مختصر إظهار الحق

رحمت الله الهندي

بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد الحمد لله والصلاة والسلام على النبي الأمي محمد وعلى آله وصحبه وبعد: فقد يسر الله لي تحقيق (إظهار الحق) ، لمؤلفه العلامة الشيخ: رحمت الله بن خليل الرحمن الكيرانوي العثماني الهندي، وكان هذا التحقيق على نسختي المؤلف الذهبيتين) المخطوطة والمقروءة) ، وصدرت الطبعة الأولى بتحقيقي عام 1410هـ 1989م في أربعة مجلدات، نشر الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض، ورغب إلى كثير من الزملاء أن أختصر كتاب: (إظهار الحق) في مجلد واحد، سهل العبارة، واضح الإشارة، تسهل ترجمته إلى اللغات الأخرى، ليكون سدا منيعا في وجه المنصرين، الذين يجتهدون في نشر الشبه ضد دين الإسلام، ولكن انشغالي بطباعة بعض كتبي حال دون تنفيذ رغبتهم، ثم توجت تلك الرغبات بتوجيه من الأخ الكريم الدكتور عبد الله بن أحمد الزيد، الوكيل المساعد لشئون المطبوعات والنشر بوزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، حيث نبهني إلى ضرورة اغتنام الوقت في هذا العمل، وبخاصة بعد أن حدثت تطورات خطيرة في العالم، جاهر فيها الصليبيون بعدواتهم للإسلام، وبرغبتهم في تنصير العالم الإسلامي خلال فترة وجيزة، عندئذ جد بي الجد لإخراج هذا المختصر، وأرجو ممن يريد ترجمته إلى أية لغة ينقل نصوص كتب العهدين من الطبعات المتداولة بتلك اللغة، لا أن يترجمها باجتهاده.

وقد أدخلت في هذا المختصر بعض المعلومات الإضافية للتوضيح، مثل تاريخ بعض الحوادث، وسنة وفاة بعض الأعلام، وإذا كان العلم يكتب بصيغتين، أو كانت البلدة لها اسم قديم واسم حديث، كتبت الاسمين معا، وإذا كان نفس الاسم يطلق على بلدتين، حددت المقصودة منهما، ووضحت بعض المصطلحات، وزدت معلومات عن بعض الحوادث التاريخية النصرانية والإسلامية؛ لزيادة البيان، ووضعت الحركات اللازمة على بعض الأحرف؛ لإزالة الالتباس في وجه النطق الصحيح بها، وقد وردت أسماء بعض الكتب دون ذكر أسماء مؤلفيها، فذكرت اسم المؤلف وزمان وفاته، وعززت بعض النصوص في كتب العهدين بذكرها من عدة طبعات، وتصرفت في ترتيب بعض المعلومات تقديما وتأخيرا، بما يكون نافعا للقارئ، ولا يشتت فكره، ودمجت الأبواب الثلاثة الأولى من كتاب (إظهار الحق) في باب واحد؛ ليكون بابا مستقلا في كتب أهل الكتاب وبيان أسمائها وتحريفها ونسخها، وما فعلت ذلك إلا للمصلحة المرجوة في أن يكون هذا المختصر نافعا للقارئ غاية النفع، وغير مخل بالمقصود. فأقول وبالله التوفيق: رتب العلامة الشيخ رحمت الله بن خليل الرحمن الكيرانوي كتابه القيم - إظهار الحق - على مقدمة وستة أبواب، وفيما يلي زبدة هذا الكتاب: د. محمد أحمد عبد القادر ملكاوي الأستاذ المساعد بجامعة الملك سعود الرياض 1 - / 1 / 1415هـ الموافق 10 / 6 / 1994م

مقدمة في بيان الأمور التي يجب التنبيه عليها

[مقدمة في بيان الأمور التي يجب التنبيه عليها] المقدمة بيان الأمور التي يجب التنبيه عليها 1 - أن النقول المنقولة عن كتب علماء البروتستانت في كثير من المواضع وردت بطريق الإلزام، لا على سبيل الاعتقاد. 2 - أن البروتستانت يغيرون كتبهم دائما، بتبديل بعض المضامين أو بالزيادة فيها أو بالنقص منها، ولذلك يقع الاختلاف الكبير بين الطبعات اللاحقة والسابقة، فعلى القارئ أن ينتبه لذلك. 3 - لا حرج في إطلاق لفظ الغلط أو الخطأ أو الكذب على كثير من المضامين والقصص المفتراة على الأنبياء؛ لأنها من التحريف الواقع في الكتب السماوية، وليست من كلام الله تعالى، ولا يعد ذلك من قبيل إساءة الأدب إلى الكتب السماوية؛ لأن إظهار ما فيها من الكذب والتحريف، وإنكار المضامين القبيحة واجب على كل مسلم. 4 - أن عادة علماء النصارى أنهم يأخذون الأقوال الضعيفة القليلة في كتب علماء المسلمين ويشهرونها، ثم يردون عليها، ويوهمون القارئ أن كتب علماء المسلمين مليئة بالأقوال الضعيفة، والحال أنهم يتركون الأقوال القوية ولا يشيرون إليها، وإذا نقلوا قولا فتصدر عنهم الخيانة في النقل بتحريفه أو

بالنقص منه، وهذه العادة من أقبح العادات، ومناقضة للأمانة العلمية في نقل أقوال المخالفين لهم، وكذلك فعل الدكتور القسيس فندر في المناظرة الكبرى التي جرت بينه وبين الشيخ رحمت الله في الهند عام 1270هـ 1854م، فقد طبعها باللغة الإنجليزية بعد التحريف التام لأقوال الفريقين، وفي بعض كتبه كان الدكتور القسيس فندر يترجم الآيات القرآنية ويفسرها برأيه، ثم يعترض عليها، ويدَّعِي أن التفسير الصحيح تفسيره هو لا تفسير علماء المسلمين، والحال أنه جاهل باللغة العربية وبالعلوم القرآنية جهلا تاما، ثم يطمع أن يؤخذ بتفسيره الركيك الرديء ويترك التفسير القوي المجمع عليه من علماء التفسير المسلمين. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.

الباب الأول بيان أسماء كتب العهد العتيق والجديد وإثبات تحريفها ونسخها

[الباب الأول بيان أسماء كتب العهد العتيق والجديد وإثبات تحريفها ونسخها] [الفصل الأول بيان أسمائها وتعدادها] الباب الأول بيان أسماء كتب العهد العتيق والجديد وإثبات تحريفها ونسخها وهو مشتمل على أربعة فصول: الفصل الأول: بيان أسمائها وتعدادها. الفصل الثاني: بيان أن أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد العتيق والجديد، ولا مجال لهم أن يدعوا أن هذه الكتب المشتهرة الآن مكتوبة بالإلهام. الفصل الثالث: بيان أن هذه الكتب مملوءة من الاختلافات والأغلاط والتحريف. الفصل الرابع: إثبات وقوع النسخ في كتب العهدين.

الفصل الأول بيان أسمائها وتعدادها اعلم أن النصارى يقسمون كتبهم إلى قسمين: القسم الأول: يدعون أنه كتب بواسطة الذين كانوا قبل عيسى عليه السلام، ويسمونه العهد العتيق أو العهد القديم. والقسم الثاني: يدعون أنه كتب بالإلهام بعد عيسى عليه السلام، ويسمونه العهد الجديد. ويطلقون على مجموع العهدين القديم والجديد اسم (بيبل) ، وهو لفظ يوناني معناه: (الكتاب) ، ويكتبون على الغلاف الذي يضم كتب العهدين اسم: (الكتاب المقدس) . فأما العهد القديم الذي هو القسم الأول من (بيبل) كتابهم المقدس فيحتوي الآن على تسعة وثلاثين سفرا فيما يلي أسماؤها: 1 - سفر التكوين (سفر الخليقة) . 2 - سفر الخروج. 3 - سفر الأحبار (سفر اللاويين) . 4 - سفر العدد. 5 - سفر التثنية. ومجموع هذه الأسفار (الكتب) الخمسة هو ما يطلقون عليه اسم أسفار

موسى الخمسة، وتسمى بـ (التوراة) ، وهي كلمة عبرية بمعنى القانون والتعليم والشريعة، لكنهم الآن يطلقون التوراة إطلاقا مجازيا على مجموع كتب العهد القديم، أي على أسفار موسى الخمسة (التوراة) وملحقاتها الآتي ذكرها: 6 - سفر يشوع (يوشع بن نون) . 7 - سفر القضاة. 8 - سفر راعوث. 9 - سفر صموئيل الأول. 10 - سفر صموئيل الثاني. 11 - سفر الملوك الأول. 12 - سفر الملوك الثاني. 13 - سفر أخبار الأيام الأول. 14 - سفر أخبار الأيام الثاني. 15 - سفر عزرا الأول. 16 - سفر عزرا الثاني (سفر نحميا) . 17 - سفر أستير. 18 - سفر أيوب. 19 - سفر الزبور (المزامير) . 20 - سفر الأمثال (أمثال سليمان) . 21 - سفر الجامعة. 22 - سفر نشيد الأنشاد.

23 - سفر إشعياء. 24 - سفر إرميا. 25 - سفر مراثي إرميا. 26 - سفر حزقيال. 27 - سفر دانيال. 28 - سفر هوشع. 29 - سفر يوئيل. 30 - سفر عاموس. 31 - سفر عوبديا. 32 - سفر يونان (يونس) . 33 - سفر ميخا. 34 - سفر ناحوم. 35 - سفر حبقوق. 36 - سفر صفنيا. 37 - سفر حجي. 38 - سفر زكريا. 39 - سفر ملاخي. وكان النبي ملاخي قبل ميلاد المسيح عليهما السلام بنحو أربعمائة وعشرين (420) سنة. والسامريون لا يعترفون إلا بسبعة منها: الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى عليه السلام، وبسفري يشوع والقضاة، وتخالف نسخة التوراة السامرية نسخة

التوراة العبرانية التي لليهود، وهما تخالفان نسخة التوراة اليونانية، وتوجد في نسخة التوراة اليونانية سبعة أسفار زائدة عما في التوراة العبرانية يطلق عليها: أسفار الأبوكريفا، وأسماؤها كما يلي: 1 - سفر باروخ. 2 - سفر طوبيا. 3 - سفر يهوديت. 4 - سفر وزدم (حكمة سليمان) . 5 - سفر إيكليزيا ستيكس (يشوع بن سيراخ) . 6 - سفر المكابيين الأول. 7 - سفر المكابيين الثاني. وبذا تكون التوراة اليونانية محتوية على ستة وأربعين سفرا. وأما العهد الجديد الذي هو القسم الثاني من (بيبل) كتابهم المقدس فيحتوي الآن على سبعة وعشرين سفرا فيما يلي أسماؤها: 1 - إنجيل متى. 2 - إنجيل مرقس. 3 - إنجيل لوقا. 4 - إنجيل يوحنا. ولفظ الإنجيل مختص بهذه الأسفار الأربعة، فيقال لها: الأناجيل الأربعة، وهو لفظ معرب، أصله في اليوناني (إنكليوس) ، وفي القبطي (إنكليون) ، ومعناه البشارة والتعليم والخبر السار. لكنهم الآن يطلقون لفظ الإنجيل

إطلاقا مجازيا على مجموع كتب العهد الجديد. أي على الأناجيل الأربعة وملحقاتها الآتي ذكرها: 5 - سفر أعمال الرسل (الإبركسيس) . 6 - رسالة بولس إلى أهل رومية. 7 - رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس. 8 - رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس. 9 - رسالة بولس إلى أهل غلاطية. 10 - رسالة بولس إلى أهل أفسس. 11 - رسالة بولس إلى أهل فيلبي. 12 - رسالة بولس إلى أهل كولوسي. 13 - رسالة بولس الأول إلى أهل تسالونيكي. 14 - رسالة بولس الثاني إلى أهل تسالونيكي. 15 - رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس. 16 - رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس. 17 - رسالة بولس إلى تيطس. 18 - رسالة بولس إلى فليمون. 19 - الرسالة إلى العبرانيين (وتنسب إلى بولس) . 20 - رسالة يعقوب. 21 - رسالة بطرس الأولى. 22 - رسالة بطرس الثانية.

