط لَهُ وَإِذا شَرط للنَّاظِر نَصِيبا مَعْلُوما فَلَيْسَ فِي شَرطه كَونه يقدم على غَيره بل هُوَ مَذْكُور بِالْوَاو الَّتِي مقتضاها التَّشْرِيك وَلَكِن إِذا كَانَ ثمَّ دَلِيل مُنْفَصِل يَقْتَضِي جَوَاز الِاخْتِصَاص والتقدم مثل كَونه حائزا أجره عمله مَعَ فقرة كولي الْيَتِيم عمل بذلك الدَّلِيل الْمُنْفَصِل الشَّرْعِيّ وَالْمَال الْمَشْرُوط للنَّاظِر مُسْتَحقّ على الْعَمَل الْمَشْرُوط عَلَيْهِ فَمن يَوْم عمل عَلَيْهِ يسْتَحقّهُ لَا من حِين تولى وَلَا يجوز الْوَقْف على الْغناء وَإِن كَانَ الْغناء مُبَاحا وَكَذَا سَائِر الصِّفَات الْمُبَاحَة وَكَذَا لَو شَرط عَلَيْهِم الْتِزَام نوع خَاص من الْمطعم أَو الملبس أَو الْمسكن الَّذِي لَا تستحبه الشَّرِيعَة أَو ترك بعض الْأَعْمَال الَّتِي تسْتَحب الشَّرِيعَة عَملهَا بَقِي الْكَلَام فِي تَحْقِيق هَذَا المناط فِي أَعْيَان الْمسَائِل فَإِنَّهُ قد يكون مُتَّفقا عَلَيْهِ وَقد يخْتَلف فِيهِ الِاجْتِهَاد فَينْظر فِي الشَّرْط فَإِن لم يكن فِيهِ مَقْصُود شَرْعِي خَالص أَو رَاجِح كَانَ بَاطِلا

فَإِذا شَرط أَن لَا يرْزق فِي وَظِيفَة أُخْرَى نظر فِي ذَلِك كَمَا تقدم والواقف هُوَ من بَاب الرزق والمعاونة على الدّين بِمَنْزِلَة مَا ترزقه الْمُقَاتلَة وَالْعُلَمَاء من الْفَيْء لَيْسَ كالجعالة وَلَا الْإِجَارَة على عمل دُنْيَوِيّ وَيجوز لوَلِيّ الْأَمر أَن ينصب ديوانا مُسْتَوْفيا لحساب الْأَمْوَال الْمَوْقُوفَة عِنْد الْمصلحَة كَمَا ينصب لحساب الْأَمْوَال السُّلْطَانِيَّة كالفيء وَغَيره وَله أَن يفْرض لَهُ على عمله مَا يسْتَحقّهُ مثله من كل مَال يعْمل فِيهِ بِقدر ذَلِك المَال وَالْعَمَل لقَوْله تَعَالَى {والعاملين عَلَيْهَا} وَقد اسْتعْمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن اللتبية وحاسبه وَنصب الْمُسْتَوْفى فِي الْجَامِع للعمال وَصَرفه إِلَى المتفرقين هُوَ بِحَسب الْحَاجة فقد يكون وَاجِبا إِذا لم تتمّ مصلحَة قبض المَال وَصَرفه إِلَّا بِهِ وَكَذَا نصب الْحَاكِم قد يجب إِذا لم تصل الْحُقُوق إِلَى مستحقيها أَو لم يتم فعل الْوَاجِب وَترك الْمحرم إِلَّا بِهِ وَقد يسْتَغْنى عَنهُ إِذا بَاشر الإِمَام الحكم بِنَفسِهِ وَقد كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُبَاشر الحكم وَاسْتِيفَاء الْحساب بِنَفسِهِ فِي الْمَدِينَة وَفِيمَا بعد ولى من يقوم بِالْأَمر وَلما كثرت الرّعية على عهد الْخُلَفَاء استعملوا الْقُضَاة ودونوا الدَّوَاوِين فَإِذا قَامَ الْمُسْتَوْفى بِمَا عَلَيْهِ بِمَا عَلَيْهِ وَجب لَهُ مَا فرض لَهُ وَإِذا عمل وَلم يُعْط جعله فَلهُ أَن يطْلب عَن الْعَمَل الْخَاص فَإِن مَا وَجب لَهُ بطرِيق الْمُعَامَلَة يجب وَمن وقف وَقفا مُسْتقِلّا ثمَّ ظهر عَلَيْهِ دين فَأمكن وَفَاء الدّين من غير بيع الْوَقْف لم يجز بيع الْوَقْف وَإِن لم يُمكن وفاؤه إِلَّا بِبيع شَيْء من الْوَقْف وَهُوَ فِي مرض الْمَوْت بيع بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَإِن كَانَ الْوَقْف فِي صِحَة فَهَل يُبَاع لوفاء الدّين فِيهِ خلاف فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وَمنعه قَول قوي وَأُجْرَة إِثْبَات الْوَقْف وَالسَّعْي فِي مَصَالِحه من تَرِكَة الْمَيِّت لَا من ريعه وَإِذا عين نَاظرا ثمَّ نَاظرا غَيره من غير عزل الأول يرجع فِيهِ إِلَى عرف مثل هَذَا الْوَاقِف وَعَادَة أَمْثَاله فَإِن كَانَ مثل هَذَا كَانَ رُجُوعا وَكَذَلِكَ إِن كَانَ فِي لَفظه مَا يقتضى انْفِرَاد الثَّانِي وَإِلَّا فقد عرفت الْمَسْأَلَة فِيمَا إِذا أوصى بالمعين لشخص ثمَّ

فصل

وصّى بهَا لآخر هَل يكون رُجُوعا أم لَا وَمَا علمه الشُّهُود من حق تركته ويصل الْحق إِلَى مُسْتَحقّه بِشَهَادَتِهِم يحرم عَلَيْهِم أَن يكتموها وَإِن كَانَ يَأْخُذهُ من لَا يسْتَحقّهُ بِشَهَادَتِهِم وَلَا يصل إِلَى من يسْتَحقّهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِم أَن يعينوا وَاحِدًا مِنْهُمَا وَإِن كَانَ فِي يَده بِتَأْوِيل واجتهاد لم يكن عَلَيْهِم أَيْضا نَزعَة من يَده بل يعان المتأول على من لَا تَأْوِيل لَهُ أجَاب بذلك فِيمَا إِذا علم الشُّهُود بِحَق لبيت المَال فِي تَرِكَة هَل يجب كتم الشَّهَادَة أم لَا وَمن قَالَ إِذا مت فداري وقف ثمَّ تعافى وَلَزِمَه دُيُون جَازَ بيع الدَّار وَفَاء للدّين وَإِن كَانَ التَّعْلِيق صَحِيحا كَمَا هُوَ أحد قولي الْعلمَاء وَلَيْسَ هَذَا بأبلغ من التَّدْبِير وَقد بَاعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُدبر فِي الدّين فصل الْأَمْوَال الَّتِي لَهَا أصل فِي كتاب الله ثَلَاثَة مَال الْمغنم ذكره الله فِي قَوْله {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه وَمَا أنزلنَا على عَبدنَا يَوْم الْفرْقَان يَوْم التقى الْجَمْعَانِ وَالله على كل شَيْء قدير} فَهَذِهِ الْمَغَانِم للغانمين بعد خمسها وَالثَّانِي الْفَيْء وَهُوَ الَّذِي ذكر الله فِي سُورَة الْحَشْر حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَفَاء الله على رَسُوله مِنْهُم فَمَا أَوجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خيل وَلَا ركاب} اي مَا حركتم وَلَا أعلمتم وَلَا سقتم فَهُوَ مَا صَار للْمُسلمين بِغَيْر إيجَاف خيل وَلَا ركاب فَإِن الله أفاءه على الْمُسلمين فَإِن الله سُبْحَانَهُ خلق الْخلق لعبادته وَأحل لَهُم الطَّيِّبَات ليأكلوا طيبا ويعملوا صَالحا وَالْكفَّار يعْبدُونَ غَيره فصاروا غير مستحقين

لِلْمَالِ فالمباح للْمُؤْمِنين الَّذين يعبدونه هُوَ أَن يسترقوا أنفسهم وَأَن يسترجعوا الْأَمْوَال مِنْهُم فاذا أَعَادَهَا الله إِلَى الْمُؤمنِينَ فقد فاءت أَي رجعت إِلَى مستحقيها وَهَذَا الْفَيْء يدْخل فِيهِ جِزْيَة الرُّءُوس على أهل الذِّمَّة وَمَا يُؤْخَذ من العثور وأنصاف العثور وَمَا يُصَالح عَلَيْهِ الْكفَّار من المَال الَّذِي يحملونه وَمَا جلوا عَنهُ خوفًا كأموال بني النَّضِير الَّذين كَانُوا شَرْقي الْمَدِينَة قَالَ الله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أخرج الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب من دِيَارهمْ} الْآيَة ثمَّ ذكر مصارف الْفَيْء بقوله {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل} الْآيَة إِلَى قَوْله {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ} إِلَى قَوْله {وَالَّذين جاؤوا من بعدهمْ} فَهَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَلِهَذَا قَالَ مَالك وَأَبُو عبيد وَأَبُو حَكِيم النهرواني من أَصْحَاب أَحْمد وَغَيرهم إِن من سبّ الصَّحَابَة لم يكن لَهُ فِي الْفَيْء نصيب وَمن الْفَيْء مَا ضربه عمر رَضِي الله عَنهُ على أَرض العنوة فَلَا يُخَمّس فِي قَول الجماهير كَأبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد ويخمس عِنْد الشَّافِعِي وَبَعض أَصْحَابنَا وَذكر ذَلِك رِوَايَة عَنهُ والفيء لم يكن ملكا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته فِي قَول أَكثر الْعلمَاء وَقَالَ الشَّافِعِي وَبَعض أَصْحَابنَا كَانَ ملكا لَهُ وَأما مصرفه بعد مَوته فاتفق الْعلمَاء على أَنه يصرف فِي أرزاق الْجند الَّذين يُقَاتلُون الْكفَّار وَتَنَازَعُوا هَل يصرف فِي سَائِر الْمصَالح أم يخْتَص بِهِ الْمُقَاتلَة على قَوْلَيْنِ للشَّافِعِيّ وَأحمد لَكِن الْمَشْهُور عَنهُ أَنه لَا يخْتَص كَمَا هُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة بل يصرف فِي الْمصَالح كلهَا وعَلى الْقَوْلَيْنِ يعْطى لمن فِيهِ مَنْفَعَة لأهل الْفَيْء كولاة أُمُورهم وَمن يُقْرِئهُمْ الْقُرْآن ويفتيهم ويحدثهم ويؤمهم وَيُؤذن لَهُم وَيقوم فِي سد ثغورهم وَعمارَة طرقاتهم وحصونهم وَإِلَى ذَوي الْحَاجَات يبْدَأ بالأهم من

ذَوي الْمَنَافِع نَص عَلَيْهِ عَامَّة الْفُقَهَاء من أَصْحَاب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة وَغَيرهم لَكِن مَذْهَب الشَّافِعِي وَبَعض أَصْحَاب أَحْمد أَنه لَا حق فِيهِ للأغنياء الَّذين لَا مَنْفَعَة للْمُسلمين بهم وَمذهب الْجُمْهُور كمالك وَأحمد وَغَيرهمَا أَن للأغنياء فِيهِ حَقًا إِذا فضل واتسع عَن حاجات الْمُسلمين كَمَا قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ مَا من مُسلم إِلَّا وَله فِي هَذَا المَال حق وَكَانَ الْجَمِيع الْمُسلمين فرض فِي دُيُون عمر غنيهم وفقيرهم وَمَعَ هَذَا فَلَا يعْطى الْغَنِيّ شَيْء إِلَّا بعد الْفُقَرَاء إِذا فضل عَنْهُم هَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور كَالْإِمَامِ أَحْمد فِي الصَّحِيح عَنهُ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ كَمَا تقدم تَخْصِيص الْفُقَرَاء بالفاضل وَأما المَال الثَّالِث فَهُوَ مَال الصَّدقَات الَّتِي هِيَ زَكَاة الْأَمْوَال وَهَذَا مصرفه كَمَا ذكره الله تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} إِلَى الْأَصْنَاف الثَّمَانِية الْمَذْكُورَة وَقد انفق الْمُسلمُونَ على أَنه لَا يُجَاوز بهَا الثَّمَانِية الْأَصْنَاف الَّتِي سمى الله تَعَالَى إِذا تبين هَذَا الأَصْل فَذكر أصلا آخر ونقول أَمْوَال بَيت المَال فِي هَذِه الْأَزْمِنَة هِيَ أَصْنَاف مِنْهَا مَا هُوَ من الْفَيْء أَو الصَّدقَات أَو الْخمس وَقد عرف حكم هَذَا وَمِنْهَا مَا صَار إِلَى بَيت المَال بِحَق غير هَذَا مثل من مَاتَ من الْمُسلمين وَلَا وَارِث لَهُ وَمن ذَلِك مَا فِيهِ نزاع وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ وصنف قبض بِغَيْر حق وبتأويل يجب رده إِلَى مُسْتَحقّه إِذا أمكن وَقد تعذر مثل مَا يُؤْخَذ من مصادرات الْعمَّال وَغَيرهم الَّذين يَأْخُذُونَ الْهَدَايَا وأموال الْمُسلمين مِمَّا لَا يستحقونه فاسترجعه ولي الْأَمر مِنْهُم أَو من تركاتهم وَلم يعرف مُسْتَحقّه وَمن قبض مَالا من الْوَظَائِف المحدثة فَهَذِهِ الْأَمْوَال الَّتِي تعذر ردهَا لعدم الْعلم بأربابها مثلا هِيَ

مَا يصرف فِي الْمصَالح الَّتِي للْمُسلمين عِنْد أَكثر الْعلمَاء كَالْغَاصِبِ والخائن والمرابي التائبين وَنَحْوهم فَمَا صَار بِيَدِهِ مَال لَا يملكهُ وَلَا يعرف صَاحبه فَإِنَّهُ يصرف إِلَى ذَوي الْحَاجَات إِذا تبين هَذَانِ الأصلان فَنَقُول من كَانَ من ذَوي الْحَاجَات كالفقراء وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل فَيجوز ب يجب أَن يغطوا من الزَّكَاة وَمن الْأَمْوَال المجهولة الأَصْل بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَمن الْفَيْء مِمَّا فضل عَن الْمصَالح الْعَامَّة الَّتِي لَا بُد مِنْهَا عِنْد أَكثر الْعلمَاء سَوَاء كَانُوا مشتغلين بِالْعلمِ الْوَاجِب على الْكِفَايَة أم لَا وَسَوَاء كَانُوا فِي زَوَايَا أَو ربط أم لَا لَكِن من كَانَ متميزا بِعلم أَو دين كَانَ أولى ومقدما على غَيره وأحق هَؤُلَاءِ هم الَّذين ذكرهم الله تَعَالَى فِي قَوْله للْفُقَرَاء الَّذين أحضروا فِي سَبِيل الله لَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي الأَرْض الْآيَة فَمن كَانَ مَشْغُولًا بِالْعلمِ ولادين الَّذِي أحْصر بِهِ فِي سَبِيل الله قد مَنعه الْكتب فَهُوَ أولى من غَيره فَيعْطى قُضَاة الْمُسلمين وعلماؤهم وفقهاؤهم مَا يكفيهم وأرزاق الْمُقَاتلَة وذراريهم لَا سِيمَا بني هَاشم الطالبين والعاسيين فَيتَعَيَّن إعطاؤهم من الْفَيْء وَالْخمس والمصالح لِأَن الزَّكَاة مُحرمَة عَلَيْهِم وَالْفَقِير الشَّرْعِيّ لَيْسَ هُوَ الْفَقِير الاصطلاحي الَّذِي يتَقَيَّد بلبسة أَو طَريقَة خَاصَّة بل هُوَ كل من لَيْسَ لَهُ كِفَايَة مِنْهُم من الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَقد تنَازع الْعلمَاء هَل الْفَقِير أَشد حَاجَة أَو الْمِسْكِين أَو الْفَقِير من يتعفف والمسكين من يسْأَل النَّاس على ثَلَاثَة أَقْوَال وَاتَّفَقُوا على أَن من لَا مَال لَهُ وَهُوَ عَاجز عَن الْكسْب يعْطى مَا يَكْفِيهِ سَوَاء كَانَ لبسه لبس الْفُقَرَاء الاصطلاحيين أَو لبس الْجند أَو الْفُقَهَاء أَو الفلاحين أَو غَيرهم وَسَوَاء كَانَ جنديا أَو تَاجِرًا أَو مرابطا أَو غير ذَلِك يعْطى مَا يَكْفِيهِ وَمن كَانَ مُؤمنا تقيا كَانَ لله وليا وَمن كَانَ من هَؤُلَاءِ منافقا أَو مظْهرا

للبدعة مُخَالفا للْكتاب وَالسّنة من بدع الاعتقادات أَو الْعِبَادَات فَلَا يدْفع إِلَيْهِ بل يسْتَحق الْعقُوبَة وَمن عُقُوبَته أَن يحرم حَتَّى يَتُوب وَأما من كَانَ زنديقا كالحلولية والاباحية وَمن يفضل متبوعه على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن يعْتَقد أَنه لَا يجب عَلَيْهِ فِي الْبَاطِن اتِّبَاع شَرِيعَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو أَنه إِذا حصلت لَهُ الْمعرفَة وَالتَّحْقِيق سقط عَنهُ الْأَمر وَالنَّهْي أَو أَن الْعَارِف الصُّوفِي المتحقق يجوز لَهُ التدين بدين الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَلَا يجب عَلَيْهِ الِاعْتِصَام بِالْكتاب وَالسّنة وأمثال هَؤُلَاءِ فَإِن هَؤُلَاءِ كلهم مُنَافِقُونَ زنادقة وَإِذا ظهر على أحدهم دَلَائِل ذَلِك وَجب قَتله بِاتِّفَاق الْمُسلمين وهم كَثِيرُونَ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة لاكثرهم الله فعلى وُلَاة الْأُمُور أَن يأمروا الْفُقَرَاء بِاتِّبَاع السّنة وَلَا يمكنوا أحدا من الْخُرُوج من ذَلِك وَلَو ادّعى من الدعاوي مَا ادّعى وَلَو زعم أَنه يطير فِي الْهَوَاء وَيَمْشي على المَاء وَمن كَانَ من الْفُقَرَاء الَّذين لم تشغلهم مَنْفَعَة عَامَّة للْمُسلمين عَن الْكسْب بل كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لم يجز أَن يعْطى من الزَّكَاة عِنْد الشَّافِعِي وَأحمد وَجوزهُ أَبُو حنيفَة وَلَا يجوز أَن يعْطى من الزَّكَاة من يصنع بهَا دَعْوَة وضيافة للْفُقَرَاء الصُّوفِيَّة وَلَا من يُقيم بهَا ساطا لَهُم لَا لوارد وَلَا لغير وَارِد بل يجب أَن يعْطى الْفَقِير الْمُحْتَاج ملكا لَهُ بِحَيْثُ ينفقها على نَفسه وَعِيَاله فِي بَيته وَيَقْضِي مِنْهَا دينه ويصرفها فِي حاجاته وَلَيْسَ فِي الْمُسلمين من يُنكر صرف الصَّدقَات وفاضل أَمْوَال للصالح إِلَى الْفُقَرَاء وللمساكين وَمن نقل ذَلِك عَن عَالم فَهُوَ إِمَّا جَاهِل أَو كَافِر بِالدّينِ بل بِسَائِر الشَّرَائِع والملل أَو يكون النَّقْل عَنهُ كذبا أَو محرفا فَأَما من هُوَ متوسط فِي الْعلم وَالدّين فَلَا يخفى عَلَيْهِ ذَلِك وَلَا ينْهَى عَن ذَلِك وَلَكِن قد اخْتَلَط فِي هَذِه الْأَمْوَال السُّلْطَانِيَّة الْحق وَالْبَاطِل فأقوام كَثِيرُونَ من ذَوي الْحَاجَات وَالدّين وَالْعلم لَا يعْطى أحدهم

كفاتيه ويتمزق جوعا وَهُوَ لَا يسْأَل وَمن يعرف فَلَيْسَ عِنْده مَا يُعْطِيهِ وأقوام كَثِيرَة يَأْكُلُون أَمْوَال النَّاس ويصدون عَن سَبِيل الله وَقوم لَهُم رواتب أَضْعَاف حاجاتهم وَقوم لَهُم رواتب مَعَ غناهم عَنْهَا وَقوم ينالون جِهَات كمساجد وَغَيرهَا فَيَأْخُذُونَ معلومها ويستنيبون من يطعونه شَيْئا يَسِيرا وأقوام فِي الرَّبْط والزوايا يَأْخُذُونَ مَالا يسْتَحقُّونَ وَيَأْخُذُونَ فَوق حَقهم وَيمْنَعُونَ من هم أَحَق مِنْهُم وَهَذَا مَوْجُود فِي مَوَاضِع كَثِيرَة لَا يُنَازع فِي وُقُوعه أحد وَلَا يستريب مُسلم أَن السَّعْي فِي تَمْيِيز الْمُسْتَحق من غَيره وَإِعْطَاء الولايات والأرزاق من هُوَ أَحَق بهَا وَالْعدْل بَين النَّاس وَفعله بِحَسب الْإِمْكَان هُوَ من أفضل عمل وُلَاة الْأُمُور بل من أوجبهَا عَلَيْهِم فَإِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وَالْعدْل وَاجِب على كل وَاحِد فِي كل شَيْء وَكَانَ أَن النّظر فِي الْجند الْمُقَاتلَة وَالْعدْل بَينهم وَزِيَادَة من يسْتَحق الزِّيَادَة مِنْهُم وَنقص من يسْتَحق النَّقْص وَإِعْطَاء الْعَاجِز عَن الْجِهَاد من جِهَة أُخْرَى هُوَ من أحسن أَفعَال وُلَاة الْأُمُور وأوجبها فَكَذَلِك النّظر فِي حَال سَائِر المرتزقين من أَمْوَال الْفَيْء وَالصَّدقَات وَالْعدْل بَينهم فِي ذَلِك وَإِعْطَاء الْمُسْتَحق تَمام كِفَايَته وَمنع من لَيْسَ من الْمُسْتَحقّين من أَن يزاحمهم فِي أَرْزَاقهم وَمن ادّعى الْفقر مِمَّن لم يعرف بالغنى وَطلب الْأَخْذ من الصَّدقَات فَإِنَّهُ جَائِز للامام أَن يُعْطِيهِ بِلَا بَيِّنَة بعد أَن يعلم أَنه لَا حق فِيهَا لَغَنِيّ وَلَا لقوي على الْكسْب وَإِن ذكر أَن لَهُ عيالا فَهَل يفقتر إِلَى بَيِّنَة فِيهِ قَولَانِ فِي مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَإِن رى أَن يُقيم بَيِّنَة فَلَا خلاف أَنه لَا يجب أَن تكون الْبَيِّنَة من الشُّهُود المعدلين فَإِن شَهَادَة هَؤُلَاءِ المعدلين ترد وَإِن لم يرزقوا على أَدَاء الشَّهَادَة فَكيف إِذا أخذُوا عَلَيْهَا رزقا لَا سِيمَا مَعَ الْعلم بِكَثْرَة من يشْهد مِنْهُم بالزور وَلِهَذَا كَانَت الْعَادة أَن الشُّهُود المرتزقة بِالشَّهَادَةِ بِالشَّام لَا يشْهدُونَ فِي

الاجتهادات كالإعسار والرشد وَالْعَدَالَة والأهلية والاستحقاق وَنَحْو ذَلِك بل يشْهدُونَ بالحسيات كَالَّذي سَمِعُوهُ أَو رَأَوْهُ فَإِن الشَّهَادَة بالاجتهادات يدخلهَا التَّأْوِيل والتهم فالجعل سهل عَلَيْهِم الشَّهَادَة فِيهَا بِغَيْر تحر بِخِلَاف الحسيات فَالزِّيَادَة فِيهَا كذب صَرِيح لَا يقدم عَلَيْهِ إِلَّا من يقدم على صَرِيح الزُّور وَمن نقل عَن حَاكم أَنه قَالَ لَا يسْتَحق من هَؤُلَاءِ إِلَّا المكسح وَالْأَعْمَى والزمن فَهَذَا لم يقلهُ أحد من الْعلمَاء وَمن قَالَ ذَلِك قدح فِي عَدَالَته واستبدل مَكَانَهُ وَإِن كَانَ مفتريا على النَّاقِل عَنهُ عُوقِبَ تردعه وَأَمْثَاله من المفترين على النَّاس وعقوبة من افترى على النَّاس وَتكلم فيهم بِمَا يُخَالف دين الْمُسلمين لَا يحْتَاج إِلَى دَعْوَى بل الْعقُوبَة فِي ذَلِك جَائِزَة بِدُونِ دَعْوَى كعقوبة من يتَكَلَّم فِي الدّين بِلَا علم فَيحدث بِلَا علم ويفتي بِلَا علم وأمثال هَؤُلَاءِ مِمَّن يتَصَدَّى للاشتغال بالتعليم وَالْفَتْوَى بل اعْلَم فَكل هَؤُلَاءِ يعاقبون بِمَا يردعهم فَمن قَالَ لَا يسْتَحق من الْأَمْوَال إِلَّا الْأَعْمَى والمكسح والزمن فقد أَخطَأ بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَمن قَالَ إِن أَمْوَال بَيت المَال على اخْتِلَاف أصنافها مُسْتَحقَّة لأصناف مِنْهُم الْفُقَرَاء وَأَنه يجب على الإِمَام إِطْلَاق كفايتهم من بَيت المَال فقد أَخطَأ بل يسْتَحقُّونَ من الزَّكَاة بِلَا ريب وَأما من الْفَيْء وَمن الْمصَالح فَلَا يسْتَحقُّونَ إِلَّا مَا فضل عَن الْمصَالح الْعَامَّة وَلَو قدر أَنه لم يحصل لَهُم من الزَّكَاة مَا يكفيهم وأموال بَيت المَال مستغرفة بالمصالح كَانَ إِعْطَاء الْعَاجِز عَن الْكسْب فرضا على الْكِفَايَة فعلى الْمُسلمين جَمِيعًا أَن يطعموا الجائع ويكسوا العاري وَلَا يدعوا بَينهم مُحْتَاجا وعَلى الإِمَام أَن يصرف ذَلِك من المَال الْمُشْتَرك الْفَاضِل عَن الْمصَالح الْعَامَّة الَّتِي لَا بُد مِنْهَا وَأما من يَأْخُذ لمصْلحَة عَامَّة فَإِنَّهُ يَأْخُذهُ مَعَ حَاجته بِلَا نزاع وَمَعَ غناهُ على أحد الْقَوْلَيْنِ كَالْقَاضِي وَالشَّاهِد والمفتي والحاسب والمقرى والمحدث وَنَحْوهم

فصل

وَأما أَرض العنوة فَفِيهَا ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا أَنَّهَا تقسم كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَإِن طابت نُفُوسهم بِالْوَقْفِ جَازَ فَلَو حكم حَاكم بوقفها من غير طيب أنفسهم نقض حكمه نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم وَجُمْهُور الْأَئِمَّة خالفوه فِي ذَلِك وَرَأَوا أَن مَا فعله عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ من جعلهَا فَيْئا حسن جَائِز وَقد حَبسهَا عمر رَضِي الله عَنهُ بِدُونِ استطابة أنفسهم وَلَا نزاع أَن كل أَرض فتحهَا عمر لم يقسهما وَكَانَ مَذْهَب عمر فِي الْفَيْء أَنه لجَمِيع الْمُسلمين لَكِن يفاضل بَينهم بالفضائل الدِّينِيَّة وَأما أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فسوى بَينهم فِي الْعَطاء إِذا اسْتَووا فِي الْحَاجة وروى أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَئِن عِشْت إِلَى قَابل لأجعلن النَّاس بَيَانا أَي بابة وَاحِدَة وَكَانَ تفضيله بِأَسْبَاب أَرْبَعَة اجْتِهَاد فِي قتال الْأَعْدَاء والغناء عَن الْمُسلمين فِي مصالحهم كمعلميهم وولاتهم والسابقة إِلَى الْإِسْلَام وَالْحَاجة فَقَالَ إِنَّمَا هُوَ الرجل وبلاؤه وَالرجل وسابقته والرجف وفاقته فصل وإحياء الْموَات جَائِز بِدُونِ إِذن الإِمَام فِي مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَاشْترط أَبُو حنيفَة الْإِذْن وَقَالَ مَالك إِن كَانَ مِمَّا قرب من العامر وتشاح النَّاس فِيهِ وَجب إِذن الإِمَام وَإِلَّا فَلَا إحْيَاء أما أَرض الْخراج فَهَل تملك بِالْإِحْيَاءِ وَلَا خراج عَلَيْهَا أَو تكون بِيَدِهِ وَعَلِيهِ الْخراج على قَوْلَيْنِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وَمن كَانَ لَهُ حق فِي بَيت المَال فأحيل على بعض الْمَظَالِم فَقَالَ شيخ الْإِسْلَام رَحمَه الله تَعَالَى قد قلت لمن سَأَلَني عَن ذَلِك لَا تستخرج أَنْت هَذَا وَلَا تعن

على استخراجه لِأَنَّهُ ظلم لَكِن اطلب أَنْت حَقك من المَال المتحصل عِنْدهم وَإِن كَانَ مجموعا من هَذِه الْجِهَة وَغَيرهَا فَإِنَّمَا اجْتمع فِي بَيت المَال وَلم يعرف أَصْحَابه فَصَرفهُ فِي مصَالح للْمُسلمين أولى من صرفه فِيمَا لَا ينْتَفع بِهِ أَصْحَابه وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يصبر مختلطا فَلَا يبْقى مَحْكُومًا بِتَحْرِيم عينه مَعَ كَون الصّرْف إِلَى مثل هَذَا وَاجِبا على الْمُسلمين فَإِن الْوُلَاة يظْلمُونَ تَارَة فِي الاستخراج وَتارَة فِي صرفهَا فَلَا يحل إعانتهم على الاستخراج وَلَا أَخذ الْإِنْسَان مَالا يسْتَحقّهُ وَأما يسوغ فِيهِ الاستخراج وَالصرْف فكمسائل الِاجْتِهَاد ومالا يسوغ فِيهِ اجْتِهَاد من الْأَخْذ والإعطاء فَلَا يعانون عَلَيْهِ لَكِن إِذا كَانَ المصروف إِلَيْهِ مُسْتَحقّا لمقدار الْمَأْخُوذ جَازَ أَخذه من كل مَال يجوز صرفه كَالْمَالِ الْمَجْهُول مَالِكه فَإِن امْتَنعُوا من إِعَادَته إِلَى مُسْتَحقّه فَهَل الأولى إِقْرَاره فِي أَيدي الظلمَة أَو السَّعْي فِي صرفه فِي مصَالح الْمُسلمين إِذا كَانَ السَّاعِي فِي ذَلِك مِمَّن يكره أصل أَخذه وَلم يعن على أَخذه بل يسْعَى فِي منع أَخذه فَهَذِهِ مَسْأَلَة حَسَنَة يَنْبَغِي التفطن لَهَا وَإِلَّا دخل الْإِنْسَان فِي فعل الْمُحرمَات أَو ترك الْوَاجِبَات فَإِن الْإِعَانَة على الظُّلم من فعل الْمُحرمَات وَإِذا لم يُمكن الْوَاجِب إِلَّا بِالصرْفِ الْمَذْكُور كَانَ تَركه من ترك الْوَاجِبَات وَإِذا لم يُمكن إِلَّا إِقْرَاره بيد الظَّالِم وَصَرفه فِي الْمصَالح كَانَ النَّهْي عَن صرفه فِي الْمصَالح إِعَانَة على زِيَادَة الظُّلم الَّتِي هِيَ إِقْرَاره بيد الظَّالِم فَكل مَا يجب إِزَالَة الظُّلم عَنهُ يجب تقليله عِنْد الْعَجز عَن إِزَالَته فَهَذَا أصل عَظِيم وأصل آخر وَهُوَ أَن المشتهات يَنْبَغِي صرفهَا فِي الْأَبْعَد عَن الْمَنْفَعَة فالأبعد كَمَا أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بكسب الْحجام يطعمهُ الرَّقِيق والناضح فَالْأَقْرَب مَا دخل فِي الْبَاطِن من الطَّعَام وَالشرَاب ثمَّ مَا ولي الظَّاهِر من اللبَاس ثمَّ ماستر مَعَ الِانْفِصَال من القباء ثمَّ مَا عرض من الرّكُوب فَكَذَا يفرق فِي الِانْتِفَاع بالرزق وَكَذَلِكَ أَصْحَابنَا يَفْعَلُونَ

باب اللقطة

بَاب اللّقطَة وَإِذا وَقع الْمركب فِي الْبَحْر وغرق وَفِيه زَيْت فطفا الزَّيْت على وَجه المَاء فَمن جمعه فقد خلص المَال الْمَعْصُوم من التّلف وَله أُجْرَة الْمثل فِي أصح قولي الْعلمَاء وَالزَّيْت لصَاحبه بِلَا نزاع إِلَّا عِنْد الْحسن فَإِنَّهُ قَالَ هُوَ لمن خلصه وَقد قَالَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِيمَن اشْترى أَمْوَال الْمُسلمين من الْكفَّار إِنَّه أَخذهَا مِمَّن اشْتَرَاهَا بِالثّمن وَلَو كَانَ حَيَوَانا فخلصه من مهلكة ملكه كَمَا ورد فِي الْأَثر لِأَن الْحَيَوَان حُرْمَة فِي نَفسه بِخِلَاف الْمَتَاع فَإِن حرمته لحُرْمَة صَاحبه فهناك تخليصه لحق الْحَيَوَان الَّذِي قد يئس مِنْهُ صَاحبه بِخِلَاف الْمَتَاع وَإِن كَانَ فِي السَّفِينَة رمان فَهُوَ لقطَة إِن رجى وجود صَاحبه عرف حولا وَإِن كَانَ لَا يُرْجَى وجوده فَفِي تَعْرِيفه قَولَانِ وعَلى الْقَوْلَيْنِ لَهُم أكل الرُّمَّان أَو بَيْعه ويحفظ ثمنه ثمَّ يعرفهُ بعد ذَلِك وَيعرف اللّقطَة فِي الْمَكَان الَّذِي وجدت فِيهِ إِلَّا إِن كَانَ وجدهَا فِي فلاة وَإِذا جَازَ التتار فَجعل النَّاس وخلفوا أناثا ودوابا فضمه مُسلم وطالت مدَّته وَلم يظْهر لَهُ صَاحب فَيجوز لَهُ أَن يَسْتَعْمِلهُ وَأَن يتَصَدَّق بِهِ وَمن اسْتَنْفَذَ فرسا من أَيدي الْعَرَب ثمَّ مرض الْفرس وَلم يقدر على الْمَشْي جَازَ لَهُ بَيْعه بل يجب فِي هَذِه الْحَالة أَن يَبِيعهُ لذمة صَاحبه وَإِن لم يكن وَكيله نَص عَلَيْهِ الْأَئِمَّة ويحفظ الثّمن وَإِذا وجد طفْلا وَمَعَهُ مَال فَإِن كَانَ الطِّفْل مَجْهُول النّسَب وادعته امْرَأَة أَنه ابْنهَا قبل قَوْلهَا فِي ذَلِك وَيصرف عَلَيْهِ من المَال الَّذِي وجد مَعَه فِي نَفَقَته مُدَّة مقَامه عِنْد الْمُلْتَقط وَالله أعلم

كتاب الوصايا

كتاب الْوَصَايَا لَيْسَ للْوَصِيّ بيع الْعقار إِلَّا لحَاجَة أَو مصلحَة راجحة فِيهِ وَإِذا ذكر أَنه بَاعه للاستهدام لم يكن لَهُ أَن يَشْتَرِيهِ ليتيم آخر إِذا كَانَ الْمَيِّت مِمَّن يكْتب مَا عَلَيْهِ للنَّاس فِي دفتر وَنَحْوه أَو كَانَ لَهُ وَكيل أَو كتاب يكْتب بِإِذْنِهِ فَإِن وَصِيَّة يرجع فِي ذَلِك إِلَى الْكتاب الَّذِي بِخَطِّهِ أَو خطّ وَكيله فَمَا كَانَ مَكْتُوبًا وَعَلِيهِ عَلامَة الْوَفَاء كَانَ بِمَنْزِلَة إِقْرَار الْمَيِّت وَإِقْرَار الْوَكِيل فِيمَا وكل فِيهِ بِلَفْظِهِ أَو خطه مَقْبُول وَلَكِن على صَاحب الدّين الْيَمين بِالِاسْتِحْقَاقِ وَأَنه لم يقبضهُ وَلم يُبرئهُ وَأما إِعْطَاء الْمُدعى مَا يَدعِيهِ بِمُجَرَّد قَوْله فَلَا يجوز وَتثبت بِشَاهِد وَيَمِين وَلَو ثَبت للصَّبِيّ أَو الْمَجْنُون حق على غَائِب من دين أَو فرض أَو دين جِنَايَة أَو غير ذَلِك مِمَّا لَو كَانَ الْفَاعِل عَاقِلا حلف على عدم الْإِبْرَاء أَو الِاسْتِيفَاء فِي أحد قولي الْعلمَاء يحكم بِهِ للصَّبِيّ وَالْمَجْنُون وَلَا يحلف وليه وَلَو ادّعى مُدع فِي صبي أَو مَجْنُون حَقًا لم يحكم لَهُ وَلَا يحلفان وَلَو أوصى لصغير لم يحلف وليه لِأَن الْوَصِيَّة لَا يحلف الْمُوصى لَهُ على اسْتِحْقَاقهَا وَإِن كَانَ قد أحدث بعض النَّاس التَّحْلِيف فِيهَا وَتَصِح للْحَمْل إِذا ولد حَيا وَلم يقل أحد من الْمُسلمين إِنَّهَا تُؤخر إِلَى حِين بُلُوغه وَلَا يحلف إِذا أوصى أَن يحجّ عَنهُ بِأَلف فَقَالَ رجل أَنا أحج بأربعمائة وَجب إِخْرَاج جَمِيع مَا أوصى بِهِ إِن خرج من ثلثه وَإِن لم يخرج لم يجب على الْوَرَثَة إِخْرَاج الزَّائِد على الثُّلُث إِلَّا أَن يكون وَاجِبا بِحَيْثُ لَا يحصل حجَّة الْإِسْلَام إِلَّا بِهِ وَمن لَهُ سِتَّة بَنِينَ فأوصى بِمثل نصيب ابْن لزيد ولعمرو بِثلث مَا بَقِي من الثُّلُث بعد أَن يعْطى من أوصى لَهُ بِمثل نصيب الابْن فَظَاهر مَذْهَب أَحْمد

وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة أَن هَذِه الْمَسْأَلَة تصح من سِتِّينَ لكل ابْن ثَمَانِيَة وللموصى لَهُ بِمثل نصيب ابْن ثَمَانِيَة وَللْآخر أَرْبَعَة فَإِذا أخذت وَعِشْرُونَ أَعْطَيْت صَاحب النّصْف مِنْهُ ثَمَانِيَة وَبَقِي بعد الثُّلُث اثنى عشر ثلث ذَلِك أَرْبَعَة وَلها طرق تعلم بهَا وَجَوَاب هَذِه الْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة فِي كتب الْعلم وَإِذا كَانَ خلط مَال الْيَتِيم بِمَال الْمُوصى أصلح للْيَتِيم فعل ذَلِك وَإِذا أوصى لأخته كل يَوْم بدرهم واتسع مَاله كل يَوْم لدرهم أَعْطَيْت إِن كَانَ ثلث مَاله يَتَّسِع أَو أجازة الْوَرَثَة وَلَو لم يخلف إِلَّا عقارا أَعْطَيْت من مغله أقل الْأَمريْنِ من ثلث الْمغل أَو من الدَّرَاهِم الْمُوصى بِهِ وَمن كَانَ مُتَبَرعا بِالْوَصِيَّةِ فَمَا أنفقهُ على إِثْبَاتهَا بِالْمَعْرُوفِ فَهُوَ فِي مَال الْيَتِيم وَلَا يجوز للْمَرِيض تَخْصِيص بعض أَوْلَاده بعطية منجزة وَلَا وَصِيَّة وَلَا أَن يقر لوَاحِد مِنْهُم بِشَيْء لَيْسَ فِي ذمَّته وَإِذا فعل ذَلِك لم يجز تنفيذه بِدُونِ إجَازَة الْوَرَثَة وَهَذَا كُله بالِاتِّفَاقِ وَلَا يجوز لأحد من الشُّهُود أَن يشْهد على ذَلِك شَهَادَة يعين بهَا على الظُّلم وَهَذَا التَّخْصِيص من الْكَبَائِر الْمُوجبَة للنار كَمَا روى أَن بشير بن سعد جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ إِنِّي نحلت ابْني النُّعْمَان هَذَا الْغُلَام فاشهد عَلَيْهِ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكل ولدك نحلت قَالَ لَا قَالَ أشهد عَلَيْهِ غَيْرِي فانه جور وَقَالَهُ على سَبِيل التهديد وَلَا يجوز أَن يخص فِي الصِّحَّة أَيْضا فِي أصح قولي الْعلمَاء وَلَا يجوز للْوَلَد الَّذِي فضل أَخذ الْفضل بل عَلَيْهِ أَن يرد ذَلِك فِي حَيَاة الظَّالِم الجائر أَو بعد مَوته كَمَا يرد فِي حَيَاته فِي أصح قولي العلماءء وَسُئِلَ عَن رجل توفى فِي الْجِهَاد فَجمع صَاحبه جَمِيع تركته فِي مُدَّة ثَلَاث سِنِين بعد تَعب فَأجَاب إِن كَانَ وَصِيّا فَلهُ أقل الْأَمريْنِ من أجره الْمثل وكفايته وَإِن كَانَ مكْرها على الْعَمَل فَلهُ أُجْرَة الْمثل وَإِن عمل مُتَبَرعا فَلَا شَيْء لَهُ بل أجره على الله وَإِن عمل مَا يجب غير مُتَبَرّع فَفِي وجوب أجرته نزاع بَين الْعلمَاء الْأَظْهر أَنه يجب

فصل

وَلَو قَالَ بيعوا غلامي من زيد وتصدقوا بِثمنِهِ فَامْتنعَ زيد من شِرَائِهِ بيع من غَيره وَتصدق بِثمنِهِ وَكَذَا لَو قَالَ اشْتَروا الأَرْض الْفُلَانِيَّة وقفوها على الْمَسْجِد الْفُلَانِيّ فَلم تبع لكَونهَا وَقفا أَو غير ذَلِك فَإِنَّهُ يَشْتَرِي بِالثّمن الَّذِي عينه غير تِلْكَ الأَرْض وَتوقف كَمَا قَالَ وَلَو وصّى أَن يعْتق عَبده الْمعِين أَو نذر عتق عَبده الْمعِين فَمَاتَ الْمعِين لم يقم غَيره مقَامه فَفرق بَين الْمُوصى بِهِ وَالْمَوْقُوف وَبَين الْمُوصى لَهُ وَالْمَوْقُوف عَلَيْهِ فَالْوَصِيَّة بشرَاء معِين وَالتَّصَدُّق بِهِ كَالْوَصِيَّةِ يَبِيع معِين وَالتَّصَدُّق بِثمنِهِ لِأَن الْمُوصى لَهُ هُنَا جِهَة الصَّدَقَة وَالْوَقْف وَهِي بَاقِيَة والمعين إِذا فَاتَ قَامَ بدله مقَامه كَمَا لَو أتلف الْوَقْف أَو أتلف الْمُوصى بِهِ متْلف فَإِن بدلهما يقوم مقامهما وَلَا يجوز أَن يولي على مَال الْيَتَامَى إِلَّا من كَانَ قَوِيا خيبرا بِمَا ولي عَلَيْهِ أَمينا عَلَيْهِ وَإِذا لم يكن كَذَلِك وَجب الِاسْتِبْدَال بِهِ وَلَا يسْتَحق الْأُجْرَة الْمُسَمَّاة لَكِن أُجْرَة مثله وَمن كَانَ عِنْده يَتِيم لَهُ مَال وَهُوَ وَصِيَّة فل فعل مَا يرَاهُ من مصلحَة فِي مَاله من تِجَارَة وَشِرَاء عقار بِغَيْر إِذن الْحَاكِم وَإِن لم يكن وَصِيّه وَإِن كَانَ الْحَاكِم هُوَ النَّاظر فِي أَمْوَال الْيَتَامَى وَهُوَ عدل يَأْمر فِيهِ بِالْمَصْلَحَةِ وَجب اسْتِئْذَانه فِي ذَلِك وَإِن كَانَ فِي اسْتِئْذَانه إِضَاعَة المَال مثل كَون الْحَاكِم أَو نَائِبه فَاسِقًا أَو جَاهِلا أَو عَاجِزا أَو لَا يحفظ مَال الْيَتَامَى حفظه المستولى عَلَيْهِ وَعمل فِيهِ بِالْمَصْلَحَةِ من غير إِذن حَاكم فصل وَإِتْلَاف الْجَيْش الَّذِي لَا يُمكن تَضْمِينه هُوَ كَافَّة سَمَاوِيَّة كالجراد وَإِذا تلف الزَّرْع بِآفَة سَمَاوِيَّة قبل تمكن الْأَجِير من حَصَاده فَهَل تُوضَع الْجَائِحَة كَمَا تُوضَع فِي الثَّمر الْمُشْتَرى على قَوْلَيْنِ أصَحهمَا وأشبهما بِالْكتاب وَالسّنة وَالْعدْل وضع الْجَائِحَة فِيهِ وَكَذَلِكَ كل خوف يمْنَع من الِانْتِفَاع هُوَ من الآفة السماوية

كتاب الفرائض

كتاب الْفَرَائِض يَنْبَغِي للْمَيت أَن يوصى لأقاربه الَّذين لَا يرثونه فَإِذا لم يوص فَيَنْبَغِي إِذا حَضَرُوا الْقِسْمَة أَن يُعْطوا شَيْئا لقَوْله تَعَالَى {وَإِذا حضر الْقِسْمَة أولُوا الْقُرْبَى واليتامى} الْآيَة امْرَأَة مَاتَت وخلفت زوجا وبنتا وَأما وأختا من أم قَالَ يقسم على أحد عشر سَهْما للْبِنْت سِتَّة وَللزَّوْج ثَلَاثَة وَللْأُمّ سَهْمَان وَلَا شَيْء للْأُخْت فَإِنَّهَا تسْقط بالبنت اتِّفَاقًا وَهَذَا على قَول من يَقُول بِالرَّدِّ كأحمد وَأبي حنيفَة وَمن لَا يَقُول بِالرَّدِّ كمالك وَالشَّافِعِيّ نقسم عِنْده اثنى عشر سَهْما كَمَا قُلْنَا وَالْبَاقِي لبيت المَال وَظَاهر هَذَا أَنه رد على الزَّوْج وَفِيه نظر لغز ... مَا بَال قوم غدوا قد مَاتَ ميتهم ... وَأَصْبحُوا يقسمون المَال والحللا ... فَقَالَت امْرَأَة من غير عترتهم ... أَلا أخْبركُم أعجوبة مثلا ... فِي الْبَطن مني جَنِين دَامَ يشكركم ... فأخرجوا الْقسم حَتَّى تعرفوا الحملا ... فَإِن يكن ذكرا لم يُعْط خردلة ... وَإِن يكن غير انثى فقد فضلا ... بِالنِّصْفِ حَقًا يَقِينا لَيْسَ يُنكره ... من كَانَ يعرف فرض الله إِذْ نزلا ... إِنِّي ذكرت لكم أمرى بِلَا كذب ... فَمَا أَقُول لكم جهلا وَلَا ميلًا ... جَوَابه زوج وَأم وَاثْنَانِ من ولد الْأُم وَحمل من الْأَب وَالْمَرْأَة الْحَامِل لَيست أم الْمَيِّت بل هِيَ زَوْجَة أَبِيهَا فَللزَّوْج النّصْف وَللْأُمّ السُّدس ولولد الْأُم الثُّلُث فان كَانَ الْحمل ذكرا فَهُوَ أَخ من أَب فَلَا شَيْء لَهُ بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَإِن كَانَ الْحمل أُنْثَى فَهُوَ أُخْت من أَب لَهَا النّصْف وَهُوَ فَاضل عَن السِّهَام

فصل

فأصلهما من سِتَّة وتعول إِلَى تِسْعَة وَأما إِن كَانَ الْحمل من أم الْمَيِّت فَهَكَذَا الْجَواب فِي أحد قولي الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالْمَشْهُور عَن أَحْمد وعَلى القَوْل الآخر إِن كَانَ الْحمل ذكرا يُشَارك ولد الْأُم كواحد مِنْهُم وَلَا يسْقط وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة عَنهُ مَسْأَلَة فِي مَرِيض تحرج وطلق امْرَأَته ثَلَاثًا وَمَات بعد عشْرين يَوْمًا أما الطَّلَاق فَيَقَع إِن كَانَ عَاقِلا مُخْتَارًا لَكِن تَرثه عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء كأحمد وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم كَمَا قضى بِهِ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فِي امْرَأَة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ طَلقهَا فِي مرض فَورثَهَا عُثْمَان مِنْهُ وَتعْتَد أطول الْأَجَليْنِ من عدَّة الطَّلَاق وعدة الْوَفَاة فِي أحد الْوُجُوه وَقيل عدَّة الطَّلَاق وَقيل بل عدَّة الْوَفَاة وَهل يكمل لَهَا الْمهْر على قَوْلَيْنِ وَإِن كَانَ قد زَالَ عقله فَلَا طَلَاق عَلَيْهِ فصل يُورث ذَوي الْأَرْحَام جُمْهُور السّلف وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَأَبُو حنيفَة وَطَوَائِف من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَقَول لمَالِك إِذا فسد بَيت المَال وَالْقَوْل الثَّانِي يَرث بَيت المَال وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة وَمن جهزها أَبوهَا على الْوَجْه الْمُعْتَاد فِي الجهاز فَهُوَ تمْلِيك لَهَا فَلَيْسَ لَهَا الرُّجُوع بعد مَوتهَا على التَّرِكَة بل ينْتَقل مَا فِي يَدهَا إِلَى الْوَرَثَة

كتاب النكاح وشروطه

كتاب النِّكَاح وشروطه إِذا شرطت عَلَيْهِ أَن لَا يُخرجهَا من بَلَدهَا وَلَا يتَزَوَّج وَلَا يتسرى عَلَيْهَا فَهُوَ شَرط صَحِيح فِي مَذْهَب أَحْمد وَمَالك فِي جَمِيع شُرُوط الْعُقُود وَهُوَ وَجه فِي مَذْهَب الشَّافِعِي يخرج من مَسْأَلَة صدَاق السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَكَذَا إِن كَانَ مُتَقَدما على العقد وَلَو لم يذكرهُ حِين العقد ويطرده أَحْمد فِي جَمِيع الْعبارَات فَإِن النِّيَّة الْمُتَقَدّمَة لَا تُؤثر عِنْده كالمقارنة وَلأَحْمَد قَول ثَان أَن الشُّرُوط الْمُتَقَدّمَة لَا تُؤثر وَفِيه قَول ثَالِث الْفرق بَين الشَّرْط الَّذِي يَجْعَل العقد غير مَقْصُود كالتواطؤ على أَن يَبِيع بيع تلجئة لَا حَقِيقَة لَهُ وَبَين الشَّرْط الَّذِي لَا يخرج العقد على كَونه مَقْصُودا كاشتراط الْخِيَار وَنَحْوه وَعَامة نصوصه وقدماء أَصْحَابه ومحققي الْمُتَأَخِّرين على أَن الشُّرُوط والمواطأة الَّتِي تجْرِي بَين الْمُتَعَاقدين قبل العقد إِذا لم يفسخاها حِين العقد فَإِن العقد يَقع مُقَيّدا بهَا وعَلى هَذَا جَوَاب أَحْمد فِي مسَائِل الْحِيَل فِي البيع وَالْإِجَارَة وَالرَّهْن وَغير ذَلِك وَإِذا تزوجت وَلها زوج لم تستثمر مَوته وَلَا طَلَاقه فَهِيَ زَانِيَة لَا مهر لَهَا وَإِن اعتقدت مَوته أَو طَلَاقه فَهُوَ وَطْء شُبْهَة بِنِكَاح فَاسد فلهَا الْمهْر وَظَاهر الْمَذْهَب أَن لَهَا الْمُسَمّى وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى أَن لَهَا مهر امثل كَقَوْل الشَّافِعِي

فصل

كَون الْمَرْأَة مُسْتَحَاضَة دَائِما عيب يثبت بِهِ فسخ النِّكَاح فِي أظهر الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وَمَا يمْنَع الْوَطْء حسا كانسداد الْفرج أَو طبعا كالجنون والجذام يثبت بِهِ الْفَسْخ عِنْد مَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ وَفِيمَا يمْنَع كَمَال الْوَطْء كالنجاسة فِي الْفرج نزاع والمستحضاة أَشد من غَيرهَا فَإِذا فسخ قبل الدُّخُول فَلَا مهر وَإِن كَانَ بعده وَقيل إِن الصَدَاق يسْتَقرّ بِهَذِهِ الْخلْوَة أَو كَانَ قد وَطئهَا فَإِنَّهُ يرجع بِالْمهْرِ على من غره وَإِن قيل لَا يسْتَقرّ فَلَا شَيْء لَهَا وَله أَن يحلف من ادّعى الْغرُور عَلَيْهِ أَنه لم يغره وَله الْخِيَار مَا لم يصدر مِنْهُ مَا يدل على الرِّضَا يَقُول أول فعل فَإِن وَطئهَا بعد ذَلِك فَلَا خِيَار لَهُ إِلَّا أَن يَدعِي الْجَهْل فَهَل لَهُ الْخِيَار فِيهِ نزاع وَالْأَظْهَر ثُبُوت الْفَسْخ فصل لَيْسَ للعم وَلَا لغيره أَن يُزَوّج موليته بِغَيْر كف إِذا لم تكن راضية بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة وَإِذا فعل ذَلِك اسْتحق الْعقُوبَة الشَّرِيعَة بل لَو رضيت بِغَيْر كف كَانَ للْمولى الآخر الْفَسْخ وَلَيْسَ للعم جَبَّار الْبَالِغَة على النِّكَاح بكفء فَكيف بِغَيْر كُفْء وَإِذا قَالَ لَهَا إِن لم تَأذن والا زَوجك الشَّرْع بِغَيْر اختيارك لم يَصح الْإِذْن وَلَا النِّكَاح وَلَيْسَ للْمولى منع الْأُم من ابتها إِذا كشف حَالهَا بل إِمَّا أَن يُمكنهَا من ستر حَالهَا أَو يسكن بهَا بَين جيران من أهل الصدْق يكشفون حَالهَا وَلَيْسَ للْمولى عضلها عَن الْكُفْء إِذا طلبته فَإِن عضلها وَامْتنع من تَزْوِيجهَا زَوجهَا الْوَلِيّ الآخر الْأَبْعَد أَو الْحَاكِم بِغَيْر إِذْنه بِاتِّفَاق

سُؤال جدتي أُمِّي وَأبي جده ... وَأَنا عمَّة لَهُ وَهُوَ أَفْتِنَا يَا إِمَام يَرْحَمك الله ... وَيَكْفِيك حادثات اللَّيَالِي الْجَواب رجل زوج ابْنه أم بنت ... وأتى الْبِنْت بِالنِّكَاحِ فَأَتَت مِنْهُ بِالَّتِي قَالَت الشّعْر ... وَقَالَت لِابْنِ هاتيك خَالِي شرحها رجل تزوج امأة وَزوج ابْنه بأمها فولد لَهُ بنت وَلَا بنه ابْن فبنته هِيَ المخاطبة بالشعر فجدتها أم أمهَا هِيَ أم ابْن الابْن زَوْجَة الابْن وأبوها ابْن ابنهه وَهِي عمته أُخْت أَبِيه من الْأَب وَهُوَ خالها أَخُو أمهَا من الْأُم وَالصَّحِيح تَزْوِيج بنت تسع بِإِذْنِهَا وَلَا خِيَار لَهَا إِذن وَهُوَ أعدل الأوقال وَظَاهر مدهب أَحْمد وَمن اسْتمع بِجَارِيَة فَلَا يجوز أَن يسْتَمْتع ببناتها نِكَاح الْمُحَلّل حرَام بِإِجْمَاع الصَّحَابَة عمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَغَيرهم رَضِي الله عَنْهُم حَتَّى قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ وَالله لَا أُوتِيَ لمحلل وَلَا مُحَلل لَهُ إِلَّا رَجَمْتهمَا وَقَالَ عُثْمَان لَا نِكَاح إِلَّا نِكَاح رَغْبَة لَا نِكَاح دُلْسَة وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لما قَالَ لَهُ رجل أَرَأَيْت إِن تَزَوَّجتهَا ومطلقها لَا يعلم أحلهَا لَهُ ثمَّ أطلقها فَقَالَ من يُخَادع الله يخدعه لَا يزَالَانِ زَانِيَيْنِ وَإِن مكثا عشْرين سنة إِذا علم الله من قبله أَنه يُرِيد أَن يحلهَا وَقد لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُحَلّل والمحلل لَهُ قَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث صَحِيح وَقد اتّفق أَئِمَّة الْفَتْوَى على أَنه إِذا شَرط التَّحْلِيل فِي العقد كَانَ بَاطِلا وَبَعْضهمْ لم يَجْعَل للشّرط الْمُتَقَدّم وَلَا للْعُرْف المطرد تَأْثِيرا

فصل

وَأما الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم والتابعون وأئمة الْفَتْوَى فَلَا فرق عِنْدهم بَين الشَّرْط الْمُتَقَدّم وَالْعرْف وَهَذَا قَول أهل الْمَدِينَة وَأهل الحَدِيث وَالنَّصَارَى تعيب الْمُسلمين بِنِكَاح الْمُحَلّل يَقُولُونَ الْمُسلمُونَ قَالَ لَهُم نَبِيّهم إِذا طلق أحدكُم زَوجته لم تحل لَهُ حَتَّى تزنى وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم برِئ منم ذَلِك هُوَ وَأَصْحَابه والتابعون لَهُم وَجُمْهُور أَئِمَّة الْمُسلمين رَضِي الله عَنْهُم فصل لَا يشْتَرط فِي صِحَة النِّكَاح الْإِشْهَاد على إِذن الْمَرْأَة قبل النِّكَاح فِي الْمَذْهَب الأريعة إِلَّا وَجها ضَعِيفا للشَّافِعِيّ وَأحمد بل إِذا قَالَ الْوَلِيّ أَذِنت لي جَازَ عقد النِّكَاح ثمَّ إِن أنْكرت الْإِذْن فَالْقَوْل قَوْلهَا بِيَمِينِهَا وَإِن صدقت على الْإِذْن فَالنِّكَاح ثَابت بَاطِنا وظاهرا وَالَّذِي يَنْبَغِي للشُّهُود أَن يشْهدُوا على إِذن الزَّوْجَة قبل العقد ليَكُون العقد مُتَّفقا على صِحَّته ويؤمن فَسخه بجحودها وبعلم صدق الْوَلِيّ فِي دَعْوَاهُ الْإِذْن وَأما الْحَاكِم الْعَاقِد وَالَّذِي هُوَ نَائِبه فَلَا يُزَوّجهَا حَتَّى يعلم أَنَّهَا أَذِنت وَذَلِكَ بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ شَاهدا على العقد أَو وَكيل الْوَلِيّ وَأما مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة عَنهُ فَلم يشترطوا الاذن فان لم تَأذن حَتَّى عقد النِّكَاح جَازَ وَتسَمى مَسْأَلَة وقف الْعُقُود وَكَذَلِكَ العَبْد إِذا تزوج بِغَيْر إِذن موَالِيه ثمَّ أذنوا لَهُ بعد العقد فَهُوَ على هَذَا النزاع وَيسْعَى نِكَاح الْفُضُولِيّ وشهود النِّكَاح يشْتَرط فيهم الْعَدَالَة الظَّاهِرَة وَمن اشْترط أَن يَكُونُوا مستورين وَأَن يَكُونُوا من المعدلين عِنْد الْحَاكِم فَإِذا عقد الْعدْل صَحَّ العقد لِأَنَّهُ مَسْتُور عِنْد الْحَاكِم وَإِن كَانَ قد يكون فَاسِقًا فِي الْبَاطِن

فصل

وَمن يرْكض فِي الْبِلَاد وَلَا يُقيم فِي بلد إِلَّا شهرا أَو شَهْرَيْن فَلهُ أَن يتَزَوَّج لَكِن ينْكح نِكَاحا مُطلقًا وَلَا يشْتَرط فِيهِ توقيتا وَإِن نوى طَلاقهَا حتما عِنْد انْقِضَاء سَفَره كره مثل ذَلِك وَفِي صِحَة النِّكَاح نزاع وَلَو نوى أَنه إِذا سَافر وأعجبته أمْسكهَا وَإِلَّا طَلقهَا جَازَ فَإِن اشْترط التَّوْقِيت فَهُوَ نِكَاح الْمُتْعَة الَّذِي اتّفق الْأَرْبَعَة وَغَيرهم على تَحْرِيمه وَإِن كَانَ طَائِفَة يرخصون فِيهِ إِمَّا مُطلقًا وَإِمَّا للْمُضْطَر كَمَا قد كَانَ ذَلِك فِي صدر الْإِسْلَام فَالصَّوَاب أَن ذَلِك مَنْسُوخ كَمَا قد ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَنْهَا بعد أَن كَانَ رخص فِيهَا عَام الْفَتْح وَلِأَنَّهُ لَا يثبت فِيهَا أَحْكَام الزَّوْجِيَّة من الْإِرْث والاعتداد بعد لوفاة وَنَحْو ذَلِك من الْأَحْكَام وَشَرطه قبل العقد كالمقارن فِي أصح قولي الْعلمَاء وَأما إِذا نوى الزواج لأجل فَفِيهِ نزاع يرخص فِيهِ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ ويكرهه مَالك وَأحمد وَغَيرهمَا فَهُوَ كَمَا لَو نوى التَّحْلِيل وَهُوَ مَا اتّفق الصَّحَابَة على النَّهْي عَنهُ لَكِن نِكَاح الْمُحَلّل من الْمُتْعَة لِأَن نِكَاح الْمُحَلّل لم يبح قطّ وَأما الْعَزْل فقد حرمه طَائِفَة لَكِن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة على جَوَازه بِإِذن الْمَرْأَة فصل الْجمع بَين الْمَرْأَة وَخَالَة أمهَا أَو عمَّة أَبِيهَا أَو عمَّة أمهَا كالجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها وخالتها عِنْد أَئِمَّة الْمُسلمين وَذَلِكَ حرَام باتفاقهم وَهل لَهُ أَن يتَزَوَّج الْمُعْتَدَّة مِنْهُ فِي نِكَاح فَاسد فِيهِ قَولَانِ لِأَحْمَد أَحدهمَا يجوز كمذهب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّانِي لَا يجوز كمذهب مَالك وَمن لَهُ جَارِيَة تَزني فَلَا يحل لَهُ وَطْؤُهَا وَمَتى وَطئهَا مَعَ علمه بِكَوْنِهَا زَانِيَة كَانَ ديوثا

فصل

وَإِذا احْتَاجَت أمته إِلَى النِّكَاح فإمَّا أَن يَطَأهَا أَو يُزَوّجهَا وَوَطْء الْمَرْأَة فِي دبرهَا حرَام بِالْكتاب وَالسّنة وَهُوَ قَول جَمَاهِير السّلف وَالْخلف بل هُوَ اللوطية الصُّغْرَى وَقد ثَبت لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أدبارهن وَقَوله تَعَالَى {فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم} فالحرض مَوضِع الْوَلَد فصل وَطْء الْإِمَاء الكتابيات بِملك الْيَمين أقوى من وطئهن بِملك النِّكَاح عِنْد عوام أهل الْعلم من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم وَلم ينْقل عَن أحد تَحْرِيم ذَلِك كَمَا نقل عَن بَعضهم الْمَنْع من نِكَاح الكتابيات وَإِن كَانَ ابْن الْمُنْذر قد قَالَ لم يَصح عَن أحد من الْأَوَائِل تَحْرِيم نِكَاحهنَّ فقد روى عَن ابْن عمر وَهُوَ قَول الشِّيعَة وَقد كَرَاهَة نِكَاحهنَّ عِنْد عدم الْحَاجة نزاع والكراهية مَعْرُوفَة فِي مَذْهَب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَكَذَا كَرَاهَة الْوَطْء الْإِمَاء فِيهِ نزاع روى عَن الْحسن أَنه كرهه وَأما الْأمة الْمَجُوسِيَّة فَالْكَلَام فِيهَا مَبْنِيّ على أصلين أَحدهمَا أَن نِكَاح المجوسيات لَا يجوز كَمَا لَا يجوز نِكَاح الوثنيات وَهُوَ مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَذكره الإِمَام أَحْمد عَن خَمْسَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَحكى عَن الشَّافِعِي قَول بِجَوَاز ذَلِك بِنَاء على جَوَاز ذَبَائِحهم الأَصْل الثَّانِي أَن من لَا يجوز نِكَاحهنَّ لَا يجوز وطئهن بِملك كالوثنيات وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَغَيرهم وَحكى عَن أبي ثَوْر إِبَاحَة وَطْء الْإِمَاء بِملك الْيَمين على أَي دين كن وأظن أَنه يذكر عَن بعض الْمُتَقَدِّمين وَقَوله تَعَالَى {إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم} يَقْتَضِي عُمُوم جَوَاز الْوَطْء بِملك الْيَمين مُطلقًا إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيل حَتَّى إِن عُثْمَان وَغَيره من الصَّحَابَة جعلُوا مثل هَذَا النَّص متناولا للْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ حَتَّى قَالُوا أَحَلَّتْهُمَا آيَة

وحرمتهما آيَة وشيئا حرم فِيهِ الْجمع بِالنِّكَاحِ قد يتوزع فِي تَحْرِيم الْجمع فِيهِ بِملك الْيَمين وَمن زنى بِامْرَأَة ثمَّ وجد مَعهَا بِنْتا لَا يعلم هَل هِيَ مِنْهُ أم لَا لَا يحل لَهُ نِكَاحهَا لِأَنَّهَا إِن كَانَت من غَيره حرمت عَلَيْهِ عِنْد مَالك وَأبي حنيفَة وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد وَإِن كَانَت بنته من الزِّنَا فَأَغْلَظ من ذَلِك وَإِذا اشتبهت عَلَيْهِ بغَيْرهَا حرمت وَإِذا تزوج الْحر الْقرشِي أمه فولده مِنْهَا رَقِيق لسَيِّد الْأمة بِاتِّفَاق الْعلمَاء لِأَن الْوَلَد يتبع الْأُم فِي الْحُرِّيَّة ولارق وَيتبع أَبَاهُ فِي النّسَب وَالْوَلَاء فَإِن الْوَلَد مِمَّن يسترق جنسه بالِاتِّفَاقِ فَهُوَ رَقِيق بالِاتِّفَاقِ وَإِن كَانَ مِمَّن تتوزع فِي رق جنسه وَقع النزاع فِي رقّه كالعرب وَالصَّحِيح أَنه يجوز استرقاق الْعَرَب والعجم لما ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَعِنْدهَا سبية من بني تَمِيم أعْتقهَا فَإِنَّهَا من ولد اسماعيل وَجَاءَت صدقَات بني تَمِيم فَقَالَ هَذِه صدقَات قَومنَا وَقَالَ هم أَشد أمتِي على الدَّجَّال وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ لَا أَزَال أحبهم يَعْنِي بني تَمِيم بعد هَذِه الثَّلَاثَة الَّتِي سَمِعتهنَّ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه قَالَ من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شئ قدير عشر مَرَّات كَانَ كمن أعتق أَرْبَعَة أنفس من بني إِسْمَاعِيل فَفِي هَذَا الحَدِيث أَن بني اسماعيل يعتقون فَدلَّ على ثُبُوت الرّقّ عَلَيْهِم كَمَا أَمر عَائِشَة أَن تعتقد عَن الْمُحَرر الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا من ولد اسماعيل وَفِيه من بني تَمِيم وَسبي هوَازن وهم عرب أعتقهم بعد أَن طَلَبهمْ من الْمُسلمين وطيبوا لَهُ نفسا بذلك وَقد وطئ مِنْهُ شَيْئا يعينها فِي كتَابَتهَا فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل لَك فِي خير من ذَلِك أقضى دينك وأتزوجك فَفعلت

فَتَزَوجهَا فَقَالَ النَّاس أَصَابَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأرسلوا مَا بِأَيْدِيهِم فقد عتق بتزويجه إِيَّاهَا مائَة من بني المصطلق فَدلَّ ذَلِك على جَوَاز سبي الْعَرَب وَمنعه أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم وَإِذا تزوج الْحر مَمْلُوكَة فولدها رَقِيق إِلَّا يكون من الْعَرَب عِنْد أبي حنيفَة وَلَكِن لَو زنى الْعَرَبِيّ بمملوكة الْوَلَد رَقِيقا اتِّفَاقًا لِأَن النّسَب غير لَاحق بِأَبِيهِ وَمَسْأَلَة ابْن سُرَيج محدثه لم يفت بهَا أحد من الْأَئِمَّة إِنَّمَا أفتى بهَا طَائِفَة من الْمُتَأَخِّرين بعد الْمِائَة الثَّالِثَة فَأنكرهُ عَلَيْهِ جَمَاهِير الْمُسلمين وَمن قلد فِيهَا شخصا ثمَّ تَابَ عَفا الله عَنهُ وَلَا يُفَارق امْرَأَته وَإِن كَانَ قد تسرج فِيهَا إِذا كَانَ متأولا وَإِذا وكل ذِمِّيا فِي قبُول نِكَاح امْرَأَة مسلمة فانه يشبه تَزْوِيج الذِّمِّيّ ابْنَته الذِّمِّيَّة من مُسلم وَلَو زَوجهَا من ذمِّي جَازَ وَإِذا زَوجهَا من مُسلم فَفِيهِ نزاع قيل يجوز وَقيل لَا يجوز فيوكل مُسلما وَقيل يُزَوّجهَا الْحَاكِم وَكَونه وليا فِي تَزْوِيج الْمُسلم مثل كَونه وَكيلا فِي تَزْوِيج الْمسلمَة وَمن قَالَ إِن ذَلِك جاذز قَالَ إِن الْملك فِي النِّكَاح يحصل للزَّوْج لَا للْوَكِيل بالِاتِّفَاقِ بِخِلَاف الْملك فِي غَيره فَفِيهِ نزاع لِأَحْمَد وَغَيره فَلَو وكل مُسلم ذِمِّيا فِي شِرَاء خمر لم يجز وَخَالف فِيهِ أَبُو حنيفَة وَإِذا كَانَ الْملك يحصل للزَّوْج فتوكيله الذِّمِّيّ بِمَنْزِلَة تَوْكِيل الْمَرْأَة فِي تَزْوِيجهَا بعض محارمها كخالها فَإِنَّهُ يجوز تَوْكِيله فِي قبُول نِكَاحهَا وَإِن كَانَ لَا يحل لَهُ نِكَاح مسلمة لَكِن الْأَحْوَط أَن لَا يفعل لما فِيهِ من النزاع لَو وكل امْرَأَة أَو صَبيا مُمَيّز أَو مَجْنُونا لم يجز وَلَو وكل عبدا بِغَيْر إِذن سَيّده أَو وكل سَفِيها بِغَيْر إِذن وليه أَو صَبيا مُمَيّزا بِغَيْر إِذن وليه فَفِيهِ نزاع لِأَحْمَد وَغَيره وَمن تزوج وَشرط أَن كل امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا فَهِيَ طَالِق وكل أمة يتسرى بهَا فَهِيَ حرَّة ثمَّ تسرى أَو تزوج فَقَالَ زبو حنيفَة تطلق الَّتِي تزَوجهَا وتعتق الَّتِي

وتسرى بهَا وَهُوَ قَول مَالك إِذا لم يعم كَمَا ذكر وَمذهب أَحْمد لايقع لَهُ طلاة وَلَا عتاق لَكِن للزَّوْجَة الأولى الْخِيَار بَين الْمقَام مَعَه وفراقه وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يَقع بِهِ شئ وَلَا تملك الْمَرْأَة فِرَاقه وَمن تزوج فَأَتَت امْرَأَة بِولد بِعْ شَهْرَيْن لم يلْحقهُ النّسَب وَلَا يسْتَقرّ عَلَيْهِ الْمهْر بِاتِّفَاق وَفِي العقد قَولَانِ أصَحهمَا أَنه بَاطِل كمذهب مَالك وَأحمد وَغَيرهمَا وَيفرق بَينهمَا وَلَا مهر لَهَا وَلَا نصفه وَلَا مُتْعَة لَهَا إِذا لم يدْخل بهَا كَسَائِر الْعُقُود الْفَاسِدَة إِذا حصلت الْفرْقَة قبل الدُّخُول وَيَنْبَغِي أَن يفرق بَينهمَا حَاكم يرى فَسَاد العقد بِقطع النزاع وَالْقَوْل الآخر العقد صَحِيح وَلَا يحل لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى تضع كَقَوْل أبي حنيفَة وَقيل يجوز الْوَطْء قبل الْوَضع كمذهب الشَّافِعِي وَإِن كَانَت حَامِلا من وَطْء شُبْهَة أَو سيد أَو زوج فَإِن النِّكَاح بَاطِل بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَلَا مهر لَهَا قبل الدُّخُول وَإِذا ركن إِلَى الْخَاطِب حرمت الْخطْبَة على خطبَته عِنْد الْأَرْبَعَة وَإِن تنَازع فِي تَحْرِيمه بعض أحابنا وَفِي صِحَة نِكَاح الثَّانِي قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وَيجب عُقُوبَة الْخَاطِب الثَّانِي وَمن أَعَانَهُ عَليّ ذَلِك وتزويج العَبْد بِغَيْر إِذن سَيّده إِذا لم يجزه سَيّده بَاطِل بِاتِّفَاق فَإِن أجَازه فَهُوَ تصرف الْفُضُولِيّ فِيهِ نزاع ورذا غر الْمَرْأَة وَذكر أَنه حر وَدخل بهَا ثمَّ تبين لَهَا أَنه عبد وَجب لَهَا الْمهْر بِلَا نزاع لَكِن هَل يجب مهر مثل كَقَوْل أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ أَو المسمي كَقَوْل مَالك أَو الخمسان يه نزاع وَهُوَ ثَلَاث رِوَايَات عَن أَحْمد وَهل يتَعَلَّق بِرَقَبَتِهِ كَقَوْل أَحْمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ أَو بِذِمَّتِهِ كَقَوْل الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد فِيهِ نزاع وَالْأول أظهر لِأَنَّهُ جِنَايَة

وَمن كَانَ مصرا على الفسوق لَا يَنْبَغِي أَن يتَزَوَّج ورذا تزوج امْرَأَة عَليّ أَنَّهَا بكر فَبَانَت ثَيِّبًا فَلهُ الْفَسْخ وَله أَن يُطَالب بِأَرْش الصَدَاق وَهُوَ تفَاوت مَا بَين مهر الْبكر وَالثَّيِّب وَإِذا فسخ قبل الدُّخُول سقط الْمهْر وَأي الزَّوْجَيْنِ وجد بِالْآخرِ جنونا أَو جذاما أَو برصا فَلهُ فسخ النِّكَاح إِذا لم يرض بعد ظُهُور الْعَيْب وَقبل الدُّخُول يسْقط الْمهْر وَبعده لَا يسْقط ؤذا تَعَذَّرَتْ النَّفَقَة من جِهَة الزَّوْج فلهَا فسخ النِّكَاح وَالْفَسْخ للْحَاكِم فَإِن فسخت هِيَ نَفسهَا لتعذر الْحَاكِم وَغَيره فَفِيهِ نزاع وَهل لوَلِيّهَا أَن يُطَالب بِفَسْخ النِّكَاح إِذا كَانَت مَحْجُورا عَلَيْهَا على وَجْهَيْن وَإِذا حضرت مُطلقَة فَذكرت أَنَّهَا تزوجت زوجا وَطَلقهَا فَأَرَادَ هَذَا الزَّوْج ردهَا فخاف أَن يطْلب براءتها من الزَّوْج الثَّانِي فَادّعى عِنْد حَاكم أَنَّهَا جَارِيَة وَأَنه يُرِيد عتقهَا وَيكْتب لَهَا كتابا فَزَوجهَا القَاضِي على أَنه وَليهَا كَانَت خلية من الْمَوَانِع وَلم يكن لَهَا ولي من الْحَاكِم صَحَّ النِّكَاح وَإِن ظن القَاضِي أَنَّهَا عتيقة وَكَانَت حرَّة الأَصْل فَهَذَا الظَّن لَا يقْدَح فِي صِحَة النِّكَاح وَهَذَا ظَاهر عَليّ أصل الشَّافِعِي فَإِن الزَّوْج عِنْده لَا يكون وليا وَأما من يَقُول إِن المتعقة يكون زَوجهَا الْمُعْتق وَليهَا وَالْقَاضِي نَائِبه فَهُنَا إِذا زوج الْحَاكِم هَذِه صحت النِّيَابَة وَلم يكن قبُوله من جِهَتهَا وَلَكِن من جِهَة كَونهَا حرَّة الأَصْل فَهَذَا فِيهِ نظر

كتاب الأولياء

كتاب الْأَوْلِيَاء من خلف ابْنا وابنتين غير رشيدتين فللأخ الْولَايَة من جِهَة الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ والنهى عَن النكر فَإِذا فعلت مَالا يحل لَهَا فَلهُ منعهَا وَأما الْحجر عَلَيْهَا إِن كَانَت سَفِيهَة فلوصيها إِن كَانَ وَإِلَّا فللحاكم ولأخيها رفع أمرهَا إِلَى الْحَاكِم وَإِذا طلب العَبْد النِّكَاح أجبر السَّيِّد فِي مَذْهَب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه على تَزْوِيجه لِأَنَّهُ كالإنفاق عَلَيْهِ وتزويج الأكة إِذْ طلبت النِّكَاح من كُفْء وَاجِب بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَصَحَّ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَا معشر الشَّبَاب من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوج واستطاعة النِّكَاح هِيَ الْقُدْرَة على الْمُؤْنَة لَيْسَ الْقُدْرَة على الْوَطْء فَإِن الحَدِيث إِنَّمَا هُوَ خطاب للقادر على فعل الْوَطْء وَلِهَذَا أَمر من لم يَسْتَطِيع الْبَاءَة بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاء وَمكن لَا مَال لَهُ هَل يسْتَحبّ لَهُ أَن يقترض ويتزوج فِيهِ نزاع لِأَحْمَد وَغَيره وَمن كَانَ سَفِيها مَحْجُورا عَلَيْهِ لم يَصح تَزْوِيجه بِغَيْر إِذن وليه وَيفرق بَينهمَا فَإِن كَانَ قبل الدُّخُول فَلَا شئ عَلَيْهِ وَإِذا تنَازع الرّجلَانِ هَل نكح وَهُوَ رشيد أَو وَهُوَ سَفِيه فَالْقَوْل قَول مدعي صِحَة النِّكَاح وَمَسْأَلَة ابْن سُرَيج لم يفت بهَا أحد من الْمُتَقَدِّمين وَقد أنكر على من أفتى بهَا وَنِكَاح الْمُسلمين لَا يكون كَنِكَاح النَّصَارَى والدور الَّذِي توهموه بَاطِل فَإِنَّهُم ظنُّوا أَنه وَقع الْمُنجز وَقع الْمُعَلق وَإِذا وَقع الْمُعَلق لم يَقع الْمُنجز وَهَذَا غلط فَإِن الْمُعَلق إِنَّمَا يَقع لَو كَانَ التَّعْلِيق صَحِيحا وَالتَّعْلِيق بَاطِل لِأَنَّهُ مُخَالف لِلْعَقْلِ

والشريعة وَهُوَ وُقُوع طَلْقَة مسبوقة بِثَلَاثَة وَإِذا كَانَ سرج وَحلف بِالطَّلَاق مُعْتَقدًا أَنه لَا يَحْنَث ثمَّ تبين لَهُ فِيمَا بعد أَن التسريح لَا يجوز فليمسك امْرَأَته وَلَا طَلَاق عَلَيْهِ فِيمَا مضى وَيَتُوب فِي الْمُسْتَقْبل وَمن أعْطى قوما شَيْئا وَاتَّفَقُوا على أَن يزوجوه بنتهم فَمَاتَتْ الْبِنْت لم يكن لَهُ أَن يرجع عَلَيْهِم بِشَيْء مِمَّا أَعْطَاهُم وَإِن كَانُوا لم يفوا لَهُ بِمَا طلبه مِنْهُم فَلهُ الرُّجُوع التَّحْلِيل محرم لَا يحلهَا لَكِن من قلد فِيهِ المجوز لَهُ أَو فعله بِاجْتِهَاد ثمَّ يتَبَيَّن لَهُ تَحْرِيم ذَلِك فَتَابَ إِلَى الله فالأقوى أَنه لَا يجب فراقها بل يمْتَنع من ذَلِك فِي الْمُسْتَقْبل وَقد عَفا الله عَمَّا مضى وَمن تزوج امْرَأَة مُدَّة ثمَّ طَلقهَا وَادّعى أَنه مَمْلُوك لَا يقبل قَوْله بِمُجَرَّد دَعْوَاهُ فَإِنَّهُ لَو ادّعى أَنه مَمْلُوك بِلَا بَيِّنَة وَلم يعرف خلاف ذَلِك فَقيل يقبل فِيمَا عَلَيْهِ دون مَاله كمذهب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي قَول لَهما وَقيل لَا يقبل بِحَال كمذهب بعض الْمَالِكِيَّة وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد وَالثَّالِث يقبل مُطلقًا وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَرِوَايَة عَن أَحْمد فلهَا أَخذ حَقّهَا وَإِن قدر أَنه مَمْلُوك فَإِنَّهُ جَان فَتعلق حَقّهَا بِرَقَبَتِهِ فلهَا الْمُطَالبَة على كل حَال وَلَا يَصح لأحد أَن ينْكح موليته رَافِضِيًّا وَلَا من يتْرك الصَّلَاة وَمَتى زوجوه على أَنه سني يصل فَبَان أَنه رَافِضِي أَو لَا يُصَلِّي أَو كَانَ قد تَابَ ثمَّ عَاد إِلَى الرَّفْض وَترك الصَّلَاة فَإِنَّهُم يفسخون نِكَاحه إِذا قيل إِنَّه صَحِيح وَمن قَالَ لأبي زَوجته بنتك أوقعت عَلَيْهَا الطَّلَاق فَقَالَ والدها أَبْرَأتك أَو أَبْرَأتك بِغَيْر حُضُورهَا أَو بِغَيْر إِذْنهَا فَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة نزاع فمذهب

أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي الْمَنْصُوص أَنه لَيْسَ للْأَب أَن يُخَالف على شَيْء من مَال ابْنَته سَوَاء كَانَت مَحْجُورا عَلَيْهَا أَولا وَمذهب مَالك يجوز أَن يخالع عَن ابْنَته الصَّغِيرَة وروى أَنه يخالع عَن الْبكر فَقَط وروى أَنه يخالع عَن ابْنَته مُطلقًا وَمذهب مَالك يخرج على أصُول أَحْمد من وُجُوه أَحدهَا أَن للْأَب أَن يُطلق ويخالع امْرَأَة ابْنه الطِّفْل فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَيجوز للْأَب أَن يُزَوّج بنته بِدُونِ صدَاق مثلهَا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَإِنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ عقده النِّكَاح وَله أَن يسْقط نصف الصَدَاق وَللْأَب أَن يتَمَلَّك نَفسه من مَال وَلَده مَالا يضر بِالْوَلَدِ حَتَّى لَو زَوجهَا وَشرط لنَفسِهِ بعض الصَدَاق جَازَ فَإِذا كَانَ لَهُ من التَّصَرُّف فِي المَال والتملك هَذَا التَّصَرُّف لم يبْق إِلَّا طلبه لفرقتها وَذَلِكَ يملكهُ بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَيجوز عِنْده للْأَب أَن يعْتق بعض رَقِيقه الْمولى عَلَيْهِ للْمصْلحَة فقد يُقَال الْأَظْهر أَن الْمَرْأَة إِن كَانَت تَحت حجر الْأَب أَن لَهُ أَن يخالع بمالها فَإِنَّهُ مُعَاوضَة وافتداء لنَفسهَا من الزَّوْج فَيملكهُ الْأَب كَغَيْرِهِ عَن الْمُعَاوَضَات كَمَا يملك افتداءها من الْأسر وَلَا يَفْعَله إِلَّا لمصْلحَة لَهَا وَقد يُقَال قد لَا تكون مصلحتها فِي الطَّلَاق وَلَكِن الزَّوْج يملك أَن يطلقهَا وَهُوَ لَا يقدر على مَنعه فَإِذا بذل لَهُ الْعِوَض من غَيرهَا لم يُمكنهَا مَنعه من الْبَذْل بِخِلَاف إِسْقَاط مهرهَا وحقها الَّذِي تستحقه بِالنِّكَاحِ فقد يكون عَلَيْهَا فِي ذَلِك ضَرَر وَقد يكون غَرَض الْأَب أَنه لَحْظَة لَا لمصلحتها وَلَا يملك إِسْقَاط حَقّهَا بِمُجَرَّد حَظه اتِّفَاقًا فعلى قَول من يصحح الْإِبْرَاء يَقع الْإِبْرَاء وَالطَّلَاق وعَلى قَول من لَا يجوز ابراءه إِن ضمنه الْأَب وَقع الطَّلَاق بِلَا نزاع وعَلى الْأَب للزَّوْجَة مثل الصَدَاق عِنْد أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم وَفِي الْجَدِيد عَلَيْهِ مهر الْمثل

فصل

وَأما إِن لم يضمنهُ إِن علق بِالْإِبْرَاءِ فَقَالَ إِن أبرأتني فَهِيَ طَالِق فالمنصوص عَن أَحْمد أَنه يَقع الطَّلَاق إِذا اعْتقد الزَّوْج أَنه يبرأ وَيرجع على الْأَب بِقدر الصَدَاق لِأَنَّهُ غره وَهِي رِوَايَة عَن أبي حنيفَة وَالْأُخْرَى لَا يَقع وَهِي قَول الشَّافِعِي وَقَول لِأَحْمَد لِأَنَّهُ لم يبرأ فِي نفس الْأَمر وَأما إِن طَلقهَا طَلَاقا لم يعلقه على الْإِبْرَاء فَإِنَّهُ يَقع لَكِن عِنْد أَحْمد يضمن الْأَب للزَّوْج الصَدَاق لِأَنَّهُ غره وَعند الشَّافِعِي لَا يضمن لَهُ شَيْئا لِأَنَّهُ لم يلْتَزم لَهُ شَيْئا وَالله أعلم وَمن زَالَت عذرتها بزنا فَهَل يكون إِذْنهَا الصمت أَو النُّطْق الأول مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد كصاحبي أبي حنيفَة وَعند أبي حنيفَة وَمَالك إِذْنهَا الصمت كَالَّتِي لم أنزل عذرتها فصل وَمن كَانَ مبتلى بأمراض معدية يجوز مَنعه من السكن بَين الأصحاء وَلَا يجاور الأصحاء فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يوردن ممرض على مصح فَنهى صَاحب الْإِبِل المراض أَن يوردها على صَاحب الْإِبِل الصِّحَاح مَعَ قَوْله لَا عدوى وَلَا طيرة وَكَذَلِكَ روى أَنه لما قدم رجل مجذوم ليبايعه أرسل إِلَيْهِ بالبيعة وَلم يَأْذَن لَهُ فِي دُخُول الْمَدِينَة

كتاب الطلاق

كتاب الطَّلَاق من أَخذ ينظر بعد الطَّلَاق فِي صفة عقد النِّكَاح وَلم ينظر فِي صفته قبل ذَلِك مثل قَوْله أَنا تزوجت بولِي وشهود فساق فَلَا يَقع طَلَاقي لِأَن نِكَاحي كَانَ بَاطِلا فَهَذَا من الْمُعْتَدِينَ لحدود الله تَعَالَى فَإِنَّهُ يُرِيد أَن يسْتَحل محارم الله قبل الطَّلَاق وَبعده وَالطَّلَاق الثَّلَاث قبل الدُّخُول وَبعد سَوَاء فِي تَحْرِيم الزَّوْجَة عِنْد الْأَئِمَّة وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء وَالنِّكَاح بِولَايَة الْفَاسِق يَصح عِنْد جَمَاهِير الْأَئِمَّة وَإِذا نوى طَلَاق زَوجته لم يَقع بِمُجَرَّد النِّيَّة طَلَاق بِاتِّفَاق الْعلمَاء فَلَو اعْتقد الزَّوْج أَنه طَلَاق فَأقر أَنه طَلقهَا وَمرَاده تِلْكَ النِّيَّة لم يَقع بِهَذَا الْإِقْرَار طَلَاق فِي الْبَاطِن وَلَكِن يُؤَاخذ بِهِ فِي الحكم وَمن قَالَ قلانة كَمَا تَزَوَّجتهَا على مَذْهَب مَالك فَهِيَ طَالِق فَهَذَا الْتِزَام مَذْهَب بِعَيْنِه فَلَا يلْزمه بل لَهُ أَن يُقَلّد مذهبا غَيره وَمن أكرهها أَبوهَا على إِبْرَاء زَوجهَا وطلاقه فأبرأته مُكْرَهَة بِغَيْر حق لم يَصح الْإِبْرَاء وَلم يَقع الطَّلَاق الْمُعَلق بِهِ وَإِن كنت تَحت حجر الْأَب وَقد رأى أَن ذَلِك مصلحَة لَهَا فَإِنَّهُ جَائِز فِي أحد قولي الْعلمَاء فِي مَذْهَب مَالك وَقَول فِي مَذْهَب أَحْمد وَمن قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا وَنوى الِاسْتِثْنَاء وَكَانَ اعْتِقَاده أَنه إِذا قَالَ الطَّلَاق يلزمنه إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَنه لَا يَقع بِهِ ومقصوده تخويفها بِالطَّلَاق لم يَقع الطَّلَاق فَإِذا كَانَ قد قَالَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي هَذِه السَّاعَة فَلَا يَقع عِنْد أَي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمذهب مَالك وَأحمد أَن الطَّلَاق الْمُعَلق بِالْمَشِيئَةِ يَقع لَكِن هَذَا اعْتِقَاده أَنه لَا يَقع فَصَارَ الْكَلَام عِنْده أَنه لَا يَقع فَصَارَ الْكَلَام عِنْده أَنه لَا يَقع بِهِ طَلَاق فَلم يقْصد التَّكَلُّم