23 - رسالة يوحنا الأولى. 24 - رسالة يوحنا الثانية. 25 - رسالة يوحنا الثالثة. 26 - رسالة يهوذا. 27 - رؤيا يوحنا اللاهوتي (المشاهدات) . وبهذا يكون مجموع أسفار (بيبل) الكتاب المقدس عند النصارى كما يأتي: على حسب التوراة العبرانية: العهد القديم (39) + العهد الجديد (27) = 66 سفرا. وعلى حسب التوراة اليونانية: العهد القديم (46) + العهد الجديد (27) = 73 سفرا. اعلم أنه قد انعقد مجمع لعلماء النصارى بأمر السلطان قسطنطين الأول سنة (325م) في بلدة نائس (نيقية) لإصدار حكم في الأسفار المشكوكة، فحكم هذا المجمع يعد المشاورة والتحقيق بوجوب تسليم سفر يهوديت فقط، وبرفض أربعة عشر (14) سفرا واعتبارها مشكوكة ومكذوبة لا يجوز التسليم بصحتها، وهي: 1 - سفر أستير. 2 - رسالة يعقوب. 3 - رسالة بطرس الثانية. 4 - رسالة يوحنا الثانية. 5 - رسالة يوحنا الثالثة.

6 - رسالة يهوذا. 7 - الرسالة إلى العبرانيين (وتنسب إلى بولس) . 8 - سفر وزدم (حكمة سليمان) . 9 - سفر طوبيا. 10 - سفر باروخ. 11 - سفر إيكليزيا ستيكس (يشوع بن سيراخ) . 12 - سفر المكابيين الأول. 13 - سفر المكابيين الثاني. 14 - سفر مشاهدات يوحنا (رؤيا يوحنا اللاهوتي) . ويظهر ذلك جليا من المقدمة التي كتبها جيروم (المتوفى سنة 420م) على سفر يهوديت. وبعد تسع وثلاثين سنة فقط انعقد مجمع لعلماء النصارى سنة (364م) في بلدة لوديسيا (لاودكية) ، وحكم هذا المجمع بوجوب التسليم بالأسفار السبعة الأولى (انظرها من رقم 1-7) من الأسفار التي رفضها مجمع نيقية، واعتبار هذه السبعة صحيحة غير مكذوبة، وإبقاء السبعة الأخرى (انظرها من رقم 8- 14) مشكوكة مكذوبة لا يجوز التسليم بصحتها، وأكد المجمع هذا الحكم بالرسالة العامة. وبعد ثلاث وثلاثين سنة فقط انعقد مجمع لعلماء النصارى سنة (397م) في بلدة كارتهيج (قرطاجة، قرطاجنة الواقعة على خليخ تونس) ، وحكم هذا

المجمع بوجوب التسليم بالأسفار السبعة الأخرى (انظرها من رقم 8 - 14) التي رفضها المجمعان السابقان واعتبراها مكذوبة ومشكوكة لا يجوز التسليم بصحتها، فهذا المجمع القرطاجي نقض حكم سابقيه، وحكم بأن جميع الأسفار المشكوكة المكذوبة هي صحيحة واجبة التسليم ومقبولة عند جمهور النصارى، وبقي الأمر على هذا التسليم والقبول مدة اثني عشر قرنا إلى أن ظهرت فرقة البروتستانت في أواسط القرن السادس عشر الميلادي، فرفضت هذه الفرقة سفر يهوديت وسفر وزدم وسفر طوبيا وسفر باروخ وسفر إيكليزيا ستيكس وسفري المكابيين الأول والثاني، وكان سفر أستير ستة عشر (16) بابا (أصحاحا) ، فقبلت منه هذه الفرقة البروتستانتية الإصحاحات التسعة الأولى إلى نهاية الفقرة الثالثة من الإصحاح العاشر، ورفضت منه من الفقرة الرابعة إلى نهاية الإصحاح السادس عشر، واحتجت هذه الفرقة في رفضها الأسفار السابقة بما يلي: 1 - أن الأصل العبراني لهذه الأسفار مفقود، والموجود هو ترجمة لها. 2 - أن اليهود العبرانيين لا يعترفون بهذه الأسفار (أسفار أبو كريفا العهد القديم) . 3 - أن هذه الأسفار مرفوضة من قبل كثير من النصارى ولم يحصل الإجماع على قبولها. 4 - أن جيروم (المتوفى 420م) قال بأن هذه الأسفار ليست كافية لتقرير المسائل الدينية وإثباتها. 5 - أن كلوس صرح بأن هذه الأسفار لا تقرأ في كل موضع منها.

6 - أن المؤرخ يوسي بيس صرح بأن هذه الأسفار محرفة ولا سيما سفر المكابيين الثاني. فانظر إن الكتب التي أجمع على رفضها ألوف الأسلاف؛ لفقدان أصولها وتحريفها، وكانت مردودة عند اليهود وفاقدة لصفة الوحي والإلهام، صارت عند الخلف إلهامية مقبولة وواجبة التسليم، وفرقة الكاثوليك إلى الآن تسلم بجميع كتب الأبوكريفا المشكوكة المكذوبة، سواء منها أبوكريفا العهد القديم أو أبوكريفا العهد الجديد، تقليدا لمجمع كارتهيج (قرطاجة) . فأي قيمة لحكم الخلف بقبول ما رفضه السلف؟! بل إن حكم تلك المجامع يعد حجة قوية لخصوم النصارى الطاعنين في صحة كتبهم وإلهاميتها.

الفصل الثاني أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد العتيق والجديد

[الفصل الثاني أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد العتيق والجديد] [الادعاء بنسبة الكتب إلى اسم نبي أو حواري لا يعني إلهامية هذه الكتب ولا وجوب تسليمها] الفصل الثاني بيان أن أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد العتيق والجديد، ولا مجال لهم أن يدعوا أن هذه الكتب المشتهرة الآن مكتوبة بالإلهام الكتاب السماوي الواجب التسليم هو الكتاب الذي يكتب بواسطة نبي من الأنبياء، ويصل إلينا بعد ذلك بالسند المتصل بلا تغيير ولا تبديل، أما أن ينسب الكتاب إلى شخص ذي إلهام بمجرد الظن والوهم فلا يكفي ذلك لإثبات أنه من تصنيف الشخص المنسوب إليه، حتى لو ادعت تلك النسبة فرقة أو عدة فرق، ألا ترى أن كتبا من العهد القديم منسوبة إلى موسى وعزرا وإشعياء وإرميا وحبقوق وسليمان عليهم السلام، ولم يثبت بدليل ما صحة نسبتها إليهم بسبب فقدان السند المتصل لتلك الكتب؟! وأيضا ألا ترى أن كتبا من العهد الجديد جاوزت السبعين منسوبة إلى عيسى ومريم والحواريين وتابعيهم، وتجمع فرق النصارى الآن على عدم صحة نسبتها إليهم، وعلى أنها من الأكاذيب المختلقة؟! ثم ألا ترى أن أسفار الأبوكريفا واجبة التسليم عند الكاثوليك، وأنها واجبة الرد عند اليهود والبروتستانت؟! إذن الادعاء بنسبة كتاب ما إلى اسم نبي أو حواري لا يعني إلهامية هذا الكتاب ولا وجوب تسليمه، وقد طلب الشيخ رحمت الله مرارا من علماء

حال التوراة

النصارى في مناظراته لهم بيان السند المتصل لأي كتاب من كتب العهدين فاعتذروا بأن سبب فقدان السند المتصل هو وقوع المصائب والفتن على النصارى إلى مدة ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة. فثبت أنهم يقولون في أسانيد كتبهم بالظن والتخمين الذي لا يغني شيئا، ودل امتناعهم عن الإتيان بسند متصل لأي كتاب من كتب العهدين على عدم قدرتهم على ذلك، فلو قدروا ما قصروا، وثبت بالوجه القطعي أن كتبهم فاقدة للسند المتصل، وفيما يلي حال بعض كتبهم: [حال التوراة] حال التوراة: إن هذه التوراة الحالية المنسوبة لموسى عليه السلام ليست من تصنيفه، ويدل على ذلك عدة أمور: 1 - أن هذه التوراة انقطع تواترها قبل زمان الملك يوشيا بن آمون الذي تولى الملك سنة 638ق. م، وأما النسخة التي وجدت بعد ثماني عشرة سنة من توليه الحكم فلا اعتماد عليها؛ لأن الكاهن حلقيا هو الذي اخترعها، ومع كونها غير معتمدة فالغالب أنها ضاعت قبل أن يكتسح بختنصر بلاد فلسطين عام 587 ق. م، ولو فرضنا عدم ضياعها ففي اكتساحه بلاد فلسطين انعدمت التوراة وسائر كتب العهد العتيق ولم يبق لها أثر، ويزعمون أن عزرا كتب بعض الأسفار في بابل، لكن ما كتبه عزرا أيضا ضاع في اكتساح أنتيوكس (أنطيوخس الرابع) بلاد فلسطين، فقد حكم سوريا ما بين سنتي 175 - 163 ق. م، وأراد أن يمحق ديانة اليهود ويصبغ فلسطين بالصبغة الهيلينية، فباع مناصب أحبار اليهود بالثمن، وقتل منهم ما بين

- 80 ألفا، ونهب أمتعة الهيكل كلها، وقرب خنزيرة وقودا على مذبح اليهود، وأمر عشرين ألف جندي بمحاصرة القدس، فانقضوا عليها يوم السبت أثناء اجتماع اليهود للصلاة، فنهبوها ودمروا البيوت والأسوار، وأشعلوا فيها النيران، وقتلوا كل إنسان فيها حتى النساء والصبيان، ولم ينج في ذلك اليوم إلا من فر إلى الجبال أو اختفى في المغائر والكهوف. (انظر رقم (2) ص 99) . 2 - أن اختلافات وتناقضات كبيرة جدا وقعت بين أسفار التوراة الحالية وبين سفري أخبار الأيام الأول والثاني اللذين صنفهما عزرا بمعاونة حجي وزكريا عليهم السلام، وأجمع علماء أهل الكتاب على أن عزرا غلط لاعتماده على أوراق ناقصة، فلم يميز بين الأبناء وأبناء الأبناء، وهؤلاء الأنبياء الثلاثة كانوا متبعين للتوراة، فلو كانت توراة موسى هي هذه التوراة الموجودة الآن ما خالفوها، وما وقعوا في الغلط الفاحش باعتمادهم على أوراق ناقصة، وأيضا لو كانت التوراة التي كتبها عزرا مكتوبة بالإلهام كما يزعمون ما وقع الاختلاف الفاحش بينها وبين سفري أخبار الأيام الأول والثاني، وبهذا ظهر جليا أن التوراة الحالية ليست هي التوراة المكتوبة في زمان موسى عليه السلام، ولا هي التوراة التي كتبها عزرا، والحق الذي لا شك فيه أن هذه التوراة الحالية مجموعة من الروايات والقصص التي اشتهرت بين اليهود، ثم جمعها أحبارهم بلا تمحيص للروايات، ووضعوها في هذا المجموع المسمى بكتب العهد القديم، الذي يضم الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى عليه السلام والأسفار الملحقة بها، وهذا الرأي منتشر انتشارا بليغا الآن في

أوربا، وبخاصة بين علماء الألمان. 3 - أن اختلافات وتناقضات صريحة في الأحكام وقعت بين أسفار التوراة الحالية وبين سفر حزقيال، فلو كانت التوراة الصحيحة هي هذه التوراة المشتهرة الآن ما خالفها حزقيال في الأحكام. 4 - لا يظهر من أي موضع في التوراة الحالية أن كاتبها كان يكتب حالات نفسه أو المعاملات التي رآها بعينه، بل جميع عبارات التوراة الحالية تشهد بأن كاتبها غير موسى عليه السلام، وأن هذا الكاتب جمع الروايات والقصص المشتهرة بين اليهود وميز بين الأقوال، فما كان في زعمه من كلام الله أدرجه تحت قوله: (قال الله) ، وما كان في زعمه من كلام موسى أدرجت تحت قوله: (قال موسى) ، وعبر الكاتب عن موسى في جميع المواضع بصيغة الغائب، مثل قوله: (وصعد موسى) ، (وقال له الرب) ، (فمات هناك موسى) ، فلو كانت التوراة الحالية من تصنيف موسى عليه السلام، لعبر عن نفسه بصيغة المتكلم ولو في موضع واحد من المواضع؛ لأن التعبير بصيغة المتكلم يقتضي زيادة الاعتبار، وهذا وحده دليل كامل على أن التوراة الحالية ليست من تصنيف موسى عليه السلام. 5 - قال الدكتور سكندر كيدس الذي هو من علماء النصارى المعتمدين في مقدمة البيبل الجديد بأنه ثبت له بالأدلة ثلاثة أمور جزما: ا- أن التوراة الحالية ليست من تصنيف موسى عليه السلام. ب- أن التوراة الحالية مكتوبة في فلسطين، وليست مكتوبة في عهد موسى عندما كان بنو إسرائيل في التيه في صحراء سيناء.