فصل

بِالطَّلَاق وَإِذا قصد التَّكَلُّم بِالطَّلَاق لَا يعْتَقد أَنه يَقع بِهِ طَلَاق مثل تكلم العجمي بِلَفْظ لَا يفهم مَعْنَاهُ وَطَلَاق الهازل وَاقع لِأَنَّهُ قصد التَّكَلُّم بِالطَّلَاق وَإِن لم يقْصد إيقافه وَهَذَا لم يقْصد لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَيُشبه هَذَا مَا لَو رأى امْرَأَة فَقَالَ أَنْت طَالِق يَظُنهَا أَجْنَبِيَّة فَبَانَت امْرَأَته فَإِنَّهُ لَا يَقع طَلَاقه فِي الصَّحِيح وَالله أعلم وَطَلَاق الْمُكْره لَا يَقع عِنْد الجماهير كمالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهم وَإِذا كَانَ حِين الطَّلَاق أحَاط بِهِ أَقوام يعْرفُونَ بِأَنَّهُم يعادونه أَو يضربونه وَلَا يُمكنهُ إِذا ذَاك أَن يدفعهم عَن نَفسه وَادّعى أَنهم أكرهوه على الطَّلَاق قبل قَوْله وَفِي تَحْلِيفه نزاع إِذا رأى أَن يُطلق وَاحِدَة فَسبق لِسَانه فَقَالَ ثَلَاثًا لم يَقع إِلَّا وَاحِدًا بل لَو أَرَادَ أَن يَقُول لطاهر فَسبق لِسَانه بطالق لم تطلق فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى وَلَو قَالَ كل شَيْء أملكهُ حرَام عَليّ فَعَلَيهِ فِي غير الزَّوْجَة كَفَّارَة ظِهَار وَأما الزَّوْجَة فمذهب مَالك هُوَ طَلَاق وَمذهب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي أظهر قوليه عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين وَمذهب أَحْمد عَلَيْهِ كَفَّارَة ظِهَار إِلَّا أَن يَنْوِي غير ذَلِك فَفِيهِ نزاع وَالصَّحِيح أَنه لَا يَقع بِهِ طَلَاق فصل إِذا قَالَ الرجل على الطَّلَاق لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَو لَا أَفعلهُ أَو الطَّلَاق لي لَازم لأفعلنه أَو إِن لم أَفعلهُ فالطلاق يلْزَمنِي أَو لَازم لي وَنَحْو هَذِه الْعبارَات الَّتِي تَتَضَمَّن التزاما بِالطَّلَاق ثمَّ حنث فَهَل يَقع بِهِ الطَّلَاق

على قَوْلَيْنِ للْعُلَمَاء فِي الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَغَيرهَا أَحدهمَا لَا يَقع وَهُوَ مَنْصُوص أبي حنيفَة وَطَائِفَة من أَصْحَاب الشَّافِعِي كالقفال وَأبي سعيد الْمُتَوَلِي وَبِه يُفْتِي وَيَقْضِي فِي بِلَاد الشرق والجزيرة وَالْعراق وخراسان والحجاز ومصر وَالشَّام وبلاد الْمغرب وَهُوَ قَول دَاوُد وَأَصْحَابه كَانَ حزم وَقَول طَاوس وَكثير من عُلَمَاء الْمغرب الْمَالِكِيَّة وَغَيرهم وَقد دلّ عَلَيْهِ كَلَام الإِمَام أَحْمد الْمَنْصُوص عَنهُ وأصول مذْهبه فِي غير مَوضِع وَلَو حلف بِالثلَاثِ فَقَالَ الطَّلَاق يلْزَمنِي ثَلَاثًا لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَكَانَ طَائِفَة من السّلف وَالْخلف من أَصْحَاب مَالك وَأحمد وَدَاوُد وَغَيرهم يفتون بِأَنَّهُ لَا يَقع الثَّلَاث لَكِن مِنْهُم من يُوقع بِهِ وَاحِدَة وَهَذَا مَنْقُول عَن طَائِفَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَغَيرهم فِي التَّنْجِيز فضلا عَن التَّعْلِيق وَالْيَمِين وَهَذَا قَول من اتبعهم من أَصْحَاب مَالك وَأحمد وَدَاوُد فِي التَّخْيِير وَالتَّعْلِيق وَالْحلف وَمن السّلف طَائِفَة من أعيانهم تفرق بَين الْمَدْخُول بهَا وَغَيرهَا وَالَّذين لم يوقعوا طَلَاقا على من قَالَ يلْزَمنِي الطَّلَاق الثَّلَاث لَأَفْعَلَنَّ كَذَا مِنْهُم من لَا يُوقع بِهِ طَلَاقا وَلَا يَأْمُرهُ بكفارة وَمِنْهُم من يَأْمُرهُ بِالْكَفَّارَةِ وَبِكُل من الْقَوْلَيْنِ أفتى كثير من الْعلمَاء وَقد بسطت أَقْوَال الْعلمَاء وَأَلْفَاظهمْ وَمن نقل عَنْهُم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة والكتب الْمَوْجُود ذَلِك فِيهَا والأدلة فِي مَوَاضِع أخر تبلغ عَن مجلدات وَالْخلاف الَّذِي ذكرته فِي مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ هُوَ فِيمَا إِذا حلف بِصِيغَة اللُّزُوم مثل الطَّلَاق يلْزَمنِي والنزاع فِي المذهبين سَوَاء كَانَ مُنجزا أَو مُعَلّقا بِشَرْط أَو مخلوفا بِهِ فَهَل ذَلِك صَرِيح أَو كِنَايَة أَو لَا صَرِيح وَلَا كِنَايَة فَلَا يَقع بِهِ طَلَاق وَإِن نَوَاه ثَلَاثَة أَقْوَال وَفِي مَذْهَب أَحْمد قَولَانِ هَل ذَلِك صَرِيح أَو كِنَايَة وَأما الْحلف بِالطَّلَاق أَو التَّطْلِيق الَّذِي يقْصد بِهِ الْحلف هَل يَقع بِهِ فِي

مثل هَذِه الْحلف فالنزاع فِيهِ من غَيرهم بِغَيْر هَذِه الصِّيغَة فَمن قَالَ إِن من أفتى بِأَن الطَّلَاق لَا يَقع فِي مثل هَذِه الصُّورَة مُخَالف للْإِجْمَاع ومخالف لكل قَول فِي الْمذَاهب الْأَرْبَعَة فقد أَخطَأ وَقفا مَا لَا علم لَهُ بل أجمع الْأَرْبَعَة وأتباعهم وَسَائِر الْأَئِمَّة على أَن من قضى بِأَنَّهُ لَا يَقع الطَّلَاق فِي مثل هَذِه الصُّورَة لم يجز نقص حكمه وَمن أفتى بِهِ مِمَّن هُوَ من أهل الْفتيا سَاغَ لَهُ ذَلِك وَلم يجز الْإِنْكَار عيله بِاتِّفَاق الْأَرْبَعَة وَغَيرهم من الْمُسلمين وَلَا من قَلّدهُ وَلَو قضى أَو أفتى بقول سَائِغ يخرج على أَقْوَال الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فِي مسَائِل الْأَيْمَان وَالطَّلَاق وَغَيرهَا مِمَّا ثَبت فِيهِ النزاع بَين عُلَمَاء الْمُسلمين وَلم يُخَالف بِهِ كتابا وَلَا سنة وَلَا معنى ذَلِك بل كَانَ القَاضِي بِهِ والمفتي بِهِ يسْتَدلّ عَلَيْهِ بالأدلة الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهُ يشرع لَهُ أَن يحكم ويفتى بِهِ وَلَا ينْتَقض حكمه اتِّفَاقًا وَلَا يحل مَنعه من الحكم وَلَا من الْفتيا وَلَا منع أحد من تَقْلِيده وَمن قَالَ إِنَّه يسوغ الْمَنْع من ذَلِك فقد خَالف إِجْمَاع الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة بل إِجْمَاع الْمُسلمين مَعَ مُخَالفَته لله وَرَسُوله فَمن قَالَ يجب اتِّبَاع قَوْلنَا دون غَيره من غير أَن يُقيم دَلِيلا شَرْعِيًّا على صِحَة قَوْله فقد خَالف إِجْمَاع الْمُسلمين وَتجب عُقُوبَته كَمَا يُعَاقب أَمْثَاله وَيجب استتابته إِن أصر فان تَابَ وَإِلَّا قتل وكل يَمِين من أَيْمَان الْمُسلمين غير الْمعِين بِاللَّه تَعَالَى مثل الْحلف بِالطَّلَاق وَالْعتاق وَالظِّهَار وَالْحرَام وَالْحج وَالْمَشْي إِلَى بَيت الله وَالصَّدَََقَة وَالصِّيَام وَغير ذَلِك فللعلماء فِيهِ نزاع مَعْرُوف سَوَاء حلف بِصِيغَة الْقسم فَقَالَ الْحَرَام يلْزَمنِي أَو الطَّلَاق يلْزَمنِي أَو الْعتْق يلْزَمنِي أَو حلف بِصِيغَة التَّعْلِيق فَقَالَ إِن فعلت كَذَا فعلي الْحَرَام أَو نسَائِي طَوَالِق أَو عَبِيدِي أَحْرَار أَو مَالِي صَدَقَة أَو على الْمَشْي إِلَى بَيت الله فقد اتّفق الْأَئِمَّة أَنه يسوغ للْقَاضِي أَن يقْضِي فِي هَذِه الْمسَائِل جَمِيعهَا بِأَنَّهُ إِذا حنث وَلَا يلْزمه مَا حلف بِهِ بل إِمَّا أَن لَا يجب عَلَيْهِ من شَيْء مُطلقًا

وَإِمَّا أَن تجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة وَمَا زَالَ فِي الْمُسلمين من يُفْتِي بذلك من حِين حدث الْحلف بهَا وَإِلَى هَذِه الْأَزْمِنَة مِنْهُم من يُفْتِي بِالْكَفَّارَةِ وَمِنْهُم من يُفْتِي بِأَن لَا كَفَّارَة وَلَا يلْزم الْمَخْلُوق عَلَيْهِ شَيْء كَمَا أَن مِنْهُم من يُفْتِي بِلُزُوم المخلوف بِهِ وَهَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة فِي الْأمة من يُفْتِي بهَا بِالْحلف بِالطَّلَاق وَالْعتاق وَالْحرَام وَالنّذر وَأما إِذا حلف بالمخلوقات كالكعبة فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ بِاتِّفَاق الْمُسلمين فالأيمان ثَلَاثَة أَقسَام أما الْحلف بِاللَّه فَفِيهِ الْكَفَّارَة بالِاتِّفَاقِ وَأما الْحلف بالمخلوقات فَلَا كَفَّارَة فِيهِ بالِاتِّفَاقِ إِلَّا بِالْحلف بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفِيهِ الْكَفَّارَة قولا فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وَقد عزى بعض أَصْحَابه ذَلِك إِلَى جَمِيع النَّبِيين وَأما من عقد من الْأَيْمَان بِالطَّلَاق وَنَحْوه وَهُوَ هَذِه الْأَيْمَان فللمسلمين فِيهَا ثَلَاثَة أَقْوَال وَإِن كَانَ من النَّاس من ادّعى الْإِجْمَاع فِي بَعْضهَا فَهُوَ مثل كثير من مسَائِل النزاع الَّتِي يدعى الْإِجْمَاع فِيهَا من لم يعرف الْخلاف ومقصوده أَنِّي لَا أعلم نزاعا فَمن علم النزاع وأثبته كَانَ مثبتا عَالما ومقدما على النَّافِي بِاتِّفَاق فَإِذا كَانَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم ثَبت أَنهم أثبتوا فِي الْحلف بِالطَّلَاق بل فِي الْحلف بِالْعِتْقِ الَّذِي هُوَ أحب إِلَى الله تَعَالَى من الطَّلَاق أَنه لَا يلْزم الْحَالِف بِهِ طَلَاق وَلَا عتاق بل يُجزئهُ الْكَفَّارَة فَكيف يكون قَوْلهم فِي الطَّلَاق الَّذِي هُوَ أبْغض الْحَلَال إِلَى الله تَعَالَى وَقد اتّفق الْمُسلمُونَ على أَن من حلف بالْكفْر أَنه لَا يلْزمه الْكفْر وَقَالَ تَعَالَى {قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم}

فصل

فصل والألفاظ الَّتِي يتَكَلَّم بهَا النَّاس فِي الطَّلَاق ثَلَاثَة أَنْوَاع صِيغَة التَّنْجِيز والإرسال كَقَوْلِه أَنْت طَالِق فَهَذَا يَقع بِهِ الطَّلَاق وَلَيْسَ بِحلف وَلَا كَفَّارَة فِيهِ اتِّفَاقًا الثَّانِي صِيغَة قسم كَقَوْلِه الطَّلَاق يلْزَمنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَهَذَا يَمِين بِاتِّفَاق أهل اللُّغَة واتفاق طوائف الْفُقَهَاء واتفاق الْعَامَّة الثَّالِث صِيغَة تَعْلِيق كَقَوْلِه إِن فعلت كَذَا فامرأتي طَالِق فَهَذَا إِن قصد بِهِ الْيَمين وَهُوَ يكره وُقُوع الطَّلَاق كَمَا يكره الِانْتِقَال عَن دينه فَهُوَ يَمِين حكمه حكم الأول الَّذِي هُوَ صِيغَة الْقسم باتفقا الْفُقَهَاء وَإِن كَانَ يُرِيد وُقُوع الْجَزَاء عِنْد الشَّرْط لم يكن حَالفا كَقَوْلِه إِن أَعْطَيْتنِي ألفا فَأَنت طَالِق وَإِذا زَنَيْت فَأَنت طَالِق وَقصد إِيقَاع الطَّلَاق عِنْد وُقُوع الْفَاحِشَة لَا مُجَرّد الْحلف عَلَيْهَا فَهَذَا لَيْسَ بِيَمِين وَلَا كَفَّارَة فِي هَذَا عِنْد أحد من الْفُقَهَاء فِيمَا علمناه بل يَقع بِهِ الطَّلَاق وَأما مَا يقْصد بِهِ الحض أَو الْمَنْع أَو التَّصْدِيق أَو التَّكْذِيب بالتزمه عِنْد الْمُخَالفَة مَا يكره وُقُوعه سَوَاء كَانَ بِصِيغَة الْقسم أَو الْجَزَاء فَهُوَ يَمِين عِنْد جَمِيع الْخلق من الْعَرَب وَغَيرهم وَإِن كَانَ يَمِينا فَلَيْسَ للْيَمِين إِلَّا حكمان إِمَّا أَن تكون منعقدة فتكفر وَإِمَّا أَن لَا تكون منعقدة كالحلف بالمخلوقات فَلَا تكفر وَأما أَن تكون يَمِين منعقدة مُحْتَرمَة غير مكفرة فَهَذَا حكم لَيْسَ فِي كتاب الله وَلَا سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يقوم عَلَيْهِ دَلِيل وَمن قَالَ إِن من اتبع هَذِه الْفتيا وقلد مفتيها فولده بعد ذَلِك ولد زنا فَإِنَّهُ فِي غَايَة الْجَهْل والضلال والمشاقة لله وَلِرَسُولِهِ فَإِن الْمُسلمين متفقون على أَن كل نِكَاح اعْتقد الزَّوْج أَنه سَائِغ إِذا وطىء فِيهِ امْرَأَته يلْحقهُ فِيهِ وَلَده ويتوارثان بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَإِن كَانَ ذَلِك النِّكَاح بَاطِلا فِي نفس الْأَمر فاليهودي إِذا تزوج ابنت أَخِيه كَانَ وَلَده مِنْهَا يلْحقهُ ويرثه بِاتِّفَاق وَإِن كَانَ هَذَا النِّكَاح بَاطِلا بِاتِّفَاق وَكَذَلِكَ لَو تزوج الْمُسلم امْرَأَة فِي عدتهَا وَوَطئهَا وَهُوَ جَاهِل بعد أَن

فصل

اعتقدها زَوجته كَانَ وَلَده مِنْهَا يلْحقهُ نسبه بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَمثل هَذَا كثير فَإِن ثُبُوت النّسَب لَا يفْتَقر إِلَى صِحَة النِّكَاح فِي نفس الْأَمر بل الْوَلَد للْفراش فَمن طلق امْرَأَته ثَلَاثًا ثمَّ وَطئهَا جهلا أَو تَقْلِيد لمفتي مخطىء أَو لغير ذَلِك فَإِنَّهُ يلْحقهُ النّسَب ويتوارثان بالِاتِّفَاقِ فَالْوَلَد تَابع لاعتقاد الواطىء مثل من غره بمملوكته أَو تزوج فِي نِكَاح فَاسد مُتَّفقا على فاسده فَلَا يكون أَوْلَادهم أَوْلَاد زنا اتِّفَاقًا قضى بِهِ الْخُلَفَاء الراشدون هَذَا فِي الْمجمع على فَسَاده بالمختلف فِيهِ فَمن قَالَ ذَلِك عرف فَإِن أصر استتيب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل وَكَذَا من قَالَ إِن التقيا بذلك غير جَائِزَة فَهُوَ مُخَالف لإِجْمَاع الْمُسلمين كَمَا قدمْنَاهُ وَالله أعلم فصل الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة الْمُسلمين أَنه لَيْسَ على أحد وَلَا شرع لَهُ الْتِزَام قَول شخص معِين فِي كل مَا يُوجِبهُ ويحرمه ويبيحه إِلَّا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكِن مِنْهُم من يَقُول على المستفتى أَن يُقَلّد الأعلم الأورع مِمَّن يُمكن استفتاؤه وَمِنْهُم من يَقُول بل يتَخَيَّر بَين الْمُفْتِينَ وَإِذا كَانَ لَهُ نوع تميز قيل يتبع أَي الْقَوْلَيْنِ أرجح عِنْده بِحَسب تَمْيِيزه فَإِن هَذَا من التَّخْيِير الْمُطلق وَقيل لَا يجْتَهد إِلَّا إِذا صَار من أهل الِاجْتِهَاد وَالْأول أشبه فَإِذا ترجح عِنْد المستفتى أحد الْقَوْلَيْنِ إِمَّا لرجحان دَلِيله بِحَسب تَمْيِيزه وَإِمَّا لكَون قَائِله أعلم وَأَوْرَع فَلهُ ذَلِك وَإِن خَالف قَول الْمَذْهَب وَليكن تطليق الْمَرْأَة من بر الْأُم إِذا طلبته مِنْهُ وَمن قَالَ إِن أبرأتيني طَلقتك فَقَالَت أَبْرَأتك فَلم يطلقهَا لم يَصح الإراء فَإِن هَذَا إِيجَاب وَقبُول لما تقدم من الشُّرُوط وَدلَالَة الْحَال تدل على أَن التَّقْدِير أَبْرَأتك إِن طلقتني فَالشَّرْط الْمُتَقَدّم على العقد كالمقارن

كتاب عشرة النساء والخلع

كتاب عشرَة النِّسَاء وَالْخلْع إِذا أكره الزَّوْج على الْفرْقَة بِحَق مثل أَن يكون مقصرا فِي واجباتها أَو مضارا لَهَا بِغَيْر حق من قَول أَو فعل كَانَت الْفرْقَة صَحِيحَة وَإِن كَانَ أكراه بِغَيْر حق كالإكراه بِالضَّرْبِ أَو الْحَبْس وَهُوَ محسن لعشرتها لم تقع الْفرْقَة بل إِذا أبغضته هِيَ وَهُوَ محسن اليها فَإِنَّهُ يطْلب مِنْهُ الْفرْقَة من غير أَن يلْزم بذلك فَإِن فعل وَإِلَّا أمرت الْمَرْأَة أَن تصبر إِذا لم يكن هُنَاكَ مَا يُبِيح الْفَسْخ وَالْخلْع الَّذِي جَاءَت بِهِ السّنة أَن تكون الْمَرْأَة مبغضة الرجل فتفتدى نَفسهَا مِنْهُ كالأسير أما إِذا كَانَ كل مِنْهُمَا مرِيدا لصَاحبه فالخلع مُحدث فِي الْإِسْلَام وَيحرم على الْمَرْأَة أَن لَا تطيع زَوجهَا إِذا دَعَاهَا إِلَى فرَاشه وَتقدم على ذَلِك الْقيام وَالصَّلَاة وَالصِّيَام بل الْوَاجِب أَن تجيبه إِلَى فرَاشه إِذا طلبَهَا حَتَّى ثَبت فِي البُخَارِيّ أَنه لَا يحل لَهَا الصَّوْم وَزوجهَا شَاهد إِلَّا بِإِذْنِهِ لِأَنَّهُ يمْنَعهَا عَن بعض مَا يجب عَلَيْهَا للزَّوْج فَكيف يكون حَالهَا إِذا طلبَهَا فامتنعت وَالله تَعَالَى يَقُول {فالصالحات قانتات حافظات للغيب} فالصالحة هيالتي تكون قانتة أَي مداومة على طَاعَة رَبهَا وَطَاعَة زَوجهَا فَإِذا امْتنعت من فرَاشه أُبِيح لَهُ ضربهَا وَلَيْسَ عَلَيْهَا حق بعد حق الله وَرَسُوله أوجب من حق الزَّوْج وَقد قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَو كنت آمرا أحدا أَن يسْجد لأحد لأمرت الْمَرْأَة أَن تسْجد لزَوجهَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيّمَا امْرَأَة مَاتَت وَزوجهَا رَاض عَنْهَا دخلت الْجنَّة رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دَعَا الرجل الْمَرْأَة إِلَى فرَاشه فَأَبت لعنتها الْمَلَائِكَة حَتَّى تصبح وَفِي لفظ إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاء ساخطا عَلَيْهَا حَتَّى تصبح وَإِذا خَالعهَا على أَن تبرئه من حُقُوقهَا وَتَأْخُذ الْوَلَد بكفالتها وَلَا تطالبه

فصل

ينفقته صَحَّ ذَلِك عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء كمالك وَأحمد فِي الْمَشْهُور وَغَيرهم فَإِن عِنْد الْجُمْهُور يَصح الْخلْع بالمعدوم وَالَّذِي ينْتَظر وجوده ووجوبه كَمَا تحمل أمتها أَو شجرتها وَأما نَفَقَة عَمها ورضاع وَلَدهَا وَنَفَقَته فقد انْعَقَد سَبَب وجوده ووجوبه وَكَذَلِكَ إِذا قَالَت طَلقنِي وَأَنا أبرئك من حُقُوق وآخذ الْوَلَد بكفالته وَنَحْوه مِمَّا يدل على المقصدو وَإِذا خَالع بَينهمَا من يرى صِحَة ذَلِك كالحاكم الْمَالِكِي لم يجز لغيره أَن ينْقضه وَإِن رَآهُ فَاسِدا وَلَا يجوز أَن يفْرض عَلَيْهِ بعد هَذَا نَفَقَة الْوَلَد لِأَن فعل الْحَاكِم حكم فِي الصَّحِيح وَالْحَاكِم مَتى عقد عقدا أَو فسخ فسخا جَائِز فِيهِ الِاجْتِهَاد لم يكن لغيره نقضه فصل يجب الْعدْل بَين زَوْجَاته بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَفِي السّنَن الْأَرْبَعَة عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من كَانَت لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَال إِلَى إحدهما دون الْأُخْرَى جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَأحد شقيه مائل فَعَلَيهِ الْعدْل فِي الْقسم لَكِن إِذا أحب إِحْدَاهمَا أَكثر وَوَطئهَا أَكثر فَلَا حرج عَلَيْهِ وَفِيه أنزل قَوْله تَعَالَى {وَلنْ تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء وَلَو حرصتم} أَي فِي الْحبّ وَالْجِمَاع وَفِي السّنَن أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول بعد عدلة فِي الْقسم اللَّهُمَّ هَذَا فِيمَا أملك فَلَا تؤاخذني فِيمَا تملك وَلَا أملك يَعْنِي الْقلب وَأما الْعدْل وَالْكِسْوَة وَالنَّفقَة فَهُوَ السّنة وَتَنَازَعُوا فِي وجوب الْعدْل فِي النَّفَقَة ووجوبه أقوى وَهَذَا الْعدْل مَأْمُور بِهِ مَا دَامَت زَوجته فَإِن أَرَادَ أَن يُطلق إِحْدَاهمَا فَلهُ ذَلِك فَإِن اصْطلحَ هُوَ وَالَّتِي يُرِيد طَلاقهَا على أَن يُقيم عِنْده بِلَا قسم وَهِي راضية بذلك جَازَ لقَوْله

فصل

تَعَالَى {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يصلحا بَينهمَا صلحا وَالصُّلْح خير} فقد وهبت سَوْدَة يَوْمهَا لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَذَلِكَ رَافع بن خريج رَضِي الله عَنهُ جرى لَهُ ذَلِك وَامْتنع من المعاشرة وَيُقَال إِن الْآيَة أنزلت فِيهِ وَإِذا نشرت فَلَا نَفَقَة لَهَا وَلَا سُكْنى وَله ضربهَا إِذا نشزت أَو آذنة أَو اعتقدت عَلَيْهِ وَيجب أَن يعاشرها فَإِن تعذر ذَلِك وَامْتنع من المعاشرة فرق بَينهمَا فصل وروى أَن رجلا قَالَ يَا رَسُول الله إِن امْرَأَتي لَا ترد يَد لامس فَهُوَ حَدِيث ضَعِيف ضعفه أَحْمد وَغَيره وتأوله بعض النَّاس على أَنَّهَا لَا ترد طَالب مَال وسياقه وَظَاهره يدل على خلاف ذَلِك وَمن النَّاس من اعْتقد ثُبُوته وَأَنه أمره أَن يمْسِكهَا مَعَ كَونهَا لَا يمْنَع الرِّجَال وَهَذَا أنكرهُ غير وَاحِد من الْأَئِمَّة فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {الزَّانِي لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة أَو مُشركَة والزانية لَا ينْكِحهَا إِلَّا زَان أَو مُشْرك وَحرم ذَلِك على الْمُؤمنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات فَمن مَا ملكت أَيْمَانكُم من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات} إِلَى قَوْله تَعَالَى {محصنات غير مسافحات وَلَا متخذات أخدان} فَإِنَّمَا أَبَاحَ نِكَاح الْإِمَاء فِي حَال كونهن غير مسافحات وَلَا متخذات أخذان والمسامحة الَّتِي تسافح مَعَ كل وَاحِد والمتخذة الخذن هِيَ الَّتِي يكون لَهَا صديق وَاحِد وَقَالَ تَعَالَى {وَالْمُحصنَات من الْمُؤْمِنَات وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ} إِلَى قَوْله {محصنين غير مسافحين} فَاشْترط هَذِه الشُّرُوط فِي الرِّجَال كَمَا اشترطها فِي النِّسَاء وَهُوَ مُوَافق لقَوْله تَعَالَى {الزَّانِي لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة أَو مُشركَة} الْآيَة

وَقد تنَازع الْعلمَاء فِي جَوَاز نِكَاح الزَّانِيَة قبل ثُبُوتهَا على قَوْلَيْنِ الأول أَنه لَا يجوز فَإِنَّهُ مَتى تزوج زَانِيَة لم يكن مَاؤُهُ مصونا مَحْفُوظًا بل مختلطا بِمَاء غَيره والفرج الَّذِي يطؤه مُشْتَركا وَهَذَا هُوَ الزِّنَا وَالْمَرْأَة إِذا كَانَ زَوجهَا يَزْنِي بغَيْرهَا لَا يُمَيّز بن الْحَلَال وَالْحرَام كَانَ وَطْؤُهُ لَهَا بِمَنْزِلَة وَطْء الزَّانِي للْمَرْأَة الَّتِي يَزْنِي بهَا وَإِن لم يَطَأهَا غَيرهَا وَمن ضَرَر الزِّنَا اتِّخَاذ الأخذان وَمن تزوج بغيا كَانَ ديوثا بالِاتِّفَاقِ وَلَا يدْخل الْجنَّة ديوث وَإِذا كَانَت الْمَرْأَة خبيثة كَانَ زَوجهَا خبيثا وَإِذا كَانَ قرينها خبيثا كَانَت خبيثة وَبِهَذَا اعظم القَوْل فِيمَن قذفة عَائِشَة أَو غَيرهَا من أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهُن وَلِهَذَا قَالَ السّلف مَا بَغت امْرَأَة نَبِي قطّ فَلَيْسَ فِي الْأَنْبِيَاء وَلَا الصَّالِحين من تزوج بغيا لِأَن ضَرَر الْبَغي يتَعَدَّى إِلَى فَسَاد فرَاشه بِخِلَاف الْكفْر فَإِنَّهُ لَا يتَعَدَّى وَلَيْسَ للزَّوْج أَن يسكنهَا حَيْثُ شَاءَ بل يسكن بهَا فِي مَكَان يصلح لمثلهَا وَلَا يخرج بهَا إِلَى أهل الْفُجُور بل لَيْسَ لَهُ أَن يعاشر الْفجار على فُجُورهمْ وَمَتى فعل ذَلِك وَجب أَن يُعَاقب عُقُوبَة تردعه وَلَا يحل للرجل أَن يعضل الْمَرْأَة ويضيق عَلَيْهَا حَتَّى تعطيه الصَدَاق أَو بعضه لَكِن إِذا أَتَت بِفَاحِشَة مبينَة كَانَ لَهُ أَن يعضلها حَتَّى تَفْتَدِي نَفسهَا مِنْهُ وَله أَن يضْربهَا هَذَا بَين الرجل وَبَين الله تَعَالَى وَأهل الْمَرْأَة يكشفون الْحق مَعَ من هُوَ أَضْعَف ويعينونه عَلَيْهِ فَإِن كَانَت متعدية بذهابها إِلَى عِنْد ذِي رِيبَة فَهِيَ ظالمة لَهُ وَمن ثَابت جَازَ لَهُ إِِمْسَاكهَا وصلحها خير فَإِن التائب من الذَّنب كمن لَا ذَنْب لَهُ

فصل

فصل إِذا قَالَ لامْرَأَة كلما حللت لي حرمت عَليّ لَا تحرم عَلَيْهِ لَكِن فِيهَا قَولَانِ أَحدهمَا لَهُ أَن يَتَزَوَّجهَا وَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَالثَّانِي عَلَيْهِ كَفَّارَة ظِهَار فِي قَول وَإِمَّا كَفَّارَة يَمِين فِي آخر وَإِنَّمَا يَقُول بِوُقُوع الطَّلَاق بِمثل هَذَا من يجوز تَعْلِيق الطَّلَاق على النِّكَاح كَأبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فعندهما لَو قَالَ كلما تَزَوَّجتك فَأَنت طَالِق وَلم يَقع بِهِ طَلَاق فَكيف فِي الْحَرَام لَكِن أَحْمد يجوز فِي الْمَشْهُور عَنهُ الظِّهَار قبل الْملك بِخِلَاف الشَّافِعِي وَمن قَالَ عَن زَوجته هِيَ أُمِّي أَو هِيَ عِنْدِي كأمي وَأَرَادَ بهَا مثل أُمِّي أَنَّهَا تستر عَليّ وَلَا تهتكني وَلَا تلومني كَمَا تفعل الْأُم مَعَ وَلَدهَا فَإِنَّهُ يُؤَدب على هَذَا القَوْل وَلَا تحرم عَلَيْهِ امْرَأَته فَإِن عمر رَضِي الله عَنهُ سمع رجلا يَقُول لامْرَأَته يَا أُخْتِي فأدبه وَإِن كَانَ جَاهِلا لم يُؤَدب على ذَلِك وَإِن أَرَادَ أَنَّهَا عِنْدِي مثل أُمِّي أَي فِي الِامْتِنَاع من وطذها فَهُوَ مظَاهر وَلَو قَالَ إِن بقيت أنكحك أنكح أُمِّي تَحت ستور الْكَعْبَة فَهُوَ مظَاهر وَإِذا قَالَت الزَّوْجَة أَنْت على حرَام كَأبي وَأمي فعلَيْهَا كَفَّارَة الظِّهَار

كتاب العدد

كتاب الْعدَد الْمُرضعَة تبقى فِي الْعدة حَتَّى تحيض ثَلَاث حيضات فَإِن أحبت أَن تسترضع لوالدها لتحيض هِيَ أَو تشرب دَوَاء أَو نَحوه تحيض بِهِ فلهَا ذَلِك وَالله أعلم وَلَا يجوز التَّصْرِيح بِخطْبَة الْمُعْتَدَّة بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَمن فعل ذَلِك عُوقِبَ وزجر عَن التَّزْوِيج بهَا مُقَابلَة لَهُ بنقيض قَصده وَمن أخْبرت بِانْقِضَاء عدتهَا ثمَّ أَتَت بِولد لسِتَّة أشهر فَصَاعِدا أَو لدوّنَ أَكثر مُدَّة الْحمل فَهَل يلْحق الزَّوْج على قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَعَن أبي حنيفَة لَا يلْحق نسبه بِالْأولِ قولا وَاحِدًا وَتَأَخر الدَّعْوَى الممكنة فِي مسَائِل الْجور وَنَحْوهَا يدل على كذب الْمُدعى بهَا وَمن أقرّ أَنه طلق زَوجته من مُدَّة تزيد على الْعدة الشَّرْعِيَّة وَكَانَ الْمقر فَاسِقًا أَو مَجْهُول الْحَال لم يقبل قَوْله فِي إِسْقَاط الْعدة إِذْ فِيهِ حق الله فَلَا تتَزَوَّج إِلَّا بعد الْعدة وَأما إِن كَانَ عدلا غير مُتَّهم أَو مثل أَن كَانَ غَائِبا فَلَمَّا حضر أخْبرهَا أَنه طلق من مُدَّة كَذَا وَكَذَا فَهَل تعتقد من حِين بلغَهَا الْخَبَر إِذا لم يقم بذلك بَيِّنَة أَو من حِين الطَّلَاق كَمَا لَو قَامَت بِهِ بَيِّنَة فِيهِ خلاف عِنْد أَحْمد وَغَيره وَالْمَشْهُور الثَّانِي الْمُطلقَة ثَلَاثًا أَجْنَبِيَّة عَن الزَّوْج وَلَا يجوز أَن يوطئها على أَن تتَزَوَّج غَيره ثمَّ يطلقهَا وَترجع إِلَيْهِ وَلَا يجوز أَن يُعْطِيهَا نَفَقَة ثمَّ لَو تزوجت غَيره النِّكَاح الصَّحِيح الْمَعْرُوف ثمَّ مَاتَ زَوجهَا أَو طَلقهَا لم يجز للْأولِ أَن يخطبها فِي الْعدة صَرِيحًا بِاتِّفَاق الْمُسلمين سَوَاء قيل يَصح نِكَاح الْمُحَلّل أَو قيل لَا وَلَا تحل الْمُطلقَة ثَلَاثًا إِلَّا بِوَطْء فِي الْقبل من زوج بِنِكَاح صَحِيح أما الْوَطْء فِي الدبر فا يحلهَا وَمَا يذكر عَن بعض الْمَالِكِيَّة من إِبَاحَة الْوَطْء فِي الدبر فهم يطعنون فِي

سفر المعتدة

كَونه قولا لَهُم وَمَا يذكر عَن ابْن الْمسيب من عدم اشْتِرَاط الْوَطْء فَذَاك لم يذكر فِيهِ وَطْء الدبر وَهُوَ قَول شَاذ صحت السّنة بِخِلَافِهِ وانعقد الْإِجْمَاع قبله وَبعده وَلَيْسَ للْمَرْأَة أَن تُسَافِر فِي عدَّة الْوَفَاة إِلَى الْحَج فِي مَذْهَب الْأَرْبَعَة وَمن طلق ثَلَاثًا وألزمها بوفاء الْعدة فِي مَكَانهَا فَخرجت مِنْهُ قبل أَن توفّي عدتهَا فَلَا نَفَقَة لَهَا وَلَيْسَ لَهَا أَن تطالب بِنَفَقَة الْمَاضِي فِي مثل هَذِه الْعدة فِي مَذْهَب الْأَرْبَعَة كتاب الرَّضَاع حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنهُ يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب حَدِيث صَحِيح متلقى بِالْقبُولِ مُتَّفق على صِحَّته وَفِي لفظ آخر يحرم من الرضَاعَة مَا يحرم من الْولادَة وَقد اسْتثْنى بعض الْفُقَهَاء الْمُتَأَخِّرين من عُمُومه صُورَتَيْنِ وبعضم أَكثر وَهَذَا خطأ فانه لَا يحْتَاج أَن يسْتَثْنى من الحَدِيث شَيْء لِأَن الْوَلَد إِذا ارتضع خمس رَضعَات فِي الْحَوْلَيْنِ صَارَت الْمَرْأَة أمه وَزوجهَا صَاحب اللَّبن أَبَاهُ فَصَارَ ابْنا لكل وَاحِد مِنْهُمَا من الرضَاعَة وَحِينَئِذٍ فَيكون جمع أَوْلَاد الْمَرْأَة من هَذَا الرجل وَمن غَيره وَجَمِيع أَوْلَاد الرجل مِنْهَا وَمن غَيرهَا إخْوَة لَهُ سَوَاء ولدُوا قبل الرضَاعَة أَو بعْدهَا بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة وَأَوْلَاد أولادهما أَوْلَاد إخْوَته فَلَا يجوز للمرتضع أَن يتَزَوَّج أحدا من هَؤُلَاءِ وإخوة الْمَرْأَة وَأَخَوَاتهَا أَخْوَاله وخالاته وآباؤها وأمهاتها أجداده وجداته وإخوة الرجل وأخواته كَذَلِك أَعْمَامه وعماته وَأَبُو الرجل وَأمه وجدته أجداده وجداته لَكِن يتَزَوَّج بأولاد أَعْمَامه وعماته وَأَوْلَاد الأخوال والخالات كالنسب سَوَاء فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَاف الْأَرْبَعَة هم من النّسَب مباحات فَكَذَا هم من الرضَاعَة

وَإِذا كَانَ المرتضع ابْنا الْمَرْأَة ولزوجها فأولاده أَوْلَاد أولادهما وَيحرم على أَوْلَاد من الرَّضَاع مَا يحرم على أَوْلَاده من النّسَب فَهَذِهِ الْجِهَات الثَّلَاث مِنْهَا انتشرت حُرْمَة الرَّضَاع وَأما إخْوَة المرتضع من النّسَب وَأَبوهُ من النّسَب وَأمه من النّسَب فهم أجانب عَن أَبِيه وَأمه وَإِخْوَته من الرَّضَاع لَيْسَ بَين هَؤُلَاءِ صلَة لَا بِنسَب وَلَا رضَاع لِأَن الرجل يُمكن أَن يكون لَهُ أَخ من أَبِيه من أمه وَلَا نسب بَينهمَا بل يجوز لأخته من أَبِيه أَن تتَزَوَّج أَخَاهُ من أمه فَكيف إِذا كَانَ لَهُ أَخ من النّسَب وَأُخْت من الرَّضَاع فَيجوز لهَذَا أَن يتَزَوَّج هَذِه وَبِالْعَكْسِ وَبِهَذَا تَزُول الشُّبْهَة الَّتِي تعرض لبَعض النَّاس فَإِنَّهُ يجوز للمرتضع أَن يتَزَوَّج أَخُوهُ من الرضَاعَة بِأُمِّهِ من النّسَب كَمَا يتَزَوَّج بأخته من الرضَاعَة وَهَذَا لَا نَظِير لَهُ فِي النّسَب فَإِن أَخا الرجل من النّسَب لَا يتَزَوَّج بِأُمِّهِ من النّسَب فاما أَن يكون بنت ابْنه أَو ربيبة ابْنه فالرجل يحرم عَلَيْهِ بنته وربيبه فَحرمت على أَبِيه بِهَذَا الطَّرِيق وَأُخْته من الرَّضَاع لَيست بنت أَبِيه من النّسَب وَلَا ربيبته فَجَاز أَن تتَزَوَّج بِهِ فَمن لَا يُحَقّق يَقُول يحرم فِي النّسَب على أخي أَن يتَزَوَّج أُمِّي وَلَا يحرم مثل هَذَا فِي الرَّضَاع وَهَذَا غلط مِنْهُ فَإِن نَظِير الْمحرم بِالنّسَبِ أَن تتَزَوَّج أُخْته أَو أخوة من الرضَاعَة بِابْن هَذَا الْأَخ أَو بِأَبِيهِ من الرضَاعَة كَمَا لَو ارتضع هُوَ وَآخر من امْرَأَة وَاللَّبن لفحل وَاحِد فَإِنَّهُ يحرم على أُخْته أَخِيه من الرضَاعَة أَن تتَزَوَّج أَخَاهُ أَو يتَزَوَّج أُخْته من الرضَاعَة لِكَوْنِهِمَا أَخَوَيْنِ للمرتضع وَيحرم عَلَيْهِمَا أَن يتزوجا أَبَاهُ وَأمه من الرضَاعَة لِكَوْنِهِمَا ولديهما من الرضَاعَة لَا لِكَوْنِهِمَا أخوي ولديهما فَمن تدبر هَذَا وَنَحْوه زَالَت عَنهُ الشُّبْهَة وَأما رضَاع الْكَبِير فَإِنَّهُ لَا يحرم فِي مَذْهَب الْأَرْبَعَة وفيمن رضع قَرِيبا من الْحَوْلَيْنِ نزاع وَمذهب الشَّافِعِي وَأحمد أَنه لَا يحرم

وَأما الرجل الْكَبِير وَالْمَرْأَة الْكَبِيرَة فَلَا يحرم أَحدهمَا على الآخر برضاع القرائب مثل أَن ترتضع زَوجته لِأَخِيهِ من النّسَب فَلَا تحرم عَلَيْهِ زَوجته لما تقدم من أَنه يجوز لَهُ أَن يتَزَوَّج بِالَّتِي هِيَ أُخْت من الرضَاعَة لِأَخِيهِ من النّسَب إِذْ لَيْسَ بَينه وَبَينهَا صلَة نسب وَلَا رضَاع وَإِنَّمَا حرمت على أَخِيه لِأَنَّهَا أمة من الرضَاعَة وَلَيْسَت أم نَفسه من الرَّضَاع وَأم المرتضع من الرَّضَاع لَا تكون أما لأخوته من النّسَب لِأَنَّهَا إِنَّمَا أرضعت الرَّضِيع وَلم ترْضع غَيره نعم لَو كَانَ للرجل نسْوَة يطؤهن وأرضعت كل وَاحِدَة لَهَا طفْلا وَلِهَذَا طفْلا لم يجز أَن يتَزَوَّج أَحدهمَا الآخر وَلِهَذَا لما سُئِلَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا عَن ذَلِك قَالَ اللقَاح وَاحِد وَلَو كَانَ أَخُوهُ من النّسَب ابْن زَوجته حرمت عَلَيْهِ زَوجته لِأَنَّهَا أم أمه وَأم امْرَأَة أَبِيه وَكِلَاهُمَا حرَام وَأما أم أَخِيه من الرضَاعَة فَلَيْسَتْ أمه وَلَا امْرَأَة أَبِيه لِأَن زَوجهَا صَاحب اللَّبن لَيْسَ أَبَا لهَذَا لَا صلَة بَينهمَا نسبا وَلَا رضَاعًا فَإِذا قَالَ قَائِل إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب وَأم أُخْته من النّسَب حرَام عَلَيْهِ فَكَذَا ابْن الرَّضَاع قلت هَذَا تلبيس وتدليس فَإِنَّهُ تَعَالَى لم يقل حرمت أخواتكم وَإِنَّمَا قَالَ {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} وَقَالَ {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم} فَحرم أمه ومنكوحة أَبِيه وَإِن لم يكن أمه وَهَذِه تحرم من الرضَاعَة فَلَا يتَزَوَّج أمه من الرضَاعَة وَأما مَنْكُوحَة أَبِيه من الرضَاعَة فَالْمَشْهُور عِنْد الْأَئِمَّة أَنَّهَا تحرم لَكِن فِيهَا نزاع لكَونهَا من الْمُحرمَات بالصهر لَا بِالنّسَبِ لَا والولادة وَفينَا بِعُمُوم الحَدِيث وَأما أم أَخِيه الَّتِي لَيست أما وَلَا مَنْكُوحَة أَب فَهَذِهِ لَا تُوجد فِي النّسَب فَلَا يجوز أَن يُقَال يحرم من النّسَب مَالا يحرم نَظِيره من الرَّضَاع

فَتبقى أم الْأُم من النّسَب لِأَخِيهِ من الرضَاعَة أَو الْأُم من الرضَاعَة لِأَخِيهِ من النّسَب لَا نَظِير لَهَا من الْولادَة فَلَا تحرم وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْمُسلمين وَغسل عَيْنَيْهِ بِلَبن امْرَأَته يجوز وَلَا تحرم بذلك لِأَنَّهُ كَبِير وَأَيْضًا فَلَا تَنْتَشِر الْحُرْمَة بِوَضْع اللَّبن فِي الْعين بِلَا نزاع وَإِذا كَانَت الْأُم مَعْرُوفَة بِالصّدقِ فَذكرت أَنَّهَا أرضعت زوج بنتهَا فرق بَينهمَا فِي أصح قولي الْعلمَاء وَأما إِذا شكّ فِي صدقهَا أَو فِي عدد الرضعات فَإِنَّهَا تكون من المتشبهات تَركهَا أولى وَلَا يحكم بِالتَّفْرِيقِ بَينهمَا إِلَّا بِحجَّة وَإِذا رجعت عَن الشَّهَادَة قبل الترويج لم تحرم الزَّوْجَة إِذا علم أَنَّهَا كَاذِبَة أَو أَنَّهَا كتمت الشَّهَادَة لم يحل لَهُ التَّزْوِيج وَله منع الزَّوْجَة من إِرْضَاع غير وَلَدهَا والقط إِذا صال على مَاله فَلهُ دَفعه عَن ذَلِك وَلَو بِالْقَتْلِ وَله رميه بمَكَان بعيد فَإِن لم يُمكن دَفعه إِلَّا بِالْقَتْلِ قَتله وَأما النَّمْل فَيدْفَع ضَرَره بِغَيْر التحريق فَإِذا كَانَ الْأَب عَاجِزا عَن أُجْرَة الاسترضاع وامتنعت الْأُم عَن الْإِرْضَاع إِلَّا بِالْأُجْرَةِ فَلهُ أَن يسترضع غَيرهَا فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ مَالا يقدر عَليّ وَإِذا كَانَت الْمُرضعَة أعدل قبل قَوْلهَا وَفِي تحليفها نزاع

كتاب النفقات

كتاب النَّفَقَات إِذا تسلم الزَّوْج الْمَرْأَة التسلم الشَّرْعِيّ هُوَ أَبوهُ أَو نَحْوهمَا وأطعمها كَمَا جرت الْعَادة لم يكن لأَبِيهَا وَلَا لَهَا أَن تدعى بِالنَّفَقَةِ وَإِن لم يَأْذَن وَأَنَّهَا تَحت حجرَة وَإِن كَانَ قد توهم ذَلِك وَقَالَهُ طَائِفَة فَإِذا طلب وَليهَا النَّفَقَة وَلم يعْتد بِمَا أنْفق عَلَيْهَا كَانَ ظَالِما لَا تحل لَهُ الشَّرِيعَة هَذَا الطّلب وَمن توهم أَن النَّفَقَة كَالدّين لَا بُد أَن يقبضهُ الْوَلِيّ وَهُوَ لم يَأْذَن فِيهِ كَانَ مخطئا من وُجُوه أَحدهَا أَن الْمَقْصُود بِالنَّفَقَةِ إطعامها لَا حفظ المَال لَهَا وَقبض الْوَلِيّ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَة وَلَا يحْتَاج إِلَى أُذُنه فَإِنَّهُ وَاجِب بِالشَّرْعِ فَهُوَ نهى الْوَلِيّ عَن الْإِنْفَاق عَلَيْهَا وَلم يلْتَفت إِلَيْهِ وَأَيْضًا إِقْرَاره لَهَا مَعَ حَاجَتهَا إِلَى النَّفَقَة إِذن عرفي وَلَا يُقَال إِنَّه لم يَأْمَن الزَّوْج على النَّفَقَة لِأَن الائتمان بهَا حصل بِالشَّرْعِ كَمَا ائْتمن على بدنهَا وَالْقسم لَهَا وَغير ذَلِك من حُقُوقهَا فَإِن الرِّجَال قوامون على النِّسَاء وَالنِّسَاء عوان عِنْدهم وَلِأَن الائتمان الْعرفِيّ كاللفظي وَإِذا سَافر الْوَلِيّ بِالزَّوْجَةِ بِغَيْر إِذن الزَّوْج عزّر على ذَلِك وتعزر هِيَ إِذا كَانَ التَّخَلُّف يُمكنهَا وَلَا نَفَقَة لَهَا من حِين سَافَرت وَإِذا امْتنعت من الصَّلَاة فَإِنَّهَا تستتاب فَإِن ثَابت وَإِلَّا قتلت وهجر الزَّوْج لَهَا على تَركهَا الصَّلَاة من أَعمال الْبر وَلَا نَفَقَة لَهَا إِذا امْتنعت من تَمْكِينه إِلَّا مَعَ ترك الصَّلَاة وعَلى الْوَلَد الْمُوسر أَن ينْفق على أَبِيه وَزَوْجَة أَبِيه وعَلى إخْوَته الصغار والكبار إِذا كَانُوا عاجزين عَن الْكسْب وَإِن لم يفعل ذَلِك كَانَ عاقا لوَالِديهِ قَاطعا لرحمه مُسْتَحقّا لعقوبة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِذا طلق زَوجته ثَلَاثًا وأبرأته من حُقُوق الزَّوْجَة قبل علمهَا بِالْحملِ لم تدخل نَفَقَة الْحمل فِي الْإِبْرَاء وَلَو علمت بِالْحملِ وأبرأته من حُقُوق الزَّوْجِيَّة فقد لم يدْخل

فِي ذَلِك نَفَقَة الْحمل لِأَنَّهَا تجب بعد زَوَال النِّكَاح وَهِي وَاجِبَة للْحَمْل فِي أظهر قولي الْعلمَاء كَأُجْرَة الرَّضَاع اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون الْإِبْرَاء بِمُقْتَضى أَنه لَا يبْقى بَينهمَا مُطَالبَة بِعقد النِّكَاح أبدا فَإِذا كَانَ مقصودهما الْبَرَاءَة بِحَيْثُ لَا يبْقى للْآخر مُطَالبَة يُوَجه فَهَذَا يدْخل فِيهِ الْإِبْرَاء من نَفَقَة الْحمل وعَلى الْوَالِد نَفَقَة وَلَده إِذا كَانَ مُوسِرًا فَإِن لم يُمكنهُ إِلَّا بِأَن يعمر ملكه أَو يكريه لزمَه ذَلِك بل من كَانَ لَهُ ملك لَا يعمره وَلَا يؤجره فَهُوَ سَفِيه مبذر يَنْبَغِي أَن يحْجر عَلَيْهِ فَأَما إِذا كَانَ لَهُ فَيتَعَيَّن ذَلِك عَلَيْهِ لأجل مصلحَة وَلَده مَسْأَلَة وَالزَّوْجَة الْمَرِيضَة تسْتَحقّ النَّفَقَة فِي مَذْهَب الْأَرْبَعَة وَإِن لم يسْتَمْتع بهَا وَولد الزِّنَا لَا يلْحق نسبه بِأَبِيهِ عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَلَكِن لَا بُد أَن ينْفق عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ لِأَنَّهُ من يتامى الْمُسلمين والمزوجة المحتاجة نَفَقَتهَا على زَوجهَا وَاجِبَة من غير صَدَاقهَا وَأما صَدَاقهَا الْمُؤخر فَيجوز أَن تطالبه بِهِ فَإِن أَعْطَاهَا فَحسن وَإِن امْتنع لم يجْبر حَتَّى يَقع بَينهمَا فرقة بِمَوْت أَو طَلَاق أَو نَحوه وَالصَّدَََقَة على الْمُحْتَاج من الْأَهْل أولى من غَيره فَإِن لم يَتَّسِع مَال الْإِنْسَان للأقارب والأباعد فَإِن نَفَقَة الْقَرِيب وَاجِبَة فَلَا يعْطى الْبعيد مَا يضر بالقريب أما الزَّكَاة وَالْكَفَّارَة فَيجوز أَن يعْطى مِنْهَا الْقَرِيب الَّذِي لَا ينْفق عَلَيْهِ والقريب أولى إِذا اسْتَوَت الْحَاجة وَإِذا حكم بِالْوَلَدِ للْأُم فغيبته عَن الْأَب لم يكن لَهَا أَن تطالبه بِالنَّفَقَةِ الْمَفْرُوضَة وَلَا بِمَا اتفقَا عَلَيْهِ وَإِذا عجز الْأَب عَن النَّفَقَة وَلَا رُجُوع لمن أنْفق فِي هَذِه الْمدَّة بِغَيْر إِذْنه بِلَا نزاع وَإِنَّمَا تنازعوا فيمَ إِذا أنْفق مُتَّفق على أبنه باذنه أَو بِدُونِ إِذْنه مَعَ وجوب النَّفَقَة على الْأَب

فَقيل يرجع بِمَا أنْفق غير متربع كَمَا هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي قَول وَلَا يجوز جبسه على هَذِه النَّفَقَة وَلَا على الرُّجُوع حَتَّى يثبت الْوُجُوب بيساره وَإِذا اخْتلف فِي يسَاره وَلم يعرف لَهُ مَال فَالْقَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه وَإِذا كَانَ مُقيما فِي غير بلد الْأُم فالحصانة لَهُ لَا للْأُم وَإِن كَانَت الْأُم أولى بالحصانة فِي الْبَلَد الْوَاحِد وَهَذَا أَيْضا مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَإِذا ادّعى الابْن على أَبِيه بصدقا أمه وكسوتها الْمَاضِيَة قبل مَوتهَا فعلى الْأَب أَن يُوفيه مَا يسْتَحقّهُ من ذَلِك وَإِذا تزوجت الْأُم فَلَا حضَانَة لَهَا وَإِن سَافَرت سفر نَقله فالحصانة للجدة دومها وَإِذا حضنته وَلم تكن الْحَضَانَة لَهَا فطالبت بِالنَّفَقَةِ فَلَا شَيْء لَهَا لِأَنَّهَا ظللة بالحضانة وَإِذا كَانَ رزق الرجل على الْجِهَات السُّلْطَانِيَّة فللولي أَن يمْنَع موليته من التَّزَوُّج بِمن يتَنَاوَل مثل هَذَا الرَّزَّاق الَّذِي يَعْتَقِدهُ حَرَامًا لَا سِيمَا إِذا كَانَ لَا ضَرَر بِهِ فَإِذا كَانَ الزَّوْج يطْعمهَا من غَيره أَو تَأْكُل هِيَ من غَيره فَلهُ أَن يُزَوّجهَا إِذا كَانَ الزَّوْج متأولا فِيمَا يَأْكُلهُ فَإِن هَذِه الْجِهَات السُّلْطَانِيَّة لم يذكر أحد من الْفُقَهَاء الَّذين يُفْتى بقَوْلهمْ جَوَاز ذَلِك وَلَكِن فِي أَوَائِل الدولة السلجوقية أفتى طَائِفَة من الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة إِذا لم يكن فِي أَمْوَال بَيت المَال كِفَايَة لرزق الْجند الَّذين يحْتَاج إِلَيْهِم فِي الْجِهَاد أَن يوضع على الْمُعَامَلَات وَأنكر ذَلِك غير هَؤُلَاءِ وَحكى أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي كتاب الْإِجْمَاع إِجْمَاع الْعلمَاء على تَحْرِيم ذَلِك وَقد كَانَ نور الدّين مَحْمُود الشَّهِيد بن زنكي قد أبطل جَمِيع الْوَظَائِف المحدثة فِي الشَّام والجزيرة ومصر والحجاز وَكَانَ أعرف النَّاس بِالْجِهَادِ وَهُوَ الَّذِي أَقَامَ الْإِسْلَام بعد اسْتِيلَاء الافرنج والقرامطة على أَكثر بِلَاده وَمن فعل مَا يعْتَقد حلّه متأولا تأولا سائغا لَا سِيمَا مَعَ حَاجَة لم يَجْعَل فَاسِقًا بِمُجَرَّد ذَلِك بِحَيْثُ يمْنَع من تزَوجه لَكِن لَهُ منعهَا من تنَاول مثل هَذَا وَإِذا أطعمها الزَّوْج من غَيره فَلهُ أَن يُزَوّجهَا إِذا كَانَ متأولا فِيمَا يَأْخُذهُ كَمَا تقدم

كتاب الهبة

كتاب الْهِبَة لَيْسَ للْوَاهِب أَن يرجع فِي هِبته غير الْوَالِد لوَلَده إِلَّا أَن تكون الْهِبَة على جِهَة الْمُعَاوضَة لفظا أَو عرفا فَإِذا كَانَت لأجل عوض وَلم يحصل فللواهب الرُّجُوع فِيهَا إِذا كَانَت بَاقِيَة وَإِلَّا فعوضها وَإِذا لم يكن ضَرَر على الْأَوْلَاد فلأبيهم أَن يَأْخُذ من مَالهم مَا يشترى بِهِ أمه يَطَؤُهَا وتخدمه وَمذهب مَالك وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ أَن البيع وَالْهِبَة وَالْإِجَارَة تثبت بالمعاطاة وَبِمَا بعده النَّاس بيعا أَو هبة أَو إِجَارَة وَمذهب الشَّافِعِي اعْتِبَار الصِّيغَة إِلَّا فِي مَوَاضِع مُسْتَثْنَاة وَلَيْسَ لذَلِك صِيغَة محددة فِي الشَّرْع بل الْمرجع فِي الصِّيغَة الْمقيدَة لذَلِك إِلَى عرف الْخطاب وَهَذَا مهذب الْجُمْهُور وَكَذَلِكَ صححوا الْهِبَة بِمثل قَوْله أعمرتك وأطعمتك وحملتك على هَذَا الدَّابَّة وَنَحْوه مِمَّا يفهم مِنْهُ أهل الْخطاب الْهِبَة وتجهيز الْمَرْأَة بجهازها إِلَى بَيت زَوجهَا تمْلِيك لجهازها كَمَا أفتى بِهِ أَصْحَاب أبي حنيفَة وَأحمد وَغَيرهمَا وعادات النَّاس إِذا اشْترى الرجل أمة وَقَالَ لِابْنِهِ خُذْهَا لَك استمتع بهَا وَنَحْو ذَلِك كَانَ ذَلِك تَمْلِيكًا فَإِذا أذن لِابْنِهِ فِي الْوَطْء مَعَ علمه أَن الْوَطْء لَا يكون إِلَّا فِي ملك فَلَا يكون مَقْصُوده إِلَّا تمليكها وَكَانَ وَطْؤُهُ فِي ملكه فَإِذا حصل الْإِذْن بقول أَو بِفعل ثَبت التَّمْلِيك على قَول الْجُمْهُور وَهُوَ أصح وَولده حر لَا حق النّسَب بِهِ وَالْأمة أم وَلَده لَا تبَاع وَأما إِن قدر أَن الْأَب لم يصدر مِنْهُ تمْلِيك بِحَال واعتقد الابْن أَنه قد ملكهَا كَانَ أَيْضا حرا وَنسبه لاحقا وَلَا حد عَلَيْهِ وان اعْتقد الابْن أَنه لم يملكهَا وَلَكِن وَطئهَا بِالْإِذْنِ فَهَذِهِ تبنى على الأَصْل الثَّانِي فَإِن الْعلمَاء فِيمَن وطىء

أمة غَيره باذنه قَالَ مَالك يملكهَا بِالْقيمَةِ حبلت أَو لم تحبل وَقَالَ الثَّلَاثَة لَا يملكهَا بذلك فعلى قَول مَالك هِيَ أَيْضا ملك للْوَلَد وَأم وَلَده وَولده حر وعَلى قَول الثَّلَاثَة لَا تصير أم ولد لَكِن هَل لولد حر مثل أَن يطَأ جَارِيَة امْرَأَته بِإِذْنِهَا فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ إِحْدَاهمَا أَن لَا يكون حرا قوهو قَول أبي حنيفَة وَإِن ظن أَنَّهَا حَلَال لَهُ وَالثَّانيَِة أَن الْوَلَد يكون حرا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح إِذا ظن أَنَّهَا حَلَال فَهُوَ الصَّحِيح الْمَنْصُوص عَن الشَّافِعِي وَأحمد فِي الْمُرْتَهن فَإِذا وطىء الْأمة الْمَرْهُونَة بِإِذن الرَّاهِن وَظن أَن ذَلِك جَائِز فَإِن وَلَده ينْعَقد حرا لأجل الشُّبْهَة فَإِن شُبْهَة اعْتِقَاد الْملك تسْقط الْحَد بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة فَلذَلِك يُؤثر فِي حريَّة الْوَلَد فَيكون حرا بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة وَأَبُو حنيفَة يخالفهم فِي هَذَا وَيَقُول الْوَلَد مَمْلُوك وَأما مَالك فَعنده الوطىء قد ملك الْجَارِيَة بِالْوَطْءِ الْمَأْذُون فِيهِ وَهل على هَذَا الواطىء بِالْإِذْنِ قيمَة الْوَلَد فِيهِ قَولَانِ للشَّافِعِيّ أَحدهمَا وَهُوَ الْمَنْصُوص عَن أَحْمد أَنه لَا تلْزمهُ قِيمَته لِأَنَّهُ وطىء بِإِذن الْمَالِك فَهُوَ كَمَا لَو أتلف مَاله بِإِذْنِهِ الثَّانِي تلْزمهُ قِيمَته وَهُوَ قَول بعض أَصْحَاب أَحْمد وَمن أَصْحَاب الشَّافِعِي من زعم أَن هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي قولا وَاحِدًا وَأما الْمهْر فَلَا يلْزمه فِي مَذْهَب أَحْمد وَمَالك وَغَيرهمَا وَللشَّافِعِيّ فِيهِ قَولَانِ وكل مَوْضُوع لَا تصير فِيهِ الْأمة أم ولد فَإِنَّهُ يجوز بيعهَا وصلَة الرَّحِم الْمُحْتَاج أفضل من الْعتْق لِأَن مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا أعتقت جَارِيَة فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو أعطيتهَا أخوالك كَانَ خيرا لَك فَإِذا أعْطى وَلَده الْمُحْتَاج عبدا أَو جَارِيَة كَانَ أفضل من عتقهما وَإِذا ذهب ابْنه شَيْئا فَتعلق حق الْغَيْر بِهِ مثل أَن يكون قد صَار عَلَيْهِ دين أَو زوجوه لأجل ذَلِك المَال فَلَيْسَ للْأَب أَن يرجع بذلك

إِذا ملك أُخْته ربع دَاره تَمْلِيكًا مَقْبُوضا فَإِنَّهُ ينْتَقل بعْدهَا إِلَى ورثتها وَفِي سنَن أبي دَاوُد وَغَيره عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من شفع لِأَخِيهِ شَفَاعَة فأهدى لَهُ هَدِيَّة فقبلها فقد أَتَى بَابا عَظِيما من أَبْوَاب الرِّبَا وَسُئِلَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ عَن السُّحت فَقَالَ هُوَ أَن يشفع لأخيك شَفَاعَة بشفاعة فيهدى لَك هَدِيَّة فتقبلها قيل لَهُ أَرَأَيْت لَو كَانَت هَدِيَّة فِي بَاطِل فَقَالَ ذَلِك كفر {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} وَلِهَذَا قَالَ الْعلمَاء إِن من أهْدى هَدِيَّة لوَلِيّ الْأَمر ليفعل مَعَه مَالا يجوز كَانَ حَرَامًا على المهدى وَالْمهْدِي إِلَيْهِ وَهِي من الرِّشْوَة الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن الله الراشي والمرتشي والرائش وَيُسمى البرطيل والبرطيل فِي اللُّغَة الْحجر المستطيل فَأَما إِذا أهْدى لَهُ هَدِيَّة ليكف ظلمه عَنهُ أَو ليعطيه حَقه الْوَاجِب فَهَذِهِ الْهَدِيَّة تكون حَرَامًا على الْآخِذ وَجَاز للدافع كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي لأعطى أحدهم الْعَطِيَّة فَيخرج بهَا يتأبطها نَارا قيل يَا رَسُول الله فَلم تعطيهم قَالَ يأبون إِلَّا أَن يَسْأَلُونِي ويأبى الله لي الْبُخْل وَمثل ذَلِك إِعْطَاء من أعتق عبدا وكنتم عتقه أَو أسر حرا أَو كَانَ ظَالِما للنَّاس فإعطاء هَؤُلَاءِ جَائِز للمعطى حرَام على الْآخِذ وَأما الْهَدِيَّة فِي الشَّفَاعَة مثل أَن يشفع الرجل عِنْد ولي أَمر أَن يرفع عَنهُ مظْلمَة أَو يُوصل إِلَيْهِ حَقه أَو يوليه ولَايَة يَسْتَحِقهَا فِي الْجند الْمُقَاتلَة وَهُوَ يسْتَحق ذَلِك أَو يُعْطِيهِ من المَال الْمَوْقُوف على الْفُقَرَاء أَو الْفُقَهَاء أَو الْقُرْء أَو النساك أَو غَيرهم وَهُوَ من أهل الِاسْتِحْقَاق وَمثل هَذِه الشَّفَاعَة على فعل وَاجِب أَو ترك محرم فَهَذِهِ لَا يجوز فِيهَا قبُول الْهَدِيَّة وَيجوز للمهدي أَن يبْذل مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى أَخذ حَقه أَو دفع الظُّلم عَنهُ هَذَا هُوَ الْمَنْقُول عَن

السّلف ولأئمة الأكابر وَقد رخص فِيهِ بعض الْمُتَأَخِّرين من الْفُقَهَاء وَجعل هَذَا من بَاب الْجعَالَة وَهُوَ مُخَالف للسّنة وأقوال الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالْأَئِمَّة فَهُوَ غلط لِأَن مثل هَذَا الْعَمَل من الْمصَالح الْعَامَّة الَّتِي يكون الْقيام بهَا فرضا إِمَّا على الْأَعْيَان وَإِمَّا على الْكِفَايَة وَمن سوغ أحد الْجعل على مثل هَذَا لزم أَن تكون الْولَايَة وَإِعْطَاء أَمْوَال الْفَيْء وَالصَّدقَات وَغَيرهَا وكف الظُّلم عَمَّن يبْذل فِي ذَلِك وَالَّذِي لَا يبْذل لَا يولي وَلَا يعْطى وَإِن كَانَ أَحَق وأنفع للْمُسلمين من هَذَا وَالْمَنْفَعَة فِي هَذَا لَيست لهَذَا الْبَاذِل حَتَّى يُؤْخَذ من الْجعل كالجعل على الْآبِق والشارد وَإِنَّمَا الْمَنْفَعَة لعُمُوم النَّاس أَعنِي الْمُسلمين فَإِنَّهُ يجب أَن يُولى فِي كل مرتبَة أصلح من يقدر عَلَيْهَا وَأَن يرْزق من رزق الْمُقَاتلَة وَالْأَئِمَّة والمؤذنين وَأهل الْعلم وَالَّذين أَحَق الْمُسلمين وأنفعهم للْمُسلمين وَهَذَا وَاجِب على الإِمَام وعَلى الْأَئِمَّة أَن يعاونوه على ذَلِك فَمن أَخذ جعلا من شخص معِين على ذَلِك أفْضى إِلَى أَن تطالب هَذِه الْأُمُور بِالْعِوَضِ وَنَفس طلب الْولَايَة مَنْهِيّ عَنهُ فَكيف بِالْعِوَضِ وَيلْزم على ذَلِك تَوْلِيَة الْجَاهِل وَالْفَاسِق والفاجر وَيتْرك الْعَالم الْعَادِل الْقَادِر وَأَن يرْزق فِي ديوَان الْمُقَاتلَة الْفَاسِق والجبان الْعَاجِز عَن الْقِتَال وَترك الْعدْل والشجاع النافع للْمُسلمين وفاسد هَذَا كثير بل يشفع وَلَا يَأْخُذ هَذَا هُوَ الْمَأْمُور بِهِ وَأما ذَانك الْأَمْرَانِ فكلاهما مَنْهِيّ عَنهُ وَلَكِن إِذا كَانَ لَا بُد من أَخذ فقد يرجع هَذَا تَارَة وَهَذَا تَارَة أُخْرَى فَإِذا أَخذ وشفع لمن هُوَ الأحق وَالْأولَى فَهُنَا ترك الشَّفَاعَة وَالْأَخْذ أضرّ من الشَّفَاعَة وَالْأَخْذ وَيُقَال لهَذَا الشافع ذِي الجاه الَّذِي تقبل الشَّفَاعَة بجاهه عَلَيْك أَن تكون ناصحا لله وَلِرَسُولِهِ ولأئمة الْمُسلمين وعامتهم وَلَو لم يكن لَك هَذَا الجاه وَالْمَال فَكيف إِذا كَانَ لَك هَذَا الجاه وَالْمَال فَأَنت عَلَيْك أَن تنصح للمشفوع إِلَيْهِ فَتبين لَهُ من يسْتَحق الْولَايَة والاستخدام وَالعطَاء وَمن لَا يسْتَحق ذَلِك وتنصح للْمُسلمين بِفعل مثل ذَلِك وتنصح لله وَرَسُوله بطاعتهما فَإِن هَذَا من أعظم طاعتهما وَتَنْفَع أَخَاك هَذَا الْمُسْتَحق بمعاونته على ذَلِك كَمَا علك أَن تصلي وتصوم وتجاهد فِي سَبِيل الله

فصل

وَأما الرجل المقبول الْكَلَام فَإِذا أكل قدرا زَائِدا عَن الضِّيَافَة الشَّرْعِيَّة فَلَا بُد أَن يكافىء الْمطعم مثل ذَلِك وَلَا يَأْكُل الْقدر الزَّائِد وَإِلَّا فقبوله الضِّيَافَة الزَّائِدَة مثل قبُوله الْهَدِيَّة وَهُوَ من جنس الشَّاهِد والشافع إِذا أدّى الشَّهَادَة وَقَامَ بالشفاعة وَمن زكى أَو خرج بضيافة أَو جعل كَانَ هَذَا من أَسبَاب الْفساد وَمن اشْترى عبدا فوهبه شَيْئا حَتَّى أثرى ثمَّ ظهر أَنه كَانَ حرا فَلهُ أَن يَأْخُذ مِنْهُ مَا وهبه لما كَانَ ظَانّا أَنه عَبده وَمُجَرَّد التَّمْلِيك بِدُونِ الْقَبْض الشَّرْعِيّ لَا يلْزم بِهِ عقد الْهِبَة وللورثة انْتِزَاعه وَكَذَلِكَ الْهِبَة الملجئة بِحَيْثُ يُوهب فِي الظَّاهِر وَيقبض مَعَ اتِّفَاق الْوَاهِب والموهوب لَهُ على أَنه ينتزعه مِنْهُ إِذا شَاءَ وَنَحْو ذَلِك الَّتِي تجْعَل طَرِيقا إِلَى منع الْوَارِث والغرماء حُقُوقهم فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك كَانَت هبة بَاطِلَة وَإِذا عرف ذَلِك حكم بِبُطْلَانِهِ وَإِذا أعَاد إِلَيْهِ الْعين الْمَوْهُوبَة فَلَا شَيْء لَهُ غَيرهَا لَا أجرتهَا وَلَا مُطَالبَة بِالضَّمَانِ فَإِنَّهُ كَانَ ضَامِنا لَهَا وَكَانَ يطْعمهَا بانتفاعه بهَا مُقَابلَة لذَلِك فصل ثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لعمر مَا أَتَاك من هَذَا المَال وَأَنت غير سَائل وَلَا مستشرف فَخذه ومالا فَلَا تتبعه نَفسك وَثَبت أَيْضا أَن حَكِيم بن حزَام سَأَلَهُ فَأعْطَاهُ ثمَّ سَأَلَهُ فَأعْطَاهُ ثمَّ سَأَلَهُ فَأعْطَاهُ ثمَّ قَالَ يَا حَكِيم مَا أَكثر مسألتك إِن هَذَا المَال خضرَة حلوة فَمن أَخذه بسخاوة نفس بورك لَهُ فِيهِ وَمن أَخذه بإشراف نفس لم يُبَارك لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذي يَأْكُل وَلَا يشْبع فَقَالَ حَكِيم وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لَا أرزأ بعْدك أحدا شَيْئا فَكَانَ أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا يعطيانه فَلَا يَأْخُذ

فصل

فَتبين بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَن الْإِنْسَان إِذا كَانَ سَائِلًا بِلِسَانِهِ أَو مستشرفا بِقَلْبِه إِلَى مَا يعاه فَلَا يَنْبَغِي أَن يقبله إِلَّا حَيْثُ تُبَاح الْمَسْأَلَة أَو الاستشراف وَأما إِذا أَتَاهُ من غير مَسْأَلَة وَلَا استشراف فَلهُ أَخذه إِن كَانَ الَّذِي أعطَاهُ حَقه كَمَا أعْطى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمر رَضِي الله عَنهُ من بَيت المَال فَإِنَّهُ قد كَانَ لَهُ عمل فَأعْطَاهُ عمالته وَله أَن لَا يقبله كَمَا فعل حَكِيم بن حزَام وَقد تنَازع الْعلمَاء فِي وجوب الْقبُول وَالْمَشْهُور فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره أَنه إِن كَانَ أعطَاهُ مَالا يسْتَحقّهُ عَلَيْهِ فَإِن قبله وكافأه عَلَيْهِ فقد أحسن أما إِذا قبله من غير مُكَافَأَة بِالْمَالِ فَهَذَا يجوز مَعَ الْحَاجة وَيَدْعُو الله لَهُ وَأما الْغَنِيّ فَيَنْبَغِي لَهُ أَن يكافىء كَمَا فِي الحَدِيث من أسدى إِلَيْكُم مَعْرُوفا فكافئوه فَإِن لم تَجدوا مَا تكافئوه فَادعوا لَهُ حَتَّى تعلمُوا أَنكُمْ قد كافأتموه وَإِذا صَالح عَن شَيْء بِأَكْثَرَ من قِيمَته فَفِي لُزُوم هَذِه الزِّيَادَة نزاع فِي الصُّلْح يُبطلهُ طوائف من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَأحمد ويصحه أَو حنيفَة وَهُوَ قِيَاس قَول أَحْمد وَغَيره وَهُوَ الصَّحِيح إِن شَاءَ الله تَعَالَى فصل الصَّدَقَة مَا يعْطى لوجه الله ديانَة وَعبادَة مَحْضَة من غير قصد إِلَى شخص معِين وَلَا طلب عوض من جِهَته وَلَكِن يوضع فِي مَوَاضِع الصَّدَقَة كَأَهل الْحَاجَات وَأما الْهَدِيَّة فيقصد بهَا إكرام شخص معِين إِمَّا لمحبة وَإِمَّا لصدقاة وَإِمَّا لطلب حَاجَة وَلِهَذَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبل الْهَدِيَّة عَلَيْهَا فَلَا يكون لأحد عَلَيْهِ مِنْهُ وَلَا يَأْكُل أوساخ النَّاس الَّتِي يتطهرون بهَا من ذنوبهم وَهِي الصَّدقَات وَلم يكن يَأْكُل الصَّدَقَة لذَلِك وَغَيره إِذا تبين ذَلِك فالصدقة أفضل إِلَّا أَن يكون فِي الْهَدِيَّة معنى يكون بِهِ أفضل من الصَّدَقَة مثل الإهداء لآل بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محبَّة لَهُ وَمثل

الإهداء لقريب يصل بِهِ رَحْمَة أَو أَخ لَهُ فِي الله وَقد يكون أفضل من الصَّدَقَة وَالرَّقِيق الَّذِي يَشْتَرِي بِمَال الْمُسلمين كَالْمَالِ وَالْخَيْل وَالسِّلَاح الَّذِي يَشْتَرِي بِمَال الْمُسلمين أَو يهدى للملوك كل ذَلِك من أَمْوَال بَيت المَال فَإِذا تصرف فيهم الْمَالِك الثَّانِي بِعِتْق أَو إِعْطَاء فَهُوَ بِمَنْزِلَة تصرف الأول ينفذ تصرف الثَّانِي كَمَا ينفذ تصرف الأول هَذَا مَذْهَب الْأَئِمَّة كلهم مَسْأَلَة إِذا لم يقبض الابْن الْهِبَة الَّتِي خصته بهَا أمة حَتَّى مَاتَت بطلت فِي الْمَشْهُور من مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَإِن قبضهَا لم يجز على الصَّحِيح أَنه لَا يخْتَص بهَا وَحده بل يشْتَرك هُوَ وَإِخْوَته وَكَذَا إِن كتب الْأَب لِابْنِهِ فِي ذمَّته مبلغا مثل ألف دِينَار من غير إقباض فَهُوَ عقد مفسوخ وَمن وهب لِابْنِهِ هبة ثمَّ تصرف فِيهَا فَادّعى أَنه ملكه تضمن ذَلِك الرُّجُوع لِأَنَّهُ أقرّ إِقْرَارا لَا يملك إنشاءه وَمن عَلَيْهِ دين يسْتَغْرق مَاله فَلَيْسَ لَهُ فِي مرض مَوته أَن يتَبَرَّع بِهِبَة وَلَا مُحَابَاة وَلَا إِبْرَاء إِلَّا باجازة الْغُرَمَاء بل لَيْسَ للْوَرَثَة حق إِلَّا بعد وَفَاء الدّين مَسْأَلَة وَإِذا أبرأت الْمَرْأَة زَوجهَا من صَدَاقهَا ثمَّ طَلقهَا فَهَل لَهَا الرُّجُوع إِذا كَانَ يملكنها لكَون مثل هَذَا الْإِبْرَاء لَا يصدر فِي الْعَادة إِلَّا على أَن يمْسِكهَا أَو خوفًا من أَن يطلقهَا أَو يتَزَوَّج عَلَيْهَا أَو نَحْو ذَلِك فَفِيهِ قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وَأما إِذا كَانَت قد طابت نَفسهَا بِالْإِبْرَاءِ مُطلقًا وَهُوَ أَن يكون ابْتِدَاء مِنْهَا لَا بِسَبَب مِنْهُ وَلَا عوض فَهُنَا لَا نرْجِع بِلَا ريب وَالله أعلم

كتاب الجراح

كتاب الْجراح والديانات والقود وَغير ذَلِك مو وَجب لَهُ الْقود فَلهُ الْقود وَله أَخذ الدِّيَة بِغَيْر رضَا الْقَاتِل فِي مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَا تُؤْخَذ الدِّيَة إِلَّا بِرِضا الْقَاتِل وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك إِذا خنقه الخنق الَّذِي يقتل غَالِبا وَجب الْقود عِنْد الْجُمْهُور كمالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وصاحبي أبي حنيفَة وَلَو ادّعى أَن هَذَا لَا يقتل غَالِبا لم يقبل قَوْله بِغَيْر حجَّة وَأما إِن كَانَ أَحدهمَا قد غشي عَلَيْهِ بعدالخنق ورفسه الآخر بِرجلِهِ حَتَّى خرج من فِيهِ شَيْء فَمَاتَ فَهُنَا يجب فِيهِ الْقود بِلَا ريب مَسْأَلَة وَمن شرب الْخمر ثمَّ قتل وَهُوَ يعلم مَا يَقُول فَهُوَ قَاتل يجب عَلَيْهِ الْقود وَأما إِن كَانَ لَا يعلم مَا يَقُول فَفِيهِ قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد أَكثر الْفُقَهَاء يوجبون الْقود فَإِن لم يشْهد بِالْقَتْلِ إِلَّا وَاحِد لم يحكم بِهِ إِلَّا أَن يحلف مَعَ ذَلِك أَوْلِيَاء الْمَقْتُول خمسين يَمِينا وَهَذَا إِن مَاتَ بِضَرْب وَكَانَ ضربه عُدْوانًا مَحْضا فَأَما إِن مَاتَ فِي مُضَارَبَة مَعَ آخر فَفِي الْقود نزاع وَكَذَلِكَ إِن ضربه دفعا لعدوانه عَلَيْهِ وضربه مثل ضربه سَوَاء مَاتَ بِسَبَب الضَّرْب أَو غَيره وَلَو رفسه فِي أنثييه فَمَاتَ فَهُوَ عمد لِأَنَّهُ يقتل غَالِبا وَلَيْسَ لوَلِيّ الْأَمر أَن يَأْخُذ من الْقَاتِل شَيْئا لنَفسِهِ وَلَا لبيت المَال وَإِنَّمَا الْحق لأولياء الْمَقْتُول

فصل

فصل الْقَاتِل خطأ لَا يُؤْخَذ مِنْهُ قصاص فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة بل الْوَاجِب الْكَفَّارَة وَالدية وَأما الْقَاتِل عمدا إِن اقْتصّ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ الْمَقْتُول أَن يسْتَوْفى حَقه فِي الْآخِرَة فِيهِ قَولَانِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَفِي مَذْهَب غَيره فِيمَا أَظن قيل يسْقط حَقه لِأَن الْحق استوفى وَقيل بل لَهُ عَلَيْهِ حق فَإِن حَقه لم يسْقط بقتل الْوَرَثَة كَمَا لَا يسْقط حق الله بذلك وكما لَا يسْقط حق الْمَظْلُوم الَّذِي غضب مَاله وأعيد إِلَى ورثته بل لَهُ أَن يُطَالب الظَّالِم بِمَا حرمه من الِانْتِفَاع بِهِ فِي حَيَاته وَمن دفنت ابْنهَا فِي الْحَيَاة حَتَّى مَاتَ فَهُوَ أَرَادَ يجب عَلَيْهَا الدِّيَة تكون لوَرثَته لَيْسَ لَهَا مِنْهَا شَيْء بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة وَفِي وجوب الْكَفَّارَة عَلَيْهَا قَولَانِ وَكَذَلِكَ لَو عاندت فَأسْقطت جَنِينهَا إِمَّا بِضَرْب أَو شَيْء دَوَاء وَجب عَلَيْهِ غرَّة لوَرثَته غير أمه تكون الْغرَّة عشر الدِّيَة خمسين دِينَارا وَعَلَيْهَا عِنْد أَكثر الْعلمَاء عتق رَقَبَة مُؤمنَة فَإِن لم تَجِد فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين فَإِن لم تستطع أطعمت سِتِّينَ مِسْكينا وَإِسْقَاط الْحمل حرَام بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَهُوَ من الوأد وَمن تَعَمّده عُوقِبَ عُقُوبَة تردعه وَأَمْثَاله وَذَلِكَ مِمَّا يقْدَح فِي دينه وعدالته مثل أَن يطَأ جَارِيَته ويلطخ ذكره بقطران اَوْ يسقيها سما أَو غَيره مِمَّا يسْقط جَنِينهَا وَإِذا جنى الصَّبِي خطأ ففقأ عينا أَو قلع سنا فديته على عَاقِلَته كَالْبَالِغِ وَأولى وَإِن فعله عمدا فَهُوَ خطأ عِنْد الْجُمْهُور كَأبي حنيفَة وَمَالك وَاحْمَدْ فِي الْمَشْهُور وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه وَالْقَوْل الآخر عمده فِي مَاله وَإِذا وَجب عَلَيْهِ شَيْء

وَلم يكن لَهُ مَال حمله عَنهُ أَبوهُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد روى ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَالْقَوْل الآخر فِي ذمَّته وَلَيْسَ على أَبِيه شَيْء وَإِذا حمل حر وَعبد خَشَبَة فتهورت عَليّ رجل من غير عمد مِنْهُمَا فَقتلته فَإِن حصل مِنْهُمَا تَفْرِيط أَو عدوان وَجب الضَّمَان وَإِن كَانَ الْوَاقِف هُوَ المفرط بوقوفه حَيْثُ لَا يصلح الْمَكَان فَلَا ضَمَان وَإِن لم يحصل تَفْرِيط من أحد وَكَانَ التّلف بِمُبَاشَرَة مِنْهُمَا فعلَيْهِمَا الضَّمَان وَإِن كَانَ بطرِيق السَّبَب فَلَا ضَمَان وَإِذا وَجب الضَّمَان فَالضَّمَان عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فنصيب العَبْد فِي رقبته وليسيده فداؤه ويفتديه بِأَقَلّ الْأَمريْنِ من قِيمَته وَقدر جِنَايَته وَإِن تغيب فَلَا شَيْء على السَّيِّد وَلَا يجوز قتل الذِّمِّيّ بِغَيْر حق فَإِن قَتله مُسلم فَلَا قَود وَعَلِيهِ دِيَته لوَرثَته وَكَفَّارَة الْقَتْل وَإِن كَانَ عمدا فقد قضى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ بِتَضْعِيف الدِّيَة فَيجب دينة مُسلم ومظالم الْعباد لَا تسْقط بِمُجَرَّد اسْتِغْفَار العَبْد بل يوفيهم الله من حَسَنَات الظَّالِم أَو من عِنْده وَمن أقرّ بِالْقَتْلِ مكْرها فَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ حكم بقتل وَلَا غَيره إِذا لم يتَبَيَّن صدق إِقْرَاره وَإِن أقرّ وَاحِد عدل أَنه قَتله فَهُوَ لوث لأولياء الْمَقْتُول أَن يحلفوا خمسين يَمِينا ويستحقون الدَّم وَمن أَخذ مَاله فانهم بِهِ رجلا من أهل التهم فَضَربهُ على تَقْرِيره فَأقر ثمَّ أنكر فَضَربهُ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيهِ أَن يعْتق رَقَبَة مُؤمنَة وَتجب دِيَة الْمَقْتُول وَلَو فعل بِهِ فعلا لَا يقتل إِلَّا أَن يُصَالح ورثته على أقل من ذَلِك غَالِبا بِلَا حق وَلَا شُبْهَة لوَجَبَ الْقود وَلَو كَانَت بِحَق لم يجب شَيْء

فصل في القسامة

وَإِذا اتّفق الْكِبَار من الْوَرَثَة على الْقَتْل فَلهم ذَلِك عِنْد أَكثر الْعلمَاء كَأبي حنيفَة وَمَالك فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَمن قتل فَعَفَا عَنهُ الْأَوْلِيَاء على أَنه لَا ينزل بِلَادهمْ وَلَا يسكنهَا وَلم يَفِ بِهَذَا الشَّرْط لم يكن الْعَفو لَازِما بل لَهُم أَن يطالبوه بِالدِّيَةِ فِي قَول وبالدم فِي قَول آخر وَسَوَاء قيل هُوَ شَرط صَحِيح أم فَاسد وَسَوَاء قيل يفْسد العقد بفساده أم لَا فَإِن ذَيْنك الْقَوْلَيْنِ مبنيان على هَذِه الْأُصُول وَإِذا ضرب رجلا فَقلع أَسْنَانه وَكَانَت الضَّرْبَة تقلع الْأَسْنَان عَادَة فَفِيهِ الْقصاص فيقلع من أَسْنَانه مثل مَا قلع وَإِذا قَالَ لزوجته أسقطي مَا فِي بَطْنك وَالْإِثْم عَليّ فَفعلت وَسمعت مِنْهُ فعلَيْهَا الْكَفَّارَة عتق رَقَبَة مُؤمنَة وَعَلَيْهَا غرَّة وَإِذا وعد رجلا بِشَيْء عَليّ أَن يقتل لَهُ فلَانا فعلى الْقَاتِل الْقود وَأما الواعد فَعَلَيهِ الْعقُوبَة الَّتِي تردعه وَأَمْثَاله وَعند بَعضهم الْقود وَمن نزل مَكَانا فجَاء لص سرق قماشه فلحق السَّارِق فَضَربهُ بِالسَّيْفِ فَمَاتَ وَكَانَ هَذَا هُوَ الطَّرِيق فِي استرجاع مَا مَعَ السَّارِق لم يلْزم الضَّارِب شَيْء فقد روى عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَن لصا دخل دَاره فَقَامَ إِلَيْهِ بِالسَّيْفِ فلولا أَنهم ردُّوهُ عَنهُ لضربه بِالسَّيْفِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من قتل دون مَال فَهُوَ شَهِيد وَمن علم بِوُقُوع بنائِهِ فَلم ينْقضه فأتلف صَغِيرا فَعَلَيهِ الضَّمَان فِي أحد قولي الْعلمَاء فصل فِي الْقسَامَة إِذا قَالَ الْقَتِيل فلَان قتلني فَلَا يُؤْخَذ بِمُجَرَّد قَوْله بِلَا نزاع وَهل يكون لؤثا يحلف مَعَه أَوْلِيَاء الْمَقْتُول خمسين يَمِينا ويستحقون دم الْمَحْلُوف عَلَيْهِ إِذا كَانَ بِهِ أثر ضرب أَو جرح فَفِيهِ قَولَانِ أَحدهمَا أَنه لوث وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّانِي لَا وَهُوَ قَول البَاقِينَ