ج- أن التوراة الحالية إما أن تكون ألفت في زمان سليمان عليه السلام، أي في القرن العاشر قبل الميلاد، أو بعده إلى القرن الثامن قبل الميلاد، فالحاصل أن بين تأليف هذه التوراة الحالية وبين وفاة موسى عليه السلام أكثر من خمسمائة عام. 6 - أنه علم بالتجربة أن الفرق يقع في اللسان الواحد بحسب اختلاف الزمان، فمثلا لو لاحظت لسان الإنجليز قبل أربعمائة سنة لوجدت تفاوتا فاحشا بينه وبين اللسان الإنجليزي المعروف الآن، وقد قال نورتن الذي هو من كبار علماء النصارى بأنه لا يوجد فرق معتد به في محاورة التوراة ومحاورات سائر الكتب من العهد العتيق التي كتبت بعدما أطلق بنو إسرائيل من أسر بابل، علما أن المدة الواقعة بين وفاة موسى عليه السلام وبين إطلاقهم من الأسر حوالي تسعمائة عام، ولأجل انعدام الفرق المعتد بين أسلوب التوراة وبين أسلوب سائر كتب العهد العتيق فإن العالم ليوسدن الذي هو ماهر جدا باللسان العبراني اعتقد أن هذه الكتب جميعها صنفت في زمان واحد. 7 - ورد في سفر التثنية 27 / 5 و8: (5) وتبني هناك مذبحا للرب إلهك مذبحا من حجارة لا ترفع عليها حديدا (8) وتكتب على الحجارة جميع كلمات هذا الناموس نقشا جيدا) . وورد في سفر يشوع (يوشع بن نون) 8 / 30 و32: (30) حينئذ بنى يوشع مذبحا للرب إله إسرائيل في جبل عيبال (32) وكتب هناك على الحجارة نسخة توراة موسى التي كتبها أمام بني إسرائيل) . فعلم من هذه الفقرات أن حجارة المذبح كانت كافية لأن تكتب عليها توراة

حال كتاب يوشع بن نون

موسى، فلو كانت توراة موسى هي هذه التوراة الحالية التي تضم الأسفار الخمسة بحجمها الحالي، ما أمكن كتابتها على حجارة المذبح. 8 - أن الأغلاط الكثيرة الواقعة في التوراة، والاختلافات الكثيرة بين أسفارها تنفي أن تكون هذه التوراة الحالية هي التوراة التي جاء بها موسى عليه السلام؛ لأن الكلام الذي أوحي إلى موسى أو الذي كتبه موسى، أرفع من أن تقع فيه الأغلاط والاختلافات. [حال كتاب يوشع بن نون] حال كتاب يشوع (يوشع بن نون) : بعد أن عرفنا حال التوراة التي هي أساس ملة بني إسرائيل فلنعرف حال كتاب يوشع الذي هو في المنزلة الثانية بعد التوراة، فإن علماء أهل الكتاب لم يظهر لهم إلى الآن بطريق اليقين اسم مصنفه ولا زمان تصنيفه، وافترقوا فيه على خمسة أقوال: 1 - بعضهم قال: إنه تصنيف يوشع بن نون فتى موسى عليه السلام. 2 - وبعضهم قال: إنه تصنيف ألعازار بن هارون عليه السلام. 3 - وبعضهم قال: إنه تصنيف فينحاص بن ألعازار بن هارون عليه السلام. 4 - وبعضهم قال: إنه تصنيف صموئيل النبي عليه السلام. 5 - وبعضهم قال: إنه تصنيف إرميا النبي عليه السلام. وبين يوشع وإرميا عليهما السلام أكثر من ثمانية قرون. فهذا الاختلاف الفاحش دليل كامل على انعدام إسناد هذا الكتاب عندهم، وأنهم يقولون بالظن، وهذا الظن هو السند عندهم.

وتوجد في كتاب يوشع فقرات كثيرة لا يمكن أن تكون من كلام يوشع قطعا، كما توجد فيه فقرات أخرى تدل على أن كاتبه قد يكون معاصرا لداود أو بعده، فمثل هذه الفقرات دليل كامل على أن هذا الكتاب ليس من تصنيف يوشع عليه السلام. ويوجد بين التوراة الحالية وبين كتاب يوشع مخالفة صريحة وتناقض في بعض الأحكام، فلو كانت هذه التوراة الحالية من تصنيف موسى عليه السلام كما يزعمون أو كان كتاب يوشع من تصنيفه، فلا يتصور أن يخالفها يوشع ويناقضها في بعض الأحكام والمعاملات؛ إذ كيف يغلط يوشع - فتى موسى وخليفته - في معاملات كانت تجري في حضوره؟! إذا عرفت حال التوراة وحال كتاب يوشع خليفة موسى عليهما السلام فإن حال بقية كتب العهد القديم ليست بأحسن من حالهما، فالخلاف فيها أشد، بل إن بعض المحققين أنكروا كتبا برمتها من كتب العهد القديم وعدوها حكايات باطلة وقصصا كاذبة؛ لأن القدماء أدخلوا كتبا جعلية كثيرة في الكتب القانونية، وهي في الأصل كانت مردودة ومرفوضة. وهذا دليل كاف على أن أهل الكتاب لا يجود عندهم سند متصل لكتاب من كتبهم، وأنهم يقولون بالظن والتخمين ما يقولون، وأن الكتاب لا يكون إلهاميا بمجرد نسبته إلى شخص ذي إلهام.

حال الأناجيل

[حال الأناجيل] حال الأناجيل: قدماء النصارى كافة وغير المحصورين من المتأخرين متفقون على أن الإنجيل المنسوب إلى متى كان باللغة العبرانية، وأنه فقد بسبب تحريف الفرق النصرانية، وبسبب الفتن العظيمة التي مرت على النصارى في القرون الثلاثة الأولى، وأما نسخة إنجيل متى الموجودة الآن باللغة العبرانية فهي مترجمة عن الترجمة اليونانية ولا يوجد عندهم سند هذه الترجمة، ولا يعرفون اسم المترجم ولا أحواله كما اعترف به جيروم، ولكنهم يقولون بالظن: لعل فلانا أو فلانا ترجمه، وبمثل هذا الظن لا يثبت استناد الكتاب إلى مصنفه. وتوجد نصوص لأكثر من خمسين عالما تجمع على أن هذا الإنجيل المنسوب إلى متى والذي هو أول الأناجيل وأقدمها عندهم ليس من تصنيفه يقينا؛ لأن جميع كتب العهد الجديد ألفت باللغة اليونانية ماعدا إنجيل متى والرسالة العبرانية، فإن تأليفها باللغة العبرانية أمر يقيني بالأدلة القاطعة، ومتى هو الوحيد الذي انفرد من بين كتاب الأناجيل باستعمال اللغة العبرانية، فكتب إنجيله بها في فلسطين لليهود العبرانيين الذين كانوا ينتظرون شخصا موعودا من نسل إبراهيم وداود، ثم ترجمه المترجمون كل واحد على قدر فهمه واستطاعته، وأما متى فهو لم يترجم إنجيله لليونانية، والمترجم غير معروف من هو؟ أما باقي كتاب الأناجيل، فكتبوا باللغة اليونانية، ومن قال: إن متى كتب إنجيله باللغة اليونانية فقد غلط. والمحقق نورتن كتب كتابا ضخما أثبت فيه أن التوراة جعلية وليست من تصنيف موسى عليه السلام، وأثبت فيه تحريفات كثيرة وقعت في الأناجيل،

وذكر في هذا الكتاب أنه يعتقد أن متى كتب إنجيله باللغة العبرانية؛ لأن القدماء الذين أشاروا إلى هذا الأمر قولهم واحد بالاتفاق، ولم يقل أحد من القدماء بخلافهم، فهذه الشهادة مقبولة، ولا يوجد عليها اعتراض يحتاج إلى تحقيق، بل شهد القدماء على أن النسخة العبرانية لهذا الإنجيل كانت موجودة عند النصارى الذين كانوا من قوم اليهود، وهذه النسخة العبرانية كانت موجودة ومستعملة إلى عهد جيروم، فهذا الموجود الآن من إنجيل متى هو ترجمة لم يعرف اسم مترجمها ولا بقية أحواله على وجه التحقيق، ويقوي قول القدماء أن متى كان من الحواريين، ورأى أكثر أحوال المسيح عليه السلام بعينيه، وسمع أكثرها بأذنيه، فلو كان هو مؤلف هذا الإنجيل، لظهر من كلامه ولو في موضع واحد من المواضع أنه يكتب الأحوال التي رآها، ولعبر عن نفسه بصيغة المتكلم كما جرت به العادة سلفا وخلفا، فهذا الإنجيل المنسوب إلى متى ليس من تصنيفه قطعا. وقال فاستس كبير علماء فرقة ماني كيز وبروفسر الجرمني: هذا الإنجيل كله كاذب، والبابان الأولان منه إلحاقيان مردودان عند الفرقة المارسيونية والفرقة الأبيونية وفرقة تيرين وعند القسيس وليمس. والمحقق نورتن أنكر هذين البابين ومواضع كثيرة في هذا الإنجيل. وقد صرح جيروم أن بعض العلماء المتقدمين كانوا يشكون في الإصحاح السادس عشر الذي هو آخر إصحاحات إنجيل مرقس، ويشكون في الإصحاح الأول والثاني وبعض الفقرات من الإصحاح الثاني والعشرين من إنجيل لوقا، والإصحاحان الأول والثاني لم يكونا في نسخة فرقة مارسيوني.

وقال المحقق نورتن إن الفقرة التاسعة إلى الفقرة العشرين من الإصحاح السادس عشر من إنجيل مرقس فقرات إلحاقية، وأن العادة الجبلية للكاتبين أنهم كانوا أشد رغبة في إدخال العبارات من إخراجها. وأما بالنسبة للإنجيل المنسوب إلى يوحنا فهناك عدة أمور تدل على أنه ليس من تصنيف يوحنا الحواري صاحب عيسى عليه السلام، وهي: 1 - لا يظهر من أي موضع في هذا الإنجيل أن كاتبه كتب الحالات التي رآها بعينه أو الحوادث التي وقعت بحضوره، بل تشهد عبارات هذا الإنجيل على أن كاتبه غير يوحنا الحواري؛ فهو يقول في ختام هذا الإنجيل 21 / 24: (هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق) . فاستعمل الكاتب في حق يوحنا ضمائر الغائب، لكنه قال في حق نفسه (نعلم) على صيغة المتكلم، فثبت أن كاتبه غير يوحنا الحواري قطعا. 2 - أن أرينيوس الذي عاش في القرن الميلادي الثاني تتلمذ على بوليكارب، وهذا تتلمذ على يوحنا الحواري، وفي حياة أرينيوس أنكر جماعة نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري، وسكت أرينيوس ولم يرد على المنكرين، فلو كان هذا الإنجيل من تصنيف يوحنا الحواري لعلم به تلميذه بوليكارب، وهذا أخبر تلميذه أرينيوس، علما أن أرينيوس كان مجتهدا في حفظ الروايات اللسانية، ونقل عن بوليكارب أمورا كثيرة أقل شأنا من هذا الأمر الخطير، وهو - أي أرينيوس - أول من ذكر الإناجيل الثلاثة (متى، ومرقس، ولوقا) حوالي سنة 200م، ولم يذكر إنجيل يوحنا، ثم تبعه في ذكرها كليمنس إسكندر يانوس سنة 216م، فهذا ثاني من ذكر الأناجيل

الثلاثة، وأول من ذكر الأناجيل الأربعة، فالمعتقدون أن هذا الإنجيل من تصنيف يوحنا الحواري لم يستطيعوا أن يأتوا بدليل واحد ضد المنكرين، ولا شهد لهم أرينيوس بصحته. 3 - أن إنكار نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري ليس بمختص بأهل الإسلام لما يلي: ا - أن العالم الوثني سلسوس كان يصيح في القرن الميلادي الثاني أن النصارى بدلوا أناجيلهم ثلاث مرات أو أربع مرات تبديلا غير مضامينها. ب - أن رئيس فرقة ماني كيز - العالم فاستس - كان يصيح في القرن الميلادي الرابع بأنه متأكد أن هذا العهد الجديد ما صنفه المسيح ولا الحواريون، بل صنفه رجل مجهول الاسم، ونسبه إلى الحواريين ورفقائهم ليأخذ به الناس، وبذلك يكون قد آذى أتباع عيسى إيذاء بليغا؛ لأنه ألف الكتب التي فيها الأغلاط والتناقضات. ج - أن استادلن كتب أن مؤلف إنجيل يوحنا هو طالب من طلاب مدرسة الإسكندرية بلا ريب. د- أن المحقق برطشنيدر قال: إن هذا الإنجيل وكذا رسائل يوحنا الثلاث ليست من تصنيف يوحنا الحواري، وأنها مع الإنجيل ألفت في ابتداء القرن الميلادي الثاني. هـ - أن المحقق المشهور كروتيس قال: إن كنيسة أفسس ألحقت الباب الحادي والعشرين.