وَلَو شهد شَاهِدَانِ لم تثبت عدالتهما فَهُوَ لوث للأولياء أَن يحلفوا ويستحقون الذَّم وَمن أحد من أَمْوَال النَّاس شَيْئا يجب عَلَيْهِ إِحْضَاره كالأمانات وَادّعى هلاكها دَعْوَى تكذبها الْعَادة لم يلْتَفت إِلَى قَوْله بل يُعَاقب حَتَّى يحضرهُ كالمدين إِذا غيب مَاله وأصر على الْحَبْس ضرب أَيْضا وَمن عرف بِالشَّرِّ ضرب إِذا اتهمَ بِسَرِقَة أَو غَيرهَا حَتَّى يعْتَرف وَمن لم يعْتَرف يحبس حَتَّى يتَبَيَّن أمره وَمن عرف بِالْخَيرِ لم يقبل عَلَيْهِ تُهْمَة أحد بل لَا يستحف فِي أحد قولي الْعلمَاء بل يُؤَدب من اتهمه وَمن اتهمَ بقتيل وَهُنَاكَ لوث ويغلب على الظَّن أَنه قَتله لعداوة أَو توعد بقتل وَنَحْوه جَازَ لأولياء الْمَقْتُول أَن يحلفوا خمسين يَمِينا ويستحقون دَمه وَأما ضربه لِيُقِر فَلَا يجوز إِلَّا مَعَ الْقَرَائِن الَّتِي تدل على أَنه قَتله فَإِن بَعضهم جوز تَقْرِيره بِالضَّرْبِ فِي هَذِه الْحَال وَمنعه بَعضهم مُطلقًا وَلَيْسَ على أهل الْبقْعَة فِي الْعَادة السُّلْطَانِيَّة وَلَا فِي حكم الشَّرِيعَة شَيْء وَمن رأى رجلا قد قتل وَهُوَ قَاطع طَرِيق وَعلم من وُلَاة الْأَمر أَنهم يطلبونه ليقتلوه وَقدر عَلَيْهِ جَازَ قَتله بل يُؤجر على ذَلِك وَإِن كَانَ قد قَتله لغَرَض كعداوة فَالْأَمْر إِلَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول إِن أذنوا فِيهِ جَازَ قَتله وروى أَبُو دَاوُد عَن النُّعْمَان بن بشير أَنه قَالَ لقوم طلبُوا مِنْهُ أَن يضْرب رجلا على تُهْمَة قَالَ إِن شِئْتُم ضَربته لكم فَإِن ظهر مالكم عِنْده وَإِلَّا ضربتكم مثل مَا ضَربته فَقَالُوا هَذَا حكمك فَقَالَ هَذَا حكم الله وَرَسُوله وَهَذَا فِي ضرب من لم يعرف بِالشَّرِّ أما من عرف بِالشَّرِّ فَذَاك مقَام آخر فَيسْتَحق الْمَضْرُوب أَن يضْرب من ضربه من المتهمين لَهُ إِذا لم يعرف بِالشَّرِّ قبل ذَلِك

وَفِي هَذَا دَلِيل على أَنه يجوز ضرب من لم يعرف بِالشَّرِّ وَقد تقدم فِي كَلَامه أَنه لَا يضْرب بل يحبس إِمَّا شهرا وَإِمَّا بِحَسب مَا يرى ولي الْأَمر حَتَّى يتَبَيَّن أمره فَحَمله حَدِيث النُّعْمَان على من لم يعرف بشر مُشكل وَمن كذب على رجل حَتَّى ضرب وعلق وطافوا بِهِ وَحبس فَيجب عُقُوبَة الْكَاذِب عُقُوبَة تردعه وَأَمْثَاله بل جُمْهُور السّلف يوجبون الْقصاص فِي مثل ذَلِك فَمن ضرب غَيره أَو جرحه بِغَيْر حق فَإِنَّهُ يفعل بِهِ كَمَا فعل كَمَا قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أَيهَا النَّاس إِنِّي لم أبْعث عمالي إِلَيْكُم ليضربوا أبشاركم وَلَا ليأخذوا أَمْوَالكُم وَلَكِن ليعلموكم كتاب الله وَسنة نَبِيكُم ويقسموا بَيْنكُم فيئكم فَلَا يبلغنِي أَن أحدا ضربه عَامله بِغَيْر حق إِلَّا أقدته فَرَاجعه عَمْرو ابْن الْعَاصِ فِي ذَلِك فَقَالَ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقاد من نَفسه إِذا قتل جمَاعَة وَاحِدًا قتل الَّذين باشروا قَتله وَأما من أعانوا على ذَلِك مثل أَن أدخلوهم إِلَى بَيته أَو حفظوا الْأَبْوَاب وَنَحْو ذَلِك فَفِي قَتلهمْ قَولَانِ للْعُلَمَاء وَإِن كَانَ شَارك فِي قَتله أَوْلَاده الصغار فَلَا مِيرَاث لَهُم فِي أحد قولي الْعلمَاء وَهُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد بل يعاقبون بالتأديب وَلَا يقتلُون وَمذهب أبي حنيفَة وَمَالك يورثون إِذا عَاد أحد مُقَاتِلًا مُمْتَنعا من الطَّائِفَة الْمفْسدَة الَّذين خَرجُوا عَن الطَّاعَة وَفرقُوا الْجَمَاعَة وعدوا على الْمُسلمين فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ بِغَيْر حق وَقد طلبُوا الْقيام ليقام فيهم أَمر الله وَرَسُوله فَالَّذِي عَاد مِنْهُم مُقَاتِلًا مُمْتَنعا يجوز قِتَاله وَلَا شَيْء على من قَتله بل المحاربون يَسْتَوِي فيهم المعاون والمباشر عِنْد جُمْهُور الْأَئِمَّة أَحْمد وَمَالك وَأبي حنيفَة فَمن عاونهم كَانَ حكمه حكمهم وَيجوز بل يجب بِإِجْمَاع الْمُسلمين قتال كل طَائِفَة ممتنعة عَن شَرِيعَة من شرائع الْإِسْلَام الظَّاهِرَة المتواترة مثل الطَّائِفَة الممتنعة عَن إِقَامَة الصَّلَوَات الْخمس

فصل

أَو عَن أَدَاء الزَّكَاة عَن الصّيام الْمَفْرُوض وَمثل من لَا يمْتَنع عَن سفك دِمَاء الْمُسلمين وَأخذ أَمْوَالهم بِالْبَاطِلِ وَمثل ذَوي الشَّوْكَة المقيمين بِأَرْض لَا يصلونَ بهَا وَلَا يتحاكمون بَينهم بِالشَّرْعِ الَّذِي بعث الله بِهِ رَسُوله وَلَا عِنْدهم مَسْجِد وَلَا يُؤذنُونَ وَلَا يزكون مَعَ وُجُوبهَا عَلَيْهِم أَو يقتل بَعضهم بَعْضًا وينهب بَعضهم مَال بعض وَيقْتلُونَ الْأَطْفَال ويسبونهم ويتبعون مَا يسنه الأفرنج وَإِذا دعى أحدهم إِلَى الشَّرْع قَالَ أَنا للشَّرْع فَهَؤُلَاءِ يجب قِتَالهمْ كَمَا أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتل الْخَوَارِج مَعَ كَون الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَانَ أحدهم يحقر صلَاته مَعَ صلَاتهم وصيامه مَعَ صِيَامهمْ فَقَاتلهُمْ عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَيدعونَ قبل الْقِتَال إِلَى الْتِزَام شرائع الْإِسْلَام فَإِن التزموها استوثق مِنْهُم وَلم يكتف بِمُجَرَّد قَوْلهم بل تنْزع مِنْهُم الْخَيل وَالسِّلَاح كَمَا فعل أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ بِأَهْل الرِّدَّة حَتَّى يرى مِنْهُم السّلم وَيُرْسل إِلَيْهِم من يعلمهُمْ الْإِسْلَام وَيُقِيم بهَا الصَّلَاة ويستخدم بعض المطيعين مِنْهُم فِي جند الْمُسلمين ويجعلهم فِي جمَاعَة الْمُسلمين وَيمْنَعُونَ من ركُوب الْخَيل وَأخذ السِّلَاح حَتَّى يستقيموا فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا الله وَرَسُوله وَإِلَّا وَجب قِتَالهمْ حَتَّى يلتزموا شرائع الْإِسْلَام الظَّاهِرَة المتواترة وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ بَين عُلَمَاء الْإِسْلَام فصل هَذِه الْفِتَن الَّتِي تقع بَين الْبَادِيَة ويزعمون أَنهم من أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كحرام وَسعد وهلال وثعلبة وأمثالهم من أعظم الْفِتَن الْمُحرمَات وأكبر الْمُنْكَرَات فَيجب أَن يكون بعد الْمُسلمين من يَأْمُرهُم بِالْخَيرِ والاجتماع على مَا يُحِبهُ لله وَرَسُوله من عِبَادَته وَحده لَا شريك لَهُ والتعاون على الْبر وَالتَّقوى

ويؤمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَالْوَاجِب أَن يسْعَى بَين هَاتين الطَّائِفَتَيْنِ بِالصُّلْحِ الَّذِي أَمر الله بِهِ رَسُوله وَيُقَال لهَذِهِ مَا تنقم من هَذِه ولهذه مَا تنقم من هَذِه وَمن كَانَ من الطَّائِفَتَيْنِ يظنّ أَنه مظلوم مبغي عَلَيْهِ فَإِذا صَبر وَعَفا أعزه الله تَعَالَى وَنَصره وَمن كَانَ بَاغِيا فَاسِقًا فليتق الله وليتب إِلَيْهِ وَهَذِه الْفِتَن سَببهَا الذُّنُوب فعلى كل من الطَّائِفَتَيْنِ أَن يسْتَغْفر الله وَيَتُوب إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يرفع عَنْهُم الْعَذَاب وَينزل عَلَيْهِم الرَّحْمَة قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ} وَأجْمع الْمُسلمُونَ على جَوَاز مقاتلة قطاع الطَّرِيق فَإِذا طلبُوا مَالا لمعصوم لم يَصح أَن يعطيهم شَيْئا بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة بل يدفعهم بالأسهل فالأسهل فَإِن لم يندفعوا إِلَى الْقِتَال فَلهُ أَن يقاتلهم فَإِن قتل كَانَ شَهِيدا وَإِن قتل مِنْهُم وَاحِدًا على هَذَا الْوَجْه كَانَ دَمه هدرا وَكَذَلِكَ إِذا طلبُوا دَمه وَفِي وجوب دَفعه عَن عَدمه نزاع هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وَلَا يجب الدّفع عَن مَاله قَالَ الله تَعَالَى {وَبشر المخبتين} قَالَ عَمْرو بن أَوْس رَحمَه الله عَلَيْهِ هم الَّذين لَا يظْلمُونَ إِذا ظلمُوا فَيَنْبَغِي الصَّبْر على الظَّالِم وَألا يُقَاتل الْبَغي ببغي كَمَا قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ لَو بغى جبل على جبل لجعل الله الْبَاغِي مِنْهُمَا دكا وَمن حِكْمَة الشّعْر ... قضى الله أَن الْبَغي يصرع أَهله ... وَأَن على الْبَاغِي تَدور الدَّوَائِر ... وَيشْهد لهَذَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا بَغْيكُمْ على أَنفسكُم}

فصل

فصل هَذِه الْأُخوة الَّتِي تكون بَين بعض النَّاس فِي هَذَا الزَّمَان وَقَول كل وَاحِد مِنْهُمَا مَالِي مَالك ودمى دمك وَوَلَدي ولدك وَيشْرب أَحدهمَا دم الآخر فَهَذَا الْفِعْل على هَذَا الْوَجْه غير مَشْرُوع بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَإِنَّمَا كَانَ أصل الْأُخوة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وحاف بَينهم فيدار أنس بن مَالك كَمَا آخى بَين سعيد بن الرّبيع وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَبَين سُلَيْمَان الْفَارِسِي وَأبي الدَّرْدَاء وَأما مَا يذكرهُ بعض المصنفين من أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آخى عليا وآخى أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُم وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا بَاطِل بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة فَإِنَّهُ لم يؤاخ بَين مُهَاجِرِي ومهاجري وَإِنَّمَا آخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَكَانُوا يتوارثون بالمؤاخاة حَتَّى نزل {وأولو الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} وَتَنَازَعُوا اهل يُورث بهَا عِنْد تقدم الْوَرَثَة على قَوْلَيْنِ هما رِوَايَتَانِ عِنْد أَحْمد وَكَذَلِكَ تنَازع النَّاس هَل يشرع فِي الْإِسْلَام أَن يتآخى اثْنَان ويتحالفا كَمَا فعل الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم فَقيل إِن ذَلِك مَنْسُوخ لما رَوَاهُ مُسلم أَنه قَالَ لَا حلف فِي الْإِسْلَام وَمَا من حلف كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة إِلَّا زَاده الْإِسْلَام شدَّة وَلِأَن الله تَعَالَى جعل المومنين بِنَصّ الْقُرْآن وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخُو الْمُسلم فَمن كَانَ قَائِما بِوَاجِب الْإِيمَان كَانَ أَخا لكل مُؤمن وَيجب عَلَيْهِ أَن يقوم بحقوقه وَإِن لم يجر بَينهمَا عقد أخوة خَاص فَإِن الله وَرَسُوله قد عقدا الْأُخوة بَينهمَا فَيجب على كل مُسلم أَن يكون حبه وبغضه ومعاداته وموالاته تبعا لحب الله وَرَسُوله ولأمر الله وَرَسُوله وَمن النَّاس من يَقُول يشرع مثل ذَلِك تِلْكَ المؤاخاة والمحالفة وَهُوَ يُنَاسب من

يَقُول بالتوارث بالمحافة لَكِن لَا نزاع بَين الْمُسلمين فِي أَن ولد أَحدهمَا يضرون ولد الآخر بإرثهم مَعَ أَوْلَاده فَإِن الله تَعَالَى قد نسخ التبنى الَّذِي كَانَ من دين الْجَاهِلِيَّة حَيْثُ كَانَ الرجل يتبنى ولد غَيره وَكَذَلِكَ لَا يصير مَال كل وَاحِد مِنْهُمَا مَالا للْآخر يُورث عَنهُ وَلَكِن إِذا طابت نفس الْوَاحِد بِمَا يتَصَرَّف الآخر فِيهِ من مَاله فَهَذَا جَائِز كَمَا كَانَ السّلف يَفْعَلُونَ فقد كَانَ أحدهم يدْخل بَيت الآخر فيأكل من طَعَامه مَعَ غيبته بِطيب نَفسه بذلك كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَو صديقكم} وَأما شرب كل مِنْهُمَا دم الآخر فَهَذَا لَا يجوز بِحَال وَيُشبه هَذَا بالذين يتآخون متعاونين على الْإِثْم والعدوان بالاكتواء وعَلى حب المردان وَهَذَا مثل مؤاخاة من ينتسب الى المشيخة والسلوك للنِّسَاء فيؤاخى أحدهم الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة ويخلو بهَا وَقد أقرّ طوائف من هَؤُلَاءِ بِمَا جرى بَينهم من الْفَوَاحِش فَمثل هَذِه المؤاخاة مِمَّا فِيهِ تعاون على الْإِثْم والعدوان كَائِنا مَا كَانَ حرَام بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَإِنَّمَا النزاع فِي مؤاخاة يكون مقصودها التعاون على الْبر وَالتَّقوى بِحَيْثُ تجمعهما طَاعَة الله وتفرق بَينهمَا مَعْصِيّة الله كَمَا يَقُولُونَ تجمعنا السّنة وتفرقنا الْبِدْعَة فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي فِيهَا النزاع فَأكْثر الْعلمَاء لَا يرونها اكْتِفَاء بالأخوة فِي الْإِسْلَام الَّتِي عقدهَا الله وَرَسُوله وَبِالْجُمْلَةِ فَكل شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل وَإِن كَانَ مائَة شَرط سَوَاء فِي ذَلِك البيع وَالْإِجَارَة والأخوة والمشيخة وَغَيرهَا وَإِذا اقتتل طَائِفَتَانِ من الفلاحين وَغَيرهم فَانْهَزَمَ وَاحِد تَوْبَة وخوفا من الله لم يحكم لَهُ بالنَّار وَأما إِن كَانَ قد انهزم عَجزا وَلَو قدر على خَصمه لقَتله فَهُوَ فِي النَّار كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا التقى المسلمان بسفيهما فالقاتل والمقتول فِي النَّار قيل يَا رَسُول الله هَذَا الْقَاتِل فَمَا بَال الْمَقْتُول قَالَ إِنَّه أَرَادَ قتل صَاحبه فَإِذا كَانَ الْمَقْتُول فِي النَّار مَعَ كَونه لَيْسَ أَسْوَأ حَالا مِمَّن انهزم فَكيف بالمنهزم فمصيبة قَتله لم تكفر مَا كَانَ حَرِيصًا عَلَيْهِ من قتل صَاحبه وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَة من

فصل

الْفُقَهَاء إِن مُنْهَزِم الْبُغَاة يقتل إِذا كَانَ لَهُ طَائِفَة يأوى إِلَيْهَا فيخاف عودة بِخِلَاف المثحن مِنْهُم والمقتول قد يُقَال إِنَّه يكفر عَنهُ بعض ذَنبه مَعَ أَنه مَعَ أهل النَّار بِخِلَاف المنهزم الْمصر على الْحِنْث الْعَظِيم فانه أَسْوَأ حَالا مِنْهُ فصل هَؤُلَاءِ الْقَوْم المسمون بالنصيرية الَّذين ينزلون جبال الدروز من بِلَاد الشَّام وَغَيرهَا وَسَائِر أَصْنَاف القرامطة الباطنية هم أكفر من الْيَهُود وَالنَّصَارَى بل وأكفر من كثير من الْمُشْركين وَفِيهِمْ من جنس دين البراهمة والوثنيين والملحدين وضررهم على أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعظم من الْكفَّار الْمُحَاربين مثل كفار التّرْك والافرنج وَغَيرهم فَإِن هَؤُلَاءِ يتظاهرون عِنْد جهال الْمُسلمين بالتشيع وموالاة أهل الْبَيْت وهم فِي الْحَقِيقَة لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِرَسُولِهِ وَلَا بكتابه وَلَا بِأَمْر وَلَا نهي وَلَا ثَوَاب وَلَا عِقَاب وَلَا جنَّة وَلَا بِأحد من الْمُرْسلين وَلَا شَرِيعَة من الشَّرَائِع السماوية وَلَا بِملَّة من الْملَل بل يحرفُونَ كَلَام الله وَرَسُوله الْمَعْرُوف عِنْد الْمُسلمين إِلَى أُمُور من الالحاد وَالْكفْر يدعونَ أَنَّهَا من علم الْبَاطِن وَهُوَ الزندقة والشرك وَتَكْذيب الله وكل رسله إِذْ مقصودهم الْحَقِيقِيّ هُوَ هدم الْإِيمَان وَشَرَائِع الْإِسْلَام بِكُل طَرِيق من جنس قَوْلهم إِن الصَّلَوَات الْخمس معرفَة أسرارهم وَالصِّيَام الْمَفْرُوض كتمان أسرارهم وَحج الْبَيْت الْعَتِيق زِيَارَة شيوخهم وَأَن يَد أبي لَهب أَبُو بكر وَعمر وَأَن النبأ الْعَظِيم وَالْإِمَام الْمُبين على ابْن ابي طَالب وَلَهُم فِي معاداة الْإِسْلَام وَأَهله وقائع مَشْهُورَة وَكتب مصنفة وَكلما سنحت لَهُم الفرصة سَفَكُوا دِمَاء الْمُسلمين كَمَا قتلوا الْحجَّاج وألقوهم فِي زَمْزَم وَأخذُوا الْحجر الْأسود فَبَقيَ مَعَهم مُدَّة حَتَّى رده خلفاء العباسيين وَقتلُوا من عُلَمَاء الْمُسلمين ومشايخهم وأمرائهم وجندهم من لَا يحصي عَددهمْ إِلَّا الله وصنف عُلَمَاء الْمُسلمين كتبا فِي هتك أستارهم وبينوا فِيهَا مَا هم عَلَيْهِ من الْكفْر الشنيع والزندقة

وَمن الْمَعْلُوم عِنْد أهل الْمعرفَة من الْمُسلمين أَن النَّصَارَى مَا استدلوا على السواحل الشامية إِلَّا من جهتهم وهم دَائِما مَعَ كل عَدو للْمُسلمين وَمن أعظم المصائب عِنْدهم انتصار الْمُسلمين على النَّصَارَى والتتار وَمن أعظم أعيادهم إِذا استولى وَالْعِيَاذ بِاللَّه النَّصَارَى على ثغور الْمُسلمين وبلادهم وبسببهم استولى النَّصَارَى على الْقُدس وَغَيره وبسببهم استولى التتار على بَغْدَاد وَقتلُوا الْخَلِيفَة وَقتلُوا من أهل بَغْدَاد مَالا يعلم عَددهمْ إِلَّا الله وأحرقوا الْكتب الإسلامية وأفسدوا فَسَادًا عَظِيما ثمَّ لما أَقَامَ الله مُلُوك الْمُسلمين الْمُجَاهدين فِي سَبِيل الله كنور الدّين الشَّهِيد وَصَلَاح الدّين وأتباعهما وفتحوا السواحب واستخلصوا الْبِلَاد الإسلامية من أَيدي النَّصَارَى وَمِمَّنْ كَانَ بهَا مِنْهُم وفتحوا أَيْضا أَرض مصر واستنفذوها من العبيدين الَّذين كَانُوا على دين هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَة القرامطة فَمن ذَلِك التَّارِيخ انتشرت دَعْوَة الْإِسْلَام بالبلاد المصرية والشامية وَلَهُم ألقاب مَعْرُوفَة عِنْد الْمُسلمين فَتَارَة يسمون الْمَلَاحِدَة وَتارَة يسمون القرامطة وَتارَة يسمون الباطنية وَتارَة يسمون الاسماعيلية وَتارَة يسمون النصيرية وَتارَة يسمون الخرمية وَتارَة يسمون المحمرة كَمَا قَالَ الْعلمَاء فيهم ظَاهر مَذْهَبهم الرَّفْض وباطنه الْكفْر الْمَحْض وَحَقِيقَة أَمرهم أَنهم يكفرون بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر وهم تَارَة يبنون قَوْلهم على مَذْهَب المتفلسفة الطبيعين وَتارَة يبنونه على قَول الْمَجُوس الَّذِي يعْبدُونَ النُّور وَتارَة على غير ذَلِك من دُيُون الوثنيين ويتدرجون من كل إِلَى االرفض ويموهون على الْعَامَّة بالاحتجاج بتحريف الْآيَات وَالْأَحَادِيث أَو بِالْكَذِبِ على الله وَرَسُوله كَمَا يَزْعمُونَ كذبا أَن أول مَا خلق الله الْعقل حَدِيث وَهُوَ من وضعهم وكذبهم على قَوَاعِد الفلسفة اليونانية والهندية والمصرية الْقَدِيمَة الْقَائِلين أول الصادرات عَن وَاجِب الْوُجُود هُوَ الْعقل الْكُلِّي وَقد دخل كثير من باطلهم على كثير من الْمُسلمين وراج عَلَيْهِم حَتَّى صَار فِي كتب طوائف من المنتسبين إِلَى الْعلم وَالدّين

وبالأخص الصُّوفِيَّة وَإِن كَانَ الْعَامَّة مِنْهُم لَا يوافقونهم على أصل كفرهم لأَنهم لَا يعْرفُونَ حَقِيقَته وَلَو عرفوه لتبرءوا مِنْهُ وَلَهُم فِي إِظْهَار دعوتهم المعلونة الَّتِي يسمونها الدعْوَة الهادية دَرَجَات مُتعَدِّدَة ويسمون النِّهَايَة الْبَلَاغ الْأَكْبَر والناموس الْأَعْظَم ومضمون الْبَلَاغ الْأَكْبَر عِنْدهم جحد الخالف والاستهزاء بِهِ وبمن يقربهُ حَتَّى يكْتب أحدهم اسْم الله فِي أَسْفَل رجله وَفِيه أَيْضا جحد شرائعه تَعَالَى وَدينه وَجحد مَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاء إِذْ أَن الْأَنْبِيَاء عِنْدهم كَانُوا من جنسهم طَالِبين للرئاسة فَمنهمْ من أحسن فِي طلبَهَا وَمِنْهُم من أَسَاءَ فِي طلبَهَا تى قتل ويجعلون مُحَمَّدًا ومُوسَى من الْقسم الأول ويجعلون الْمَسِيح من الْقسم الثَّانِي وَفِيهِمْ من الِاسْتِهْزَاء بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج وَمن تَحْلِيل نِكَاح ذَوَات الْمَحَارِم وَسَائِر الْفَوَاحِش مَا يطول وَصفه وَلَهُم شارات ورموز فِي الْخطاب يعرف بهم بَعضهم بَعْضًا لذَلِك يخفى أَمرهم على أَكثر النَّاس إِلَّا القطنين الَّذين هم على بَيِّنَة وبصيرة فِي دين الْإِسْلَام وَقد اتّفق عُلَمَاء الْمُسلمين على أَن مثل هَؤُلَاءِ لَا تجوز مناكحتهم وَلَا تُبَاح ذَبَائِحهم وَأم الْجُبْن الْمَعْمُول بأنفحة ذَبَائِحهم فَفِيهِ قَولَانِ مشهوران للْعُلَمَاء كَسَائِر أنفحة الْميتَة وكأنفحة ذَبِيحَة الْمَجُوس الَّذين يُقَال عَنْهُم إِنَّهُم يذكون وَالْحكم فِيهَا كَالْحكمِ فِي جبن النَّصَارَى وَغَيرهم من الْكفَّار وَهِي مَسْأَلَة اجتهادية للمقلد أَن يُقَلّد من يُفْتى بِأحد الْقَوْلَيْنِ وَأما أوانيهم وملابسهم فكأواني الْمَجُوس على مَا عرف من مَذَاهِب الْأَئِمَّة وَلَا يجوز دفنهم فِي مَقَابِر الْمُسلمين وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِم فَإِن الله نهى عَن الصَّلَاة على الْمُنَافِقين كَعبد الله بن أبي وَنَحْوه وَكَانُوا يتظاهرون بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج وَالْجهَاد مَعَ الْمُسلمين وَلَا يظهرون مقَالَة تخَالف دين الْإِسْلَام وَقَالَ الله للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا وَلَا تقم على قَبره إِنَّهُم كفرُوا بِاللَّه وَرَسُوله وماتوا وهم فَاسِقُونَ}

فَكيف بهؤلاء الَّذين هم الزندقة لَا يظهرون إِلَّا الْكفْر والالحاد وَحرب الْمُسلمين والكيد للاسلام بِكُل سَبِيل وَأما اسْتِخْدَام مثل هَؤُلَاءِ فِي ثغور الْمُسلمين وحصونهم أَو جنودهم فَهُوَ من أكبر الْكَبَائِر بِمَنْزِلَة من يستخدم الذئاب لرعي الْغنم فَإِنَّهُم أغش النَّاس للْمُسلمين ولولاة الْأُمُور وأحرص النَّاس على فَسَاد الْملَّة والدولة وهم شَرّ من المخامر الَّذِي يكون فِي الْكفْر فَإِن المخامر قد يكون لَهُ غَرَض إِمَّا مَعَ أَمِير الْعَسْكَر وَإِمَّا مَعَ الْعَدو وَهَؤُلَاء غرضهم بغض الْملَّة ونبيها ودينها وملوكها وعلمائها وعامتها وخاصتها وهم أحرص النَّاس على تَسْلِيم الْبِلَاد والعباد إِلَى عَدو الْمُسلمين وعَلى إِفْسَاد الْجند على ولي الْأَمر وإخراجهم عَن طَاعَته وَالْوَاجِب على وُلَاة الْأُمُور قطعهم من دواوين الْمُقَاتلَة وَعدم استخدامهم فِي ثغر وَلَا فِي غير ثغر وضررهم فِي الثغر أَشد وَلَا حُرْمَة لعقود هَؤُلَاءِ وَلَا لأموالهم وَلَا دِمَائِهِمْ بل دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ حَلَال لوَلِيّ أَمر الْمُسلمين فَمن كَانَ لَهُ عقد فِي أَي عمل مَعَ الْجند أَو فِي الثغور أَو فِي أَي شَأْن آخر من الشئون الإسلامية الْعَامَّة فَالْوَاجِب على ولي الْأَمر الْمُبَادرَة بفسخه وَإِذا أظهرُوا التَّوْبَة فَفِي قبُولهَا مِنْهُم نزاع بَين الْعلمَاء فَمن قبل تَوْبَتهمْ إِذا التزموا شَرِيعَة الْإِسْلَام أقرّ أَمْوَالهم للتائب فَقَط وَلم ينقلها إِلَى ورثتهم الَّذين لم يعلنوا التَّوْبَة فَتكون أَمْوَالهم فَيْئا لبيت المَال لَكِن هَؤُلَاءِ إِذا أخذُوا فَإِنَّهُم يظهرون التَّوْبَة إِذا أصل مَذْهَبهم التقية وكتمان أَمرهم وَفِيهِمْ من يعرف وَفِيهِمْ من قد لَا يعرف فالطريق أَن يحْتَاط أَوْلِيَاء الْأُمُور أَشد الِاحْتِيَاط فِي أَمرهم فَلَا يتركون مُجْتَمعين وَلَا يمكنون من حمل السِّلَاح وَأَن لَا يَكُونُوا من الْمُقَاتلَة ويلزمون شرائع الْإِسْلَام من الصَّلَوَات الْخمس وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَيتْرك بَينهم من يعلمهُمْ دين الْإِسْلَام ويحال بَينهم وَبَين معلميهم فَإِن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ هُوَ وَسَائِر الصَّحَابَة لما ظَهَرُوا على أهل الرِّدَّة وَجَاءُوا إِلَيْهِ قَالَ لَهُم الصّديق

اخْتَارُوا منى إِمَّا الْحَرْب الْمَحَلِّيَّة وَإِمَّا السّلم المخزية قَالُوا يَا خَليفَة رَسُول الله هَذِه الْحَرْب الْمَحَلِّيَّة قد عرفناها فَمَا السّلم المخزية قَالَ تداون قَتْلَانَا وَلَا ندى قَتْلَاكُمْ وتشهدون أَن قَتْلَانَا فِي الْجنَّة وَقَتلَاكُمْ فِي النَّار ومغنم مَا أصبْنَا من أَمْوَالكُم وتردون مَا أصبْتُم من أَمْوَالنَا وننزع مِنْكُم الْحلقَة وَالسِّلَاح وتمنعون من ركُوب الْخَيل وتتركون ترتعون وَرَاء أَذْنَاب الْإِبِل حَتَّى يرى الله خَليفَة رَسُول الله وَالْمُؤمنِينَ أمرا يعذرونكم بِهِ فوافقه الصَّحَابَة على ذَلِك إِلَّا فِي تضمنهم دِيَة قَتْلَى الْمُسلمين فَإِن عمر قَالَ لَهُ هَؤُلَاءِ قتلوا فِي سَبِيل الله فأجورهم على الله يَعْنِي هم اسْتشْهدُوا فَلَا دِيَة لَهُم فاتفقوا على قَول عمر ذَلِك وَهَذَا الَّذِي اتّفق عَلَيْهِ الصَّحَابَة هُوَ مَذْهَب أَئِمَّة الْعلمَاء فَهَذَا الَّذِي فعله الصَّحَابَة بأولئك الْمُرْتَدين بعد عودهم إِلَى الْإِسْلَام يفعل بِمن أظهر الْإِسْلَام والتهمة طَاهِرَة فِيهِ فَيمْنَع من ركُوب الْخَيل وَمن السِّلَاح والدروع الَّتِي تلبسها الْمُقَاتلَة وَلَا يتْرك فِي الْجند يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ ويلزمون شرائع الْإِسْلَام حَتَّى يظْهر مَا يَفْعَلُونَ من خير أَو شَرّ وَمن كَانَ من أَئِمَّة ضلالهم وَأظْهر التَّوْبَة أخرج عَنْهُم وسير إِلَى بِلَاد الْمُسلمين الَّتِي لَيْسَ لَهُم فِيهَا ظُهُور فإمَّا أَن يهديه الله أَو يَمُوت على نفَاقه من غير مضرَّة للْمُسلمين وَلَا ريب أَن جِهَاد هَؤُلَاءِ وَإِقَامَة الْحُدُود عَلَيْهِم من أعظم الطَّاعَات وَأوجب الْوَاجِبَات وَهُوَ أفضل من جِهَاد من يُقَاتل الْمُسلمين من الْمُشْركين وَأهل الْكتاب فَإِن جِهَاد هَؤُلَاءِ حفظ وتطهير لما بأيدي الْمُسلمين من بِلَادهمْ وأزواجهم وَأَبْنَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ وقتال الْعَدو الْخَارِج من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكين إِنَّمَا هُوَ لإِظْهَار الدّين وَحفظ الأَصْل مقدم على حفظ الْفَرْع وَأَيْضًا فضرر هَؤُلَاءِ على الْمُسلمين أعظم أُولَئِكَ بل ضَرَر هَؤُلَاءِ فِي الدّين على كثير من النَّاس أَشد من ضَرَر الْمُحَاربين من الْمُشْركين وَأهل الْكتاب فَوَاجِب على كل مُسلم أَن يقوم فِي ذَلِك بِحَسب مَا يقدر عَلَيْهِ من حربهم وَدفع

فصل

شرهم فَلَا يحل لأحد أَن يكتم مَا يعرفهُ من أخبارهم بل يَنْبَغِي أَن يفشيها ويظهرها ليعرف الْمُسلمُونَ حَقِيقَة حَالهم ويحذروه وَلَا يحل لأحد أَن يعاونهم على بقائهم فِي الْجند والمستخدمين وَلَا يحل لأحد السُّكُوت عَن الْقيام عَلَيْهِم بِمَا أَمر الله بِهِ وَرَسُوله فَإِن هَذَا من أعظم أَبْوَاب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالْجهَاد فِي سَبِيل الله وَقد قَالَ لنَبيه {يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} وَهَؤُلَاء لَا يخرجُون عَن الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ والمعاون على كف شرهم وعَلى هدايتهم بِحَسب الْإِمْكَان لَهُ من الْأجر وَالثَّوَاب مَالا يُعلمهُ إِلَّا الله فَإِن الْمَقْصُود وهدايتهم لما فِيهِ صَلَاح حَالهم وَحَال النَّاس فِي المعاش والمعاد كَمَا قَالَ تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} فَمن هداه الله مِنْهُم سعد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمن لم يهتد كف الله ضَرَر عَن غَيره وَمَعْلُوم أَن الْجِهَاد وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر هُوَ أفضل الْأَعْمَال كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأس الْأَمر الْإِسْلَام وعموده الصَّلَاة وذروة سنامة الْجِهَاد فِي سَبِيل الله وكما قَالَ تَعَالَى {أجعلتم سِقَايَة الْحَاج وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كمن آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وجاهد فِي سَبِيل الله لَا يستوون عِنْد الله وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم أعظم دَرَجَة عِنْد الله وَأُولَئِكَ هم الفائزون} فصل من لعن أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورضى الله عَنْهُم كمعاوية وَعَمْرو بن الْعَاصِ أَو من هُوَ أفضل من هَؤُلَاءِ كَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَأبي هُرَيْرَة أَو من هُوَ أفضل من هَؤُلَاءِ كطلحة وَالزُّبَيْر وَعُثْمَان أَو على أَو أبي بكر

أَو عمر أَو عَائِشَة أَو نَحْو هَؤُلَاءِ من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي الله عَنْهُم فَإِنَّهُ يسْتَحق الْعقُوبَة البليغة بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَتَنَازَعُوا هَل يُعَاقب بِالْقَتْلِ أَو مَا دون الْقَتْل وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تسبوا أَصْحَابِي فو الَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أنْفق أحدكُم مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه واللعنة أعظم من السب فقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن الْمُؤمن كقتله وَأَصْحَابه خِيَار الْمُؤمنِينَ كَمَا قَالَ خير الْقُرُون قَرْني ثمَّ الدّين يَلُونَهُمْ وكل من رَآهُ وآمن بِهِ فَلهُ من الصُّحْبَة بِقدر ذَلِك وَلما كَانَ لفظ الصُّحْبَة فِيهِ عُمُوم كَانَ من أختص من الصُّحْبَة بِمَا يتَمَيَّز بِهِ عَن غَيره فَوق من لم يشْتَرك مَعَه فِيهَا كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث أبي سعيد لخَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ لما اخْتصم هُوَ وَعبد الرَّحْمَن يَا خَالِد لَا تسبوا أَصْحَابِي فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أنْفق أحدكُم مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه فعبد الرَّحْمَن بن عَوْف هُوَ وَأَمْثَاله رَضِي الله عَنْهُم من السَّابِقين ولين الَّذين أَنْفقُوا قبل الْفَتْح فتح الْحُدَيْبِيَة وخَالِد بن الْوَلِيد وَغَيره مِمَّن أسلم بعد الْحُدَيْبِيَة وأنفقوا وقاتلوا دون أُولَئِكَ قَالَ تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا} وَالْمرَاد بِالْفَتْح الَّتِي أنزلهَا الله قبل فتح مَكَّة بل قبل أَن يعْتَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمْرَة الْقَضِيَّة وَكَانَت بيعَة الرضْوَان عَام الْحُدَيْبِيَة سنة سِتّ من الْهِجْرَة وَصَالح الْمُشْركين صلح الْحُدَيْبِيَة الْمَشْهُور وَبِذَلِك الصُّلْح حصل من الْفَتْح وَالْخَيْر مَالا يُعلمهُ إِلَّا الله مَعَ أَنه قد كَانَ كرهه خلق كثير من الْمُسلمين وَلم يعلمُوا مَا فِيهِ من حسن الْعَاقِبَة حَتَّى قَالَ سهل بن حنيف أَيهَا النَّاس اتهموا

أَنفسكُم فَلَقَد رَأَيْتنِي يَوْم أبي جندل وَلَو أَسْتَطِيع أَن أرد أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لرددته رَوَاهُ البُخَارِيّ فَلَمَّا كَانَ من الْعَام الْقَابِل اعْتَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمْرَة الْقَضِيَّة وَدخل هُوَ وَمن اعْتَمر مَعَه مَكَّة معتمرين وَأهل مَكَّة يَوْمئِذٍ مَعَ الْمُشْركين وَلما كَانَ فِي الْعَام الثَّانِي من فتح مَكَّة فِي شهر رَمَضَان وَقد أنزل الله فِي سُورَة الْفَتْح {لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله آمِنين مُحَلِّقِينَ رؤوسكم} إِلَى قَوْله {فَجعل من دون ذَلِك فتحا قَرِيبا} فَوَعَدَهُمْ فِي سُورَة الْفَتْح أَن يدخلُوا مَكَّة آمِنين وَأَن موعدهم الْعَام الثَّانِي عَام عمْرَة الْقَضِيَّة وَأنزل فِي ذَلِك {الشَّهْر الْحَرَام بالشهر الْحَرَام والحرمات قصاص} وَذَلِكَ كُله قبل تفتح مَكَّة فَمن توهم أَن سُورَة الْفَتْح نزلت بعد فتح مَكَّة فقد غلط غَلطا بَينا وَالْمَقْصُود أَن الدّين صحبو النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل الْفَتْح واختصوا من الصُّحْبَة بِمَا استحقوا بِهِ فَإِنَّهُم صحبوه قبل أَن يَصْحَبهُ خَالِد وَأَمْثَاله وَلما كَانَ لأبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ من مزية الصُّحْبَة مَا يتَمَيَّز بِهِ عَن جَمِيع الصحاب رَضِي الله عَنْهُم خصة بذلك فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ أَنه كَانَ بَين أبي بكر وَعمر كَلَام فَطلب أَبُو بكر من عمر أَن يسْتَغْفر لَهُ فَامْتنعَ عمر وَجَاء أَبُو بكر إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر لَهُ مَا جرى ثمَّ نَدم عمر فَخرج يطْلب أَبَا بكر فِي بَيته فَذكرُوا لَهُ أَنه عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ يغْضب لأبي بكر وَقَالَ أَيهَا النَّاس إِنِّي جِئْت إِلَيْكُم فَقلت إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم فقلتم كذبت وَقَالَ أَبُو بكر صدقت فَهَل أَنْتُم تاركوا لي صَاحِبي فَهَل أَنْتُم تاركو الى صَاحِبي فَهَل أَنْتُم تاركوا لي صَاحِبي فَمَا أوذي بعْدهَا فخصه هُنَا بالصحبة كَمَا خصّه بهَا الله فِي قَوْله {إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن}

وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن من أَمن النَّاس عَليّ فِي صحبته وَذَات يَده أَبُو بكر وَلَو كنت متخذا من أهل الأَرْض خَلِيلًا لاتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا وَلَكِن صَاحبكُم خَلِيل الله لَا تبقين خوخة إِلَّا سدت إِلَّا خوخة أبي بكر هَذَا حَدِيث من أصح حَدِيث يكون بِاتِّفَاق أهل الحَدِيث فعموم الصُّحْبَة ينْدَرج فِيهَا كل من رَآهُ مُؤمنا بِهِ وَلِهَذَا يُقَال صُحْبَة سنة أَو شهرا أَو سَاعَة وَمُعَاوِيَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنْهُمَا هما من الْمُؤمنِينَ لم يتهم أحد من السّلف بِنفَاق بل ثَبت فِي الصَّحِيح أَن عَمْرو بن الْعَاصِ لما بَايع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ على أَن يفغر الله لي مَا تقدم من ذَنبي فَقَالَ يَا عَمْرو أما علمت أَن الْإِسْلَام يهدم مَا كَانَ قبله وَأَن الْهِجْرَة تهدم مَا كَانَ قبلهَا وَأَن الْحَج يهدم مَا كَانَ قبله وَالْإِسْلَام الهادم هُوَ إِسْلَام الْمُؤمنِينَ وَأَيْضًا فعمرو وَأَمْثَاله مِمَّن قدم مُهَاجرا بعد الْحُدَيْبِيَة هَاجرُوا من بِلَادهمْ طَوْعًا والمهاجرون لم يكن فيهم مُنَافِق وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاق فِي بعض الْأَنْصَار وَذَلِكَ لِأَن الْأَنْصَار هم أهل الْمَدِينَة فَلَمَّا أسلم أَشْرَافهم وجمهورهم احْتَاجَ الْبَاقُونَ أَن يظهروا الْإِسْلَام نفَاقًا لعزة الْإِسْلَام وظهوره فِي قَومهمْ وَأما أهل مَكَّة فَكَانَ أَشْرَافهم كفَّارًا فَلم يكن يظْهر الْإِسْلَام إِلَّا من هُوَ مُؤمن ظَاهرا وَبَاطنا فَإِن من أظهر الْإِسْلَام كَانَ يُؤْذِي ويهجر فالمهاجرون كلهم لم يتهمهم أحد بالنفاق وَلعن الْمُؤمن كقتله وَأما مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَأَمْثَاله من الطُّلَقَاء الَّذين أَسْلمُوا بعد الْفَتْح كعكرمة بن أبي جهل والْحَارث بن هِشَام وَسُهيْل بن عَمْرو وَصَفوَان بن أُميَّة وَأبي سُفْيَان بن الْحَرْث بن عبد الْمطلب مِمَّن حسن إسْلَامهمْ بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَلم يتهم أحد مِنْهُم بعد ذَلِك بِنفَاق

وَمُعَاوِيَة قد اسْتَكْتَبَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للوحي وَكَانَ أَكثر النَّاس كِتَابَة لَهُ وَقد روى بِإِسْنَاد جيد أَن النَّبِي وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اللَّهُمَّ علمه الْكتاب والحساب وقه سوء الْعَذَاب وَكَانَ أَخُوهُ يزِيد بن أبي سُفْيَان خيرا مِنْهُ وَأفضل وَهُوَ أحد الْأُمَرَاء الَّذين بَعثهمْ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فِي فتح الشَّام ووصاه بِوَصِيَّة مَعْرُوفَة وَأَبُو بكر ماش وَيزِيد رَاكب فَقَالَ لَهُ يزِيد يَا خَليفَة رَسُول الله وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِمَّا أَن تركب وَإِمَّا أَن أنزل قَالَ لست بِرَاكِب وَلست بنازل إِنِّي أحتسب خطاي فِي سَبِيل الله وَعَمْرو بن الْعَاصِ كَانَ هُوَ الْأَمِير الآخر وَالثَّالِث شُرَحْبِيل بن حَسَنَة وَالرَّابِع خَالِد بن الْوَلِيد وَهُوَ أَمِيرهمْ الْمُطلق رَضِي الله عَن الصَّحَابَة أَجْمَعِينَ ثمَّ عزل عمر رَضِي الله عَنهُ خَالِدا وَولى أَبَا عُبَيْدَة الَّذِي شهد لَهُ النَّبِي وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ أَمِين هَذِه الْأمة فَكَانَ فتح الشَّام على يَد أبي عُبَيْدَة وَفتح الْعرَاق على يَد سعد بن أبي وَقاص ثمَّ لما مَاتَ يزِيد بن أبي سُفْيَان فِي خلَافَة عمر اسْتعْمل مَكَانَهُ أَخَاهُ مُعَاوِيَة وَكَانَ عمر بن الْخطاب من أعظم النَّاس فراسة وَأخْبرهمْ بِالرِّجَالِ وأقومهم بِالْحَقِّ وأعلمهم بِهِ حَتَّى قَالَ عَليّ كُنَّا نتحدث أَن السكينَة تَنْطَلِق على لِسَان عمر وَقَلبه وَقَالَ لَو لم أبْعث فِيكُم لبعث عمر وَمَا اسْتعْمل عمر وَلَا أَبُو بكر منافقا وَلَا استعملا من أقاربهما أحد وَلَا كَانَا تأخذهما فِي الله لومة لائم بل مَا قَاتلُوا أهل الرِّدَّة وأعادوهم إِلَى الْإِسْلَام منعوهم ركُوب الْخَيل وَحمل السِّلَاح فَكَانَ عمل يَقُول لسعد بن أبي وَقاص وَهُوَ أَمِير الْعرَاق لَا تسْتَعْمل مِنْهُم أحدا وَلَا تشاورهم فِي الْحَرْب فَإِنَّهُم كَانُوا أُمَرَاء أكَابِر مثل طَلْحَة الْأَسدي والأقرع بن حَابِس وعيينة بن حصن والأشعث بن قيس وأمثالهم

فَهَؤُلَاءِ لما تخوف أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا مِنْهُم نوع نفاق لم يولوهم على الْمُسلمين فَلَو كَانَ عَمْرو بن الْعَاصِ وَمُعَاوِيَة مِمَّن يتخوف مِنْهُمَا النِّفَاق لم يولوهما على الْمُسلمين بل قد أَمر رَسُول الله وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمْرو بن الْعَاصِ فِي غَزْوَة ذَات السلَاسِل وَالنَّبِيّ وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يول على الْمُسلمين منافقا وَاسْتعْمل على نجوان أَبَا سُفْيَان فِي حَرْب أَبُو مُعَاوِيَة وَمَات رَسُول الله وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو سُفْيَان نَائِبه عَلَيْهَا بل جَمِيع عُلَمَاء الصَّحَابَة متفقون على إسْلَامهمْ وَصدقهمْ وَالْأَخْذ عَنْهُم وَإِذا كَانُوا مُؤمنين محبين لله وَلِرَسُولِهِ فَمن لعنهم فقد عصى الله وأئمة الدّين لَا يَعْتَقِدُونَ عصمَة أحد من الصَّحَابَة وَلَا من الْقَرَابَة بل يجوزون عَلَيْهِم وُقُوع الذُّنُوب وَالله تَعَالَى يغْفر لَهُم وقصة حَاطِب بن أبي بلتعة رَضِي الله عَنهُ فِي الصَّحِيح فقد غفر لَهُ الذَّنب الْعَظِيم بشهوده بَدْرًا وللصحابة من الْحَسَنَات والأسباب الَّتِي تمحو السَّيِّئَات أعظم نصيب وَقد قَالَ تَعَالَى {ليكفر الله عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي عمِلُوا} هَذَا فِي الذُّنُوب المحققة وَأما مَا اجتهدوا فِيهِ فَتَارَة يصيبون وَتارَة يخطئون فهم مأجورون على الْحَالين فَأهل السّنة لَا يعصمون وَلَا يؤتمرون بِخِلَاف أهل الْبدع الَّذين غلوا من الْجَانِبَيْنِ طَائِفَة عصمت وَطَائِفَة أتمت فتولد بَينهم من الْبدع مَا سبوا بِهِ السّلف بل يفسقونهم ويكفرونهم كَمَا كفرت الْخَوَارِج عليا وَعُثْمَان وَاسْتَحَلُّوا قِتَالهمْ وهم الَّذين قَالَ فيهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تمزق مارقه على خير فرقة من الْمُسلمين نقلتها أولى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ فَقَتلهُمْ على وهم المارقة الَّذين مرقوا على على وَكَفرُوا كل من تولاه وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحسن ابْن عَليّ إِن ابْني هَذَا سيد وسيصلح الله بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين فَأصْلح بِهِ بَين شيعَة عَليّ وشيعة مُعَاوِيَة فَدلَّ على أَنه فعل مَا أحبه الله وَرَسُوله

وَأَن الفئتين لَيْسُوا مثل الْخَوَارِج الَّذين أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتالهم وَلِهَذَا فَرح عَليّ بقتاله للخوارج وحزن لقِتَال صفّين وَأظْهر الكآبة والألم وتبرئة الْفَرِيقَيْنِ من الْكفْر والنفاق والترحم على قَتَلَاهُمَا هُوَ من الْأُمُور الْمُتَّفق عَلَيْهَا وَأَن كل وَاحِدَة من الطَّائِفَتَيْنِ مُؤمنَة وَقد شهد الْقُرْآن بِأَن قتال الْمُؤمنِينَ لَا يخرجهم عَن الْإِيمَان والْحَدِيث المروى إِذا قتل خليفتان فأحدهما مَلْعُون كذب مفترى لم يروه أحد من أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ وَمُعَاوِيَة لم يدع الْخلَافَة وَلم يُبَايع لَهُ بهَا حِين قَاتل عليا وَلم يُقَاتل علينا على أَنه خَليفَة وَلَا أَنه يسْتَحق الْخلَافَة وَلَا كَانَ هُوَ وَأَصْحَابه يرَوْنَ ابْتِدَاء على الْقِتَال بل لما رأى على أَنه يجب عَلَيْهِم مبايعته وطاعته إِذا لَا يكون للنَّاس خليفتان وَأَن هَؤُلَاءِ خارجون عَن طَاعَته رأى أَن يقاتلهم حَتَّى يؤدوا الْوَاجِب وَتحصل الطَّاعَة وَالْجَمَاعَة وهم قَالُوا إِن ذَلِك لَا يجب عَلَيْهِم وَأَنَّهُمْ إِذا قوتلوا على ذَلِك كَانُوا مظلومين لِأَن عُثْمَان قتل مَظْلُوما بِاتِّفَاق الْمُسلمين وقتلته فِي عَسْكَر عَليّ وهم غالبون لَهُم شَوْكَة فَإِذا لم نمتنع ظلمونا واعتدوا علينا وعَلى لَا يُمكنهُ دفعهم كَمَا لَا يُمكنهُ الدّفع عَن عُثْمَان وَإِنَّمَا علينا أَن نُبَايِع خَليفَة يقدر على أَن ينصفنا ويبذل لنا الْإِنْصَاف وَكَانَ فِي جهال الْفَرِيقَيْنِ من يظنّ بعلي وَعُثْمَان ظنونا كَاذِبَة برأهما الله تَعَالَى مِنْهَا مِنْهُم من ظن أَن عليا أَمر بقتل عُثْمَان وَكَانَ يحلف وَهُوَ الْبَار الصَّادِق بِلَا يَمِين أَنه لم يَأْمر بقتْله وَلم يمالىء على قَتله وَهَذَا مَعْلُوم بِلَا ريب من على فَكَانَ أنَاس من محبي عَليّ وَمن مبغضيه يشيعون ذَلِك عَنهُ فمحبوه يقصدون الطعْن على عُثْمَان وَأَنه كَانَ يسْتَحق الْقَتْل وَأَن عليا أَمر بقتْله ومبغضوه يقصدون الطعْن على عَليّ وَأَنه أعَان على قتل الْخَلِيفَة الْمَظْلُوم الشَّهِيد الَّذِي صَبر نَفسه وَلم يدْفع عَنْهَا وَلم يسفك دم مُسلم فِي الدّفع عَنهُ فَكيف فِي طلب طَاعَته

وأمثال هَذِه الْأُمُور الَّتِي يتسبب بِهِ الزائغون على الشيعتين العثمانية والعلوية وَلَا يجوز أَن يكون خَليفَة مَعَ إِمْكَان اسْتِخْلَاف عَليّ فَإِن فضل عل وسابقته وَعلمه وَدينه وشجاعته وَسَائِر فضائله كَانَت عِنْدهم ظَاهِرَة مَعْرُوفَة كفضل إخوانه أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَغَيرهم رَضِي الله عَنْهُم وَلم يكن بَقِي من أهل الشورى غَيره وَغير سعد بن أبي وَقاص لَكِن سَعْدا قد ترك هَذَا الْأَمر وَكَانَ الْأَمر قد انحصر فِي عُثْمَان وَعلي فحص بذلك قُوَّة لأهل الظُّلم والعدوان وَضعف لأهل الْعلم والايمان حَتَّى حصل من الْفرْقَة وَالِاخْتِلَاف مَا صَار بطاع فِيهِ من غَيره أولى مِنْهُ بِالطَّاعَةِ وَلِهَذَا أَمر الله بِالطَّاعَةِ والائتلاف وَنهى عَن الْفرْقَة وَالِاخْتِلَاف وَأما الحَدِيث الَّذِي فِيهِ إِن عمارا تقتله الفئة الباغية فَهَذَا الحَدِيث قد طعن فِيهِ طَائِفَة من أهل الْعلم وَلَكِن رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه وَهُوَ فِي بعض نسخ البُخَارِيّ وَقد تَأَوَّلَه بَعضهم على أَن المُرَاد بالباغية الطالبة بِدَم عُثْمَان كَمَا قَالُوا نبغي ابْن عَفَّان بأطراف الأسل وَلَيْسَ بِشَيْء بل يُقَال مَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ حق كَمَا قَالَه وَلَيْسَ فِي كَون عمار تقتله الفئة الباغية مَا يُنَافِي مَا ذَكرْنَاهُ فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا} إِلَى قَوْله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة فأصلحوا بَين أخويكم} فجعلهم مَعَ وجود الْقِتَال وَالْبَغي مُؤمنين إخْوَة بل أَمر بِقِتَال الفئة الباغية وَلَيْسَ كل من كَانَ بَاغِيا يخرج عَن الْإِيمَان وَلَا يسْتَوْجب اللَّعْنَة فَكيف يسْتَوْجب ذَلِك من كَانَ من خير الْقُرُون خُصُوصا المتأول الْمُجْتَهد كَأَهل الْعلم وَالدّين الَّذين اجتهدوا واعتقدوا حل أُمُور واعتقد الْآخرُونَ تَحْرِيمهَا كَمَا اسْتحلَّ بَعضهم بعض أَنْوَاع الْأَشْرِبَة وَبَعْضهمْ بعض الْمُعَامَلَات الربوية وعقود التَّحْلِيل والمتعة وأمثال ذَلِك كثير فغاية الْمُجْتَهد أَن يكون مخطئا مغفورا لَهُ خَطؤُهُ كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح أَن الله تَعَالَى

اسْتَجَابَ دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله {رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا} الْآيَة وَقد حكم دَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام فِي الْحَرْث الَّذِي نفثت فِيهِ غنم الْقَوْم وَخص الله أَحدهمَا بِالْعلمِ وَالْحكم وَأثْنى عز وَجل عَلَيْهِمَا وَإِن كَانَ قد خص أَحدهمَا بِالْعلمِ وَالْحكم وَالْعُلَمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء فَإِذا فهم أحدهم من الْعلم مالم يفهمهُ الآخر أَحدهمَا بِالْعلمِ وَالْحكم وَالْعُلَمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء فَإِذا فهم أحدهم من الْعلم مالم يفهمهُ الآخر لَو لم يكن مَعْلُوما وَإِن كَانَ مَا لَو فعله وَقَالَهُ مَعَ علمه يكون ملموما عَلَيْهِ بل تَحْلِيل الْحَرَام وَتَحْرِيم الْحَلَال كفر وَالْبَغي من هَذَا الْبَاب يكون الْبَاغِي مُجْتَهدا ومتأولا وَلم يتَبَيَّن لَهُ أَنه بَاغ بل يعْتَقد أَنه على الْحق وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يكن تَسْمِيَته بَاغِيا مُوجبا لإثمه فضلا عَن أَن يُوجب فسقه وَالَّذين يَقُولُونَ بِقِتَال الْبُغَاة المتأولين لَا يَقُولُونَ بفسقهم بل هم باقون عِنْدهم على عدالتهم وَإِنَّمَا قِتَالهمْ لدفع ضَرَر بغيهم لَا عُقُوبَة لَهُم كَمَا يمْنَع الصَّبِي وَالْمَجْنُون والناشىء من عدوان يصدر مِنْهُم بل الْبَهَائِم تمنع من الْعدوان وَيجب على من قتل مُؤمنا خطأ الدِّيَة بِالنَّصِّ مَعَ أَنه إِثْم عَلَيْهِ وَهَكَذَا من دفع إِلَى الإِمَام من أهل الْحُدُود وَتَابَ بعد الْقُدْرَة عَلَيْهِ يُقَام عَلَيْهِ الْحَد والتائب من الذَّهَب كمن لَا ذَنْب لَهُ ثمَّ بِتَقْدِير أَن يكون الْبَغي بِغَيْر تَأْوِيل بل يكون ذَنبا فالذنوب تَزُول عقوبتها بِأَسْبَاب مُتعَدِّدَة كالتوبة والحسنات والمصائب والشفاعة وعفو أرْحم الرَّاحِمِينَ ثمَّ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن عمارا تقتله الفئة الباغية لَيْسَ نصا فِي أَن هَذَا اللَّفْظ المُرَاد بِهِ مُعَاوِيَة وَأَصْحَابه بل يُمكن أَن يكون المُرَاد تِلْكَ الْعِصَابَة الَّتِي حملت عَلَيْهِ حَتَّى قتلته وَهِي طَائِفَة من الْعَسْكَر وَمن رَضِي بقتل عمار كَانَ حكمه حكمهَا وَمن الْمَعْلُوم أَنه كَانَ فِي الْعَسْكَر من لم يرض بقتْله كَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَغَيره بل كَانَ النَّاس كَانُوا منكرين لقتل عمار حَتَّى مُعَاوِيَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ وَغَيرهَا ويروى أَن مُعَاوِيَة تَأَول أَن الَّذِي قَتله هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِلَى سيوف قتلته وَأَن عليا رد هَذَا التَّأْوِيل بقوله فَنحْن إِذن قتلنَا حَمْزَة وَلَا ريب أَن

قَول عَليّ هُوَ الصَّوَاب لَكِن من نظر فِي كَلَام المتناظر الَّذين لَيْسَ بَينهم قتال وَلَا ملك رَأْي لَهُم من التأويلات مَا هُوَ أَضْعَف من ذَلِك فَلم ير مُعَاوِيَة أَنه قتل عمارا وَلم يعْتَقد أَنه بَاغ فَهُوَ متأول وَالْفُقَهَاء لَيْسَ فيهم من رأى الْقِتَال مَعَ من قتل عمارا لَكِن هَلُمَّ قَولَانِ مشهوران كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أكَابِر الصَّحَابَة مِنْهُم من يرى الْقِتَال مَعَ عمار وطائفته وَمِنْهُم من يرى الْإِمْسَاك عَن الْقِتَال مُطلقًا وَفِي كل من الطَّائِفَتَيْنِ طوائف من السَّابِقين الْأَوَّلين فَفِي الطَّائِفَة الأولى عمار وَسَهل بن حنيف وَأَبُو أَيُّوب وَفِي الثَّانِيَة سعد بن أبي وَقاص وَمُحَمّد بن مسلمة وَأُسَامَة بن زيد وعبد الله بن عَمْرو رَضِي الله عَنْهُم وَلَعَلَّ أكَابِر الصَّحَابَة كَانُوا على هَذَا القَوْل وَلم يكن فِي العسكرين بعد عَليّ أفضل من سعد وَكَانَ من القاعدين وَحَدِيث عمار قد يحْتَج بِهِ من رأى الْقِتَال لِأَنَّهُ إِذا كَانَ قَاتلُوهُ بغاة فَالله عز وَجل أَمر بِقِتَال الطَّائِفَة الَّتِي تبغي والساكتون يحتجون بالأحاديث الصَّحِيحَة الْكَثِيرَة من أَن الْقعُود فِي الْفِتْنَة خير من الْقِتَال فِيهَا وَهَذَا الْقِتَال وَنَحْوه هُوَ قتال الْفِتْنَة وَالله تَعَالَى لم يَأْمر بِقِتَال الْبَاغِي أَولا بل أَمر بِالصُّلْحِ فَإِن بغث إِحْدَاهمَا قوتلت الباغية ردا لشرها من بَاب رد الصَّائِل الَّذِي لَا ينْدَفع ظلمه إِلَّا بِالْقِتَالِ كَمَا قَالَ من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد فبتقدير أَن يكون جَمِيع الْعَسْكَر بغاة لم يُؤمر بقتالهم ابْتِدَاء بل أمرنَا بالإصلاح بَينهمَا والقتال الأول لم يَأْمر الله بِهِ وَلَا أَمر الله كل من بنى عَلَيْهِ أَن يُقَاتل الْبَاغِي فَإِن قتل كل بَاغ كفر فَإِن غَالب النَّاس لَا يَخْلُو من ظلم وبغي وَلَكِن إِذا اقْتتلَتْ طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ فَالْوَاجِب الْإِصْلَاح بَينهمَا وَلم تكن طَائِفَة مِنْهُمَا مأمورة بِالْقِتَالِ ثمَّ إِذا بَغت الْوَاحِدَة بعد ذَلِك قوتلت وَأَيْضًا فَيمكن أَنهم لم يَكُونُوا بغاة فِي الأول بل فِي أثْنَاء الْحَال بغوا

فصل

وَحين بغوا وَجب قِتَالهمْ إِذا كَانَ الَّذين مَعَ على ناكلين عَن الْقِتَال فَإِنَّهُم كَانُوا كثيرى الْخلاف عَلَيْهِ ضعيفي الطَّاعَة لَهُ وَالْمَقْصُود أَن هَذَا الحَدِيث لَا يُبِيح لعنة أحد من الصَّحَابَة وَلَا يُوجد فسقه وَأما أهل الْبَيْت فَلم يسبوا قطّ وَللَّه الْحَمد وَلم تقتل الْحجَّاج أحدا من بني هَاشم وَإِنَّمَا قتل رجلا من أشرف الْعَرَب وَكَانَ قد تزوج بنت عبد الله بن جَعْفَر فَلم يرض بذلك بَنو عبد منَاف ول بَنو هَاشم وَلَا بَنو عبد منَاف وَلَا بَنو هَاشم وَلَا بَنو أُميَّة حَتَّى فرقوا بَينهمَا حَيْثُ لم يروه كفئا لَهَا فصل وَمن ادّعى الْعِصْمَة فِي الْمعز بن معد بن تَمِيم الَّذِي بنى الْقَاهِرَة والقصرين وَأَنه كَانَ شريفا فاطميا فَقَوله شَرّ من قَول الرافضة فِي الاثنى عشر فَإِن الرافضة ادَّعَت الْعِصْمَة فِي أنَاس من أهل الْجنَّة وَهَؤُلَاء ادعوا الْعِصْمَة فِيمَن اشْتهر نفاقة فَإِذا كَانَ من ادّعى الْعِصْمَة فِي هَؤُلَاءِ السَّادة عَليّ وَحسن وحسين قد أَجمعت الْأمة على تخطئة وَفَسَاد قَوْله فَكيف بِمن ادعوا الْعِصْمَة فِي ذُرِّيَّة عبد الله ابْن مَيْمُون القداح مَعَ شهرته بالنفاق وَالْكذب والضلال والمباطنة لأهل الْكفْر وَالْبَغي والعدوان وَمَعَ الْعَدَاوَة لأهل الْبر وَالتَّقوى وَالْإِيمَان وَهَؤُلَاء الْقَوْم تشهد عَلَيْهِم عُلَمَاء الْأمة وأئمتها أَنهم كَانُوا ملحدين زنادقة يظهرون الْإِسْلَام ويبطنون الْكفْر وَجُمْهُور الْأمة تطعن فِي نسبهم ويذكرون أَنهم من أَوْلَاد الْيَهُود أَو الْمَجُوس وهم يدعونَ علم الْبَاطِن الَّذِي مضمونه الْكفْر بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر وَعِنْدهم لَا جنَّة وَلَا نَار وَلَا بعث وَلَا نشور وهم فِي إِثْبَات وَاجِب الْوُجُود على قَوْلَيْنِ أئمتهم تنكره ويستهينون باسم الله وَرَسُوله حَتَّى يكْتب أحدهم الله فِي أَسْفَل نَعله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا

وَمن ادّعى أَنه لَا فرق بَين الْبُغَاة والخوارج وقتال عَليّ لأهل الْجمل وصفين فِي الْأَحْكَام الْجَارِيَة عَلَيْهِمَا فَإِن قَوْله قَول مجازف فَإِن التَّسْوِيَة بَينهمَا هُوَ قَول طَائِفَة من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَغَيرهم وَأما جُمْهُور أهل الْعلم فيفرقون بَين الْخَوَارِج المارقين وَبَين أهل الْجمل وصفين وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَعَلِيهِ عَامَّة أهل الحَدِيث وَالْفِقْه وَعَلِيهِ نُصُوص أَكثر الْأَئِمَّة وأتباعهم من أَصْحَاب مَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهم وَذَلِكَ أَنه ثَبت فِي الصَّحِيح عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ تمرق مارقة على خير فرقة من الْمُسلمين تقتلها أولى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ فتضمن هَذَا الحَدِيث ذكر الطوائف الثَّلَاثَة وَبَين أَن لمارقة نوع ثَالِث لَيْسُوا من جنس أُولَئِكَ فَإِن طَائِفَة عَليّ أولى بِالْحَقِّ من طَائِفَة مُعَاوِيَة وَقَالَ فِي حق المارقين يحقر أحدكُم صلَاته مَعَ صلَاتهم وصيامه مَعَ صِيَامهمْ وقراءته مَعَ قراءتهم يقرءُون الْقُرْآن لَا يُجَاوز حَنَاجِرهمْ يَمْرُقُونَ من الْإِسْلَام كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية أَيْنَمَا لقيتموهم فاقتلوهم فَإِن فِي قَتلهمْ أجرا عِنْد الله لمن قَتلهمْ يَوْم الْقِيَامَة وَقد روى مُسلم أَحَادِيثهم فِي الصَّحِيح من عشرَة أوجه وَاتفقَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على قتال هَؤُلَاءِ وَأما أهل الْجمل وصفين فَكَانَت طَائِفَة قَاتَلت من هَذَا الْجَانِب وَطَائِفَة من هَذَا الْجَانِب وَأكْثر الصَّحَابَة لم يقاتلوا لَا مَعَ هَؤُلَاءِ وَلَا مَعَ هَؤُلَاءِ ومدح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحسن لِأَن الله أصلح بِهِ وَبَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين من أَصْحَاب أَبِيه وَأَصْحَاب مُعَاوِيَة فَلم يكن الْقِتَال وَاجِبا وَلَا مُسْتَحبا بِخِلَاف الْخَوَارِج فَإِنَّهُ قد ثَبت أَنه أَمر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحض عَلَيْهِ وأجمعت عَلَيْهِ الْأمة فَمن سوى بَين قتال الصَّحَابَة وَبَين قتال ذِي الْخوَيْصِرَة وَأَمْثَاله من الْخَوَارِج والحرورية الْمُعْتَدِينَ كَانَ قَوْله من جنس أَقْوَال أهل الْجَهْل وَالظُّلم الْمُبين

كتاب حد الزنا والقذف

وَقد اخْتلف السّلف فِي كفر الْخَوَارِج على قَوْلَيْنِ مَعَ اتِّفَاقهم على الثَّنَاء على الصَّحَابَة المقتتلين والإمساك عَمَّا جرى بَينهم رَضِي الله عَنْهُم فَكيف ينْسب هَذَا إِلَى هَذَا وَلذَلِك تنَازع الْفُقَهَاء فِي كفر مَانع الزَّكَاة الْمقَاتل عَلَيْهَا على قَوْلَيْنِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد كالروايتين فِي تَكْفِير الْخَوَارِج وَأما أهل الْبَغي الْمُجَرّد فَلَا يكفرون اتِّفَاقًا كتاب حد الزِّنَا وَالْقَذْف تغلط الْمعْصِيَة ويغلظ عقابها فِي الْأَيَّام المفضلة والأمكنة المفضلة وَوَطْء الزَّوْجَة فِي الدبر محرم بِالْكتاب وَالسّنة وَعَلِيهِ عَامَّة الْأمة وَهُوَ كاللواط فِي الذّكر هَذَا قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وأصحابهم بِلَا نزاع عَنْهُم وَهُوَ الظَّاهِر من مَذْهَب وَأَصْحَابه وَحكى بعض النَّاس عَنْهُم رِوَايَة أُخْرَى بِخِلَاف ذَلِك وَمِنْهُم من أنكرها وأصل ذَلِك مَا نقل عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَانَ سَالم ابْن عبد الله يكذب نَافِعًا فِي ذَلِك فإمَّا أَن يكون نَافِع غلط أَو غلط من فَوْقه وَإِذا غلط بعض النَّاس غلطة لم يكن هَذَا مِمَّا يسوغ بِهِ مُخَالفَة الْكتاب وَالسّنة فَإِنَّهُ ثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله لَا يستحي من الْحق لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي حشوشهن وَقَالَ تَعَالَى {فَأتوا حَرْثكُمْ} والحرث مَكَان الزَّرْع كَمَا غلط طَائِفَة فِي إِبَاحَة دِرْهَم دِرْهَمَيْنِ وانفق الْأَئِمَّة على تَحْرِيمه وَطَائِفَة غَلطت فِي بعض الْأَشْرِبَة وَثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل مُسكر خمر

فصل

وَمن وطىء امْرَأَته وطاوعته فِي دبرهَا وَجب أَن يعاقبا على ذَلِك عُقُوبَة تزجرهما فَإِن علم أَنَّهُمَا لَا ينزجران فَإِنَّهُ يجب التَّفْرِيق بَينهمَا على ذَلِك فصل فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا هم العَبْد بحسنة فَلم يعلمهَا كتبت لَهُ حَسَنَة فَإِذا كَانَ لَهُم سرا بَين العَبْد وَبَين ربه فَكيف تطلع الْمَلَائِكَة عَلَيْهِ فقد روى عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي جَوَاب ذَلِك أَنه قَالَ إِذا هم العَبْد بِالْحَسَنَة ثمَّ الْملك رَائِحَة طيبَة وَإِذا هم بِالسَّيِّئَةِ ثمَّ رَائِحَة خبيثة وَالتَّحْقِيق أَن الله تَعَالَى قَادر أَن يعلم الْمَلَائِكَة بِمَا فِي نفس العَبْد كَيفَ شَاءَ كَمَا هُوَ قَادر أَن يطلع بعض الْبشر على مَا فِي نفس الْإِنْسَان فَإِذا كَانَ بعض الْبشر قد يَجْعَل الله لَهُ مَا يعلم بِهِ أَحْيَانًا مَا فِي نفس الْإِنْسَان فالملك أولى وَقد قيل فِي قَوْله تَعَالَى {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} أَن المُرَاد بِهِ الْمَلَائِكَة وَقد جعل الله الْمَلَائِكَة تلقى الخواطر فِي قلب العَبْد كَمَا قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ إِن للْملك لمة وللشيطان لمة فلمة الْملك تَصْدِيق بِالْحَقِّ ووعد بِالْخَيرِ ولمة الشَّيْطَان تَكْذِيب بِالْحَقِّ وإيعاد بِالشَّرِّ وَقد ثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وَقد وكل بِهِ قرينَة من الْمَلَائِكَة وَمن الْجِنّ فالسيئة الَّتِي يهم بهَا العَبْد إِذا كَانَت من إِلْقَاء الْملك فَإِذا علم بهَا هَذَا الْملك أمكن علم الْمَلَائِكَة الْحفظَة بهَا وَمن زنت أمة وَعلم ذَلِك مِنْهَا وَجب على أولادهما وعصبتها منعهَا من الْمُحرمَات

فصل

فَإِن لم تمْتَنع إِلَّا بِالْحَبْسِ حبسوها وقيدوها إِن احْتَاجَت وَمَا يَنْبَغِي للأولاد أَن يضْربُوا أمّهم وَلَا يجوز لَهُم مقاطعتها بِحَيْثُ نتمكن بذلك من السوء بل يمنعوها بِحَسب قدرتهم وَإِن احْتَاجَت إِلَى رزق وَكِسْوَة رزفرها وكسوها وَلَا يجوز لَهُم إِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا بقتل وَلَا غَيره وَعَلَيْهِم الْإِثْم فِي ذَلِك فصل وَمن قَالَ لصَاحبه أَنْت معلون ولد زنا وَجب تعزيره على هَذَا الْكَلَام وَعَلِيهِ حد الْقَذْف إِن لم يقْصد بِهَذِهِ الْكَلِمَة مَا يَقْصِدهُ كثير من النَّاس من أَن فعله خَبِيث كَفعل ولد الزِّنَا إِذا قذف رجل ومطلقته زَوجته الْمَعْرُوفَة بالعفاف والحصانة فعلى الْمُطلقَة الْحَد ثَمَانِينَ جلدَة إِذا طلبت ذَلِك الْمَرْأَة المقذوفة وَلَا تقبل لَهَا شَهَادَة أبدا لِأَنَّهَا فاسقة وَكَذَلِكَ الرجل يجلد ثَمَانِينَ جلدَة إِذا طلبت الْمَرْأَة ذَلِك وَهُوَ فَاسق لَا تقبل لَهُ شَهَادَة أبدا إِذا لم يتب وَهل لَهُ إِسْقَاط الْحَد بِاللّعانِ للفقهاء ثَلَاثَة أَقْوَال فِي ذَلِك وَيجب على سيد الْأمة إِذا زنت أَن يُقيم عَلَيْهَا الْحَد ثَلَاثًا ثمَّ فِي الرَّابِعَة يَبِيعهَا كَمَا أمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن كَانَ هُوَ يرسلها تَزني وَيَأْكُل من كسبها أَو يَأْخُذهُ مِنْهَا فَهُوَ مَلْعُون ديوث خَبِيث آذن فِي الْكَبِيرَة وَأخذ مهر الْبَغي وَمثل هَذَا لَا يجوز إِقْرَاره بَين الْمُسلمين بل يسْتَحق الْعقُوبَة الغليظة وَأَقل الْعقُوبَة أَن يهجر فَلَا يسلم عَلَيْهِ وَلَا يصلى خَلفه إِذا أمكن الصَّلَاة خلف غَيره وَلَا يستشهد وَلَا يُولى ولَايَة أصلا وَإِن اسْتحلَّ ذَلِك فَهُوَ كَافِر مُرْتَد

فصل

يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل وَلَا يَرِثهُ ورثته الْمُسلمُونَ وَإِن كَانَ جَاهِلا بِالتَّحْرِيمِ عرف ذَلِك حَتَّى تقوم عَلَيْهِ الْحجَّة فَإِن مثل هَذَا من الْمُحرمَات الْمجمع عَلَيْهَا وَإِذا شِئْتُم الرجل أَبَاهُ وَعِنْدِي عَلَيْهِ وَجب أَن يُعَاقب عُقُوبَة بليغة تردعه وَأَمْثَاله بل وأبلغ من ذَلِك أَنه ثَبت فِي الصَّحِيح أَن من الْكَبَائِر أَن يسب الرجل وَالدية قَالُوا وَكَيف يسب الرجل وَالدية قَالَ يسب الرجل أَبَا الرجل فيسب الرجل أَبَاهُ ويسب أمه فيسب أمه وَقَالَ تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} فَكيف يشتمهما وَإِذا قَالَ لَهُ أَنْت علق وَهُوَ حر مُسلم لم يشْتَهر عَنهُ ذَلِك فَعَلَيهِ حد الْقَذْف إِذا طلبه وَيجب قتل الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ رجما بِالْحِجَارَةِ سَوَاء كَانَا محصنين أَو غير محصنين وَجلد الذّكر بِالْيَدِ حرَام عِنْد أَكثر الْفُقَهَاء وَعند طَائِفَة من الْأَئِمَّة حرَام إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة مثل أَن يخَاف الْعَنَت وَهُوَ أَن يخَاف الْمَرَض أَو يخَاف الزِّنَا فالاستمناء حِينَئِذٍ أَهْون شرا وَمن قذف رجلا بِأَنَّهُ ينظر إِلَى حَرِيم النَّاس وَهُوَ كَذَّاب عزّر على افترائه بِمَا يزجره وَأَمْثَاله إِذا طَالبه الْمَقْذُوف بذلك وَكَذَا إِذا شَتمه بِأَنَّهُ فَاسق أَو أَنه يشرب الْخمر وَهُوَ كَاذِب عَلَيْهِ يُعَزّر وَلَا يجوز وَطْء الْحَائِض حَتَّى تَغْتَسِل يدل عَلَيْهِ ظَاهر الْقُرْآن والْآثَار وَجوزهُ أَبُو حنيفَة إِذا انْقَطع الدَّم لأكْثر الْحيض أَو مر عَلَيْهَا وَقت صَلَاة فصل حب المَال والشرف يفْسد الدّين وَالَّذِي يُعَاقب عَلَيْهِ الشَّخْص هُوَ الْحبّ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الْمعاصِي مثل الظُّلم وَالْكذب وَالْفَوَاحِش وَلَا ريب أَن فرط

فصل في الذنوب الكبائر

الْحِرْص على المَال والرياسة يُوجب ذَلِك أما مُجَرّد حب الْقلب إِذا كَانَ الْإِنْسَان يفعل مَا أَمر الله بِهِ يتْرك مَا نهى عَنهُ وَيخَاف مقَام ربه وَينْهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الله تَعَالَى لَا يُعَاقب على مثل هَذَا إِذا لم يكن مَعَه عمل وَجمع المَال إِذا قَامَ فِيهِ بالواجبات وَلم يكتسبه من الْحَرَام لَا يُعَاقب عَلَيْهِ لَكِن إِخْرَاج الْفضل والاقتصار على الْكِفَايَة أفضل وَأسلم وأفرغ للقلب وَأجْمع للهم وأنفع للدنيا وللآخرة وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أصبح وَالدُّنْيَا أكبر همه شتت الله عَلَيْهِ شَمله وججعل فقره بَين عَيْنَيْهِ وَلم يَأْته من الدُّنْيَا إِلَّا مَا كتب لَهُ وَمن أصبح وَالْآخِرَة همه جعل الله غناهُ فِي قلبه وَجمع عَلَيْهِ ضيعته وأتته الدُّنْيَا وَهِي راغمة وَقَوْلهمْ حب الدُّنْيَا رَأس كل خَطِيئَة لَيْسَ هُوَ حَدِيثا بل هُوَ مَعْرُوف عَن جُنْدُب بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ وَيذكر عَن الْمَسِيح وَإِذا اعْتدى عَلَيْهِ بالشتم فَلهُ أَن يرد بِمثل ذَلِك فيشمته إِذا لم يكن ذَلِك محرما لعَينه كالكذب وَأما إِن كَانَ محرما لعَينه كالقذف بِغَيْر الزِّنَا فَإِنَّهُ يعزز عَليّ ذَلِك وَلَو عزّر عَليّ النَّوْع الأول من الشتم جَازَ وَهُوَ الَّذِي يشرع إِذا كثر سفهه أَو عدوانه على من هُوَ أفضل مِنْهُ فصل فِي الذُّنُوب الْكَبَائِر أمثل الْأَقْوَال فِيهَا هُوَ الْمَأْثُور عَن السّلف كَابْن عَبَّاس وَأبي عبيد وَأحمد ابْن حَنْبَل وَهُوَ أَن الصَّغِير مادون الحدين وَهُوَ أَن الصَّغِيرَة مادون الحدين حد الدُّنْيَا وحد الْآخِرَة وَهُوَ

معنى قَول الْقَائِل كل ذَنْب ختم بلعنة أَو غضب أَو نَار فَهُوَ من الْكَبَائِر وَمعنى قَوْلهم لَيْسَ فِيهَا حد فِي الدُّنْيَا وَلَا وَعِيد فِي الْآخِرَة أى وَعِيد خَاص كالوعيد بالنَّار وَالْغَضَب واللعنة وَذَلِكَ أَن الْوَعيد الْخَاص فِي الْآخِرَة كالعقوبة الْخَاصَّة فِي الدُّنْيَا فَكَمَا أَنه يفرق فِي الْعُقُوبَات الْمَشْرُوعَة للنَّاس بَين الْعُقُوبَات الْمقدرَة بِالْقطعِ وَالْقَتْل وَجلد مائَة أَو ثَمَانِينَ وَبَين الْعُقُوبَات الَّتِي لَيست بمقدرة وَهِي التَّعْزِير فَكَذَلِك يفرق فِي الْعُقُوبَات الَّتِي يجزى الله بهَا الْعباد وَفِي غير أَمر الْعباد بهَا بَين الْعُقُوبَات الْمقدرَة كالغضب واللعنة وَالنَّار وَنَفس الْعُقُوبَات الْمُطلقَة وَهَذَا الضَّابِط يسلم من القوادح الْوَارِدَة عَليّ غَيره فَإِنَّهُ يدْخل فِيهِ كل مَا ثَبت بِالنَّصِّ أَنه كَبِيرَة كالشرك وَالْقَتْل وَالزِّنَا وَالسحر وَقذف الْمُحْصنَات وَغير ذَلِك من الْكَبَائِر الَّتِي فِيهَا عقوبات مقدرَة مَشْرُوعَة وكالفرار من الزَّحْف وَأكل مَال الْيَتِيم وَأكل الرِّبَا وعقوق الْوَالِدين وَالْيَمِين الْغمُوس وشاهداة الزُّور فَإِن هَذِه الذُّنُوب وأمثالها فِيهَا وَعِيد خَاص وَكَذَلِكَ كل ذَنْب توعد صَاحبه بِأَنَّهُ لَا يدْخل الْجنَّة أَو لَا يشم رائحها أَو قيل فِيهِ من فعله فَلَيْسَ منا لِأَنَّهُ لَيْسَ المُرَاد مَا تَقوله المرجئة أَنه لَيْسَ من خيارنا وَلَا مَا يَقُوله الْخَوَارِج أَنه صَار كَافِرًا وَلَا مايقوله الْمُعْتَزلَة من أَنه لم يبْق مَعَه من الايمان شئ بل هُوَ مُسْتَحقّ للخلود فِي النَّار فَهَذِهِ كلهَا أَقْوَال بَاطِلَة وَلَكِن الْمُؤمن الْمُطلق فِي بَاب الْوَعْد والوعيد وَهُوَ الْمُسْتَحق لدُخُول الْجنَّة بِلَا عِقَاب فَهُوَ الْمُؤَدى للفرائض المجتنب للمحارم وَهَؤُلَاء هم الْمُؤْمِنُونَ عِنْد الْإِطْلَاق فَمن فعل هَذِه الكباذر لم يكن من هَؤُلَاءِ الْمُؤمنِينَ إِذْ هُوَ متعرض للعقوبة على تِلْكَ الْكَبِيرَة فنفى الْإِيمَان أَو دُخُول الْجنَّة أَو كَونه لَيْسَ من الْمُؤمنِينَ لَا يكون إِلَّا عَن كَبِيرَة فَأَما الصَّغَائِر فَلَا تنفى هَذَا الِاسْم وَلَا يحكم على صَاحبهَا بمجردها فَيعرف أَن النَّفْي لَا يكون لترك مُسْتَحبّ وَلَا لفعل صَغِيرَة بل لترك وَاجِب

وَالدَّلِيل على أَن هَذَا الضَّابِط أولى من غَيره من وُجُوه أَحدهَا أَنه مأثور عَن السّلف وَالثَّانِي أَن الله تَعَالَى يَقُول {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَنُدْخِلكُمْ مدخلًا كَرِيمًا} فقد وعد مجتنب الْكَبَائِر بتكفير السَّيِّئَات وَاسْتحق الْمدْخل الْكَرِيم وكل من وعد بغضب أَو لعنة أَو نَار أَو حرمَان من جنَّة أَو مَا يقتضى ذَلِك فَإِنَّهُ خَارج عَن الْوَعْد فَلَا يكون من مجتنبي الْكَبَائِر وَكَذَلِكَ من اسْتحق أَن تُقَام عَلَيْهِ الْحُدُود لم يكن اسْتِثْنَاؤُهُ مكفرا باجتناب الْكَبَائِر الثَّالِث أَن هَذَا الضَّابِط يرجع إِلَى مَا ذكره الله وَرَسُوله فِي الذُّنُوب فَهُوَ متلقى من خطاب الشَّارِع الرَّابِع أَن هَذَا الضَّابِط يُمكن الْفرق بِهِ بَين الْكَبَائِر والصغائر بِخِلَاف غَيره الْخَامِس أَن تِلْكَ الْأَقْوَال فَاسِدَة فَقَوْل من قَالَ إِنَّه مَا اتّفقت الشَّرَائِع على احريمه دون مَا اخْتلفت فِيهِ فَوَجَبَ أَن تكون الْحبَّة من مَال الْيَتِيم أَو من السّرقَة والخيانة والكذبة الْوَاحِدَة وَبَعض الإحسانات الْخفية وَنَحْو ذَلِك كَبِيرَة وَأَن يكون الْفِرَار من الزَّحْف لَيْسَ من الْكَبَائِر إِذا الْجِهَاد لم يجب فِي كل شَرِيعَة وَكَذَلِكَ يقتضى أَن يكون التَّزْوِيج بالمحرمات من الرضَاعَة أَو الصهر أَو غَيرهَا لَيْسَ من الكباذر وَكَذَلِكَ إمْسَاك الْمَرْأَة بعد الطَّلَاق الثَّلَاث ووطؤها بعد ذَلِك وَكَذَلِكَ قَول من قَالَ إِنَّهَا مَا تسد بَاب الْمعرفَة أَو ذهَاب النُّفُوس أَو الْأَمْوَال يُوجب أَن يكون الْقَلِيل من الْغَصْب والخيانة كَبِيرَة وَأَن يكون عقوق الْوَالِدين وَقَطِيعَة الرَّحِم وَشرب الْخمر وَأكل الْميتَة وَلحم الْخِنْزِير وَقذف الْمُحْصنَات وَنَحْوه لَيْسَ من الكباذر وَمن قَالَ إِنَّهَا سميت كباذر بِالنِّسْبَةِ إِلَى مادنها أَو أَن ماعصى الله بِهِ فَهُوَ

فصل

كَبِيرَة فَإِنَّهُ يُوجب أَلا تكون الذُّنُوب فِي نَفسهَا تَنْقَسِم إِلَى كابذر وصغاذر وَهَذَا خلاف الْقُرْآن وَمن قَالَ هِيَ سَبْعَة عشر فَهُوَ قَول بِلَا دَلِيل وَمن قَالَ إِنَّهَا مُبْهمَة أَو غير مَعْلُومَة فَإِنَّمَا أخبر عَن نَفسه أَنه لَا يعلمهَا وَمن قَالَ أَنَّهَا مَا توعد عَلَيْهِ بالنَّار فقد يُقَال فِيهِ تَقْصِير إِذْ الْوَعيد قد يكون بالنَّار وَقد يكون بغَيْرهَا وَقد يُقَال أَن كل وَعِيد فَلَا بُد أَن يسْتَلْزم الْوَعيد بالنَّار وَأما من قَالَ إِن كل ذَنْب فِيهِ وَعِيد فَهَذَا ينْدَرج فِيمَا ذكره السّلف فان كل ذَنْب فِيهِ حد فِي الدِّينَا فِيهِ وَعِيد من غير عكس فَإِن الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَشرب الْخمر وَقذف الْمُحْصنَات وَنَحْوهَا فِيهِ الْوَعيد فَمن قَالَ إِن الْكَبِيرَة مَا فِيهَا وَعِيد فقد وَافق مَا ذَكرُوهُ فصل وَمن تَابَ من الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَشرب الْخمر قبل أَن يرفع إِلَى الإِمَام فَالصَّحِيح أَن الْحَد يسْقط عَنهُ كَمَا يسْقط عَن الحاربين إِجْمَاعًا إِذا تَابُوا قبل الْقُدْرَة عَلَيْهِم وَمن يخَاف من إفساده يفعل بِهِ الإِمَام مَا يرى فِيهِ الْمصلحَة من نَفْيه أَو حَبسه كالقوادة الَّتِي لَا تتوب أَو ينقلها عَن الْحَرَائِر أَو غير ذَلِك مِمَّا يرَاهُ وَقد كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَأْمر الأعزب أَن يسكن بَين المتأهلين وَكَذَلِكَ فعل الْمُهَاجِرُونَ لما قدمُوا الْمَدِينَة وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نفى المخنثين وَأمر بنفيهم من الْبيُوت خشيَة إفسادهم للنِّسَاء فالقوادة شَرّ من هَؤُلَاءِ وكل من تَابَ من ذَنْب فَإِن الله يَتُوب عَلَيْهِ فَإِذا عمل عملا صَالحا سنة من الزَّمَان وَلم ينْقض التَّوْبَة فَإِنَّهُ يقبل مِنْهُ ذَلِك ويجالس ويكلم وَأما إِذا تَابَ وَلم يمض عَلَيْهِ سنة فللعلماء فِيهِ قَولَانِ مِنْهُم من يَقُول يُجَالس وَتقبل شَهَادَته فِي الْحَال وَمِنْهُم من يُقَال لَا بُد من سنة كَمَا فعل عمر رَضِي الله عَنهُ ببصيغ بن عسل وَهَذِه من مسَائِل الِاجْتِهَاد على حسب الْحَال والقرائن الدَّالَّة على صدق التَّوْبَة من عدمهَا