وأن فرقة ألوجين في القرن الميلادي الثاني رفضت هذا الإنجيل وجميع تصانيف يوحنا، وأنكرت أن يكون من تصنيف يوحنا الحواري. وأختم بما قاله المحقق هورن؛ فقد ذكر في تفسيره أن الحالات التي وصلت إليهم بخصوص زمان تأليف الأناجيل من قدماء مؤرخي الكنيسة ناقصة ولا توصل إلى أمر معين؛ لأن المشايخ القدماء الأولين صدقوا الروايات الواهية والقصص الكاذبة وكتبوها في كتبهم، والذين جاءوا من بعدهم قبلوها تعظيما لهم، ثم وصلت هذه الروايات الصادقة والكاذبة من كاتب إلى آخر حتى تعذر تنقيحها لطول الزمان. وذكر هورن أن الاختلاف حاصل في زمان تأليف الأناجيل حسب السنوات التالية: - إنجيل متى: سنة 37م أو 38م أو 41م، أو 43م أو 48م أو 61م أو 62م أو 63م أو 64م. - إنجيل مرقس: سنة 56 م أو ما بعدها إلى سنة 65م. - إنجيل لوقا: سنة 53م أو 63م أو 64م. - إنجيل يوحنا: سنة 68م أو 69م أو 70م أو 97م أو 98م. إذا عرفت حال الأناجيل الأربعة المقدمة عند كافة النصارى، فإن بقية رسائل العهد الجديد ليست بأحسن حالا من حال الأناجيل. وبهذا ثبت لكل عاقل لبيب أن أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد القديم ولا من كتب العهد الجديد. وعليه فلا مجال لأهل الكتاب أن يدعوا أن كتبهم مكتوبة بالوحي

والإلهام؛ لأن هذا الادعاء باطل قطعا، ويدل على بطلانه ما يلي: ا - أن هذه الكتب مليئة بالأغلاط والتحريفات المقصودة المتعمدة وغير المتعمدة، وبالاختلافات المعنوية في مواضع غير محصورة، بحيث لا مجال لعلماء أهل الكتاب أن ينكروها، حتى اضطر محققوهم ومفسروهم للتسليم بالأغلاط والتحريفات الكثيرة، وسلموا أيضا في الاختلافات بأن إحدى العبارات تكون صادقة، وغيرها كاذبة جعلية، وحاولوا توجيه بعض الاختلافات والاعتذار عنها بتوجيهات ركيكة واعتذارات ضعيفة، لا يقبلها العقل السليم؛ لأن الكلام الإلهامي يستحيل أن تقع فيه الأغلاط والاختلافات، وإذا حرف خرج عن كونه إلهاميا، وقد قال المحقق هورن: إن الكاتبين كان يجوز لهم أن يكتبوا على حسب طبائعهم وعاداتهم وفهومهم، ولا يتخيل أنهم كانوا يلهمون في كل أمر يكتبونه أو في كل حكم يحكمون به. وقال جامعو تفسير هنري وإسكات: ليس بضروري أن يكون كل ما كتب النبي إلهاميا أو قانونيا. وجاء في دائرة المعارف البريطانية أن كثيرين من العلماء قالوا: إنه ليس كل قول مندرج في الكتب المقدسة ولا كل حال من الحالات الواردة فيها إلهاميا، والذين يقولون بأن كل قول مندرج فيها إلهامي، لا يقدرون أن يثبتوا دعواهم بسهولة. وجاء في دائرة معارف ريس التي كتبها العلماء المحققون قولهم: إنه يوجد في أفعال مؤلفي هذه الكتب وأقوالهم أغلاط واختلافات، وإن الحواريين ما

كان يرى بعضهم بعضا صاحب وحي وإلهام، وأن قدماء النصارى ما كانوا يعتقدون أن الحواريين مصونون عن الخطأ؛ لأنه كان يحصل الاعتراض على أفعالهم أحيانا، وكذلك الكتب التي كتبها تلاميذ الحواريين مثل إنجيل مرقس وإنجيل لوقا توقف العلماء في كونها إلهامية، وقد أقر كبار العلماء من فرقة البروتستانت على عدم كون كل كلام في العهد الجديد إلهاميا وعلى غلط الحواريين. ب - أن المحقق نورتن نقل عن أكهارن قوله: إنه كان في ابتداء الملة المسيحية رسالة مختصرة في بيان أحوال المسيح يجوز أن يقال: إنها هي الإنجيل الأصلي الذي كتب للمريدين الذين لم يسمعوا أقوال المسيح بآذانهم ولم يروا أحواله بأعينهم، وكان هذا الإنجيل مرجعا لجميع الأناجيل التي كثرت في القرنين الأول والثاني، ومنها أناجيل متى ومرقس ولوقا، ولكن هذه الأناجيل وقعت في أيدي الذين جبروا نقصانها فضموا إليها أحوالا أخر، ووقعت فيها الزيادة تدريجيا، وصارت النتيجة أن اختلطت الأحوال الصادقة والحكايات الكاذبة، واجتمعت في رواية طويلة، فصارت قبيحة الشكل، وكلما انتقلت هذه الروايات والحكايات من فم إلى فم صارت كريهة غير محققة، حتى اضطرت الكنيسة في آخر القرن الثاني أو ابتداء القرن الثالث إلى اختيار الأناجيل الأربعة من بين الأناجيل الكثيرة الرائجة والتي زادت على السبعين، فأرادت الكنيسة أن يتمسك الناس بهذه الأناجيل الأربعة ويتركوا غيرها، ولو أن الكنيسة حافظت على الإنجيل الأصلي من الإلحاقات لكانت مشكورة، لكن هذا الأمر كان صعبا بسبب

الإلحاقات في النسخ الكثيرة، فلم تكن هناك نسخة تخلو من الإلحاق، حتى تعذر التمييز بين الأصل والملحق، ولذلك كان أكثر القدماء شاكين في الأجزاء الكثيرة من الأناجيل، وما قدروا على أن يفصلوا الأمر، ولم تكن المطابع في ذلك الزمان، فكان ملاك النسخ كل واحد يدخل في نسخته ما يشاء من الحكايات والروايات، فإذا نقلت عن هذه النسخة نسخ متعددة وانتشرت، تعذر التحقيق في أن هذه النسخة هل هي مشتملة على كلام المصنف فقط أم لا؟ وصار المرشدون والواعظون يشكون شكاية عظيمة من أن الكاتبين وملاك النسخ حرفوا مصنفاتهم بعد مدة قليلة من تصنيفها، وأن تلامذة الشيطان أدخلوا فيها نجاسة بإخراج بعض الأشياء، وزيادة بعضها من جانبهم، وأن الكتب المقدسة ما بقيت محفوظة، وزالت عنها صفة الإلهام، ومما يدل على أن التحريف في الكتب المقدسة صار عادة معتادة لأهل ذلك الزمان أن المصنفين صاروا يكتبون في آخر كتبهم اللعن والأيمان الغليظة لئلا يحرف أحد كلامهم، ولكن هذا التحريف وقع في سيرة عيسى أيضا، واشتهر لدرجة أن العالم الوثني سلسوس اعترض على النصارى بأن أناجيلهم بدلت ثلاث أو أربع مرات، بل أزيد من ذلك، ولا عجب في ذلك؛ لأن الناس الذين لم يكن لهم استعداد للتحقيق اشتغلوا من وقت ظهور الأناجيل بالزيادة فيها والنقصان منها، وتبديل لفظ بمرادف له، فقد كانوا يبدلون عبارات الوعظ والحالات العيسوية حسب ما يشتهون، وعادة التحريف هذه التي أجراها أهل الطبقة الأولى استمرت في أهل الطبقة الثانية والثالثة، وانتشرت بحيث كان المخالفون للدين

النصراني مطلعين على هذه العادة، وذكر كليمنس إسكندر يانوس في آخر القرن الميلادي الثاني أن أناسا كانت مهمتهم تحريف الأناجيل. وعلق نورتن على كلام أكهارن السابق بأن هذا ليس رأي أكهارن فقط، بل هو رأي كثير من علماء الجرمن، ورغم أن نورتن محام عن الإنجيل، لكنه ذكر سبعة مواضع بالتفصيل في هذه الأناجيل الأربعة، واعترف بأنها إلحاقية محرفة، وذكر أن الكذب اختلط ببيان المعجزات، وأن تمييز الصدق عن الكذب عسير في هذا الزمان. فهل الكتاب الذي اختلط فيه الصدق بالكذب يكون إلهاميا؟! وهل بقي مجال لأحد من أهل الكتاب أن يدعي إلهامية كل كتاب من كتب العهدين أو كل حالة من الحالات المندرجة فيها؟! إننا نحن المسلمين نعتقد أن التوراة الأصلية (المنزلة على موسى عليه السلام) ، وكذا الإنجيل الأصلي (المنزل على عيسى عليه السلام) فقد فقدا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الموجود الآن منهما (أي التوراة والإنجيل) بمنزلة كتابين من كتب السير مجموعين من الروايات الصحيحة والكاذبة، ولا نقول: إنهما كانا موجودين على أصالتهما بدون تحريف إلى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم وقع التحريف فيهما بعد ظهوره صلى الله عليه وسلم، فلا أحد من المسلمين يقول بذلك. وأما بالنسبة لشاول بولس فرسائله مردودة ومرفوضة؛ أنه عندنا نحن المسلمين من الكذابين الذين ظهروا في القرن الأول لإفساد دين المسيح عليه السلام، وأما الحواريون الذين هم أصحاب عيسى وخلصاؤه، فنعتقد في حقهم الصلاح ولا نعتقد في حقهم النبوة، وأقوالهم عندنا كأقوال المجتهدين