كتاب الأشربة

كتاب الْأَشْرِبَة شَارِب الْخمر يجب على الإِمَام حَده اتِّفَاقًا إِن شَاءَ ثَمَانِينَ وَإِن شَاءَ أَرْبَعِينَ فَإِن جلد ثَمَانِينَ جَازَ بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة وَإِن اقْتصر على أَرْبَعِينَ فَفِي الْأَجْزَاء نزاع وروى أَن عمر كَانَ يُعَزّر بِأَكْثَرَ من ذَلِك كَمَا روى أَنه كَانَ يَنْفِي الشَّارِب ويمثل بِهِ ويحلق رَأسه وروى من وُجُوه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن يشرب الْخمر فاجلدوه ثمَّ إِن شربهَا فاجلدوه ثمَّ إِن شربهَا فِي الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة فَاقْتُلُوهُ فَأمر بقتل الشَّارِب فِي الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة وَأكْثر وَأكْثر الْعلمَاء لَا يوجبون الْقَتْل ويجعلونه مَنْسُوخا وَهُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب الْأَئِمَّة أَو يَقُولُونَ إِذا لم ينْتَهوا عَن الشّرْب إِلَّا بِالْقَتْلِ جَازَ ذَلِك كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث آخر فِي السّنَن أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَاهُم عَن أَنْوَاع من الْأَشْرِبَة المسكرة قَالَ فَإِن لم يدعوا ذَلِك فاقتلوهم وَأما تَارِك الصَّلَاة فَإِنَّهُ يسْتَحق الْعقُوبَة اتِّفَاقًا وَأَكْثَرهم يقْتله بعد أَن يُسْتَتَاب وَهل يقتل كفرا أَو حدا فِيهِ نزاع وَإِذا لم يكن إِمَامَة الْحَد على مثل فانه يعْمل مَعَه الْمُمكن فيجر ويوبخ حَتَّى يفعل الْمَفْرُوض وَيتْرك الْمَحْظُور وخمر الْعِنَب حرَام الْمُسلمين قَليلَة وكثيرة وَمن نقل عَن أبي حنيفَة إِبَاحَة قَلِيل ذَلِك فقد كذب بل من اسْتحلَّ ذَلِك فانه يُسْتَتَاب فان تَابَ وَإِلَّا قتل وَأَبُو حنيفَة يحرم نَبِيذ التَّمْر وَالزَّبِيب النَّبِي قَليلَة وكثيرة إِذا كَانَ مُسكرا وَكَذَلِكَ الْمَطْبُوخ من عصير الْعِنَب الَّذِي لم يذهب ثُلُثَاهُ فانه يحرم قَليلَة وَكَثِيره فَهَذِهِ الْأَرْبَعَة يحرم عِنْده قليلها وكثيرها وَإِنَّمَا وَقعت الشُّبْهَة فِي سَائِر كالمرز الَّذِي يصنع من الذّرة أَو الْقَمْح وَنَحْوه فَالَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير أَئِمَّة الْمُسلمين التَّحْرِيم كَمَا

فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن أهل الْيمن قَالُوا يَا رَسُول الله إِن عندنَا شرابًا يُقَال لَهُ البتع من الْعَسَل وَشَرَابًا من الذّرة يُقَال لَهُ المزر وَكَانَ قد أُوتى جَوَامِع والكلم فَقَالَ كل مُسكر حرَام وَقَالَ كل مُسكر خمر وكل مُسكر حرَام واستفاضت الْأَحَادِيث بذلك والحشيشة المسكرة حرَام وَمن اسْتحلَّ السكرة مِنْهَا فقد كفر بل فِي أصح قولي الْعلمَاء أَنَّهَا نجسه كَالْخمرِ وَالْخمر كالبول والحشيشة كالعذرة وَيجب فِيهِ الْحَد وَإِنَّمَا توقف بعض الْفُقَهَاء فِي الْحَد لِأَنَّهُ ظن أَنَّهَا تغطى الْعقل كالبنج فيعزره وَالصَّحِيح أَنَّهَا تسكر وَإِنَّمَا كَانَت مسكرة بِخِلَاف البنج وجوزة الطّيب لِأَنَّهَا تسكر بالاستحالة كَالْخمرِ يسكر بالاستحالة أَيْضا فالبنج يغيب الْعقل ويسكر بعد الاستحالة كجوزة الطّيب وَمن ظن أَن الحشيشة لَا تسكر وَإِنَّمَا نغيب الْعقل بِلَا لَذَّة لم يعرف حَقِيقَة أمرهَا فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا فِيهَا من اللَّذَّة لم يَتَنَاوَلهَا بِخِلَاف البنج وَنَحْوه والشارع اكْتفى فِي الْمُحرمَات الَّتِي لَا تشتهيها النُّفُوس كَالدَّمِ بالزاجر الطبيعي فَجعل الْعقُوبَة عَلَيْهَا التَّعْزِير وَأما مَا تشتهيه النُّفُوس فقد جعل الزاجر الشَّرْعِيّ كالزاجر الطبيعي وَهُوَ الْحَد والحيشية من هَذَا الْبَاب وَمَا يرْوى أَن عمر أَبَاحَ الْمَنْصُوص وَصورته أَن يغلي الْعصير حَتَّى يذهب ثلاثاه فَالَّذِي أَبَاحَهُ عمر لم يكن يسكر فَمن نقل أَنه أَبَاحَ الْمُسكر فقد كذب وَأما إِذا ضيف إِلَيْهِ شَيْء مثل أفاويه مِمَّا تقويه حَتَّى يصير مُسكرا فَهَذَا من الخليطين وَقد استفاض النَّهْي عَن الخليطين وَقد استفاض النَّهْي عَن الخليطين لتقوية أَحدهمَا الآخر كَمَا نهى عَن خلط التَّمْر وَالزَّبِيب وَعَن الرطب وَالتَّمْر وللعلماء نزاع فِي الخليطين إِذا لم يسكر كَمَا تنازعوا فِي نَبِيذ الأوعية الَّتِي لَا تنشف بالغليان وكما تنازعوا فِي الْعصير والنبيذ بعد ثَلَاث وَأما إِذا صادر الخليطان مُسكرا فَإِنَّهُ حرَام بانفاق جَمَاهِير عُلَمَاء الْأمة كَأَهل الْحجاز واليمن ومصر وَالشَّام وَالْبَصْرَة وفقهاء الحَدِيث وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي حنيفَة فان هَؤُلَاءِ جَمِيعًا على أَن كل مَا أسكر فقليله حرَام وَهُوَ خمر

فصل

عِنْدهم من أَي مَادَّة كَانَ من الْحُبُوب أَو التمار أَو لبن الْخَيل أَو غَيره وَسَوَاء كَانَ مطبوخا أَو نيئا ذهب ثلثه أَو نصفه أَو أقل أَو أَكثر وَالَّذِي أَبَاحَهُ عمر من الْمَطْبُوخ مَا كَانَ ن الْعِنَب أَو غَيره صرفا فَإِذا خلط بِمَا يقويه وَلَو ذهب ثُلُثَاهُ لم يكن مِمَّا أَبَاحَهُ عمر وَرُبمَا يكون لبَعض الْبِلَاد طبيعة يسكر فِيهَا مَا ذهب ثُلُثَاهُ فَيحرم إِذا فَإِن منَاط التَّحْرِيم هُوَ السكر بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة فصل وَأما التَّدَاوِي بِالْخمرِ وَلحم الْكَلْب وَسَائِر الْمُحرمَات فَإِنَّهُ حرَام عِنْد جَمَاهِير الْأَئِمَّة كمالك وَأحمد وَأبي حنيفَة وَأحد الْوَجْهَيْنِ للشَّافِعِيّ لِأَنَّهُ ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الْخمر يصنع الدَّوَاء فَقَالَ إِنَّهَا دَاء وَلَيْسَ بدواء وَنهى عَن الدَّوَاء الْخَبيث وَفِي السّنَن الْخمر أم الْخَبَائِث وَذكر البُخَارِيّ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ إِن الله لم يَجْعَل شِفَاء أمتِي فِيمَا حرم عَلَيْهَا وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم فِي صَحِيحه مَرْفُوعا وَالَّذين جوزوا التَّدَاوِي بالمحرم فاسوا ذَلِك على إِبَاحَة الْمُحرمَات للْمُضْطَر وَهَذَا ضَعِيف لوجوه أَحدهَا أَن الْمُضْطَر يحصل مَقْصُوده بِأَكْل الْميتَة يَقِينا والمتداوي لَيْسَ كَذَلِك الثَّانِي أَن الْمُضْطَر لَا طَرِيق لَهُ غير الْأكل من هَذِه وَأما المتداوي فَلَا يتَعَيَّن عَلَيْهِ تنَاول هَذَا الْخَبيث فَإِن الْأَدْوِيَة أَنْوَاع كَثِيرَة وَقد يحصل الشِّفَاء بِغَيْر الْأَدْوِيَة كالدعاء والرقي وَهُوَ أعظم نَوْعي الدَّوَاء حَتَّى قَالَ بقراط نِسْبَة طبنا إِلَى طب أَرْبَاب الهياكل كنسبة طب الْعَجَائِز إِلَى طبنا وَقد يحصل الشِّفَاء بِغَيْر سَبَب اخْتِيَاري بل بِمَا يَجعله الله من القوى الطبيعية فِي الْجَسَد

فصل

الثَّالِث أَن أكل الْميتَة للْمُضْطَر وَاجِب إِلَّا عِنْد طَائِفَة قَليلَة قَالَه بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي أَحْمد بل تنازعوا أَيّمَا أفضل وَحَدِيث الْجَارِيَة الَّتِي كَانَت تصرع وَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَدْعُو لَهَا فَقَالَ إِن أَحْبَبْت أَن تصبري وَلَك الْجنَّة وَإِن أَحْبَبْت دَعَوْت الله أَن يشفيك فَقَالَت بل أَصْبِر وَلَكِنِّي أنكشف فَادع الله لي أَن لَا أتكشف فَدَعَا لَهَا بذلك يدل على عدم وجوب التَّدَاوِي وَأَيْضًا فخلق من الصَّحَابَة لم يَكُونُوا يتداوون بل فيهم من اخْتَار الْمَرَض كَأبي بن كَعْب وَأبي ذَر وَلم يُنكر عَلَيْهِم فَيمْتَنع الْقيَاس مَعَ وجود هَذِه الْأُمُور فصل واللعب بالشطرنج حرَام عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء كالنرد فقد ثَبت عَن عَليّ أَنه مر بِقوم يَلْعَبُونَ بالشطرنج فَقَالَ مَا هَذِه التماثيل الَّتِي أَنْتُم لَهَا عاكفون وقلب الرقعة عَلَيْهِم وَقَالَ أجمع الْعلمَاء على أَن اللّعب بالنرد وَالشطْرَنْج حرَام عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة سَوَاء كَانَ بعوض أَو غَيره وَجوزهُ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي إِذا لم يكن بعوض وَجُمْهُور أَصْحَاب مَالك وَأحمد وَأَبُو حنيفَة وَغَيرهم حرمُوهُ وَلَكِن تنازعوا أَيّمَا أَشد فَقَالَ مَالك وَغَيره الشطرنج شَرّ من النَّرْد وَقَالَ أَحْمد وَغَيره الشطرنج أخف من النَّرْد وَلِهَذَا توقف الشَّافِعِي فِي الشطرنج إِذا خلت عَن الْمُحرمَات إِذا سَبَب الشُّبْهَة فِي ذَلِك أَن أَكثر من يلْعَب النَّرْد يلعبها بعوض بِخِلَاف الشطرنج فَإِنَّهَا تلعب بِغَيْر عوض غَالِبا وَظن بَعضهم أَن الشطرنج يعين على قتال وَالتَّحْقِيق أَن النَّرْد وَالشطْرَنْج إِذا لعب بهما بعوض فالشطرنج شرهما لِأَن الشطرنج حِينَئِذٍ حرَام إِجْمَاعًا وَكَذَلِكَ يحرم إِجْمَاعًا إِذا اشْتَمَلت على محرم من كذب وَيَمِين فاجرة أَو ظلم أَو خِيَانَة أَو حَدِيث غير وَاجِب وَنَحْوهَا وَهِي

فصل

حرَام عِنْد الْجُمْهُور وَإِن خلت عَن الْمُحرمَات فَإِنَّهَا تصد عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة وتوقع الْعَدَاوَة والبغضاء أعظم من النَّرْد إِذا كَانَ بعوض وَإِذا كَانَا بعوض فالشطرنج شَرّ فِي الْحَالين وَأما إِذا كَانَ الْعِوَض من أَحدهمَا فَفِيهِ من أكل المَال بِالْبَاطِلِ مَا لَيْسَ فِي الآخر وَالله تَعَالَى قرن الميسر بِالْخمرِ والأنصاب والأزلام لما فِيهَا من الصد عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة وإيقاع المداوة والبغضاء فَإِن الشطرنج إِذا استكثر مِنْهَا تسكر الْقلب وتصده عَن ذكر الله أعظم من سكر الْخمر وَقد شبه عَليّ رَضِي الله عَنهُ لاعبيها بعباد الْأَصْنَام كَمَا شبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَارِب الْخمر بعابد الوثن وَمَا يرْوى عَن سعيد بن جُبَير من اللّعب بالشطرنج فقد بَين سَبَب ذَلِك وَهُوَ أَن الْحَاج طلبه للْقَضَاء فلعب بهَا ليَكُون ذَلِك قادحا فِيهِ فَلَا يُولى الْقَضَاء وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رأى ولَايَة الْحجَّاج أَشد ضَرَرا عَلَيْهِ فِي دينه من ذَلِك والأعمال بِالنِّيَّاتِ وَقد يُبَاح مَا هُوَ أعطم تَحْرِيمًا من ذَلِك لأجل الْحَاجة وَهَذَا بَين أَن اللّعب بالشطرنج كَانَ عِنْدهم من الْمُنْكَرَات كَمَا نقل عَن عَليّ وَابْن عمر وَغَيرهمَا وَلِهَذَا قَالَ أَحْمد وَأَبُو حنيفَة وَغَيرهمَا لَا يسلم على لاعب الشطرنج لِأَنَّهُ مظهر للمعصية وَقَالَ صاحبا أبي حنيفَة يسلم عَلَيْهِ فصل لَيْسَ لأهل الذِّمَّة أَن يبيعوا الْخمر للْمُسلمين وَلَا يهدوها وَلَا يعاونونهم عَلَيْهَا وَلَا يعصرونها لمُسلم وَلَا يحملونها لَهُم وَلَا يبيعونها من مُسلم وَلَا ذمِّي جهارا أما إِذا بَاعهَا الذِّمِّيّ سرا فَلَا يمْنَع من ذَلِك وَإِذا تقابضا جَازَ أَن يعامله الْمُسلمُونَ بذلك الثّمن الَّذِي قَبضه من ثمن الْخمر وَمَتى فعلوا ذَلِك استحقوا الْعقُوبَة وَهل ينْتَقض عَهدهم فِيهِ نزاع وَمن أعانهم بجاهه أَو غير جاهه وَجب عُقُوبَته

وَإِذا شربهَا الذِّمِّيّ الَّذِي قيل يحد وَقيل لَا يحد وَقيل يحد إِن سكر وَهَذَا إِذا ظهر بَين الْمُسلمين وَأما مَا يختفون بِهِ فِي بُيُوتهم من غير ضَرَر بِالْمُسْلِمين بِوَجْه من الْوُجُوه فَلَا يتَعَرَّض لَهُم على هَذَا فَإِذا كَانُوا لَا ينتهون عَن إِظْهَار الْخمر أَو عَن معاونة الْمُسلمين عَلَيْهَا أَو بيعهَا أَو هديتها لَهُم إِلَّا بإراقتها عَلَيْهِم فَإِنَّهَا تراق مَعَ مَا يعاقبون بِهِ إِمَّا بِمَا يُعَاقب بِهِ نَاقص الْعَهْد وَأما بِغَيْرِهِ فصل مَا يذكر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا غيبَة لفَاسِق فَلَيْسَ هُوَ من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكنه مَأْمُور عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ أترغبون عَن ذكر الْفَاجِر أذكروه بِمَا فِيهِ يحذرهُ النَّاس وَفِي حَدِيث آخر من ألْقى جِلْبَاب الْحيَاء فَلَا غيبَة لَهُ وَهَذَا النوعان يجوز فيهمَا الْغَيْبَة بِلَا نزاع بَين الْعلمَاء أَحدهمَا أَن يكون الرجل مظهر للفجور مثل الظُّلم وَالْفَوَاحِش والبدع الْمُخَالفَة للسّنة فَإِذا أظهر الْمُنكر وَجب الْإِنْكَار عَلَيْهِ بِحَسب الْقُدْرَة ويهجر وَيذكر مَا فعله وَيذكر مَا فعله ويذم على ذَلِك وَلَا يرد عَلَيْهِ السَّلَام إِذا أمكن من غير مفْسدَة راجحة وَيَنْبَغِي لأهل الْخَيْر أَن يهجروه حَيا إِذا كَانَ فِي ذَلِك كف لأمثاله وَلَا يشيعوا جنَازَته وكل من علم ذَلِك مِنْهُ وَلم يُنكر عَلَيْهِ فَهُوَ عَاص لله وَرَسُوله فَهَذَا معنى قَوْلهم من ألْقى جِلْبَاب الْحيَاء فَلَا غيبية لَهُ من كَانَ مستترا بِذَنبِهِ مستخفيا فَإِن هَذَا يستر عَلَيْهِ لَكِن ينصح سرا ويهجره من عرف حَاله حَتَّى يَتُوب وَيذكر أمره على وَجه النَّصِيحَة النَّوْع الثَّانِي أَن يستشار الرجل فِي مناكحته ومعاملته أَو استشهاده وَيعلم أَنه لَا يصلح لذَلِك فينصح مستثيره بِبَيَان حَاله فَهُوَ كَمَا قَالَ الْحسن اذْكروا بِمَا فِيهِ يحذرهُ النَّاس فَإِن النصح فِي الدّين من أعظم النصح فِي الدُّنْيَا

فصل

وَإِذا كَانَ الرجل يتْرك الصَّلَاة ويرتكب الْمُنْكَرَات وَقد عَاشر من يخَاف عَلَيْهِ أَن يفْسد دينه فَلَا أَن يبين أمره ليتقى مُبَاشَرَته وَإِذا كَانَ مبتدعا يَدْعُو النَّاس إِلَى عقائد تخَالف الْكتاب وَالسّنة وَيخَاف أَن يضل النَّاس بذلك فَلَا بُد أَن يبين أمره للنَّاس ليتقوا ضلاله ويعلموا حَاله وَهَذَا كُله يجب أَن يكون على وَجه النصح وابتغاء وَجه الله لَا للهوى الشَّخْص مَعَ الْإِنْسَان مثل أَن يكون بَينهمَا عَدَاوَة دينوية أَو تحاسد أَو تباغض أَو تنَازع على رياسة فيتكلم بمساوية مظْهرا للنصح وَفِي بَاطِنه البغض وشفاؤه غيظه مِنْهُ فَهَذَا من عمل الشَّيْطَان وَإِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكل أمرىء مَا نوي بل يَنْبَغِي أَن يقْصد أَن يصلح الله ذَلِك الشَّخْص وَيَكْفِي الْمُسلمين ضَرَره ويسلك صِرَاط الْمُسْتَقيم وَلَا يجوز لأحد أَن يشْهد مجَالِس الْمُنْكَرَات بِاخْتِيَارِهِ بِغَيْر صُورَة وَرفع إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ قوم شربوا الْخمر فَأمر بجلدهم فَقيل فيهم فلَان صَائِم فَقَالَ بِهِ ابدأوا أما سَمِعت الله تَعَالَى يَقُول {وَقد نزل عَلَيْكُم فِي الْكتاب أَن إِذا سَمِعْتُمْ آيَات الله يكفر بهَا ويستهزأ بهَا فَلَا تقعدوا مَعَهم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره إِنَّكُم إِذا مثلهم} فَجعل حَاضر الْمُنكر كفاعلة فصل وَمَا يذكر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا يؤلف عمر الأَرْض فَلَا أصل لذَلِك بل لَيْسَ فِي تَحْدِيد وَقت السَّاعَة نَص أصلا وَإِنَّمَا أخبر الْكتاب وَالسّنة بأشراطها وَهِي كَثِيرَة يقدم بَعْضهَا بَعْضًا وَمن تكلم فِي وَقتهَا الْمعِين مثل الَّذِي صنف كتابا سَمَّاهُ الدّرّ المنتظم فِي معرفَة النبأ الْأَعْظَم وَذكر فِيهِ عشر دلالات بَين فِيهَا وَقتهَا وَالَّذين تكلمُوا على ذَلِك من حُرُوف المعجم وَالَّذِي تكلم فِي عنقاء مغرب وأمثال وَإِن ادعوا الْكَشْف وَمَعْرِفَة الْأَسْرَار فهم كاذبون قَائِلُونَ على الله بِغَيْر علم وَقد حرم الله القَوْل عَلَيْهِ بِغَيْر علم

كتاب الجهاد

كتاب الْجِهَاد الْمقَام بثغور الْمُسلمين كالثغور الشامية والمصرية أفضل من الْمُجَاورَة فِي الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة لَا أعلم فِي هَذَا نزاعا بَين الْعلمَاء نَص عَلَيْهِ غير وَاحِد وَذَلِكَ لِأَن الرِّبَاط من جنس الْجِهَاد والمجاورة غايتها أَن تكون من جنس الْحَج وَقد قَالَ تَعَالَى {أجعلتم سِقَايَة الْحَاج وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كمن آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وجاهد فِي سَبِيل الله لَا يستوون عِنْد الله} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ أَي الْأَعْمَال أفضل قَالَ إِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله قيل ثمَّ أَي قَالَ ثمَّ جِهَاد فِي سبييل الله قيل ثمَّ أَي قَالَ ثمَّ حج مبرور وَقَالَ رِبَاط يَوْم فِي سَبِيل الله خير من ألف يَوْم فِيمَا سواهُ وَمن عجز عَن إِقَامَة دينه بماردين أَو غَيرهَا من الْبِلَاد وَجب عَلَيْهِ الْهِجْرَة وَإِلَّا اسْتحبَّ ومساعدة الْمُسلمين لأعداء الله وَرَسُوله مُحرمَة عَلَيْهِم وَمن كَانَ للْمُسلمين بِهِ مَنْفَعَة من الْجند وَنَحْوهم لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يتْرك الْخدمَة إِلَّا لمصْلحَة راجحة للْمُسلمين بل كَونه مقدما فِي الْجِهَاد الَّذِي يُحِبهُ الله وَرَسُوله هُوَ أفضل من التَّطَوُّع بالعبادات كَصَلَاة التَّطَوُّع وَالْحج التَّطَوُّع وَالصَّوْم التَّطَوُّع وَإِذا سباه مُسلم فَهُوَ مُسلم إِذا كَانَ المسبي طفْلا وَإِن لم يعلم حَال السابي بل أمكن أَن يكون كَافِرًا أَو نقم حجَّة بِأَحَدِهِمَا لم يحكم بِإِسْلَامِهِ وَيجوز بل يجب قتال هَؤُلَاءِ التتار الَّذين يقدمُونَ إِلَى الشَّام مرّة بعد مرّة وَإِن تكلمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ وانتسبوا إِلَى الْإِسْلَام وَجب قِتَالهمْ بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واتفاق أَئِمَّة الْمُسلمين وَهَذَا مبْنى على أصلين أَحدهمَا الْمعرفَة بحالهم وَالثَّانِي معرفَة حكم الله فيهم وَفِي أمثالهم أما الأول فَكل من بَاشر الْقَوْم يعلم حَالهم وَهُوَ متواتر بأخبار

الصَّادِقين وَنحن نتكلم على جملَة أُمُورهم بعد أَن تبين الأَصْل الآخر الَّذِي يخْتَص بمعرفته أهل الْعلم فَنَقُول كل طَائِفَة خرجت عَن شرائع الْإِسْلَام الظَّاهِرَة المتواترة مثل أَن تركُوا الصَّلَاة أَو منعُوا الزَّكَاة أَو أعْلنُوا بالبدع المناقضة للاسلام فِي العقائد أَو الْعِبَادَات أَو تحاكموا إِلَى الطاغوت وَنَحْو ذَلِك فَالْوَاجِب على الْمُسلمين قِتَالهمْ بِاتِّفَاق أَئِمَّة الْمُسلمين وَإِن تكلمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ فَيجب قِتَالهمْ على نَحْو مَا فعل أَبُو بكر وَالصَّحَابَة بِأَهْل الرِّدَّة وبالخوارج حَتَّى يكون الدّين كُله لله وَأما الأَصْل الآخر وَهُوَ معرفَة أَحْوَالهم فقد علم أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم جاروا على الشَّام فِي الْمرة الأولى عَام تِسْعَة وَتِسْعين وسِتمِائَة وأعطوا النَّاس الْأمان وقرءوه على الْمِنْبَر بِدِمَشْق وَمَعَ هَذَا فقد سبوا من ذَرَارِي الْمُسلمين مَا يُقَال إِنَّه مائَة ألف أَو يزِيد عَلَيْهِ وفعلوا بِبَيْت الْمُقَدّس وجبل الصالحية ونابلس وحمص ودرايا وَغير ذَلِك من الْقَتْل والسبي مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله وفجروا بِخَير نسَاء الْمُسلمين فِي الْمَسَاجِد كالمسجد الْأَقْصَى والأموي وَغَيرهَا وَجعلُوا الْجَامِع الَّذِي بِالْعقبَةِ دكا وَقد شاهدنا عَسْكَر الْقَوْم فَوَجَدنَا جمهورهم لَا يصلونَ وَلَو نر فِي عَسْكَرهمْ مُؤذنًا وَلَا إِمَامًا وَلم يكن مَعَهم إِلَّا من كَانَ من شَرّ الْخلق إِمَّا زنديق مُنَافِق لَا يعْتَقد دين الْإِسْلَام فِي الْبَاطِن وَإِمَّا من هُوَ شَرّ أهل الْبدع كالرافضة والجهمية والاتحادية وَنَحْوهم وَإِمَّا من أفجر النَّاس وأفسقهم وهم لَا يحجون الْبَيْت الْعَتِيق مَعَ تمكنهم وَإِن كَانَ فيهم من يُصَلِّي ويصوم فَلَيْسَ الْغَالِب عَلَيْهِم إِقَامَة الصَّلَاة وَلَا إيتَاء الزَّكَاة وَإِن فعلوا هُوَ للتقية وهم يُقَاتلُون على ملك جنكزخان فَمن دخل فِي طاعتهم وَطَاعَة شَرِيعَة جنكزخان الكفرية الَّتِي يسمونها الباسقة السياسة جَعَلُوهُ وليالهم وَإِن كَافِرًا وَمن خرج عَن ذَلِك جَعَلُوهُ عدوا لَهُم وَإِن كَانَ من خِيَار الْمُسلمين وَلَا يُقَاتلُون على

الْإِسْلَام وَلَا يضعون على أهل الذِّمَّة جِزْيَة كَمَا قَالَ أكبر مقدميهم إِلَى الْمُسلمين أَن يسوى بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي هُوَ أكْرم خلق الله وَسيد ولد آدم وَبَين مَالك كَافِر وثنى خَبِيث من أعظم الْمُشْركين كفرا وَفَسَادًا وعدوانا وَذَلِكَ أَن اعْتِقَادهم فِي جنكرخان كفر عَظِيم فَإِنَّهُم يَعْتَقِدُونَ أَنه أبن الله من جنس مَا يعْتَقد النَّصَارَى فِي الْمَسِيح سُبْحَانَ رَبنَا وَتَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا وَيَقُولُونَ إِن الشَّمْس حبلت أمه وَأَنَّهَا كَانَت خيمة فَنزلت الشَّمْس من كوَّة فَدخلت فِيهَا حَتَّى حبلت وَهَذَا كذب عِنْد كل ذى دين وعقل بل هُوَ دَلِيل على أَنه ولد زنا وَأَن أمه مَا ادَّعَت ذَلِك إِلَّا لتستر معرة زنَاهَا وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ عِنْدهم أعظم من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويعظمون ماسنه لَهُم وشرعه بظلمه وهواه ويشركون بِهِ بِذكر اسْمه على أكلهم وشربهم وحكمهم ويستحلون قتل من ترك سنة هَذَا الْكَافِر الملعون وَمَعْلُوم أَن مُسَيْلمَة الْكذَّاب كَانَ أقل ضَرَرا من هَذَا الْكَافِر الَّذِي ادعوا أَنه شريك مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرسَالَة فاستحل الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم قِتَاله فَكيف بِمن كَانَ فِيمَا يظهره من الْإِسْلَام هُوَ بجعله مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كجنكرخان وَهُوَ يعظمون الْكفَّار الَّذين يتبعُون جنكرخان عَليّ الْمُسلمين المتبعين لِلْقُرْآنِ بل جنكرخان أعظم من فِرْعَوْن وهامان ضَرَرا فَإِنَّهُ علا فِي الأَرْض وَجعل أَهلهَا شيعًا وَأهْلك الْحَرْث والنسل فَرد عَن مَالك الْأَنْبِيَاء إِلَى مَا ابتدعه من جاهليته وسياسته الكفرية الْمفْسدَة وَلَو قلت مَا رَأَيْته مِنْهُم وسمعته لما وَسعه هَذَا الْمَكَان وَمَعْلُوم من دين الْإِسْلَام أَن من جوز اتِّبَاع شَرِيعَة غير الْإِسْلَام فَإِنَّهُ كَافِر

وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا من نفاق وزندقة وإلحاد وفسوق وعصيان إِلَّا وَهِي دَاخِلَة فِي أَتبَاع التتار لأَنهم من أَجْهَل الْخلق وَأَقلهمْ معرفَة بِالدّينِ وأجرأهم على انتهاك الحرمات واعتداء الْحُدُود وَأعظم الْخلق اتبَاعا للظن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَقد قسموا النَّاس يحْسب سياستهم الْفَاجِرَة أَرْبَعَة أَقسَام يار ودشمن ودانشمند وطط أَي صديقهم وعدوهم والعالم والمعاصي حَتَّى صنف وزيرهم السَّفِيه الملقب بالرشيد كتابا قَالَ فِيهِ إِن مُحَمَّدًا رَضِي بدين الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَأَنه لَا يُنكر عَلَيْهِم وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ لَا أعبد مَا تَعْبدُونَ وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد} إِلَى آخر السُّورَة وَزعم الْخَبيث أَن هَذَا يَقْتَضِي أَن الرَّسُول رَضِي دينهم قَالَ وَهَذِه الْآيَة مَكِّيَّة لييت مَنْسُوخَة وَهَذَا من فَسَاد جَهله فَإِن قَوْله {لكم دينكُمْ} إِنَّمَا يدل عَليّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَبرأ من دينهم لَا أَنه رضيه وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّهَا بَرَاءَة من الشّرك كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِن كَذبُوك فَقل لي عَمَلي وَلكم عَمَلكُمْ أَنْتُم بريئون مِمَّا أعمل وَأَنا بَرِيء مِمَّا تَعْمَلُونَ} وَشرح حَالهم يطول وَمن فر إِلَيْهِم من أُمَرَاء الْعَسْكَر فَحكمه حكمهم فِيهِ من الرِّدَّة بِقدر مَا تَركه من شرائع الْإِسْلَام فعلينا أَن نقاتلهم وَلَو كَانَ فيهم من هُوَ مكره لَا نلتفت إِلَيْهِ لِأَن الله تَعَالَى يخسف بالجيش الَّذِي يَغْزُو الْكَعْبَة مَعَ علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمن فيهم هُوَ مكره ثمَّ يَبْعَثهُم على نياتهم وَهل يجوز الْقِتَال فِي الْفِتْنَة على قَوْلَيْنِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وَيجوز أَن يغمس الْمُسلم نَفسه فِي صف الْكفَّار لمصْلحَة وَلَو غلب على ظَنّه أَنهم يقتلونه وَمن زعم أَن هَؤُلَاءِ التتارية يُقَاتلُون كالبغاة فقد أَخطَأ خطأ قبيحا فَإِن هَؤُلَاءِ التتار لَا شُبْهَة لَهُم بل يسعون فِي الأَرْض فَسَادًا خَارِجين عَن شرائع كل دين ثمَّ لَو قدر أَنهم يتأولون لم يكن تأويلهم سائغا بل تَأْوِيل الْخَوَارِج وَمَا نعي الزَّكَاة أوجه من تأويلهم

فصل

وَقد خاطبني بَعضهم فَقَالَ ملكنا ملك بن مَالك بن ملك إِلَى سَبْعَة أجداد وملككم ابْن مولى فَقلت اباه ذَلِك الْملك كلهم كفار وَلَا فَخر بالكافر بل الْمَمْلُوك الْمُسلم خير من الْملك الْكَافِر قَالَ الله تَعَالَى {ولعَبْد مُؤمن خير من مُشْرك} فَهَذِهِ وأمثالها حججهم وَبِالْجُمْلَةِ فقد اتّفق الْمُسلمُونَ على أَن من ترك شَرِيعَة من شرائع الْإِسْلَام وَجب قِتَاله فَكيف بِمن ترك جَمِيع شرائعه أَو أَكْثَرهَا فَمَا الظَّن بِمن يحاربها فصل يجب جِهَاد الْكفَّار واستنفاذا مَا بِأَيْدِيهِم من بِلَاد الْمُسلمين وأسراهم وَيجب على الْمُسلمين أَن يَكُونُوا يدا وَاحِدَة على الْكفَّار وَأَن يجتمعوا ويقاتلوا على طَاعَة الله وَرَسُوله وَالْجهَاد فِي سَبيله وَيَدْعُو الْمُسلمين إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ سلفهم الصَّالح من الصدْق وَحسن الْأَخْلَاق فَإِن هَذَا من أعظم أصُول الْإِسْلَام وقواعد الْإِيمَان الَّتِي بعث الله بهَا رسله وَأنزل بهَا كتبه أَمر عباده عُمُوما بالاجتماع ونهاهم عَن التَّفَرُّق وَالِاخْتِلَاف كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَن أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات} وَأخْبر سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ أرسل جَمِيع الْمُرْسلين بدين الْإِسْلَام كَمَا قَالَ تَعَالَى {مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم هُوَ سَمَّاكُم الْمُسلمين من قبل} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِنَّا معاشر الْأَنْبِيَاء إخْوَة لعَلَّات ديننَا وَاحِد وَأَنا أولى بِابْن مَرْيَم لِأَنَّهُ لَيْسَ بيني وَبَينه نَبِي فَتبين أَن دين الْأَنْبِيَاء وَاحِد وَأَنَّهُمْ إخْوَة لعَلَّات وهم الَّذين أبوهم وَاحِد وأمهاتهم شَتَّى فَإِن كَانَ بِالْعَكْسِ قيل أَوْلَاد أخياف وَإِن اشْتَركُوا فِي الْأَمريْنِ قيل أَوْلَاد أَعْيَان وَهَذَا لِأَن الدّين هُوَ الأَصْل فَشبه بِالْأَبِ والشرعة والمنهاج تبع فَشبه بِالْأُمِّ فَقَالَ تَعَالَى {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} والشرعة والمنهاج

السَّبِيل وَقَالَ {وَلكُل وجهة هُوَ موليها} وَالْقُرْآن لَهُ شَرِيعَة والتوراة لَهَا شَرِيعَة قبل النّسخ وَاتِّبَاع كل شَرِيعَة قبل النّسخ والتبديل هُوَ الْوَاجِب وَهُوَ من تَمام الدّين الَّذِي هُوَ الْإِسْلَام فَلَمَّا بدلت الْيَهُود التَّوْرَاة وَنسخت لم يبقوا مُسلمين حَيْثُ كفرُوا بِبَعْض الْكتاب وآمنوا بِبَعْض وَهَؤُلَاء الرافضة الجبلية الخارجون عَن جمَاعَة الْمُسلمين وَطَاعَة وُلَاة الْأُمُور الَّذين قد اعتدوا على الْمُسلمين وَكَفرُوا سَائِر الْمُسلمين وفضلوا عَلَيْهِم الْيَهُود وَالنَّصَارَى واعتقدوا حل دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ وكذبوا بِأَحَادِيث الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَفرُوا السَّابِقين الْأَوَّلين وَالْأَنْصَار وفارقوا السّنة يجب قِتَالهمْ بِالْإِجْمَاع وَيجوز أَخذ أَمْوَالهم الَّتِي بِالْجَبَلِ غنيمَة لأَنهم قد أخذُوا من أَمْوَال الْمُسلمين أَضْعَاف ذَلِك {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} وَأما سبي حريمهم فَفِيهِ نزاع كَمَا تنازعوا فِي تكفيرهم مِنْهُم من يلحقهم بمانعي الزَّكَاة الَّذين سبا أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ حريمهم ومنعهم من يلحهم بالخوارج الَّذين لم تسب حريمهم وَيجب أَن يُحَال بَين الرافضي وَبَين أَوْلَاده فِي حَال حياتهم لِأَنَّهُ لَا بُد أَن يفْسد دينهم وَإِذا قدر على كَافِر حَرْبِيّ فَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَجب الْكَفّ عَنهُ بِخِلَاف الخارجين عَن الشَّرِيعَة كالمرتدين الَّذين قَاتلهم أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أَو الْخَوَارِج الَّذين قَاتلهم عَليّ كالخرمية والتتار وأمثال هَذِه الطوائف مِمَّن نطق بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَا يلتز شرائع الْإِسْلَام وَإِمَّا الْحَرْبِيّ فَإِذا نطق بهَا كف عَنهُ ثمَّ إِن لم يصل فَإِنَّهُ يُسْتَتَاب فَإِن صلى وَإِلَّا قَتله الإِمَام وَلَيْسَ لأحد من الرّعية قَتله إِنَّمَا يقْتله ولي الْأَمر عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَعند أبي حنيفَة يُعَاقِبهُ بِدُونِ الْقَتْل وَأما إِذا كَانَ فِي طَائِفَة ممتنعين عَن الصَّلَاة وَنَحْوهَا فَهَؤُلَاءِ يُقَاتلُون كقتال

الْمُرْتَدين والخوارج وَمن قدر عَلَيْهِ قَتله فَيجب الْفرق بَين الْمَقْدُور عَلَيْهِ وَبَين قتال الطَّائِفَة الممتنعة الَّتِي تحْتَاج إِلَى قتال وَالرّق الشَّرْعِيّ سَببه الْكفْر لما لم يسلم ويعبد الله أَبَاحَ الله للْمُسلمِ أَن يسعبده وَأما الْكَنِيسَة المحدثة فِي دَار الْإِسْلَام فَلَيْسَ لَهُم إِعَادَتهَا إِذا انْهَدَمت بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَأما الْكَنِيسَة العتيقة إِذا كَانَت بِأَرْض العنوة فَلَيْسَ لَهُم إِعَادَتهَا أَيْضا بل فِي وجوب هدمها قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ لِأَحْمَد وَالشَّافِعِيّ أما إِذا كَانَت بِأَرْض الصُّلْح الَّتِي للْمُسلمين فَهَذِهِ هَل يجوز إِعَادَتهَا فِيهِ نزاع لِأَحْمَد وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَغَيرهم وَأما إِذا كَانَت الْكَنِيسَة فِي مَكَان قد صَار فِيهِ مَسْجِد للْمُسلمين يصلى فِيهِ وَهِي أَرض عنْوَة كأرض مصر فَهَذِهِ يجب هدمها لما روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا تَجْتَمِع قبلتان بِأَرْض وَلَا جِزْيَة على مُسلم رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلِهَذَا أقرهم الْمُسلمُونَ فِي أول الْفَتْح على مَا بِأَيْدِيهِم من الْكَنَائِس الَّتِي فتحت عنْوَة كأرض مصر وَالشَّام وَغَيرهمَا فَلَمَّا كثر الْمُسلمُونَ وبنيت الْمَسَاجِد فِي تِلْكَ الأَرْض أَخذ الْمُسلمُونَ تِلْكَ الْكَنَائِس فأقطعوها وبنوها مَسَاجِد أَو غير ذَلِك لِأَن الْكَنَائِس العنوة ملك الْمُسلمين فأقروا مَا لم يكن فِيهِ ضَرَر على الْمُسلمين كإقرارهم على خَيْبَر ثمَّ أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإجلائهم فأجلاهم عمر رَضِي الله عَنهُ لما كثر الْمُسلمُونَ واستغنوا عَنْهُم وَصَارَ عَلَيْهِم مِنْهُم ضَرَر وَقَالَ عمر وَغَيره من السّلف لَا يجْتَمع بَيت رَحْمَة وَبَيت عَذَاب أَي الْمَسَاجِد بيُوت الرَّحْمَة والكنيسة بَيت الْعَذَاب وَقد هدم الْمُسلمُونَ بِأَرْض الشَّام وَالْعراق وَغَيرهَا من الْكَنَائِس مَالا يُعلمهُ إِلَّا الله لما فتح عنْوَة ومصر مَوْضِعه أَو بنى عِنْده مَسْجِدا وَأكْثر هَذِه الْكَنَائِس الْيَوْم مستحدثة وَلَا يجوز تَجْدِيد الْكَنِيسَة بِاتِّفَاق الْمُسلمين على ولي الْأَمر أَن يهدم مَا عمروه من ذَلِك وَإِذا كَانَت قديمَة ثمَّ تضرر الْمُسلمُونَ بِتِلْكَ الْكَنِيسَة وَجب هدمها فِي أصح قولي الْعلمَاء وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد

باب عقد الذمة

بَاب عقد الذِّمَّة الراهب الَّذِي تنَازع الْعلمَاء فِي وجوب أَخذ الْجِزْيَة مِنْهُ هُوَ الحبيس الْمُنْقَطع المتخلي عَن النَّاس فِي دينهم ودنياهم كَمَا قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا قد حبسوا أنفسهم فِي الصوامع فَهَذَا يُؤْخَذ مِنْهُ الْجِزْيَة فِي مَذْهَب الشَّافِعِي فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَلَا يُؤْخَذ مِنْهُ عِنْد غَيره وَأما الَّذِي يخالط أهل الذِّمَّة فيزارع ويتاجر فَحكمه حكمهم بِلَا نزاع وَتُؤْخَذ مِنْهُ الْجِزْيَة بِلَا ريب ولاي حل إبقاؤهم بِلَا جِزْيَة وَلَا يتْرك لَهُ من المَال إِذا فتحت الْبِلَاد إِلَّا مَا يَكْفِيهِ وَلَا يجوز أَن يقطع شَيْئا من أَمْوَال الْمُسلمين وَمن أعْتقهُ سَيّده وَجَبت عَلَيْهِ الْجِزْيَة عِنْد الْجُمْهُور سَوَاء كَانَ سَيّده مُسلما أَو كَافِرًا وَفِي رِوَايَة ضَعِيفَة عِنْد أَحْمد لَا جِزْيَة على عَتيق وَهِي رِوَايَة عَن مَالك وَرِوَايَة التَّهْذِيب الْفرق بَين الْعَتِيق الْمُسلم وَالذِّمِّيّ وَالرِّوَايَة الثَّالِثَة عَن مَالك كمذهب الْجُمْهُور تجب الْجِزْيَة على كل عَتيق والجزية وَجَبت عُقُوبَة وعوضا عَن حقن الدَّم عِنْد أَكثر الْعلمَاء وَأُجْرَة على سُكْنى الدَّار عِنْد بَعضهم وَمن قَالَ بِالثَّانِي لَا يُسْقِطهَا بِإِسْلَام من وَجَبت عَلَيْهِ وَلَا بِمَوْتِهِ وَلَا جِزْيَة على عبد الْمُسلم وَفِي عبد الْكَافِر نزاع لِأَحْمَد وَغَيره وَلعن الْكفَّار مُطلقًا حسن لما فيهم من الْكفْر وَأما لعن الْمعِين فينهى عَنهُ وَفِيه نزاع وَتَركه أولى وَلَا يجوز أَن يُولى الْكِتَابِيّ شَيْئا من ولايات الْمُسلمين لَا على جِهَات سلطانية وَلَا أَخْبَار الْأُمَرَاء وَلَا غير كَمَا قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لما ولى بعض امرائه كَاتبا نَصْرَانِيّا وَلَا تعزوهم بعد إِذا أذلّهم الله وَلَا تَأْمَنُوهُمْ بعد إِذْ خَوَّنَهُمْ الله

وَلَا تُصَدِّقُوهُمْ بعد إِذا أكذبهم الله وَكتب إِلَى خَالِد بِالشَّام لما رَاجعه خَالِد فِي أَمر كَاتبه بِالشَّام أَن يكون نَصْرَانِيّا لِأَنَّهُ لَا يحسن الْكِتَابَة غَيرهم فَقَالَ عمر قدرموته فِيمَن ترك شَيْئا لله عوض الله خيرا مِنْهُ وَالْمَدينَة والقربة الَّتِي يسكنهَا الْمُسلمُونَ وفيهَا مَسَاجِد الْمُسلمين لَا يجوز أَن يظْهر فِيهَا شَيْء من شَعَائِر الْكفْر لَا كنائس وَلَا غَيرهَا إِلَّا أَن يكون لَهُم عهد فيوفى لَهُم بعهدهم فَلَو كَانَ بِأَرْض الْقَاهِرَة وَنَحْوهَا كَنِيسَة قبل بِنَاء الْمَكَان للْمُسلمين يَنْبَغِي أَن تخرب وتهدم لِأَن الْقَاهِرَة فتحت عنْوَة فَكيف وكنائسها محدثة فَإِن الْقَاهِرَة قد ملكهَا العبيديون الَّذين اتّفق الْمُسلمُونَ على أَنهم خارجون عَن الشَّرِيعَة وَأَنَّهُمْ كَانُوا إسماعيلية كَمَا قَالَ الْغَزالِيّ ظَاهر مَذْهَبهم الرَّفْض وباطنه الْكفْر الْمَحْض وَاتَّفَقُوا على أَن قَتلهمْ كَانَ جَائِزا وهم الَّذين أَحْدَثُوا لِلنَّصَارَى هَذِه الْكَنَائِس وصنف الْعلمَاء فِي كفرهم وزندقتهم مثل القدروى وَالشَّيْخ أبي حَامِد الإسفرائيني وَالْقَاضِي أبي يعلى وَأبي مُحَمَّد بن زبي زيد وَأبي بكر ابْن الطّيب الباقلاني وَالَّذين يوجدون فِي بِلَاد الْإِسْلَام من الاسماعيلية والنصيرية والدروزية هم من أتباعهم وَكَانَ وزيرهم بِالْقَاهِرَةِ مرّة يَهُودِيّا فَقَوِيت الْيَهُودِيَّة بِسَبَبِهِ وَمرَّة نَصْرَانِيّا أرمنيا وقويت النَّصَارَى بِسَبَب ذَلِك النَّصْرَانِي الأرمني وبنوا كنائس كَثِيرَة بِأَرْض مصر فِي دولة أُولَئِكَ الرافضة الْمُنَافِقين وَكَانُوا ينادون بَين القصرين من لعن وَسَب فَلهُ دِينَار وأردب وَفِي أيامهم أَخذ النَّصَارَى سَاحل الشَّام من الْمُسلمين حَتَّى فَتحه نور الدّين مَحْمُود بن زنكي وَصَلَاح الَّذين الأيوبي وَلَيْسَ لأهل الذِّمَّة أَن يكاتبوا أهل دينهم من أهل الْحَرْب وَلَا يخبروهم بشئ من أَخْبَار الْمُسلمين وَمن فعل ذَلِك مِنْهُم وَجَبت عُقُوبَته وَنقض عَهده فِي أصح الْقَوْلَيْنِ

فصل

فصل وَلَا يجوز أَن يحبس شئ من أراضى الْمُسلمين الَّتِي فتحت عنْوَة كمصر وَسَوَاد الْعرَاق وبر الشَّام عَليّ شئ من معابد الْكفَّار لاكنائس وَلَا ديارات وَلَا غَيرهَا بل وَلَا يجوز لأحد من الْمُسلمين أَن يحبس عَلَيْهَا شَيْئا من مَاله فَكيف يحبس عَلَيْهَا أَرض الْمُسلمين وَإِن تحايل مُسلم فوهب الَّذِي ليحبس على الْكَنَائِس والمعابد فَيَنْبَغِي مَنعه لِأَن الذني لَو حبس من مَال نَفسه شَيْئا على معابدهم لم يجز للْمُسلمين أَن يحكموا بِصِحَّتِهِ وَإِذا رفع إِلَى ولي الْأَمر حكم بفساده وَجعله لوَرَثَة الذِّمِّيّ إِن كَانَ قد مَاتَ كَذَا نَص على هَذَا الْأَئِمَّة مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَغَيرهم وَمَا كَانَ فِي أَيْديهم من الْمزَارِع المحبسة عَليّ ذَلِك فللامام أَخذه مِنْهُم وَإِذا زار أهل الذِّمَّة كَنِيسَة بَيت الْمُقَدّس فَهَل يُقَال لَهُم يَا حَاج مثلا لَا يَنْبَغِي أَن يُقَال لَهُم ذَلِك تَشْبِيها بحاج الْبَيْت الْحَرَام وَمن اعْتقد أَن زيارتها قربَة فقد كفر فان كَانَ مُسلما فَهُوَ مُرْتَد يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل فَإِن جهل أَن ذَلِك محرم عرف ذَلِك فَإِن أصر فقد كفر وَصَارَ مُرْتَد وَمن قَالَ لأَحَدهم يَا حَاج فَإِنَّهُ يعقب عُقُوبَة بليغة تزدعه عَن مثل هَذَا الْكَلَام الَّذِي فِيهِ تَشْبِيه القاصدين للكنائس بالقاصدين لبيت الله الْحَرَام وَفِيه تَعْظِيم لذَلِك النَّصْرَانِي ولكنيسته وَهُوَ بِمَنْزِلَة من يشبه النَّصَارَى بأعياد الْمُسلمين ويعظهما وأمثال ذَلِك مِمَّا فِيهِ تَشْبِيه الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب بِأَهْل الْإِيمَان وَقد قَالَ تَعَالَى {أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين} وَقَالَ {أم نجْعَل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات كالمفسدين فِي الأَرْض أم نجْعَل الْمُتَّقِينَ كالفجار} وأى نَصْرَانِيّ قَالَ لنصراني يَا حَاج بَين الْمُسلمين فَإِنَّهُ يُعَاقب على ذَلِك بِمَا يزدعه عُقُوبَة بليغة وَكَذَا من يُسَافر إِلَى زِيَارَة الْقُبُور والمشاهد كَمَا يَفْعَله طوائف من الرافضة

وَنَحْوهم فِي تَسْمِيَة ذَلِك حجا وَقد صنف بَعضهم كتابا أَسمَاء مَنَاسِك حج الْمشَاهد فَمن شبه ذَلِك الشّرك والوثنية بِالْحَجِّ الْمَشْرُوع وَجعله مثله فَإِنَّهُ يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ ورلا قتل وَمن سَمَّاهُ حجا أَو جعله مَنَاسِك فَإِنَّهُ أَيْضا يُعَاقب عُقُوبَة بليغة بِمَا يردعه وَأَمْثَاله مَسْأَلَة وَالَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة الْمُسلمين وَجُمْهُور الْعلمَاء أَن السّفر للمشاهد الَّتِي على الْقُبُور غير مَشْرُوع بل هُوَ مَعْصِيّة من أشنع الْمعاصِي حَتَّى لَا يجوز قصر الصَّلَاة فِيهِ عِنْد من لَا يجوز قصرهَا فِي سفر الْمعْصِيَة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد الْمَسْجِد الْحَرَام والأقصى ومسجدي هَذَا وَلِهَذَا اتّفق سلف الْأمة وَخَلفهَا على أَنه لَو نذر السّفر إِلَى مشْهد عَليّ وَنَحْوه لم يوف بِهَذَا النّذر بِخِلَاف مالو نذر إتْيَان الْمَسْجِد الْحَرَام فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْوَفَاء اتِّفَاق وَكَذَا لَو نذر إتْيَان مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو الْمَسْجِد الْأَقْصَى وَجب عَلَيْهِ الْوَفَاء عِنْد مَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ وَلَا يجب عِنْد أبي حنيفَة لَكِن إِذا سمى حجا مُقَيّدا بِقَيْد يُخرجهُ عَن شُبْهَة الْمَشْرُوع مثل أَن يُقَال حج النَّصَارَى وَحج أهل الْبدع وَحج الضَّالّين كَمَا يُقَال صَوْم النَّصَارَى وَصَوْم الْيَهُود وَصَلَاة النَّصَارَى وَصَلَاة الْيَهُود وَصَلَاة الرافضة وَعِيد الرافضة وَنَحْو ذَلِك فَهُوَ جَائِز لمييز بذلك الْحق الْمَأْمُور بِهِ وَالْبَاطِل المنهى عَنهُ بل السّفر الْمَشْرُوع إِلَى مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى إِنَّمَا يكون للصَّلَاة الَّتِي ورد الحَدِيث فِي فَضلهَا وَلَيْسَ لأحد أَن يفعل فِي ذَلِك مَا هُوَ من خَصَائِص الْبَيْت الْعَتِيق كَمَا يَفْعَله بعض الضلال من الطّواف بالصخرة أَو الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة أَو السّفر إِلَى الْمُقَدّس وَقت التَّعْرِيف أَو الذّبْح هُنَاكَ وَحلق الرَّأْس وَنَحْو ذَلِك فَكل هَذَا من دين الْجَاهِلِيَّة وَهُوَ من الْمُنْكَرَات فِي دين الْإِسْلَام الَّتِي يَنْبَغِي ردع فاعليها

فصل

فصل وَإِذا شَرط ولي الْأَمر على التُّجَّار الداخلين إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام وهم من أهل الْحَرْب أَن يضمنُون مَا أَخذه الْحَرْب مِنْهُم لتجار الْمُسلمين جَازَ ذَلِك وَكَانَ شرطا صَحِيحا لِأَن غَايَته أَنه ضَمَان مَجْهُول أَو ضَمَان مَا لم يجب فَهُوَ كضمان السُّوق وَهُوَ أَن يضمن الضَّامِن مَا يجب على التَّاجِر للنَّاس من الدُّيُون وَهَذَا جَائِز عِنْد أَكثر الْعلمَاء مَالك وَأحمد وَأبي حنيفَة وَغَيرهم كَمَا فِي قَوْله {وَلمن جَاءَ بِهِ حمل بعير وَأَنا بِهِ زعيم} وَلِأَن هَؤُلَاءِ الطَّائِفَة الممتنعة ينصر بَعضهم بَعْضًا فهم كالشخص الْوَاحِد فَإِذا اشترطوا أَن تجارهم يدْخلُونَ بِلَاد الْإِسْلَام بِشَرْط أَن لَا يَأْخُذُوا للْمُسلمين شَيْئا وَمَا أَخَذُوهُ كَانُوا ضامنين لَهُ والمضمون يُؤْخَذ من أَمْوَال التُّجَّار جَازَ ذَلِك ذَلِك وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للأسير الْعقيلِيّ حِين قَالَ يَا مُحَمَّد علام أوخذ فَقَالَ بجريرة حلفائك من ثَقِيف وأسره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحبسه لينال بذلك من حلفائه مَقْصُوده وَلَو أسرنا حَرْبِيّا لأجل تَخْلِيص من أسروه منا جَازَ بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَلنَا أَن نحبسه حَتَّى يردوا أسيرنا وَلَو أَخذنَا مَال حَرْبِيّ حَتَّى يردوا علينا مَا أَخَذُوهُ لمُسلم جَازَ فَإِذا اشْترط عَلَيْهِم ذَلِك فِي عقد الْأمان جَازَ فصل وَإِذا كَانَ الْيَهُودِيّ أَو النَّصْرَانِي خَبِيرا بالطب ثِقَة عِنْد الْإِنْسَان جَازَ لَهُ أَن يستطبه كَمَا يجوز لَهُ أَن يودعه المَال وَأَن يعامله وَقد اسْتَأْجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا مُشْركًا لما هَاجر وَكَانَ هاديا خريتا ماهرا بالهداية إِلَى الطَّرِيق من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة وائتمنه على نَفسه وَمَاله وَكَانَت خُزَاعَة عَيْبَة نصح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسلمهم وكافرهم وَقد روى أَن الْحَارِث بن كلدة وَكَانَ كَافِرًا أَمرهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يستطبوه وَإِذا وجد طَبِيبا

مُسلما فَهُوَ أولى وَأما إِن لم يجد إِلَّا كَافِرًا فَلهُ ذَلِك وَإِذا خاطبه بِالَّتِي هِيَ أحسن كَانَ حسنا وَلَيْسَ لأهل الذِّمَّة إِظْهَار شَيْء من شعار دينهم فِي ديار الْمُسلمين لَا فِي أَوْقَات الاسْتِسْقَاء وَلَا فِي مَجِيء النوائب وَيمْنَعُونَ من إِظْهَار التَّوْرَاة وَلَا يرفعون أَصْوَاتهم بِالْقِرَاءَةِ وصلاتهم وعَلى ولي الْأَمر مَنعهم من ذَلِك وَلَيْسَ الْخَمِيس من أعياد الْمُسلمين بل هُوَ من أعياد النَّصَارَى كعيد الميلاد وَعِيد الغطاس لكل أمة قبله وَلَيْسَ لأه الذِّمَّة أَن يعينوهم على أعيادهم فِي بِلَاد الْمُسلمين وَلَيْسَ للْمُسلمين أَن يعينوهم على أعيادهم لَا يَبِيع مَا يستعينون بِهِ على عيدهم وَلَا بِإِجَازَة دوابهم ليركبوها فِي عيدهم لِأَن أعيادهم مِمَّا حرمه الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما فِيهَا من الْكفْر والفسوق والعصيان وَأما إِذا فعل الْمُسلمُونَ مَعَهم أعيادهم مثل صبغ الْبيض وتحمير دوابهم بمغرة وَيجوز وتوسيع النَّفَقَات وَعمل طَعَام فَهَذَا أظهر من أَن يحْتَاج إِلَى سُؤال بل قد نَص طَائِفَة من الْعلمَاء من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَمَالك على كفر من يفعل ذَلِك وَقَالَ بَعضهم من ذبح بطيخة فِي عيدهم فَكَأَنَّمَا ذبح خنزيرا وَلَو تشبه الْمُسلم باليهود أَو النَّصَارَى فِي شَيْء من الْأُمُور المختصة بهم لنهى عَن ذَلِك بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَإِن كَانَ أصل ذَلِك جَائِزا إِذا لم يكن من شعارهم مثل لِبَاس الْأَصْفَر وَنَحْوه فَإِن هَذَا جَائِز فِي الأَصْل لَكِن لما صَار من شعار الْكفْر لم يجز لأحد أَن يلبس عِمَامَة صفراء أَو زرقاء لكَون ذَلِك من لباسهم الَّذِي يمتازون بِهِ فَكيف من يشاركهم فِي عَادَتهم وشعاذر دينهم بل لَيْسَ لأحد من الْمُسلمين أَن يخص مواسمهم بِشَيْء مِمَّا يخصونها بِهِ فَلَيْسَ للْمُسلمِ أَن يخص خميسهم الحقير لَا بتجديد طَعَام الرز والعدس وَالْبيض الْمَصْبُوغ وَغير ذَلِك وَلَا بالتجمل بالثياب وَلَا بصبغ دَوَاب وَلَا بنشر ثِيَاب وَلَا غير ذَلِك وَمن فعل ذَلِك على وَجه الْعِبَادَة والتقرب بِهِ واعتقاد

التبرر بِهِ فَإِنَّهُ يعرف دين الْإِسْلَام وَأَن هَذَا لَيْسَ مِنْهُ بل هُوَ ضِدّه ويستتاب مِنْهُ فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل وَلَيْسَ لأحد أَن يُجيب دَعْوَة مُسلم يعْمل فِي أعيادهم مثل هَذِه الْأَطْعِمَة وَلَا يحل لَهُ أَن يَأْكُل من ذَلِك بل لَو ذبحواهم فِي أعيادهم شَيْئا لأَنْفُسِهِمْ فَفِي جَوَاز أكل الْمُسلم من ذَلِك نزاع بَين الْعلمَاء وَالأَصَح عدم الْجَوَاز لكَوْنهم يذبحونها على وَجه القربان فَصَارَ من جنس مَا ذبح على النصب وَمَا أهل بِهِ لغير الله وَأما ذبح الْمُسلم لنَفسِهِ فِي أعيادهم على وَجه الْقرْبَة فَكفر بَين كالذبح للنصب وَلَا يجوز الْأكل من هَذِه الذَّبِيحَة بِلَا ريب وَلَو لم يقْصد التَّقَرُّب بذلك بل فعله لِأَن عَادَة أَو لتفريج أَهله فَإِنَّهُ يحرم عَلَيْك ذَلِك وَاسْتحق الْعقُوبَة البليغة إِن عَاد إِلَى مثل ذَلِك لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ منا من تشبه بغيرنا وَمن تشبه بِقوم فَهُوَ مِنْهُم وَقد بسطنا ذَلِك فِي كتَابنَا اقْتِضَاء الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَذكرنَا دَلَائِل ذَلِك كلهَا وَسَأَلَ رجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إِنِّي نذرت أَن أذبح بيوانة قبل أوف بنذري فَقَالَ إِن كَانَ بِهِ عيد من أعياد الْمُشْركين أَو وثن فَلَا تذبح بهَا فَنَهَاهُ أَن يذبح فِي مَكَان كَانُوا يتخذونه فِي الْجَاهِلِيَّة عيدا لِئَلَّا يكون ذبحه ذَرِيعَة لي إحْيَاء سنَن الْكفْر فَكيف بِمن يظْهر شَعَائِر كفرهم وإفكهم وَإِن كَانَ لَا يعلم أَنه من خَصَائِص دينهم بل يَفْعَله على وَجه الْعَادة فَهِيَ عَادَة جَاهِلِيَّة مَأْخُوذَة عَنْهُم لَيْسَ هَذَا من عادات الْمُسلمين الَّتِي أخذوها عَن الْمُؤمنِينَ وَالدّين الْفَاسِد هُوَ عبَادَة غير الله أَو عبَادَة الله فَاسِدَة ابتدعها بعض الضَّالّين وَالدّين الصَّحِيح عبَادَة الله وَحده وعبادته بِمَا شرع الله وَرَسُوله وَقد كره السّلف صِيَام أَيَّام أعيادهم وَإِن لم يقْصد تعظيمها فَكيف بتخصيصها بِمثل مَا يَفْعَلُونَهُ هم بل قد نهى أَئِمَّة الدّين عَن أَشْيَاء ابتدعها بعض النَّاس من الأعياد وَإِن لم تكن من أعياد الْكفَّار كَمَا يَفْعَلُونَهُ فِي يَوْم عَاشُورَاء وَفِي رَجَب وَفِي لَيْلَة

باب الصيد والذبائح

نصف شعْبَان وَنَحْو ذَلِك فقد نهى الْعلمَاء عَمَّا أحدث فِي ذَلِك من الصَّلَوَات والاجتماعات والأطعمة والزينة وَغير ذَلِك فَكيف بأعياد الْمُشْركين فالناهي عَن الْمُنْكَرَات من المطيعين لله وَرَسُوله كالمجاهدين فِي سَبيله وَيَنْبَغِي على وُلَاة الْأُمُور التَّشْدِيد فِي نهي الْمُسلمين عَن كل مَا فِيهِ عز لِلنَّصَارَى كالسؤال على بَابه وخدمته لَهُ بعوض يُعْطِيهِ إِيَّاه وَيكرهُ إجَازَة نَفسه للْخدمَة فِي الْمَنْصُوص من الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ مَذْهَب مَالك بَاب الصَّيْد والذبائح فِيمَا يشْتَرط قطعه من الْحَيَوَان عِنْد الذّبْح أَقْوَال أَحدهَا أَن الْوَاجِب قطع الْحُلْقُوم والمرىء خَاصَّة كَقَوْل الشَّافِعِي وَرِوَايَة عَن أَحْمد وعَلى هَذَا لَو قطع الودجين والحلقوم أولى بِالْإِبَاحَةِ من قطع الْحُلْقُوم والمرىء وَالْقَوْل الثَّانِي أَن الْوَاجِب قطع الْأَرْبَعَة كالرواية الْأُخْرَى عَن أَحْمد ويروي عَن مَالك وَالثَّالِث أَن الْوَاجِب قطع ثَلَاثَة وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وأصحابة وَمَالك فِيمَا نَقله أَصْحَابه وَهُوَ قَول فِي مَذْهَب أَحْمد لَكِن مَالك يعْتَبر قطع الْحُلْقُوم والوجودين دون المريء وَأَبُو حنيفَة مَعَ صَاحبه على قَوْلَيْنِ أَحدهمَا يعْتَبر قطع ثَلَاثَة من الْأَرْبَعَة يشْتَرط أَن يكون فِيهَا الْحُلْقُوم الثَّانِي يعْتَبر قطع ثَلَاثَة من الْأَرْبَعَة سَوَاء كَانَ فِيهَا الْحُلْقُوم أَو لم يكن وَهُوَ القَوْل الْمَشْهُور فِي مَذْهَب أَحْمد فَإِذا قطع ودجيه وبلعومه جرح أَو لم يقطع الْحُلْقُوم يَجِيء فِيهِ نزاع على مَا تقدم وَالْأَظْهَر حلّه وَإِذا جرح الصَّيْد فَغَاب وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا سَهْمه فَإِنَّهُ يحل لَهُ على الصَّحِيح من أَقْوَالهم وَبِه أفتى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سَأَلَهُ عدي بن حَاتِم إِنَّا

فصل في السبق

نرمي الصَّيْد فنقتفي أَثَره الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة ثمَّ نجده مَيتا وَفِيه سَهْمه فَقَالَ إِن رميت الصَّيْد فَوَجَدته بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ لَيْسَ بِهِ إِلَّا أثر سهمك فَكل وَفِي حَدِيث أبي ثَعْلَبَة الخشنى إِذا رميت بسهمك فَغَاب ثَلَاثَة أَيَّام وأدركته فَكل مَا لم ينتن فهذان الحديثان الصحيحان الأول فِي البُخَارِيّ وَالثَّانِي فِي مُسلم عَلَيْهِمَا اعْتمد الْعلمَاء فَإِن كِلَاهُمَا أفتى بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن أفتى بِغَيْر ذَلِك فَلم يبلغهُ الحَدِيث وَأما إِذا أنتن فَيكْرَه أكله وَأما الضبع فَإِنَّهَا مُبَاحَة فِي مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَحرَام فِي مَذْهَب أبي حنيفَة لِأَنَّهَا من ذَوَات الأنياب والأولون استدلوا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّهَا صيد وَأمر بأكلها رَوَاهُ أهل السّنَن وصححته التِّرْمِذِيّ وَقَالُوا لَيْسَ لَهَا نَاب لِأَن أضراسها صفيحة لَا نَاب فِيهَا وَمَا أكل مِنْهُ الْكَلْب لَا يُؤْكَل فِي أصح قولي الْعلمَاء وَلَا يحرم على مَا تقدم فِي أصح قولي الْعلمَاء أَيْضا وَالصَّيْد للْحَاجة فَإِنَّهُ جَائِز وَأما الصَّيْد الَّذِي هُوَ اللَّهْو واللعب فمكروه فَإِن كَانَ فِيهِ تعد على زرع النَّاس وَأَمْوَالهمْ فَهُوَ حرَام وَقد روى عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَنه نهى عَن الرمى بالجلاهق وَهِي البندق والمقتول بالبندق حرَام بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَإِن أدْرك حَيا وذكى فحلال وَفِي كلب المَاء نزاع الأولى تَركه فصل فِي السَّبق إِذا كَانَ السَّبق من أحد الحزبين أَو من غَيرهمَا لم يحْتَج إِلَى مُحَلل ويمكنهم مَعَ هَذَا أَن يكون الحزب الأول يخرج السَّبق أول مرّة وَالْآخر يُخرجهُ فِي الْمرة الثَّانِيَة وَالْأول فِي الْمرة الثَّانِيَة وَلم يحْتَج إِلَى مُحَلل وَعَلَيْهِم مَعَ هَذَا أَن يكرروا الرمى وَأما إِعَارَة السِّلَاح وَالْخَيْل لمن يقْرض فِيهَا فَإِن كَانَ مِمَّن يرتزق من بَيت

باب الأضحية

المَال ويصرفه فِي غير مصارفه الشَّرْعِيَّة أَو يقصر فِيمَا يجب عَلَيْهِ من الْجِهَاد لم يجز إعانته على الْمعْصِيَة والتدليس والتزوير وَكَذَلِكَ الجندي الَّذِي يسرق النَّفَقَة وينفقها فِي الْمعاصِي وَالْفَوَاحِش حَتَّى يبْقى لَا يُمكنهُ أَن يقوم بِمَا يجب عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله أَو يتخذون مَالا ينْتَفع للْجِهَاد من عرض وعقار حَتَّى لَا يقومُوا بِمَا يجب عَلَيْهِم وَأما إِن كَانَ هَذَا الْغَازِي مَعْذُور أَو معدما أَو مَظْلُوما مثل أَن يكون قد مَاتَت خيله بِغَيْر تَفْرِيط مِنْهُ وَلم يعرض عَنْهُمَا أوأن الأَرْض الَّتِي لَهُ لم تقل مَا يقوم بذلك أَو حدث لَهُ من الْعِيَال من يمنعونه من تَمام الْعَمَل أَو كَانَ قد طلم فَلم يُعْط من بَيت المَال الرزق عَلَيْهِ أَن يُقيم بِهِ مَا يَنْبَغِي لمثله فَهَذَا إِذا خيف فِي عرضه نقصا أَنه يزْدَاد ظلمه أَو يقطع خبزه مَعَ اسْتِحْقَاقه أَو يعْطى خبزه لن لمن هُوَ دونه فِي نفع الْمُسلمين فَعير مَا يتَحَمَّل بِهِ فَلَا بَأْس بذلك بل يسْتَحبّ ذَلِك وَيُؤمر بِهِ إِذا كَانَت الاعارة لأجل أَن نرى عُيُون الْكفَّار جند الْمُسلمين وَقصد بذلك تَتِمَّة عز الْمُسلمين كَانَ حسنا مَحْمُودًا وَلعب الكرة إِذا كَانَ قصد صَاحبه الْمَنْفَعَة للخيل وَالرِّجَال بِحَيْثُ يستعان بهَا على الْكر والفر وَالدُّخُول وَالْخُرُوج وَنَحْوه فِي الْجِهَاد وغرضه الِاسْتِعَانَة على الْجِهَاد الَّذِي أَمر الله بهَا رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ حسن وَإِن كَانَ فِي ذَلِك مضرَّة بِالْخَيْلِ وَالرِّجَال فَإِنَّهُ ينْهَى عَنهُ بَاب الْأُضْحِية فِي النَّسَائِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر فَحَضَرَ النَّحْر فاشتركنا فِي الْبَعِير عَن عشرَة وَفِي الْبَقَرَة عَن سَبْعَة وَالَّذِي فِي الصَّحِيح أَنهم عَام الْحُدَيْبِيَة نحرُوا الْبَدنَة عَن سَبْعَة وَهِي الْبَعِير وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور وَقَالَ مَالك لَا يجزى نفس إِلَّا عَن نفس وَأما

ذبح الْبَعِير عَن عشرَة فَلم يقل بِهِ أحد من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَحَدِيث النَّسَائِيّ قيل إِن أَصله كَانَ فِي قسم الْغَنَائِم فقسم بَينهم فَعدل الْجَزُور بِعشْرَة من الْغنم لَا فِي النّسك لِأَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لم يكن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر غير النَّحْر إِلَّا فِي حجَّة الْوَدَاع خَاصَّة فَإِنَّهُ كَانَ مُقيما مَعَ أَبِيه إِلَى عَام الْفَتْح فَلم يشْهد مَعَه عيدا قبل ذَلِك لَا فِي حضر وَلَا سفر وَبعد الْفَتْح إِنَّمَا عيد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة أعياد عَام ثَمَان وتسع وَعشر وَلم يُسَافر سفر الْحَج إِلَّا حجَّة الْوَدَاع وسفرتان للغزو وهما غَزْوَة خَيْبَر وغزوة تَبُوك وَابْن عَبَّاس كَانَ صَبيا دون الِاحْتِلَام لم يكن يشْهد مَعَه الْمَغَازِي لَكِن شهد مَعَه حجَّة الْوَدَاع وَفِي حجَّة الْوَدَاع لم يذبحوا الْبَدنَة عَن عشرَة وَلَا نقل ذَلِك أحد وَالله أعلم وَينْهى عَن التَّضْحِيَة فِي الْكَنِيسَة الَّتِي فِيهَا صور كَمَا ينْهَى عَن ذَبحهَا عِنْد الْأَصْنَام وَمن قَالَ إِن نسك الْمُسلمين يذبح عِنْد الْأَصْنَام كَمَا يذبح الْمُشْركُونَ القرابين لآلتهم فَهُوَ مُخَالف لإِجْمَاع الْمُسلمين بل يُسْتَتَاب قَائِل هَذَا فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل وَفِي الصَّحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الغقر عِنْد الْقَبْر وَلم يشرع الصَّدَقَة عِنْده وَمن اعْتقد أَن الذّبْح عِنْد الْقَبْر أفضل أَو لاصلاة أَو الصَّدَقَة فَهُوَ ضال مُخَالف لإِجْمَاع الْمُسلمين وَفِي وجوب الْأُضْحِية قَولَانِ لِأَحْمَد وَمَالك وَغَيرهمَا والعقيقة سنة وَتَنَازَعُوا وُجُوبهَا عَليّ قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وَإِن كَانَ بعض أهل الْعرَاق لم يعرفهَا وَهِي أفضل من الصَّدَقَة ويعق الْكَبِير عَن نَفسه رذا لم يعق عَنهُ زبوه جوزه طاذفة وروى عبد الْحق فِي أَحْكَامه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عتق عَن نَفسه بعد النُّبُوَّة وَهَذَا فِيهِ نظر ونزاع

فصل

فصل هَل الذَّبِيح إِسْمَاعِيل أَو إِسْحَاق فِيهِ قَولَانِ مشهوران هما رِوَايَتَانِ كل مِنْهُمَا قَول عَن السّلف وَنَصّ القَاضِي أَبُو يعلى أَنه إِسْحَاق تبعا لأبي بكر عبد الْعَزِيز وَقَالَ ابْن أبي مُوسَى الصَّحِيح أَنه إِسْمَاعِيل وَالَّذِي يجب الْقطع بِهِ أَنه إِسْمَاعِيل يدل على ذَلِك الْكتاب وَالسّنة والتوراة فَإِن فِيهَا أَنه قَالَ لإِبْرَاهِيم اذْبَحْ ابْنك وحيدك وَفِي تَرْجَمَة أُخْرَى بكرك وَإِسْمَاعِيل هُوَ بكره ووحيده بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَأهل الْكتاب لَكِن أهل الْكتاب حرفوا فزادوا إِسْحَاق فَتلقى ذَلِك مِنْهُم من تَلقاهُ وشاع بَين الْمُسلمين وَمِمَّا يدل على أَنه إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام قصَّة الذَّبِيح الَّتِي فِي الصافات حَيْثُ قَالَ {فبشرناه بِغُلَام حَلِيم فَلَمَّا بلغ مَعَه السَّعْي قَالَ يَا بني إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك فَانْظُر مَاذَا ترى} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وفديناه بِذبح عَظِيم} إِلَى قَوْله {وبشرناه بِإسْحَاق نَبيا من الصَّالِحين وباركنا عَلَيْهِ وعَلى إِسْحَاق وَمن ذريتهما محسن وظالم لنَفسِهِ مُبين} فَهَذِهِ الْقِصَّة تدل من وُجُوه على أَنه إِسْمَاعِيل أَحدهَا أَن الْبشَارَة بالذبيح ذكر فِيهَا قصَّة ذبحه فَلَمَّا استوفى ذَلِك قَالَ {وبشرناه بِإسْحَاق نَبيا من الصَّالِحين وباركنا عَلَيْهِ وعَلى إِسْحَاق} فهما بشارتان بِشَارَة بالذبيح وَبشَارَة بإبنه إِسْحَق وَهَذَا يبين الْوَجْه الثَّانِي أَنه لم يذكر قصَّة الذَّبِيح إِلَّا فِي هَذِه السُّورَة وَفِي ساذر الْمَوَاضِع يذكر الْبشَارَة بِإسْحَاق خَاصَّة كَمَا قَالَ فِي سُورَة هود {وَامْرَأَته قَائِمَة فَضَحكت فبشرناها بِإسْحَاق وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الذاريات {فأوجس مِنْهُم خيفة قَالُوا لَا تخف وبشروه بِغُلَام عليم} وَقَالَ فِي

سُورَة الْحجر {قَالُوا لَا توجل إِنَّا نبشرك بِغُلَام عليم قَالَ أبشرتموني على أَن مسني الْكبر فَبِمَ تبشرون} وَلم يذكر مَعَ الْبشَارَة بِإسْحَاق أَنه ذبيح مَعَ تعدد الْمَوَاضِع فَإِذا كَانَ قد ذكر الْبشَارَة بِإسْحَاق وَحده غير مرّة وَلم يذكر الذَّبِيح ثمَّ ذكر البشارتين جَمِيعًا الْبشَارَة بالذبيح والبشارة بِإسْحَاق بعده كَانَ هَذَا من أبين الْأَدِلَّة على أَن إِسْحَاق لَيْسَ هُوَ الذَّبِيح وَيُؤَيّد ذَلِك أَنه ذكر هِبته وَهبة يَعْقُوب لإِبْرَاهِيم بقوله {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب نَافِلَة وكلا جعلنَا صالحين} وَقَوله {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب وَجَعَلنَا فِي ذُريَّته النُّبُوَّة وَالْكتاب وَآتَيْنَاهُ أجره فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين} وَلم يذكر ذَلِك فِي الذَّبِيح الْوَجْه الثَّالِث أَنه تَعَالَى ذكر فِي الذَّبِيح أَنه غُلَام حَلِيم وَلما ذكر الْبشَارَة بِإسْحَاق قَالَ {بِغُلَام عليم} فِي غير مَوضِع وَلَا بُد لهَذَا التَّخْصِيص من حِكْمَة وَهل يلغى اقتران الوصفين والحليم الَّذِي هُوَ ثَابت للصبر الَّذِي هُوَ خلق الذَّبِيح وَإِسْمَاعِيل وصف بِالصبرِ فِي قَوْله {وَإِسْمَاعِيل وَإِدْرِيس وَذَا الكفل كل من الصابرين} وَهَذَا وَجه فَإِنَّهُ قَالَ {ستجدني إِن شَاءَ الله من الصابرين} الْوَجْه الرَّابِع أَن الْبشَارَة بِإسْحَاق كَانَت معْجزَة لِأَن أمه عَجُوز عقيم وَأَبوهُ قد مَسّه الْكبر والبشارة مُشْتَركَة لإِبْرَاهِيم وَامْرَأَته وَأما الْبشَارَة بالذبيح فَكَانَت لإِبْرَاهِيم وامتحن بذَبْحه دون الْأُم المبشرة رلم تكن وِلَادَته خرق عَادَة وَهَذَا يُوَافق مَا نقل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فِي الصَّحِيح من أَن إِسْمَاعِيل لما ولد لهاجر غارت سارة فَذهب إِبْرَاهِيم بِإِسْمَاعِيل وَأمه إِلَى مَكَّة وَهُنَاكَ كَانَ أَمر الذّبْح فانه يُؤَيّد أَن إِسْمَاعِيل هُوَ الذَّبِيح لَيْسَ هُوَ إِسْحَاق لِأَنَّهُ قَالَ {فبشرناها بِإسْحَاق وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب} والبشارة بِيَعْقُوب تقتضى أَن إِسْحَاق يعِيش ويولد لَهُ يَعْقُوب فَكيف يَأْمر بعد ذَلِك بذَبْحه وَكَانَت الْبشَارَة وقضة الذَّبِيح فِي حَيَاة إِبْرَاهِيم بِلَا ريب

فصل

وَيدل على ذَلِك أَن قصَّة الذَّبِيح كَانَت بِمَكَّة وَلما فتح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة كَانَ قرنا الْكَبْش فِي الْكَعْبَة فَقَالَ للسادن أردْت أَن آمُرك أنتخمر قَرْني الْكَبْش ففنسيت فخمرها فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَن يكون فِي الْقبْلَة شئ يلهي الْمُصَلِّي فَلهَذَا جعلت مني محلا للنسك من عهد إِبْرَاهِيم وَإِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل هما اللَّذَان بنيا الْبَيْت بِنَصّ الْقُرْآن وَلم يقل أحد أَن إِسْحَاق ذهب إِلَى مَكَّة وَبَعض الْمُفَسّرين من أهل الْكتاب يزْعم أَن قصَّة الذَّبِيح كَانَت فِي الشَّام وَهَذَا افتراء بَين فَإِنَّهُ لَو كَانَ بِبَعْض جبال الشَّام لعرف ذَلِك الْجَبَل وَرُبمَا جعل منسكا كَمَا جعل الْمَسْجِد الْحَرَام الَّذِي بناه إِبْرَاهِيم وَمَا خوله من المشاعر وَهُنَاكَ دَلَائِل أخر وعَلى مَا ذَكرْنَاهُ أسئلة أوردهَا طَائِفَة كَابْن جرير وَالْقَاضِي أبي يعلى والسهيلي وَلَكِن لَا يَتَّسِع هَذَا الْموضع لذكرها وجوابها فصل وَمن ضحى بِشَاة ثمنهَا أَكثر من ثمن الْبَقَرَة كَانَ أفضل من الْبَقَرَة فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ أَي الصَّدقَات أفضل فَقَالَ أغلاها ثمنا وأنفسها عِنْد أَهلهَا وَالَّذِي دلّت عَلَيْهِ السّنة أَن الضحية وَإِن كَانَت وَاجِبَة يضحى الرجل بِالشَّاة الْوَاحِدَة عَنهُ وَعَن أهل بَيته فقد ضحى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بكبشين وَقَالَ الله مهذا عَن مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد وَقَالَ الرجل يضحى بِالشَّاة الْوَاحِدَة عَن أهل بَيته فصل الْأَعْمَال الَّتِي تكون بَين أثنين فَصَاعِدا يطْلب كل مِنْهُمَا أَن يغلب الآخر ثَلَاثَة أَصْنَاف

صنف أَمر بِهِ وَرَسُوله كالسباق بِالْخَيْلِ وَالرَّمْي بِالنَّبلِ وَنَحْوه من الآت الْحَرْب لِأَنَّهُ مِمَّا يعين على الْجِهَاد فِي سَبِيل الله والصنف الثَّانِي مَا نهى الله وَرَسُوله بقوله {إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر والأنصاب والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان فَاجْتَنبُوهُ} إِلَى آخر الْآيَة مَسْأَلَة فالميسر محرم بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع وَمِنْه اللّعب بالنرد وَالشطْرَنْج وَمَا أشبهه مِمَّا يصد عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة ويوقع الْعَدَاوَة والبغضاء فاذا كَانَ بعوض حرم إِجْمَاعًا وَإِن لم يكن بعوض فَفِيهِ نزاع عِنْد الصَّحَابَة وَجُمْهُور الْعلمَاء كمالك وَأبي حنيفَة وَأحمد وَنَصّ الشَّافِعِي على تَحْرِيم النَّرْد وَإِن كَانَ بِلَا عوض وَتوقف فِي الشطرنج وَمِنْهُم من أَبَاحَ النَّرْد الْخَالِي عَن الْعِوَض لما ظنُّوا أَن الله حرم الميسر لأجل مَا فِيهِ من المخاطرة المتضمنة أكل المَال بِالْبَاطِلِ فَقَالُوا إِذا لم يكن فِيهِ أكل مَال بِالْبَاطِلِ زَالَ سَبَب التَّحْرِيم وَأما الْجُمْهُور إِن تَحْرِيم الميسر تَحْرِيم الْخمر لاشْتِمَاله على الصد عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة ولالقائه الْعَدَاوَة والبغضاء وَمنعه عَن صَلَاح الْبَين الَّذِي يُحِبهُ الله وَرَسُوله وإيقاعه اللاعبين فِي الْفساد الَّذِي ببغضه الله وَرَسُوله واللعب بذلك يلهي الْقلب ويشغله ويغيب اللاعب بِهِ عَن مَصَالِحه أَكثر مِمَّا يفعل الْخمر فَفِيهَا مَا فِي الْخمر وَزِيَادَة وَيبقى صَاحبهَا عاكفا عكوف شَارِب الْخمر على خمرة وَأَشد وَكِلَاهُمَا مشبه بالعكوف على الْأَصْنَام كَمَا فِي الْمسند أَنه قَالَ شَارِب الْخمر كعابد الوثن وَثَبت عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه مر بِقوم يَلْعَبُونَ الشطرنج فَقَالَ مَا هَذِه الْأَوْثَان الَّتِي أَنْتُم لَهَا عاكفون وقلب الرقعة وَإِذا كَانَ ثمَّ مَال تضمن أَيْضا أكل المَال بِالْبَاطِلِ فَيكون حَرَامًا من وَجْهَيْن وَالله حرم الرِّبَا لما فِيهِ من أكل المَال بَاطِلا

وَمَا نهى عَنهُ من بيع الْغرَر كَبيع حَبل الحبلة وَبيع الثِّمَار قبل بَدو الصّلاح وَالْمُلَامَسَة والمنابذة إِنَّمَا حرمه لما فِيهِ من أكل المَال بِالْبَاطِلِ النَّوْع الثَّالِث من المغالباات مَا هُوَ مُبَاح لعدم الْمضرَّة الراجحة وَلَيْسَ مَأْمُورا بِهِ على الْإِطْلَاق لعدم احْتِيَاج الدّين إِلَيْهِ وَلَكِن قد يَقع أَحْيَانًا كالمصارعة والمسابقة على الْأَقْدَام وَنَحْوه فَهَذَا مُبَاح بِاتِّفَاق الْمُسلمين إِذا خلا عَن مفْسدَة راجحة وَقد صارع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ركَانَة بن عبد يزِيد وسابق عَائِشَة وَكَانَ أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم يتسابقون على أَقْدَامهم بِحَضْرَتِهِ لَكِن أَكثر الْعلمَاء لَا يجوزون فِي هَذَا سبقا وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا سبق إِلَّا فِي خف أَو حافر أَو نصل وَلِأَن إِنَّمَا أُبِيح إِعَانَة على مَا أوجبه الله وَرَسُوله من الْجِهَاد وَأَبُو حنيفَة أَبَاحَ السَّبق بالمحلل كَمَا يبيحه فِي سباق الْخَيل بِنَاء على أَن الْعَمَل بِنَفسِهِ مُبَاح والسبق عِنْده من الْجعَالَة والجعالة تجوز على الْعَمَل الْمُبَاح وَالَّذِي قَالَه هُوَ الْقيَاس وَلَو كَانَ السَّبق الْمَشْرُوع من جنس الْجعَالَة فان النَّاس قد تنازعوا فِي جَوَاز الْجعَالَة وأبطلها طَائِفَة من الظَّاهِرِيَّة وَالصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور جَوَازهَا وَلَيْسَت عقدا لَازِما لِأَن الْعَمَل فِيهَا مَعْلُوم وَلِهَذَا يجوز أَن يَجْعَل للطبيب جعلا على الشِّفَاء كَمَا جعل سيد الْحَيّ اللذيغ لأَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين رقاه أَبُو سعيد الخذري وَلَا يجوز أَن يسْتَأْجر الطَّبِيب على الشِّفَاء لِأَنَّهُ غير مَقْدُور عَلَيْهِ وَمن هُنَا يظْهر فقه بَاب السَّبق فَإِن كثيرا من الْعلمَاء اعتقدوا أَن السَّبق إِذا كَانَ من الجانبيين وَلَيْسَ بَينهمَا مُحَلل كَانَ هَذَا من الميسر الْمحرم وَأَنه قمار لِأَن كلا مِنْهُمَا مُتَرَدّد بَين أَن يغرم أَو يغنم وَمَا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ قمار واعتقدوا أَن الْقمَار إِنَّمَا الْمحرم حرم لما فِيهِ من المخاطرة وَالتَّعْزِير وظنوا أَن الله حرم الميسر لذَلِك وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي المتسابقين إِذا أخرج كل مِنْهُمَا السَّبق فحرموا ذَلِك وروى فِي ذَلِك حَدِيث ظَنّه بَعضهم صَحِيحا وَهُوَ قَوْله من أَدخل فرسا بَين فرسين وَهُوَ