الصالحين محتملة للخطأ، وإن فقدان السند المتصل خلال القرنين الأول والثاني وفقدان الإنجيل الأصلي يرفع الأمان عن أقوال الحواريين، وبخاصة أنهم في كثير من الأوقات ما كانوا يفهمون مراد المسيح من أقواله كما يظهر من الأناجيل الحالية؛ لأن الإجمال يوجد كثيرا في كلامه. أما مرقس ولوقا فليسا من الحواريين، ولم يثبت بدليل ما أنهما من ذوي الإلهام، بل ولم يحظيا برؤية المسيح لحظة واحدة. فالتوراة عندنا نحن المسلمين هي الكتاب السماوي المنزل على موسى عليه السلام، والإنجيل هو الكتاب السماوي المنزل على عيسى عليه السلام، وكل ما فيهما وحي من الله تعالى لا يجوز تحريفه بالزيادة فيه أو بالنقصان منه، أو بتبديل كلمة بأخرى، ففي السور التالية: (البقرة 87، هود 110، المؤمنون 49، الفرقان 35، القصص 43، السجدة 23، فصلت 45) قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [البقرة: 87] وفي سورة المائدة آية 46، وسورة الحديد آية 27 قول الله تعالى في حق عيسى بن عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ} [المائدة: 46] وفي سورة مريم آية 30 قول الله تعالى عن عيسى عليه السلام: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} [مريم: 30] وفي سورة البقرة آية 136، وسورة آل عمران آية 84 قول الله تعالى {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} [آل عمران: 84] أي: كتاب التوراة وكتاب الإنجيل. إذن هذه التواريخ والرسائل المدونة ضمن كتب العهدين القديم والجديد والمعروفة الآن باسم الكتاب المقدس، ليست هي التوراة والإنجيل المذكورين في القرآن الكريم، ولا يجب التسليم بصحتها وإلهاميتها، بل حكم كتب العهدين جميعها: أن كل رواية فيها أن صدقها القرآن الكريم فهي مقبولة يقينا عندنا،

نصدقها ولا حرج، وإن كذبها القرآن الكريم فهي مردودة عندنا يقينا، نكذبها ولا حرج، وإن سكت القرآن عن التصديق أو التكذيب فنسكت عنها، أي لا نصدقها ولا نكذبها، قال الله تعالى في سورة المائدة آية 48: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] فالقرآن الكريم أمين على ما قبله من الكتب، أي يظهر ما فيها من الحق ويؤيده، ويظهر ما فيها من الباطل ويرد عليه. وإن علماء الإسلام الذين ردوا على التوراة والإنجيل وأظهروا ما فيهما من الكذب والتحريف، لم يقصدوا الرد على التوراة والإنجيل المنزلين من الله تعالى إلى موسى وعيسى عليهما السلام، ولكنهم قصدوا الرد على هذه الكتب والتواريخ والسير التي جمعت في كتب العهدين خلال بضعة قرون، ثم زعموا أنها كتبت بالوحي والألهام، وهي التي قال الله تعالى فيها في سورة البقرة آية 79: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] وقد أجمع أهل الإسلام قاطبة على أن التوراة الحقيقية هي ما نطق بها موسى عليه السلام بوحي الله تعالى إليه، وعلى أن الإنجيل الحقيقي هو ما نطق به المسيح عيسى عليه السلام بوحي الله تعالى إليه، وعلى أن هذا المجموع المشتهر الآن باسم العهدين القديم والجديد ليس هو الذي جاء ذكره في القرآن الكريم؛ لأن للتوراة الآن ثلاث نسخ مختلفة، والأناجيل أربعة مختلفة أيضا، والله تعالى أنزل توراة واحدة على موسى، وإنجيلا واحدا على عيسى، فمن أنكر التوراة والإنجيل الوارد ذكرهما في القرآن الكريم فهو كافر وخارج عن ملة

الإسلام، ومن أنكر القصص الكاذبة والروايات المفتراة على الله تعالى وعلى أنبيائه الكرام، والموجودة فيما يسمى بكتب العهدين أو (الكتاب المقدس) ، فلا يكفر ولا يخرج من ملة الإسلام، بل يعد ذلك الإنكار وإظهار ما فيها من التحريف والكذب واجبا على علماء الإسلام، لتبرئة ساحة الألوهية وساحة النبوة مما لا يليق بجلال الله تعالى ولا يليق بعصمة الأنبياء. فهذه النسخ الثلاث للتوراة مختلفة فيما بينها، ووقعت فيها الأغلاط والاختلافات والتناقضات، وذكرت فيها قصة موسى ودفنه في أرض موآب، فنجزم أنها ليست هي التوراة الصحيحة المنزلة على موسى عليه السلام. وهذه الأناجيل الأربعة أيضا مختلفة فيما بينها، ووقعت فيها الأغلاط والاختلافات والتناقضات، وذكرت فيها قصة صلب المسيح (بزعمهم) ، وأنه صلب ومات يوم كذا ودفن في القبر، فنجزم أنها ليست هي الإنجيل الصحيح المنزل علي عيسى عليه السلام.

الفصل الثالث بيان أن هذه الكتب مملوءة من الاختلافات والأغلاط والتحريف

[الفصل الثالث بيان أن هذه الكتب مملوءة من الاختلافات والأغلاط والتحريف] [القسم الأول بيان بعض الاختلافات] [الاختلاف في أسماء أولاد بنيامين وعددهم] الفصل الثالث بيان أن هذه الكتب مملوءة من الاختلافات والأغلاط والتحريف القسم الأول بيان بعض الاختلافات 1 - الاختلاف في أسماء أولاد بنيامين وفي عددهم: ففي سفر أخبار الأيام الأول 7 / 6: (لبنيامين بالع وباكر ويديعئيل. ثلاثة) . وفي سفر أخبار الأيام الأول 8 / 1 -2: (1) وبنيامين ولد بالع بكره وأشبيل الثاني وأخرخ الثالث (2) ونوحة الرابع ورافا الخامس) . وفي سفر التكوين 46: (وبنو بنيامين بالع وباكر وأشبيل وجيرا ونعمان وإيحي وروش ومفيم وحفيم وأرد) . فأبناء بنيامين حسب النص الأول: ثلاثة، وعلى حسب النص الثاني: خمسة، فاختلف النصان في أسمائهم وعددهم، واتفقا في اسم بالع فقط، وهؤلاء الأبناء على حسب النص الثالث: عشرة، فاختلف مع النصين السابقين في الأسماء والعدد أيضا، واتفق مع النص الأول في اسم اثنين منهم، واتفق مع النص الثاني في اسم اثنين منهم، ولم تتفق النصوص الثلاثة إلا في اسم بالع فقط.

الاختلاف في عدد المقاتلين في إسرائيل ويهوذا

وبما أن النصين الأول والثاني من كتاب واحد يلزم الاختلاف والتناقض في كلام مصنف واحد هو عزرا، ثم الاختلاف والتناقض بين ما كتب عزرا في سفر الأخبار وبين سفر التكوين، وقد تحير علماء أهل الكتاب في هذا الاختلال والتناقض واضطروا فنسبوا الخطأ إلى عزرا فقالوا: إن أوراق النسب التي نقل عنها عزرا ناقصة، فلم يميز بين الأبناء وبين أبناء الأبناء. [الاختلاف في عدد المقاتلين في إسرائيل ويهوذا] 2 - الاختلاف في عدد المقاتلين في إسرائيل ويهوذا: ففي سفر صموئيل الثاني 24 / 9: (فدفع يوآب جملة عدد الشعب إلى الملك فكان إسرائيل ثمانمائة ألف رجل ذي بأس مستل السيف ورجال يهوذا خمس مئة ألف رجل) . وفي سفر أخبار الأيام الأول 21 / 5: (فدفع يوآب جملة عدد الشعب إلى داود فكان كل إسرائيل ألف ألف ومائة ألف رجل مستلي السيف ويهوذا أربع مائة وسبعين ألف رجل مستلي السيف) . فعدد المقاتلين حسب النص الأول في إسرائيل (000ر800) ، وفي يهوذا (000ر500) ، وعلى حسب النص الثاني عددهم في إسرائيل (000ر100ر1) ، وفي يهوذا (000ر470) . فبين النصين اختلاف كبير في عدد المقاتلين من إسرائيل بمقدار ثلاثمائة ألف (000ر300) ، وفي عدد المقاتلين من يهوذا بمقدار ثلاثين ألفا (000ر30) ، وقد اعترف آدم كلارك في تفسيره بأن تعيين النص الصحيح منهما عسير؛ لأن كتب التواريخ وقع فيها تحريفات كثيرة، وأن الاجتهاد في التطبيق عبث، والأحسن التسليم بالتحريف، لأن هذا الأمر لا قدرة على إنكاره، ولأن

الاختلاف في خبر جاد الرائي

الناقلين لم يكونوا ذوي إلهام. [الاختلاف في خبر جاد الرائي] 3 - الاختلاف في خبر جاد الرائي: ففي سفر صموئيل الثاني 24 / 13: (فأتى جاد إلى داود وأخبره وقال له: أتأتي عليك سبع سني جوع في أرضك أم تهرب ثلاثة أشهر أمام أعدائك وهم يتبعونك؟) . وفي سفر أخبار الأيام الأول 21 / 11 - 12: (11) فجاء جاد إلى داود وقال له هكذا قال الرب: اقبل لنفسك (12) إما ثلاث سنين جوع أو ثلاثة أشهر هلاك أمام مضايقيك وسيف أعدائك يدركك) . فبين النصين اختلاف في مدة الجوع، ففي الأول سبع سنين، وفي الثاني ثلاث سنين، وقد أقر مفسروهم أن النص الأول غلط. وقال آدم كلارك: إن نص سفر الأخبار صادق بلا ريب، وهو موافق لما في اليونانية. [الاختلاف في عمر الملك أخزيا عندما ملك] 4 - الاختلاف في عمر الملك أخزيا عندما ملك: ففي سفر الملوك الثاني (8 / 26: (كان أخزيا ابن اثنتين وعشرين سنة حين ملك وملك سنة واحدة في أورشليم) . وفي سفر أخبار الأيام الثاني 22 / 2: (كان أخزيا ابن اثنتين وأربعين سنة حين ملك وملك سنة واحدة في أورشليم) . فبين النصين اختلاف بمقدار عشرين سنة، ولا شك أن النص الثاني غلط؛ لأن أباه يهورام (على حسب ما في سفر أخبار الأيام الثاني 21 و 22 / 1 -2) مات وهو ابن أربعين سنة، وتولى أخزيا الملك بعد موت أبيه مباشرة، فلو لم يكن النص الثاني غلطا يلزم أن يكون أخزيا أكبر من أبيه

الاختلاف في عمر الملك يهوياكين عندما ملك

بسنتين، وهو ممتنع جدا، وقد أقر آدم كلارك وهورن وهنري وإسكات في تفاسيرهم بأن هذا الاختلاف وقع من غلط الكاتب. [الاختلاف في عمر الملك يهوياكين عندما ملك] 5 - الاختلاف في عمر الملك يهوياكين عندما ملك: ففي سفر الملوك الثاني 24 / 8 -9: (8) كان يهوياكين ابن ثماني عشرة سنة حين ملك وملك ثلاثة أشهر في أورشليم. . . (9) وعمل الشر في عيني الرب) . وفي سفر أخبار الأيام الثاني 36 / 9: (كان يهوياكين ابن ثماني سنين حين ملك وملك ثلاثة أشهر وعشرة أيام في أورشليم وعمل في الشر في عيني الرب) . فبين النصين اختلاف بمقدار عشر سنين، وقد أقر مفسروهم أن الثاني، غلط يقينا؛ لأن مدة حكمه كانت ثلاثة أشهر فقط، ثم ذهب إلى بابل أسيرا، وبقي في السجن وأزواجه معه. وهذا خلاف العادة أن يكون لابن ثماني أزواج، وخلاف الشرع أن يقال لمثل هذا الصغير: إنه عمل الشر في عيني الرب. ولذلك قال المحقق آدم كلارك: هذا الموضع من السفر محرف. [الاختلاف في عدد الذين قتلهم أحد أبطال داود بالرمح دفعة واحدة] 6 - الاختلاف في عدد الذين قتلهم أحد أبطال داود بالرمح دفعة واحدة: ففي سفر صموئيل الثاني 23: (هو هز رمحه على ثمانمائة قتلهم دفعة واحدة) . وفي سفر أخبار الأيام الأول 11 / 11: (هو هز رمحه على ثلاثمائة فقتلهم دفعة واحدة) .