لَا يَأْمَن أَن يسْبق فَلَيْسَ بقمار وَمن أَدخل فرسا بَين فرسا وَهُوَ آمن أَن يسْبق فَهُوَ قمار وَمَعْلُوم أَن هَذَا الحَدِيث لَيْسَ هُوَ من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل هُوَ من كَلَام سعيد بن الْمسيب هَكَذَا رَوَاهُ الثِّقَات وَرَفعه سُفْيَان بن حُسَيْن الوَاسِطِيّ وَهُوَ ضَعِيف ثمَّ إِن الَّذين اعتقدوا أَن هَذِه الْمُسَابقَة بِلَا مُحَلل قمار تنازعوا بعد ذَلِك فَمنهمْ من لم يجوز الْعِوَض بِحَال وَمِنْهُم من جوزه من أَحدهمَا بِشَرْط أَن لَا يرجع إِلَيْهِ بل يُعْطِيهِ الْجَمَاعَة إِن غلب وروى ذَلِك عَن مَالك وَغَيره وَهُوَ أصح وَالْقِيَاس لَو كَانَت الْمُسَابقَة من الطَّرفَيْنِ قمارا محرما فَإِنَّهُم رَأَوْا أَن هَذِه لَيست جعَالَة يقْصد الْجَاعِل فِيهَا بدل الْجعل فِي عمل ينْتَفع بِهِ إِنَّمَا يقْصد أَن يغلب صَاحبه فحرموها وَقَالُوا دُخُول الْمُحَلّل فِيهَا يزيدها شرا وَأَن المغامرة حرمت لما فِيهَا من أكل المَال بِالْبَاطِلِ والمحلل يزيدها شرا فَإِن المتسابقين إِذا غلب أَحدهمَا صَاحبه فَأخذ مَاله كَانَ هَذَا فِي مُقَابلَة أَن الآخر إِذا غَلبه أَخذ مَاله فَكَانَ مبناها على الْعدْل بِخِلَاف الْمُحَلّل فانه ظلم مَحْض فانه بعرضة أَن يغنم أَو يسلم والآخران قد يغرمان فَلَا يستوون فِي الْمغنم والمغرم والسلامة بِخِلَاف مَا إِذا لم يكن بَينهمَا مُحَلل فكلاهما قد يغرم وَقد يغنم وَقد يسلم فِيمَا إِذا تَسَاويا وجاءا مَعًا فَهَذَا أقرب إِلَى الْعدْل فاذا حرم الْأَقْرَب إِلَى الْعدْل فَلِأَن يحرم الْأَبْعَد عَنهُ بطرِيق الأولى وَأَيْضًا فاذا قيل هَذَا محرم لما فِيهِ من المخاطرة وَأكل المَال بِالْبَاطِلِ كَانَ بالمحلل أَشد تَحْرِيمًا لِأَنَّهَا أَشد مخاطرة وَأَشد أكلا لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ لِأَنَّهَا عِنْد عَدمه إِمَّا أَن يغنم أَو يغرم أَحدهمَا وَهنا المخاطرة بَاقِيَة كل مِنْهُمَا قد يغنم أَو قد يغرم وانضم إِلَى ذَلِك مخاطرة ثَالِثَة وَهِي أَنه هُنَاكَ يغرم إِذا غَلبه صَاحبه وَهنا يغرم إِذا غَلبه الْمُحَلّل فَكَانَ الْمُحَلّل زِيَادَة فِي المخاطرة

وَأَيْضًا فَإِن كلا يحْتَمل أَن يغلب ويغنم أَو يغرم وَأما الْمُحَلّل فَلَا يحْتَمل أَن يغلب أَو يغرم بل هُوَ يغنم لَا محَالة أَو يعلم فَمن تدبر هَذِه الْأُمُور علم أَن الشَّرِيعَة منزهة عَن مثل هَذَا أَن تحرم الشَّرّ دفعا لمفسدة قَليلَة ونتيجة بالمفسدة عينهَا إِذا كثرت وَلَكِن أَصْحَاب الْحِيَل كثيرا مَا يقعون فِي هَذَا فيحرمون على الرجل بعض أَنْوَاع الزِّيَادَة دفعا لأكل المَال بِالْبَاطِلِ لِئَلَّا يتَضَرَّر ويفتحون لَهُ حِيلَة يُؤْكَل فِيهَا مَاله بِالْبَاطِلِ أَكثر وَيكون فِيهَا ظلمه وضرره أعظم وَمن الْعلمَاء من أَبَاحَ السَّبق بالمحلل كَقَوْل أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مَالك وَهَذَا مَبْنِيّ على أصلين أَحدهمَا أَن هَذِه جعَالَة وَالثَّانِي أَن الْقمَار هُوَ المخاطرة الدائرة بَين أَن يغنم باذل المَال أَو يغرم أَو يسلم وَهَذَا الْمَعْنى يَنْتَفِي بالمحلل فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَدُور على أَمريْن أَن يغنم أَو يغرم أَو يسلم وَقد تقدم التَّنْبِيه على بعض مَا فِي كل من الْأَصْلَيْنِ وَالْمَقْصُود الْأَعْظَم بَيَان فَسَاد ظن الظَّان أَنه بِدُونِ الْمُحَلّل قمار وبالمحلل يَزُول الْقمَار فَيُقَال أَولا إِن الدَّلِيل الشَّرْعِيّ قد دلّ على أَن الْقمَار هُوَ هَذَا دون هَذَا وَيُقَال ثَانِيًا المتسابقان كل مِنْهُمَا مُتَرَدّد بَين أَن يغنم أَو يغرم أَو يسلم فَإِنَّهُمَا لَو جَاءَا مَعًا لم يَأْخُذ أَحدهمَا سبق الآخر فَقَوْلهم إِن الْقمَار هُوَ المتردد بَين أَن يغنم أَو يغرم فَقَط لَيْسَ بِمُسْتَقِيم بل عِنْدهم وَإِن تردد بَين أَن يغنم أَو يغرم أَو يسلم فَهُوَ أَيْضا قمار وَهَذَا مَوْجُود مَعَ الْمُحَلّل فَإِن كلا مِنْهُمَا يتَرَدَّد بَين أَن يغنم إِن غلب وَبَين أَن يغرم إِن غلب وَبَين أَن يسلم إِن جَاءَا مَعًا أَو جَاءَ هُوَ ورفيقه مَعًا فالمخاطرة فِيهَا مَوْجُودَة مَعَ الْمُحَلّل وَبِدُون الْمُحَلّل بل زَادَت بِدُخُولِهِ فَتبين أَن الْمَعْنى لم يزل بِدُخُول الْمُحَلّل بل ازْدَادَ مفْسدَة فَإِنَّهُ على بر السَّلامَة

وَلَا عدل فِيهِ بِخِلَاف مالو كَانُوا بِلَا مُحَلل فَكَانَ كل مِنْهُمَا مُسَاوِيا للْآخر فِي الِاحْتِمَال وَهَذَا عدل وَهُوَ على الْمِيزَان بَينهمَا بل الَّذِي بذل الْجعل ليجعل الرَّغْبَة فِيمَا يُحِبهُ لَا ينظر فِي مصْلحَته بل معرضًا للخسارة وَيجْعَل الدخيل الَّذِي جَاءَ تَابعا للغرض لَا يخسر شَيْئا من مَاله وَالَّذِي يتَقرَّب إِلَى الله بِمَا يُحِبهُ يخسر وَالَّذِي لم يقْصد لم يُعْط شَيْئا وَلَا يخسر بل إِمَّا سالما وَإِمَّا غانما فَهَل يحسن هَذَا فِي شرع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإنن كَانَ الْقَائِلُونَ عُلَمَاء فضلاء أَئِمَّة فَإِنَّمَا وَقعت الشُّبْهَة من حَيْثُ ظنُّوا أَن الميسر الْمحرم الَّذِي هُوَ الْقمَار حرم لما فِيهِ من المخاطرة ثمَّ مِنْهُم من رأى المخاطرة كلهَا مُحرمَة من الْمُحَلّل وَعَدَمه وَهَذَا أقرب إِلَى الأَصْل الَّذِي ظنُّوا لَو كَانَ صَحِيحا وَمِنْهُم من رأى الْحَاجة إِلَى السَّبق وَقد جَاءَ الشَّرْع بهَا فَجمع بَين مَا أَمر الله بِهِ وَبَين مَا أبْطلهُ من الْقمَار فأباحه مَعَ الْمُحَلّل فَقَط وَالْمَقْصُود هُنَا بالجعل أَن يظْهر أَنه قوي لِأَن صَاحبه يغلبه وَيَأْخُذ مَاله بِخِلَاف الْجعَالَة فَإِن الْغَرَض بهَا الْعَمَل من الْعَامِل الَّذِي يَأْخُذ الْجعل فَلَيْسَتْ هَذِه جعَالَة والجاعل قَصده وجود الشَّرْط والمسابق الَّذِي أظهر المَال قَصده أَن لَا يُوجد الشَّرْط الَّذِي هُوَ سبق صَاحبه لَهُ بل قَصده عَدمه فَأَيْنَ هَذَا من هَذَا هَذَا يكره أَن يطْلب وَذَاكَ يجب أَن يحصل قَصده الَّذِي هُوَ رد آبقة أَو ابناء حَائِطه كَمَا يَقُول الْحَالِف إِن فعلت كَذَا فَمَالِي صَدَقَة أَو على الْحَج ومقصده أَنه لَا يَفْعَله بِخِلَاف النَّاذِر الَّذِي يَقُول إِن شفى الله مريضي فعلي أَن أَصوم شهرا وكالمخالع الَّذِي يَقُول إِن أبرأنيني من صداقك فَأَنت طَالِق وَمن تبين حَقِيقَة هَذِه الْمَسْأَلَة تبين لَهُ أَن مَا من رأى أَنه حرَام وَلَو مَعَ مُحَلل فَقَوله أصح على مَا ظنوه وَأما إِذا تقرر أَن تَحْرِيم الميسر لما نَص الله تَعَالَى على أَنه يُوقع الْعَدَاوَة والبغضاء ويصد عَن ذكر الله عز وَجل وَعَن الصَّلَاة وَقد يشْتَد تَحْرِيمه لما فِيهِ

من أكل المَال بِالْبَاطِلِ والمسابقة الَّتِي أَمر الله بهَا وَرَسُوله لَا تشْتَمل لَا على هَذَا الْفساد وَلَا على هَذَا الْبَيْت فَلَيْسَتْ من الميسر وَلَيْسَ إِخْرَاج السَّبق فِيهَا مِمَّا حرمه الله وَرَسُوله وَلَا من الْقمَار الدَّاخِل فِي الميسر فَإِن لفظ الْقمَار الْمحرم لَيْسَ فِي الْقُرْآن إِنَّمَا فِيهِ لفظ الميسر والقمار دَاخل فِي هَذَا الِاسْم وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة يجب أَن تتَعَلَّق بِكَلَام الله وَرَسُوله وَمَعْنَاهُ فَينْظر فِي دلَالَة أَلْفَاظ الْقُرْآن والْحَدِيث وَفِي الْمعَانِي والعلل وَالْحكم والأسباب الَّتِي علق الشَّارِع بهَا الْأَحْكَام فَيكون الِاسْتِدْلَال بِمَا أنزل الله من الْكتاب وَالْمِيزَان وَالْقِيَاس الصَّحِيح الَّذِي يسوى بَين المتماثلين وَيفرق بَين الْمُخْتَلِفين هُوَ من الْعدْل وَهُوَ من الْمِيزَان وَذَلِكَ أَن الْمُسَابقَة والمناضلة عمل صَالح يُحِبهُ الله وَرَسُوله وَقد سَابق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الْخَيل فَإِن أَبَاكُم كَانَ راميا وَكَانَ قد صَار مَعَ أحد الحزبين ثمَّ قَالَ ارموا فَأَنا مَعكُمْ كلكُمْ تعديلا بَين الطَّائِفَتَيْنِ وَالرَّمْي وَالرُّكُوب قد يكون وَاجِبا وَقد يكون فرضا على الْكِفَايَة وَقد يكون مُسْتَحبا وَقد نَص أَحْمد وَغَيره على أَن الْعَمَل بِالرُّمْحِ أفضل من صَلَاة الْجِنَازَة فِي الْأَمْكِنَة الَّتِي يحْتَاج فِيهَا إِلَى الْجِهَاد كالثغور فَكيف يَرْمِي النشاب وروى أَن الْمَلَائِكَة لم تحضر شَيْئا من لهوكم إِلَّا الرَّمْي وروى أَن قوما كَانُوا يتناضلون فَحَضَرت الصَّلَاة فَقَالُوا يَا رَسُول الله قد حضرت الصَّلَاة فَقَالَ هم فِي صَلَاة وَمَا كَانَ كَذَلِك فَلَيْسَ من الميسر الَّذِي حرمه الله بل هُوَ من الْحق كَمَا قَالَ كل لَهو يلهو بِهِ الرجل فَهُوَ بَاطِل إِلَّا رمية بقوسه أَو تأديبه لفرسه أَو ملاعبته لامْرَأَته فَإِنَّهُنَّ من الْحق وَحِينَئِذٍ فَأكل المَال بِهَذِهِ الْأَعْمَال بِالْحَقِّ لَا بِالْبَاطِلِ كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث الرّقية لعمري لمن أكل برقية بَاطِل لقد أكلْتُم برقية حق فَجعل كَون الْعَمَل نَافِعًا لَا ينْهَى عَنهُ بل إِذا أكل بِهِ المَال فقد أكل بِحَق وَهنا

هَذَا الْعَمَل نَافِع للْمُسلمين مَأْمُور بِهِ لم ينْه عَنهُ فَالْمَعْنى الَّذِي لأَجله حرم الله الميسر أكل المَال بالقمار وَهُوَ أَن يَأْكُل المَال بِالْبَاطِلِ وَهَذَا أكل بِالْحَقِّ وَأما المخاطرة فَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة مَا يوج تَحْرِيم كل مخاطرة بل قد علم أَن الله وَرَسُوله لم يحرما كل مخاطرة وَلَا كل مَا كَانَ مترددا بل أَن يغنم أَو يغرم أَو يسلم وَلَيْسَ فِي أَدِلَّة اشرع مَا يُوجب تَحْرِيم جَمِيع هَذِه الْأَنْوَاع لَا نصا وَلَا قِيَاسا وَلَكِن يحرم من هَذِه الْأَنْوَاع مَا يشْتَمل على أكل المَال بِالْبَاطِلِ والموجب للتَّحْرِيم عِنْد الشَّارِع أَنه أكل مَال بِالْبَاطِلِ كَمَا يحرم أكل المَال بِالْبَاطِلِ وَإِن لم يكن مخاطرة لَا أَن مُجَرّد المخاطرة محرم مثل المخاطرة على اللّعب بالنرد وَالشطْرَنْج لما فِيهِ من أكل المَال بِالْبَاطِلِ وَهُوَ لَا مَا لَا نفع فِيهِ لَهُ وَلَا للْمُسلمين فَلَو جعل السُّلْطَان أَو أَجْنَبِي مَالا لمن يغلب بذلك لما جَازَ وَإِن لم يكن مخاطرة وَكَذَلِكَ لَو جعل أَحدهمَا جعلا وَكَذَلِكَ لَو أدخلا محللا فَعلم أَن ذَلِك لم يحرم لأجل المخاطرة لَا سِيمَا وَجُمْهُور الْعلمَاء يحرمُونَ هَذَا الْعَمَل وَإِن خلا من عوض وَأما أَخذ الْعِوَض فِي الْمُسَابقَة والمصارعة فَهَذِهِ الْأَعْمَال لم تجْعَل فِي الأَصْل لعبادة الله تَعَالَى وطاعته وَطَاعَة رَسُوله فَلهَذَا لم يحض الشَّارِع عَلَيْهَا وَلَا رغب فِيهَا إِنَّمَا يقْصد بهَا فِي الْغَالِب رَاحَة النُّفُوس أَو الِاسْتِعَانَة على الْمُبَاحَات فأباحها الشَّارِع لعدم الضَّرَر الرَّاجِح وَلم يَأْمر بهَا وَلَا رغب فِيهَا لِأَنَّهَا لَيست مِمَّا يَحْتَاجهُ الْمُسلمُونَ وَلَا يتَوَقَّف قيام الدّين عَلَيْهَا كالرمى وَالرُّكُوب وَلَو خلال الْمُسلمُونَ عَن مصَارِع ومسابق على الْأَقْدَام لم يضرهم لَا فِي دينهم وَلَا فِي دنياهم بِخِلَاف مَا لَو خلوا عَن الرَّمْي وَالرُّكُوب لغلب الْكفَّار على الْمُسلمين وَلِهَذَا لم يدْخل فِيهَا السَّبق أَلا ترى أَن للْإِمَام أَن يخرج جعلا لمن يرى وَلَا يحل لَهُ أَن يُخرجهُ لمن يصارع إِذا عرف هَذَا عرف أَن مُجَرّد المخاطرة لَيْسَ مقتضيا لتَحْرِيم الْمَسْأَلَة

وانكشفت وَظَهَرت وَعرف أَن الصَّوَاب أَن يعرف مُرَاد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَقْوَاله وَحكمه وَعلله الَّتِي علق بهَا الإحكام فَإِن الْغَلَط إِنَّمَا ينشأ من عدم الْمعرفَة بمراده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمخاطرة مُشْتَركَة بَين كل من المتسابقين فان كلأ يَرْجُو أَن يغلب الآخر وَيخَاف أَن يغلبه فَكَانَ ذَلِك عدلا وإنصافا بَينهمَا كَمَا تقدم وَكَذَلِكَ كل من الْمُتَبَايعين لسلعة فَإِن كلا يَرْجُو أَن يربح فِيهَا وَيخَاف أَن يخسر فَمثل هَذِه المخاطرة جَائِزَة بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع والتاجر مخاطر وَكَذَلِكَ الْأَجِير المجعول لَهُ جعل على رد آبق وعَلى بِنَاء حَائِط فَإِنَّهُ قد يحْتَاج إِلَى بذل مَال فَيكون مترددا بَين أَن يعرم أَو يغنم وَمَعَ هَذَا فَهُوَ جَائِز والمخاطرة إِذا كَانَت من الْجَانِبَيْنِ أقرب إِلَى الْعدْل والإنصاف مثل الْمُضَاربَة وَالْمُسَاقَاة والمزارعة فَإِن أَحدهمَا مخاطر قد يحصل لَهُ ربح وَقد لَا يحصل وَمَا علمت أَن أحدا من الصَّحَابَة شَرط فِي السباق محللا وَلَا حُرْمَة إِذا كَانَ كل مِنْهُمَا يخرج وَإِنَّمَا علمت الْمَنْع فِي ذَلِك عَن بعض التَّابِعين وَقد روينَا عَن أبي عُبَيْدَة بن الْجراح أَنه رَاهن رجلَانِ فِي سباق الْخَيل وَلم يكن بَينهمَا مُحَلل وَثَبت فِي الْمسند وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيرهمَا أَنه لما اقتلت فَارس وَالروم فَغلبَتْ فَارس الرّوم وَبلغ ذَلِك أهل مَكَّة وَكَانَ ذَلِك فِي أول الْإِسْلَام ففرح بذلك الْمُشْركُونَ لِأَن الْمَجُوس أقرب إِلَيْهِم من أهل الْكتاب وساء ذَلِك الْمُسلمين لِأَن أهل الْكتاب أقرب إِلَيْهِم من الْمَجُوس فَأخْبر أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ بذلك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأنْزل الله تَعَالَى {الم غلبت الرّوم فِي أدنى الأَرْض وهم من بعد غلبهم سيغلبون فِي بضع سِنِين} فَخرج أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فراهن الْمُشْركين على أَنه إِن غلبت الرّوم فِي بضع سِنِين أَخذ الرِّهَان وَإِن لم تغلب الرّوم أخذُوا الرِّهَان وَهَذِه الْمُرَاهنَة هِيَ مثل الْمُرَاهنَة فِي سباق الْخَيل وَالرَّمْي بالنشاب وَكَانَت جَائِزَة لِأَنَّهَا مصلحَة للاسلام لِأَن فِيهَا مصلحَة بَيَان صدق الرَّسُول

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا أخبر بِهِ من أَن الرّوم سَوف يغلبُونَ بعد ذَلِك وفيهَا ظُهُور أقرب الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْمُسلمين على أبعدهُمَا وَهَذَا فعله الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَأقرهُ عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُنكره عَلَيْهِ وَلَا قَالَ هَذَا ميسر وقمار وَالصديق أجل قدرا من أَن يقامر فَإِنَّهُ لم يشرب الْخمر فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام وَهِي أشهى إِلَى النُّفُوس من الْقمَار وَقد ظن بَعضهم أَن هَذَا قمار لَكِن فعله هَذَا كَانَ قبل تَحْرِيم الْقمَار وَهَذَا إِنَّمَا يقبل إِذا ثَبت أَن مثل هَذَا ثَابت فِيمَا حرمه الله من الميسر وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيل شَرْعِي أصلا بل هِيَ مُجَرّد أَقْوَال لَا دَلِيل عَلَيْهَا وأقيسة فَاسِدَة يظْهر تناقضها لمن كَانَ خَبِيرا بِالشَّرْعِ وَحل مثل ذَلِك ثَابت بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ أقرّ صديقه على ذَلِك فَهَذَا الْعَمَل مَعْدُود من فَضَائِل الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَكَمَال يقينه حَيْثُ أَيقَن بِمَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأحب ظُهُور أقرب الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحق وراهن على ذَلِك رَغْبَة فِي إعلاء كَلمه الله وَدينه بِحَسب الْإِمْكَان وَبِالْجُمْلَةِ إِذا ثَبت الْإِبَاحَة فمدعى النّسخ يحْتَاج إِلَى دَلِيل وَالْكَلَام على هَذِه الْمَسْأَلَة مَبْسُوط فِي مَوَاضِع وَإِنَّمَا كتبت ذَلِك فِي جلْسَة وَاحِدَة والسبق بِالْفَتْح هُوَ الْعِوَض وبالسكون هُوَ الْفِعْل وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا سبق إِلَّا فِي نصل أَو خف أَو حافر مُطلقًا لم يشْتَرط محللا لَا هُوَ وَلَا أَصْحَابه بل ثَبت عَنْهُم مثل ذَلِك بِلَا مُحَلل وَمِمَّا يُوضح الْأَمر فِي ذَلِك أَن السَّبق فِي غير هَذِه الثَّلَاثَة لم يحرم لِأَنَّهُ قمار فَإِنَّهُ لَو بذل أَحدهمَا عوضا فِي النَّرْد وَالشطْرَنْج حرم اتِّفَاقًا مَعَ أَن الْعِوَض لَيْسَ من الجانبيين وَلَو كَانَ بَينهمَا مُحَلل فِي النَّرْد حرم اتِّفَاقًا أَيْضا فالعوض فِي النَّرْد وَالشطْرَنْج حرَام سَوَاء كَانَ مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا أَو من غَيرهمَا بِمُحَلل أَو غير مُحَلل فَلم يحرم لأجل المخاطرة فَلَو كَانَ الميسر الْمجمع على تَحْرِيمه والنرد وَالشطْرَنْج

كتاب جامع الأيمان

لأجل المخاطرة لأبيح مَعَ عدمهَا فَلَمَّا ثَبت أَنه محرم على كل تَقْدِير علم بطلَان تَعْلِيل تَحْرِيمه بذلك وَأكْثر الْعلمَاء يحرمُونَ الْعِوَض فِي المصارعة وَإِن كَانَ بَينهمَا مُحَلل يرفع المخاطرة عدد من يَقُول بذلك فَعلم أَن الْمُؤثر هُوَ أكل المَال بِالْبَاطِلِ أَو كَون الْعَمَل يصد عَن الصَّلَاة وَعَن ذكر الله عز وَجل ويوقع الْعَدَاوَة والبغضاء كَمَا دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن كَمَا أَن بذل المَال لما فِيهِ من إعلاء كلمة الله وَدين الله هُوَ من الْجِهَاد الَّذِي أَمر الله سُبْحَانَهُ وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ سَوَاء كَانَ فِيهِ مخاطرة أَو لم يكن فَإِن المجهدة فِي سَبِيل الله عزو وَجل فِيهَا مخاطرة قد يغلب وَقد يغلب وَكَذَلِكَ سَائِر الْأُمُور من الْجعَالَة والمزارعة وَالْمُسَاقَاة وَالتِّجَارَة وَالسّفر وَغَيرهمَا كَمَا تقدم بَيَانه وَفِي هَذَا كِفَايَة وَالله أعلم كتاب جَامع الْأَيْمَان إنْشَاء الْحَرَام فِيمَا إِذا قَالَ الرجل لامْرَأَته أَنْت عَليّ حرَام أَو قَالَ الْحل على حرَام أَو مَا أحل الله عَليّ حرَام وَله زَوْجَة فقد تنَازع فِيهِ الصَّحَابَة على قَوْلَيْنِ مشهورين يتفرغ عَنْهُمَا أَقْوَال أحدما وَهُوَ قَول عَليّ وَزيد وَغَيرهمَا أَنه طَلَاق وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّانِي أَنه لَيْسَ بِطَلَاق بل يَمِين مكفرة الْكُبْرَى وَهِي كَفَّارَة الظِّهَار لِأَنَّهُ ظِهَار أَو بِالْكَفَّارَةِ الصُّغْرَى كَسَائِر الْأَيْمَان وَهَذَا قَول جُمْهُور الصَّحَابَة عمر وَعُثْمَان وَابْن عَبَّاس وروى عَن أبي بكر رَضِي الله عَنْهُم ثمَّ من الصَّحَابَة من قَالَ هُوَ ظِهَار وَمِنْهُم من جعله يَمِينا بِلَا ظِهَار وَقَالَ مَسْرُوق لَا شَيْء فِيهِ وَلَا أُبَالِي حرمت امْرَأَتي أم قَصْعَة من ثريد

وتنازع الْفُقَهَاء فِي ذَلِك على نَحْو تنَازع السّلف فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه وَيذكر عَن أَحْمد رِوَايَة أَنه عِنْد الْإِطْلَاق يَمِين وَلَيْسَ بظهار وَقَالَ أَحْمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ هُوَ عِنْد الْإِطْلَاق ظِهَار وَمن جعله يَمِينا أَو ظهرا عِنْد الْإِطْلَاق فَنوى بِهِ غير ذَلِك فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة إِن نوى بِهِ طَلَاقا فَهُوَ طَلَاق وَإِن نوى بِهِ ظِهَارًا فَهُوَ ظِهَار وَإِن نوى بِهِ يَمِينا فَهُوَ يَمِين وَقَالَ أَحْمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ ظِهَار كَقَوْلِه أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي وَلَو نوى بِهِ الطَّلَاق لم يكن طَلَاقا لِأَن اللَّفْظ إِذا كَانَ صَرِيحًا فِي حكم وَوجد مشَاعا لم يَجْعَل كِنَايَة فِي غَيره كَلَفْظِ الظِّهَار وَغَيره وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يطلقون بالظهار ثمَّ لما تظاهر أَوْس بن الصَّامِت من زَوجته خَوْلَة وَسمع الله شكواها أنزل الله سُورَة المجادلة وَجعل الظِّهَار الَّذِي كَانُوا ينوون بِهِ الطَّلَاق مُنْكرا من القَوْل وزورا ل يَقع بِهِ شَيْء وَإِنَّمَا فِي الْكَفَّارَة قبل الْمَسِيس إِذا عَاد فَمن قَالَ عَليّ الْحَرَام كَذَلِك هُوَ الظِّهَار شبهها بِمن تحرم عَلَيْهِ على التأييد فَجعل الله ذَلِك مُنْكرا لِأَنَّهَا لَيست مثلهَا وَهنا نطق بِالتَّحْرِيمِ الَّذِي يُوجب التَّشْبِيه لِأَنَّهُ فِي ذَلِك التَّحْرِيم الْمُؤَيد وَإِنَّمَا قصد فِي الطَّلَاق التَّحْرِيم الْعَارِض وَالزَّوْجَة حَلَال لَا تكون حَرَامًا إِلَّا بِأَمْر الشَّارِع فَإِذا شبهها بِمن تحرم عَلَيْهِ مُؤَبَّدًا أَو صرح بتحريمها كَانَ قد أثبت الحكم بِدُونِ سَببه وَمثل هَذَا مُمْتَنع وَلِهَذَا قَالَ ابْن عَبَّاس تَحْرِيم الحلا يَمِين فِي كتاب الله تَعَالَى وَقَرَأَ {قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} وَقد ذهب طَائِفَة من متأخري أَصْحَاب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَن لفظ الْحَرَام قد اشْتهر فِي عرف الْعَامَّة فِي الطَّلَاق فجعلوه طَلَاقا عِنْد الْإِطْلَاق وَذهب بعض أَصْحَاب مَالك إِلَى أَنه لَيْسَ الْحَرَام فِي هَذِه الْبِلَاد طَلَاقا هَذَا أصل وَالْأَصْل الثَّانِي أَن الْحلف بالحرام هُوَ بِمَنْزِلَة إِيقَاعه وَذهب كثير من الْفُقَهَاء إِلَى أَنه لَا فرق بَينهمَا كَمَا قَالُوهُ فِي الْحلف بالحرام هُوَ بِمَنْزِلَة إِيقَاعه وَذهب كثير من الْفُقَهَاء إِلَى أَنه لَا فرق بَينهمَا كَمَا قَالُوهُ فِي الْحلف بِالطَّلَاق وَالْعتاق وَذهب طَائِفَة إِلَى أَن الْحلف بِهِ لَيْسَ كالإنشاء كَمَا لَو حلف بِالنذرِ مثل إِن فعلت كَذَا فَمَالِي صَدَقَة

فَإِن مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد وَرِوَايَة عَن أبي حنيفَة أَنه تجزئة كَفَّارَة يَمِين أفتى بذلك الصَّحَابَة والتابعون مثل عمر وَحَفْصَة وَزَيْنَب ربيبة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتسَمى هَذِه مَسْأَلَة نذر اللجاج وَالْغَضَب فَإِذا قَالَ إِن فعلت كَذَا فأمرأتي حرَام أَو مَالِي حرَام فقد حرم على نَفسه مالم يحرم الله عَلَيْهِ ليمتنع من ذَلِك الْعَمَل كَمَا أَنه فِي النّذر أوجب على نَفسه مالم يُوجِبهُ الله تَعَالَى عَلَيْهِ ليتمنع من ذَلِك الْعَمَل والإيجاب وَالتَّحْرِيم إِلَى الشَّارِع لَا إِلَى العَبْد وَهُوَ لم يقْصد إِيجَابا وَلَا تَحْرِيمًا إِنَّمَا قصد منع نَفسه من ذَلِك الْفِعْل وَالله قد جعل عَلَيْهِ الْكَفَّارَة إِذا حنث لقَوْله تَعَالَى {ذَلِك كَفَّارَة أَيْمَانكُم إِذا حلفتم} فشرع الْكَفَّارَة لإِزَالَة الآصار والأغلال عَن هَذِه الْأمة بِخِلَاف من قبلهَا فَإِنَّهُم كَانَ يلْزمهُم الْوَفَاء والتزام الْمَحْلُوف عَلَيْهِ وَمن حلف على ابْن أُخْت زَوجته أَن لَا يعْمل عِنْد إِنْسَان لكَونه يَظْلمه ثمَّ بلغ وَخرج عَن أمره واستقل بِنَفسِهِ وَأجر نَفسه لذَلِك الرجل لم يَحْنَث ذَلِك الْحَالِف وَلَو قَالَ أَنا بَرِيء من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن كَلمته فَحنث فَعَلَيهِ كَفَّارَة يَمِين وَإِذا سلف على زَوجته بِالطَّلَاق أَنَّهَا لَا تخرج إِلَّا إِلَى الْحمام فَخرجت إِلَى بَيت أهل الزَّوْج وَقَالَت لم أَظن أَنَّك أردْت منعى من أهلك فَعرف صدقهَا فِي ذَلِك لم يَقع بِهِ طَلَاق وَإِن عرف كذبهَا لم يقبل قَوْلهَا وَإِن شكّ فِي صدقهَا وكذبها لم يحكم بِوُقُوع الطَّلَاق فَإِن النِّكَاح ثَابت بِيَقِين فَلَا يَزُول بِالشَّكِّ وَإِذا حلف على أُخْت زَوجته لَا تدخل بَيته لَا بِإِذْنِهِ فَدخلت بِغَيْر إِذْنه وَلم تكن علمت بِالْيَمِينِ ثمَّ علمت فاعتقدت أَن الْيَمين انْحَلَّت بِالْحِنْثِ وَأَنه لم يبْق عَلَيْهَا يَمِين فاستمرت على الدُّخُول فَلَا حنث على الخالف لِأَن الدُّخُول الأول لم تكن عَالِمَة بِالْيَمِينِ وَبعد ذَلِك اعتقدت أَنَّهَا انْحَلَّت وَأَنه لم يبْق عَلَيْهِ يَمِين

فصل

فصل وَمن حلف على زَوجته بِالطَّلَاق الثَّلَاث لَا تفعل كَذَا فَفعلت وَزَعَمت أَنَّهَا حِين فعلته اعتقدت أَنه غير الْمَحْلُوف عَلَيْهِ فَالصَّحِيح فِي مثل ذَلِك أَنه لَا يَقع طَلَاقه بِنَاء على أَنه فعل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ نَاسِيا ليمينه أَو جَاهِلا لم يَقع بِهِ طَلَاق فِي أحد قولي الشَّافِعِي وَأحمد وَعنهُ فِي جنس ذَلِك ثَلَاث رِوَايَات لِأَن الْبر والأيمان بمنزل الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة فِي الْأَمر وَالنَّهْي لِأَن الْحَالِف يقْصد بِيَمِينِهِ الحض لنَفسِهِ أَو لغيره مِمَّن يحلف عَلَيْهِ أَو الْمَنْع لنَفسِهِ أَو لغيره مِمَّن يحلف عَلَيْهِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة طلب مُؤَكد بالقسم فَكَمَا أَن الْكَلَام نَوْعَانِ خبر وإنشاء والإنشاء أَمر وَنهي وَإِبَاحَة وَالْقسم أَيْضا نَوْعَانِ خبر مُؤَكد وإنشاء مُؤَكد بالقسم وَلِهَذَا كَانَ الْقسم جملتان جملَة يقسم عَلَيْهَا وَجُمْلَة يقسم بهَا فَإِذا قَالَ وَالله لقد كَانَ كَذَا أَو مَا كَانَ كَذَا أَو لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَو لَا تفعل كَذَا كَانَ هَذَا إنْشَاء مؤكدا بالقسم لكنه طلب يتَضَمَّن الْأَمر وَالنَّهْي ثمَّ لما صَارُوا يحلفُونَ بِالطَّلَاق كَانَ لَهُ صيغتان صِيغَة الْقسم وَصِيغَة الشَّرْط فصيغة الْقسم قَول الْحَالِف الطَّلَاق يلْزَمنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَو لَا أَفعلهُ أَو لتفعلن كَذَا وَصِيغَة الْقسم مُوجب فِي صِيغَة الْجَزَاء والمثبت فِي هَذِه منفى فِي هَذِه وَصِيغَة الشَّرْط إِذا تَضَمَّنت معنى الحض وَالْمَنْع كَانَت حلفا بِالطَّلَاق وَأما إِن كَانَت تَعْلِيقا مَحْضا كَقَوْلِه إِذا طهرت أَو طلعت الشَّمْس وَنَحْو ذَلِك فَفِيهِ نزاع بَين الْعلمَاء وَالصَّحِيح أَنه لَيْسَ بِحلف بل هُوَ إِيقَاع مُوجب بِوَقْت مَعْلُوم أَو مَجْهُول أَو مُعَلّق بِشَرْط وينبنى على ذَلِك مسَائِل

مِنْهَا لَو حلف لَا يحلف بِالطَّلَاق أَو قَالَ إِذا حَلَفت بِهِ فَعَبْدي حر أَو لم يعرف لغته فَأَما إِن عرفت لغته فَإِن يَمِينه تنزل عَلَيْهَا وَمِنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من حلف فَقَالَ إِن شَاءَ الله فَإِن شَاءَ فعل وَإِن شَاءَ ترك وَقد تنَازع النَّاس فِي الِاسْتِثْنَاء عَليّ ثَلَاث دَرَجَات أَحدهَا الْإِيقَاع الْمُجَرّد فَعِنْدَ أَحْمد وَمَالك أَنه نفع الثَّانِيَة وَإِذا علق الطَّلَاق بِشَرْط يقْصد بِهِ الحض أَو الْمَنْع فَفِيهِ قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد إِحْدَاهمَا الْإِيقَاع فَإِنَّهُ الْإِيقَاع وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيح أَنه كالحض والدرجة الثَّالِثَة إِذا حلف بِصِيغَة الْقسم كَقَوْلِه الطَّلَاق يلْزَمنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَهُنَا ظَاهر الْمَذْهَب عَن أَحْمد أَنه لَا يَحْنَث ثمَّ من أَصْحَابه من يَجعله قولا وَاحِدًا وَمِنْهُم من يَجْعَل فِيهِ رِوَايَتَيْنِ فَالصَّوَاب وُقُوع الاسثتناء فِي هَاتين الصُّورَتَيْنِ وَإِن قيل لَا يَقع فِي الْإِيقَاع وَالْمَقْصُود هُنَا أَن الْحَالِف على نَفسه أَو غَيره ليفعلن أَو لَا يفعل وَهُوَ طَالب طلبا مؤكدا بالقسم بِمَنْزِلَة الْأَمر وَالنَّهْي وَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد علم أَن الْمنْهِي إِذا فعل مَا نهى عَنهُ نَاسِيا أَو مخطئا وَقد فعل شَيْئا يعْتَقد أَنه غير الْمنْهِي عَنهُ كَانَ المنهى عَنهُ كَأَنَّهُ لم يكن وَلم يكن الْمنْهِي مُخَالفا للناهي عَاصِيا لَهُ فَكَذَلِك من فعل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ نَاسِيا أَو مخطئا فِي اعْتِقَاده لمي كن مُخَالفا للْحَالِف فَلم يَحْنَث الْحَالِف وَهَذَا بَين لمن تَأمله وَالله تَعَالَى لم يُؤَاخذ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأ وَأما إِذا فعلت الزَّوْجَة الْمَحْلُوف عَلَيْهِ عَالِمَة بالمخالفة فَهَذَا فِيهِ نزاع آخر غير النزاع الْمَعْرُوف فَأصل الْحلف بِالطَّلَاق هَل يَقع بِهِ الطَّلَاق أَو لَا يَقع فَإِن النزاع فِي ذَلِك بَين السّلف وَالْخلف وَالْمَقْصُود أَن الزَّوْج إِذا حلف على زَوجته فخالفته عمدا فمذهب أَشهب

صَاحب مَالك أَنه لَا يَقع بِهِ طَلَاق فِي هَذِه الصُّورَة وَخَالفهُ غَيره من الْمَالِكِيَّة وَلَعَلَّ مأخذه إِمَّا وجوب طَاعَته وَجعلهَا عاصية بذلك أَو لِئَلَّا يكون الطَّلَاق بِيَدِهَا من غير رِضَاهُ فَإِنَّهُ لم يقْصد جعله بِيَدِهَا إِنَّمَا قصد منعهَا وَظن أَنَّهَا لَا تعصيه كمن حلف على معنى يَظُنّهُ كصفة فَتبين بِخِلَافِهَا ثمَّ إِذا وَقع بِهِ الطَّلَاق بِفِعْلِهَا أَو حصلت فرقة بِفِعْلِهَا بعد الدُّخُول فَهَل يرجع عَلَيْهَا بِالْمهْرِ فَهُوَ مَبْنِيّ على أَن إِخْرَاج الْبضْع من ملك الزَّوْج هَل هُوَ مُتَقَوّم فَلَو شهد شُهُود بِالطَّلَاق ثمَّ رجعُوا هَل يضمنُون الصَدَاق فِيهِ قَولَانِ مشهوران هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وَالصَّحِيح أَنه مُتَقَوّم وَمِنْهُم من فرق بَين الْمَرْأَة واالأجنبي فَيَقُول مُتَقَوّم على الْأَجْنَبِيّ دون الْمَرْأَة فَيَقُولُونَ إِن أفسدت النِّكَاح هِيَ لم تضمنه بِخِلَاف الْأَجْنَبِيّ ثمَّ مَالك يَقُول هُوَ مَضْمُون بالمسعى وَهُوَ مَنْصُوص عَن أَحْمد وَالشَّافِعِيّ يَقُول هُوَ مَضْمُون بِمهْر الْمثل وَهُوَ وَجه لِأَحْمَد وَكَذَلِكَ لَو أفسد رجل نِكَاح امْرَأَة قبل الدُّخُول بهَا وَبعده فللمرأة قبل الدُّخُول نصف الصَدَاق وَلها جَمِيعه بعده وَيرجع بِهِ الزَّوْج على الْمُفْسد فِي الصُّورَتَيْنِ عِنْد من يَقُول خُرُوج الْبضْع مُتَقَوّم وَهُوَ الْمَنْصُوص عَن أَحْمد وَهُوَ مِقْدَار مَا يرجع بِهِ على الْقَوْلَيْنِ وَمن يَقُول لَا يتقوم بقول لَا يرجع وَهَذَا القَوْل الآخر فِي مَذْهَب أَحْمد وَالدَّلِيل على أَنه مُتَقَوّم جَوَاز الْخلْع عَلَيْهِ وَأَيْضًا مَا ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الممتحنة حَيْثُ قَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا مَا أنفقتم وليسألوا مَا أَنْفقُوا} نزلت بِاتِّفَاق الْمُسلمين فِي قَضِيَّة الصُّلْح الَّذِي كَانَ بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين أهل مَكَّة صلح الْحُدَيْبِيَة لما شَرط عَلَيْهِم أَن يرد الْمُسلمُونَ من جَاءَهُم مُسلما وَأَن لَا يرد أهل مَكَّة من ذهب إِلَيْهِم مُرْتَدا فَهَاجَرَ نسْوَة كَأُمّ كُلْثُوم بنت عقبَة بن أبي معيط فنسخ الله تَعَالَى الرَّد فِي النِّسَاء وَأمر برد الْمهْر عوضا عَن رد الْمَرْأَة فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا}

فصل

فَأمر أَن يُؤْتى الْأزْوَاج مَا أَنْفقُوا على الْمَرْأَة الممتحنة الَّتِي لَا ترد وَالَّذِي أَنْفقُوا هُوَ الْمُسَمّى {واسألوا مَا أنفقتم} فشرع للْمُؤْمِنين أَن يسْأَلُوا الْكفَّار مَا أَنْفقُوا على النسْوَة اللَّاتِي ارتددن إِلَيْهِم وَأَن يسْأَل الْكفَّار مَا أَنْفقُوا على النِّسَاء الْمُهَاجِرَات فَلَمَّا حكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بذلك دلّ على أَن خُرُوج الْبضْع مُتَقَوّم وَأَنه بِالْمهْرِ الْمُسَمّى ودلت الْآيَة على أَن الْمَرْأَة إِذا أفسدت نِكَاحهَا رَجَعَ عَلَيْهَا زَوجهَا بِالْمهْرِ فَإِذا حلف عَلَيْهَا فخالفته وَفعلت الْمَحْلُوف عَلَيْهِ كَانَت عاصية ظالمة متلفة للبضع عَلَيْهِ فَيجب عَلَيْهَا ضَمَانه إِمَّا بِالْمُسَمّى على أصح قولي للْعُلَمَاء وَإِمَّا بِمهْر الْمثل يُؤَيّد ذَلِك مَا كَانَ من امْرَأَة قيس بن شماس حِين أبغضته وَقَالَت إِنِّي أكره الْكفْر بعد الْإِيمَان فَأمرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ترد عَلَيْهِ حديقته لِأَن الْفرْقَة جَاءَت من جِهَتهَا فَتبين أَنه يجوز فَتبين أَنه يجوز أَن يَأْخُذ أَن يَأْخُذ صَدَاقهَا إِذا كَانَ سَبَب الْفرْقَة من جِهَتهَا إِلَّا إِذا كَانَت من جِهَته وَهَذَا كُله يُقرر أَنه يجوز أَن يرجع إِلَيْهِ الصَدَاق إِذا فعل مَا يُوجب الضَّمَان مثل مَا إِذا أفسدته بِالْهِجْرَةِ أَو الرِّدَّة فصل وَإِذا حلف بِالطَّلَاق الثَّلَاث أَن أحدا من أَرْحَام الْمَرْأَة لَا يطلع إِلَى بَيته فطلع فِي غيبته فَإِن كَانَ يعْتَقد أَنه إِذا حلف عَلَيْهِم امْتَنعُوا من الصمود فَحلف ظنا أَنهم مِمَّن يطيعونه فَتبين الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك فَفِي حنثه نزاع بَين الْعلمَاء الْأَظْهر أَنه لَا يَحْنَث كمن رأى امْرَأَة ظَنّهَا أَجْنَبِيَّة فَقَالَ أَنْت طَالِق ثمَّ تبين أَنَّهَا امْرَأَته وَنَحْو ذَلِك من الْمسَائِل الَّتِي يتعارض فِيهَا تعْيين الظَّاهِر وَالْقَصْد فَإِن الصَّحِيح اعْتِبَار الْقَصْد

وَإِذا حلف بِالطَّلَاق الثَّلَاث لَا يسكن هَذِه الدَّار وَقَالَ إِن شَاءَ الله فَلَا حنث عَلَيْهِ إِذا سكن فِيهَا وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي الْمَشْهُور من مذْهبه وَقَول فِي مَذْهَب مَالك إِذا قَالَ إِن شَاءَ الله على الْوَجْه الْمُعْتَبر وَإِذا حلف فَقَالَ لَهُ رجل قل إِن شَاءَ الله فَقَالَ حَلَفت وَمضى فَقَالَ مرّة ثَانِيَة إِن شَاءَ الله فَقَالَهَا فَفِيهِ نزاع مَشْهُور فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره فِي الصَّحِيح مثل هَذَا الإستثناء مثل هَذَا الإستثناء كَمَا ثَبت فِي حَدِيث سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لأطوفن اللَّيْلَة على تسعين امْرَأَة كل أمْرَأَة تَأتي بِفَارِس يُجَاهد فِي سَبِيل الله فَقَالَ لَهُ صَاحبه قل إِن شَاءَ الله فَلم يقل فَلَو قَالَهَا لقاتلوا جَمِيعًا فِي سَبِيل الله فُرْسَانًا أَجْمَعِينَ وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَدِينَة لَا يختلي خَلاهَا فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس إِلَّا الْإِذْخر فَقَالَ إِلَّا الْإِذْخر وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَنْقَلِبْنَ أحد إِلَّا بِضَرْب عنق فَقَالَ ابْن مَسْعُود إِلَّا سُهَيْل بن بَيْضَاء فَإِنِّي سمعته يذكر الْإِسْلَام قَالَ فَسكت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى خفت أَن الْحِجَارَة تنزل عَليّ من السَّمَاء ثمَّ قَالَ إِلَّا سُهَيْل بن بَيْضَاء وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالله لأغزون قُريْشًا وَالله لأغزون قُريْشًا وَالله لأغزون قُريْشًا ثمَّ سكت ثمَّ قَالَ إِن شَاءَ الله ثمَّ لم يغزهم وَفِي الْقُرْآن جمل قد بَين فصل أبعاضها بِكَلَام آخر كَقَوْلِه {وَقَالَت طَائِفَة من أهل الْكتاب آمنُوا بِالَّذِي أنزل على الَّذين آمنُوا وَجه النَّهَار واكفروا آخِره لَعَلَّهُم يرجعُونَ وَلَا تؤمنوا إِلَّا لمن تبع دينكُمْ قل إِن الْهدى هدى الله أَن يُؤْتى أحد مثل مَا أُوتِيتُمْ} الْآيَة ففصل بَين الْكَلَام المحكى عَن أهل الْكتاب وَله نَظَائِر وَالله أعلم وَإِذا حلف على يَمِين وَكَانَ من عَادَته أَن لَا يحلف إِلَّا وَيسْتَثْنى فَحلف يَمِينا وَشك بعد مُدَّة هَل جرى على عَادَته فِي الِاسْتِثْنَاء أم لَا فَالْأَظْهر من قَول الْعلمَاء إجراؤه على عَادَته وإلحاق الْفَرد بالأعم الْأَغْلَب وَإِذا أكره على الْيَمين بِغَيْر حق مثل أَن يكون بَاعه إِلَى أجل ثمَّ بعد

لُزُوم العقد قَالَ لَهُ إِن لم يحلف لي أَنَّك تُعْطِينِي حَقي يَوْم كَذَا وَإِلَّا لزمك الطَّلَاق فَإِن لم تحلف أخذت السّلْعَة مِنْك وَذَلِكَ بعد إِذْ أدّى المُشْتَرِي الكلفة السُّلْطَانِيَّة فَإِن هَذِه الْيَمين لَا تَنْعَقِد وَلَا طَلَاق عَلَيْهِ إِذا لم يُعْط وَلَو قَالَ كنت قد استثنيت فَقلت إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَقَالَ لم تقل شَيْئا فَالْقَوْل قَول الْحَالِف فِي هَذِه الْحَال أَنه اسْتثْنِي لِأَنَّهُ مظلوم والمظلوم لَهُ الِاسْتِثْنَاء وَله التَّعْرِيض وَالْقَوْل قَوْله فِي ذَلِك وَلَو قَالَ إِن خرجت بِغَيْر إذني فَأَنت طَالِق فَهُوَ على كل مرّة لِأَن خرجت فعل وَالْفِعْل نكرَة وَهِي فِي سِيَاق الشَّرْط تعم نَحْو قَوْله تَعَالَى فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَكَذَا إِذا قَالَ إِن أَعْطَيْتنِي ألفا فَأَنت طَالِق يَقْتَضِي تَعْلِيق الْمُسَمّى على تحقق الشَّرْط فَهُوَ على كل مرّة تعطيه ألفا وَهَذَا الْمُسَمّى مَوْجُود فِي جَمِيع أَفْرَاده فَيَقَع الطَّلَاق بِهِ إِذا وجد فَلَو أَعطَتْهُ مَا ينقص ع ن ألف ثمَّ أَعطَتْهُ الْألف وَقع الطَّلَاق لَكِن الْعُمُوم تَارَة يكون على سَبِيل الْبَدَل وَهُوَ الْعُمُوم الْمُطلق وَهُوَ الَّذِي يُقَال فِيهِ تَعْلِيق الطَّلَاق لَا يَقْتَضِي التّكْرَار وَتارَة تكون على سَبِيل الْجمع وَهُوَ الْعُمُوم على سَبِيل الِاسْتِغْرَاق وَهُوَ يَقْتَضِي التّكْرَار تَعْلِيق الطَّلَاق هَذَا الْجَواب هُوَ الصَّوَاب وَقيل إِنَّه إِذا أذن لَهَا فِي الْخُرُوج انْحَلَّت يَمِينه بِنَاء على القَوْل بِأَن النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي لَا تعم إِلَّا إِذا أكدت ب من تَحْقِيقا أَو تَقْديرا نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَمَا من إِلَه إِلَّا الله} محتجا بقول سيبيوه إِنَّه يجوز أَن تَقول مَا رَأَيْت رجلا بل رجلَيْنِ وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فرق بَين الصيغتين فِي الْجَوَاز فَقَط فَإِن قَوْله مَا رَأَيْت من رجل إِنَّمَا هُوَ نَص فِي الْجِنْس لِأَن حرف من للْجِنْس وَأما نَحْو مَا رَأَيْت رجلا فَهُوَ ظَاهر فِي الْجِنْس يَقْتَضِي الْعُمُوم وَيجوز أَن يُرَاد بِهِ مَعَ القرنية نفي الْجِنْس الْوَاحِد فَيجوز للمتكلم أَن لَا يُرِيد بِكَلَامِهِ ذَلِك كَمَا

فصل

يُرِيد بِهِ سَائِر الِاحْتِمَالَات المرجوحة فَإِذا قَالَ إِن خرجت إِلَّا بإذني وَنوى خُرُوجًا وَاحِدًا نَفعه ذَلِك وحملت يَمِينه عَلَيْهِ وَلَو كَانَ السَّبَب يَقْتَضِي ذَلِك مثل أَن تطلب مِنْهُ الْخُرُوج إِلَى لِقَاء الْحجَّاج فَيَقُول إِن خرجت بِغَيْر اذني فَأَنت طَالِق فَهُوَ كَمَا لَو حلف لَا يتغذى إِذا دعى إِلَى غداء فَفِيهِ قَولَانِ هما وَجْهَان فِي مَذْهَب أَحْمد الصَّوَاب أَنه يقْتَصر على ذَلِك الْغَدَاء لِأَنَّهُ الْمَفْهُوم من كَلَام النَّاس عرفا وَالْفرق بَينه وَبَين أَلْفَاظ الشَّارِع أَن الْعبْرَة فِي كَلَام الشَّارِع بِعُمُوم لَفظه لَا بِخُصُوص سَببه ذَلِك أَن هُنَاكَ تعَارض قصد التَّخْصِيص وَقصد التأسيس بالحكم فيرجح التأسيس لِأَن كَلَام الشَّارِع مَنْصُوب لَهُ وَهُوَ مُوجب اللَّفْظ وَهنا لم يعرف أَن غَرَض الْحَالِف تأسيس الْمَنْع من الْفِعْل فَسلمت دلَالَة التَّخْصِيص عَن معَارض فَظهر أَن قَوْله إِن خرجت بِغَيْر إذني مثل قَوْله إِن خرجت إِلَّا أَن آذن لَك هَذَا خُرُوج مُقَيّد وَهَذَا خُرُوج مُطلق كَقَوْلِه لَا أتغذى أَو لَا أخرج وَمَعَ ذَلِك فان تطلق نكرَة وَهَذِه الْأَفْعَال كلهَا للْعُمُوم عِنْد الْإِطْلَاق لِأَنَّهَا نكرَة فِي سِيَاق غير مُوجب فَيحمل عَلَيْهِ إِذا نَوَاه وَكَانَ مَعَ السَّبَب للخصوص على أصح الْقَوْلَيْنِ وَهَذَا ظَاهر فِي قُلُوب النَّاس فصل وَمن حلفه مخدومه أَنه مَتى رأى أحدا خانه يُعلمهُ فخانه أحد فَإِنَّهُ اطلع عَلَيْهِ استوفى حَقه مِنْهُ أَو عاقبه بِمَا يسْتَحق من غير عدوان وَجب على الَّذِي عرف بالقضية أَن يطلعه وينصحه وَلَو لم يحلفهُ فَكيف إِذا حلفه وبأثم إِذا سكت عَن هَذِه النَّصِيحَة وَمن سحر فَبلغ بِهِ السحر أَن لَا يعلم مَا يَقُول فَلَا طَلَاق لَهُ وَمن كَانَت عِنْده وَدِيعَة فتصرفت فِيهَا زَوجته فَطلب صَاحب الْوَدِيعَة

وديعته فَقَالَ لزوجته أعْطِيه الْوَدِيعَة فَقَالَت تصرفت فِيهَا فَحلف أَنه لَا بُد أَن يُعْطِيهِ الْوَدِيعَة وَإِلَّا كَانَت طَالقا وَلَا يروح إِلَّا بوديعته وَكَانَ قد رأى الْوَدِيعَة فِي الْبَيْت فعجزت الزَّوْجَة عَن إحضارها وَرَاح الرجل وَلم يَأْخُذ الْوَدِيعَة فَإِذا كَانَت الْوَدِيعَة مَعْدُومَة فَلَا حنث عَلَيْهِ لِأَن الْمَحْلُوف عَلَيْهِ مُمْتَنع وَلَا يَحْنَث فِي أصح الْقَوْلَيْنِ وَلِأَنَّهُ اعْتقد وجودهَا فَتبين ضِدّه فَلَا يَحْنَث فِي مثل ذَلِك على الصَّحِيح وَمن رأى معجنة طين فَقَالَ على الطَّلَاق مَا تَكْفِي فكفت فَلَا يعود إِلَى مثل هَذَا الْيَمين فَإِن فِيهَا خلافًا لَكِن الْأَظْهر أَنه لَا يَحْنَث وَإِذا حلف على زَوجته لَا تفعل شَيْئا وَلم تعلم أَنه حلف أَو علمت ونسيت ففعلته فَلَا حنث عَلَيْهِ وَله أَن يصدقها إِن كَانَت صَادِقَة عِنْده وَإِذا حلف لَا يفعل شَيْئا لسَبَب فَزَالَ السَّبَب أَو أكره فعل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ لم يَحْنَث وَإِن كَانَ السَّبَب بَاقِيا وَأَرَادَ فعل الْمَحْلُوف فخالع زَوجته خلعا صَحِيحا ثمَّ فعله بعد أَن بَانَتْ بِالْخلْعِ لم يَحْنَث وَإِن كَانَ الْخلْع لأجل الْيَمين فَفِيهِ نزاع مَشْهُور وَالصَّحِيح أَن خلع الْيَمين لَا يَصح كالمحلل لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُود بِهِ الْفرْقَة وَهل يَقع بخلع الْيَمين طَلْقَة رَجْعِيَّة أم لَا يَقع بِهِ شَيْء فِيهِ نزاع مَشْهُور وَالصَّحِيح أَنه لَا يَقع بِهِ شَيْء بِحَال لَكِن إِذا أفتاه مفت بِهِ وَفعله مُعْتَقدًا أَن النِّكَاح قد زَالَ وَأَنه لَا حنث عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يقْصد مُخَالفَة يَمِينه فَلَا حنث عَلَيْهِ وَأكْثر الْعلمَاء يَقُولُونَ إِن يَمِينه بَاقِيَة مِنْهُم مَالك وَأَبُو حنيفَة وَأحمد فِي الْمَشْهُور وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه وَفِي القَوْل الآخر أَن الْيَمين تنْحَل إِذا حصل بَينه وَبَين زَوجته بينونة وَيجوز للمستفتي أَن يستفتى فيمَ ثل هَذِه الْمسَائِل من يفته بِأَن لَا حنث عَلَيْهِ وَلَا يجب على أحد أَن يُطِيع أحد فِي كل مَا يَأْمر بِهِ وَينْهى عَنهُ إِلَّا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذا أفتاه من يجوز

استفتاؤه جَازَ أَن يعْمل بفتواه وَلَو كَانَ ذَلِك القَوْل لَا يُوَافق الْمَذْهَب الَّذِي ينتسب هُوَ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِلَازِم أَن يلزتم قَول إِمَام بِعَيْنِه فِي جَمِيع أيمانه وَمن حلف بالحرام أَن لَا يخرج فُلَانَة من بَيته فَخرجت فمذهب أَحْمد أَنه لَا طَلَاق عَلَيْهِ وَإِن نوى الطَّلَاق بل تُجزئه كَفَّارَة يَمِين فِي قَول وَكَفَّارَة ظِهَار فِي آخر وَكَفَّارَة الْيَمين أظهر وَإِذا اتهمَ زَوجته وَقَالَ أَنْت أخذت الْفضة فَحَلَفت أَنَّهَا مَا أَخَذتهَا فَقَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا ثمَّ وجد أَنَّهَا لم تكن أخذت شَيْئا فَذكر أَنه هُوَ أَخذهَا وَإِن كَانَ قد نوى أَنْت طَالِق إِن كنت أخذتيها فَلَا حنث عَلَيْهِ وَإِن اعْتقد أَنَّهَا أَخَذتهَا فَطلقهَا لأجل ذَلِك ثمَّ تبين أَنَّهَا لم تأخذها فَفِيهِ نزاع الْأَظْهر أَنه لَا يَقع وَكَذَلِكَ لَو نقل عَنْهَا أَنَّهَا فعلت فَاحِشَة فَطلقهَا يَنْوِي أَنَّهَا طَالِق لأجل مَا فعلت فَبَان أَنَّهَا لم تفعل فَلَا حنث وَإِن كَانَ لم ينْو وَلَكِن السَّبَب ذَلِك فَفِيهِ نزاع فَلَا بُد من اعْتِبَار لفظ الْحَالِف وَنِيَّته وَسبب يَمِينه وَإِذا كَانَ الْحَالِف يعْتَقد أَن الْمُخَاطب لَا يفعل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ باعتقاده أَنه لَا يُخَالِفهُ إِذا حلف عَلَيْهِ وَلَا يحنثه لكَون الْحَالِف متزوجا بقريبته وَلَا يخْتَار تطليقها وَنَحْو ذَلِك من الْأَسْبَاب فَحلف عَلَيْهِ وَتبين أَنه كَانَ غالطا فِي اعْتِقَاده فِيهِ وَأَنه يخْتَار أَنه يطلقهَا وَلَا يُبَالِي بِهِ فَفِيهِ نزاع إِذا اعْتقد فِي معِين صفة فَحلف لأجل تِلْكَ الصّفة ثمَّ تبين بِخِلَافِهِ فالأشبه أَنه لَا يَقع طَلَاق كَمَا لَو لَقِي امْرَأَة ظَنّهَا أَجْنَبِيَّة فَقَالَ أَنْت طَالِق ثمَّ تبين أَنَّهَا زَوجته فَفِيهِ نزاع وَالْأَظْهَر لَا طَلَاق عَلَيْهِ إِذْ الِاعْتِبَار بِمَا قَصده وَهُوَ إِنَّمَا قصد مَوْصُوفا لَيْسَ هُوَ هَذَا الْمعِين وَإِذا طَلقهَا طَلْقَة بَائِنَة بِلَا عوض فَفِيهِ نزاع قيل يَقع وَاحِدَة بَائِنَة

فصل

وَقيل بل رَجْعِيَّة وَقيل ثَلَاث وَالصَّحِيح أَنه لَا يَقع بِهِ إِلَّا وَاحِدَة والنزاع فِي مَذْهَب أَحْمد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ رَجْعِيَّة وَأَبُو حنيفَة وَاحِدَة بَائِنَة وَإِذا حلف لَا يسكن بِبَيْت أَبِيه فزارهم وحابس عِنْدهم أَيَّامًا لم يَحْنَث لِأَن الزِّيَارَة لَيست سُكْنى بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة وَطَلَاق السَّكْرَان فِيهِ نزاع لِأَحْمَد وَغَيره وَالْأَشْبَه بِالْكتاب وَالسّنة أَنه لَا يَقع وَثَبت ذَلِك عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَلم يثبت عَن صَحَابِيّ خلَافَة وَهُوَ قديم قَول الشَّافِعِي وَبَعض أَصْحَاب أبي حنيفَة وَهُوَ قَول كَبِير من السّلف وَالْفُقَهَاء وَالثَّانِي يَقع وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَزعم طَائِفَة من أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد أَن النزاع إِنَّمَا هُوَ فِي السَّكْرَان الَّذِي قد يفهم ويغلط فَأَما الَّذِي ثمَّ سكره بِحَيْثُ لَا يفهم مَا يَقُول وَلَا مَا يُقَال لَهُ فَلَا يَقع بِهِ قولا وَاحِدًا لِأَن الْأَئِمَّة الْكِبَار جعلُوا النزاع فِي الْجمع فصل إِذا حلف بِالطَّلَاق أَو غَيره أَنه لَا يدْخل دَار فلَان وَلَا يَأْكُل طَعَامه وَلَا يطَأ زَوجته ثمَّ فعل وَاحِدَة من هَذِه الْخِصَال انْحَلَّت يَمِينه وَلم يَحْنَث بعد ذَلِك بِفعل الْبَوَاقِي بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَمن حلف بِالطَّلَاق فَقيل لَهُ استثن فَقَالَ إِن شَاءَ الله فَلَا جنث عَلَيْهِ بِخِلَاف الَّذِي أوقع الطَّلَاق وَقَالَ إِن شَاءَ الله فَإِن ذَلِك لَا يرفعهُ سَوَاء كَانَ قد نوى الِاسْتِثْنَاء قبل فَرَاغه من الْيَمين أَو بعده هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي دلّ عَلَيْهِ كَلَام الإِمَام أَحْمد وَكثير من السّلف وَسنة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يطوف على نِسَائِهِ وَقَوله للْعَبَّاس إِلَّا الْإِذْخر واستثناء سُهَيْل بن بَيْضَاء وَغَيره تدل على أَن الْيَمين تنْحَل بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُقَارن للْيَمِين

فصل

وَمن اعْتَادَ الْكَذِب فَصَارَ إِذا حدث كذب وَإِذا وعد أخلف وَإِذا اؤتمن خَان فَهُوَ مُنَافِق وَالْمُنَافِق شَرّ من الْكَافِر فَإِذا قَالَ رجل الَّذِي يكذب النَّصْرَانِي خير مِنْك وَقصد أَن النَّصْرَانِي الَّذِي لَا يكذب خير من هَذَا الْكتاب مَعَ أَن دين الْإِسْلَام هُوَ الْحق فَلَا شَيْء عَلَيْهِ فَإِن الْكَذِب أساس النِّفَاق وَمن لَا يكذب خير مِمَّن يكذب وَإِذا حلف بِالطَّلَاق ليعطينه كَذَا فعجز عَنهُ فَلَا حنث عَلَيْهِ إِذا كَانَت نِيَّته أَن يُعْطِيهِ مَعَ الْقُدْرَة فصل صَحَّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من كَانَ حَالفا فليحف بِاللَّه أَو ليصمت وَمن حلف بِغَيْر الله فقد أشرك فَلَيْسَ لأحد أَن يحلف لَا بِملك وَلَا نَبِي وَلَا غير ذَلِك من الْمَخْلُوقَات وَلَا يحلف إِلَّا باسم من أَسمَاء الله أَو صفة من صِفَاته وَقد روى من حلف بالأمانة فَلَيْسَ منا فَمن حلف بالأمانة لَا يدْرِي مَا حلف بِهِ أَو عني بِهِ مخلوقا فقد أَسَاءَ وَإِن أَرَادَ بهَا صفة من صِفَات الله نَحْو وَأَمَانَة الله أَو عصمته جَازَ ذَلِك وَهل الْحلف بِغَيْر الله محرم أَو مَكْرُوه على قَوْلَيْنِ الأول أصح وَكَانَ السّلف يعذرُونَ من يحلف بِالطَّلَاق وكل مَا سوى الله يدْخل فِي مثل الْكَعْبَة والكرسي وَالْمَلَائِكَة والنبيين والملوك ونعمة السُّلْطَان أَو الشَّيْخ أَو تربة أَبِيه وَنَحْو ذَلِك وَلَكِن فِي الْخلف برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نزاع وَكَثْرَة الْحلف مَكْرُوه وَلَكِن قد يسْتَحبّ إِذا كَانَ فِيهِ مصلحَة شَرْعِيَّة كَمَا أَمر الله نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {قل إِي وربي إِنَّه لحق} {قل بلَى وربي لتبعثن} قل إِي {وربي لتأتينكم} وَمن حلف على رجل لَا بُد أَن يعْطى فلَانا كَذَا يعْتَقد أَن ذَلِك الشَّيْء عِنْده مَوْجُود بِحَيْثُ لَو علم أَنه قد عدم لما خلف ثمَّ تبين أَن ذَلِك الشَّيْء قد عدم

فَلَا حنث عَلَيْهِ لِأَنَّهُ حلف على مُسْتَحِيل نَحْو لأطيرن أَو لأشربن مَاء الْكوز وَلَا مَاء فِيهِ وَهَذَا لَا يَحْنَث فِيهِ عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء وَله مَأْخَذ آخر وَهُوَ أَنه حلف يعْتَقد شَيْئا فَتبين بِخِلَافِهِ وَمن اتهمه زَوجته بِوَطْء جَارِيَته فَعرض وَحلف أَنه مَا وَطئهَا فَلهُ ذَلِك كَمَا جرى لعبد الله بن رَوَاحَة رَضِي الله عَنهُ إِذا حلف لزوجته وَأقَام لَهَا الدَّلِيل على ذَلِك أَنه لَيْسَ جنبا فَأَنْشد لَهَا شعرًا يوهمها أَنه قُرْآن وَهُوَ شهِدت بِأَن وعد الله حق وَأَن النَّار مثوى الْكَافرين وَأَن الْعَرْش فَوق المَاء طَاف وَفَوق الْعَرْش رب الْعَالمين وَذكر ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَضَحِك وَقَالَ إِن امْرَأَتك لفقيهة فَهَذَا قد أظهر لَهَا أَنه يقْرَأ الْقُرْآن وَمثل هَذَا لَو فعله الرجل لغير عذر كَانَ حَرَامًا بالِاتِّفَاقِ وَإِذا قَالَ لزوجته إِن ابرأتيني من نَفَقَة الْأَوْلَاد وَأخذت الْأَوْلَاد بِالْكَفَالَةِ وَنَحْو ذَلِك من الْعبارَات فَأَنت طَالِق فالتزمت بِمَا قَالَ من الْإِنْفَاق فَإِنَّهُ يَقع بِهِ الطَّلَاق فَإِن امْتنعت ألزمت بذلك كَمَا تلْزم بِغَيْرِهِ من الْحُقُوق

كتاب الأيمان والنذور

كتاب الْأَيْمَان وَالنُّذُور أصل عقد النّذر مَكْرُوه لما فِي الصَّحِيح عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن النّذر لَا يَأْتِي بِخَير وَإِنَّمَا يسْتَخْرج بِهِ من الْبَخِيل لَكِن إِن نذر طَاعَة الله لزمَه الْوَفَاء بِهِ وَمن نذر أَن يعْصى الله فا يَعْصِهِ فقد ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من نذر أَن يُطِيع الله فليطعه وَمن نذر أَن يَعْصِي الله فَلَا يَعْصِهِ وَمن نذر للقبور زيتا أَو شمعا وَنَحْوه فقد جعله الْعلمَاء من قسم الْمعْصِيَة الَّذِي لَا يجوز الْوَفَاء بِهِ فَفِي السّنَن أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعن الله زوارات الْقُبُور والمتخذين عَلَيْهَا السرج والمساجد رَوَاهُ أهل اسنن وَابْن جبان فِي صَحِيحه وَحسنه التِّرْمِذِيّ وَكَذَلِكَ لَو نذر لبيت شيخ أَو شَجَرَة زيتا أَو خلوقا أَو نَحْو ذَلِك فَلَا يجوز بِلَا نزاع بل هَذَا من جنس عبَادَة الْأَوْثَان وَقد بلغ عمر رَضِي الله عَنهُ أَن قوما يأْتونَ الشَّجَرَة الَّتِي بَايع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحتهَا بيعَة الرضْوَان يَوْم الْحُدَيْبِيَة فقطعها وَقد كَانَ للمشركون شَجَرَة يعلقون عَلَيْهَا أسلحتهم يسمونها ذَات أنواط فَقَالَ الْمُسلمُونَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْعَل لنا ذَات أنواط فَقَالَ الله أكبر قُلْتُمْ كَمَا قَالَ قوم مُوسَى {اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة} ثمَّ قَالَ لتركبن سنَن من كَانَ قبلكُمْ الحَدِيث فَلَا يجوز أَن يتَّخذ شَيْء من الْقُبُور والْآثَار وَالْأَشْجَار والأحجار وَنَحْوهَا بِحَيْثُ يُرْجَى نَفعه وبركته بِالنذرِ لَهُ والتمسح بِهِ أَو تَعْلِيق شَيْء عَلَيْهِ أَو تخليقه بل كَانَ هَذَا من جنس الشّرك وَأما نذر الزَّيْت وَنَحْوه لِلْمَسْجِدِ لإضاءته فَهُوَ من الْبر على أَن لَا يكون مَبْنِيا على قبر وَأما الْوَقْف على قُبُور الْأَنْبِيَاء فَإِن كَانَ وَقفا على بِنَاء الْمَسَاجِد عَلَيْهَا وَإِيقَاد المصابيح فقد تقدم حكمه وَأَنه مَعْصِيّة لَا يحل الْوَفَاء بِهِ وَأَنه من عمل الْمُشْركين وَالَّذين يَقُولُونَ إِن من الْعلمَاء من وقف على مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُرِيدُونَ بذلك أَنه وقف على قبر فَهُوَ خطأ مِنْهُم فِي فهم الْعبارَة فَإِن هَذَا إِنَّمَا

هُوَ وقف على من بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة وَلَيْسَ لذَلِك اخْتِصَاص بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ جَمِيع مَا يصرفهُ الْمُسلمُونَ من الْأَمْوَال فِي أَنْوَاع الْوَقْف وَغَيره إِنَّمَا هُوَ بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} وكل مَا ينذر لَهُ أَو يعظم بعض من الْأَحْجَار أَو الْقُبُور أَو الْأَشْجَار وَنَحْوهَا يجب أَن يزَال لِأَنَّهُ يحصل للنَّاس بِهِ ضَرَر عَظِيم فِي دينهم كَمَا كسر الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام الْأَصْنَام وكما حرق مُوسَى عَلَيْهِ اسلام الْعجل وكما كسر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَصْنَام وحرقها لما فتح مَكَّة وَكتب أَبُو مُوسَى إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ لما فتحُوا تستر ووجدوا على سَرِير بِبَيْت مَالهَا جسم دانيال وَكَانَ أهل تستر يستسقون بِهِ فَكتب إِلَيْهِ عمر أحفر بِالنَّهَارِ ثَلَاثَة عشر قبرا وادفنه لَيْلًا فِي وَاحِد مِنْهَا وعمها لِئَلَّا يفتن النَّاس بِهِ وَمن قَالَ أَنه يشفى بِمثل نَذره لهَذِهِ الْأَشْيَاء فَهُوَ كَاذِب بل يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل فَإِنَّهُ مكذب لله وَرَسُوله فقد ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن النّذر لَا يَأْتِي بِخَبَر فَمن قَالَ إِنَّه يَأْتِي بِخَير عرف ذَلِك فَإِن أصر فقد شاق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيكسر مَا يُوقد عِنْدهَا من السرج أَو يدْفع إِلَى من ينْتَفع بِهِ من الْمُسلمين وَالنّذر الْمُطلق مثل قَوْله لله على كَذَا وَالْوَقْف الْمُطلق وَالْكَفَّارَة لَا يصرف ذَلِك كُله إِلَى غنى بل إِلَى من يسْتَحقّهُ من مستحقي الزَّكَاة وَلَو نذر لشيخ معِين على وَجه الاستغاثة بِهِ طُولِبَ قَضَاء الْحَاجة مِنْهُ فَإِنَّهُ نذر مَعْصِيّة لَا يجوز الْوَفَاء بِهِ وَهل عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين على قَوْلَيْنِ بِخِلَاف من كَانَ قَصده الصَّدَقَة عَلَيْهِ فِي حَيَاته فَقَط لَا يعدمونه لفقره إحسانا إِلَيْهِ لله تَعَالَى فَإِن إِلَّا يقبض الْهِبَة فَإِن قبلهَا فَلَا كَلَام وَإِن لم يقبلهَا فَلَا شَيْء على الْوَاهِب كَمَا لَو حلف ليهبن فلَانا فَلم يقبل فَإِن أَصْحَابنَا وَغَيرهم قَالُوا إِذا حلف لَا يهب

فصل

وَلَا يتَصَدَّق فَفعل وَلم يقبل الْمَوْهُوب لَهُ لم يَحْنَث فَهَذَا فِي النَّفْي وَأما فِي الْإِثْبَات فَإِذا حلف لَا يهب فإمَّا أَن يجرى مجْرى الْإِثْبَات أَو يُقَال يحمل على الْإِجْمَال كَمَا يفرق فِي لفظ النِّكَاح وَغَيره بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات وَقد قَالُوا فِي الطَّلَاق إِذا وهب امْرَأَته أَهلهَا فَلم يقبلوها لم يَقع شَيْء وَفِيه نظر وكما لَو نذر عتق معِين فَمَاتَ لِأَن مُسْتَحقّ النّذر إِذا كَانَ مَيتا لم يسْتَحقّهُ غَيره فصل وَمن نذر لقبر من قُبُور النَّصَارَى فَإِنَّهُ يُسْتَتَاب بل كل من عظم شَيْئا من شَعَائِر الْكفَّار مثل الْكَنَائِس أَو قُبُور القسيسين أَو عظم الْأَحْيَاء مِنْهُم يَرْجُو بركتهم فَإِنَّهُ كَافِر يُسْتَتَاب وَأما إِذا نذر للْمُسلمين وَلم يعرف صَاحبه فَإِنَّهُ يصرف فِي مصَالح الْمُسلمين وَإِذا قَالَ إِن فعلت كَذَا فعلي أَن أعتق عَبِيدِي أَو مَالِي صَدَقَة وَنَحْوه من أَلْفَاظه الِالْتِزَام فيجزئه كَفَّارَة يَمِين بِخِلَاف قَوْله الْعتْق يلزمين فَفِيهِ نزاع وَإِذا أعتقت جاريتها ونيتها أَن تعتقها إِذا كَانَت مُسْتَقِيمَة فَبَانَت زَانِيَة جَازَ لَهَا بيعهَا وَإِن أعتقتها مُطلقًا لَزِمَهَا وَمن نذر صوما مَشْرُوعا وَعجز لكبر أَو مرض لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ كَانَ لَهُ أَن يفْطر وَيكفر كَفَّارَة يَمِين أَو يطعم عَن كل يَوْم مِسْكينا أَو يجمع بَين الْأَمريْنِ على ثَلَاثَة أَقْوَال لِأَحْمَد وَغَيره أحوطها الثَّالِث وَإِن كَانَ عَجزه لمرضى يُرْجَى بُرْؤُهُ فَإِنَّهُ يفْطر وَيَقْضِي بدل مَا أفطر وَهل عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين فِيهِ نزاع لِأَحْمَد وَغَيره وَإِن كَانَ يُمكنهُ الصَّوْم لَكِن يُضعفهُ عَن وَاجِب مثل الْكسْب الْوَاجِب فَلهُ أنيفطر ثمَّ إِن أمكنه الْقَضَاء قضى وَإِلَّا فَهُوَ كالشيخ الْكَبِير وَأما صَوْم رَجَب وَشَعْبَان فَفِيهِ نزاع فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره قيل هُوَ مَشْرُوع فَيجب الْوَفَاء بِهِ وَقيل بل يكره فيفطر بعض رَجَب

باب في آداب القاضي

بَاب فِي آدَاب القَاضِي يجوز للحنفي الْحَاكِم أَن يَسْتَنِيب شافعيا يحكم بِاجْتِهَادِهِ وَإِن خَالف اجْتِهَاد مستنيبه وَلَو شَرط عَلَيْهِ أَن يحكم بقول مستنيبه لم يجز هَذَا الشَّرْط وَأَيْضًا إِذا رأى المستنيب قَول بعض الْأَئِمَّة أرجح من بعض لم يجز لَهُ أَن يحكم بالمرجوح بل عَلَيْهِ أَن يحكم بالراجح فَكيف لَا يكون لَهُ أَن يَسْتَنِيب من يحكم بالراجح وَإِن خَالف قَول إِمَامه وَلَيْسَ على الْخلق لَا الْقُضَاة وَلَا غَيرهم أَن يطيعوا أحدا فِي كل مَا يَأْمر بِهِ وَينْهى عَنهُ إِلَّا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن سَوَاء من الْأَئِمَّة فَإِنَّهُ يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك فَيجوز لكل من الْحُكَّام أَن يَسْتَنِيب من يُخَالِفهُ فِي مذْهبه ليحكم بِمَا أنزل الله وَمن بَاشر الْقَضَاء مَعَ عدم الْأَهْلِيَّة المسوغة للولاية وأصر على ذَلِك عَاملا بِالْجَهْلِ وَالظُّلم فَهُوَ فَاسق وَلَا يجوز أَن يولي خطْبَة وَلَا تنفذ أَحْكَامه وَلَا عقوده كَمَا نفذ أَحْكَام الْعَالم الْعَادِل بل من الْعلمَاء من يردهَا كلهَا وَهُوَ قَول أَكثر أَصْحَاب الشَّافِعِي وَأحمد وَمن الْعلمَاء من ينفذ مَا وَافق الْحق لمسيس الْحَاجة وَلما يلْحق النَّاس من الضَّرَر وَالْحق يجب اتِّبَاعه سَوَاء قَامَ بِهِ الْبر أَو الْفَاجِر وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك وَطَائِفَة من أَصْحَاب أَحْمد وَهُوَ الرَّاجِح وَأجْمع الْمُسلمُونَ على أَن الْحَاكِم لَيْسَ لَهُ أَن يقبل الرِّشْوَة سَوَاء حكم بِحَق أَو بباطل وَلَا يحكم لنَفسِهِ وَلَيْسَ للْحَاكِم أَن يكون لَهُ وَكيل يعرف أَنه وَكيله يتجر لَهُ فِي بِلَاد عمله وَإِذا عرف أَن الْحَاكِم بِهَذِهِ المثابة فَإِنَّهُ ينْهَى عَن ذَلِك فَإِن انْتهى وَإِلَّا استبدل بِهِ من هُوَ أصلح مِنْهُ إِن أمكن وَإِذا فصل الْحُكُومَة بَينه وَبَين غَرِيمه حَاكم نَافِذ الحكم فِي الشَّرْع لعلمه وَدينه لم يكن لغريمه أَن يحاكم عِنْد حَاكم آخر وَإِذا قَالَ الْحَاكِم ثَبت عِنْدِي فَهَل هُوَ حكم فِيهِ وَجْهَان

وَفِي قبُول شَهَادَة الْفَرْع مَعَ إِمْكَان حُضُور الأَصْل نزاع وَالْقَوْل بِهِ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَحَدِيث معَاذ لما بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْيَمين الَّذِي قَالَ لَهُ فِيهِ فَإِذا لم تَجِد فِي سنة رَسُول الله قَالَ حكمت برأيي طعن فِيهِ جمَاعَة وروى فِي مسانيد وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَاسْتدلَّ بِهِ طوائف من الْفُقَهَاء وَأهل الْأُصُول فِي كتبهمْ وروى من طرق وَبِكُل حَال يجوز اجْتِهَاد الرَّأْي للْقَاضِي والمفتي إِذا لم يجد فِي الْحَادِثَة نصا من الْكتاب أَو السّنة كَقَوْل جَمَاهِير السّلف وأئمة الْفُقَهَاء كمالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَأبي عبيد وَغَيرهم وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بدلائل مثل كتاب عمر إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَفِيه اعرف الْأَشْبَاه والنظائر وَقس الْأُمُور بِرَأْيِك وَقد تكون تِلْكَ الْحُكُومَة فِي الْكتاب وَالسّنة على وَجه خَفِي لم يُدْرِكهُ أَو تكون مركبة من مقدمتين من الْكتاب وَالسّنة لكنه لم يتفطن لذَلِك فَيجوز لَهُ أَن يجْتَهد بِرَأْيهِ حِينَئِذٍ لكَونه لم يجد تِلْكَ الْحُكُومَة فِي الْكتاب وَلَا فِي السّنة وَإِن كَانَت فيهمَا ثمَّ قَوْله تَعَالَى {تَجدوا مَاء} فقد يكون المَاء تَحت الأَرْض وَهُوَ لَا يعرف وَكَذَلِكَ قَوْله {فَمن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن} وَقَوله {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَالْقِيَاس الَّذِي يسوغ مثل أَن يرد الْقَضِيَّة إِلَى نظيرها الثَّابِت بِالْكتاب وَالسّنة أَو لم يفهم عِلّة الحكم الَّتِي حكم الشَّارِع لأَجلهَا ويجدها فِي الصُّورَة الَّتِي فِي النَّص وَهَذَا من قِيَاس التَّعْلِيل وَالْأول قِيَاس التَّمْثِيل وَلَيْسَ لَهُ أَن يحكم بِمَا شَاءَ وَمن جوز ذَلِك فَهُوَ كَافِر بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَلَيْسَ هَذَا مُخْتَصًّا بمعاذ وَلَيْسَ للْحَاكِم منع النَّاس مِمَّا أَبَاحَهُ الله وَرَسُوله مثل أَن يمْنَع أَن يُزَوّج الْمَرْأَة وَليهَا أَو يمْنَع الشُّهُود أَو غَيرهم من كِتَابَة مهرهَا أَو كِتَابَة عقد بيع أَو إِجَارَة

أَو أقرار أَو غير ذَلِك وَإِن كَانَ الْكَاتِب مرتزقا بذلك وَإِذا منع القَاضِي ذَلِك ليصل إِلَيْهِ مَنَافِع هَذِه الْأُمُور كَانَ هَذَا من المكس نَظِير من يسْتَأْجر حانوتا فِي الْقرْيَة على أَن لَا يَبِيع غَيره وَإِن كَانَ إِنَّمَا يمْنَع الْجَاهِل لِئَلَّا يعْقد عقدا فَاسِدا فالطريق أَن يفعل كَمَا فعل الْخُلَفَاء الراشدون من تَعْزِير من يعْقد نِكَاحا فَاسِدا كَمَا فعله عمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا فَلَيْسَ من تزوج بِغَيْر ولي وفيمن تزوج فِي الْعدة وَهل يجب على الشَّخْص أَن يلْتَزم مذهبا بِعَيْنِه يَأْخُذ بِعَزَائِمِهِ ورخصه فِيهِ نزاع فِي مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد وَجُمْهُور الْعلمَاء على أَنه لَا يجب على أحد أَن يُقَلّد شخصا بِعَيْنِه وَلَا يلْتَزم مذهبا بِعَيْنِه فِيمَا يُوجِبهُ ويحرمه وَنهى الْعلمَاء عَن اتِّبَاع رخص الْمَذْهَب لِأَن هَذَا يَعْنِي يقْضِي إِلَى الانحلال وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَنْزِيل الشَّخْص الْوَاحِد الْمعِين منزلَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ غير جَائِز لَكِن من عجز عَن الِاجْتِهَاد جَازَ لَهُ التَّقْلِيد وَهل يجب عَلَيْهِ فِي أَعْيَان الْمُفْتِينَ فيقلد أعلمهم وأدينهم أم يُقَلّد من شَاءَ على قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا وَالِاجْتِهَاد يقبل التجزئة والانقسام بل قد يكون الرجل مُجْتَهدا فِي مَسْأَلَة أَو صنف من الْعلم وَيكون غير مُجْتَهد فِي مَسْأَلَة أَو صنف آخر بل أَكثر من عِنْده تَمْيِيز من المتوسطين إِذا نظر فِي مسَائِل النزاع وَتَأمل مَا اسْتدلَّ بِهِ الْفَرِيقَانِ بتأمل حسن وَنظر تَامّ ترجح عِنْده أحد الْقَوْلَيْنِ وَلَكِن قد يشق عَلَيْهِ الِاكْتِفَاء بنظره فَالْوَاجِب على مثل هَذَا أَن يتبع قولا تَرْجِيح عِنْده من غير دَعْوَى مِنْهُ للِاجْتِهَاد بل هُوَ بِمَنْزِلَة الْمُجْتَهد أَن يتبع قولا ترجح عِنْده من غير دَعْوَى مِنْهُ للِاجْتِهَاد بل هُوَ بِمَنْزِلَة الْمُجْتَهد فِي أَعْيَان المفتيين وَالْأَئِمَّة وَإِذا ترجح عِنْده أَن أحدهم أعلم قَلّدهُ وَلَا شكّ أَن معرفَة الحكم بدليله الحكم بدليله أيسر وَأسلم من الْجَهْل والتقلد وَاتِّبَاع الْهوى فَإِذا جَوَّزنَا للرجل أَن يُقَلّد الشَّخْص فِيمَا يَقُوله الِاعْتِقَاد أَنه أعلم فَلِأَن يجوز لَهُ أَن يُقَلّد صَاحب القَوْل الَّذِي تبين لَهُ رُجْحَان قَوْله بالأدلة الشَّرْعِيَّة أولى وَأَحْرَى

وَقد قَالَ بعض أهل الْكَلَام يجب على كل أحد أَن يجْتَهد فِي كل مَسْأَلَة تنزل بِهِ وَلَا يُقَلّد أحدا من الْأَئِمَّة وَهَذَا قَول ضَعِيف بل خطأ وَالْأَئِمَّة على خِلَافه فَإِن أَكثر آحادا الْعَامَّة يعجز عَن معرفَة الِاسْتِدْلَال فِي كل مَسْأَلَة يحْتَاج إِلَى مَعْرفَتهَا بل أَكثر المشتغلين بالتفقه يعجز عَن ذَلِك وَهَؤُلَاء المجتهدون المشهورون كَانَ لَهُم من الِاجْتِهَاد فِي معرفَة الْأَحْكَام وَإِظْهَار الدّين للْأمة مَا فَضلهمْ الله تَعَالَى بِهِ على غَيرهم وَمن ظن أَنه يعرف الْأَحْكَام من الْكتاب وَالسّنة بِدُونِ مَعْرفَتهَا بِمَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة وأمثالهم فَهُوَ غالط مخطىء فَإِن كَانَ لَا بُد من معرفَة الِاجْتِمَاع وَالِاخْتِلَاف فَلَا بُد من معرفَة مَا يسْتَدلّ بِهِ الْمُخَالف وَمَا استخرجوه من أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة وَهَذَا وَنَحْوه لَا يعرف إِلَّا بِمَعْرِِفَة أَقْوَال أهل الِاجْتِهَاد وَأَعْلَى هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَمن ظن أَنه يَأْخُذ من الْكتاب وَالسّنة بِدُونِ أَن يقْتَدى بالصحابة وَيتبع غير سبيلهم فَهُوَ من أهل الْبدع والضلال وَمن خَالف مَا أجمع عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ فَهُوَ ضال وَفِي تكفيره نزاع وتفصيل

فصل

وَمن ادّعى الْعِصْمَة لأحد فِي كل مَا يَقُوله بعد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ ضال وَفِي تكفيره نزاع وتفصيل وَمن قلد من يسوغ لَهُ تَقْلِيده فَلَيْسَ لَهُ أَن يَجْعَل قَول متبوعة أصح من غَيره بالهوى بِغَيْر هدى من الله وَلَا يَجْعَل متبوعة محنة للنَّاس فَمن وَافقه وَالَاهُ وَمن خَالفه عَادَاهُ فَإِن هَذَا حُرْمَة الله وَرَسُوله بِاتِّفَاق الْمُؤمنِينَ بل يجب على الْمُؤمنِينَ أَن يَكُونُوا كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله حق تُقَاته وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا} إِلَى قَوْله {ولتكن مِنْكُم أمة يدعونَ إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَأُولَئِكَ هم المفلحون وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب عَظِيم يَوْم تبيض وُجُوه وَتسود وُجُوه} قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا {تبيض وُجُوه أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَتسود وُجُوه أهل الْبِدْعَة والفرقة} وَفِي جَوَاز تَقْلِيد الْمَيِّت قَولَانِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره فصل أَوْلِيَاء الله هم الْمُؤْمِنُونَ المتقون كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَلا إِن أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وهم على دَرَجَتَيْنِ إِحْدَاهمَا دَرَجَة الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَاب الْيَمين الَّذين يؤدون الْوَاجِبَات ويتركون الْمُحرمَات وَالثَّانيَِة دَرَجَة السَّابِقين المقربين وهم الَّذين يؤدون الْفَرَائِض والنوافل ويتركون الْمَحَارِم والمكاره وَإِن كَانَ لَا بُد لكل عبد من تَوْبَة واستغفار يكمل بذلك مقَامه فَمن كَانَ عَالما بِمَا أمره الله بِهِ وَمَا نَهَاهُ عَنهُ عَاملا بِمُوجب ذَلِك كَانَ من أَوْلِيَاء الله سَوَاء كَانَت لبسته فِي الظَّاهِر لبسه الْعلمَاء أَو الْفُقَرَاء أَو الْجند أَو