الاختلاف في عدد ما يؤخذ من الطير والبهائم في سفينة نوح عليه السلام

فبين النصين اختلاف بمقدار خمسمائة قتيل. قال آدم كلارك والدكتور كني كات: إن في هذه الفقرة ثلاثة تحريفات جسيمة. [الاختلاف في عدد ما يؤخذ من الطير والبهائم في سفينة نوح عليه السلام] 7 - الاختلاف في عدد ما يؤخذ من الطير والبهائم في سفينة نوح عليه السلام: ففي سفر التكوين 6 / 19 -20: (19) ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا وأنثى (20) من الطيور كأجناسها ومن البهائم كأجناسها ومن كل دبابات الأرض كأجناسها. اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها) . وفي سفر التكوين 7 / 8 -9: (8) ومن البهائم الطاهرة والبهائم التي ليست بطاهرة ومن الطيور وكل ما يدب على الأرض (9) دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكرا وأنثى. كما أمر الله نوحا) . وفي سفر التكوين 7 / 2 -3: (2) من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا وأنثى. ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكرا وأنثى (3) ومن طيور السماء أيضا سبعة ذكرا وأنثى. لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض) . فهذه ثلاثة نصوص في سفر واحد، يفهم من الأول والثاني منها أن الله تعالى أمر نوحا عليه السلام أن يأخذ معه في السفينة من جميع البهائم والطيور وحشرات الأرض اثنين اثنين ذكرا وأنثى، وأن ونوحا عليه السلام قد نفذ هذا الأمر. بينما يفهم من النص الثالث منها أن الله تعالى أمر نوحا عليه السلام

الاختلاف في عدد الأسرى الذين أسرهم داود عليه السلام

أن يأخذ معه في السفينة من جميع البهائم الطاهرة فقط ومن جميع الطيور سبعة أزواج سبعة أزواج، أما البهائم التي ليست بطاهرة فيأخذ منها اثنين اثنين فقط. فليس في النصين الأول والثاني ذكر للسبعة، واتفقا بذكر الاثنين اثنين في الجميع، وفي النص الثالث قيد الاثنين بالبهائم غير الطاهرة، ونص على السبعة وفي الطيور وباقي البهائم، وهو مناقض للنصين الأول والثاني، وهذا اختلاف عظيم. [الاختلاف في عدد الأسرى الذين أسرهم داود عليه السلام] 8 - الاختلاف في عدد الأسرى الذين أسرهم داود عليه السلام: ففي سفر صموئيل الثاني 8 / 4: (فأخذ داود منه ألفا وسبعمائة فارس وعشرين ألف راجل) . وفي سفر أخبار الأيام الأول 18 / 4: (وأخذ داود منه ألف مركبة وسبعة آلاف فارس وعشرين ألف راجل) . فاختلف النصان بزيادة (1000) مركبة، و (5300) فارس في النص الثاني. [الاختلاف في عدد الذين قتلهم داود عليه السلام من أرام] 9 - الاختلاف في عدد الذين قتلهم داود عليه السلام من أرام: ففي سفر صموئيل الثاني 10 / 18: (وقتل داود من أرام سبعمائة مركبة وأربعين ألف فارس) . وفي سفر أخبار الأيام الأول 19 / 18: (وقتل داود من أرام سبعة آلاف مركبة وأربعين ألف راجل) . فاختلف النصان بزيادة (6300) مركبة في النص الثاني.

الاختلاف في عدد مذاود خيل سليمان عليه السلام

[الاختلاف في عدد مذاود خيل سليمان عليه السلام] 10 - الاختلاف في عدد مذاود خيل سليمان عليه السلام: ففي سفر الملوك الأول 4 / 26: (وكان لسليمان أربعون ألف مذود لخيل مركباته واثنا عشر ألف فارس) . وفي سفر أخبار الأيام الثاني 9 / 25: (وكان لسليمان أربعة آلاف مذود خيل ومركبات واثنا عشر ألف فارس) . فاختلف النصان بزيادة (36000) مذود في النص الأول، وقد قال المفسر آدم كلارك: الأحسن أن نعترف بوقوع التحريف في العدد. [الاختلاف في بيان نسب المسيح عليه السلام] 11 - الاختلاف في بيان نسب المسيح عليه السلام: نسب المسيح عليه السلام مذكور في إنجيل متى 1 / 1 -17، وفي إنجيل لوقا 3 / 23 -38، ومن قابل بين سياق النسبين فيهما وجد ستة اختلافات عظيمة، هي: ا - في إنجيل متى 1 / 16: أن رجل مريم والدة المسيح هو يوسف بن يعقوب، وفي إنجيل لوقا 3: أنه يوسف بن هالي. ب- في إنجيل متى 1 / 6: أن المسيح من نسل سليمان بن داود عليهم السلام، وفي إنجيل لوقا 3 / 31: أنه من نسل ناثان بن داود عليه السلام. ج- يعلم من إنجيل متى 1 / 6 -11: أن جميع آباء المسيح من داود إلى سبي بابل ملوك مشهورين، ويعلم من إنجيل لوقا 3 / 27 -31: أنهم ليسوا ملوكا ولا مشهورين، غير داود عليه السلام وابنه ناثان. د- في إنجيل متى 1 / 12: أن شألتئيل ابن يكنيا، وفي إنجيل لوقا 3 / 27: أن شألتئيل ابن نيري.

الاختلاف في عدد الذين شفاهم المسيح عليه السلام

هـ - في إنجيل متى 1 / 13: أن ابن زربابل اسمه: أبيهود، وفي إنجيل لوقا 3 / 27: أن ابن زربابل اسمه: ريسا. والعجب أن أسماء أبناء زربابل مكتوبة في سفر أخبار الأيام الأول 3 / 19، وليس فيهم أبيهود ولا ريسا. ويعلم من سياق النسب في إنجيل متى 1 / 6 -17: أن عدد الأجيال بين داود والمسيح عليهما السلام ستة وعشرون جيلا، ويعلم من سياق نفس النسب في إنجيل لوقا 3 / 23-31: أن عدد الأجيال بينهما واحد وأربعون جيلا. وقد تحير علماء النصارى والمحققون القدماء في هذا الاختلاف منذ اشتهار هذين الإنجيلين في القرن الميلادي الثالث، ولم يستطيعوا إزالته، وطمعوا في أن يزول هذا الاختلاف بمرور الزمان، ولكن خاب أملهم، وما زال الاختلاف في هذا النسب إلى الآن موجودا ومحيرا للمتأخرين أيضا. [الاختلاف في عدد الذين شفاهم المسيح عليه السلام] 12 - الاختلاف في عدد الذين شفاهم المسيح عليه السلام: وردت قصة الأعميين في إنجيل متى 20 / 29 -34، وأكتفي بنقل بعض فقراتها: (29) وفيما هم خارجون من أريحا تبعه جمع كثير (30) وإذا أعميان جالسان على الطريق. . . (34) فتحنن يسوع ولمس أعينهما فللوقت أبصرت أعينهما فتبعاه) . ووردت قصة المجنونين في إنجيل متى 8 / 28 -34، وأكتفي بنقل أول فقراتها: (28) ولما جاء إلى العبر إلى كورة الجرجسيين استقبله مجنونان خارجان من القبور هائجان جدا. . .) .

الاختلاف في العصا الواردة في وصية المسيح لتلاميذه الاثني عشر

ففي هذين النصين من إنجيل متى أنهما أعميان ومجنونان. والقصة الأولى عينها وردت في إنجيل مرقس 10 / 46 -52، ويعلم منها أن الجالس على الطريق أعمى واحد اسمه بارتيماوس. والقصة الثانية عينها وردت في إنجيل مرقس 5 / 1 -20، وفي إنجيل لوقا 8 / 26-39، ويعلم من هذين الموضعين أن الذي استقبله مجنون واحد. [الاختلاف في العصا الواردة في وصية المسيح لتلاميذه الاثني عشر] 13 - الاختلاف في العصا الواردة في وصية المسيح لتلاميذه الاثني عشر: ففي إنجيل متى 10 / 9 -10: (9) لا تقتنوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم (¬1) (10) ولا مزودا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا) . ومثلها في إنجيل لوقا 9 / 3: (وقال لهم: لا تحملوا شيئا للطريق لا عصا ولا مزودا ولا خبزا ولا فضة ولا يكون للواحد ثوبان) . وفي إنجيل مرقس 6 / 8 -9: (8) وأوصاهم أن لا يحملوا شيئا للطريق غير عصا فقط. لا مزودا ولا خبزا ولا نحاسا في المنطقة (9) بل يكونوا مشدودين بنعال ولا يلبسوا ثوبين) . فهذه ثلاثة نصوص يفيد الأول والثاني منها أن عيسى عليه السلام لما أرسل الحواريين الاثني عشر منعهم من أن يحملوا أي شيء معهم، حتى ولا عصا للطريق. بينما يفيد النص الثالث أنه عليه السلام سمح لهم فقط أن يأخذوا عصا للطريق. [الاختلاف في شهادة المسيح لنفسه] ¬

(¬1) جمع منطقة وهي النطاق أي الزنار الذي يشد على وسط الإنسان.

الاختلاف في حامل الصليب إلى مكان الصلب

ففي إنجيل يوحنا 5 / 31 قول المسيح: (إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا) . وفي إنجيل يوحنا 8 / 14 قول المسيح: (وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق) . فالنص الأول يفيد عدم الأخذ بشهادة المسيح لنفسه، والنص الثاني يفيد وجوب الأخذ بشهادة المسيح لنفسه. [الاختلاف في حامل الصليب إلى مكان الصلب] 15 - الاختلاف في حامل الصليب إلى مكان الصلب: ففي إنجيل متى 27: (وفيما هم خارجون وجدوا إنسانا قيروانيا اسمه سمعان فسخروه ليحمل صليبه) . وفي إنجيل لوقا 23 / 26: (ولما مضوا به أمسكوا سمعان رجلا قيروانيا كان آتيا من الحقل ووضعوا عليه الصليب ليحمله خلف يسوع) . وفي إنجيل يوحنا 19 / 17: (فأخذوا يسوع ومضوا به فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال به موضع الجمجمة ويقال له بالعبرانية جلجثة) . فهذه نصوص ثلاثة، يفيد الأول والثاني منها عند متى ولوقا أن الذي حمل الصليب هو سمعان القيرواني، ويفيد الثالث منها عند يوحنا أن الذي حمل الصليب هو المسيح نفسه. [هل المسيح صانع سلام أم ضده] 16 - هل المسيح صانع سلام أم ضده؟ ففي إنجيل متى 5 / 9: (طوبى لصانعي السلام. لأنهم أبناء الله يدعون) . وفي إنجيل لوقا 9 / 56: (لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص) .

وفي إنجيل متى 10 / 34: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما بل سيفا) . وفي إنجيل لوقا 12 / 49 و 51: (49) جئت لألقي نار على الأرض. فماذا أريد لو اضطرمت (51) أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض. كلا أقول لكم بل انقساما) . والاختلاف واضح، ففي النصين الأول والثاني مدح صانعي السلام بقوله: (طوبى) ، وبين أنه ما جاء ليهلك أنفس الناس بل ليخلصهم، وفي النصين الثالث والرابع نفى عن نفسه السلام، وأثبت ضده، وبين أنه جاء بالسيف ليلقي النار والانقسام. فيلزم من هذا أن عيسى عليه السلام ما جاء ليخلص، بل ليهلك، وأنه لا يكون من الذين قيل في حقهم: طوبى لصانعي السلام.