التُّجَّار أَو الصناع أَو الفلاحين لَكِن إِن كَانَ مَعَ ذَلِك متقرا إِلَى الله بالنوافل كَانَ من المقربين وَإِن كَانَ مَعَ ذَلِك دَاعيا غَيره إِلَى الله هاديا لِلْخلقِ كَانَ أفضل من غَيره من أَوْلِيَاء الله كَمَا قَالَ تَعَالَى {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} قَالَ ابْن عَبَّاس للْعُلَمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء لِأَن الْأَنْبِيَاء لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما وَإِنَّمَا ورثوا الْعلم فَمن أَخذه أَخذ بِخَط وافر فضل الْعَالم على العابد كفضل الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر على سَائِر الْكَوَاكِب رَوَاهُمَا أهل السّنَن إِذا تبين ذَلِك فَمن كَانَ جَاهِلا بِمَا أمره الله بِهِ وَمَا نَهَاهُ عَنهُ لم يكن من أَوْلِيَاء الله وَإِن كَانَ فِيهِ زهادة وَعبادَة لم يَأْمر الله بهما وَرَسُوله كالزهد وَالْعِبَادَة الَّتِي كَانَت فِي الْخَوَارِج والرهبان وَنَحْوهم كَمَا أَن من كَانَ عَالما بِأَمْر الله وَنَهْيه وَلم يكن عَاملا بذلك لم يكن من أَوْلِيَاء الله بل قد يكون فَاسِقًا فَاجِرًا كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل الْمُؤمن الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن كالأثرجة طعمها طيب وريحها طيب وَمثل الْمُؤمن الَّذِي لَا يقْرَأ الْقُرْآن مثل التمرة طعمها وَلَا ريبح لَهَا وَمثل الْمُنَافِق الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن مثل الحنظلة طعمها مر وَلَا ريح لَهَا وَيُقَال مَا اتخذ الله وليا جَاهِلا أَي جَاهِلا بِمَا أمره بِهِ وَنَهَاهُ عَنهُ فَأَما من عرف مَا أَمر الله وَمَا نهى عَنهُ وَعمل بذلك فَهُوَ الْوَلِيّ لله وَإِن لم يقْرَأ الْقُرْآن كُله وَإِن لم يحسن أَن يُفْتى النَّاس وَيَقْضِي بَينهم فَأَما الَّذِي يرائي بِعَمَلِهِ الَّذِي لَيْسَ بمشروع فَهَذَا بِمَنْزِلَة الْفَاسِق الَّذِي ينتسب إِلَى الْعلم وَيكون علمه من الْكَلَام الْمُخَالف لكتاب الله وَسنة رَسُوله فَكل من هذَيْن الصِّنْفَيْنِ بعيد عَن ولَايَة الله تَعَالَى بِخِلَاف الْعَالم الْفَاجِر الَّذِي يَقُول مَا يُوَافق الْكتاب وَالسّنة وَالْعَابِد الْجَاهِل الَّذِي يقْصد بِعِبَادَتِهِ الْخَيْر فَإِن كلا من هذَيْن مُخَالف لأولياء الله من وَجه دون وَجه فقد يكون فِي الرجل بعض خِصَال أَوْلِيَاء

الله دون بعض وَقد يكون فِيمَا ذكر مَعْذُورًا بخطأ أَو نِسْيَان وَقد لَا يكون مَعْذُورًا وَمن قَالَ إِن الْأَوْلِيَاء أفضل من جَمِيع الْخلق فَقَوله أظهر عِنْد جَمِيع أهل الْملَل من أَن يشك فِي كذبه بل هُوَ مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَنه بَاطِل فان الرُّسُل أفضل الْأَنْبِيَاء وأولو الْعَزْم كنوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمّد صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ أفضل من سَائِر الْمُسلمين وَإِن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سيد وَله آدم وَلَيْسَ يحْتَاج هَذَا أَن يثبت بِحَدِيث وَلَا أثر فقد رتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلقه فَقَالَ {وَمن يطع الله وَالرَّسُول فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} فرتبهم على أَربع طَبَقَات وَأجْمع الْمُسلمُونَ على أَن من سبّ نَبيا فقد كفر وَمن سبّ أحد من الْأَوْلِيَاء الَّذين لَيْسُوا بِأَنْبِيَاء فَإِنَّهُ لَا يكفر إِذا إِذا كَانَ سبه مُخَالفا لأصل من أصُول الْإِيمَان مثل أَن يتَّخذ ذَلِك السب دينا وَقد علم أَنه لَيْسَ بدين وعَلى هَذَا ينبنى النزاع فِي تَكْفِير الرافضة وَقد اتّفق الْمُسلمُونَ على أَن أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير الْأُمَم وَأَن خير هَذِه الْأمة أَصْحَاب نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأفضلهم السَّابِقُونَ الْأَولونَ وأفضلهم أَبُو بكر ثمَّ عمر ثمَّ عُثْمَان ثمَّ عَليّ رَضِي الله عَنْهُم وَمن كَانَ رَسُولا فقد اجْتمعت فِيهِ ثَلَاثَة أَصْنَاف الرسَالَة والنبوة وَالْولَايَة وَمن كَانَ نَبيا فقد اجْتمع فِيهِ الصفتان وَمن كَانَ وليا فقد لم يكن فِيهِ إِلَّا صفة وَاحِدَة وَمن كَانَ لكتاب الله أتبع فَهُوَ بِولَايَة الله أَحَق وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على أَن مُوسَى أفضل من الْخضر فَمن قَالَ إِن الْخضر أفضل فقد كفر وَسَوَاء قيل إِن الْخضر نَبِي أَو ولي وَالْجُمْهُور على أَنه لَيْسَ بِنَبِي بل أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل الَّذين ابتعوا التَّوْرَاة وَذكرهمْ الله تَعَالَى كداود وَسليمَان أفضل من الْخضر بل على قَول الْجُمْهُور أَنه لَيْسَ بِنَبِي فَأَبُو بكر وَعمر

فصل

رَضِي الله عَنْهُمَا أفضل مِنْهُ وَكَونه يعلم مسَائِل لَا يعلمهَا مُوسَى لَا يُوجب أَن يكون أفضل مِنْهُ مُطلقًا كَمَا أَن الهدهد قَالَ لِسُلَيْمَان {أحطت بِمَا لم تحط بِهِ} لم يكن أفضل من سُلَيْمَان وكما أَن الَّذين كَانُوا يُلَقِّحُونَ النّخل لما كَانُوا أعلم بتليقحه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يجب من ذَلِك أَن يَكُونُوا أفضل مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد قَالَ لَهُم أَنْتُم أعلم بِأَمْر دنياكم أما مَا كَانَ من أَمر دينكُمْ فَإِلَيَّ وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُم كَانُوا يتعلمون مِمَّن هم دونهم علم الدّين الَّذِي هُوَ عِنْدهم وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يبْق بعدِي من النُّبُوَّة إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَة وَمَعْلُوم أَن ذُرِّيتهمْ فِي الْعلم أفضل مِمَّن حصلت لَهُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَة وَغَايَة الْخضر أَن يكون عِنْده من الْكَشْف مَا هُوَ جُزْء من أَجزَاء النُّبُوَّة فَكيف يكون أفضل من نَبِي فَكيف بالرسول فَكيف بِأولى الْعَزْم فصل وَمن تعبد بِالصَّمْتِ أَو بِالْقيامِ بالشمس أَو بِالْجُلُوسِ أَو بالعرى وَنَحْو ذَلِك فَهُوَ ضال يجب أَن يُنكر عَلَيْهِ وَأما السَّلَام على الشَّيْخ عقيب الْأَذَان أَو كسْوَة قَبره بالثياب فقد اتّفق الْأَئِمَّة على أَنه يُنكر إِذا فعل بقبور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ ذَلِك فَكيف بِقَبْر مَجْنُون وضال من ضلال الصُّوفِيَّة وَكَذَلِكَ من ترك أكل المخبز أَو شرب المَاء تزهدا فِي الدُّنْيَا وتقربا إِلَى الله فَهُوَ جَاهِل مُبْتَدع ضال عَاص لله وَلِرَسُولِهِ نَاقص الْعقل مصاب أَو مخادع وَالْغَالِب على من يفعل ذَلِك أَن يكون كذابا يتحق هُوَ وَمن يعظمه على ذَلِك الْعقُوبَة البليغة وَقد اخْتلف الْفُقَهَاء فِي الصمت هَل هُوَ حرَام أَو مَكْرُوه وَالتَّحْقِيق أَنه إِذا طَال وتضمن ترك الْوَاجِب صَار حَرَامًا كَمَا قَالَ الصّديق رَضِي الله عَنهُ

فصل

فصل وَأما التَّوْبَة النصوح فقد قَالَ عمر بن الْخطاب وَغَيره من السّلف هُوَ أَن يَتُوب ثمَّ لَا يعود وَمن تَابَ ثمَّ عَاد فَعَلَيهِ أَن يَتُوب مرّة ثَانِيَة ثمَّ إِن عَاد فَعَلَيهِ أَن يَتُوب وَكَذَلِكَ كلما أذْنب وَلَا ييأس من روح الله وَإِن لم تكن التَّوْبَة نصُوحًا فَلَعَلَّهُ إِذا عَاد إِلَى التَّوْبَة مرّة بعد مرّة من الله عَلَيْهِ فِي آخر الْأَمر بتوبة نصوح والتائب إِذا كَانَت نِيَّته خَالِصَة مَحْضَة لم يشبها قصد آخر فَإِنَّهُ لَا يعود إِلَى الذَّنب فَإِنَّهُ إِنَّمَا يعود لِبَقَايَا غش كَانَت فِي نَفسه وَقد قيل إِنَّه قد يعود من تَابَ تَوْبَة نصُوحًا وَقد يُقَال إِن الأول أرجح فَإِن الْإِيمَان إِذا خالطت حلاوته بشاشة الْقُلُوب لم يسخطه أبدا وَالْقلب إِذا بَاشر حَقِيقَة الْإِيمَان لمي تَركه وَهَذَا أصل تنَازع فِيهِ النَّاس وَهُوَ أَنه من ختم لَهُ بِسوء هَل يقان إِنَّه كَانَ فِي أصل عمله غش فَعَاد إليهأو كَانَ عمله الأول خَالِصا لَا غش فِيهِ ثمَّ انْقَلب وانتكس على قَوْلَيْنِ وَالتَّوْبَة من هَذَا والاستقراء يدل على أَنه إِذا خلص الْإِيمَان إِلَى الْقلب لم يرجع عَنهُ وَلَكِن قد يحصل لَهُ اضْطِرَاب ويلقى الشَّيْطَان فِي قلبه وساوس وخطرات وَيُوجد فِيهِ هما وأمثال ذَلِك كماشكى أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا إِن إحدنا ليجد فِي نَفسه مَا لِأَن يَحْتَرِق حَتَّى يصير حَمْحَمَة أَو يخر من السَّمَاء أحب إِلَيْهِ من أَن يتَكَلَّم بِهِ فَقَالَ أَو قد وجدتموه فَقَالُوا نعم فَقَالَ ذَلِك صَرِيح الْإِيمَان وَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي رد كَيده إِلَى الوسوسة والْحَدِيث فِي مُسلم فكراهة هَذِه الوساوس هِيَ صَرِيح الْإِيمَان والتائب فِي نَفسه مَعَ الْهم والوساوس والميل مَعَ كَرَاهَته لذَلِك وَيَقُول قلبه مَالا يُخرجهُ ذَلِك عَن كَونه تَوْبَة نصُوحًا قَالَ الإِمَام أَحْمد الْهم همان هم خطرات وهم إِصْرَار وَكَانَ هم يُوسُف هم خطرات فَترك مَا هم بِهِ

فصل

لله فَكَتبهُ الله لَهُ حَسَنَة وَلم يكْتب عَلَيْهِ سَيِّئَة وَكَانَ هم امْرَأَة الْعَزِيز هم إِصْرَار فَكَذبت وأرادت وظلمت لأجل مرادها وَقد تنَازع النَّاس فِي الْعَزْم الْجَازِم هَل يُؤَاخذ بِهِ بِدُونِ الْعَمَل على قَوْلَيْنِ وَالصَّوَاب أَن الْعَزْم الْجَازِم مَتى اقْترن بِهِ الْقُدْرَة والارادة فَلَا بُد من وجود الْعَمَل فَإِذا كَانَ العازم قَادِرًا وَلم يفعل مَا عزم عَلَيْهِ فَلَيْسَ عزمه جَازِمًا فَيكون من بَاب الْهم الَّذِي لَا يُؤَاخذ الله بِهِ وَلِهَذَا من عزم عَليّ مَعْصِيّة فعل مقدماتها وَلَو أَنه يخطو خطْوَة بِرجلِهِ أَو ينظر نظرة بِعَيْنِه فَإِذا عجز عَن إِمَام مَقْصُوده بِمَا يُعَاقب لِأَنَّهُ فعل مَا قدر عَلَيْهِ وَترك مَا عجز عَنهُ فصل وَلم يكن من عَادَة الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَن يقومُوا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما كَانُوا يعلمُونَ من كَرَاهَته لذَلِك وَلَا كَانَ يقوم بَعضهم لبَعض وروى أَنه كَانَ يقوم لمن قدم من مغيبه فالقيام لمثل القادم من سفر لَا بَأْس بِهِ وَقد رخص فِي الْقيام للامام الْعَادِل وَالْوَالِد وَنَحْو ذَلِك وروى أَنه قَامَ لعكرمة بن أبي جهل وجعفر بن أبي طَالب لما قدما عَلَيْهِ من السّفر وَقَالَ للْأَنْصَار قومُوا إِلَى سيدكم يَعْنِي سعد بن معَاذ رَضِي الله عَنهُ وَلِهَذَا فرقوا بَين الْقيام إِلَيْهِ لتلقيه كَمَا قَالَ سعد رَضِي الله عَنهُ لم يقم لي أحد من الْأَنْصَار إِلَّا طَلْحَة وَبَين الْقيام لَهُ وَهُوَ أَن يكون قَاعِدا وهم قيام فَهَذَا لَا يجوز وَالَّذِي يَنْبَغِي للنَّاس أَن يعتادوا السّنة فِي ترك الْقيام المتكرر للقاء وَلَكِن إِذا اعْتَادَ النَّاس الْقيام وَقَامَ من لَا يرى كرامته إِلَّا بِالْقيامِ لَهُ وَإِذا ترك ذَلِك توهم بغضه وإهانته وتولد من ذَلِك عَدَاوَة وَشر فالقيام لَهُ على هَذَا الْوَجْه لَا بَأْس بِهِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ فَأَما تَقْبِيل الْيَد فَلم يَكُونُوا يعتادونه إِلَّا قَلِيلا وَلما قدمُوا عَلَيْهِ صلى الله

عَلَيْهِ وَسلم مُؤنَة قبلوا يَده وَقَالُوا نَحن الغرارون قَالَ بل أَنْتُم الْعَكَّارُونَ وَقبل أَبُو عُبَيْدَة يَد عمر وَرخّص أَكثر الْفُقَهَاء أَحْمد وَغَيره لمن فعل ذَلِك على وَجه التدين لَا على وَجه التَّعْظِيم للدنيا وَكره ذَلِك آخَرُونَ كمالك وَغَيره وَقَالَ سُلَيْمَان بن حَرْب هِيَ السَّجْدَة الصُّغْرَى وَأما ابْتِدَاء مد الْيَد للنَّاس ليقلبوها وقصده لذَلِك فينهى عَن ذَلِك بِلَا نزاع كَائِنا من كَانَ بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ الْمقبل المبتدىء بذلك وَفِي السّنَن قَالُوا يَا رَسُول الله يلقى أَحَدنَا أَخَاهُ أفينحنى لَهُ قَالَ لَا قَالُوا فَيلْزمهُ ويعانقه قَالَ لَا قَالُوا فيصافحه قَالَ نعم وَنَهْيه لأبي ذَر عَن تولي الحكم وَترك الْولَايَة على مَال الْيَتِيم لما رَآهُ ضَعِيفا لَا أَنه نَهَاهُ مُطلقًا وَأما سُؤال الْولَايَة فقد ذمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما سُؤال يُوسُف وَقَوله {اجْعَلنِي على خَزَائِن الأَرْض} فَلِأَنَّهُ كَانَ طَرِيقا إِلَى أَن يَدعُوهُم إِلَى الله ويعدل بَين النَّاس وَيرْفَع عَنْهُم الظُّلم وَيفْعل من الْخَيْر مالم يَكُونُوا يفعلوه مَعَ أَنهم لم يَكُونُوا يعْرفُونَ حَاله وَقد علم بتعبير الرُّؤْيَا مَا يؤول إِلَيْهِ حَال النَّاس فَفِي هَذِه الْأَحْوَال وَنَحْوهَا مَا يُوجب الْفرق بَين مثل هَذِه الْحَال وَبَين مَا نهى عَنهُ وَأَيْضًا فَلَيْسَتْ هَذِه إِمَارَة مَحْضَة إِنَّمَا هِيَ أَمَانَة وَقد يُقَال هَذَا شرع من قبلنَا وَقد تنَازع الْعلمَاء فِي سُؤال الانسان الْقَضَاء وَنَحْوه فَقَالَ أَكْثَرهم يكره وَإِن كَانَ صَالحا لَهُ وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَأحمد وَغَيرهمَا وَقَالَ بَعضهم يَنْبَغِي أَن يسْأَل إِذا كَانَ مُتَعَيّنا لَهُ وَرُبمَا قيل إِذا كَانَت ولَايَته أفضل لَهُ وَأما الإِمَام فَيَنْبَغِي أَن لَا يُولى من سَأَلَ الْولَايَة أَن يُولى الْمُسْتَحق بِغَيْر سُؤال

فصل

فصل أما عترة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَقْرَبين الَّتِي قَالَ الله فِيهَا {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} فَقيل إِنَّهَا قُرَيْش كلهَا لِأَنَّهَا لما نزلت هَذِه الْآيَة عَم قُريْشًا بالنذارة ثمَّ خص الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب وَأما اسْم الشّرف فَلَيْسَ هُوَ من الْأَسْمَاء الَّتِي علق الشَّارِع بهَا حكما حَتَّى يكون وَحده متلقى من جِهَة الشَّارِع وَأما الشريف فِي اللُّغَة فَهُوَ خلاف والضعيف كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أهلك من كَانَ قبلكُمْ أَنهم كَانُوا إِذا سرق فيهم الشريف تَرَكُوهُ وَإِذا سرق فيهم الضَّعِيف أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَد وَمن رَأسه النَّاس وشرفوه كَانَ شريفهم فالشريف هُوَ من لَهُ الرياسة وَالسُّلْطَان لَكِن لما كَانَ أهل الْبَيْت أَحَق من أهل الْبيُوت الْأُخْرَى بالشرف صَار من كَانَ من أهل الْبَيْت يُسمى شريفا فَأهل الْعرَاق لَا يسمون شريفا إِلَّا من كَانَ من بني الْعَبَّاس وَكثير من أهل الشَّام وَغَيرهم لَا يسمون شريفا إِلَّا من كَانَ علويا وَأما أَحْكَام الشَّرِيعَة الَّتِي علقت فَهِيَ مَذْكُورَة باسم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وباسم أهل بَيته وَذَوي الْقُرْبَى وَهَذِه الْأَسْمَاء الثَّلَاثَة تتَنَاوَل جَمِيع بني هَاشم لَا فرق بَين ولد الْعَبَّاس وَولد أبي طَالب وَغَيرهم وأعمام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذين بقيت ذُرِّيتهمْ الْعَبَّاس وَأَبُو طَالب والحرث بن عبد الْمطلب وَأَبُو لَهب فَمن كَانَ من ذُرِّيَّة الثَّلَاثَة الأولى حرمت عَلَيْهِم الزَّكَاة واستحقوا من الْخمس بِاتِّفَاق وَأما ذُرِّيَّة أبي لَهب فَفِيهِ خلاف بَين الْفُقَهَاء لكَون أبي لَهب خرج عَن بني هَاشم لما نصروا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومنعوه مِمَّن كَانَ يُرِيد أَذَاهُ من قُرَيْش وَدخل مَعَ بني هَاشم بَنو عبد الْمطلب وَلِهَذَا جَاءَ عُثْمَان بن عَفَّان وَجبير بن مطعم رَضِي الله عَنْهُمَا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين أعْطى من خمس خَيْبَر

لبني هَاشم وَبني الْمطلب فَقَالَا يَا رَسُول الله أما إخوالنا بَنو هَاشم فَلَا ننكر فَضلهمْ لِأَنَّك مِنْهُم وَأما بَنو الْمطلب فَإِنَّمَا هم وَنحن مِنْك بِمَنْزِلَة وَاحِدَة فَقَالَ إِنَّهُم لم يفارقونا فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام إِنَّمَا بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب شَيْء وَاحِد وَأفضل الْخلق النَّبِيُّونَ ثمَّ الصديقون ثمَّ الشُّهَدَاء ثمَّ الصالحون وَأفضل كل صنف أَتْقَاهُم كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا فضل لعربي على عجمي وَلَا لعجمي على عَرَبِيّ وَلَا لأبيض على أسود وَلَا للأسود على أَبيض إِلَّا بالتقوى هَذَا فِي الْأَصْنَاف الْعَامَّة وَأفضل الْخلف فِي الطَّبَقَات الْقرن الَّذين بعث فيهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ وَأما فِي الْأَشْخَاص فأفضلهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَتبين أَن الشّرف لَيْسَ لبني هَاشم خَاصَّة بل يتنوع بِحَسب عرف المخاطبين ومقاصدهم وَأما الْمُسَمّى بِهَذَا اللَّفْظ فَيُقَال من الْأَحْكَام مَا تشترك فِيهِ قُرَيْش كلهَا نَحْو الْإِمَامَة الْكُبْرَى فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْإِمَامَة فِي قُرَيْش مَا بَقِي من النَّاس اثْنَان وَقَالَ النَّاس تبع لقريش فِي هَذَا الْأَمر وَكَذَلِكَ لقريش مزية كَمَا قَالَ إِن الله اصْطفى بني إِسْمَاعِيل من ولد ابراهيم وَاصْطفى كنَانَة من بني إِسْمَاعِيل وَاصْطفى قُريْشًا من كنَانَة وَاصْطفى بني هَاشم من قُرَيْش وَاصْطَفَانِي من بني هَاشم وَمن الاحكام مَا يخْتَص ببني هَاشم أَو بني هَاشم مَعَ بني الْمطلب دون سَائِر قُرَيْش كالاستحقاق من خمس الْغَنَائِم وَتَحْرِيم الصَّدَقَة ودخولهم فِي الصَّلَاة إِذا صلى على آل مُحَمَّد وَثُبُوت المزية على غَيرهم وَمن كَانَت أمة قرشية دون أَبِيه لم يسْتَحق الْإِمَامَة الَّتِي اخْتصّت بهَا قُرَيْش وَمن أمة هاشمية أَو غير فاطمية وَأَبوهُ لَيْسَ بهاشمي وَلَا مطلبي فَلَا يسْتَحق من

فصل

الْخمس كَمَا يسْتَحق بَنو هَاشم وَإِن كَانَ ينتسب إِلَيْهِم نسبا مُطلقًا فَلهُ نوع امتياز لكَونه أمه مِنْهُم وَأما الْأَوْلَاد العترة فَلهم من الِاخْتِصَاص بِقدر مَا لَهُم من النّسَب لكَون أحدهم أفضل من غَيرهم وَبِكُل حَال فَهَذِهِ الخصائص لَا توجب أَن يكون الرجل بِنَفسِهِ أفضل من غَيره لأجل نسبه الْمُجَرّد بل التَّفَاضُل عِنْد الله بالتقوى كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن آل بني فلَان لَيْسُوا لي بأولياء إِنَّمَا وليي الله وَصَالح الْمُؤمنِينَ فَمن كَانَ الْإِيمَان وَالتَّقوى أفضل كَانَ عِنْد الله أفضل مِمَّن هُوَ دونه فِي ذَلِك وأولاهم برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانَ غَيره أقرب نسبا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا شكّ أَن الْولَايَة الإيمانية الدِّينِيَّة أعظم وأوثق صلَة من الْقَرَابَة النسبية وَالله أعلم فصل وَإِذا طلبا حاكمين أُجِيب من طلب الَّذِي لَهُ الْولَايَة على مَحل النزاع إِذا كَانَ الحاكمان عَدْلَيْنِ فَإِن كَانَ لَهما الْولَايَة مَعًا أُجِيب من طلب الْحَاكِم الْأَقْرَب فإمَّا أَن يقرع بَينهمَا أَو يُجَاب الْمُدعى فَهَذَا القَوْل الثَّالِث أفتى بِهِ طَائِفَة فِي زَمَاننَا والأولان مقدمان فَهَذِهِ مَسْأَلَة نزاع وَلَا يمْضِي حكم الْعَدو على عدوه كَمَا لَا يقبل شَهَادَته عَلَيْهِ بل يترافعان إِلَى حَاكم آخر فصل وَلَفظ الصُّوفِيَّة لم يكن مَشْهُورا فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة وَإِنَّمَا اشْتهر بعد ذَلِك نقل التَّكَلُّم بِهِ عَن أَحْمد وَأبي سُلَيْمَان الدارني وَغَيرهمَا وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَذكر عَن الْحسن الْبَصْرِيّ

وَتَنَازَعُوا فِي الْمَعْنى الَّذِي أضيف إِلَيْهِ ذَلِك فَقيل نسبه إِلَى أهل الصّفة وَهُوَ غلط لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال صفي وَقيل نِسْبَة إِلَى الصَّفّ الْمُقدم بَين يَدي الله تَعَالَى وَهَذَا غلط أَيْضا لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَن يُقَال صَيْفِي وَقيل نِسْبَة إِلَى الصَّفَا وَهُوَ غلط أَيْضا لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال صفائي وَقيل نِسْبَة إِلَى الصفوة وَهُوَ غلط أَيْضا لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال صفائي وَقيل نِسْبَة إِلَى الصفوة من خلق الله وَهُوَ غلط أَيْضا لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال صفوي وَقيل نِسْبَة إِلَى صفوة بن مر أد بن طابخة قَبيلَة من الْعَرَب يحاورون بِمَكَّة ينتسب إِلَيْهِم النساك وَهَذَا وَإِن كَانَ مُوَافقا فِي النّسَب بِحَسب اللُّغَة لكنه ضَعِيف لأَنهم غير مشهورين وَلم تعرف الصَّحَابَة وَلَا التابعون وتابعوهم وَقيل إِنَّه نِسْبَة إِلَى لبس الصُّوف وَهُوَ الْمَعْرُوف فَإِنَّهُ أول من ظهر الصُّوفِيَّة من الْبَصْرَة وَأول من ابتنى دويرة الصُّوفِيَّة بعض أَصْحَاب عبد الْوَاحِد بن زيد وَعبد الْوَاحِد من أَصْحَاب الْحسن وَكَانَ فِي أهل الْبَصْرَة من الْمُبَالغَة فِي الزهادة وَالْعِبَادَة مَا لم يكن فِي سَائِر الْأَمْصَار قَالَ ابْن سِيرِين هدى نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحب إِلَيْنَا وَكَانَ يلبس الْقطن وَغَيره قَالَ ذَلِك لما قيل لَهُ إِن قوما يلبسُونَ الصُّوف تشبها بالمسيح وَأما سَماع الْقُرْآن والتماوت أَو الْمَوْت عِنْده والغشي وَنَحْوه كَمَا نقل عَن زُرَارَة ابْن أوفى قاي الْبَصْرَة أَنه سمع قَارِئًا يقْرَأ فَإِذا نفر فِي الناقور فَمَاتَ وَكَذَا جرى لأبي جهير فَأنْكر ذَلِك طَائِفَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَظن ذَلِك تكلفا وتصنعا كَمَا قَالَ ابْن سِيرِين بَيْننَا وَبَين الَّذين يصعفون عَن سَماع الْقُرْآن أَن يقْرَأ وَاحِد مِنْهُم على رَأس الْحَائِط فَإِن خر فَهُوَ صَادِق وَمِنْهُم من أنكرهُ لِأَنَّهُ

رَآهُ بِدعَة مُخَالفَة لما عرف من هدى الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور من هَؤُلَاءِ أَنه إِذا كَانَ مَغْلُوبًا لم يُنكر عَلَيْهِ وَإِن كَانَ حَال الثَّبَات أكمل مِنْهُ وَلِهَذَا لما سُئِلَ أَحْمد عَن هَذَا قَالَ قرىء الْقُرْآن على يحيى بن سعيد فَغشيَ عَلَيْهِ وَأخذ أَن يدْفع عَن نَفسه وَلَو قدر لدفعه فَمَا رَأَيْت أغفل مِنْهُ وَنقل عَن الشَّافِعِي أَنه أَصَابَهُ ذَلِك وَكَذَلِكَ عَن الفضيل بن عِيَاض وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا كثير مِمَّن لَا يستراب فِي صدقه لَكِن أَحْوَال الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم هِيَ الَّتِي ذكرت فِي الْقُرْآن من وَجل الْقُلُوب ودمع الْعُيُون واقشعرار الْجُلُود وَقد يُنكر أَحْوَال هَؤُلَاءِ من عِنْده قسوة قلب لَا يلين عِنْد تِلَاوَة الْقُرْآن ويغلو فيهم من بطن أَن حَالهم أكمل الْأَحْوَال فَكل من الطَّرفَيْنِ مَذْمُوم بل الْمَرَاتِب ثَلَاثَة ظَالِم لنَفسِهِ الَّذِي هُوَ قَاس الْقلب لَا يلين لِلْقُرْآنِ وَلَا للذّكر فَفِيهِ شبه من الْيَهُود لقَوْله تَعَالَى {ثمَّ قست قُلُوبكُمْ من بعد ذَلِك} الْآيَة وَالثَّانِي حَال الَّذِي فِيهِ ضعف عَن حمل مَا يرد على قلبه فَهَذَا يصعف صعق موت أَو غشي لقُوَّة الْوَارِد وَلَيْسَ هَذَا بعلامة على الْإِيمَان أَو الْفَتْوَى فَإِنَّهُ قد يحصل لمن يفرح أَو يحزن أَو يخَاف أَو يحب فَفِي عشاق أهل الصُّور من أمراضه الْعِشْق أَو قَتله أَو جننه وَكَذَلِكَ فِي غَيرهم وَالْحَاصِل أَنه إِذا لم يكن ثمَّ تَفْرِيط وَلَا عدوان وَلَا ذَنْب لَهُ فِيمَا أَصَابَهُ وَجعل لَهُ ضعف فَلَيْسَ بملوم كمن سمع الْقُرْآن سَمَاعا شَرْعِيًّا وَلم يفرط بترك مَا وَجب لَهُ من ذَلِك وَكَذَلِكَ مَا يرد على الْقُلُوب مِمَّا يسمونه الشُّهُود والفناء وَنَحْوه من الْأُمُور الَّتِي تغيب الْعقل فَإِنَّهُ إِذا كَانَ السَّبَب مَحْظُورًا لم يكن السَّكْرَان مَعْذُورًا فَإِن السكر لذه بِلَا تَمْيِيز فَإِذا حصل بِمحرم كَالْخمرِ والحشيشة فَهُوَ حرَام

بِلَا نزاع وَقد يحصل بِسَبَب محبَّة الصُّور كَمَا قَالَ الشَّاعِر ... سَكرَان سكر هوى وسكر مدامة ... وَمَتى إِقَامَة من بِهِ سَكرَان ... وَهَذَا مَذْمُوم لِأَن سَببه مَحْظُور وَقد يحصل بِسَبَب سَماع الْأَصْوَات المطربة من المغنين والمغنيات وَهَذَا أَيْضا مَذْمُوم فَإِنَّهُ لَيْسَ للرجل أَن سمع من الْأَصْوَات الَّتِي لم يُؤمر بسماعها مَا يزِيل عقله إِذْ إِزَالَة الْعقل مُحرمَة فَمَتَى أفْضى إِلَيْهِ بِسَبَب غير شَرْعِي كَانَ محرما وَمَا يحصل فِي معنى ذَلِك من لَذَّة قلبية أَو روحية وَلَو بِأُمُور فِيهَا نوع من الْإِيمَان فَهِيَ مغمورة بِمَا يحصل مَعهَا من زَوَال الْعقل وَلم يَأْذَن الله تبَارك وَتَعَالَى لنا أَن نمتع قُلُوبنَا بِمَا يكون سَببا لزوَال عقولنا وَلم يَأْذَن الله تبَارك وَتَعَالَى لنا أَن نمتنع قُلُوبنَا بِمَا يكون سَببا لزوَال عقولنا بِخِلَاف من زَالَ عقله بِسَبَب مَشْرُوع أَو بِأَمْر صادفه لَا حِيلَة لَهُ فِيهِ وَقد يحصل السكر بِسَبَب لم يَفْعَله العَبْد كسماع مالم يَقْصِدهُ هيج بَاطِنه وحرك ساكنه فَهَذَا لَا يلام عَلَيْهِ وَمَا صدر فِي حَال زَوَال عقله فَهُوَ فِيهِ مَعْذُور لِأَن الْقَلَم رفع عَنهُ كالمغمى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُون أما زَوَال عقله بِمحرم كَالْخمرِ فَهَل هُوَ مُكَلّف حَال زَوَال عقله فِيهِ قَولَانِ مشهوران وَفِي طَلَاقه نزاع وَمن زَالَ عقله بالبنج فَقيل يلْحق بِهِ وَقيل لَا لِأَن هَذَا لَا يشتهى بِخِلَاف الْخمر وَقد أوجب الْحَد فِي هَذَا دون هَذَا وَمن هَؤُلَاءِ من يغلب عَلَيْهِ الْوَارِد حَتَّى يصير مَجْنُونا إِمَّا بخلط أَو غَيره وَمن هَؤُلَاءِ عقلاء المجانين الَّذين يعدون فِي النساك ويسمون المولهين فصل الْخطاب أَن هَذَا الْأَحْوَال إِذا كَانَت أَسبَابهَا مَشْرُوعَة وصاحبها

صَادِقا عَاجِزا عَن دَفعهَا كَانَ مَحْمُودًا على مَا فعله من الْخَيْر مَعْذُورًا فِيمَا عجز عَنهُ وأصابه بِغَيْر اخْتِيَاره وهم أكمل مِمَّن لم يبلغ مَنْزِلَتهمْ لنَقص إيمَانه وقساوة قلبه وَمن لم يزل عقله مَعَ كَونه قد حصل لمن من الْإِيمَان مَا حصل لَهُم وَأكل فَهُوَ أفضل مِنْهُم وَهَذِه حَال الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَحَال نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ أسرى بِهِ وَرَأى مَا رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى وَأصْبح ثَابت الْعقل لم يتَغَيَّر فحاله بِلَا شكّ أكمل من حَال مُوسَى الَّذِي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل وَجعله دكا وَحَال مُوسَى جليلة فاضلة علية لَكِن حَال مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل وأكمل وَأَعْلَى فَخير الْكَلَام كَلَام الله وَخير الْهدى هدي مُحَمَّد وَأفضل الطّرق مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابه فالصوفي مَنْسُوب إِلَى اللبسة لِأَنَّهَا ظَاهر حَالهم ثمَّ إِن عِنْدهم حقائق وأحوال مَعْرُوفَة يشيرون بهَا إِلَى الصُّوفِي كَقَوْلِه بَعضهم الصُّوفِي من صفا من الكدر وامتلأ قلبه من الْفِكر واستوى عِنْده الذَّهَب وَالْحجر والتصوف كتمان السِّرّ وَترك الدَّعَاوَى وَهَؤُلَاء يشيرون إِلَى معنى الصدْق وَقد انتسب إِلَيْهِم طوائف من الزَّنَادِقَة وَغَيرهم كالحلاج مثلا فَإِن أَكثر الْمَشَايِخ مَشَايِخ الطَّرِيق أنكروه وأخرجوه عَن الطَّرِيق مثل الْجُنَيْد بن مُحَمَّد شيخ الطَّائِفَة وَغَيره كَمَا ذكر أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ فِي طَبَقَات الصُّوفِيَّة والحافظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي تَارِيخ بَغْدَاد وَقد تنَازع النَّاس فِي طريقهم فطائفة ذمت الصُّوفِيَّة والتصوف وَقَالُوا إِنَّهُم مبتدعون خارجون عَن السّنة

فصل

وَطَائِفَة غلت فَجعلت طريقهم أفضل الطّرق وَالصَّوَاب أَنهم يجتهدون فِي طَاعَة الله فَمنهمْ من المذنب والتقى وَقد صَارَت الصُّوفِيَّة ثَلَاث طَبَقَات صوفية الْحَقَائِق وصوفية الأرزاق وصوفية الرسوم فَأَما صوفية الْحَقَائِق فهم الَّذين وصفناهم وَأما صوفية الأرزاق فهم الَّذين وقفت عَلَيْهِم الخوانق وَالْوُقُوف فَلَا يشْتَرط فِي هَؤُلَاءِ أَن يَكُونُوا من أهل الْحَقَائِق وَأما صوفية الرسوم فهم المقصودون المقتصرون على التَّشَبُّه بهم فِي اللبَاس والآداب الوضعية فهم بِمَنْزِلَة الَّذِي يقْتَصر على زِيّ أهل الْعلم وَأما أسم الْفُقَرَاء فَهُوَ فِي الْقُرْآن وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فُقَرَاء أمتِي يدْخلُونَ الْجنَّة قبل الْأَغْنِيَاء بِنصْف يَوْم والفقراء أَنْوَاع وَقد تنَازع النَّاس أَيّمَا أفضل الْفَقِير الصابر أَو الْغَنِيّ الشاكر وَالصَّحِيح أَن أفضلهما أتقاهما فَإِن اسْتَويَا فِي التَّقْوَى اسْتَويَا فِي الدرجَة فَإِن الْفُقَرَاء يسبقون الْأَغْنِيَاء إِلَى الْجنَّة لخفة الْحساب ثمَّ إِذا دخل الْأَغْنِيَاء الْجنَّة فَكل وَاحِد يكون فِي مَنْزِلَته على قدر حَسَنَاته وأعماله فصل الْقَدَرِيَّة من الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم من الَّذين لَا يقرونَ بِأَن الله خَالف كل شَيْء وَلَا أَنه مَا شَاءَ الله وَمَا لم يَشَأْ لم يكن فَإِذا أطلق عَلَيْهِم أَنهم خارجون عَن التَّوْحِيد بِمَعْنى أَنهم كذبُوا بِالْقدرِ فَهَذَا فِيهِ نزاع حَتَّى فِي مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَمَسْأَلَة التَّكْفِير بإنكار بعض الصِّفَات أَو إثْبَاته فقد كثر فِيهَا الِاضْطِرَاب وَتَحْقِيق الْأَمر فِيهَا أَن الشَّخْص الْمعِين الَّذِي ثَبت إيمَانه لَا يحكم بِكُفْرِهِ إِن لم تقم عَلَيْهِ حجَّة يكفر بمخالفتها وَإِن كَانَ القَوْل كفرا فِي نفس الْأَمر بِحَيْثُ يكفر بجحوده إِذا علم أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه

فصل

فقد أنكر طَائِفَة من السّلف بعض حُرُوف من الْقُرْآن لعدم علمهمْ أَنَّهَا مِنْهُ فَلم يكفروا وعَلى هَذَا حمل الْمُحَقِّقُونَ حَدِيث الَّذِي قَالَ لأَهله إِذا أَنا مت فأحرقوني فَإِنَّهُ كَانَ جَاهِلا بقدرة الله عَلَيْهِ إِذا فعل ذَلِك وَلَيْسَ كل من جهل بعض مَا أخبر بِهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكفر وَلِهَذَا قَالَ السّلف من قَالَ الْقُرْآن مخلوف فَهُوَ كَافِر وَمن قَالَ إِن الله لَا يرى فِي الْآخِرَة فَهُوَ كَافِر وَلَا يكفرون الْمعِين الَّذِي يَقُول ذَلِك لِأَن ثُبُوت حكم التَّكْفِير ف حَقه مُتَوَقف على تحقق شُرُوط وَانْتِفَاء مَوَانِع فَلَا يحكم بِكفْر شخص بَينه إِلَّا أَن يعلم أَنه مُنَافِق بِأَن قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة النَّبَوِيَّة الَّتِي يكفر من خَالِقهَا وَلم يقبلهَا لَكِن قَول هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزلَة وأشباههم هُوَ بِلَا شكّ من الشّرك وَالْكفْر والضلال فصل وَمن قَالَ إِن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا حبوا وَيدخل الْجنَّة بعد الصَّحَابَة وَذكر أَن أَبَا بكر قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْإِسْرَاء والمعراج رَأَيْت رَبِّي بعيني رَأْسِي وَقَالَ لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا رَأَيْته بعيني قلبِي فَمن قَالَ إِن هَذِه أَحَادِيث صَحِيحَة فَهُوَ كَاذِب مفتر بِاتِّفَاق أهل الْعلم بذلك بل يسْتَحق الْعقُوبَة البليغة فَإِن القَوْل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِغَيْر علم يُوجب تبوؤ المقعد فِي النَّار وَمن تعمد الْكَذِب عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفِي كفره وَقَتله قَولَانِ فانه لم ينْقل أحد أَنه قَالَ رَأَيْت رَبِّي بعيني رَأْسِي لَا أَبُو بكر وَلَا غَيره وَلَا نقلت عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك شَيْئا بل اجتهدت فَقَالَت من قَالَ إِن مُحَمَّدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الْفِرْيَة واستدلت بقوله تَعَالَى {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار} وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ رَآهُ بفؤاده مرَّتَيْنِ وَكَذَلِكَ أَبُو ذَر فِي الصَّحِيح نور أَنِّي أرَاهُ وَمن الْعلمَاء من جمع بَين قَول عَائِشَة وَقَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم

وَمِنْهُم من جعلهَا مَسْأَلَة نزاع وَلم يثبت بِسَنَد صَحِيح عَن أحد من الصَّحَابَة أَنه قَالَ رَآهُ بعيني رَأسه بل يَقُول رَآهُ بفؤاده أَو يَقُول رَآهُ وَيُطلق وَكَذَلِكَ عَن أَحْمد وَلَكِن طَائِفَة من أَصْحَابه نقلوا عَنهُ إِثْبَات رُؤْيَة الْعين ونصروها كَمَا حكى ذَلِك طَائِفَة عَن ابْن عَبَّاس وَكِلَاهُمَا لم يثبت عَنْهُمَا نقل صَحِيح صَرِيح لَكِن بِأَلْفَاظ مُطلقَة وَقد اتّفق الْمُسلمُونَ على أَن غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم ير الله فِي الدُّنْيَا كَمَا اتَّفقُوا على أَنه يرى فِي الْآخِرَة بالأبصار وَإِن كَانَ من أهل الْبدع من يُنَازع فِي هَاتين الْمَسْأَلَتَيْنِ لَكِن السّلف متفقون على ذَلِك والْحَدِيث الْمَذْكُور عَن عبد الرَّحْمَن رَضِي الله عَنهُ بَاطِل رَوَاهُ أَبُو نعيم من طَرِيق رجل اتّفق أهل الْعلم رد أخباره بل هُوَ مُخَالف للنصوص وَإِجْمَاع السّلف وَالْأَئِمَّة فَإِنَّهُ من أهل الشورى الَّذين هم أفضل الْأمة بعد أبي بكر وَعمر وَأهل الشورى هم عُثْمَان وَعلي وَعبد الرَّحْمَن وَالزُّبَيْر وَطَلْحَة وَسعد رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ فَهَؤُلَاءِ السِّتَّة جعل عمر رَضِي الله عَنهُ الْخلَافَة فيهم وَأخْبر أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم توفى وَهُوَ عَنْهُم رَاض ثمَّ إِن ثَلَاثَة قدمُوا ثَلَاثَة قدمُوا عُثْمَان وعليا وَعبد الرَّحْمَن ثمَّ إِنَّهُم جعلُوا عبد الرَّحْمَن يخْتَار للْأمة وَرَضوا بذلك فَمن هُوَ بِهَذِهِ الْمنزلَة كَيفَ يتَأَخَّر دُخُوله الْجنَّة أَو يدْخل حبوا وَلَو دَخلهَا لغناه حبوا لدخلها سَائِر الصَّحَابَة الْأَغْنِيَاء حبوا كعثمان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد بن معَاذ وَسعد بن عبَادَة وَأسيد بن حضير بل فِي الْأَنْبِيَاء من هُوَ غنى كإبراهيم وَدَاوُد وَسليمَان ويوسف صلوَات الله وسلامة عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ

فصل

فصل وَمن كَانَ قَادِرًا على الْكسْب وَيَأْكُل من صدقَات النَّاس فَهُوَ مَذْمُوم على ذَلِك وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تحل الصَّدَقَة لغنى وَلَا لقوى مكتسب وَأما سُؤال النَّاس مَعَ الْقُدْرَة على الْكسْب فَهُوَ حرَام بِلَا نزاع فَمن حج على أَن يسْأَل مَعَ إِمْكَان الْقعُود فَهُوَ عَاص فقد جَاءَ بضعَة عشر حَدِيثا فِي النَّهْي عَن الْمَسْأَلَة وَإِذا تعدى أحد على الرَّاكِب فِي الطَّرِيق أَو فِي مَكَّة فدفعهم الركب عَن أنفسهم كالصائل فَيجوز الدّفع مَعَ الركب بل يجب دفع هَؤُلَاءِ عَن الركب أما إِذا عِنْدِي على أهل مَكَّة أَو غَيرهم فَلَا يعينهم على ذَلِك وَإِذا وجد مَعَ الركب جائعا أَو عطشانا فَعَلَيهِ أَن يبْذل مَا فضل عَن حَاجته فَأَما مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَلَا يجب بذله وَلَو وجد مَيتا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يتَخَلَّف ليدفنه بِحَيْثُ يخَاف الِانْقِطَاع وَمن سَأَلَ وَظهر صدقه وَجب إطعامه لقَوْله تَعَالَى {فِي أَمْوَالهم حق مَعْلُوم للسَّائِل والمحروم} وَإِن ظهر كذبه لم يجب إطعامه وَإِن سَأَلَ مُطلقًا بِغَيْر معِين لم يجب أَيْضا وَإِذا أقسم على غير معِين فَإِن إبرار الْقسم إِنَّمَا هُوَ إِذا أقسم على معِين وَقَوله لأجل فلَان من المخلوقين فَلَا حُرْمَة لَهُ وَأما قَوْله شَيْء لله وَلأَجل الله فَيعْطى لِأَنَّهُ سُؤال وَلَيْسَ هَذَا إقساما فصل ثَبت فِي صَحِيح مُسلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الصَّلَوَات الْخمس وَالْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة ورمضان إِلَى رَمَضَان كَفَّارَة لما بَينهُنَّ إِذا اجْتنبت الْكَبَائِر وَهَذَا مُوَافق لقَوْله تَعَالَى {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَنُدْخِلكُمْ مدخلًا كَرِيمًا} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعد باجتنبابنا مَا نهى عَنهُ

أَن يكفر عَنَّا سيئاتنا ويدخلنا مدخلًا كَرِيمًا وَكَذَلِكَ قَوْله {الَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش إِلَّا اللمم} فقد فسر اللمم بِأَنَّهُ غير الْوَطْء من النّظر واللمس والسمع وَالْمَشْي وَنَحْوه كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ مَا رَأَيْت أشبه باللمم مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله كتب على ابْن آدم حَظه من الزِّنَا فَهُوَ مدرك ذَلِك لَا محَالة فالعينان تزنيان وزناهما النّظر والأذنان تزنيان وزناهما السّمع وَالْيَدَانِ تزنيان وزناهما الْبَطْش وَالرجلَانِ تزنيان وزناهما الْمَشْي وَالْقلب يتَمَنَّى ويشتهي والفرج يصدق ذَلِك أَو يكذبهُ وَسَماهُ الله لمما لِأَن العَبْد يلم بالكبيرة وَلَا يَأْتِيهَا قَالَ ... مَتى تأتنا تلم بِنَا فِي دِيَارنَا ... تَجِد حطبا جزلا وَنَارًا تأججا ... وَقَالَ ... مَتى تأته تعشو إِلَى ضوء ناده ... تَجِد خير نَار عِنْدهَا خير موقد ... فَإِن الطارق يلم بِأَهْل الْمنزل قبل أَن يدْخل إِلَى منزلهم وَيُقَال اللمم أَن يلمم بالذنب الصَّغِير مرّة من غير إِصْرَار لِأَن من أصر على الصَّغِيرَة صَارَت كَبِيرَة كَمَا فِي التِّرْمِذِيّ لَا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار وَلَا كَبِيرَة مَعَ اسْتِغْفَار فقد جَاءَ الْكتاب وَالسّنة بتكفير الصَّغَائِر لمن اجْتنب الْكَبَائِر وَهَذَا لَا ريب فِيهِ ثمَّ قَالَ قَائِلُونَ مَفْهُوم هَذَا أَنه لَا يكفر الصَّغَائِر إِلَّا بِهَذَا الشَّرْط فَمن لم يجتب الْكَبَائِر كلهَا لَا يكفر عَنهُ صَغِيرَة وَخَالف الْخَوَارِج والمعتزلة فَقَالُوا إِن من أَتَى كَبِيرَة اسْتحق الْعقُوبَة حتما فتحبط جَمِيع حَسَنَاته بِتِلْكَ الْكَبِيرَة وَيسْتَحق التخليد فِي النَّار لَا يخرج مِنْهَا بشفاعة وَلَا غَيرهَا وَهَذَا قَول بَاطِل بِاتِّفَاق الصَّحَابَة رَضِي الله عَنهُ أَجْمَعِينَ وَسَائِر أهل السّنة والمرجئة من الشِّيعَة والأشعرية قابلوا الْمُعْتَزلَة بنقيض قَوْلهم فَقَالُوا لَا نجزم بتعذيب أحد من أهل التَّوْحِيد وَهَذَا أَيْضا بَاطِل بل تَوَاتَرَتْ السّنَن بِدُخُول أهل الْكَبَائِر النَّار وخروجهم مِنْهَا بشفاعة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسلف الْأمة وأئمتها متفقون على مَا جَاءَت بِهِ السّنَن

وَقد يفعل العَبْد منالحسنات مَا يمحو الله بِهِ بعض الْكَبَائِر كَمَا غفر للبغي بسقى الْكَلْب وقلوه لأهل بدر اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم وَلَكِن هَذَا يخْتَلف باخْتلَاف الْحَسَنَات ومقاديرها وبصفات الْكَبَائِر ومقاديرها فَلَا يمكننا أَن نعين حَسَنَة تكفر بهَا الْكَبَائِر كلهَا غير التَّوْبَة فَمن أَتَى بكبيرة وَلم تب مِنْهَا وَلَكِن أَتَى مَعهَا بحسنات أخر فَهَذَا يتَوَقَّف أمره على المازنة فَمن ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية وَمن خفت موازينة فأمه هاوية فَلهَذَا كَانَ صَاحب الْكَبِيرَة تَحت الْخطر مالم يتب مِنْهَا فَإِذا أَتَى بحسنات يُرْجَى لَهُ محو الْكَبِيرَة وَكَانَ بَين الْخَوْف والرجاء والحسنة الْوَاحِدَة قد يقْتَرن بهَا من الصدْق وَالْيَقِين مَا يَجْعَلهَا تكفر الكباذر كالحديث الَّذِي فِي صَاحب البطاقة الَّذِي ينشر لَهُ تِسْعَة وَتسْعُونَ سجلا كل سجل مِنْهَا مد الْبَصَر وَيُؤْتى ببطاقة فِيهَا كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله فتوضع البطاقة فِي كفة والسجلات فيكفة فَثقلَتْ البطاقة وطاشت السجلات وَذَلِكَ لعظم مَا فِي قلبه من الْإِيمَان وَالْيَقِين وَإِلَّا فَلَو كَانَ كل من نطق الْكَلِمَة تكفر خطاياه لم يدْخل النَّار من أهل الكباذر الْمُؤمنِينَ بل وَالْمُنَافِقِينَ أحد وَهَذَا خلاف مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْآيَات وَالسّنَن وَكَذَا حَدِيث الْبَغي وَإِلَّا فَلَيْسَ كل من سقى كَلْبا عشانا يغْفر لَهُ كَمَا أَنه قد يقْتَرن بِالسَّيِّئَةِ من الاستخفاف والإصرار مَا يعظمها فَلهَذَا وَجب التَّوَقُّف فِي الْمعِين فَلَا يقطع بجنبه وَلَا نَار إِلَّا بِبَيَان من الله لَكِن يُرْجَى للمحسن وَيخَاف عَليّ المسئ وَأما من شهد لَهُ النَّص فنقطع لَهُ وَمن لَهُ لِسَان صدق فَفِيهِ نزاع وَمَا يُوجد فِي كتب أبي حَامِد الْغَزالِيّ من كَلَام الفلاسفة الباطنية كَمَا يُوجد فِي المضنون بِهِ على غير أَهله وَأَمْثَاله فَقَالَ طَائِفَة من الْفُضَلَاء إِنَّه كذب عَلَيْهِ وَطَائِفَة قَالَت بل رَجَعَ عَن ذَلِك فَإِنَّهُ صرح بِكفْر الفلاسفة فِي التهافت وَاسْتقر أمره على مطالعة الخاري وَمُسلم وَمَات عَليّ أحسن أَحْوَاله فَلَا يجوز أَن

تنْسب إِلَيْهِ هَذِه الْأَقْوَال نِسْبَة مُسْتَقِرَّة وَمن قَالَ الله أكبر عَلَيْك فَهُوَ من نَحْو الدُّعَاء عَلَيْهِ فَإِن لم يكن بِحَق ورلا كَانَ ظَالِما لَهُ يسْتَحق الِانْتِصَار مِنْهُ لذَلِك إِمَّا بِمثل قَوْله وَإِمَّا بتعزيزه وَلَيْسَ لأحد اسْتِعْمَال لغير مَا أنرله الله لَهُ وَبِذَلِك فسر الْعلمَاء الحَدِيث والمأثور لَا يناظر بِكِتَاب الله أَي لَا يَجْعَل لَهُ نَظِير يذكر مَعَه كَقَوْل القاذل لمن قدم لحَاجَة لقد جِئْت عَليّ قدر يَا مُوسَى وَقَوله عِنْد الْخُصُومَة مَتى هَذَا الْوَعْد وَالله يشْهد إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ ثمَّ إِن خرجه مخرج الاستخفاف بِالْقُرْآنِ والاستهزاء بِهِ كفر صَاحبه وَأما إِن تَلا الْآيَة عِنْد الحكم الَّذِي أنزلت لَهُ أَو يُنَاسِبه من الْأَحْكَام فَحسن وَمن هَذَا الْبَاب مَا يبنه الْفُقَهَاء من الْأَحْكَام الثَّابِتَة بِالْقِيَاسِ وَمَا يتَكَلَّم فِيهِ الْمَشَايِخ والوعاظ فَلَو دعى الرجل إِلَى مَعْصِيّة قد تَابَ مِنْهَا فَقَالَ {وَمَا يكون لنا أَن نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رَبنَا} وَكَذَا لَو قَالَ عِنْد همه وخزنه {إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله} وَنَحْو ذَلِك كَانَ حسنا وَلَو قَصده بِهِ التِّلَاوَة والتنبيه على معنى يُخَاطب بِهِ للْحَاجة كام جَائِزا مثل مَا قيل لعلى رَضِي الله عَنهُ فِي الصَّلَاة {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} فَقَالَ {فاصبر إِن وعد الله حق} فَهَذَا وَنَحْوه رخص فِيهِ الْعلمَاء وَلَا يجوز أَن يظْهر مَا علمه من السَّيِّئَات سرا بل إِن أظهره كبر أثمه

فصل

فصل لِوَاء الْحَمد بيد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْقِيَامَة صُورَة وَمعنى إِشَارَة إِلَى سيادته لجَمِيع الخلاذق فَيكون الْخلق تَحت لواذه كَمَا يكون الأجناد تَحت ألوية الْمُلُوك وحامله الْمُقدم الَّذِي يكون خطيب الْأَنْبِيَاء إِذا وفدوا وإمامهم إِذا اجْتَمعُوا وَهُوَ الَّذِي يتَقَدَّم للشفاعة فيحمد ربه بِمَحَامِد لَا يحمده بهَا غَيره وَهُوَ مُحَمَّد وَأحمد وَأمته الْحَمَّادُونَ الَّذين يحْمَدُونَ عَليّ السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَهُوَ أول من يدعى إِلَى الْجنَّة فَلَا تفتح لأحد قبل صَاحب لِوَاء الْحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وجدهَا تغرب فِي عين حمئة} الْعين فِي الأَرْض وَمعنى تغرب فِي عين أَي فِي رَأْي النَّاظر بِاتِّفَاق الْمُفَسّرين وَلَيْسَ المُرَاد تسْقط من الْفلك فتغرب فِي تِلْكَ الْعين فَإِنَّهَا لَا تنزل من السَّمَاء إِلَى الأَرْض وَلَا تفارق فلكها والفلك فَوق الأَرْض من جَمِيع أقطارها لَا يكون تَحت الأَرْض لَكِن إِذا تخيل المتخيل أَن الْفلك مُحِيط بِالْأَرْضِ توهم أَن مايلي رَأسه هُوَ أَعْلَاهُ وَمَا يَلِي رجلَيْهِ هُوَ أَسْفَله ولي الْأَمر كَذَلِك بل جَانب الْفلك من هَذَا الْجَانِب كجانبه من الْمشرق وَالْمغْرب وَالسَّمَاء فَوق الأَرْض بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وَإِنَّمَا السّفل هُوَ أضيق مَكَان فِي الأَرْض وَهُوَ المركز الَّذِي إِلَيْهِ تنتهى الأثقال وكل مَا تحرّك من المركز إِلَى السَّمَاء من أَي جَانب كَانَ فَإِنَّهُ يصعد من الْأَسْفَل إِلَى الْأَعْلَى وَالله أعلم فصل وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن النكر وَاجِب عَليّ الْكِفَايَة بِاتِّفَاق الْمُسلمين وكل وَاحِد من الْأمة مُخَاطب بِقدر قدرته وَهُوَ من أعظم الْعِبَادَات وَمن النَّاس من يكون ذَلِك لهواه لَا لله

وَلَيْسَ لأحد أَن يزِيل النكر بِمَا هُوَ أنكر منهخ مثل أَن يقوم وَاحِد من النَّاس يُرِيد أَن يقطع يَد السَّارِق ويجلد الشَّارِب وَيُقِيم الْحُدُود لِأَنَّهُ لَو فعل ذَلِك لأفضى إِلَى الْهَرج وَالْفساد لِأَن كل وَاحِد يضْرب غَيره ويدعى أَنه اسْتحق ذَلِك فَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَن يقْتَصر فِيهِ على ولي الْأَمر المطاع كالسلطان ونوابه وَكَذَلِكَ دَقِيق الْعلم الَّذِي لَا يفهمهُ إِلَّا خَواص النَّاس وجماع الْأَمر فِي ذَلِك بِحَسب قدرته وَإِنَّمَا الْخلاف فِيمَا رذاغلب على ظن الرجل أَن أمره بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيه عَن الْمُنكر لَا يطاع فِيهِ هَل يجب عَلَيْهِ حينذذ على قَوْلَيْنِ أصَحهمَا أَنه يجب وَإِن لم يقبل مِنْهُ إِذا لم يكن مفسده الْأَمر واجحة عَليّ مفْسدَة التّرْك كَمَا بقى نوح عَلَيْهِ السَّلَام ألف سنة إِلَّا خمسين عاماض ينذر قومه وَلما قَالَت الْأمة من أهل الْقرْيَة الْحَاضِر البحرة لواعظى الَّذين يعدون فِي السبت {لم تعظون قوما الله مهلكهم أَو معذبهم عذَابا شَدِيدا قَالُوا معذرة إِلَى ربكُم ولعلهم يَتَّقُونَ} أَي نُقِيم عذرنا عَن رَبنَا وَلَيْسَ هدَاهُم علنيا بل الْهِدَايَة إِلَيّ الله وَلم يجب مَا أحبه الله وَهُوَ الْمَعْرُوف وَيبغض مَا أبغضه الله تَعَالَى وَهُوَ الْمُنكر لم يكن مُؤمنا فَلهَذَا لم يكن وَرَاء إِنْكَار الْمُنكر بِالْقَلْبِ حَبَّة خَرْدَل من إِيمَان وَلَا يُمكن أَن يجب جَمِيع الْمُنْكَرَات بِالْقَلْبِ رلا زن كَانَ كَافِرًا وَهُوَ الَّذِي مَاتَ قلبه كَمَا سُئِلَ بعض السّلف عَن ميت الْأَحْيَاء فِي قَوْلهم لَيْسَ من مَاتَ فاستراح بميت ... إِنَّمَا الْمَيِّت ميت الْأَحْيَاء فَقَالَ هُوَ الَّذِي لَا يعرف مَعْرُوفا وَلَا يُنكر مُنْكرا لَكِن من النَّاس من يُنكر بعض الْأُمُور دون بعض فَيكون فِي قلبه إِيمَان ونفاق كَمَا ذكر ذَلِك من ذكره من السّلف حَيْثُ قَالُوا الْقُلُوب أَرْبَعَة قلب أجرد فِيهِ سراج يزهر فَذَلِك قلب الْمُؤمن وقلب أغلف فَهُوَ قلب الْكَافِر وقلب منكوس فَذَلِك

فصل

قلب الْمُنَافِقين وقلب فِيهِ مادتان مَادَّة تمده بالايمان ومادة تمده بالنافاق فَذَلِك خلط عملا صَالحا سَيِّئًا وَفِي الْجُمْلَة فَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن النكر فرض كِفَايَة فرذا غلب على ظَنّه أَن غَيره لَا يقوم بِهِ تعين عَلَيْهِ وَوَجَب عَلَيْهِ مَا يقدر عَلَيْهِ من ذَلِك فَإِن تَركه كَانَ عَاصِيا لله وَلِرَسُولِهِ وَقد كيون فَاسِقًا وَقد يكون كَافِرًا وَيَنْبَغِي لمن يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر أَن يكون فَفِيهَا قبل الْأَمر رَفِيقًا عِنْد الْأَمر ليسلك أقرب الطّرق فِي تَحْصِيله حَلِيمًا بعد الْأَمر لِأَن الْغَالِب أَن لَا بُد أَن يُصِيبهُ أَذَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وانه عَن الْمُنكر واصبر على مَا أَصَابَك إِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} فصل قَول من يَقُول يلْزم من كَون الشئ فَوق كَونه فِي جِهَة سَوَاء كَانَت الْجِهَة دَاخل الْعَالم أَو خَارجه وَثُبُوت إِمْكَان الانقسام لذاته لِأَن كل وَاحِد من جوانبه غير الْجَانِب الآخر وكل مُمكن الْقِسْمَة لذاته مُمكن الْوُجُود لذاته وَيلْزم أَيْضا من كَون الشئ فِي جِهَة إِمَّا قدم الْجِهَة وَإِمَّا ثُبُوت الِانْتِقَال فَالْجَوَاب عَن ذَلِك أما الْحجَّة الأولى فللناس فِي جوابها طَرِيقَانِ

أَحدهمَا أَنه تَعَالَى فَوق الْعَرْش وَهُوَ مَعَ ذَلِك لَيْسَ بداخل الْعَالم وَلَا بمنقسم هَذَا قَول الكلامية وأئمة الأشعرية وَغَيرهم وَإِذا قيل لَهُم هَذَا مُمْتَنع قَالُوا إِثْبَات وجود مَوْجُود لَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه أبعد عَن الْعُقُول من إِثْبَات مَوْجُود خَارج الْعَالم وَلَيْسَ بجسم وَلَا منقسم فَإِن كَانَ الأول جاذزا فِي الْعقل فَالثَّانِي أولى بِالْجَوَازِ وَإِن كَانَ مُمْتَنعا بَطل قَول النفاة الطَّرِيق الثَّانِي أَن يُقَال هَل الانقسام فِيهِ بِالْفِعْلِ أَو بالإمكان فان كَانَ بالامكان بِحَيْثُ يقبل التَّفْرِيق والتبغيض لم يسلم اللُّزُوم ولادل ذَلِك عَلَيْهِ وَإِنَّمَا ذكر فِي الدَّلِيل أَن كل جَانب غير الآخر وَمُطلق الْمُغَايرَة لَا يتقتضى قبُول التَّفْرِيق والنفصال فَإِن لفظ غير فِيهِ اصطلاحان أَحدهمَا اصْطِلَاح الأشعرية وَمن وافقهم أَنه مَا جَازَ مُفَارقَة أَحدهمَا الآخر بِزَمَان أَو مَكَان أَو وحود أَو مَا جَازَ مُفَارقَة أَحدهمَا مُطلقًا وَلِهَذَا لَا يَقُولُونَ صِفَات الله تَعَالَى مُغَايرَة لذاته بل لَا يَقُولُونَ إِن الصّفة اللَّازِمَة للمخلوق مُغَايرَة لَهُ وَلَا أَن بعض الْجُمْلَة مغير لَهَا وَلَا الْوَاحِد من الْعشْرَة مُغَاير لَهَا فعلي هَذَا رذا لم يقبل التَّفْرِيق لم يكن أحد من الْجَانِبَيْنِ مغايرا للجانب الآخر والاصطلاح الثَّانِي أَن حد غير مَا جَازَ بِأَحَدِهِمَا دون الآخر وَهُوَ اصْطِلَاح الْمُعْتَزلَة والكرامية فعلى هَذَا يكون صفة الْمَوْصُوف مُغَايرَة لَهُ وَتَكون صِفَات الله تَعَالَى مُغَايرَة لذاتته وَيكون كَلَام الله غير الله وعَلى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين لَا يكون كَلَامه غَيره وَالَّذِي عَلَيْهِ السّلف أَنه لَا يُطلق إِثْبَات الْمُغَايرَة وَلَا نَفيهَا لَكِن يفصل هَل أُرِيد بِالْغَيْر أَنه مُمكن الْعلم بِهَذَا دون هَذَا أَو يُرِيدُونَ أَنه يُمكن مُفَارقَة هَذَا لهَذَا وَوُجُود هَذَا بِدُونِ هَذَا وَتَحْقِيق خاهية هَذَا دون هَذَا وَنَحْو ذَلِك فعلى هَذَا التَّفْسِير لَا تكون الصّفة اللَّازِمَة للموصوف مُغَايرَة للموصوف وَلَا الْبَعْض اللَّازِم للْكُلّ مغيارا للْكُلّ عَليّ ذَلِك

وَقَوله كل مُمكن الْقِسْمَة لذاته مُمكن الْوُجُود لذاته جَوَابه أَن لفظ إمكانالقسمة فِيهِ الْإِجْمَال الْمُتَقَدّم فَإِن أَرَادوا أَنه يقبل مُفَارقَة بعضه لبَعض فَلَا دَلِيل عَليّ لُزُوم ذَلِك لقَوْله سُبْحَانَهُ عَليّ عَرْشه وَإِن أَرَادوا بِهِ الامتياز الَّذِي ذكرته فِي الْمُغَايرَة الَّتِي عينوها فَلَا نسلم أَن إِمْكَان أَن يُمَيّز مِنْهُ شَيْء عَن شَيْء يجب أَن يكون مُمكن الْوُجُود لذاته لَا وَاجِب الْوُجُود لذاته لَا سِيمَا على مَذْهَب أهل السّنة الصفاتية فَإِن عِنْدهم عَالم بِعلم قَادر بقدرة حَتَّى بحياة وَهَذِه معَان متميزة لَيْسَ أَحدهمَا هُوَ الآخر قَالَ وَكَذَلِكَ نفاة الصِّفَات حَيّ بحياة وَهَذِه معَان متميزة لَيْسَ أَحدهمَا هُوَ الآخر قَالَ وَكَذَلِكَ نفاة الصِّفَات باتفاقهم على وجود وَاجِب قديم فِي ذَاته عليم قدير وَلَيْسَ الْمَفْهُوم من كل اسْم هُوَ الْمَفْهُوم من الآخر بل هِيَ معَان متميزة وَإِن كَانَ الْمُسَمّى وَاحِدًا والمعطل مقرّ بِأَنَّهُ مَوْجُود وَاجِب قديم عَاقل مَعْقُول عقل وَنَحْو ذَلِك من الْمعَانِي المتميزة ودعواه أَن هَذِه الْأُمُور تعود إِلَى سلب أَو إِضَافَة مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ وَإِن جوز عقله أَن تكون هَذِه الْمعَانِي لَا تعود إِلَّا إِلَى عدم أَو إِضَافَة أمكن منازعته بِأَن نقُول فِيمَا يُثبتهُ من الصِّفَات وَالْقدر مثل ذَلِك ونقول إِن ذَلِك لَا يُوجب تعددا وَلَا تكثيرا بل هُوَ رَاجع إِلَى سلب أَو إِضَافَة وَأما الشُّبْهَة الثَّانِيَة فجوابها أَن يُقَال الْجِهَة إِمَّا أَن يُرَاد بهَا أَمر مَوْجُود أَو مَعْلُوم فَإِن أُرِيد بهَا أَمر مَعْدُوم فَمَا ثمَّ مَوْجُود إِلَّا الله تَعَالَى ومخلوقاته وَالله لَيْسَ فِي مخلوقاته وَإِن أُرِيد بهَا أَمر مَعْدُوم فالمعدوم لَيْسَ بِشَيْء يحوي الْمَوْجُود وَإِمَّا يقدر فِيهِ الْمَوْجُود تَقْديرا فَقَوله يلْزم قدم الْجِهَة أَو الِانْتِقَال إِنَّمَا يَصح لَو قيل إِنَّه مَوْجُود فِي سواهُ وَأما إِذا أُرِيد بذلك أَنه فَوق الْعَالم أَو وَرَاء الْعَالم وَلَيْسَ هُنَاكَ غير وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْء مَوْجُود آخر حَتَّى يُقَال إِنَّه قديم وَأما الْعَدَم فَإِن قيل إِنَّه قديم فَهُوَ الْعَدَم سائ الْمَخْلُوقَات وَقدم الْعَدَم بِهَذَا التَّفْسِير لَيْسَ بممتنع فَظهر فَسَاد لُزُوم أحد الْأَمريْنِ

فصل

وَأما لُزُوم الأنتاقل فللناس عَنهُ جوابان مبنيان على جَوَاز قيام الصِّفَات الفعلية الْمُتَعَلّقَة بِالْمَشِيئَةِ بِذَاتِهِ فَمن لم يجوز ذَلِك قَالَ إِنَّه لما خلق الْعَالم لم ينْتَقل هُوَ وَلم يتغبر بل خلقه مباينا لَهُ لم يدْخل فِي الْعَالم وَلم يدْخل الْعَالم فِيهِ وَحدث بَينه وَبَين الْعَالم إِضَافَة الْمَعِيَّة وحدوث الإضافات جَائِز اتِّفَاقًا بل لَا بُد مِنْهُ وَهَذَا قَول من يَقُول الاسْتوَاء إِضَافَة مَحْضَة وَأَنه فعل فعله فِي الْعَرْش صَار بِهِ مستويا عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ خلق الْعَرْش تَحْتَهُ فَلَزِمَ أَن يكون هُوَ فَوْقه من غير حَرَكَة من الرب وَلَا تحول قَائِم بِذَاتِهِ وَالْجَوَاب الثَّانِي جَوَاب من يجوز قيام الْأَفْعَال الإرادية بِذَاتِهِ كَمَا هُوَ الْمَفْهُوم من النُّصُوص وَهَؤُلَاء يلتزمون مَا ذكر من معنى الِانْتِقَال وَالْحَرَكَة لَكِن مِنْهُم من يقر بِالْمَعْنَى دون اللَّفْظ لكَون الشَّرْع لم يرد بِهَذَا اللَّفْظ وَإِنَّمَا ورد بِلَفْظ الاسْتوَاء والمجيء وَالنُّزُول وَنَحْو ذَلِك وَمِنْهُم من يقر بِاللَّفْظِ أَيْضا وَيَقُول إِن ذَلِك لَا يسْتَلْزم الْحُدُوث وَأَن الِاسْتِدْلَال بذلك على الْحُدُوث بَاطِل وَمن قَالَ إِن ذَلِك حجَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فقد أبطل بل قصَّته تدل على نقيض الْمَطْلُوب كَمَا قد بسط كَلَام النَّاس عَلَيْهَا فِي غير هَذَا الْمَكَان وَهَذَا الَّذِي احتملته هَذِه الورقة فصل وجود الْجِنّ ثَابت بِالْكتاب وَالسّنة واتفاق سلف الْأمة وَكَذَلِكَ دُخُول الجنى فِي بدن الْإِنْسَان ثَابت بِاتِّفَاق أَئِمَّة أهل السّنة وَهُوَ أَمر مشهود محسوس لمن تدبره يدْخل فِي المصروع وَيتَكَلَّم بِكَلَام لَا يعرفهُ بل وَلَا يدربه بل يضْرب ضربا لَو ضربه جمل لمات وَلَا يحس بِهِ المصروع وَقَول تَعَالَى {الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس} وَقَوله صلى الله

عَلَيْهِ وَسلم إِن الشَّيْطَان يجْرِي من الْإِنْسَان مجْرى الدَّم وَغير ذَلِك يصدقهُ وَأما معالجة المصروع بالرقى والتعوذ حَتَّى يبرأ فَهَذَا على وَجْهَيْن فَإِن كَانَت الرقى مِمَّا يعرف مَعْنَاهُ وَهُوَ مَا يجوز فِي دين الْإِسْلَام أَن يتَكَلَّم الرجل بِهِ دَاعيا لله ذَاكِرًا لَهُ مُخَاطبا لخلقه وَنَحْوه فَإِنَّهُ يجوز أَن يرقى بهَا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذن فِي الرقى مالم تكن شُرَكَاء كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الصَّحِيح وَقَالَ من اسْتَطَاعَ أَن ينفع أَخَاهُ فَلْيفْعَل وَإِن كَانَ فِي ذَلِك كَلِمَات مُحرمَة مثل الشّرك أَو كَانَت كلهَا أَو بَعْضهَا مَجْهُول الْمَعْنى يحْتَمل أَن يكون فِيهَا مَا هُوَ كفر فَلَيْسَ لأحد أَن يرقى بهَا وَلَا يعزم وَلَا يقسم وَإِن كَانَ من نَفعه كالسيمياء وَغَيرهَا من أَنْوَاع السحر فَإِن السَّاحر السيمياوي وَإِن كَانَ ينَال بذلك بعض أغراضه فَهُوَ كَمَا ينَال الزَّانِي بعض أغراضه فَلَيْسَ للْعَبد أَن يدْفع كل ضَرَر بِمَا شَاءَ وَلَا أَن يجلب كل مَنْفَعَة بِمَا شَاءَ بل لَا بُد من تقوى الله فَمن كذب بِمَا هُوَ مَوْجُود من الْجِنّ وَالشَّيَاطِين وَالسحر وَمَا يعانيه السَّحَرَة والكهان على اخْتِلَاف أَنْوَاعه كدعاء الْكَوَاكِب وتمريخ القوى السيماوية الفعالة

فصل

بالمنفعلة الأرضية {وَمَا تنزلت بِهِ الشَّيَاطِين} {تنزل على كل أفاك أثيم} وَحُضُور الْجِنّ بِمَا يستحضرون بِهِ من الغوانم والبخور وأمثال ذَلِك كَمَا هُوَ مَوْجُود فقد كذب بِمَا لم يحط بِهِ علما وَمن جوز أَن يفعل الْإِنْسَان مَا يرَاهُ مؤثرا من غير أَن يزنه على شَرِيعَة الْإِسْلَام فقد أَخطَأ خطأ بَينا وَفِيمَا أباحته الشَّرِيعَة مِمَّا يدْفع ضَرَر الشَّيْطَان وأذاه كثير فقد ثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من قَرَأَ آيَة الْكُرْسِيّ حِين يأوي إِلَى فرَاشه لم يزل عَلَيْهِ من الله حَافِظًا وَلم يقربهُ شَيْطَان وَكَانَ يعلم أَصْحَابه أعوذ بِكَلِمَات الله التَّامَّة من غَضَبه وعقابه وَشر عباده وَمن همزات الشَّيَاطِين وَأَن يحْضرُون وَقد جمع الْعلمَاء مَا ثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذَلِك مِمَّا فِيهِ تجاه الْمُؤمنِينَ وسبيل الْمُتَّقِينَ فصل الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور سلف الْمُسلمين أَن كل مُؤمن مُسلم وَلَيْسَ كل مُسلم مُؤمنا فالمؤمن أفضل من الْمُسلم قَالَ تَعَالَى {قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} وَمن كَانَ عَالما بِمَا أَمر الله تَعَالَى بِهِ وَمَا نهى عَنهُ فَهُوَ عَالم بالشريعة وَمن لم يكن عَالما بذلك فَهُوَ جَاهِل من أَجْهَل النَّاس وَلَيْسَ الْقدَم الَّذِي بالصخور الْمَشْهُورَة عِنْد الْعَامَّة قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا قدم أحد من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَلَا يُضَاف إِلَى الشَّرِيعَة جَوَاز تقبيله وَلَا التمسح بِهِ فَلَا شَيْء من الأَرْض يقبل ويتمسح بِهِ سوى الْحجر الْأسود والراكنين اليمانيين بِالْبَيْتِ الْعَتِيق وَتَنَازَعُوا فِي جَوَاز التمسح بمنبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم كَانَ مَوْجُودا وَأَبُو بكر وَعمر وَغَيرهمَا أفضل وَأَشْجَع وأدين وَأكْرم من جَمِيع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ فَيَنْبَغِي أَن تكون الْقدْوَة لكل مُسلم بهما

فصل

وَالثَّوَاب الَّذِي هُوَ للشهرة هُوَ الثَّوَاب الَّذِي يقْصد بِهِ الِارْتفَاع عِنْد النَّاس وَإِظْهَار الترفع أَو التَّوَاضُع والزهد كَمَا جَاءَ أَن السّلف كَانُوا يكْرهُونَ الشهرتين من اللبَاس الْمُرْتَفع والمنخفض وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث من لبس ثوب شهرة ألبسهُ الله ثوب مذلة فَإِنَّهُ عُوقِبَ بنقيض قَصده وَجَاء فِي الحَدِيث إِن لكل عَامل شَره وَلكُل شرة فَتْرَة فَإِن صَاحبهَا سدد وقارب فارجوه وَإِن أُشير إِلَيْهِ بالأصابع فَلَا تعدوه وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله إِذا دخلت السُّوق وَأَشَارَ النَّاس إِلَيْك بالأصابع فَقيل إِنَّه لم يرد هَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ المبتدع فِي النَّاس والفاجر فِي دينه أَي أَشَارَ إِلَيْهِ بِخُرُوجِهِ عَن الطَّرِيق الشَّرْعِيَّة وَمن قَالَ إِن أحدا من أَوْلِيَاء الله يَقُول للشَّيْء كن فَيكون فَإِنَّهُ يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل فَإِنَّهُ لَا يقدر أحد على ذَلِك إِلَّا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَيْسَ كل مَا يُريدهُ أَن آدم يحصل لَهُ وَلَو كَانَ من كَانَ لَكِن فِي الْآخِرَة يحصل لَهُ كل مَا يُرِيد فَإِذا اشْتهى حصل لَهُ ذَلِك بقدرة الله تَعَالَى فصل أَعمال الْقُلُوب الَّتِي تسمى المقامات وَالْأَحْوَال وَهِي من أصُول الْإِيمَان وقواعد الدّين مثل محبَّة الله وَرَسُوله والتوكل على الله وإخلاص الدّين لَهُ وَالشُّكْر لَهُ وَالصَّبْر على حكمه وَالْخَوْف مِنْهُ والرجاء لَهُ وَمَا يتبع ذَلِك كل ذَلِك وَاجِب على جَمِيع الْخلق المأمورين بِأَصْل الدّين بِاتِّفَاق أَئِمَّة الدّين وَالنَّاس فِيهَا على ثَلَاث دَرَجَات كَمَا هم فِي أَعمال الأبدال على ثَلَاث دَرَجَات أَيْضا ظَالِم لنَفسِهِ ومقتقصد وسابق بالخيرات فالظالم العَاصِي بترك مأمورات وبفعل مَحْظُورَات والمقتصد الْمُؤَدِّي للواجبات والتارك للمحرمات وَالسَّابِق بالخيرات المتقرب بِمَا يقدر عَلَيْهِ من اواجب ومستحب والتارك للْمحرمِ وَالْمَكْرُوه وَإِن كَانَ كل من المقتصد وَالسَّابِق

قد يكون لَهُ ذنُوب تمحى عَنهُ إِمَّا التَّوْبَة وَالله يجب التوابين وَإِمَّا بحسنات ماحية وَإِمَّا بمصائب مكفرة وَإِمَّا بِغَيْر ذَلِك وكل من السَّابِقين والمقتصدين أَوْلِيَاء الله فَإِن أَوْلِيَاء الله تَعَالَى هم الَّذين قَالَ فيهم تَعَالَى {أَلا إِن أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} فحد أَوْلِيَاء الله هم الْمُؤْمِنُونَ المتقون وَأما الظَّالِم لنَفسِهِ فَهُوَ من أهل الْإِيمَان فمعه ولَايَة بِقدر إيمَانه وتقواه كَمَا مَعَه ولَايَة الشَّيْطَان بِقدر فجوره إِذْ الشَّخْص الْوَاحِد يجْتَمع فِيهِ الْحَسَنَات والسيئات حَتَّى يُمكن أَن يُثَاب ويعاقب وَهَذَا قَول جَمِيع الصَّحَابَة وأئمة الْإِسْلَام وَأهل السّنة بِخِلَاف الْخَوَارِج والمعتزلة الْقَائِلين بِأَنَّهُ لَا يخرج من النَّار من دَخلهَا ن أهل الْقبْلَة وَأَنه لَا شَفَاعَة للرسول وَلَا لغيره فِي أهل الْكَبَائِر لَا قبل دُخُول النَّار وَلَا بعْدهَا فعندهم لَا يجْتَمع فِي شخص حَسَنَات وسيئات وَدَلَائِل هَذَا الأَصْل مبسوطة فِي مَوضِع آخر وأصل الدّين هُوَ الْأُمُور الظَّاهِرَة والباطنة من الْعُلُوم والأعمال فَإِن الْأَعْمَال الظَّاهِرَة لَا تَنْفَع بِدُونِ العقائد الصَّحِيحَة كَمَا فِي الحَدِيث إِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله أَلا وَهِي وَالْقلب وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ الْقلب ملك والأعضاء جُنُوده فَإِذا طَابَ الْملك طابت جُنُوده إِذا خبث خبثت جُنُوده وَأما الْحزن فَلم يَأْمر الله بِهِ بل نهى عَنهُ فِي مَوَاضِع مثل قَوْله تَعَالَى {وَلَا تهنوا وَلَا تحزنوا} وَقَوله {لَا تحزن إِن الله مَعنا} وَقَوله {لكيلا تحزنوا} وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يجلب مَنْفَعَة وَلَا يدْفع مضرَّة فَلَا فَائِدَة فِيهِ ومالا فَائِدَة فِيهِ لَا يَأْمر الله بِهِ نعم وَلَا يَأْثَم صَاحبه إِذا لم يقْتَرن بحزنه محرم كَمَا يحزن على المصائب كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله لَا يُؤْخَذ على دمع الْعين وَلَا على حزن الْقلب وَقد يقْتَرن بِالْقَلْبِ مَعَ الْحزن مَا يُثَاب صَاحبه عَلَيْهِ ويحمد عَلَيْهِ يكون مَحْمُودًا من تِلْكَ الْجِهَة لَا من جِهَة الْحزن كالمخزون

على مُصِيبَة فِي دينه وعَلى مصائب الْمُسلمين عُمُوما فَهَذَا يُثَاب على قدر مَا فِي قلبه من حب الْخَيْر وبغض الشَّرّ وتوابع ذَلِك وَلَكِن الْحزن إِذا أفْضى إِلَى ترك مَأْمُور من الصَّبْر وَالْجهَاد وجلب مَنْفَعَة وَدفع مضرَّة نهي عَنهُ وَإِلَّا كَانَ حَسبه رفع الْإِثْم عَنهُ من جِهَة الْحزن وَأما إِذا أقضى إِلَى ضعف الْقلب ووهنه واشتغاله على فعل مَا أَمر الله بِهِ وَرَسُوله فانه يكون مذموما من تِلْكَ الْجِهَة وَإِن كَانَ مَحْمُودًا من جِهَة أُخْرَى وَأما الْمحبَّة لله والتوكل عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاص لَهُ فَهَذِهِ كلهَا خير مَحْض وَهِي حَسَنَة محبوبة فِي حق كل من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَلَا يخرج عَنْهَا مُؤمن قطّ وَهَذِه المقامات للخاصة خاصتها وللعامة عامتها وَالْعِبَادَة هِيَ الْغَايَة الَّتِي خلق الله لَهَا الْعباد من جِهَة أَمر الله ومحبته وَرضَاهُ وَهُوَ اسْم يجمع كَمَال الْحبّ لَهُ ونهايته وَكَمَال الذل ونهايته وَالْحب الْخَالِي عَن الذل والذل الْخَالِي عَن الْحبّ لَا يكون عبَادَة وَإِنَّمَا الْعِبَادَة مَا جمع كَمَال الْأَمريْنِ وَلِهَذَا كَانَت الْعِبَادَة لَا تصلح إِلَّا لله وَهِي وَإِن كَانَت للْعَبد مَنْفَعَتهَا فان الله غَنِي عَن الْعَالمين فَهِيَ لَهُ من جِهَة أُخْرَى من جِهَة محبته لَهَا وَرضَاهُ بهَا وَلِهَذَا كَانَ الله أَشد فَرحا بتوبة عَبده من الفاقد لراحلته عَلَيْهَا طَعَامه وَشَرَابه فِي أَرض دوية مهلكة وَقد نَام آيسا مِنْهَا ثمَّ اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَهَا فَإِنَّهُ أَشد فَرحا بتوبة عَبده من هَذَا براحلته وَهَذَا يتَعَلَّق بِهِ أمورا جليلة شرحناها فِي غير هَذَا الْموضع وروى الطَّبَرَانِيّ فِي كتاب الدُّعَاء أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَقُول الله تَعَالَى يَا ابْن آدم إِنَّمَا هِيَ أَربع وَاحِدَة لي وَوَاحِدَة لَك وَوَاحِدَة بيني وَبَيْنك وَوَاحِدَة فعملك أجزيك بِهِ وَأما الَّتِي بيني وَبَيْنك وَبَين خلقي أما الَّتِي لي فتعبدني وَلَا تشرك بِي شَيْئا وَأما الَّتِي هِيَ لَك فعملك أجزيك بِهِ وَأما الَّتِي بيني وَبَيْنك فمنك الدُّعَاء وَعلي الْإِجَابَة وَأما التبي بَيْنك وَبَين خلقي فَأَنت إِلَى النَّاس مَا تحب أَن يأتوه إِلَيْك وَطلب الْعلم الْوَاجِب لكَونه معينا على كل أحد إِمَّا لكَونه مُحْتَاجا إِلَى جَوَاب مسَائِل فيأصوال دينه أَو فروعه وَلَا يجد فِي بَلَده من يجِيبه وَإِمَّا لكَونه فرضا