القسم الثاني بيان بعض الأغلاط

[القسم الثاني بيان بعض الأغلاط] [الغلط في مدة إقامة بني إسرائيل في مصر] القسم الثاني بيان بعض الأغلاط وهي غير الاختلافات السابقة، وذلك لأن الاختلافات تستخرج بالمقابلة بين النسخ وتراجمها وأصحاحاتها، أما الأغلاط فتعرف بعدم مطابقتها للواقع، أو للعقل، أو للعرف، أو للتاريخ، أو لعلم الرياضيات، أو لأي علم آخر حسب أقوال المحققين، كما سترى. 1 - الغلط في مدة إقامة بني إسرائيل في مصر: ورد في سفر الخروج 12 / 40 -41: (40) وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر فكانت أربع مائة وثلاثين سنة (41) وكان عند نهاية أربع مائة وثلاثين سنة في ذلك اليوم عينه أن جميع أجناد الرب خرجت من أرض مصر) . كنعان وأرض مصر فكانت أربع مئة وثلاثين (430) سنة؛ لأن الزمان من دخول إبراهيم عليه السلام أرض كنعان (فلسطين) إلى ولادة ابنه إسحاق عليه السلام (25) سنة، ومن ولادة إسحاق إلى ولادة يعقوب عليهما السلام (60) سنة، وكان عمر يعقوب عليه السلام عندما دخل أرض مصر (130) سنة، فيكون مجموع السنوات من دخول إبراهيم عليه السلام أرض كنعان إلى دخول حفيده يعقوب عليه السلام أرض مصر مائتين وخمس عشرة سنة. 25 - + 60+ 130 = 215 سنة. وكانت مدة إقامة بني إسرائيل في أرض مصر منذ دخلها يعقوب عليه

السلام إلى خروجهم مع موسى عليه السلام مائتين وخمس عشرة (215) سنة أيضا، فيكون مجموع الإقامتين في أرض كنعان وأرض مصر أربع مئة وثلاثين (430) سنة، وقد أقر علماء أهل الكتاب من المفسرين والمؤرخين والمحققين بهذا الغلط، وقالوا: إن عبارة نسخة التوراة السامرية التي تجمع بين الإقامتين صحيحة، وتزيل الغلط الواقع في غيرها. ونص فقرة سفر الخروج 12 / 40 في التوراة السامرية كما يلي: (وسكنى بني إسرائيل وآبائهم ما سكنوا في أرض كنعان وفي أرض مصر ثلاثين سنة وأربع مائة سنة) . ونصها في التوراة اليونانية كما يلي: (فكان جميع ما سكن بنو إسرائيل وآباؤهم وأجدادهم في أرض كنعان وأرض مصر أربعمائة وثلاثين سنة) . وهذا ما ذهب إليه صاحب الكتاب المعتمد عند محققي النصارى والمسمى: (مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين) ، فقد ذكر أن الزمان من إقامة يعقوب في مصر إلى ولادة المسيح (1706) سنوات، ومن عبور بني إسرائيل البحر وغرق فرعون إلى ولادة المسيح (1491) سنة، فإذا طرحنا 1706- 1491= 215 سنة، هي مدة إقامة بني إسرائيل في مصر من دخول يعقوب إليها إلى خروج موسى منها وغرق فرعون، فإذا عرفنا أن يعقوب عليه السلام هو الأب الرابع لموسى عليه السلام (لأنه موسى بن عمران بن قهات بن لاوي بن يعقوب) حصل اليقين والجزم بأن مدة إقامة بني إسرائيل في مصر يستحيل أن تكون أكثر من (215) سنة، وهذه هي المدة التي أجمع عليها المؤرخون والمفسرون والمحققون من علماء أهل الكتاب، وغلطوا ما وقع في النسخة العبرانية من أن مدة إقامة بني إسرائيل في مصر وحدها (430) سنة،

الغلط في عدد بني إسرائيل حينما خرجوا مع موسى من أرض مصر

ولذلك قال آدم كلارك في تفسيره: إن الكل متفقون على أن مضمون ما جاء في النسخة العبرانية في غاية الإشكال، وعلى أن السامرية في حق أسفار موسى الخمسة أصح من غيرها، وعلى أن التواريخ تؤيد ما جاء في السامرية. وقال جامعو تفسير هنري وإسكات: إن عبارة السامرية صادقة وتزيل كل مشكل وقع في المتن. فظهر أن علماء أهل الكتاب لا توجيه عندهم لعبارة سفر الخروج 12 / 40 التي في النسخة العبرانية سوى الاعتراف بأنها غلط. [الغلط في عدد بني إسرائيل حينما خرجوا مع موسى من أرض مصر] 2 - الغلط في عدد بني إسرائيل حينما خرجوا مع موسى من أرض مصر: ففي سفر العدد 1 / 44 -47: (44) هؤلاء هم المعدودون الذين عدهم موسى وهارون. . . (45) فكان جميع المعدودين من بني إسرائيل حسب بيوت آبائهم من ابن عشرين سنة فصاعدا كل خارج للحرب في إسرائيل (46) كان جميع المعدودين ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين (47) وأما اللاويون حسب سبط آبائهم فلم يعدوا بينهم) . يفهم من النص السابق أن عدد القادرين على القتال ممن هم في سن العشرين سنة فما فوق من بني إسرائيل الخارجين من مصر مع موسى وهارون عليهما السلام كان (603550) ، وأن جميع أفراد سبط اللاويين ذكورا وإناثا غير داخلين في هذا العدد، وكذلك جميع إناث بني إسرائيل، وجميع الذكور الذين هم دون سن العشرين غير داخلين في هذا العدد أيضا، فلو ضممنا إلى هذا العدد جميع المتروكين والمتروكات لا يكون الكل أقل من مليونين ونصف مليون نفس، وهذا غير صحيح لعدة أمور:

ا - لأنه ورد في سفر التكوين 46 / 27 وفي سفر الخروج 1 / 5 وفي سفر التثنية 10 أن جميع نفوس بيت يعقوب التي جاءت إلى مصر سبعون (70) نفسا. ب - لأن مدة إقامة بني إسرائيل في مصر كانت مائتين وخمس عشرة (215) سنة فقط. ج- لأنه ورد في سفر الخروج 1 / 15 -22 أن بني إسرائيل قبل خروجهم من مصر بمقدار ثمانين (80) سنة كان مواليدهم الذكور يقتلون وتستحيا الإناث. فإذا عرفت هذه الأمور الثلاثة يجزم العقل بالغلط في العدد المذكور (603550) ـ بل لو قطعنا النظر عن قتل مواليدهم الذكور وفرضنا أن عددهم كان يتضاعف في كل خمس وعشرين سنة، فإن عدد (70) سيتضاعف في مدة (215) سنة تسع مرات، فلا يبلغ عددهم أكثر من ستة وثلاثين ألفا (36000) ، فكيف يكون عدد المقاتلين منهم (603550) ؟! وإذا كان مقاتلوهم أكثر من نصف مليون فوجب أن لا يقل عدد جميع بني إسرائيل عن مليونين ونصف، وهذا ممتنع جدا لا يقبله العقل السليم، ولو لوحظ القتل فامتناعه في العقل أظهر. وإلى إنكار هذا العدد (603550) مال العلامة المحقق ابن خلدون في مقدمة تاريخه؛ لأن الذي بين يعقوب وموسى إنما هو ثلاثة آباء أي أربعة أجيال، فهو على حسب ما في سفر الخروج 6 / 16 -20 وسفر العدد 3 / 17 -19: (موسى بن عمران بن قهات بن لاوي بن يعقوب) ، ويبعد أن يتشعب النسل من سبعين نفسا في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد.

وهناك أمران أيضا يؤيدان وقوع الغلط في هذا العدد: ا - ورد في سفر الخروج 12 / 38 -42 أنه خرج معهم من مصر غنم وبقر ومواش وافرة جدا، وأنهم عبروا البحر ليلة واحدة، وأنهم كانوا يرتحلون كل يوم، وكان يكفي لارتحالهم الأمر اللساني الذي يصدر عن موسى مباشرة بدون واسطة. وقد نزل بنو إسرائيل بعد عبورهم البحر حول طور سيناء عند الاثنتي عشرة عينا، ولو كانوا بنو إسرائيل بالعدد المذكور فيستحيل أن يعبروا البحر مع مواشيهم في ليلة واحدة، ويستحيل أن يرتحلوا كل يوم ولا يكفي لارتحالهم الأمر اللساني الصادر من موسى، كما أن المكان حول طور سيناء لا يتسع لكثرتهم وكثرة مواشيهم. ب - ورد في سفر الخروج 1 / 15 -22 أنه كان لبني إسرائيل في مصر قابلتان فقط لتوليد نسائهم، وإليهما صدر الأمر الفرعوني بقتل كل مولود ذكر من أبنائهم، فلو كان عدد بني إسرائيل بالقدر المذكور يستحيل أن تكفي قابلتان لتوليد نسائهم، ولوجب أن يكون بينهم مئات القوابل. فالحق أن عدد بني إسرائيل كان بالقدر الذي يمكن تناسله من سبعين (70) نفسا في مدة مائتين وخمس عشرة (215) سنة، وتكفيه قابلتان للتوليد، وتكفي ليلة واحدة لخروجهم مع مواشيهم من أرض مصر إلى أرض سيناء، وأن هذا العدد كان يكفيه الأمر اللساني من موسى عليه السلام لارتحالهم كل يوم، وأن المكان المحيط بطور سيناء يكفي لنزولهم مع مواشيهم، ونجزم بلا أدنى سك أن العدد المذكور في سفر العدد 1 / 44-47 (أي أن مقاتلي بني إسرائيل فقط كانوا 603550) غلط يقينا.

الغلط الذي يلزم منه نفي نبوة داود عليه السلام

[الغلط الذي يلزم منه نفي نبوة داود عليه السلام] 3 - الغلط الذي يلزم منه نفي نبوة داود عليه السلام: ففي سفر التثنية 23 / 2: (لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب. حتى الجيل العاشر لا يدخل منه أحد في جماعة الرب) . فهذا النص غلط؛ لأنه يلزم منه أن لا يدخل داود عليه السلام في جماعة الرب، ولا يكون نبيا؛ لأن فارص هو ولد زنا، فقد زنى أبوه يهوذا بكنته ثامار، فولدت له فارص من هذا الزنا، كما هو مذكور في سفر التكوين 38 / 12 -30 وداود هو البطن التاسع بعد فارص، وإذا ابتدأنا بفارص فهو البطن العاشر؛ لأن نسب داود كما ورد في إنجيل متى 1 / 1 -6، وفي إنجيل لوقا 3 / 31 -33 كما يلي: داود بن يسى بن عوبيد بن بوعز بن سلمون بن نحشون بن عميناداب بن أرام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. ويعد داود رئيس جماعة الرب وأعلى من كل ملوك الأرض على حسب ما ورد في سفر المزامير 89 / 26 -27، والصواب أن فقرة سفر التثنية 23 / 2 غلط، وفي طبعة رجارد واطس في لندن سنة 1825م، وطبعة كلكتا سنة 1826م، زيد في نسب داود الوارد في إنجيل لوقا اسم يورام بين أرام وحصرون، كما يلي: (أرام بن يورام بن حصرون بن فارص) ؛ ليكون داود هو البطن الحادي عشر، ولكن المحرفين بزيادة هذا الاسم نسوا أن يضيفوا اسم يورام في النسب الوارد في إنجيل متى من نفس الطبعتين، فافتضح أمرهم، ووقع الاختلاف في نسب داود بين الإنجيلين في الطبعتين المذكورتين، وبقي الاعتراض قائما، وأيضا لم يرد اسم يورام في طبعة سنة 1844 م ولا في طبعة سنة

الغلط في عدد المضروبين من أهل بيتشمس

1865 - م، ولا في ما بعدها، لا في إنجيل متى ولا في إنجيل لوقا، وبقي فيها كلها: (أرام بن حصرون) ، والصواب أن فقرة سفر التثنية 23 / 2 غلط من أساسها، وأن قصة زنا يهوذا بن يعقوب بكنته ثامار مفتراة من أساسها أيضا، وهذا الحكم لا يمكن أن يكون من جانب الله تعالى، ولا من كتابة موسى عليه السلام، وقد حكم المفسر هارسلي بأن عبارة: (حتى الجيل العاشر لا يدخل منه أحد في جماعة الرب) إلحاقية، أي من التحريف بالزيادة. [الغلط في عدد المضروبين من أهل بيتشمس] 3 - الغلط في عدد المضروبين من أهل بيتشمس: أكتفي بالفقرتين التاليتين من قصة التابوت المذكورة في سفر صموئيل الأول 6 / 13 و19: (13) وكان أهل بيتشمس يحصدون حصاد الحنطة في الوادي. فرفعوا أعينهم ورأوا التابوت وفرحوا برؤيته (19) وضرب أهل بيتشمس لأنهم نظروا إلى تابوت الرب. وضرب من الشعب خمسين ألف رجل وسبعين رجلا. فناح الشعب لأن الرب ضرب الشعب ضربة عظيمة) . ولا شك أن هذا الخبر غلط، فقد قال آدم كلارك بعد الطعن فيه: الغالب أن المتن العبري محرف، إما سقط منه بعض الألفاظ، وإما زيد فيه لفظ: (خمسون ألف) جهلا أو قصدا؛ لأنه لا يمكن أن يكون أهل تلك القرية الصغيرة بهذا العدد، ولا يمكن أن يكون هذا العدد مشتغلا بحصاد الزرع وقت واحد، وأبعد منه أن يري دفعة واحدة خمسون ألفا التابوت موضوعا على حجر في وسط حقل. وهذه العبارة وردت في النسخة اللاتينية: (سبعون رئيسا وخمسون ألفا من العوام) ، وفي النسخة اليونانية كالعبرية: (خمسون ألفا وسبعون إنسانا) ، وفي