فصل

على الْكِفَايَة وَلم يقم بِهِ يسْقط الْفَرْض فَيجوز السّفر لطلب ذَلِك بِدُونِ رضَا الْوَالِدين فَلَا طَاعَة لَهما فِي ترك فَرِيضَة فصل وَمن قَالَ إِن الله تَعَالَى لم يكلم مُوسَى تكلما فَإِنَّهُ يعرف نَص الْقُرْآن فَإِن أنكرهُ بعد ذَلِك استتيب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل فالكفر لَا يكون إِلَّا بعد الْبَيَان وَأما الْأَئِمَّة الَّذين أفتوا بقتل الْجَهْمِية الَّذين أفتوا بقتل الْجَهْمِية الَّذين يُنكرُونَ رُؤْيَة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْآخِرَة وتكليمه مُوسَى وَيَقُولُونَ الْقُرْآن مَخْلُوق وَنَحْو ذَلِك فَقيل إِنَّهُم أمروا بِقَتْلِهِم لأجل كفرهم وَقيل إِذا دعوا النَّاس إِلَى بدعتهم أَضَلُّوا النَّاس فَقتلُوا لأجل منع الْفساد فِي الأَرْض وحفظا لدين النَّاس أَن يضلوهم وَبِالْجُمْلَةِ فقد اتّفق سلف الْأمة وأئمتها على أَن الْجَهْمِية من شَرّ طوائف المبتدعين حَتَّى أخرجوهم عَن الثِّنْتَيْنِ وَالسبْعين فرقة وَمن الْجَهْمِية المتفلسفة والمعتزلة الَّذين يَقُولُونَ كَلَام الله مَخْلُوق وَأَنه لَا يرى فِي الْآخِرَة وَأَنه لَيْسَ مباينا لخلقه وأمثال هَذِه المقالات المستلزمة تَعْطِيل الْخَالِق وَلَيْسَ كل من خَالف مَا علم بطرِيق الْعقل كَانَ كَافِرًا وَلَو قدر أَنه جحد بعض صرائح الْعقل لم يحكم بِكُفْرِهِ حَتَّى يكون كفرا فِي الشَّرِيعَة بِخِلَاف من خَالف مَا علم أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَ بِهِ فَإِنَّهُ كَافِر بِلَا نزاع وَذَلِكَ أَنه لَيْسَ فِي الْكتاب وَالسّنة وَلَا فِي قَول أحد من الْأمة الْإِخْبَار عَن الله بِأَنَّهُ متحيز أَو لَيْسَ بمتحيز وَلَا فِي الْكتاب وَالسّنة أَن من قَالَ هَذَا أَو هَذَا يكفر وَهَذَا اللَّفْظ مُبْتَدع وَالْكفْر لَا يتَعَلَّق بِمُجَرَّد أَسمَاء مبتدعة لَا أصل لَهَا بل يستفسر هَذَا الْقَائِل فَإِن قَالَ أَعنِي أَنه متحيز أَي دَاخل فِي الْمَخْلُوقَات قد حازته فَهَذَا بَاطِل وَإِن قَالَ أَعنِي أَنه منحاز عَن الْمَخْلُوقَات مباين لَهَا فَهَذَا حق وَكَذَلِكَ قَوْله وَلَيْسَ بمتحيز إِن أَرَادَ أَن الْمَخْلُوق لَا يجوز الْخَالِق فقد أصَاب وَإِن قَالَ الْخَالِق لَا يباين الْمَخْلُوق فقد أَخطَأ

فصل

فصل السماع الَّذِي أَمر الله بِهِ وَرَسُوله هُوَ سَماع الْقُرْآن كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِذا تتلى عَلَيْهِم آيَات الرَّحْمَن خروا سجدا وبكيا} وَقَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين أُوتُوا الْعلم من قبله إِذا يُتْلَى عَلَيْهِم يخرون للأذقان سجدا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبنَا إِن كَانَ وعد رَبنَا لمفعولا ويخرون للأذقان يَبْكُونَ ويزيدهم خشوعا} وَقَالَ {وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول ترى أَعينهم تفيض من الدمع} وَقَالَ {وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا} وَقَالَ {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون} وَقَالَ {وَإِذ صرفنَا إِلَيْك نَفرا من الْجِنّ يَسْتَمِعُون الْقُرْآن} وَقَالَ {الله نزل أحسن الحَدِيث كتابا متشابها مثاني تقشعر مِنْهُ جُلُود الَّذين يَخْشونَ رَبهم ثمَّ تلين جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذكر الله} وَهَذَا كثير فِي الْقُرْآن وذم المعرضين عَنهُ فِي مثل قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن والغوا فِيهِ} وَقَوله {وَمن أظلم مِمَّن ذكر بآيَات ربه فَأَعْرض عَنْهَا} وَقَوله {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} وَشرع سَمَاعه فِي عشَاء الْآخِرَة وَالْمغْرب وَأعظم سَماع شَرعه فِي الْفجْر وَقَالَ تَعَالَى {وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا} قَالَ عبد الله ابْن رَوَاحَة رَضِي الله عَنهُ يمدح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفينَا رَسُول الله يَتْلُو كِتَابه إِذا انْشَقَّ مَعْرُوف من الْفجْر سَاطِع ... أرانا الْهدى بعد الْعَمى فَقُلُوبنَا بِهِ مُوقِنَات أَن مَا قَالَ وَاقع ... يبيت يُجَافِي جنبه عَن فرَاشه إِذا استثقلت بالمشركين الْمضَاجِع وَالِاسْتِمَاع لِلْقُرْآنِ مُسْتَحبّ للْمُؤْمِنين كَمَا فِي الصَّحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

قَالَ لِابْنِ مَسْعُود اقْرَأ عَليّ فَقلت أقرأع عَلَيْك وَعَلَيْك أنزل فَقَالَ إِنِّي أحب أَن أسمعهُ من غَيْرِي فَقَرَأت عَلَيْهِ سُورَة النِّسَاء حَتَّى قَرَأت قَوْله عز وَجل {فَكيف إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ شَهِيدا} فَقَالَ حَسبك فَنَظَرت فَإِذا عَيناهُ تَذْرِفَانِ وَكَانَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِذا اجْتَمعُوا أمروا أحدهم أَن يقْرَأ وَالْبَاقُونَ يَسْتَمِعُون وَهَذَا السماع لَهُ آثَار إيمانية من المعارف القدسية وَالْأَحْوَال الكونية يطول شرحها وَله فِي الْجَسَد آثَار محمودة من خشوع الْقلب ودموع الْعين واقشعرار الْجُلُود وَقد ذكر الله تَعَالَى هَذِه الثَّلَاثَة فِي الْقُرْآن وَكَانَت مَوْجُودَة فِي الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَحدث بعدهمْ آثَار ثَلَاثَة من الِاضْطِرَاب والصراخ وَالْإِغْمَاء أَو الْمَوْت فَأنْكر بعض السّلف ذَلِك إِمَّا لبدعتهم وَإِمَّا للتصنع خَاصَّة وَجُمْهُور السّلف لَا يُنكر ذَلِك إِذا كَانَ السماع شرعا فَإِن السَّبَب إِذا لم يكن محضورا كَانَ صَاحبه مَعْذُورًا وَسَببه ضعف الْقلب وَقُوَّة الْوَارِد وَلَو لم يُؤثر لَكَانَ مذموما ملوما كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِين أُوتُوا الْكتاب من قبل فطال عَلَيْهِم الأمد فقست قُلُوبهم وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ} وَلَو أثر آثارا محمودة وَلم يخرج عَن الْعقل لَكَانَ أكمل وَأما سَماع القصائد لصلاح الْقُلُوب والاجتماع على ذَلِك إِمَّا نشيدا مُجَردا وَإِمَّا مَقْرُونا بالتغيير وَنَحْوه مثل الضَّرْب بالقضيب على الْجُلُود حَتَّى يطير الْغُبَار وَمثل التصفيق وَنَحْوه فَهَذَا السماع مُحدث فِي الْإِسْلَام بعد ذهَاب الْقُرُون الثَّلَاثَة وَقد كرهه أَعْيَان الْأَئِمَّة وَلم يحضرهُ أكَابِر الْمَشَايِخ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله خلفت بِبَغْدَاد شَيْئا أحدثته الزَّنَادِقَة يسمونه التَّغْيِير يصدون بِهِ النَّاس عَن الْقُرْآن وَسُئِلَ الإِمَام أَحْمد عَنهُ فَقَالَ هُوَ مُحدث أكرهه قيل لَهُ إِنَّه يرقق الْقلب قَالَ لَا تجْلِس مَعَهم قيل أيهجرون فَقَالَ لَا يبلغ بهم هَذَا

كُله فَتبين أَنه بِدعَة وَلَو كَانَ النَّاس فِيهِ مَنْفَعَة لفعله الْقُرُون الثَّلَاثَة وَلم يحظروه مثل ابْن أدهم والفضيل ومعروف والسرى وَأبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي وَالشَّيْخ عبد الْقَادِر وَغَيرهم وَكَذَلِكَ أَعْيَان الْمَشَايِخ وَقد حَضَره جمَاعَة من الْمَشَايِخ وشرطوا لَهُ الْمَكَان والإمكان والخلان وَأكْثر الَّذين حَضَرُوهُ من الْمَشَايِخ الْمَعْرُوف بهم رجعُوا عَنهُ فِي آخر عمرهم كالجنيد فَكَانَ يَقُول من تكلّف السماع فتن وَمن صادفه استراح فقد ذمّ من يجمع لَهُ وَرخّص لمن لَا يَقْصِدهُ بل صادقه وَسبب ذَلِك أَنه فِي شعر يُحَرك حب الرَّحْمَن والمردان والنسوان والصلبان والإخوان والأوطان فقد يكون فِيهِ مَنْفَعَة إِذا حرك السَّاكِن وكما مِمَّا يُحِبهُ الله وَرَسُوله لَكِن فِيهِ مضرَّة راجحة على منفعَته كَالْخمرِ وَالْميسر فَإِن {فيهمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافع للنَّاس وإثمهما أكبر من نفعهما} فَلهَذَا لم تأت بِهِ الشَّرِيعَة فَإِنَّهَا لم تأت إِلَّا بِالْمَصْلَحَةِ الْخَالِصَة أَو الراجحة أما مَا غلبت مفسدته فَلَا تَأتي بِهِ شَرِيعَة من الله وَكَذَلِكَ فانه يهيج الوجد الْمُشْتَرك فيثير من النَّفس كوامن تضره آثارها وتعدى النَّفس وتتعبها بِهِ فيعتاض بِهِ عَن سَماع الْقُرْآن حَتَّى لَا يبْقى فِيهَا محبَّة لسَمَاع الْقُرْآن وَلَا التذاذ بِهِ بل يبْقى فِي النَّفس بغض لذَلِك كمن شغل نَفسه بتَعَلُّم علم التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وعلوم أهل الْكَنَائِس واستفادة الْعلم وَالْحكمَة مِنْهُم وَأعْرض بذلك عَن كتاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَشْيَاء أخر يطول شرحها فَلَمَّا كَانَ هَذَا السماع لَا يعْطى بِنَفسِهِ مَا يجب الله وَرَسُوله من

الْأَحْوَال والمعارف بل قد يصدر عَن ذَلِك وَيُعْطى عَن ذَلِك وَيُعْطى مَالا يُحِبهُ وَرَسُوله أَو مَا يبغضه لم يَأْمر الله بِهِ وَلَا رَسُوله وَلَا سلف الْأمة وَلَا أَعْيَان مشايخها ونكتة ذَلِك أَن الصَّوْت يُؤثر فِي النَّفس بِحَسبِهِ فَتَارَة يفرح وَتارَة يحزن وَتارَة يغْضب وَتارَة يرضى وَإِذا قوى أسكر الرّوح فَيصير فِي لَذَّة مطربة من غير تَمْيِيز كَمَا يحصل لَهَا إِذا سكرت بالصور وللجسد إِذا سكر بِالطَّعَامِ أَو الشَّرَاب فَإِن السكر هُوَ الطَّرب الَّذِي يُورث لَذَّة بِلَا عقل فَلَا تقوم مَنْفَعَة تِلْكَ اللَّذَّة يحصل من غيبَة الْعقل الَّذِي صدته عَن ذكر الله تَعَالَى وَعَن الصَّلَاة وأورثته الْعَدَاوَة والبغضاء وَبِالْجُمْلَةِ فعلى الْمُؤمن أَن يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يتْرك شَيْئا يقرب إِلَى الْجنَّة إِلَّا وَقد حدث بِهِ وَلَا شَيْئا يبعد عَن النَّار إِلَّا وَقد حدث بِهِ وَلَو كَانَ فِي هَذَا السماع مصلحَة شَرْعِيَّة لشرعه الله وَرَسُوله فَإِنَّهُ تبَارك وَتَعَالَى يَقُول {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} وَإِذا وجد مَنْفَعَة بِقَلْبِه وَلم يجد شَاهد ذَلِك من الْكتاب وَالسّنة لم يلتقت إِلَيْهِ كَمَا أَن الْفَقِيه إِذا أَرَادَ قِيَاسا لَا يشيهد لَهُ الْكتاب وَالسّنة لم يلْتَفت إِلَيْهِ وَيكون بَاطِلا وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي إِنَّه ليمر بقلبي النُّكْتَة من نكت الْقَوْم فَلَا أقبلها إِلَّا بشاهدي عدل الْكتاب وَالسّنة وَقَالَ أَيْضا لَيْسَ لمن ألهم شَيْئا من الْخَيْر أَن يقبله حَتَّى يجد فِيهِ أثرا فَإِذا وجد فِيهِ أثرا كَانَ نورا وَقَالَ الْجُنَيْد علما هَذَا مُقَيّد بِالْكتاب وَالسّنة فَمن لم يقْرَأ الْقُرْآن ويتلقى الحَدِيث لم يصلح لَهُ أَن يتَكَلَّم فِي علمنَا وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية} فالمكاء الصفير والتصدية التصفيق بِالْيَدِ فقد أخبر عَن الْمُشْركُونَ أَنهم كَانُوا يجْعَلُونَ التصفيق والتصدية والغناء لَهُم صَلَاة وَعبادَة وقربة يعتاضون بهَا عَن الصَّلَاة الَّتِي شرعها الله وَرَسُوله

وَأما الْمُسلمُونَ من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رَضِي الله عَنْهُم فصلاتهم الْقُرْآن واستماعه وَالرُّكُوع واسجود وَذكر الله تَعَالَى ودعاؤه وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يُحِبهُ الله فَمن اتخذ الْغناء والتصفيق عبَادَة فقد شابه الْمُشْركين فَإِن فعله فِي بيُوت الله فقد شابههم أَكثر وَأكْثر واشتغل بِهِ عَن الصَّلَاة وَالْقُرْآن فقد عظمت المشابهة لَهُم وَصَارَ لَهُ كفل عَظِيم من الذَّم الَّذِي دلّت عَلَيْهِ آيَات الْقُرْآن لَكِن قد يغْفر لَهُم بحسنات أَو اجْتِهَاد أَو غير ذَلِك مِمَّا يفْتَرق فِيهِ الْمُسلم وَالْكَافِر لَكِن مُفَارقَته للْمُشْرِكين فِي غير هَذَا لَا يمْنَع أَن يكون ملوما خَارِجا عَن الشَّرِيعَة دَاخِلا فِي الْبِدْعَة الَّتِي ضاهأ بهَا الْمُشْركين فَيَنْبَغِي لِلْمُؤمنِ أَن يتفطن لهَذَا وَيفرق بَين سَماع الْمُسلمين الَّذين أَمر الله بِهِ وَسَمَاع الْمُشْركين الَّذِي نهى عَنهُ وَيعلم أَن هَذَا السماع الْمُحدث من جنس سَماع الْمُشْركين وَمَعَ ذَلِك فقد شرطُوا لَهُ شُرُوطًا لَا تكَاد تُوجد فِي سَماع فعامة هَذِه السماعات خَارِجَة عَن إِجْمَاع الْمَشَايِخ وَلَيْسَ للْعَالمين شَرِيعَة سوى الَّتِي جَاءَ بهَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخير الْكَلَام كَلَام الله وَخير الْهدى هدى مُحَمَّد وَقد تزندق بعض الْكَذَّابين وروى أَنه أَعْرَابِيًا أنْشد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد لسعت حَيَّة الْهوى كبدى فَلَا طيب لَهَا وَلَا راقى ... إِلَّا الحبيب الَّذِي شغفت بِهِ فَعنده رقيتي وترياقي وَأَنه تواجد حَتَّى سقط رِدَاؤُهُ عَن مَنْكِبه وَقَالَ النَّبِي لَيْسَ بكريم من لم يتواجد عِنْد ذكره محبوبه وَهَذَا كذب بِإِجْمَاع العارفين بسيرة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبسنته وأحواله كَمَا كذب بَعضهم وَادّعى أَن أهل الصّفة قَاتلُوا الْمُسلمين مَعَ الْمُشْركين فَهَذَا كُله قد افتراه من خرج عَن أَمر الله وَرَسُوله ونفقت على طوائف من الْجَاهِلين وَأما الرَّفْض فَلم يَأْمر الله بِهِ وَلَا رَسُوله وَلَا أحد من الْأَئِمَّة بل قَالَ تَعَالَى {وَلَا تمش فِي الأَرْض مرحا} والرقص نوع من ذَلِك

فصل

وَلَيْسَ لأحد أَن يتعاطى مَا يكره ويخرجه عَن عقله فَمن كَانَ صَادِقا فِي هَذِه الْأَحْوَال فَهُوَ مُبْتَدع ضال من جنس خفر الْعَدو وَأَعْوَان الظلمَة وَمن كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ مُنَافِق ضال وَقَالَ الْجُنَيْد من وقر صَاحب بِدعَة فقد أعَان على هدم الْإِسْلَام وَمن انتهر صَاحب بِدعَة مَلأ الله قلبه إِيمَانًا وَإِذا كَانَ غير مَشْرُوع وَلَا مَأْمُور بِهِ فالتعبد بِهِ واستفتاح بَاب الرَّحْمَة بِهِ هُوَ من جنس عبَادَة الرهبان لَيْسَ من عبَادَة أهل الْإِسْلَام وَالْإِيمَان فصل وَأما دَعَا غير الله والاستعانة بِغَيْرِهِ فَلَا يجوز وَإِن جَازَ أَن يتوسل برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي فِي حَال حَيَاته لَا بعد مَوته وَلِهَذَا لم يرد عَن السّلف أَنهم توسلوا بِعْ مَوته مثلأن يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك وأتوسل إِلَيْك بنبيك نَبِي الرَّحْمَة يَا مُحَمَّد يَا رَسُول الله إِنِّي أتوسل بك إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتي ليقضيها لي اللَّهُمَّ شفعه فِي على حَدِيث الْأَعْمَى لَو صَحَّ وَلَا يجوز أَن يَقُول يَا رَسُول الله اغْفِر لي وَلَا يَا رَسُول الله ارْحَمْنِي وَلَا تب على وَلَا أَعنِي وَلَا أنصرني وَلَا أَغِثْنِي وَلَا افْتَحْ عَيْني من الْعَمى لَأبْصر بهما وَلَا يدعى إِلَّا الله وَحده وَلَا يعبد إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ {وَأَن الْمَسَاجِد لله فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا} وَلَا يجوز أَن يدعى أحد من الْمَلَائِكَة وَلَا النَّبِيين فَكيف بالمشايخ وَلَكِن حق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نؤمن بِهِ ونعزره ونوقره ونتبعه وَيكون أحب إِلَيْنَا من أَنْفُسنَا وأهلنا وَأَمْوَالنَا وَأَوْلَادنَا وولاة الْأُمُور من الْعلمَاء والمشايخ والملوك والأمراء لَهُم حُقُوق كل بحسبة فِيمَا أَمر الله بِهِ وَرَسُوله وَأما الْعِبَادَة والاستعانة وتوابعها فَللَّه {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} وَلَا يجوز لأحد أَن يحلف بحياة أَبِيه أَو نَفسه أَو شَيْخه أَو تربته أَو بِرَأْسِهِ أَو رَأس فلَان

فصل

وَلَا بِنِعْمَة السُّلْطَان وَلَا بِالسَّيْفِ وَلَا بِغَيْر الله وَالله يوفقنا وَسَائِر إِخْوَاننَا إِلَى مَا يُحِبهُ ويرضاه فصل وَلَيْسَ لجبل لبنان وَأَمْثَاله فضل وَلَا ورد نَص فِي ذَلِك عَن الله وَلَا عَن رَسُوله بل هُوَ كَغَيْرِهِ من الْجبَال الَّتِي خلقهَا الله تَعَالَى وَأما مَا يذكر فِي بعض الحكايات من الاجتماعات بِبَعْض الْعباد فِي جبل لبنان وجبل اللكام وَنَحْوه وَمَا يُؤثر عَن بعض من حميد الْمقَال فَلِأَن هَذِه الْأَمْكِنَة كَانَت ثغورا يرابط بهَا الْمُسلمُونَ فِي جِهَاد الْعَدو فَكَانَت غَزَّة وعسقلان وعكا وبيروت وجبل لبنان وطرابلس ومصيصة وسيس وطرطوس وأدنة وجبل اللكان وملطية وآمد إِلَى قزوين إِلَى الشاش وَنَحْو ذَلِك من الْبِلَاد كَانَت ثغورا كَمَا كَانَت الأسكندرية وعبادان وَكَانَ الصالحون يأْتونَ الثغور لأجل الْجِهَاد والمرابطة فِي سَبِيل الله تَعَالَى فَإِن المرابطة فِي سَبِيل الله تَعَالَى أفضل من الْإِقَامَة بِمَكَّة وَالْمَدينَة مَا ألم فِي ذَلِك خلافًا فَكَانَ صَالحُوا الْمُؤمنِينَ من السّلف يرابطون فِي هَذِه الْأَمَاكِن كالأوزاعي وَإِسْحَاق القزارى ومخلد بن الْحُسَيْن وَإِبْرَاهِيم بن أدهم وَعبد الله ابْن الْمُبَارك وَحُذَيْفَة المرعش ويوسف بن أَسْبَاط وَغَيرهم وَأحمد بن حَنْبَل وسرى السقطى وَغَيرهمَا كَانَا يقصدان طرسوس فعامة مَا يذكر فِي فضل هَذِه الْأَمَاكِن من كَلَام الْمُتَقَدِّمين هُوَ الْأَجَل كَونهَا كَانَت ثغورا لَا لخاصية فِي ذَلِك الْمَكَان وَكَون الْبقْعَة ثغرا وَغير ثغر هُوَ من الصِّفَات الْعَارِضَة لَهَا لَا اللَّازِمَة بِمَنْزِلَة دَار إِسْلَام أَو دَار كفر وَذَلِكَ يخْتَلف باخْتلَاف سكانها وصفاتهم بِخِلَاف الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة فَإِن حرمتهَا صفة لَازِمَة لَهَا لَا يُمكن إخْرَاجهَا عَنْهَا وَأما سَائِر الْمَسَاجِد فَفِيهَا للْعُلَمَاء نزاع فِي جَوَاز تغييرها

للْمصْلحَة وَجعلهَا غير مَسْجِد كَمَا فعل عمر بن الْخطاب بِمَسْجِد الْكُوفَة لما بدله وَجعله حوانيت للتمارين وَهَذَا مَذْهَب إِمَام الْأَئِمَّة أَحْمد وَغَيره وَكَانَ قد فتح الْمُسلمُونَ قبرص فتحهَا مُعَاوِيَة فِي خلَافَة عُثْمَان فَكَانَت هَذِه الْأَمَاكِن من السواحل الشامية ثغورا ثمَّ فِي أثْنَاء الْمِائَة الرَّابِعَة حِين تغلب الرافضة والمنافقون على الْخلَافَة وَصَارَ لَهُم دولة بِمصْر وَالشَّام تغلبت النَّصَارَى على عَامَّة السواحل وَأكْثر بِلَاد الشَّام وقهروا الروافض وَالْمُنَافِقِينَ وَغَيرهم إِلَى أَن يسر الله لَهُم بِولَايَة مُلُوك السّنة مثل نور الدّين وَصَلَاح الدّين فاستنفذوا عَامَّة الشَّام من النَّصَارَى وَبقيت بقايا الروافض وَالْمُنَافِقِينَ فِي جبل لبنان وَغَيره وَلَيْسَ لَهُ فَضِيلَة وَلَا يشرع السّفر اليه سفر قربَة بل وَلَا يجوز الْمقَام بَين النَّصَارَى وَالرَّوَافِض إِذا منعُوا الْمُسلم عَن إِظْهَار دينه وَقد صَار طَائِفَة من الَّذين يؤثرون الْخلْوَة يحبونَ هَذِه الْأَمَاكِن ويظنون أَن فضيلتها لأجل مَا فِيهَا من الْخلْوَة ويقصدونها لأجل ذَلِك وَهَذَا غلط وَخطأ فَإِن سُكْنى الْجبَال والغيران والبوادي غير مَشْرُوطَة للْمُسلمين إِلَّا عِنْد الْفِتْنَة تكون فِي الْأَمْصَار أَو غَيرهَا من الْأَمَاكِن الَّتِي تخرج الرجل لي ترك دينه فيهاجر الْمُسلم من أَرض يعجز فِيهَا عَن إِقَامَة دينه إِلَى أَرض يُمكنهُ فِيهَا إِقَامَة دينه وَرُبمَا كَانَ فِي جبل لبنان فِي بعض الْأَوْقَات من الزهاد والنساك من هُوَ إِمَّا ظَالِم لنَفسِهِ وَإِمَّا مقتصد مخطىء مغْفُور لَهُ وَأما السَّابِقُونَ فهم لذين يَتَقَرَّبُون بالنوافل بعد الْفَرَائِض على هدى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَي بقْعَة كَانُوا وَلَا خلاف أَن جنس فضل سَاكِني الْجبَال والبوادي كفضيلة الْقَرَوِي على البدوي وَالْمُهَاجِر على الْأَعرَابِي قَالَ الله تَعَالَى {الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقا وأجدر أَلا يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله على رَسُوله} وَفِي الحَدِيث إِن من الْكَبَائِر أَن يرْتَد الرجل أَعْرَابِيًا بعد الْهِجْرَة هَذَا فِيمَن هـ وَسَاكن فِي الْبَادِيَة بَين الْجَمَاعَة فَكيف بالمقيم وَحده دَائِما فِي جبل أَو بادية فَإِنَّهُ يفوتهُ من مصَالح دينه نَظِير

مَا يفوتهُ من مصَالح الدُّنْيَا أَو قَرِيبا مِنْهَا فَإِن يَد الله على الْجَمَاعَة والشيطان مَعَ الْوَاحِد وَهُوَ من الاثنيين أبعد وَأما اعْتِقَاد بعض الْجُهَّال أَن فِيهِ الْأَرْبَعين الأبدال فَهَذَا جهل وضلال مَا اجْتمع فِيهِ فِيهِ الأبدال الْأَرْبَعُونَ قطّ وَلَا هُوَ مَشْرُوع لَهُم وَلَا فَائِدَة فِي ذَلِك بل وَلَيْسَ هُنَاكَ أبدال على مَا يتوهمون وَهُوَ نَظِير اعْتِقَاد الرافضة فِي الإِمَام الْمَعْصُوم صَاحب الزَّمَان الَّذِي يَقُولُونَ إِنَّه غَائِب عَن الْأَبْصَار فِي سرداب سامرا ويعظمون قدره ويستفتونه فِي مسائلهم الدِّينِيَّة والدنيوية على يَد السَّدَنَة القائمين مِنْهُم عِنْد السرداب ويرجون بركته وَهُوَ مَعْدُوم لَا حَقِيقَة لَهُ فَكل من علق دينه بالمجهولات فَهُوَ من أهل الضلال وَكَذَلِكَ قَول بعض الْجُهَّال إِن بِهِ أَو بِغَيْرِهِ رجال الْغَيْب فقد ضلوا وأضلوا بِهِ كثيرا من الأتراك والجهال وأكلوا أَمْوَالهم بِالْبَاطِلِ وَلم يكن من أَوْلِيَاء الله من هُوَ غَائِب الْجَسَد عَن أنظار النَّاس وَلَكِن يغيب كثير مِنْهُم عَن النَّاس حَقِيقَة قلبه وَمَا فِي نَفسه من ولَايَة فَيكون بَين عَامَّة النَّاس من وَهُوَ من أَوْلِيَاء الله ولاي علم أحد مِنْهُم حَاله كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رب أَشْعَث أغبر ذِي طمرين مَدْفُوع بالأبواب لَو أقسم على الله لَأَبَره وَلَيْسَ ذَلِك محصورا فِي رثاثة الْحَال وَلَا قذارة الثِّيَاب بل الْولَايَة فِي كل مُؤمن تَقِيّ كَمَا قَالَ {أَلا إِن أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وَكَذَلِكَ خبر الرجل الَّذِي ينْبت الشّعْر على جَمِيع بدنه كالمعز بَاطِل مَحل نعم قد يكون فِي الضلال من الزهاد من يتْرك الْحلق السّنة والسنين فينبت الشّعْر وَيكثر على جسده كصوفية الْهِنْد الوثنيين فَيَنْبَغِي أَن يُؤمر بِمَا أَمر الله وَرَسُوله من إحفاء الشَّوَارِب ونتف الْإِبِط وَحلق الْعَانَة فَإِن ظن أَن هَدِيَّة أفضل من هدى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَافِر وَالْمَقْصُود أَن الاعتناء بِهَذَا الْجَبَل هُوَ من الجهالات والضلالات وَكَذَلِكَ التَّبَرُّك بِمَا تحمل أشجاره من الثَّمر وَهُوَ من الْبدع والعقائد الْجَاهِلِيَّة المضاهئة

فصل

لجهالات الوثنيين الْمُشْركين وَمَا اخترعه وروحه ضلال الصُّوفِيَّة الَّذين أتخذوا هَذَا الْجَبَل مقرا لَهُم لأغراض شيطانية الله أعلم بهَا فصل وكرامات الْأَوْلِيَاء حق بِاتِّفَاق أَئِمَّة أهل الْإِسْلَام وَالسّنة وَالْجَمَاعَة وَقد دلّ عَلَيْهَا الْقُرْآن فِي غير مَوضِع وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة والْآثَار المتواترة عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَغَيرهم وَإِنَّمَا أنكرها أهل الْبدع من الْمُعْتَزلَة والجهمية وَمن تَابعهمْ لَكِن كثيرا مِمَّن يدعيها أَو تدعى لَهُ يكون كَذَا أَو ملبوسا عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهَا لَا تدل على عصمَة صَاحبهَا وَلَا على وجوب اتِّبَاعه فِي كل مَا يَقُوله بل قد تصدر بعض الخوارق من الْكَشْف وَغَيره من الْكفَّار والسحرة بمؤاخاتهم للشياطين كَمَا ثَبت عَن الدَّجَّال أَنه يَقُول للسماء أمطري فتمطر وللأرض أنبتي فتنبت وَأَنه يقتل وَاحِدًا ثمَّ يحيه وَأَنه يخرج خَلفه كنوز الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلِهَذَا أتفق أَئِمَّة الدّين على أَن الرجل لَو طَار فِي الْهَوَاء وَمَشى على المَاء لم يثبت لَهُ ولَايَة بل وَلَا إِسْلَام حَتَّى ينظر وُقُوفه عِنْد الْأَمر وَالنَّهْي الَّذِي بعث الله بِهِ رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومسابقة الرَّمْي بِالْحِجَارَةِ إِن كَانَ فِيهَا مَنْفَعَة للْجِهَاد وَإِلَّا فَهِيَ بَاطِل وَمَا روى حَدِيثا اتَّخذُوا مَعَ الْفُقَرَاء أيادي فَإِن لَهُم دولة وَأي دولة حَدِيث بَاطِل والدولة فِي الْآخِرَة للْمُؤْمِنين سَوَاء كَانُوا فُقَرَاء أَو أَغْنِيَاء وَمن أحسن إِلَى الْفَقِير لفقره فَالله يأجره على ذَلِك وَمن أحسن إِلَيْهِم لطلب الْجَزَاء مِنْهُم كَمَا يُوجد البدء بالاحسان من الشَّخْص ليكافئه عَلَيْهِ الْفَقِير فَلَا أجر لَهُ عِنْد الله وَأما مَا رُوِيَ إِنَّه مَكْتُوب على كل فرج ناكحة فَلَيْسَ صَحِيحا أَيْضا وَلَيْسَ هُوَ من جنس كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكِن لَا ريب أَن الله تَعَالَى

كتاب الشهادات

كتب كل مَا يفعل الْعباد قبل أَن يفعلوه فَذَلِك عِنْده وَقد ثَبت أَن الله يَأْمر الْملك فَيكْتب على العَبْد كل مَا يَفْعَله قبل ان ينْفخ فِيهِ الرّوح كتاب الشَّهَادَات إِذا مَاتَ الشَّاهِد فَهَل يحكم بحظه فِيهِ نزاع فمذهب مَالك يحكم بِهِ الشَّاهِد مِمَّن يرضى من الشُّهَدَاء وَإِن كَانَ الشَّاهِد فِي الرَّضَاع عدلا قبل قَوْله وَفِي تَحْلِيفه نزاع وَيجوز للشَّافِعِيّ أَن يشْهد عِنْد حَاكم مالكي أَن هَذَا خطّ فلَان إِذا جزم بِهِ من غير شكّ مُتبعا لمن يُجِيز ذَلِك من الْأَئِمَّة فِي مَسْأَلَة يتَوَجَّه فِيهَا قَول الَّذِي قَلّدهُ وَلم يكن مُتبعا للرخصة فَهَذَا سَائِغ فِي الْمَشْهُور من مَذَاهِب الْأَرْبَعَة إِذْ لَا يجب على أحد أَن يلْتَزم مَذْهَب شخص بِعَيْنِه فِي جَمِيع الشَّرِيعَة فِي ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي وَغَيره وَلَكِن مَتى ألزم نَفسه الْتِزَامه فَلَا بُد أَن يلتزمه فِيمَا لَهُ وَعَلِيهِ مثل أَن يتَرَجَّح عِنْده إِثْبَات الشُّفْعَة للْجَار فَيتبع ذَلِك لَهُ وَعَلِيهِ فإمَّا أَن يقلده من يرى إِثْبَاتهَا إِذا كَانَ هُوَ الطَّالِب وَإِذا كَانَ هُوَ الْمَطْلُوب يُقَلّد من ينفيها فَهَذَا لاي يجوز أَن يشْهد على الرجل إِذا عرف صورته مَعَ إِمْكَان الإشتباه وَتَنَازَعُوا فِي الشَّهَادَة على الصَّوْت من غير رُؤْيَة الْمَشْهُود عَلَيْهِ فجوزه الْجُمْهُور كمالك وَأحمد وَجوزهُ الشَّافِعِي فِي صُورَة المضبطة فالشهادة على الْخط دون ذَلِك لِأَنَّهُ أقوى

وَمَا يخرج بِهِ الشَّاهِد وَغَيره مِمَّا يقْدَح فِي عَدَالَته وَدينه فَإِنَّهُ يشْهد بِهِ عَلَيْهِ إِذا علمه الشَّاهِد بالاستفاضة وَيكون ذَلِك قدحا شَرْعِيًّا فِيهِ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يجرح بِمَا سَمعه مِنْهُ زو رَآهُ أَو استفاض عَنهُ وَمَا أعلم فِي هَذَا نزاعا بَين النَّاس فَإِن الْمُسلمين يشْهدُونَ فِي وقتنا فِي مثل عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن الْبَصْرِيّ وأمثالهما بِالْعَدَالَةِ وَالدّين وَلَا يعلمُونَ ذَلِك إِلَّا بالاستفاضة وَيشْهدُونَ فِي مثل الْحجَّاج بن يُوسُف وَالْمُخْتَار بن أبي عبيد الثَّقَفِيّ وَعَمْرو بن عبيد المعتزلي وغيلان القدري أَنهم من أهل الْبدع وَالظُّلم وَذَلِكَ بالاستفاضة أَيْضا هَذَا إِذا كَانَ فِيهِ رد شَهَادَته أما إِذا الْمَقْصُود اتقاء شَره فَيجوز ويتقى بِمَا هُوَ دون ذَلِك كَمَا قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ اعتبروا النَّاس بإخوانهم وَبلغ عمر أَن رجلا يجْتَمع إِلَيْهِ الْأَحْدَاث فَنهى عَن مُجَالَسَته فَإِذا كَانَ الرجل مخالطا فِي الشَّرّ لأهل الشَّرّ يحذر مِنْهُ والداعي إِلَى الْبِدْعَة يسْتَحق الْعقُوبَة بِاتِّفَاق الْمُسلمين وعقوبته تكون تَارَة بِالْقَتْلِ وَتارَة بِمَا دونه كَمَا قتل السّلف الجهم بن صَفْوَان والجعد بن دِرْهَم وغيلان وَغَيرهم وَلَو قدر أَنه لَا يسْتَحق الْعقُوبَة أَو لَا تمكن عُقُوبَته فَلَا بُد من بَيَان بدعته والتحذير مِنْهَا لِأَن من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والبدعة مَا اشْتهر عِنْد أهل السّنة مخالفتها للْكتاب وَالسّنة وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْخُلَفَاء الرَّاشِدين كبدعة الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة قَالَ ابْن الْمُبَارك ويوسف بن أَسْبَاط أصُول الثِّنْتَيْنِ وَالسبْعين فرقة أَرْبَعَة الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض والقدرية والمرجئة قيل لِابْنِ الْمُبَارك والجهمية قَالَ لَيست الْجَهْمِية من أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والجهمية قبحهم الله تَعَالَى نفاة الصِّفَات الْقَائِلُونَ بِأَن الْقُرْآن مَخْلُوق وَأَن الله تَعَالَى لَا يرى فِي الْآخِرَة وَأَنه لم يعرج بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا علم الله وَلَا قدرَة وَلَا حَيَاة وَلَا سمع أَو بصر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا

وَلَا يجب عِنْد أحد من الْعلمَاء أَن يكْتب فِي الوثائق أَنه قَادر مَلِيء وَلَا يجوز أَن يكْتب ذَلِك إِلَّا إِذا علم أَنه مقرّ بِهِ وَلَا يجوز تلقين الْإِقْرَار لمن لَا يعلم أَنه صَادِق فِيهِ وَلَا الشَّهَادَة عَلَيْهِ إِلَّا إِذا علم أَنه كَاذِب فِي ذَلِك كالعقود الْمُحرمَة فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن آكل الرِّبَا وموكله وَشَاهده وكاتبه وَمن أقرّ بِمثل هَذَا الْكَذِب وَشهد على الْإِقْرَار بِهِ أَو لقنه أَن يَقُول إِنَّه مَلِيء بِالْحَقِّ وَهُوَ غير مَلِيء بِهِ بل لقنه ذَلِك مَعَ علمه عاقبه ذَلِك من غضب الله فَهُوَ مُتبع هَوَاهُ ويجل على من طلبت مِنْهُ الشَّهَادَة أَدَاؤُهَا بل إِذا امْتنع الْجَمَاعَة من الشَّهَادَة أَتموا كلهم بِاتِّفَاق الْعلمَاء وقدح ذَلِك فِي دينهم وعدالتهم وَإِذا شهد أَن الْعين كَانَت على ملكه حِين خرجت من يَده بِغَيْر حق حكم لَهُ بهَا وَأما إِن شهد أَنَّهَا كَانَت ملكه فَقَط فَهَل يحكم لَهُ بذلك على وَجْهَيْن فِي مَذْهَب أَحْمد وقولين للشَّافِعِيّ وَإِن شهد بِسَبَب الْملك وظهوره مثل أَن يشْهد أَنه ابتاعه أَو وَرثهُ أَو حكم لَهُ بِهِ الْحَاكِم الْفُلَانِيّ فَإِن الْحَاكِم هُنَا يحكم باستصحاب الْحَال إِذا لم يثبت معَارض رَاجِح وَالشَّاهِد لَا يشْهد بِنَاء على اسْتِصْحَاب الْحَال وَلَا أعلم فِي الأولى خلافًا أَن الْحَاكِم يحكم باستصحاب الْحَال بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَأما صُورَة الْخلاف فَإِن البنية لما شهِدت بِالْملكِ فِي الْمَاضِي وسكتت عَنهُ فِي الْحَال كَانَ هَذَا ريبه تجوز أَن الْبَيِّنَة علمت بالزوال وسكتت عَن ذَلِك وَأما إِذا شهِدت بِسَبَب ذَلِك لم يكن فِيهِ رِيبَة وَالْأَصْل بَقَاء الْملك وَإِذا شهِدت أَنه لم يزل ملكه إِلَى أَن غصبت مِنْهُ أَو استعيرت أَو زَالَت يَده عَنهُ بِغَيْر حق كَمَا لَو شهِدت لَهُ أَنه لم يزل ملكه عَنهُ إِلَى أَن مَاتَ فَإِنَّهُ يحكم بِهِ للْوَرَثَة حَتَّى تقوم حجَّة بِمَا يُخَالف ذَلِك وَكَذَلِكَ هُنَاكَ يحكم للَّذي كَانَ جَائِزا إِلَى حِين زَوَال حوزه كزوال الْملك وَلَا أعلم فِي هَذَا خلافًا وَلَا يَنْبَغِي أَن يكون فِيهِ خلاف فَإِن الْغَاصِب وَالْمُسْتَعِير وَغَيرهمَا إِذا جَحَدُوا ملك غَيرهم فَشَهِدت الْبَيِّنَة أَنه لم يزل ملكه

إِلَى حِين الْغَصْب مثلا احتاجوا إِلَى إِثْبَات الِانْتِقَال إِلَيْهِم وَإِلَّا فَالْأَصْل بَقَاء الْملك وَقد علم أَن زَوَال الْيَد بالعدوان فَلَا يقبل أَن الْيَد يَده إِذا عرف من مستندها مَا يصلح مُسْتَندا لَهُ من زَوَال الْيَد المحققة والانتقال إِلَى يَد عَادِية إِمَّا هَذِه الْبَيِّنَة أَو غَيرهَا فَلَا يُكَلف رب الْبَيِّنَة بَقَاء الْملك إِلَى حِين الدَّعْوَى لتعذر ذَلِك أَو لعسره وَفِيه مَعُونَة عَظِيمَة لكل ظَالِم من سرق وناهب يُوضح ذَلِك أَن الْحَاكِم يحكم باستصحاب الْيَد وبغيرها من الطّرق الَّتِي تفِيد غَالب الطن وَالشَّاهِد لَا يشْهد إِلَّا بِالْعلمِ لِأَن الْحَاكِم لَا بُد من فصل الْحُكُومَة فيفصلها لأقوى الجانبيين حجَّة وَإِذا حضر الْمَوْت وَلَيْسَ عِنْده مُسلم فَلهُ أَن يشْهد من حَضَره من أهل الذِّمَّة فِي الْوَصِيَّة ويحلفوا إِذا شهدُوا وَهَذَا قَول جُمْهُور السّلف وَهُوَ قَول إِمَام الْأَئِمَّة أَحْمد وَأبي عبيد وَعَلِيهِ يدل الْقُرْآن وَالسّنة وَهَذَا مَبْنِيّ على أصل وَهُوَ أَن الشَّهَادَة عِنْد الْحَاجة يجوز فِيهَا مثل شَهَادَة النِّسَاء فِيمَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال وَشَهَادَة الْفَاسِق مَرْدُودَة بِنَصّ الْقُرْآن وانفاق الْمُسلمين وَقد يُجِيز بَعضهم الأمثل فالأمثل من الْفُسَّاق عِنْد الضَّرُورَة إِذا لم يُوجد عدُول وَنَحْو ذَلِك وَأما قبُول شَهَادَة الْفَاسِق فَهَذِهِ لم يقلهُ أحد من الْمُسلمين وَإِذا شهد رجل فِي شَيْء أَنه ملك فلَان إِلَى حِين بَيْعه وَحكم بِشَهَادَتِهِ ثمَّ شهد بعد ذَلِك فِي كتاب إِقْرَار على وَالِد البَائِع بتاريخ مُتَقَدم على تَارِيخ البيع أَنه وقف الْمَكَان الْمَذْكُور وَأَن الْوَاقِف لم يزل ملكه عَن الْعين إِلَى حِين وَقفهَا فَأجَاب بِأَن رُجُوع الشَّاهِد عَن شَهَادَته بعد الحكم بهَا لَا تقبل وَإِنَّمَا يضمن وشهادته الثَّانِيَة المنافية للأولى أبلغ من الرُّجُوع فَهُوَ أولى فَتقبل وَيجب على الشَّاهِد أَدَاء الشَّهَادَة إِذا طلبت مِنْهُ

فصل

وَلَو كَانَ اشهود أَكثر من نِصَاب الشَّهَادَة وَطلب أحدهم وَجب عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا فِي أصح قولي الْعلمَاء وَأما إِذا كَانَ الْمَطْلُوب لَا يتم النّصاب إِلَّا بِهِ فقد تعيّنت عَلَيْهِ إِجْمَاعًا إِلَّا أَن تكون الشَّهَادَة يجوز أَو كذب وَنَحْوه فَلَا يجوز أَن يعان الظَّالِم على ذَلِك لَا بِشَهَادَة وَلَا غَيرهَا وَمن قصد خُرُوج الرّيح مِنْهُ ليضحك الْجَمَاعَة فَإِنَّهُ يُعَزّر على ذَلِك وَترد شَهَادَته فقد ذكر الْعلمَاء أَن هَذَا من عمل قوم لوط وَمن لَا يستحي من النَّاس لَا يستحي من الله وَقد قَالَ طَائِفَة فِي قَوْله تَعَالَى {وتأتون فِي ناديكم الْمُنكر} أَنهم كَانُوا يتضارطون فِي مجَالِسهمْ وينصبون مزالق يزلق بهَا الْمَارَّة وَنَحْو ذَلِك وَالله أعلم فصل إِن الَّذِي يحدث ليضحك النَّاس ويل لَهُ ثمَّ ويل لَهُ والمصر على ذَلِك فَاسق مسلوب الْولَايَة مَرْدُود الشَّهَادَة وَمَا كَانَ مُبَاحا فِي غير حَال الْقِرَاءَة مثل المزاح الَّذِي جَاءَت بِهِ الْآثَار وَهُوَ أَن يمزح وَلَا يَقُول إِلَّا صدقا لَا يكون فِي مزاحه كذب وَلَا عدوان فَهَذَا لَا يفعل فِي حَال قِرَاءَة الْقُرْآن بل ينزه عَنهُ مجْلِس الْقُرْآن فَلَيْسَ كل مَا يُبَاح فِي حَال غير الْقِرَاءَة يُبَاح فِيهَا كَمَا أَنه لَيْسَ كل مَا يُبَاح خَارج الصَّلَاة يُبَاح فِيهَا لَا سِيمَا مَا يشغل القارىء والمستمع عَن التدبر والفهم مثل كَونه يخايل ويضحك فَكيف واللغو والضحك حَال الْقِرَاءَة من أَعمال الْمُشْركين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تغلبون} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا علم من آيَاتنَا شَيْئا اتخذها هزوا} وَقَالَ {أَفَمَن هَذَا الحَدِيث تعْجبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنْتُم سامدون} وَوصف الْمُؤمنِينَ بِأَنَّهُم يَبْكُونَ ويخشعون حَال الْقِرَاءَة

كتاب الدعاوي والبينات

فَمن كَانَ يضْحك حَال الْقِرَاءَة فقد تشبه بالمشركين لَا بِالْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ لمن أنكر عَلَيْهِ ذَلِك للَّذي أنكر أَنْت مراء بل عَلَيْهِ أَن يُطِيع الله وَرَسُوله وَلَا يكون مِمَّن إِذا قيل لَهُ اتَّقِ الله أَخَذته الْعِزَّة بالإثم وَكسب المغنى خَبِيث بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة والمغنى خَارج عَن الْعَدَالَة وَمن عرفت أَنَّهَا زَوْجَة فلَان وَأَنه تزَوجهَا وَلم يسم لَهَا صَدَاقا فَمَاتَ فلهَا الْمُطَالبَة بِمهْر الْمثل وَلَو لم يكن لَهَا بَيِّنَة بِمِقْدَار الصَدَاق وَعَلَيْهَا الْيَمين أَنَّهَا لم تبرئه وَلم تقبض صَدَاقهَا وَإِذا رجل وخلي وظيفته شاغرة فتولاها أحد ولَايَة شَرْعِيَّة ثمَّ عَاد الأول بعد مُدَّة فَلَيْسَ لَهُ أَن ينازعه وَإِذا ذكر أَن ولي الْأَمر أذن لَهُ أَن يَسْتَنِيب فَإِنَّهُ إِن كَانَ جَائِزا فَهُوَ لم يَفْعَله وَإِن لم يكن جَائِزا لم يَنْفَعهُ وَإِذا أصر على منازعته مَعَ علمه بِالتَّحْرِيمِ قدح فِي عَدَالَته كتاب الدعاوي والبينات من ادّعى أَن بعض الْحُكَّام أَخذ مِنْهُ شَيْئا وَكَانَ الرجل مَعْرُوفا بِالصّدقِ فَلهُ على الْحَاكِم الْيَمين وَإِن كَانَ غَيره من الصَّادِقين وَقد قَالَ مثل قَوْله لم ترد أَخْبَار الصَّادِقين بل يَنْبَغِي عزل الْحَاكِم وَإِن كَانَ الْحَاكِم مَعْرُوفا بالأمانة الرجل فَاجِرًا لم يلْتَفت إِلَى قَوْله وعزر وَإِن كَانَ كل مِنْهُمَا مُتَّهمًا فَلهُ تَحْلِيفه وَلَا يُعَزّر وَإِذا ادَّعَت جَارِيَة أَن فلَانا زوج سيدتها وَطئهَا فَالْقَوْل قَوْله وَهل يحلف فِيهِ نزاع وَلَا يحل أَن يجْحَد أَنه وَطئهَا إِن كَانَت صَادِقَة وَالْولد رَقِيق تبعا لأه إِن لم يقر بِوَطْئِهَا وَإِذا نكل الْمُدعى عَلَيْهِ عَن الْيَمين ردَّتْ على الْمُدَّعِي وَقيل لَا ترد بل

يحكم عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ وَقيل إِن كَانَ الْمُدعى هُوَ الْعَالم بالمدعى بِهِ مثل أَن يدعى الْوَرَثَة أَو الْوَصِيّ على غَرِيم للْمَيت دَعْوَى فينكرها فَهُنَا لَا يخلف الْمُدعى بل إِذا نكل الْمُنكر قضى عَلَيْهِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تضطروا النَّاس فِي أَيْمَانهم إِلَى مَالا يعلمُونَ وَإِن كَانَ الْمُدعى هُوَ الْعَالم مثل أَن يدعى على وَرَثَة الْمَيِّت حَقًا عَلَيْهِ يتَعَلَّق بِتركَتِهِ فَهُنَا لَهُم رد رد الْيَمين عَلَيْهِ فَإِذا لم يحلف لم يَأْخُذ وَأما إِذا كَانَ الْمُدعى يدعى الْعلم وَالْمُنكر يدعى الْعلم فَهُنَا يتَوَجَّه الْقَوْلَانِ وَإِذا مَاتَ الرجل وَقد قَالَ لأولاده إِنَّه طلق امْرَأَته من مُدَّة وَاتَّفَقُوا مَعَ بعض الشُّهُود من أَصْحَاب الْمَيِّت فَشَهِدُوا بذلك وهم من أَصْحَابه المباطنين لَهُ وَكَانَت الْمَرْأَة مُقِيمَة مَعَه إِلَى أَن توفى يَخْلُو بهَا وهم يعلمُونَ ذَلِك فِي الْعَادة فَإِن شَهَادَتهم مَرْدُودَة لِأَن إقرارهم لَهُ على خلوتها بعد الطَّلَاق يجرح عدالتهم وَإِذا حبست زَوجهَا على حق فَلهُ عَلَيْهَا مَا كَانَ يجب قبل الْحَبْس من إسكانها حَيْثُ شَاءَ ومنعها الْخُرُوج فَإِذا أمكن حَبسه فِي مَكَان تكون هِيَ عِنْده تَمنعهُ من الْخُرُوج فعل ذَلِك فَإِنَّهُ لَيْسَ للْغَرِيم منع الْمَحْبُوس من حَوَائِجه إِذا احْتَاجَ بل يُخرجهُ ويلازمه مثل غسل الْجَنَابَة وَنَحْوه وَالزَّوْج لَهُ منعهَا مُطلقًا وَأَيْضًا فَإِنَّهَا قد تحبسه وَتبقى هِيَ مفلوتة تفعل الْفَوَاحِش وتقهره وتعاشر من وَتبقى هِيَ القوامة عَلَيْهِ لَا سِيمَا حَيْثُ يكثر ذَلِك فِي الْأَزْمِنَة والأمكنة وَغَايَة ذَلِك من أعظم الْمصَالح الَّتِي لَا تجوز إهمالها فَكيف يسْتَحل مُسلم أَن يحبس الرجل وَيمْنَع زَوجته من حَبسهَا مَعَه بل يَتْرُكهَا بِأَن تكون هِيَ وَهُوَ فِي مَوضِع وَاحِد فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الْغَرِيم بملازمة غَرِيمه ورذا طلب مِنْهَا الْجِمَاع فِي الْحَبْس لم يكن لَهَا مَنعه وَإِذا ظهر أَنه قَادر على الْوَفَاء وَامْتنع ظلما عُوقِبَ بِغَيْر الْحَبْس مثل ضربه مرّة بعد مرّة حَتَّى يُوفى لِأَن مطل الْغنى والظالم يسْتَحق الْعقُوبَة

وتمكين هَذَا من فضول الْأكل وَالنِّكَاح مَحل اجْتِهَاد فَإِذا رأى الْحَاكِم تعزيره بِالْمَنْعِ مِنْهُ كَانَ لَهُ ذَلِك وَإِن لم يُمكن حَبسهَا مَعَه إِمَّا لعداوة تحصل بَينهمَا فَأمكن أَن يسكنهَا فِي مَوضِع لَا تخرج مِنْهُ مثل رِبَاط عِنْد أنَاس مأمونين فَلَا بَأْس وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا تتْرك الْمَرْأَة تذْهب حَيْثُ شَاءَت بِاتِّفَاق وَلَا تقبل الدَّعْوَى بِمَا يُنَاقض إِقْرَاره إِلَّا أَن يذكر شُبْهَة تجْرِي بهَا الْعَادة وَإِذا أنكر زوجية امْرَأَته قُدَّام الْحَاكِم فَلَمَّا أَبرَأته الزَّوْجَة بعد ذَلِك اعْتِرَاف بِالزَّوْجِيَّةِ وطلق على مِائَتي دِرْهَم لم يبطل حَقّهَا بل هُوَ بَاقٍ فِي ذمَّته لَهَا أَخذه مِنْهُ والخلط كاللفظ إِذا ثَبت أَنه كَانَ عِنْده على سَبِيل الْوَدِيعَة أَو أَنه قَبْضَة أَخذ بالخط كَمَا لَو تلفظ بذلك وَله أَن يَأْخُذ مِنْهُ مَا أَخذه إِذا كَانَت الْوَدِيعَة قد تلفت بِغَيْر تَفْرِيط مَسْأَلَة إِذا كَانَت عَادَة الْعمَّال يستأجرون بالوصلات فَمَاتَ الْعمَّال فَادّعى بعض المستأجرين أَنه قبض مِنْهُ فَلَا يقبل إِلَّا بَيِّنَة أَو وُصُول فَإِذا قبض من لَهُ ولَايَة الْقَبْض لم يعد على المحتكرين بل يجب على أهل الْوَقْف وَإِذا حلف رجل مَالا بَينه وَبَين آخر فَأنْكر الْوَرَثَة حَتَّى أبرأوا وَأخذُوا مِنْهُ بعض شَيْء لم يَصح إبراؤهم لأَنهم مكرهون وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ مالكم عِنْدِي غير كَذَا فأبرأوه ثمَّ ظهر أَن لَهُم عِنْده مَا أقرّ لَهُم بِهِ فَلَا يَصح إبراؤهم من الزَّائِد الَّذِي كتمه وَلَا يجوز أَن يكذب على من كذب عَلَيْهِ وَلَا يشْهد بزور على من شهد عَلَيْهِ بزور وَلَا يكفره بباطل كَمَا كفره بِالْبَاطِلِ وَلَا يقذفه كذبا كَمَا قذفه كذبا وَلَا يفجر إِذا خاصمه كَمَا فجر هُوَ وَكَذَلِكَ لَا يجوز أَن يغرر فِي عقد

عقده بَينهمَا لأجل كَونه غرر بِهِ فَلَا يخونه كَمَا خانه والشارع نهى عَن الْخِيَانَة لمن خانه وَلم يَجْعَل ذَلِك قصاصا فَلَا يَأْخُذ من مَاله بِغَيْر علمه بِقدر مَا أَخذه هُوَ وَهَذَا أصح قولي الْعلمَاء وَأما إِذا كَانَ الرجل غضب مَال الرجل مجاهرة فَغَضب من مَاله مجاهرة بِقدر مَاله فَلَيْسَ هَذَا من هَذَا الْبَاب فَإِن الأول يُؤَدِّي إِلَى التأويلات الْفَاسِدَة وَأَن يحلل لنَفسِهِ مَالا يحل لَهُ أَخذه وَهَذَا يعيرف مَا أَخذه فَلَا يَأْخُذ إِلَّا قدر حَقه أَو أَكثر وَيكون مَعْلُوما لَا يُمكن إِنْكَاره وَإِذا حملوه الجهار مَعَ الْبِنْت إِلَى بَيتهَا على الْوَجْه الْمَعْرُوف فَهُوَ تمْلِيك لَهَا فَلَا يقبل دَعْوَى أمهَا أَن الجهاز ملكهَا وَلَيْسَ للْأُم الرُّجُوع بِهِ وَلَا للْأَب أَيْضا بعد أَن تعلّقت بذلك رَغْبَة الزَّوْج وزوجت على ذَلِك وَمن ادّعى بِحَق وَخرج بقيم الْبَيِّنَة لم يجز حبس الْغَرِيم لَكِن هَل لَهُ طلب كَفِيل مِنْهُ إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام أَو نَحْوهَا إِذا قَالَ الْمُدعى لي بَيِّنَة حَاضِرَة فِيهِ نزاع هَذَا إِذا لم تكن دَعْوَى تُهْمَة فَإِن كَانَت دَعْوَى تُهْمَة مثل أَن ادّعى أَنه سرق فَهُنَا إِن كَانَ مَجْهُول الْحَال حبس حَتَّى يكْشف عَنهُ وَأما دَعْوَى الْحُقُوق مثل البيع وَالْقَرْض وَالدّين فَلَا يحبس بِدُونِ حجَّة وَإِن ذكر نزاع فِي الْمدَّة الْقَرِيبَة كَالْيَوْمِ فَلَا نزاع فِيمَا أعلمهُ

كتاب العتق

كتاب الْعتْق إِذا اعْترف السَّيِّد بِوَطْء الْأمة وَقبل خُرُوجهَا من ملكه جَاءَت بِولد لمُدَّة الْإِمْكَان لحقه نسبه وَثَبت فِي صَحِيح مُسلم عَن أبي الدَّرْدَاء أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي امْرَأَة مجح على بَاب فسطاط والمجح هِيَ الْحَامِل المقرب فَقَالَ لَعَلَّ صَاحبهَا ألم بهَا قَالُوا نعم قَالَ لقد هَمَمْت أَن ألعنه لعنة تدخل مَعَه قَبره كَيفَ يورثه وَهُوَ لَا يحل لَهُ كَيفَ يستعبده وَهُوَ لَا يحل لَهُ فنص على أَنه لَا يجوز لَهُ استعباده وَلَا أَن يَجعله مِيرَاثا عَنهُ إِذا كَانَ قد سقَاهُ مَاءَهُ وَزَاد فِي سَمعه وبصره فَصَارَ فِيهِ مَا هُوَ بعض لَهُ فَهِيَ أم وَلَده من هَذِه الْوَجْه وَقد نَص على ذَلِك غير وَاحِد من الْعلمَاء مِنْهُم أَحْمد وَغَيره حَتَّى قَالَ تصير أم وَلَده وَالْإِسْلَام يسرى كالعتيق فَإِذا وَطئهَا وَهِي حَامِل عتق الْوَلَد وَحكم بِإِسْلَامِهِ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعه وَلَا يثبت نسبه بِمُجَرَّد ذَلِك وَمن زنت أمته وَأَنت بِولد فَأعْتقهُ فَلهُ أجر عتق عبد كَامِل عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء وَذَهَبت طَائِفَة كَأبي حنيفَة وَمَالك إِلَى أَن عتقه نَاقص وَإِذا اشْترى أم ولد ثمَّ وَطئهَا فَهَل هَذَا البيع شُبْهَة فِي الْوَطْء فِيهِ نزاع والأقوى أَنه شُبْهَة فيلحقه الْوَلَد وَترد إِلَى سَيِّدهَا لِأَن عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة لَا يجوز بيعهَا وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة لَا يقبل الله لَهُم صَلَاة الرجل يؤم قوما وهم لَهُ كَارِهُون وَرجل لَا يَأْتِي الصَّلَاة إِلَّا دبارا وَرجل اعتبد محررا فالرجل الأول يؤم الْقَوْم وهم يكرهونه لفسقه أَو بدعته فَلَيْسَ لَهُ أَن يؤمهم وَلَو كَانَ بَين الإِمَام والمأمومين معاداة من جنس معاداة أهل الْأَهْوَاء والمذاهب لم يسغْ لَهُ أَن يؤمهم لِأَن فِي ذَلِك مُنَافَاة لمقصود الصَّلَاة جمَاعَة وَأما الرجل الَّذِي أُتِي الصَّلَاة دبارا فَهُوَ الَّذِي يفوتهُ الْوَقْت وَالَّذِي استعبد محررا هُوَ الَّذِي يستعيد الْحر مثل أَن يعْتَقد عبدا ويجحده أَو يَقْهَرهُ على الْعُبُودِيَّة

فَلَا تقبل صَلَاة هَؤُلَاءِ لأَنهم قد أَتَوا بذنب يُقَاوم فعل الصَّلَاة فَصَارَ عِقَاب هَذَا يُقَاوم ثَوَاب هَذَا لِأَن الأول أَدخل عَلَيْهِم فِي الصَّلَاة مَا يُقَاوم صلَاته وَالثَّانِي أخرج الصَّلَاة عَن وَقتهَا فَعَلَيهِ إِثْم التَّأْخِير فَدخل فِي قَوْله تَعَالَى {الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون} وَالثَّالِث يمْنَع عبد الله أَن يَجْعَل نَفسه عبدا لله وَجعله عبدا لنَفسِهِ فَأَي ذَنْب مثل هَذَا فَلم يقبل لَهُم صَلَاة إِذا الصَّلَاة المقبولة هِيَ الَّتِي يقبلهَا الله من عَبده ويثيب عَلَيْهَا وَمن وطىء جَارِيَة امْرَأَته وَتعلق بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ عَن الْحسن عَن عَوْف عَن سَلمَة عَن أبي الْحسن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رجل وَقع على جَارِيَة امْرَأَته فَقَالَ إِن كَانَ استكرهها فَهِيَ حرَّة وَعَلِيهِ مثلهَا وَإِن كَانَت طاوعته فَهِيَ جَارِيَته وَعَلِيهِ مثلهَا هَذَا الحَدِيث فِي السّنَن وَلَيْسَ هُوَ من الْأَحَادِيث الْوَاهِيَة وَبَعض النَّاس ضعفه لِأَن رُوَاته غير مشهورين بِالْحَدِيثِ وَلِأَنَّهُ يُخَالف الْأُصُول من جِهَة عتق الْمَوْطُوءَة وَجعلهَا للواطىء وَبَعْضهمْ رَآهُ حَدِيثا حسنا وَحكى ذَلِك عَن أَحْمد وَإِسْحَاق وَقَالُوا إِنَّه مُوَافق لِلْأُصُولِ لِأَنَّهُ يجْرِي مجْرى إفسادها على سيدتها فَإِنَّهَا إِذا طاوعته فقد عطل عَلَيْهَا بذلك نَفعهَا واستخدامها وَإِذا أتلف مَال غَيره وَمنع مَالِكه من التَّصَرُّف فِيهِ عَادَة مثل أَن يجوع بركوب الْحَاكِم وَنَحْوه مِمَّا لَا يكون مركوبه عَادَة فَإِنَّهُ فِي مَذْهَب مَالك وَمن تبعه يصير لَهُ وَعَلِيهِ الْقيمَة لمَالِكه فوطء الْأمة من هَذَا الْبَاب وَإِذا استكرهها فَهُوَ مثل التَّمْثِيل بهَا وَمن مثل بِعَبْدِهِ عتق عَلَيْهِ عِنْد مَالك وَأحمد وَكَذَا من جعل استكراه الْمَمْلُوك على التلوط بِهِ من هَذَا الْبَاب فَإِذا وَطئهَا فقد أتلفهَا وَلَزِمتهُ الْقيمَة وَتصير لَهُ وَلأَجل أَن فِي استكراهها شُبْهَة تمثيله بهَا عتقت عَلَيْهِ وَقَوله وَعَلِيهِ مثلهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَهُوَ مَبْنِيّ على أَن الْحَيَوَان هَل يضمن

بِالْمثلِ أَو بِالْقيمَةِ على قَوْلَيْنِ للفقهاء الشَّافِعِيَّة والحنبلية فَهَذَا الحَدِيث جَار على هَذِه الْأُصُول وَلَا يملك السَّيِّد نقل الْملك فِي أم الْوَلَد لَا فِي حَيَاته وَلَا بعد مَوته وَلَا يجوز إِجَارَتهَا وتزويجها نزاع يجوز عِنْد أَحْمد وَأبي حنيفَة وَأحد قَول الشَّافِعِي وَالْآخر لَا يجوز التَّزْوِيج وَله قَول ثَالِث يجوز بِرِضَاهَا وَمَالك لَا يجوز إجازتها وَلَا تَزْوِيجهَا وَإِذا سَأَلَ فَقَالَ إِذا وَقفهَا فَهَل تكون الدِّيَة إِذا قتلت وَقفا فِيهِ مغالطة للمفتى لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال فَهَل يَصح وَقفهَا أم لَا وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ مَا يكون حكمهَا فَيَنْبَغِي أَن يُعَزّر هَذَا المستفتى تعزيرا يردعه فقد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أغلوطات الْمسَائِل وَالله تَعَالَى أعلم وَالْحَمْد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الَّذِي بنعمته تتمّ الصَّالِحَات وَصلى الله على نَبينَا مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي عبد الله وَرَسُوله سيد الْأَوَّلين والآخرين وعَلى آله وأزواجه أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وعَلى أَصْحَابه نُجُوم الْعلم وَالدُّنْيَا الَّذين جاهدوا فِي سَبِيل الله وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا إِلَى يَوْم الدّين فرغت من رقم هَذَا الْكتاب الْمُفِيد نَهَار الثَّامِن عشر من شَوَّال سنة 1322 هجرية

فصل

مُلْحق قَاعِدَة فِي حضَانَة الْوَلَد بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة شيخ الْإِسْلَام أَحْمد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي رَضِي الله عَنهُ الْحَمد لله نحمده ونستعينه وَنَسْتَغْفِرهُ ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وَمن سيئات أَعمالنَا من يهده الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا فصل فِي مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَغَيره من الْعلمَاء فِي حضَانَة الصَّغِير الْمُمَيز هَل هُوَ للْأَب أَو للْأُم أَو يُخَيّر بَينهمَا فَإِن عَامَّة كتب أَصْحَاب أَحْمد إِنَّمَا فِيهِ أَن الْغُلَام إِذا بلغ سبع سِنِين خير بَين أَبَوَيْهِ وَأما الْجَارِيَة فالأب أَحَق بهَا وَأَكْثَرهم لم يذكرُوا فِي ذَلِك نزاعا وَهَؤُلَاء الَّذين ذكرُوا هَذَا بَلغهُمْ بعض نُصُوص أَحْمد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَلم يبلغهم سَائِر نصوصه فَإِن كَلَام أَحْمد كثير منتشر جدا وَقل من يضْبط جَمِيع

نصوصه فِي كثير من الْمسَائِل لِكَثْرَة كَلَامه وانتشاره وَكَثْرَة من كَانَ يَأْخُذ عَنهُ الْعلم فَأَبُو بكر الْخلال قد طَاف بالبلاد وَجمع من نصوصه فِي مسَائِل الْفِقْه نَحْو أَرْبَعِينَ مجلدا وَفَاته أُمُور كَثِيرَة لَيست فِي كتبه وَأما مَا جمعه من نصوصه فِي أصُول الدّين مثل كتاب السّنة نَحْو ثَلَاث مجلدات وَمثل أصُول الْفِقْه والْحَدِيث مثل كتاب الْعلم الَّذِي جمعه وَمن الْكَلَام على علل الْأَحَادِيث مثل كتاب الْعِلَل الَّذِي جمعه وَمن كَلَامه فِي أَعمال الْقُلُوب والأخلاق والآداب وَمن كَلَامه فِي الرِّجَال والتاريخ فَهُوَ مَعَ كثرته لم يستوعب مَا نَقله النَّاس عَنهُ وَالْمَقْصُود هُنَا أَن النزاع عَنهُ مَوْجُود فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ كلتاهما فِي مَسْأَلَة الْبِنْت وَفِي مَسْأَلَة الابْن وَفِي مذْهبه فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ثَلَاثَة أَقْوَال هَل تكون مَعَ الْأُم أَو مَعَ الْأَب أَو تخير لَكِن فِي الابْن ثَلَاث رِوَايَات وَأما الْبِنْت فالمنقول عَنهُ رِوَايَتَانِ هَل هِيَ للْأُم أَو للْأَب وَأما التَّخْيِير فَهُوَ جه مخرج فِي مذْهبه فَعَنْهُ فِي الابْن ثَلَاث رِوَايَات مَعْرُوفَة وَمِمَّنْ ذكرهن أَبُو البركات فِي محرره وَعنهُ فِي الْجَارِيَة رِوَايَتَانِ وَمِمَّنْ ذكرهمَا أَبُو عبد الله بن تَيْمِية فِي كِتَابه التخليص وترغيب القاصد وَالرِّوَايَات مَوْجُودَة بألفاظها ونقلتها وأسانيدها فِي عدَّة كتب وَمِمَّنْ ذكر هَذِه الرِّوَايَات القَاضِي أَبُو يعلى فِي تَعْلِيقه نقل عَن أَحْمد فِي الْغُلَام أمة أَحَق بِهِ حَتَّى يسْتَغْنى عَنْهَا ثمَّ الْأَب أَحَق بِهِ قَالَ فِي رِوَايَة الْفضل ابْن زِيَاد إِذا عقل الْغُلَام وَاسْتغْنى عَن الْأُم فالأب أَحَق بِهِ وَقَالَ فِي رِوَايَة أبي طَالب وَالْأَب أَحَق بالغلام إِذا عقل وَاسْتغْنى عَن الْأُم

وَهَذَا يشبه الَّذِي نَقله القَاضِي أَبُو يعلى والشاشي وَغَيرهمَا عَن أَب حنيفَة قَالَ إِذا أكل وَحده وَلَيْسَ وَحده وَتَوَضَّأ وَحده فالأب أَحَق بِهِ وَنقل عَن الْمُنْذر أَنه يخبر حِينَئِذٍ بَين أَبَوَيْهِ عَن أبي حنيفَة وَأبي ثَوْر وَالْأول هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة الْمَوْجُود فِي كتب أَصْحَابه وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مَالك فَإِنَّهُ نقل عَنهُ ابْن وهب الْأُم أَحَق بِهِ حَتَّى يثغر وَلَكِن الْمَشْهُور عَنهُ أَن الْأُم أَحَق بِهِ مَا لم يبلغ وَهَذِه هِيَ الرِّوَايَة أَحَق بِهِ مَا لم يبلغ وَهَذِه هِيَ الرِّوَايَة الثَّالِثَة عَن أَحْمد وَالرِّوَايَة الثَّالِثَة عَن أَحْمد أَن الْأُم أَحَق بالغلام مُطلقًا كمذهب مَالك قَالَ فِي رِوَايَة حَنْبَل فِي الرجل يُطلق امْرَأَته وَله مِنْهَا أَوْلَاد صغَار فالأم أعطف عَلَيْهِم مِقْدَار مَا يعقل الْأَدَب فَيكون الْأَب أَحَق بهم مالم تتَزَوَّج فَإِذا تزوجت فالأب أَحَق بولده غُلَاما كَانَ أَو جَارِيَة قَالَ الشَّيْخ أَبُو البركات فَهَذِهِ الرِّوَايَة تدل على أَنه إِذا كبر وَصَارَ يعقل الْأَدَب فَإِنَّهُ يكون مقره أَيْضا عِنْد الْأُم لَكِن فِي وَقت الْأَدَب وَهُوَ النَّهَار يكون عِنْد الْأَب وَهَذَا مَذْهَب مَالك بِعَيْنِه الَّذِي حكيناه فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاث رِوَايَات وَمذهب مَالك فِي الْمُدَوَّنَة أَن الْأُم أَحَق بِهِ مالم يبلغ وَللْأَب تعاهده عِنْدهَا وأدبه وَبَعثه إِلَى الْمكتب وَلَا يبيت إِلَّا عِنْد الْأُم قلت وحنبل وَأحمد بن الْفرج كَانَا يسألان الإِمَام أَحْمد عَن مسَائِل مَالك وَأهل الْمَدِينَة كَمَا كَانَ يسْأَله إِسْحَق بن مَنْصُور وَغَيره عَن مسَائِل سُفْيَان الثَّوْريّ وَغَيره وكما كَانَ يسْأَله الْمَيْمُونِيّ عَن مسَائِل الْأَوْزَاعِيّ وكما كَانَ يسْأَله إِسْمَعِيل بن سعيد الشالنجي عَن مسَائِل أبي حنيفَة وَأَصْحَابه فَإِنَّهُ كَانَ قد تفقه على مَذْهَب أبي حنيفَة ثمَّ اجْتهد فِي مسَائِل كَثِيرَة رجح فِيهَا مَذْهَب أهل الحَدِيث

وَسَأَلَ عَن تِلْكَ الْمسَائِل أَحْمد وَغَيره وَشَرحهَا إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب الجورجاني إِمَام دمشق وَأما الَّذين كَانُوا يسألونه مُطلقًا مثل الْأَثْرَم وعبد الله وَصَالح وَغَيرهم فكثيرون وَأما حضَانَة الْبِنْت إِذا صَارَت مُمَيزَة فَوَجَدنَا عَنهُ رِوَايَتَيْنِ منصوصتين وَقد نقلهما غير وَاحِد من أَصْحَابه كَأبي عبد الله بن تَيْمِية وَغَيره إِحْدَاهمَا أَن الْأَب أَحَق بهَا كَمَا هُوَ مَوْجُود فِي الْكتب الْمَعْرُوفَة فِي مذْهبه وَالثَّانيَِة أَن الْأُم أَحَق بهَا قَالَ فِي رِوَايَة إِسْحَق بن مَنْصُور يقْضِي بالجارية للْأُم وَالْخَالَة حَتَّى إِذا أحتاجت إِلَى التَّزْوِيج فالأب أَحَق بهَا وَقَالَ فِي رِوَايَة مهنى بن يحيى الْأُم وَالْجدّة أَحَق بالجارية حَتَّى يتَزَوَّج الْأَب قَالَ أَبُو عبد الله فِي ترغيب القاصد وَإِن كَانَت جَارِيَة فالأب أَحَق بهَا بِغَيْر تَخْيِير وَعنهُ الْأُم أَحَق بهَا حَتَّى تحيض وَهَذِه الرِّوَايَة الثَّانِيَة هِيَ نَحْو مَذْهَب مَالك وَأبي حنيفَة فِي ذَلِك فَفِي الْمُدَوَّنَة مَذْهَب مَالك أَن الْأُم أَحَق بِالْوَلَدِ مالم يبلغ سَوَاء كَانَ ذكرا أَو أُنْثَى فاذا بلغ وَهُوَ أُنْثَى نظرت فَإِن كَانَت الْأُم فِي حرز ومنعة وتحصين فَهِيَ أَحَق بهَا أبدا مالم تنْكح وان بلغت أَرْبَعِينَ سنة وَإِن لم تكن فِي مَوضِع حرز وتحصين أَو كَانَت غير مرضية فِي نَفسهَا فللأب أَخذهَا مِنْهَا وَكَذَلِكَ الْأَوْلِيَاء وَالْوَصِيّ كَالْأَبِ فِي ذَلِك إِذا أَخذ إِلَى أَمَانَة وتحصين وَمذهب اللَّيْث بن سعد نَحْو ذَلِك قَالَ الْأُم أَحَق بالجارية حَتَّى تبلغ فَإِن كَانَت الْأُم غير مرضية فِي فَسَهَا وأدبها لولدها أخذت مِنْهَا إِذا بلغت إِلَّا أَن تكون صَغِيرَة لَا يخَاف عَلَيْهَا وَأما أَبُو حنيفَة فَقَالَ الْأُم وَالْجدّة أَحَق بالجارية حَتَّى تحيض وَمن سوى

الْأُم وَالْجدّة أَحَق بهَا حَتَّى تبلغ حدا تشْتَهي هَذَا هُوَ الْمَشْهُور وَلَفظ الطَّحَاوِيّ حَتَّى تستعنى كَمَا فِي الْغُلَام مُطلقًا وَهَذَا قيل فِيهَا كَمَا قيل فِي الْغُلَام حَتَّى يتأكل وَحدهَا وتلبس وَحدهَا وتتوضأ وَحدهَا ثمَّ تكون مَعَ الْأَب وَأَبُو حنيفَة أَيْضا يَجْعَل الْأَب أَحَق بهَا بعد التَّمْيِيز كَمَا يَقُول مثل ذَلِك فِي الابْن لَكِن يسْتَثْنى الْأُم وَالْجدّة خَاصَّة وَأما الْمَشْهُور عَن أَحْمد وَهُوَ تخير الْغُلَام بَين أَبَوَيْهِ فَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَإِسْحَق بن رَاهَوَيْه وموافقته للشَّافِعِيّ وَإِسْحَق أَكثر من مُوَافَقَته لغَيْرِهِمَا وأصوله أصولهما أشبه مِنْهَا بأصول غَيرهمَا وَكَانَ يثني عَلَيْهِمَا ويعظمهما ويرجح أصُول مذاهبهما على من لَيست أصُول مذاهبه كأصوال مذاهبهما وَعِنْدهم أصُول فُقَهَاء الحَدِيث أصح من أصُول غَيرهم وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَق هما عِنْده من أجل فُقَهَاء الحَدِيث وَجمع بَينهمَا بِمَسْجِد الْخيف فتناظرا فِي مَسْأَلَة رباع مَكَّة والقصة مَشْهُورَة وَذكر أَحْمد أَن الشَّافِعِي علا إِسْحَق بِالْحجَّةِ فِي مَوضِع وَأَن إِسْحَاق علاهُ بِالْحجَّةِ فِي مَوضِع فَإِن الشَّافِعِي كَانَ يُبِيح البيع وَالْإِجَارَة وَإِسْحَاق يمْنَع مِنْهُمَا وَكَانَت الْحجَّة مَعَ الشَّافِعِي فِي جَوَاز بيعهَا وَمَعَ إِسْحَاق فِي الْمَنْع من إِجَارَتهَا وَأما التَّخْيِير فِي الْجَارِيَة فَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَلم أَجِدهُ مَنْقُولًا لَا عَن أَحْمد وَلَا عَن إِسْحَق كَمَا نقل عَنْهُمَا التَّخْيِير فِي الغلاء وَلَكِن نقل عَن الْحسن بن حَيّ أَنَّهَا تخير إِذا كَانَت كاعبا والتخيير فِي الْغُلَام هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَإِسْحَق للْحَدِيث الْوَارِد فِي ذَلِك حَيْثُ خير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُلَاما بَين أَبَوَيْهِ وَهِي قَضِيَّة مُعينَة وَلم يرد عَنهُ نَص عَام فِي تَخْيِير الْوَلَد مُطلقًا والْحَدِيث الْوَارِد فِي تَخْيِير الْجَارِيَة ضَعِيف مُخَالف لإجماعهم

وَالْفرق بَين تَخْيِير الْغُلَام وَالْجَارِيَة أَن هَذَا التَّخْيِير تَخْيِير شَهْوَة لَا تَخْيِير رَأْي ومصلحة كتخيير من يتَصَرَّف لغيره كَالْإِمَامِ وَالْوَلِيّ فَإِن الإِمَام إِذا خير فِي الأسرى بَين الْقَتْل والاسترقاق والمن وَالْفِدَاء فَعَلَيهِ أَن يخْتَار الْأَصْلَح للْمُسلمين ثمَّ قد يصب ذَلِك الْأَصْلَح للْمُسلمين فَيكون مصيبا فِي اجْتِهَاده حَاكما بِحكم الله ويكونه لَهُ أَجْرَانِ وَقد لَا يُصِيبهُ فيثاب على استفراغ وَسعه وَلَا يَأْثَم بعجزه عَن معرفَة الْمصلحَة كَالَّذي ينزل أهل حصن على حكمه كَمَا نزل بتو قُرَيْظَة على حكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا سَأَلَهُ فيهم بَنو عبد الْأَشْهَل قَالَ أَلا ترْضونَ أَن أجعَل الْأَمر إِلَى سيدكم سعد بن معَاذ فرضوا بذلك وطمع من كَانَ يحب استيفاءهم أَن سَعْدا يحابيهم لما كَانَ بَينه وَبينهمْ فِي الْجَاهِلِيَّة من الْمُوَالَاة فَلَمَّا أَتَى سعد حكم فيهم أَن تقتل مُقَاتلَتهمْ وتسبى ذَرَارِيهمْ وتغنم أَمْوَالهم فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقد حكمت فيهم بِحكم الله من فَوق سبع سموات وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه لَو حكم بِغَيْر ذَلِك لم يكن ذَلِك حكما لله فِي نفس الْأَمر وَإِن كَانَ لَا بُد من إِنْفَاذه وَمثل هَذَا مَا ثَبت فِي صَحِيح مُسلم وَغَيره من حَدِيث بُرَيْدَة الْمَشْهُور قَالَ فِيهِ وَإِذا حاصرت أهل حصن فسألوك أَن تنزلهم على حكم الله فَلَا تنزلهم على حكم الله فَإنَّك لَا تَدْرِي مَا حكم الله فيهم وَلَكِن أنزلهم على حكمك وَحكم أَصْحَابك وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء إِنَّه إِذا حاصر الإِمَام حصنا فنزلوا على حكم حَاكم جَازَ إِذا كَانَ رجلا مُسلما حرا عدلا من أهل الِاجْتِهَاد فِي أَمر الْجِهَاد وَلَا يحكم إِلَّا بِمَا فِيهِ حفظ للاسلام من قتل أَوْرَق أَو فدَاء وَتَنَازَعُوا فِيمَا إِذا حكم بالمن فأباه الإِمَام هَل يلْزم حكمه أَولا يلْزم أَو يفرق بَين الْمُقَاتلَة والذرية على ثَلَاثَة أَقْوَال

وَإِنَّمَا تنازعوا فِي ذَلِك لظن المنازع أَن الْمَنّ لاحظ فِيهِ للْمُسلمين وَالْمَقْصُود أَن تَخْيِير الإِمَام الْحَاكِم الَّذِي نزلُوا على حكمه هُوَ تَخْيِير رَأْي مصلحَة بِطَلَب أَي الْأَمريْنِ كَانَ أرْضى لله وَرَسُوله فعله كَمَا ينظر الْمُجْتَهد فِي أَدِلَّة السَّائِل فَأَي الدَّلِيلَيْنِ كَانَ أرجح اتبعهُ وَلَكِن معنى قَوْلنَا يخبر أَنه لَا يتَعَيَّن فعل وَاحِد من هَذِه الْأُمُور فِي كل وَقت بل قد يتَعَيَّن فعل هَذَا تَارَة وَفعل هَذَا تَارَة وَقَول الله فِي الْقُرْآن {فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء} يقتي فعل أحد الْأَمريْنِ وَذَلِكَ لَا يمْنَع تعين هَذَا فِي حَال وَهَذَا فِي حَال كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قل هَل تربصون بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحسنيين وَنحن نتربص بكم أَن يُصِيبكُم الله بِعَذَاب من عِنْده أَو بِأَيْدِينَا} فتربص أحد الْأَمريْنِ لَا يمْنَع بِعَيْنِه إِذا كَانَ الْجِهَاد فرض عين علينا بعض الْأَوْقَات فَحِينَئِذٍ يصيبهم الله بِعَذَاب بِأَيْدِينَا كَمَا فِي قَوْله {قاتلوهم يعذبهم الله بِأَيْدِيكُمْ ويخزهم وينصركم عَلَيْهِم} الْعلمَاء قَوْله تَعَالَى فِي الْمُحَاربين {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف أَو ينفوا من الأَرْض} لَا يَقْتَضِي أَن الإِمَام يُخَيّر تَخْيِير مَشِيئَة فيفعل أَي هَذِه الْأَرْبَعَة شَاءَ بل كلهم متفقون على أَنه يتَعَيَّن هَذَا فِي حَال وَهَذَا فِي حَال ثمَّ أَكْثَرهم يَقُولُونَ تِلْكَ الْأَحْوَال مضبوطة بِالنَّصِّ فَإِن اقْتُلُوا تعين قَتلهمْ وَإِن أخذُوا المَال وَلم يقتلُوا تعين قطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف كَمَا هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد روى فِي ذَلِك حَدِيث مَرْفُوع وَمِنْهُم من يَقُول بل التَّعْيِين بِاجْتِهَاد الإِمَام كَقَوْل مَالك فَإِن رأى أَن الْقَتْل هُوَ الْمصلحَة قتل وَإِن لم يكن قد قتل وَمن هَذَا الْبَاب تَخْيِير الإِمَام فِي الأَرْض الْمَفْتُوحَة عنْوَة بَين جعلهَا فَيْئا

وَجعلهَا غنيمَة كَمَا هُوَ قَول الْأَكْثَرين كَأبي حنيفَة وَالثَّوْري وَأبي عبيد وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ فَإِنَّهُم قَالُوا إِن رأى الْمصلحَة فِي جعلهَا غنيمَة قسمهَا بَين الْغَانِمين كَمَا قسما لنَبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَر وَإِن رأى أَن لَا يقسمها جَازَ كَمَا يقسم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة مَعَ أَنه فتحهَا عنْوَة كَمَا شهِدت بذلك الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة والسيرة المستفيضة وكما قَالَه جُمْهُور الْعلمَاء وَلِأَن خلفاؤه بعده أَبَا بكر وَعَمْرو وَعُثْمَان فتحُوا مَا فتحوه من أَرض الْمغرب وَالروم وَفَارِس كالعراق وَالشَّام ومصر وخراسان وَلم يقسم أحد من الْخُلَفَاء شَيْئا من الْعقار المغنوم بَين الْغَانِمين لَا السوَاد وَلَا غير اسلواد بل جعلُوا الْعقار فَيْئا للْمُسلمين دَاخِلا فِي قَوْله {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ} الْآيَة وَلم يستأذونوا فِي ذَلِك الْغَانِمين بل طلب أكَابِر الْغَانِمين قسْمَة الْعقار فَلم يجيبوهم إِلَى ذَلِك كَمَا طلب بِلَال من عمر أَن يقسم أَرض الشَّام وَطلب مِنْهُ الزبير أَن يقسم أَرض مصر فَلم يجيبوهم إِلَى ذَلِك وَلم يستطب أحد من الْخُلَفَاء أحدا من الْغَانِمين فِي ذَلِك فضلا عَن أَن يَسْتَطِيب أنفس جَمِيع الْغَانِمين وَهَذَا مِمَّا احْتج بِهِ من جعل الأَرْض فَيْئا بِنَفس الْفَتْح وَمن نصر مذْهبه كاسماعيل بن إِسْحَاق وَغَيره وَقَالُوا الأَرْض لَيست دَاخِلَة فِي الْغَنِيمَة فَإِن الله حرم على بني اسرائيل الْمَغَانِم وملكهم الْعقار فَعلم أَنه لَيْسَ من الْمَغَانِم وَهَذَا القَوْل يذكر رِوَايَة عَن أَحْمد كَمَا ذكر عَنهُ رِوَايَة ثلثة كَقَوْل الشَّافِعِي أيه يجب قسْمَة الْعقار وَالْمَنْقُول لِأَن الْجَمِيع مغنوم وَقَالَ الشَّافِعِي إِن مَكَّة لم تفتح عنْوَة بل صلحا فَلَا يكون فِيهَا حجَّة وَمن حكى عَنهُ أَنه قَالَ إِنَّهَا فتحت عنْوَة كصاحب الْوَسِيط وفروعه فقد غلط عَلَيْهِ وَقَالَ فِي السوَاد لَا أَدْرِي مَا أَقُول فِيهِ إِلَّا أَنِّي أَظن فِيهِ ظنا مَقْرُونا بِعلم وَظن أَن عمر استطاب أنفس الْغَانِمين لما روى من قصَّة الْمثنى بن حَارِثَة وَبسط هَذَا لَهُ مَوضِع آخر

وَقَول الْجُمْهُور أعدل الأوقاويل وأشبهها بِالْكتاب وَالسّنة وَالْأُصُول وهم الَّذين قَالُوا يُخَيّر الإِمَام بَين الْأَمريْنِ بن يُخَيّر رَأْي ومصلحة لَا تَخْيِير شَهْوَة ومشيئة وَهَكَذَا سَائِر مَا يُخَيّر فِيهِ وُلَاة الْأَمر وَمن تصرف لغيره بِولَايَة كناظر الْوَقْف ووصى الْيَتِيم وَالْوَكِيل الْمُطلق لَا يخيرون تَخْيِير مَشِيئَة وشهوة بل تَخْيِير اجْتِهَاد وَنظر وَطلب ويجزى للأصلح كَالرّجلِ الْمُبْتَلى بعدوين وَهُوَ مُضْطَر إِلَى الِابْتِدَاء بِأَحَدِهِمَا فيبتدىء بِمَا لَهُ نفع وكالإمام فِي تَوْلِيَة من ولاه الْحَرْب وَالْحكم وَالْمَال يخْتَار الْأَصْلَح فالأصلح فَمن ولى رجلا على عِصَابَة وَهُوَ يجد فيهم من هُوَ أرْضى للهمنه فقد خَان الله وخان رَسُوله وخان الْمُؤمنِينَ وَهَذَا بِخِلَاف من خير بَين شيئسن وَله أَن يفعل أَيهمَا شاد كالمكفر إِذا خير بَين الْإِطْعَام وَالْكِسْوَة وَالْعِتْق فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ أحد الْخِصَال أفضل فَيجوز لَهُ فعل الْمَفْضُول وَكَذَلِكَ لابس الْخُف إِذا خير بني الْمسْح وَبَين الْغسْل وَإِن كَانَ أَحدهمَا وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي إِذا خير بَين الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت وَآخره وَإِن كَانَ أَحدهمَا أفضل وَكَذَلِكَ تَخْيِير الْآكِل والشارب بَين أَنْوَاع الْأَطْعِمَة والأشربة الْمُبَاحَة وَإِن كَانَ نفس الْأكل والرشب وَاجِبا عِنْد الضَّرُورَة حَتَّى إِذا تعين الْمَأْكُول وَجب أكله وَإِن كَانَ ميتَة فَمن اضْطر إِلَى أكل الْميتَة وَجب عَلَيْهِ أكلهَا فِي الْمَشْهُور عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم من أهل الْعلم وَكَذَلِكَ تَخْيِير الْحَاج بَين التَّمَتُّع والإفراد وَالْقرَان عِنْد الْجُمْهُور الَّذين يخيرون الثَّلَاثَة ويجيز الْمُسَافِر بَين الْفطر وَالصَّوْم عِنْد الْجُمْهُور وَأما من يَقُول لَا يجوز أَن يحجّ إِلَّا مُتَمَتِّعا وَأَنه يتَعَيَّن الْفطر فِي السّفر كَمَا يَقُوله طاذفة من السّلف وَالْخلف من أهل السّنة والشيعة فَلَا يَجِيء هَذَا على أصلهم وَكَذَلِكَ الْقصر عِنْد الْجُمْهُور الَّذين يَقُولُونَ لَيْسَ للْمُسَافِر أَن يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ لَهُ أَن يُصَلِّي أَرْبعا فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل فِي السّفر قطّ رلا

رَكْعَتَيْنِ وَلَا أحد من أَصْحَابه فِي حَيَاته عَائِشَة الَّتِي تذكر فِيهِ أَنه أَو أَنَّهَا صلت فِي حَيَاته فِي السّفر أَرْبعا كذب عِنْد حذاق أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ كَمَا قد بسط فِي مَوْضِعه إِذْ الْمَقْصُود هُنَا أَن التَّخْيِير فِي الشَّرْع نَوْعَانِ فَمن خير فِيمَا لغيره بولايته عَلَيْهِ أَو بوكالة مُطلقَة لم يبح لَهُ فِيهِ فعل مَا شَاءَ فَعَلَيهِ أَن يخْتَار الْأَصْلَح وَأما من تصرف لنَفسِهِ فَتَارَة يَأْمُرهُ الشَّارِع بِاخْتِيَار مَا هُوَ الْأَصْلَح بِحَسب اجْتِهَاده كَمَا يَأْمر الْمُجْتَهد أقوى الآراء بل وَأصْلح الْأَحْكَام فِي نفس الْأَمر وَتارَة يُبِيح لَهُ مَا شَاءَ من الْأَنْوَاع الَّتِي خير بَينهمَا كَمَا تقدم هَذَا إِذا كَانَ مُكَلّفا وَأما الصَّبِي الْمُمَيز فَيُخَير تَخْيِير شَهْوَة حَيْثُ كَانَ كل من الْأَبَوَيْنِ نَظِير الآخر وَلم يَنْضَبِط فِي حَقه حكم عَام للْأَب أَو الْأُم فَلَا يُمكن أَن يُقَال كل زب فَهُوَ أصلح للميز من الْأُم وَلَا كل أم فَهِيَ أصلح لَهُ من الْأَب بل قد يكون بعض الْآبَاء أصلح وَبَعض الْأُمَّهَات أصلح وَقد يكون الْأَب أصلح فِي حَال وَالأُم أصلح فِي حَال فَلم يُمكن أَن يعْتَبر أَحدهمَا فِي هَذَا بِخِلَاف الصَّغِير فَإِن الْأُم أصلح لَهُ من الْأَب لِأَن النِّسَاء أوثق بالصغير وَأخْبر بتغذيته وَحمله وتنوعيمه وتنويله وأصبر على ذَلِك وأرحم بِهِ فَهِيَ أقدر وَأخْبر وأرحم وأصبر فِي هَذَا الْموضع فتعينت الْأُم فِي حق الطِّفْل غير الْمُمَيز بِالشَّرْعِ وَلَكِن بقى تَنْقِيح المناط هَل عينهن الشَّارِع لكَون قرَابَة الْأُم مُقَدّمَة عَليّ قرَابَة الْأَب فِي الْحَضَانَة أَو لكَون النِّسَاء أقوم بمقصود الْحَضَانَة من الرِّجَال وَهَذَا فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء يظْهر أَثَرهَا فِي تَقْدِيم نسَاء الْعصبَة على أقَارِب الْأُم مثل أم الْأُم وَأم الْأَب وَالْأُخْت من الْأُم وَالْأُخْت من الْأَب وَمثل الْعمة وَالْخَالَة وَنَحْو ذَلِك هَذَا فِيهِ قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وأرجح

الْقَوْلَيْنِ فِي الْحجَّة تَقْدِيم نسَاء الْعصبَة فَتقدم الْأُخْت من الْأَب عَليّ الْأُخْت من الْأُم وَخَالَة الزب عَليّ خَالَة الْأُم وَهُوَ الَّذِي ذكره الْخرقِيّ فِي مُخْتَصره وزبو الْحسن الْآمِدِيّ وَغَيرهمَا من الْأَصْحَاب وَعلل ذَلِك من علله كَأبي الْحسن الْآمِدِيّ فِي مثل تَقْدِيم خَالَة الْأَب عَليّ خَالَة الْأُم فَإِن قرابتها فِيهَا رحم وتعصيب بِخِلَاف قرَابَة الْأُم فان فيهارحما بَال تعصب فَأم الْأَب مُقَدّمَة على أم الْأُم وَالْأُخْت من الْأَب مُقَدّمَة على الْأُخْت من الْأُم والعمة مُقَدّمَة على الْخَالَة كَمَا يقدم أقَارِب الْأَب من الرِّجَال عَليّ أقَارِب الْأُم فالأخ للْأَب أولى من الْأَخ للْأُم وَالْعم أولى من الْخَال بل قد قيل إِنَّه لاحضانة للرِّجَال من أقَارِب الْأُم بِحَال وَأَن الْحَضَانَة لَا تثبت رلا لرجل من الْعصبَة أَو لامْرَأَة وارثة أَو مدلية بعصبة أَو وَارِث فَإِن عدموا فالحاكم وعَلى الْوَجْه الثَّانِي فَلَا حضَانَة للرِّجَال فِي أقَارِب الْأُم وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد فَلَو كَانَت جِهَة الأمومة راجحة لترجح رجالها ونساؤها فَلَمَّا لم يتَرَجَّح رجالها بالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِك نساؤها وَأَيْضًا فمجموع أصُول الشَّرْع إِنَّمَا تقدم أقَارِب الْأُم فِي الْمِيرَاث وَالْعقل وَالنَّفقَة وَولَايَة الْمَوْت وَالْمَال وَغير ذَلِك لم يقدم الشَّارِع قرَابَة الْأُم فِي حكم من الْأَحْكَام فَمن قدمهن فِي الْحَضَانَة فقد خَالف أصُول الشَّرِيعَة وَلَكِن قدمُوا الْأُم لكَونهَا امْرَأَة وجنس النِّسَاء مُقَدمَات فِي الْحَضَانَة على الرِّجَال وَهَذَا يقتضى تَقْدِيم الْجدّة أم الْأَب على الْجد كَمَا قدمت الْأُم على الْأَب وَتَقْدِيم أخواته على رخوته وعماته على أَعْمَامه وخالاته على أَخْوَاله هَذَا هُوَ الْقيَاس وَالِاعْتِبَار الصَّحِيح وَأما تَقْدِيم جنس نسَاء الْأُم على جنس نسَاء الْأَب فمخالف لِلْأُصُولِ والمعقول وَلِهَذَا كَانَ من قَالَ هَذَا فِي مَوضِع يتناقض وَلَا يطرد أَصله وَلِهَذَا تَجِد لمن لم بضبط

أصل الشَّرْع ومقصوده فِي ذَلِك أَقْوَال متناقضة حَتَّى يُوجد فِي الْحَضَانَة من الْأَقْوَال المتناقضة أَكثر مِمَّا يُوجد فِي غَيرهَا من هَذَا الْجِنْس فَمنهمْ من يقدم أم الْأُم على أم الْأَب كَأحد الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة ثمَّ من هَؤُلَاءِ من يقدم الْأُخْت من الْأَب من الْأُم ثمَّ يقدم الْخَالَة على الْعمة كَقَوْل الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد وَطَائِفَة من أَصْحَاب أَحْمد وبنوا قَوْلهم على أَن الخالات مُقَدمَات على العمات لكونهن من جِهَة الْأُم ثمَّ قَالُوا فِي العمات والخالات وَالْأَخَوَات من كَانَت لِأَبَوَيْنِ أولى ثمَّ من كَانَت لأَب ثمَّ من كَانَت لأم وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ هَذَا مُوَافق لأصول الشَّرْع لَكِن إِذا ضم هَذَا إِلَى قَوْلهم بِتَقْدِيم قرائب الْأُم ظهر التَّنَاقُض وهم أَيْضا قَالُوا بِتَقْدِيم أُمَّهَات الْأَب وَالْجد على الخالات وَالْأَخَوَات للْأُم وَهَذَا مُوَافق لأصول الشَّرْع لكنه يُنَاقض هَذَا الأَصْل وَلِهَذَا قَالُوا فِي القَوْل الآخر إِن الْخَالَة وَالْأُخْت للْأُم أولى من أم الْأَب كَقَوْل الشَّافِعِي الْقَدِيم وَهَذَا أطْرد لأصلهم لكنه فِي غَايَة المناقضة لأصول الشَّرْع وَطَائِفَة أُخْرَى أَصْلهَا فَقدمت من الْأَخَوَات من كَانَت لأم على من كَانَت لأَب كَقَوْل أبي حنيفَة والمزني وَابْن سُرَيج وَبَالغ بعض هَؤُلَاءِ فِي طرد قِيَاسه حَتَّى قدم الْخَالَة على الْأُخْت من الْأَب كَقَوْل زفر وَرِوَايَة عَن أبي حنيفَة وَوَافَقَهُمْ ابْن سُرَيج وَلَكِن أَبُو يُوسُف استتبع ذَلِك فَقدم الْأُخْت للْأَب وَرَوَاهُ عَن أبي حنيفَة وروى عَن زفر أَنه أمعن فِي طرد قِيَاسه حَتَّى قَالَ إِن الْخَالَة أولى من الْجدّة أم الْأَب وَقد روى عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ لَا تَأْخُذُوا بمقاييس زفر فَإِنَّكُم إِذا أَخَذْتُم بمقاييس زفر حرمتم الحلا وحللتم الْحَرَام وَكَانَ يَقُول فِي الْقيَاس قِيَاس زفر أقبح من الْبَوْل فِي الْمَسْجِد وَزفر كَانَ مَعْرُوفا بالإمعان فِي طرد قِيَاسه

لَكِن الشَّأْن فِي الأَصْل الَّذِي قَاس عَلَيْهِ وَفِي عِلّة الحكم فِي الأَصْل وَهُوَ جَوَاب سُؤال للطالبة فَمن أحكم هَذَا الأَصْل استقام قِيَاسه وَهَذَا كَمَا أَن زفر اعْتقد أَن النِّكَاح إِلَى أجل يبطل التَّوْقِيت وَيصِح النِّكَاح لَازِما وَخرج بَعضهم ذَلِك قولا فِي مَذْهَب أَحْمد فَكَانَ مَضْمُون هَذَا القَوْل أَن نِكَاح الْمُتْعَة يصبح لَازِما غير مُؤَقّت وَهُوَ خلاف الْمَنْصُوص وَخلاف إِجْمَاع السّلف وَالْأمة إِذا اخْتلفت فِي مَسْأَلَة على القَوْل لم يكن لمن بعدهمْ إِحْدَاث قَول يُنَاقض الْقَوْلَيْنِ ويتضمن إِجْمَاع السّلف على الْخَطَأ والعدول عَن الصَّوَاب وَلَيْسَ فِي السّلف من يَقُول فِي الْمُتْعَة إِلَّا أَنه بَاطِل أَو يَصح مُؤَجّلا فَالْقَوْل بلزومه مُطلقًا خلاف الْإِجْمَاع وَسبب هَذَا القَوْل اعْتِقَادهم أَن كل شَرط فَاسد فِي النِّكَاح فَإِنَّهُ يبطل وَينْعَقد النِّكَاح لَازِما بِدُونِ حُصُول غَرَض الْمُشْتَرك فألزموه مالم يلتزمه وَلَا ألزمهُ بِهِ الشَّرْع وَلِهَذَا صحّح من قَالَ ذَلِك نكا الشّغَار وَنَحْوه مِمَّا شَرط فِي نفي الْمهْر وصححوا نِكَاح التَّحْلِيل لَازِما مَعَ إبِْطَال شَرط التَّحْلِيل وأمثال ذَلِك وَقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عقبَة بن عَامر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن أَحَق الشُّرُوط أَن توفوا بِهِ مَا استحللتم بِهِ الْفروج فَدلَّ النَّص على أَن الْوَفَاء بِالشُّرُوطِ فِي النِّكَاح أولى مِنْهُ بِالْوَفَاءِ بِالشُّرُوطِ فِي البيع فَإِذا كَانَت الشُّرُوط الْفَاسِدَة فِي البيع لَا يلْزم العقد بِدُونِهَا بل إِمَّا أَن يبطل العقد وَأما إِن يثبت الْخِيَار لمن فَاتَ غَرَضه بالاشتراط إِذا بَطل شَرط فَكيف بِالشُّرُوطِ فِي النِّكَاح وأصل عمدتهم كَون النِّكَاح يَصح بِدُونِ تَقْدِير الصَدَاق كَمَا ثَبت بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فقاسوا النِّكَاح الَّذِي شَرط فِيهِ نفي الْمهْر على النِّكَاح الَّذِي ترك تَقْدِير الصَدَاق فِيهِ كَمَا فعل أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأكْثر

متأخري أَصْحَاب أَحْمد ثمَّ طرد أَبُو حنيفَة قِيَاسه فصحح نِكَاح الشّغَار بِنَاء على أَلا مُوجب لفساده إِلَّا إشغاره عَن الْمهْر وَهَذَا لَيْسَ مُفْسِدا وَأم الشَّافِعِي وَمن وَافقه من أَصْحَاب أَحْمد فتكلفوا الْفرق بَين الشّغَار وَغَيره بِأَن فِيهِ تشريكا فِي الْبضْع أَو تَعْلِيقا للْعقد أَو غير ذَلِك مِمَّا قد بسط فِي غير هَذَا الْموضع وَبَين فِيهِ أَن كل هَذِه فروق غير مُؤثرَة وَأَن الصَّوَاب مَذْهَب أهل الْمَدِينَة مَالك وَغَيره وَهُوَ الْمَنْصُوص عَن أَحْمد فِي عَامَّة أجوبته وَعَلِيهِ أَكثر قدماء أَصْحَابه أَن الْعلَّة فِي إفساده هِيَ شَرط إشغار النِّكَاح عَن الْمهْر وَأَن النِّكَاح لَيْسَ بِلَازِم إِذا شَرط فِيهِ نفي الْمهْر أَو مهر فَاسد فَإِن الله فرض فِيهِ الْمهْر فَلم يحل لغير الرَّسُول النِّكَاح بِلَا مهر فَمن تزوج بِشَرْط أَلا يجب مهر فَلم يعْقد النِّكَاح الَّذِي أذن الله فِيهِ فَإِن الله إِنَّمَا أَبَاحَ العقد لمن يَبْتَغِي بِمَالِه مُحصنا غير مسافح كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم أَن تَبْتَغُوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} فَمن طلب النِّكَاح بِلَا مهر فَلم يفعل مَا أحل الله وَهَذَا بِخِلَاف من اعْتقد أَن لَا بُد من مهر لَكِن لم يقدره كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة} إِلَى قَوْله {وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم لَهُنَّ فَرِيضَة} الآيه فَهَذَا نِكَاح الْمهْر الْمَعْرُوف وَهُوَ مهر الْمثل قَالُوا فَهَذَا هُوَ الْفرق بَين النِّكَاح وَبَين البيع فَإِن البيع بِثمن الْمثل وَهُوَ السّعر أَو الْإِجَارَة بِثمن الْمثل لَا يَصح بِخِلَاف النِّكَاح وَقد سلم لَهُم هَذَا الأَصْل الَّذِي قاسوا عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَكثير من أَصْحَاب أَحْمد فِي البيع وَأما فِي الْإِجَازَة فأصحاب أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد وَغَيرهم يَقُولُونَ إِنَّه يجب أُجْرَة الْمثل فِيمَا جرت الْعدة فِيهِ فِي مثل ذَلِك كمن دخل حمام حمامي يدخلهَا النَّاس بالكراء أَو سكن فِي خَان أَو حجرَة جرت عَادَتهم بذلك أَو دفع طَعَامه أَو خبزه إِلَى من يطْبخ أَو يخبز بِالْأُجْرَةِ أَو ثِيَابه إِلَى من يغسل بِالْأُجْرَةِ

أَو ركب دَابَّة مكارى يكارى بِالْأُجْرَةِ أَو سفينة ملاح يركب النَّاس بِالْأُجْرَةِ فَإِن هَذِه إِجَارَة عرفية عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء وَتجب فِيهَا أُجْرَة الْمثل وَإِن لم يشْتَرط ذَلِك فَهَذِهِ إِجَارَة الْمثل وَكَذَلِكَ لَو اتِّبَاع طَعَاما بِمثل مَا يَنْقَطِع بِهِ السّعر أَو بِسعْر مَا يَبِيع النَّاس أَو بِمَا اشْتَرَاهُ من بَلَده أَو برقمه فَهَذَا يجوز فِي أحد الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره وَقد نَص أَحْمد على هَذِه الْمسَائِل وَمثلهَا فِي غير مَوضِع وَإِن كَانَ كثير من متأخري أَصْحَابه لَا يُوجد فِي كتبهمْ إِلَّا القَوْل الآخر ففساد هَذِه الْعُقُود كَقَوْل الشَّافِعِي وَغَيره وَبسط هَذِه الْمسَائِل ف مَوَاضِع آخر وَالْمَقْصُود هُنَا كَانَ مسَائِل الْحَضَانَة وَأَن الَّذين اعتقدوا أَن الْأُم قدمت لتدم قرَابَة الْأُم لما كَانَ أصلهم ضَعِيفا كَانَت الْفُرُوع اللَّازِمَة للْأَصْل الضَّعِيف ضَعِيفَة وَفَسَاد اللَّازِم يسْتَلْزم فَسَاد الْمَلْزُوم بل الصَّوَاب بِلَا ريب أَنَّهَا قدمت لكَونهَا أُنْثَى فَتكون الْمَرْأَة أَحَق بحضانة الصَّغِير من الرجل فَتقدم الْأُم على الْأَب وَالْجدّة على الْجد وَالْأُخْت على الْأَخ وَالْخَالَة على الْخَال والعمة على الْعم وَأما إِذا اجْتمع امْرَأَة بعيدَة وَرجل قريب فَهَذَا لبسطه مَوضِع آخر إِذْ الْمَقْصُود هُنَا ذكر مَسْأَلَة الصَّغِير الْمُمَيز وَالْفرق بَين الصبية وَالصَّبِيّ فتخيير الصَّبِي الَّذِي وَردت بِهِ السّنة أولى من تعْيين أحد الْأَبَوَيْنِ لَهُ وَلِهَذَا كَانَ تعْيين الْأَب كَمَا قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَته والتخيير تَخْيِير شَهْوَة وَلِهَذَا قَالُوا إِذا اخْتَار الْأَب مُدَّة ثمَّ اخْتَار الْأُم فَلهُ ذَلِك حَتَّى قَالُوا مَتى اخْتَار أَحدهمَا ثمَّ اخْتَار الآخر نقل إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ إِن اخْتَار ابْتِدَاء وَهَذَا قَول الْقَائِلين بالتخيير الْحسن بن صَالح وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَقَالُوا إِذا اخْتَار الْأُم كَانَ عِنْدهَا لَيْلًا وَأما بِالنَّهَارِ فَيكون عِنْد الْأَب ليلعمه ويؤدبه هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد وَكَذَلِكَ قَالَ مَالك وَهُوَ يَقُول يكون عِنْدهَا بِلَا تَخْيِير للْأَب تعاهده عِنْدهَا وأدبه وَبَعثه إِلَى الْمكتب وَلَا يبيت إِلَّا عِنْد الْأُم

قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي وَأحمد وَإِن اخْتَار الْأَب كَانَ عِنْده لَيْلًا وَنَهَارًا وَلم يمْنَع من زِيَارَة أمه وَلَا تمنع من تمريضه إِذا اعتل فَأَما الْبِنْت إِذا خيرت فَكَانَت عِنْد الْأُم تَارَة وَعند الْأَب تَارَة أفْضى ذَلِك إِلَى كَثْرَة مرورها وتبرجها وانتقالها من مَكَان إِلَى مَكَان وَلَا يبْقى الْأَب مركلا بحفظها وَلَا الْأُم موكلة بحفظها وَقد عرف بِالْعَادَةِ مَا تناوب النَّاس على حفظه ضَاعَ وَمن الْأَمْثَال السائرة لَا تصلح الْقدر بن طباختين وَأَيْضًا فاختيار أَحدهمَا بِضعْف رَغْبَة الآخر فِي الْإِحْسَان والصيانة فَلَا يبْقى الْأَب تَامّ الرَّغْبَة فِي حفظهَا وَلَا الْأُم تَامَّة الرَّغْبَة فِي حفظهَا وَلَيْسَ الذّكر كالأنثى كَمَا قَالَت امْرَأَة عمرَان {رب إِنِّي نذرت لَك مَا فِي بَطْني محررا} إِلَى قَوْله {فَلَمَّا وَضَعتهَا قَالَت رب إِنِّي وَضَعتهَا أُنْثَى وَالله أعلم بِمَا وضعت وَلَيْسَ الذّكر كالأنثى وَإِنِّي سميتها مَرْيَم وَإِنِّي أُعِيذهَا بك وذريتها من الشَّيْطَان الرَّجِيم فتقبلها رَبهَا بِقبُول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زَكَرِيَّا} إِلَى قَوْله {وَمَا كنت لديهم إِذْ يلقون أقلامهم أَيهمْ يكفل مَرْيَم} فَهَذِهِ مَرْيَم احْتَاجَت إِلَى من يكفلها ويحضنها حَتَّى اقترعوا على كفالتها فَكيف بِمن سواهَا من النِّسَاء وَهَذَا أَمر يعرف بالتجربة أَن الْمَرْأَة تحْتَاج من الْحِفْظ والصيانة إِلَى مَالا يحْتَاج إِلَيْهِ الصَّبِي وَكلما كَانَ أستر لَهَا وأصون كَانَ أصلح لَهَا وَلِهَذَا كَانَ أستر لَهَا وأصون كَانَ أصلح لَهَا وَلِهَذَا كَانَ لباسها الْمَشْرُوع لباسا يَسْتُرهَا وَلعن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من يلبس مِنْهُنَّ لِبَاس الرِّجَال وَقَالَ لأم سَلمَة فِي عصابتها لية لَا ليتين رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره وَقَالَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح صنفان من أهل النَّار من أمتِي لم أرهما بعد نسَاء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رُؤْسهنَّ مثل أسنمة البخت لَا يدخلن الْجنَّة وَلَا يجدن رِيحهَا وَرِجَال مَعَهم سياط مثل أَذْنَاب الْبَقر يضْربُونَ بهَا عباد الله وَأَيْضًا فَأمرت الْمَرْأَة فِي الصَّلَاة أَن تتجمع وَلَا تجافي بَين أعضائها وَفِي الْإِحْرَام

أَلا ترفع صَوتهَا إِلَّا بِقدر مَا تسمع رفيقتها وَألا ترقى فَوق الصَّفَا والمروة كل ذَلِك لتحقيق سترهَا وصيانتها ونهيت أَن تُسَافِر إِلَّا مَعَ زوج أَو ذِي محرم لحاجتها فِي حفظهَا إِلَى الرِّجَال مَعَ كبرها ومعرفتها فَكيف إِذا كَانَت صَغِيرَة مُمَيزَة وَقد بلغت سنّ ثوران الشَّهْوَة فِيهَا وَهِي قَابِلَة للانخداع وَفِي الحَدِيث النِّسَاء لحم على وَضم إِلَّا مَا ذب عَنهُ فَهَذَا مِمَّا يبين أَن مثل هَذِه الصبية المميزة من أحْوج النِّسَاء إِلَى حفظهَا وصونها وترددها بَين الْأَبَوَيْنِ مِمَّا يخل بذلك من جِهَة أَنَّهَا هِيَ لَا يجْتَمع قَلبهَا على مَكَان معِين وَلَا يجْتَمع قلب أحد الْأَبَوَيْنِ على حفظهَا وَمن جِهَة أَن تمكينها من اخْتِيَار هَذَا تَارَة يخل بِكَمَال حفظهَا وَهُوَ ذَرِيعَة إِلَى ظُهُورهَا ومرورها فَكَانَ الْأَصْلَح لَهَا أَن تجْعَل أحد الْأَبَوَيْنِ مُطلقًا وَلَا تمكن من التَّخْيِير كَمَا قَالَ جمهورعلماء الْمُسلمين مَالك وَأَبُو حنيفَة وَأحمد وَغَيرهم وَلَيْسَ فِي تخييرها نَص صَرِيح وَلَا قِيَاس صَحِيح وَالْفرق ظَاهر بَين تخييرها وتخيير الابْن لَا سِيمَا وَالذكر مَحْبُوب مَرْغُوب فِيهِ فَلَو اخْتَار أَحدهمَا كَانَت محبَّة الآخر لَهُ تَدعُوهُ إِلَى مراعاته وَالْبِنْت مزهود فِيهَا فأحد الْوَالِدين قد يزهد مَعَ رغبتها فِيهِ فَكيف مَعَ زهدها فِيهِ فالأصلح لَهَا لُزُوم أَحدهمَا لَا التَّرَدُّد بَينهمَا ثمَّ هُنَا يحصل الِاجْتِهَاد فِي تعْيين أَحدهمَا فَمن عين الْأُم كمالك وَأبي حنيفَة وَأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا بُد أَن يراعوا مَعَ ذَلِك صِيَانة الْأُم لَهَا وَلِهَذَا قَالُوا مَا ذكره مَالك وَاللَّيْث وَغَيرهمَا إِذا لم تكن الْأُم فِي مَوضِع حرز وتحصين أَو كَانَت غير مرضية فللأب أَخذهَا مِنْهَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي راعاه أَحْمد فِي الرِّوَايَة الَّتِي اشتهرت عِنْد أَصْحَابه حَتَّى لم يذكر أَكْثَرهم فِي ذَلِك نزاعا وَقد عللوا ذَلِك بحاجتها إِلَى الْحِفْظ والترويج وَالْأَب أقوم لذَلِك من الْأُم فَإِنَّهُ إِذا كَانَ لَا بُد من رِعَايَة حفظهَا وصيانتها وَأَن للْأَب أَن ينترعها من الْأُم إِذا لم تكن حافظة لَهَا

بِلَا ريب فالأب أقدر على حفظهَا وصيانتها من الْأُم وَهِي مُمَيزَة لَا تحْتَاج فِي بدنهَا إِلَى أحد وَالْأَب لَهُ من الهيبة وَالْحُرْمَة مَا لَيْسَ للْأُم وَأحمد وَأَصْحَابه إِنَّمَا يقدمُونَ الْأَب إِذا لم يكن عَلَيْهَا فِي ذَلِك ضَرَر فَلَو قدر أَن الْأَب عَاجز عَن حفظهَا وصيانتها أَو يهمل حفظهَا لانشغاله عَنْهَا أَو لقلَّة دينه وَالأُم قَائِمَة بحفظها وصيانتها فَإِنَّهُ تقدم الْأُم فِي هَذِه الْحَال فَكل من قدمْنَاهُ من الْأَبَوَيْنِ إِنَّمَا تقدمه إِذا حصل بِهِ مصلحتها واندفعت بِهِ مفسدتها فَأَما مَعَ وجود فَسَاد أمرهَا مَعَ أَحدهمَا فالآخر أولى بِهِ بِلَا ريب حَتَّى الصَّغِير إِذا اخْتَار أحد أَبَوَيْهِ وقدمناه إِنَّمَا نقدمه بِشَرْط حُصُول مصْلحَته وَزَوَال مفسدته فَلَو قَدرنَا أَن الْأَب أقرب لَكِن لَا يصونه وَالأُم تصونه لم يلْتَفت إِلَى اخْتِيَار الصَّبِي فَإِنَّهُ ضَعِيف الْعقل قد يخْتَار أَحدهمَا لكَونه يُوَافق هَوَاهُ الْفَاسِد وَيكون الصَّبِي قَصده الْفُجُور ومعاشرة الْفجار وَترك مَا نيفعه من الْعلم وَالدّين وَالْأَدب والصناعة فيختار من أَبَوَيْهِ من يحصل لَهُ مَعَه مَا يهواه وَالْآخر يذوده ويصلحه وَمَتى كَانَ كَذَلِك فَلَا ريب أَنه لَا يُمكن مِمَّن يفْسد مَعَه حَاله وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَاب الشفعي وَأحمد إِنَّه لاحضانة لفَاسِق وَكَذَلِكَ قَالَ الْحسن ابْن حَيّ وَقَالَ مَالك كل من لَهُ الْحَضَانَة من أَب أَو ذَات رحم أَو عصبَة لَيْسَ لَهُ كِفَايَة وَلَا مَوْضِعه بحرز وَلَا يُؤمن فِي نَفسه فَلَا حضَانَة لَهُ والحضانة لمن فِيهِ ذَلِك وَإِن بعد وَينظر للْوَلَد فِي ذَلِك بِالَّذِي هُوَ أكفأ وأحرز فَرب وَالِد يضيع وَلَده وَكَذَلِكَ قَالُوا وَهَذَا القَاضِي أَبُو يعلى فِي خِلَافه إِنَّمَا يكون التَّخْيِير بَين أبوين مإمونين عَلَيْهِ يعلم أَنه لَا ضَرَر عَلَيْهِ من كَونه عِنْد وَاحِد مِنْهُمَا فَأَما من لَا يقوم بأَمْره ويخليه للعب فَلَا يثبت التَّخْيِير فِي حَقه وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لسبع وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لعشر وَفرقُوا بَينهم فِي الْمضَاجِع فَمَتَى كَانَ أحد الْأَبَوَيْنِ يَأْمُرهُ بذلك وَالْآخر لَا يَأْمُرهُ كَانَ عِنْد الَّذِي يَأْمُرهُ بذلك دون الآخر لِأَن ذَلِك الْآمِر لَهُ هُوَ الْمُطِيع لله وَرَسُوله فِي تَرْبِيَته وَالْآخر عَاص لله

وَرَسُوله فَلَا يقدم منيعصى الله فِيهِ على من يُطِيع الله فِيهِ بل يجب إِذا كَانَ أحد الْأَبَوَيْنِ يفعل مَعَه مَا أَمر الله بِهِ وَرَسُوله وَيتْرك مَا حرم الله وَرَسُوله وَالْآخر لَا يفعل مَعَه الْوَاجِب أَو يفعل مَعَه الْحَرَام قدم منيفعل الْوَاجِب وَلَو اخْتَار الصَّبِي غَيره بل ذَلِك العَاصِي لَا ولَايَة لَهُ عَلَيْهِ بِحَال بل كَانَ من لم يقم بِالْوَاجِبِ فِي ولَايَته فَلَا ولَايَة لَهُ بل إِمَّا يرفع يَده عَن الْولَايَة ويقام من يفعل الْوَاجِب وَإِمَّا أَن يضم إِلَيْهِ من يقوم مَعَه بِالْوَاجِبِ فَإِذا كَانَ مَعَ حُصُوله عِنْد أحد الْأَبَوَيْنِ يحصل طَاعَة الله وَرَسُوله لَا حَقه وَمَعَ حُصُوله عِنْد الآخر لَا يحصل لَهُ قدم الأول قطعا وَلَيْسَ هَذَا الْحق من جنس الْمِيرَاث الَّذِي يحصل بالرحم وَالنِّكَاح وَالْوَلَاء وَإِن كَانَ الْوَارِث حَاضرا وعاجزا بل هُوَ من جنس الْولَايَة ولَايَة النِّكَاح وَالْمَال الَّتِي لابد فِيهَا من الْقُدْرَة على الْوَاجِب وَفعله يحْسب الْإِمْكَان ورذا قدر أَن الْأَب تزوج بضرة وَهُوَ يَتْرُكهَا عِنْد ضرَّة أمهَا لَا تعْمل مصلحتها بل تؤذيها أَو تقصر فِي مصلحتها فَهُنَا وَلَا يؤذيها فالحضانة هُنَا للْأُم قطعا وَلَو قدر أَن التَّخْيِير مَشْرُوع وَأَنَّهَا اخْتَارَتْ الْأُم فَكيف إِذا لم يكن كَذَلِك وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يعلم أَن الشَّارِع لَيْسَ لَهُ نَص عَام على تقيم أحد الْأَبَوَيْنِ مُطلقًا وَلَا تَخْيِير أحد الأوبين مُطلقًا وَالْعُلَمَاء متفقون على أَنه لَا يتَعَيَّن أَحدهمَا مُطلقًا بل مَعَ الْعدوان والتفريط وَالْفساد وَالضَّرَر لَا يقدم من يكون كَذَلِك على الْبر الْعَادِل المحسن القاذم بِالْوَاجِبِ وَقد عللوا أَيْضا تَقْدِيم الْأَب بعلة ثَانِيَة بِأَنَّهَا إِذا صَارَت مُمَيزَة صَارَت مِمَّن تخْطب وَتزَوج واحتاجت إِلَى تجهيزها فَإِذا كَانَت عِنْد الْأَب كَانَ أنظر لَهَا وأحرص على تجهيزها وتزويجها مِمَّا إِذا كَانَت عِنْد الْأُم

وَأَبُو حنيفَة يُوَافق أَحْمد على أَن الْأَب أَحَق بهَا من الْخَالَة وَالْأُخْت والعمة وَسَائِر النِّسَاء بِخِلَاف مَا قَالَه فِي الصَّبِي فَإِنَّهُ جعل الْأَب أَحَق بِهِ مُطلقًا لَكِن قَالَ الْأُم وَالْجدّة أَحَق من الْأَب فكلاهما قدم الْأَب وَغَيره من الْعصبَة على النِّسَاء لَكِن أَحْمد طرد الْقيَاس فقدمه على جَمِيع النِّسَاء وَأَبُو حنيفَة فرق بَين عَمُود النّسَب وَغَيره وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قَالَ الْخَالَة أم فَإِذا قدم الْأَب على النِّسَاء اللَّاتِي يقدمن عَلَيْهِ فِي حَال صغرها دلّ ذَلِك على أَن الْأَب أقوم بمصلحة ابْنَته من النِّسَاء وَتبين أَن أصل هَذَا القَوْل لَيْسَ فِي مُفْرَدَات أَحْمد بل هُوَ طرد فِيهِ قِيَاسه وَبِكُل حَال فَهُوَ قوى مُتَوَجّه لَيْسَ بأضعف من غَيره من الْأَقْوَال المقولة فِي الْحَضَانَة ولي قَول من رجح الْأُم مُطلقًا بأقوى مِنْهُ وَمِمَّا يقوى هَذَا القَوْل أَن الْوَلَد مُطلقًا رذا تعين أَن يكون فِي مَدِينَة أحد الْأَبَوَيْنِ دون الآخر وَكَانَ الْأَب سَاكِنا فِي مصر وَالأُم سَاكِنة فِي مصر آخر فالأب أَحَق بِهِ مُطلقًا سَوَاء كَانَ ذكرا أَو أُنْثَى عِنْد عَامَّة الْعلمَاء كشريح القَاضِي وكمالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَغَيرهم حَتَّى قَالُوا إِن الْأَب إِذا أَرَادَ سفر نقلة لغير الضرار إِلَى مَكَان بعيد فَهُوَ أَحَق بِهِ لِأَن كَونه مَعَ الْأَب أصلح لَهُ لحفظ نسبه وَكَمَال تَرْبِيَته وتعليمه وتأديبه وَأَنه مَعَ الْأُم تضيع مصْلحَته وَلَا يُخَيّر الْغُلَام هُنَا عِنْد أَحدهمَا لَا يخرج إِلَى الأحق فالاب أَيْضا أَحَق لِأَن كَونه عِنْد الْأَب أصلح لَهُ وَهَذَا الْمَعْنى مُنْتَفٍ فِي الابْن لِأَنَّهُ يُخَيّر وَلِأَن تردد الابْن بَينهمَا لَا مضرَّة عَلَيْهِ فِيهِ بِخِلَاف الْبِنْت وَاتَّفَقُوا كلهم على أَن الْأُم لَو أَرَادَت أَن تُسَافِر بِالذكر أَو الْأُنْثَى من الْمصر الَّذِي فِيهِ عقد النِّكَاح فالأب أَحَق بِهِ فَلم يرجح أحد مِنْهُم الْأُم مُطلقًا فَدلَّ ذَلِك على أَن ترجيحها فِي حضَانَة الْوَلَد مُطلقًا ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى مُخَالف لهَذَا الأَصْل الَّذِي اتَّفقُوا عَلَيْهِ وَعلم أَنهم متفقون على تَرْجِيح جَانب الْأَب عِنْد تعذر الْجمع بَينهمَا وَهَذَا ثَابت فِي الْوَلَد وَإِن كَانَ طفْلا يكون فِي بلد أَبِيه بِخِلَاف

مَا إِذا كَانَ الأبوان فِي مصر وَاحِد هُنَا هُوَ مَعَ الصغر للْأُم لِأَن فِي ذَلِك جمعا بَين المصلحتين وَمِمَّا يقويه أَيْضا أَن الْغُلَام إِذا بلغ معتوها كَانَت حضانته للْأُم كالصغير وَإِن كَانَ عَاقِلا كَانَ أمره إِلَى نَفسه يسكن حَيْثُ شَاءَ إِذا كَانَ مَأْمُونا على نَفسه عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم فَإِن كَانَ غير مَأْمُون على نَفسه فَلم يَجْعَل أحد الْولَايَة عَلَيْهِ للْأُم بل قَالُوا للْأَب ضمه إِلَيْهِ وتأديبه وَالْأَب يمنعهُ من السلفة وَأما الْجَارِيَة إِذا بلغت فَنقل عَن مَالك الْوَالِد أَحَق بضَمهَا إِلَيْهِ حَتَّى تزوج وَيدخل بهَا الزَّوْج ثمَّ هِيَ أَحَق بِنَفسِهَا وتسكن حَيْثُ شَاءَت إِلَّا أَن يخَاف مِنْهَا هوى أَو ضَيْعَة أَو سوء مَوضِع فيمنعها الْأَب بضَمهَا إِلَيْهِ وَقد تقدم فِي الْمُدَوَّنَة أَن الْأُم أَحَق بهَا مالم تنْكح وَإِن بلغت أَرْبَعِينَ سنة وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حنيفَة فِي الْبكر قَالَ الْأَب أحب بهَا مأموة كَانَت أَو غير مَأْمُونَة وَالْبِنْت هِيَ أَحَق بِنَفسِهَا إِذا كَانَت مَأْمُونَة وَقَالَ الشَّافِعِي هِيَ أَحَق بِنَفسِهَا إِذا كَانَت مَأْمُونَة بكرا كَانَت أَو ثَيِّبًا وَفِي مَذْهَب أَحْمد ثَلَاثَة أَقْوَال ذكرهَا فِي الْمُحَرر رِوَايَتَيْنِ ووجها أَحدهَا أَن تكون عِنْد الْأَب حَتَّى تتَزَوَّج وَيدخل بهَا الزَّوْج وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَصره القَاضِي وَغَيره فِي كتبهمْ وَقَالُوا إِن الْجَارِيَة إِذا بلغت وَكَانَت بكرا فعلَيْهَا أَن تكون مَعَ إبيه حَتَّى تتَزَوَّج وَيدخل بهَا الزَّوْج وَلم يذكرُوا فِيهِ نزاعا وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن أَحْمد تكون عِنْد الْأُم وَهَذِه الرِّوَايَة إِنَّمَا أَخذهَا الشَّيْخ أَبُو البركات من الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة أَن حصانتها تكون للْأُم مالم تتَزَوَّج فَإِنَّهُ على هَذِه الرِّوَايَة نقل عَن أَحْمد فِيهَا رِوَايَتَيْنِ فَإِن أَحْمد فِيهَا رِوَايَتَيْنِ فَإِن أَحْمد قَالَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَة الْأُم وَالْجدّة أَحَق بالجارية مالم تتَزَوَّج فَجَعلهَا أَحَق بهَا مالم تتَزَوَّج فِي رِوَايَة مهنا وَقَالَ فِي رِوَايَة ابْن مَنْصُور يقْضِي بالجارية للْأُم والخلة واتى إِذا احْتَاجَت

فصل

إِلَى التَّزْوِيج فالأب أَحَق بهَا فَهُنَا قَالَ عِنْد الْحَاجة إِلَى التَّزْوِيج للْأَب وَإِن كَانَت لم تتَزَوَّج بعد وَهَذَا يكون بِالْبُلُوغِ وَأما القَوْل الثَّالِث فِي مذْهبه وَهُوَ أَنَّهَا إِذا بلغت تكون حَيْثُ شَاءَت كالغلام فَهَذَا يَجِيء على قَول من يخيرها الْغُلَام فَمن خير الْغُلَام الْغُلَام قبل بُلُوغه كَانَ أمره بعد الْبلُوغ إِلَى نَفسه كَمَا قَالَه الشَّافِعِي وَأحمد وَغَيرهمَا لَكِن أَبُو البركات حكى هَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة فِي محرره فِي الْبَالِغَة وَهِي مطالقة للأقوال الثَّلَاثَة الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي غير الْبَالِغَة فَإِنَّهُ على الْمَشْهُور عِنْد أَصْحَاب أَحْمد أَنَّهَا إِذا كَانَت قبل الْبلُوغ عِنْد الْأَب فَهِيَ بعد الْبلُوغ أولى أَن تكون عِنْد الْأَب مِنْهَا عِنْد الْأُم فَإِن أَبَا حنيفَة وَأحمد فِي رِوَايَة ومالكا يجعلونها قبل الْبلُوغ للْأُم وَبعد الْبلُوغ جعلوها عِنْد الْأَب وَهَذَا يدل على أَن الْأَب أحفظ لَهَا وأصون وَأنْظر فِي مصلحتها فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَا فرق بَين مَا قبل الْبلُوغ وَمَا بعده فِي ذَلِك فَتبين أَن هَذَا القَوْل وَهُوَ جعل الْبِنْت المميزة عِنْد الْأَب أرجح من غَيره وَالله أعلم فصل والتخيير قد جَاءَ فِيهِ حديثان وَأما تَقْدِيم الْأُم على الْأَب فِي حق الصَّغِير فمتفق عَلَيْهِ وَقد جَاءَ فِيهِ حَدِيث عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَن الْمَرْأَة قَالَت يَا رَسُول الله إِن ابْني هَذَا كَانَ بَطْني لَهُ وعَاء وحجري لَهُ حَوَّاء وثديي لَهُ سقاء وَزعم أَبوهُ أَنه يَنْزعهُ مني فَقَالَ أَنْت أَحَق بِهِ مالم تنكحي رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد لَكِن فِي لَفظه وَأَن أَبَاهُ طَلقنِي وَزعم انه ينتزعه مني وَقَالَ ابْن الْمُنْذر أجمع كل من يحفظ عَنهُ من أهل الْعلم على أَن الزَّوْجَيْنِ إِذا افْتَرقَا وَلَهُمَا ولد طِفْل أَن الْأُم أَحَق بِهِ مَا لم تنْكح وَمِمَّنْ حفظتا عَنهُ ذَلِك يحيى الْأنْصَارِيّ وَالزهْرِيّ وَمَالك وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَبِه تَقول وَقد روينَا عَن أبي بكر الصّديق أَنه حكم على عَمْرو بِهِ وبصبي لعاصم لأمه أم

عَاصِم وَقَالَ حجرها وريحها ومسها خيرله مِنْك حَتَّى تشب فيختار وَأما التَّخْيِير فَمن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير غُلَاما بَين أَبِيه وَأمه رَوَاهُ أَحْمد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ فِيهِ إِن امْرَأَة جَاءَت فَقَالَت يَا رَسُول الله إِن زَوجي يُرِيد أَن يذهب يَا بني وَقد سقاني من بِئْر أبي عنبة وَقد نَفَعَنِي فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتهمَا عَلَيْهِ قَالَ زَوجهَا من يحاققني فِي وَلَدي فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا أَبوك وَهَذِه أمك فَخذ بيد أَيهمَا شِئْت فَأخذ بيد أمه فَانْطَلَقت بِهِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ كَذَلِك وَلم يذكر اسْتهمَا عَلَيْهِ وَرَوَاهُ أَحْمد كَذَلِك أَيْضا لكنه قَالَ فِيهِ جَاءَت امْرَأَة قد طَلقهَا زَوجهَا وَلم يذكر فِيهِ قَوْلهَا قد سقاني ونفعني وَقد روى تَخْيِير الْغُلَام بَين أَبَوَيْهِ عَن عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَأبي هُرَيْرَة فروى سعيد بن مَنْصُور وَغَيره أَن عمر بن الْخطاب خير غُلَاما بَين أَبِيه وَأمه وَعَن عمَارَة الْحُرَيْثِيُّ أَنه قَالَ خيرني عَليّ بَين عمي وَأمي وَكنت ابْن سبع أَو ثَمَان وروى نَحْو ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة وَلم يعرف لَهُم مُخَالف مَعَ أَنَّهَا فِي مَظَنَّة الاشتهار وَأما الحَدِيث الثَّانِي فَرَوَاهُ عبد الحميد بن جَعْفَر الْأنْصَارِيّ عَن جده أَن جده أسلم وأبت امْرَأَته أَن تسلم فجَاء بِابْن لَهُ صَغِير لم يبلغ قَالَ فأجلس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَب هَهُنَا وَالأُم هَهُنَا ثمَّ خَيره وَقَالَ اللَّهُمَّ اهده فَذهب إِلَى أَبِيه هَكَذَا رَوَاهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبد الحميد ابْن جَعْفَر قَالَ أَخْبرنِي أبي عَن جدي رَافع بن سِنَان أَنه أسلم وأبت امْرَأَته أَن تسلم فَأتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت ابْنَتي وَهِي فطيم أَو شبيهه وَقَالَ رَافع ابْنَتي فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقعد نَاحيَة وَقَالَ لَهَا اقعدي نَاحيَة وأقعد لصبية بَينهمَا ثمَّ قَالَ ادعواها فمالت إِلَى أمهَا فَقَالَ

النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ اهدها فمالت إِلَى أَبِيهَا فَأَخذهَا وَعبد الحميد هَذَا هُوَ عبد الحميد بن جَعْفَر بن عبد الله بن رَافع بن سِنَان الْأنْصَارِيّ وَهَذَا الحَدِيث قد ضعفه بَعضهم فَقَالَ ابْن الْمُنْذر فِي إِسْنَاده مقَال وَقَالَ غَيره هَذَا الحَدِيث لَا يُثبتهُ أهل الثّقل وَقد روى على غير هَذَا الْوَجْه وَقد اضْطربَ هَل كَانَ الْمُخَير ذكرا أم أُنْثَى وَمن روى أَنه كَانَ أُنْثَى قَالَ فِيهِ إِنَّهَا فطيم أَي مفطومة وفعيل بِمَعْنى مفعول إِذا كَانَ صفة يستوى فِيهِ الذّكر والمؤنث يُقَال عين كحيل وكف خضيب فَيُقَال للصَّغِير فطيم وللصغيرة فطيم وَلَفظ الفطيم إِنَّمَا يُطلق على قريب الْعَهْد بالفطم فَيكون لَهُ نَحْو ثَلَاث سِنِين وَمثل هَذَا لَا يُخَيّر بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَأَيْضًا فَإِنَّهُ خير بَين مُسلم وَكَافِر وَهَذَا لَا يجوز عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم فَإِن الْقَائِلين لاي خبرون بَين مُسلم وَكَافِر كالشافعي وَأحمد وَأما الْقَائِلُونَ بِأَن الْكَافِرَة لَهَا حصانة كَأبي حنيفَة وَابْن الْقَاسِم فَلَا يخيرون لَكِن أَبُو ثَوْر يَقُول بالتخيير فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ ابْن الْمُنْذر وَالْجُمْهُور على أَنه لَا حضَانَة لكَافِر وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ والبصريين كسوار وعبد الله بن الْحسن وَقَالَ ابو حنيفَة وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْقَاسِم صَاحب مَالك الذِّمِّيَّة فِي ذَلِك كالمسلمة وَهِي أَحَق بِوَلَدِهَا من أَبِيه الْمُسلم وَهُوَ قَول الاصطخري من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَقد قيد ذَلِك أَبُو حنيفَة فَقَالَ هِيَ أَحَق بِوَلَدِهَا مَا لم يقل الْأَدْيَان وَيخَاف أَن يألف الْكفْر وَالْأَب إِذا كَانَ مُسلما كَانَ الْوَلَد مُسلما باتفاقهم وَكَذَلِكَ إِن كَانَت الْأُم مسلمة عِنْد الْجُمْهُور كالشافعي وَأحمد وَأبي حنيفَة فَإِنَّهُ يتبع عِنْد الْجُمْهُور فِي الدّين خيرهما دنيا وَأما فِي النّسَب وَالْوَلَاء فَهُوَ يتبع الْأَب بالِاتِّفَاقِ وَفِي الْحُرِّيَّة أَو الرّقّ يتبع الْأُم بالِاتِّفَاقِ وَقد حمل بَعضهم هَذَا الحَدِيث على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علم أَنَّهَا تخْتَار الْأَب بدعائه فَكَانَ ذَلِك خَاصّا فِي حَقه

وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْقِصَّة قَضِيَّة فِي عين وَالْأَشْبَه أَنَّهَا كَانَت فِي أول زمن الْهِجْرَة فَإِن الْأَب كَانَ من الْأَنْصَار فَأسلم وَالأُم لم تسلم وَفِي آخر الْأَمر أسلم جَمِيع نسَاء الْأَنْصَار فَلم يكن فِيهِنَّ إِلَّا مسلمة حَتَّى قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ اغْفِر للْأَنْصَار ولأبناء الْأَنْصَار ولنساء الْأَنْصَار وَلما قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة لم يكره أحدا على الْإِسْلَام وَلَا ضرب الْجِزْيَة على أحد وَلَكِن هادن الْيَهُود مهادنة وَأما الْأَنْصَار فَفَشَا فيهم الْإِسْلَام وَكَانَ فيهم من لم يسلم بل كَانَ مظْهرا لكفره فَلم يَكُونُوا ملتزمين لحكم الْإِسْلَام وَكَذَلِكَ كَانَ عبد الله بن أبي ابْن سلول وَغَيره قبل أَن يظهروا الْإِسْلَام وَقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أُسَامَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذهب يعود سعد بن عبَادَة فَمر بِمَجْلِس من الْأَنْصَار الحَدِيث فَفِي هَذَا الحَدِيث وَغَيره من الْأَحَادِيث مَا يبين أَنهم كَانُوا قبل غَزْوَة بدر متظاهرين بالْكفْر من غير إِسْلَام وَلَا ذمَّة فَلم يكن الْكفَّار ملتزمين لحكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا الْتِزَام حكمه إِنَّمَا يكون بِالْإِسْلَامِ أَو بالعهد الَّذِي التزموا فِيهِ ذَلِك وَلم يكن الْمُشْركُونَ كَذَلِك فَلهَذَا لم يلْزم الْمَرْأَة بِحكم الْإِسْلَام بل دَعَا الله أَن يهدي الصَّغِير فَاسْتَجَاب الله ودعاؤه لَهُ أَن يهديه دَلِيل على أَنه كَانَ طَالبا مرِيدا لهذاه وَهَذِه أَن يكون عِنْد الْمُسلم لَا عِنْد الْكَافِر لَكِن لم يُمكنهُ ذَلِك بالحكم الظَّاهِر لعدم دُخُول الْكَافِرَة تَحت حكمه فَطَلَبه بدعائه المقبول وَهَذَا يدل على أَنه مَتى أمكن أَن يَجْعَل مَعَ الْمُسلم لَا يَجْعَل مَعَ الْكَافِر وَكَانَ هَذَا حكم الله وَرَسُوله بِأَهْل الذِّمَّة الملتزمون جَرَيَان حكم الله وَرَسُوله عَلَيْهِم يحكم بَينهم بذلك نعم لَو كَانَ النزاع بَين من هُوَ مُسلم وَمن هُوَ من أهل الْحَرْب والهدنة الَّذين لم يلتزموا جَرَيَان حكم الله وَرَسُوله عَلَيْهِم فَهُنَا لَا يُمكن الحكم فيهم بِحكم الْإِسْلَام بِدُونِ رضاهم فيسعى حِينَئِذٍ فِي تَغْلِيب الْإِسْلَام بِالدُّعَاءِ

كَمَا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ كَانَ الِاجْتِهَاد فِي ظُهُور الْإِسْلَام دعاؤه وَاجِبا بِحَسب الْإِمْكَان وعَلى هَذَا فَالْحَدِيث إِن كَانَ ثَابتا دَلِيل على التَّخْيِير فِي الْجُمْلَة لَكِن قد اخْتلف فِي الْمُخَير هَل كَانَ صَبيا أَو صبية فَلم يتَبَيَّن أَحدهمَا فَلَا يبْقى فِيهِ حجَّة على تَخْيِير الْأُنْثَى لَا سِيمَا والمخيرة كَانَت فطيما وَهَذِه لَا تخير باتفاقهم وَإِنَّمَا كَانَ تَخْيِير هَذِه ان صَحَّ من جنس آخر آخر مَا وجد وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم وَكتب فِي شهر ربيع الأول من شهور سنة أَربع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة أحسن الله عَاقبَتهَا بمنه وَكَرمه آمين يَا رب الْعَالمين وكتبها أَضْعَف الْعباد عبد الْمُنعم الْبَغْدَادِيّ الْحَنْبَلِيّ عَفا الله عَنهُ بمنه وَكَرمه بلغ مُقَابلَته بحوله وَمِنْه فصحح حسب الطَّاقَة فِي ليله صباحها خَامِس عشر بِشَهْر ربيع الأول من شهور سنة الْأَرْبَع وَالسِّتِّينَ وَسَبْعمائة أحسن الله عَاقبَتهَا بمنه وَكَرمه

قَاعِدَة فِي شُمُول آي الْكتاب وَالسّنة والاجماع أَمر الثقلَيْن الْجِنّ والانس وَمَا يتَعَلَّق بهم من الْخطاب وَغَيره بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ سيدنَا وَشَيخنَا شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي رَحمَه الله قَاعِدَة شريفة ثَبت بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة أَمر الثقلَيْن الْجِنّ وَالْإِنْس كَمَا أخبر بِهِ فِي سُورَة الْأَنْعَام فِي قَوْله تَعَالَى {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس ألم يأتكم رسل مِنْكُم} وَبِقَوْلِهِ {لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} وَثَبت أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الثقلَيْن جَمِيعًا كَمَا أخبر بِهِ فِي سُورَة الرَّحْمَن وَقل أوحى والأحقاف وكما فِي الْأَحَادِيث الْمَشْهُورَة مثل حَدِيث ابْن مَسْعُود وَغَيره وَثَبت بِالسنةِ وَالْإِجْمَاع مَعَ مَا دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن أَن الْقَلَم مَرْفُوع عَن الصَّبِي حَتَّى يبلغ وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ كَمَا فِي حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب وَعَائِشَة وَغَيرهمَا رفع الْقَلَم عَن ثَلَاث مَعَ قَوْله {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لِيَسْتَأْذِنكُم الَّذين ملكت أَيْمَانكُم وَالَّذين لم يبلغُوا الْحلم مِنْكُم} إِلَى قَوْله {وَإِذا بلغ الْأَطْفَال مِنْكُم الْحلم فليستأذنوا كَمَا اسْتَأْذن الَّذين من قبلهم} وَقَوله {وابتلوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذا بلغُوا النِّكَاح فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم} وَقَوله {وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن حَتَّى يبلغ أشده}

فِي غير مَوضِع مَعَ ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نَهْيه عَن قتل النِّسَاء وَالصبيان وَأَنه استعرض قُرَيْظَة فَمن أنبت قَتله وَمن لم ينْبت لم يقْتله وَمَا روى من الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا ثَلَاثَة كلهم يدل على الله بحجته فَأَما قَوْله {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّمَا يتَنَاوَل من لَا يعقل من الْأَطْفَال والمجانين فَأَما الصَّبِي الْمُمَيز فتكليفه مُمكن فِي الْجُمْلَة وَلِهَذَا يصحح أَكثر الْفُقَهَاء ترفاته تَارَة مُسْتقِلّا كأيمانه وَتارَة بِالْإِذْنِ كمعاوضاته الْكَبِيرَة وَاخْتلفُوا فِي وجوب الصَّلَاة على ابْن عشر وَفِي وجوب الصَّوْم على من أطاقه وَالْخلاف فِيهِ مَعْرُوف فِي مَذْهَب أَحْمد حَتَّى اخْتلف فِي صِحَة شَهَادَته وأمانه وإمامته وولايته فِي النِّكَاح وعتقه وَهنا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى إِن من نتائج التَّكْلِيف الْعقَاب وَالثَّوَاب عِقَاب العَاصِي وثواب الْمُطِيع فَأَما الْعقَاب فَمَا علمت أحدا من أهل الْقبْلَة خَالف فِي أَن الْكَافِر معذب فِي الْجُمْلَة وَإِن اخْتلفُوا فِي تفاصيل عَذَابه ونصوص الْقُرْآن متظاهرة بِعَذَاب الْكَافرين وَلذَلِك الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّة الْمُسلمين من جَمِيع الطوائف عُقُوبَة فجار أهل الْقبْلَة فِي الْجُمْلَة إِمَّا فِي الدُّنْيَا بالمصائب وَالْحُدُود وَإِمَّا فِي الْآخِرَة وَأما غَايَة المرجئة فروى عَنْهَا أَنَّهَا نفت ذَلِك كَمَا أَن الْخَوَارِج والمعتزلة جزمت وُقُوع ذَلِك على جَمِيع الْفَاسِقين وخلودهم فِي النَّار وَأما الثَّوَاب فاتفقت الْأمة على ثَوَاب الْإِنْس على طاعتهم وَاخْتلفُوا فِي الْجِنّ هَل يثابون أَو لَا ثَوَاب لَهُم إِلَّا النجَاة من الْعَذَاب على قَوْلَيْنِ

الأول قَول الْجُمْهُور من الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة والحنبلية وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَغَيرهم وَالثَّانِي مأثور عَن طَائِفَة مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَقد اخْتلف فِي أصُول الْفِقْه هَل من شَرط الْوُجُوب الْعقَاب على التّرْك على قَوْلَيْنِ وَأما الثَّوَاب على الْفِعْل فَهُوَ وَاجِب إِمَّا بِالسَّمْعِ وَإِمَّا بِمُجَرَّد الْإِيجَاب الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَن من لَا تَكْلِيف عَلَيْهِ هَل يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة فَأَما الْإِنْس وَالْجِنّ فيبعثون جيمعا بِاتِّفَاق الْأمة وَلم يَخْتَلِفُوا فِيمَا علمت إِلَّا فِيمَن لم ينْفخ فِيهِ الرّوح هَل يبْعَث على قَوْلَيْنِ وَبَعثه اخْتِيَار القَاضِي وَكثير من الْفُقَهَاء وَذكر أَنه ظَاهر كَلَام أَحْمد رَضِي الله عَنهُ وَأما الْبَهَائِم فَهِيَ مبعوثة بِالْكتاب وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء ثمَّ إِلَى رَبهم يحشرون} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا الوحوش حشرت} والْحَدِيث فِي قَول الْكَافِر {يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} مَعْرُوف وَمَا أعلم فِيهِ خلافًا مَشْهُورا لَكِن اخْتلف بَنو آدم فِي معاد الْآدَمِيّين على أَرْبَعَة أَقْوَال أَحدهَا وَهُوَ قَول جَمَاهِير من الْمُسلمين أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وجماهير متكلميهم وجماهير الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَجُمْهُور غَيرهم أَن الْمعَاد للروح وَالْبدن وأنهما ينعمان ويعذبان وَالثَّانِي وَهُوَ قَول طَائِفَة من متكلمي الْمُسلمين من الأشعرية وَغَيرهم أَن الْمعَاد للبدن وَأَن الرّوح لَا معنى لَهما إِلَّا حَيَاة الْبدن فيحيا الْبدن وينعم ويعذب وَأما معاد روح قَائِمَة بِنَفسِهَا وَنَعِيمهَا وعذابها فينكرونه وَالثَّالِث ضد هَذَا وَهُوَ قَول الإلهيين من الفلاسفة وَطَائِفَة مِمَّن يبطن

مَذْهَبهم من بعض متكلمي أهل الْقبْلَة ومتصوفتهم أَن الْمعَاد للروح دون لبدن الرَّابِع أَنه لَا معاد أصلا لَا لروح وَلَا لبدن وَهُوَ قَول أَكثر مُشْركي الْعَرَب وَكثير من الطبائعيين والمنجمين وَبَعض الإلهيين من المتفلسفة فعلى هذَيْن الْقَوْلَيْنِ يُنكر حشر الْبَهَائِم وعَلى القَوْل الأول يقبل الْخلاف الْمَسْأَلَة الثَّلَاثَة أَن من لَا تَكْلِيف عَلَيْهِ بل قد رفع عَنهُ الْقَلَم هَل يعذب فِي الْآخِرَة وَهنا مَسْأَلَة أَطْفَال الْمُشْركين فَمن قَالَ من أَصْحَابنَا وَغَيرهم إِنَّهُم يُعَذبُونَ تبعا لِآبَائِهِمْ قَالَ بِعَذَاب غير الْمُكَلف تبعا وَمن قَالَ يدْخلُونَ الْجنَّة من أَصْحَابنَا وَغَيرهم قَالَ بتنعيمهم وَالصَّوَاب الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة أَنهم لَا يُعَذبُونَ جَمِيعهم وَلَا ينعمون جَمِيعهم بل فريق مِنْهُم فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير كالبلغ وَهَذَا مُقْتَضى نُصُوص أَحْمد فَإِن أَكثر نصوصه على الْوُقُوف فيهم بِمَعْنى أَنه لَا يحكم لأحد مِنْهُم لَا بجنة وَلَا بِنَار فَدلَّ على جَوَاز الْأَمريْنِ عِنْده فِي حق الْمعِين مِنْهُم وَأما تَجْوِيز الْأَمريْنِ فِي حق مجموعهم فَلَا يلْزمه وَهَذَا قَول الْأَشْعَرِيّ وَغَيره وَبِهَذَا أجَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سُئِلَ عَنْهُم فَقَالَ الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين فَبين أَن الْأَمر مَرْدُود إِلَى علم الله بِمَا كَانُوا يعْملُونَ لَو بلغُوا وَقد ثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي البُخَارِيّ أَنه رأى حول إِبْرَاهِيم عِنْد الْجنَّة أَطْفَال الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين وَثَبت عَنهُ فِي صَحِيح مُسلم أَن الْغُلَام الَّذِي قَتله الْخضر طبع يَوْم طبع كَافِرًا مَعَ أَنه قتل قبل الِاحْتِلَام قَالَ ابْن عياس لنجده الحروري لما سَأَلَهُ عَن قتل الغلمان فَقَالَ إِن كنت تعلم مِنْهُم مَا علمه الْخضر من الْغُلَام الَّذِي قَتله فاقتلهم والا فَلَا تقتلهم هَذَا مَعَ أَن أَبَوَيْهِ كَانَا مُؤمنين وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سُئِلَ عَن أهل الدَّار من الْمُشْركين يبيتُونَ ليصاب من صبيانهم فَقَالَ هم مِنْهُم

وَيجوز قتل الصَّبِي اذا قتل وَإِذا صال وَلم تنْدَفع صولته إِلَّا بِالْقَتْلِ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُون والبهيمة فقد يجوز قتل الصَّبِي فِي بعض الْمَوَاضِع وَحَدِيث عَائِشَة فِي قَوْلهَا عُصْفُور من عصافير الْجنَّة فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو غير ذَلِك يَا عَائِشَة فَإِن الله خلق للجنة أَهلا خلقهَا لَهُم وهم فِي أصلاب آبَائِهِم وَخلق للنار أَهلا خلقهَا لَهُم وهم فِي أصلاب آبَائِهِم وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا لَا يشْهد لأحد بِعَيْنِه من أطفعال الْمُؤمنِينَ أَنه فِي الْجنَّة وَلَكِن يُطلق القَوْل أَن أَطْفَال الْمُؤمنِينَ فِي الْجنَّة وَقد روى بِأَحَادِيث حسان عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن من لم يُكَلف فِي الدُّنْيَا من الصّبيان والمجانين وَمن مَاتَ فِي الفترة يمْتَحنُونَ يَوْم الْقِيَامَة فَمن أطَاع دخل الْجنَّة وَمن عصى دخلالنار وَهَذَا التَّفْصِيل هُوَ الصَّوَاب فَإِن الله قَالَ فِي الْقُرْآن {لأملأن جَهَنَّم مِنْك وَمِمَّنْ تبعك مِنْهُم أَجْمَعِينَ} فأقسم سُبْحَانَهُ أَنه لَا بُد أَن يمْلَأ جَهَنَّم من إِبْلِيس وَأَتْبَاعه وَأَتْبَاعه هم العصاة وَلَا مَعْصِيّة إِلَّا بعد التَّكْلِيف فَلَو دَخلهَا الصَّبِي وَالْمَجْنُون لدخلها من هُوَ من غير أَتْبَاعه فَلم تمتلىء مِنْهُم وَأَيْضًا فقد قَالَ سُبْحَانَهُ {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} وَقَالَ سُبْحَانَهُ {كلما ألقِي فِيهَا فَوْج سَأَلَهُمْ خزنتها ألم يأتكم نَذِير قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير} الْآيَة إِلَى غير ذَلِك من النُّصُوص الدلة على أَن الله لَا يعذب إِلَّا من جَاءَهُ نَذِير وَأَتَاهُ رَسُول والطفل وَالْمَجْنُون ليسَا كَذَلِك كَالْبَهَائِمِ وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} إِلَى قَوْله {إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ أفتهلكنا بِمَا فعل المبطلون}

فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنه استخرج ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم لِئَلَّا يَقُولُوا أتهلكم بِمَا فعل المبطلون فَعلم أَنه لَا يعاقبهم بذنب غَيرهم وَأما البهاذم فعامة الْمُسلمين على أَنه لَا عِقَاب عَلَيْهَا إِلَّا مَا يحْكى عَن التناسخية بِأَنَّهُم مكلفون فيستحقون الْعقَاب وَهَذَا نَظِير قَول من يَقُول لَا تحْشر لَكِن هُنَا الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة وَهُوَ مَا يشرع فِي الدُّنْيَا من عُقُوبَة الصّبيان والجانين والبهاذم على الذُّنُوب مثل ضرب الصَّبِي عَليّ ترك الصَّلَاة لعشر وَمَا يَفْعَله من قَبِيح وَكَذَلِكَ ضرب الْمَجْنُون لكف عدوانه وَضرب البهاذم حضا على الِانْتِفَاع بهَا كالسوق ودفعا لمضرتها كفتل صاذلها وَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث أَنه يتقص فِي الآخر للجماء من القرناء فَهَذِهِ الْأُمُور عقوبات لغير الْمُكَلّفين وَهِي نَوْعَانِ أَحدهمَا مَا كَانَ عُقُوبَة فِي الدُّنْيَا لمصْلحَة وَالثَّانِي مَا كَانَ لأجل حق غَيره فَأَما النَّوْع الأول فمشروع فِي حق الصَّبِي وَالْمَجْنُون فانه يضْرب الصَّبِي على ترك الصَّلَاة ليفعلها ويعتادها وَيضْرب الْمَجْنُون إِذا أَخذ يُؤْذِي نَفسه ليكف عَن إِيذَاء نَفسه وَيجوز أَيْضا مثل هَذَا فِي حق الْبَهَائِم أَن تضرب لمصلحتها وَهَذَا غير الضَّرْب لحق الْغَيْر وَذَلِكَ أَن الْعقُوبَة لمَنْفَعَة المعاقب هِيَ بِمَنْزِلَة يقى الدَّوَاء للْمَرِيض فان الْمَطْلُوب دفع مَا هُوَ أعظم مضرَّة من الدَّوَاء النَّوْع الثَّانِي الْعقُوبَة لأجل حق الْغَيْر وَهَذَا قِسْمَانِ قسم لَا ستيفاء الْمُبَاحَة مِنْهُ كذبح البهاذم للْأَكْل وضربها للمشي فَإِن مَالا يتم الْمُبَاح إِلَّا بِهِ فَهُوَ مُبَاح وَالْقسم الثَّانِي الْعقُوبَة لأجل الْعدوان عَليّ الْغَيْر مثل قتل الصَّائِل من الْمُحَاربين والبهائم وَضرب الجانين وَالصبيان والبهائم إِذا اعْتدى بَعضهم عَليّ بعض أَو اعتدوا على الْعُقَلَاء فِي أنفسهم وَأَمْوَالهمْ فَهَذَا النَّوْع إِن كَانَ لدفع

ضررهم جَازَ بِلَا خلاف مثل قتل الصَّائِل لدفع صوله وَقتل الْكَلْب الْعَقُور الَّذِي يخَاف من ضَرَره فِي الْمُسْتَقْبل وَقتل الفواسق الْخمس فِي الْحل وَالْحرم وَأما إِن كَانَ على وَجه الاقتصاص مثل أَن يظلم صبي صَبيا أَو مَجْنُون مَجْنُونا أَو بَهِيمَة بَهِيمَة فيقتص للمظلوم من الظَّالِم وَإِن لم يكن فِي ذَلِك زجر عَن الْمُسْتَقْبل لَكِن لِاسْتِيفَاء الْمَظْلُوم وَأخذ حَقه فَهَذَا الَّذِي جَاءَ فِيهِ حَدِيث الاقتصاص للجماء من القرناء كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتؤدى الْحُقُوق إِلَى أَهلهَا حَتَّى يسْتَوْفى للجماء من القرناء وَهَذَا مُوَافق لأصول الشَّرِيعَة فَإِن الْقصاص بَين غير الْمُكَلّفين ثَابت فِي الْأَمْوَال بِاتِّفَاق الْمُسلمين فَمن أتلف مِنْهُم مَالا أَو غصب مَالا أَخذ من مَاله مثله سَوَاء فِي ذَلِك الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَالنَّاسِي والمخطىء وَكَذَلِكَ فِي النُّفُوس فَإِن الله تَعَالَى أوجب دِيَة الْخَطَأ وَهِي من أَنْوَاع الْقصاص بِحَسب الْإِمْكَان فَإِن الْقود لم يُمكن إِيجَابه لِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا مِمَّن فعل الْمحرم وَهَؤُلَاء لَيْسُوا مكلفين بِالتَّحْرِيمِ بِخِلَاف مَا كَانَ من بَاب دفع الظُّلم وَأخذ الْحق فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط فِيهِ الْإِثْم وَلِهَذَا نُقَاتِل الْبُغَاة وَإِن كَانُوا متأولين مغفورا لَهُم ويجلد شَارِب النَّبِيذ وَإِن كَانَ متأولا مغفورا لَهُ فَتبين بذلك أَن الظُّلم والعدوان يُؤدى فِيهِ حق الْمَظْلُوم مَعَ الْإِثْم والتكليف وَمَعَ عدم ذَلِك فَإِنَّهُ من بَاب الْعدْل الَّذِي كتبه الله تَعَالَى على نَفسه وَحرم الظُّلم على نَفسه وَجعله محرما بَين عباده الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة دَار التَّكْلِيف فالدنيا دَار تَكْلِيف بِلَا خلاف وَكَذَلِكَ البرزخ وعرصة الْقِيَامَة وَإِنَّمَا يَنْقَطِع التَّكْلِيف بِدُخُول دَار الْجَزَاء وَهِي الْجنَّة أَو النَّار كَمَا صرح بذلك من

صرح من أَصْحَابنَا وَغَيرهم مستدلين بامتحان مُنكر وتكبير للنَّاس فِي قبرهم وفتنتهم إيَّاهُم وَبَان النَّاس يَوْم الْقِيَامَة يدعونَ إِلَى السُّجُود فَمنهمْ من يَسْتَطِيع وَمِنْهُم لَا يَسْتَطِيع وَبِأَن من لم يُكَلف فِي الدُّنْيَا يُكَلف فِي عرصات الْقِيَامَة وَهَذَا ظَاهر الْمُنَاسبَة فَإِن دَار الْجَزَاء لَا امتحان فِيهَا وَأما الإمتحان قبل دَار الْجَزَاء فممكن لَا مَحْذُور فِيهَا والامتحان فِي البرزخ لمن كَانَ مُكَلّفا فِي الدُّنْيَا إِلَّا النَّبِيين ففيهم قَولَانِ لِأَصْحَابِنَا وَغَيرهم وَأما امتحان غير الْمُكَلّفين فِي الدُّنْيَا كالصبيان والمجانين ففيهم قَولَانِ لِأَصْحَابِنَا وَغَيرهم أَحدهمَا لَا يمْتَحنُونَ وعَلى هَذَا فَلَا يلقنون وَهَذَا قَول القَاضِي وَابْن عقيل وَالثَّانِي يمْتَحنُونَ فِي قُبُورهم ويلقنون وَهُوَ قَول أَكْثَرهم حَكَاهُ ابْن عَبدُوس عَن الْأَصْحَاب وذركه أَبُو حَكِيم وَغَيره وَهُوَ أصح كَمَا ثَبت عَن أبي هُرَيْرَة وروى مَرْفُوعا أَنه صلى على طِفْل لم يعْمل خَطِيئَة قطّ فَقَالَ اللَّهُمَّ قه عَذَاب الْقَبْر وفتنة الْقَبْر وَهَذَا الِاخْتِلَاف فِي امتحانهم فِي البرزخ يشبه الِاخْتِلَاف فِي امتحانهم فِي الْعَرَصَة وَقَول من يَقُول بامتحانهم أقرب إِلَى النُّصُوص وَالْقِيَاس من قَول من يَقُول يعاقبون بِلَا امتحان الْمَسْأَلَة السَّادِسَة أَن غير الْمُكَلف قد يرحم فَإِن أَطْفَال الْمُؤمنِينَ مَعَ آبَائِهِم فِي الْجنَّة كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله {وَالَّذين آمنُوا وَاتَّبَعتهمْ ذُرِّيتهمْ} الْآيَة وكما فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ احتجت الْجنَّة وَالنَّار فَقَالَت الْجنَّة لَا يدخلني الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين وَقَالَت النَّار يدخلني الجبارون والمتكبرون فَقَالَ الله للجنة إِنَّمَا أَنْت رَحْمَتي أرْحم بك من شِئْت وَقَالَ للنار إِنَّمَا أَنْت عَذَابي أعذب بك من شِئْت وَلكُل وَاحِدَة مِنْكُمَا ملؤُهَا فَأَما النَّار فَلَا يزَال يلقى فِيهَا وَتقول هَل من مزِيد

حَتَّى يضع رب الْعِزَّة فِيهَا وَفِي رِوَايَة عَلَيْهَا قدمه فينزوي بَعْضهَا الى بعض وَتقول قطّ قطّ وَأما الْجنَّة فيفضل فِيهَا فضل فينشىء الله لَهَا خلقا آخر فَهَذَا الحَدِيث المستفيض المتلقى بِالْقبُولِ نَص فِي أَن الْجنَّة لَهَا فِي الدَّار الْآخِرَة خلق يدْخلُونَهَا بِلَا عمل وَأَن النَّار لَا يدخلهَا أحد بِلَا عمل وَقد غلط فِي هَذَا الحَدِيث المعطلة الَّذين أولُوا قَوْله قدمه بِنَوْع من الْخلق كَمَا قَالُوا الَّذين تقدم فِي علمه أَنهم أهل النَّار حَتَّى قَالُوا فِي قَوْله رجله يُقَال رجل من جَراد وعلطهم من وُجُوه فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ حَتَّى يضع وَلم يقل حَتَّى يلقى كَمَا قَالَ فِي قَوْله لَا يزَال يلقى فِيهَا الثَّانِي أَن قَوْله قدمه لَا يفهم مِنْهُ هَذَا لَا حَقِيقَة وَلَا مجَاز كَمَا تدل عَلَيْهِ الْإِضَافَة الثَّالِث أَن أُولَئِكَ المؤخرين إِن كَانُوا من أصاغر الْمُعَذَّبين فَلَا وَجه لانزوائها واكتفائها بهم فَإِن ذَلِك إِنَّمَا يكون بِأَمْر عَظِيم وَإِن كَانَ من أكَابِر الْمُجْرمين فهم فِي الدَّرك الْأَسْفَل وَفِي أول الْمُعَذَّبين لَا فِي أواخرهم الرَّابِع أَن قَوْله فينزوي بَعْضهَا إِلَى بعض دَلِيل على أَنهم تنضم على من فِيهَا فتضيق بهم من غير أَن يلقى فِيهَا شَيْء الْخَامِس أَن قَوْله لَا يزَال يلقى فِيهَا وَتقول هَل من مزِيد حَتَّى يضع فِيهَا قدمه جعل الْوَضع الْغَايَة الَّتِي إِلَيْهَا يَنْتَهِي الْإِلْقَاء وَيكون عِنْدهَا الانزواء فَيَقْتَضِي ذَلِك أَن تكون الْغَايَة أعظم مِمَّا قبلهَا وَلَيْسَ فِي قَول المعطلة معنى للفظ قدمه إِلَّا وَقد اشْترك فِيهِ الأول وَالْآخر وَالْأول أَحَق بِهِ من الآخر وَقد يغلط فِي الحَدِيث قوم آخَرُونَ ممثلة أَو غَيرهم فيتوهمون أَن قدم الرب تدخل جَهَنَّم وَقد توهم ذَلِك على أهل الْإِثْبَات قوم من المعطلة حَتَّى قَالُوا كَيفَ يدْخل بعض الرب النَّار وائمه تَعَالَى يَقُول {لَو كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَة مَا وردوها}

وَهَذَا جهل مِمَّن توهمه أَو نَقله عَن أهل السّنة والْحَدِيث فَإِن الحَدِيث حَتَّى يضع رب الْعِزَّة عَلَيْهَا وَفِي رِوَايَة فَمَا فينزوي بَعْضهَا إِلَى بعض وَتقول قطّ قطّ وَعزَّتك فَدلَّ ذَلِك على أَنَّهَا تضايقت على من كَانَ فِيهَا فامتلأت بهم كَمَا أقسم على نَفسه أَنه ليملأنها من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ فَكيف تمتلىء بِشَيْء غير ذَلِك من خَالق أَو مَخْلُوق وَإِنَّمَا الْمَعْنى أَنه تُوضَع الْقدَم الْمُضَاف إِلَى الرب تَعَالَى فتنزوي وتضيق بِمن فِيهَا وَالْوَاحد من الْخلق قد يرْكض متحركا من الْأَجْسَام فيسكون أَو سَاكِنا فيتحرك ويركض جبلا فينفجر مِنْهُ مَاء كَمَا قَالَ تَعَالَى {اركض برجلك هَذَا مغتسل بَارِد وشراب} وَقد يضع يَده على الْمَرِيض فَيبرأ وعَلى الغضبان فيرضى الْمَسْأَلَة السَّابِعَة أَن التَّكْلِيف بِالْأَمر وَالنَّهْي ثَابت بِالشَّرْعِ بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَفِي ثُبُوته بِالْعقلِ اخْتِلَاف بَين الْعلمَاء من أَصْحَابنَا وَغَيرهم وَالْمَسْأَلَة مَشْهُورَة مَسْأَلَة التحسين والتقبيح وَوُجُوب الْوَاجِبَات وَتَحْرِيم الْمُحرمَات هَل ثبتَتْ بِالْعقلِ وَمَسْأَلَة وجوب عَرَفَة الله وشكره وَمَسْأَلَة الْأَعْيَان قبل السّمع وَفِي مَسْأَلَة تَفْصِيل كتبته فِي غير هَذَا الْموضع إِذْ الْمَقْصُود هُنَا النكت المستغربة وَأما اثواب وَالْعِقَاب فمعلوم بِالسَّمْعِ بِلَا خلاف بَين الْمُسلمين وَهل يعلم بِالْعقلِ مبْنى على الْمعَاد فَإِن الْمعَاد باسمع بِلَا ريب وَهل يعلم بِالْعقلِ قد اخْتلف فِيهِ فَذهب كثير من أهل الْكَلَام وَذهب أَكثر النَّاس إِلَى أَن الْمعَاد من الْأُمُور السمعية الَّتِي لَا تعلم إِلَّا بِالسَّمْعِ وَهُوَ قَول كثير من أَصْحَابنَا والأشعرية وَغَيرهم وَذهب طوائف إِلَى أَن يعلم بِالْعقلِ ثمَّ تنوعت مسالكهم مِنْهُم من بناه على وجوب الْعدْل وَأَن ذَلِك يَقْتَضِي معادا غير هَذِه الدَّار يجزى فِيهَا الظَّالِمُونَ بظلمهم أَو يعوض المعذبون على عَذَابهمْ وَهَذَا مَسْلَك كثير من الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم وَمِنْهُم من بناه على أَن الرّوح غير الْبدن وَأَنَّهَا بَاقِيَة هَذِه وَأَن لَهَا من النَّعيم والعذابب الروحانيين مَالا يفارقها وَهَذَا مَسْلَك كثير من المتفلسفة وَمن

نحا نحوهم وَمن هَؤُلَاءِ من يثبت معاد الْأَرْوَاح العالمة دون الجاهلة وَفِيهِمْ من يُنكر المعادين وَالصَّوَاب أَن مَعْرفَته بِالسَّمْعِ وَاجِبَة وَأما بِالْعقلِ فقد تعرف وَقد لَا تعرف فَلَيْسَتْ مَعْرفَته بِالْعقلِ ممتنعة وَلَا هِيَ أَيْضا وَاجِبَة وَأما المتفلسفة فَتثبت الْمعَاد بِالْعقلِ وَتثبت التَّكْلِيف الْعقلِيّ وَأما مَا جَاءَ بِهِ السّمع من الْمعَاد والشرائع فلهَا فِيهِ تأويلات محرفة فَصَارَت الْأَقْسَام فِي الْإِيمَان بِالْيَوْمِ الآخر وَفِي الْعَمَل الصَّالح هَل هُوَ مَعْلُوم بِالشَّرْعِ وَحده أَو بِالْعقلِ وَحده أَو يعلم بِكُل مِنْهُمَا فِيهِ هَذَا الْخلاف بَين أهل الأَرْض وَإِن كَانَ الصَّوَاب أَن ذَلِك مَعْلُوم جيمعه بِالشَّرْعِ قطعا وَقد يعلم بعضه بل مثل هَذَا الْخلاف ثَابت فِي معرفَة الله تَعَالَى لَكِن التجاء الْمُتَكَلِّمين هُنَاكَ إِلَى الْعقل اكثر وَكثير من الْمُتَكَلِّمين كأكثر الْمُعْتَزلَة وَكثير من الأشعرية لَا يعلم عِنْدهم وجود الرب وَصِفَاته إِلَّا بِالْعقلِ كَمَا يزعمه الفلاسفة مَعَ اضْطِرَاب هَؤُلَاءِ وَآخَرين فِي مقابلتهم وَقد كتبت تفاصيل أَقْوَال النَّاس وبينت مَذْهَب أَئِمَّة السّنة والْحَدِيث فِي هَذَا الأَصْل فِي قَاعِدَة تفي التَّشْبِيه وَمَسْأَلَة الْجِسْم وَإِمَّا الْغَرَض هَذَا التَّكْلِيف وتوابعه وَإِنَّمَا قرنت بَين الْأُصُول الثَّلَاثَة الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى فِيهَا {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} فأشرت إِلَى طرق النَّاس فِي مَعْرفَتهَا وَالْحَمْد لله وَحده أَولا وآخرا وظاهرا وَبَاطنا حمد كثيرا مُبَارَكًا دَائِما بدواممه ولى الله عَليّ سيذنا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم فرغت يَوْم الثُّلَاثَاء سادس عشر من شهر صفر سنة سته وستيين وَسَبْعمائة علقها العَبْد الْفَقِير إِلَى رَحْمَة ربه الغفور وعفوه وصفحه وجوده وَكَرمه وستره وبره وَمِنْه عبد الْمُنعم الْبَغْدَادِيّ الْحَنْبَلِيّ عَفا الله عَنهُ بمنه وَكَرمه وَعَن جَمِيع الْمُسلمين

الْفَهم شَرط التَّكْلِيف فَلَا يجوز تَكْلِيف الْمَجْنُون والبهيمة والسكران وَغَيرهم مِمَّن فقد مِنْهُ الْفَهم فعلى هَذَا لَا يَقع طَلَاق السَّكْرَان وَلَا يجب عَلَيْهِ الْقصاص فِي الْقَتْل وَلَا يعْتَبر شَيْء من أَقْوَاله وَلَا أَفعاله لَا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ فَإِن قيل إِذا سكر ثمَّ قتل يَأْثَم على السكر وَالْقَتْل فترتب الْإِثْم يدل على التَّكْلِيف لِأَن غير الْمُكَلف لَا إِثْم عَلَيْهِ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن أَحدهمَا منع ترَتّب الْإِثْم على الْقَتْل بل إِنَّمَا هُوَ مُرَتّب على الشّرْب وَالسكر وَهَذَا قَول من يَقُول إِنَّه كَالْمَجْنُونِ فِي سَائِر أَقْوَاله وأفعاله لِأَنَّهُ ان وَجب تَكْلِيفه فَلَا يفهم لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لاعتبر أَقْوَاله وافعاله وَهُوَ لَا يعْتَبر ذَلِك الثَّانِي أَنه لَو رتب الْإِثْم على الْقَتْل وَالسكر لتساوى من قتل وَهُوَ صَاح ثمَّ سكر وَمن قتل وَهُوَ سَكرَان وَهَذَا لَا يَقُول بِهِ أحد فَإِن السَّكْرَان الَّذِي لَا يفهم كَيفَ يُقَال إِن إثمه فِي الْقَتْل كإثم الصاحي الَّذِي يفهم الْخطاب وَيَتَرَتَّب على فعله الْعقَاب وَيحْتَمل أَن يُقَال إِن إِثْم السَّكْرَان الَّذِي قتل فِي حَال سكره من إِثْم من سكر فَقَط وَلَا ينْهَى إئمة من قتل وَهُوَ صَاح ثمَّ سكر وَالله أعلم وَيحْتَمل أَن يُقَال إِن السَّكْرَان إِن كَانَ قَصده الْقَتْل أَو الزِّنَى أَو غير ذَلِك من الْمُحرمَات قبل السكر ثمَّ فعل ذَلِك فِي حَال السكر فَإِنَّهُ قد يكون إثمه مثل إِثْم من فعل ذَلِك حَال الصحو وَأكْثر موإن لم يكن قَصده ذَلِك بل ابتدأه غَيره بالمهابشة فَقتله فان إثمه يكون أقل من ذَلِك مَا دَوَاء من تحكم فِيهِ الدَّاء وَمَا الإحتيال فِيمَن تسلط عَلَيْهِ الخيال وَمَا الْعَمَل فِيمَن غلب عَلَيْهِ الكسل وَمَا الطَّرِيق إِلَى التَّوْفِيق وَمَا الْحِيلَة فِيمَن شطت عَلَيْهِ الْحيرَة

إِن قصد التَّوَجُّه إِلَى الله تَعَالَى مَنعه هَوَاهُ وَإِن رام الأدكار غلبت عَلَيْهِ الافتكار وَإِن أرد أَن يشْتَغل لم يطاوعه الْقَتْل غلب الْهوى فتراه فِي أوقاته ... حيران صَاح بل هُوَ السَّكْرَان إِن رام قربا للحبيب تفَرقا ... أَسبَابه وتواصل الهجران هجر الْأَقَارِب والمعارف عله ... يجد الْغنى وعَلى الْغناء يعان أجَاب رَضِي الله عَنهُ دواؤه الالتجاء إِلَى الله ودوام التضرع وَالدُّعَاء بِأَن يتَعَلَّم الْأَدْعِيَة المأثورة ويتوخى الدُّعَاء فِي مظان الْإِجَابَة مثل آخر اللَّيْل وأوقات الْأَذَان وَالْإِقَامَة وَفِي سُجُوده وَفِي أدبار الصَّلَوَات وَيضم إِلَى ذَلِك الاسْتِغْفَار فَإِنَّهُ من اسْتغْفر الله ثمَّ تَابَ إِلَيْهِ متعه مَتَاعا حسنا إِلَى أجل مُسَمّى وليتخذ وردا من الْأَذْكَار طرفِي النَّهَار وَوقت النّوم وليصبر على مَا يعرض لَهُ من الْمَوَانِع والصوارف فَإِنَّهُ لَا يلبث أَن يُؤَيّدهُ الله بِروح مِنْهُ وَيكْتب الْإِيمَان فِي قلبه وليحرص على إِكْمَال الْفَرَائِض من الصَّلَوَات الْخمس بباطنه وَظَاهره فَإِنَّهَا عَمُود الدّين وَليكن هجيراه لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا الله الْعلي الْعَظِيم فَإِنَّهُ بهَا يحمل الأثقال ويكايد الْأَهْوَال وينال رفيع الْأَحْوَال وَلَا يسأم من الدُّعَاء والطلب فَإِن العَبْد يستحال لَهُ مالم يعجل فَيَقُول قد دَعَوْت فَلم يستجب لي وليعلم أَن النَّصْر مَعَ الصَّبْر وَأَن الْفرج مَعَ لكرب وَأَن مَعَ الْعسر يسرا وَلم ينل أحد شَيْئا من حتم الْخَيْر نَبِي فَمن دونه إِلَّا بِالصبرِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين

§1/1