الغلط في ارتفاع الرواق الذي بناه سليمان عليه السلام

الترجمة السريانية والعربية: (خمسة آلاف وسبعون إنسانا) ، وعند المؤرخ بوسيفس: (سبعون إنسانا) فقط، وكتب بعض الأحبار أعدادا أخرى، فهذه الاختلافات وعدم الإمكان المذكور تعطينا اليقين التام أن التحريف وقع هاهنا يقينا، إما بزيادة شيء، وإما بإسقاط شيء. واستبعد هنري وإسكات في تفسيرهما أن يذنب الناس بهذا المقدار، ويقتلون في القرية الصغيرة، وشككا في صدق هذه الحادثة. فانظر إلى هؤلاء المفسرين كيف استبعدوا هذه الحادثة، وكذبوا هذا الخبر، وأقروا بالغلط، واعترفوا بالتحريف القصدي بالزيادة أو بالنقصان. [الغلط في ارتفاع الرواق الذي بناه سليمان عليه السلام] 4 - الغلط في ارتفاع الرواق الذي بناه سليمان عليه السلام: ففي سفر أخبار الأيام الثاني 3 / 4: (والرواق الذي قدام الطول حسب عرض البيت عشرون ذراعا وارتفاعه مئة وعشرون) . وقد ورد في سفر الملوك الأول 6 / 2 أن ارتفاع البيت الذي بناه سليمان عليه السلام ثلاثون ذراعا، فإذا كان ارتفاعه ثلاثين ذراعا فكيف يكون ارتفاع الرواق مائة وعشرين ذراعا؟! وقد اعترف آدم كلارك في تفسيره بأن الغلط وقع في فقرة سفر أخبار الأيام الثاني 3 / 4، ولذلك حرف مترجمو الترجمة السريانية والعربية فأسقطوا لفظ المائة، وقالوا: ارتفاعه عشرون ذراعا، وصحح هذا الغلط في الطبعة العربية المطبوعة سنة 1844م؛ فوردت فيها الفقرة المذكورة كما يلي: (والرواق الذي أمام البيت طوله كقدر عرض البيت عشرين ذراعا وإرتفاعه عشرين ذراعا) .

الغلط في عدد جيش أبيا ويربعام

[الغلط في عدد جيش أبيا ويربعام] 5 - الغلط في عدد جيش أبيا ويربعام: ففي سفر أخبار الأيام الثاني 13 / 3 و17: (3) وابتدأ أبيا في الحرب بجيش من جبابرة القتال أربع مائة ألف رجل مختار ويربعام اصطف لمحاربته بثمانمائة ألف رجل مختار جبابرة بأس (17) وضربهم أبيا وقومه ضربة عظيمة فسقط قتلى من إسرائيل خمسمائة ألف رجل مختار) . وقد أقر مفسروهم بالغلط في هذه الأعداد الواقعة في هاتين الفقرتين؛ لأنها مخالفة للقياس بالنسبة لهؤلاء الملوك، فهم لم يبلغوا هذا العدد لقلتهم في تلك الأيام، ولذلك غيرت في أكثر نسخ الترجمة اللاتينية إلى: (أربعين ألفا) في الموضع الأول، و (ثمانين ألفا) في الموضع الثاني، و (خمسين ألفا) في الموضع الثالث، ورضي المفسرون بهذا التغيير، وأيده هورن وآدم كلارك، وكان آدم كلارك يعلن كثيرا في تفسيره ويصرح بوقوع التحريف في كتب التواريخ. [الغلط بخصوص الأكل من الشجرة وبخصوص عمر الإنسان] 6 - الغلط بخصوص الأكل من الشجرة، وبخصوص عمر الإنسان: ففي سفر التكوين 2 / 17: (وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتا تموت) . وهذا غلط؛ لأن آدم عليه السلام أكل من الشجرة، ولم يمت في يوم الأكل، بل عاش بعد ذلك أكثر من تسعمائة سنة. وفي سفر التكوين 6 / 3: (فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مائة وعشرين سنة) . وهذا أيضا غلط؛ لأن أعمار الذين كانوا في سالف الزمان طويلة جدا، فعلى حسب ما ورد في سفر التكوين 5 / 1 -31: فقد عاش آدم (930) سنة،

الغلط في عدد الأجيال الواردة في نسب المسيح عليه السلام

وعاش شيث (912) سنة، وعاش أنوش (905) سنين، وعاش قينان (910) سنين، وعاش مهللئيل (895) سنة، وعاش يارد (962) سنة، وعاش أخنوخ (إدريس عليه السلام) (365) سنة، وعاش متوشالح (969) سنة، وعاش لامك (777) سنة، وعلى حسب ما ورد في سفر التكوين 9 / 29 فإن نوحا عاش (950) سنة. وبهذا يظهر أن تحديد عمر أولاد آدم بمائة وعشرين سنة غلط. [الغلط في عدد الأجيال الواردة في نسب المسيح عليه السلام] ورد سياق نسب المسيح إلى إبراهيم عليه السلام في إنجيل متى 1 / 1 -17، والفقرة السابعة عشرة فيه كما يلي: (فجميع الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلا. ومن داود إلى سبي بابل أربعة عشر جيلا. ومن سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلا) . ويعلم من هذه الفقرة أن سلسلة نسب المسيح إلى إبراهيم مشتملة على ثلاثة أقسام، كل قسم منها مشتمل على أربعة عشر جيلا، فيكون مجموع الأجيال من المسيح إلى إبراهيم اثنين وأربعين جيلا، وهو غلط صريح؛ لأن عدد الأجيال واحد وأربعون جيلا فقط، فالقسم الأول من إبراهيم إلى داود فيه أربعة عشر جيلا، والقسم الثاني من سليمان إلى يكنيا فيه أربعة عشر جيلا، والقسم الثالث من شألتئيل إلى المسيح فيه ثلاثة عشر جيلا، وكان بورفري يعترض على هذا الغلط في القرن الميلادي الثالث، ولم يجد له جوابا. [الغلط في جعل رفقاء لداود عند رئيس الكهنة] 8 - الغلط في جعل رفقاء لداود عند رئيس الكهنة: ففي إنجيل متى 12 / 3 -4: (فقال لهم: أما قرأتم ما فعله داود حين

الغلط في كتابة أحداث لم تقع عند حادثة الصلب

جاع هو والذين معه (4) كيف دخل بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لم يحل أكله له ولا للذين معه بل للكهنة فقط) . ومثلها في إنجيل لوقا 6 / 3 -4. وفي إنجيل مرقس 2 / 25 -26: (25) فقال لهم: أما قرأتم قط ما فعله داود حين احتاج وجاع هو والذين معه (26) كيف دخل بيت الله في أيام أبيأثار رئيس الكهنة وأكل خبز التقدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة وأعطى الذين كانوا معه أيضا) . فقوله: (والذين معه) ، (ولا للذين معه) ، و (أعطى الذين كانوا معه) غلط؛ لأن داود عليه السلام كان منفردا، ولم يكن معه أحد في هذا الوقت. وقوله: (في أيام أبيأثار رئيس الكهنة) غلط كذلك؛ لأن رئيس الكهنة الذي فر إليه داود هو أخيمالك، وتعرف هذه الأغلاط بالرجوع إلى أصل القصة في سفر صموئيل الأول 21 / 1 -9، و22 / 9 -23، ولذلك كتب مستر جوويل في كتابه أنه غلط، ووافقه عليه العلماء الآخرون، والمختار عندهم أن هذه الألفاظ إلحاقية، أي من التحريف بالزيادة. [الغلط في كتابة أحداث لم تقع عند حادثة الصلب] 9 - الغلط في كتابة أحداث لم تقع عند حادثة الصلب: ففي إنجيل متى 27 / 50 -53: (50) فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح (51) وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل. والأرض تزلزلت والصخور تشققت (52) والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين (53) وخرجوا من القبور بعد قيامه ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين) . وقد ذكر انشقاق حجاب الهيكل في إنجيل مرقس 15 / 38 وفي إنجيل

الغلط في اسم والد شالح

لوقا 23 / 45، ولم تذكر فيهما الأمور الأخرى المذكورة في إنجيل متى من تزلزل الأرض وتشقق الصخور وتفتح القبور وقيام القديسين الميتين ودخولهم المدينة المقدسة وظهورهم لكثيرين، وهذه الأمور العظيمة لم يكتبها أحد من مؤرخي ذلك الزمان غير متى، ولا يحتج هنا بالنسيان؛ لأن الإنسان مهما نسي فلن ينسى مثل هذه العجائب العظيمة جدا، وبخاصة لوقا الذي كان أحرص الناس في كتابة الأمور العجيبة، وكيف يتصور أن تكتب الحالات التي ليست بعجائب، ولا تكتب مثل هذه الأمور العجيبة جدا؟! فهذه الحكاية كاذبة، ومع أن المحقق نورتن متعصب للإنجيل ومحام عنه، لكنه أورد عدة دلائل على بطلانها وقال: إن مثل هذه الحكايات كانت رائجة في اليهود بعد خراب أورشليم، فلعل أحدا كتبها في حاشية إنجيل متى، ثم أدخلها الكاتب أو المترجم في المتن. ويستفاد من كلام نورتن أن مترجم إنجيل متى كان حاطب ليل، لا يميز بين الرطب واليابس، فما رأى في المتن من الصحيح والغلط ترجمهما بلا تدقيق في الروايات، فهل يجوز الاعتماد على ترجمة كهذه؟! [الغلط في اسم والد شالح] 10 - الغلط في اسم والد شالح: ففي إنجيل لوقا 3 / 36: (شالح بن قينان بن أرفكشاد) . فورد اسم قينان بين شالح وأرفكشاد غلط يقينا، ففي سفر التكوين 10: (وأرفكشاد ولد شالح) ، وفيه 11 / 12 -13: (12) وعاش أرفكشاد خمسا وثلاثين سنة وولد شالح (13) وعاش أرفكشاد بعدما ولد شالح أربع مائة وثلاث سنين) .

واتفقت في هذا النص النسختان العبرانية والسامرية، ومثلهما عبارة سفر أخبار الأيام الأول 1 / 18، ففيها كلها أن شالح ابن أرفكشاد لا ابن ابنه، وبهذا ثبت أن ما كتبه لوقا غلط، ولم يرد اسم قينان إلا في الترجمة اليونانية (السبعينية) ، فالاحتمال الراجح أن يكون بعض النصارى المحرفين حرف الترجمة اليونانية في هذا الموضع لكي تطابق الإنجيل، ولئلا ينسب الغلط إلى إنجيلهم.

القسم الثالث إثبات التحريف اللفظي بالتبديل وبالزيادة وبالنقصان

[القسم الثالث إثبات التحريف اللفظي بالتبديل وبالزيادة وبالنقصان] [التحريف في مدة أعمار الأكابر قبل الطوفان] القسم الثالث إثبات التحريف اللفظي بالتبديل وبالزيادة وبالنقصان 1 - التحريف في مدة أعمار الأكابر قبل الطوفان: وردت مدة الزمان من خلق آدم إلى طوفان نوح في سفر التكوين 5 / 1 -32، وهي الفقرات التي وردت فيها مدة أعمار الأكابر الذين بين آدم ونوح عليهما السلام، ومدة هذا الزمان على حسب نسخة التوراة السامرية (1307) سنين، وعلى حسب نسخة التوراة العبرانية (1656) سنة، وعلى حسب نسخة التوراة اليونانية (2262) سنة، ويلاحظ فرق كبير في هذه المدة بين النسخ الثلاث بحيث لا تمكن المطابقة بينها، وقد اتفقت النسخ الثلاث على أن عمر آدم عندما مات كان (930) سنة (سفر التكوين 5 / 5) ، واتفقت كذلك على أن عمر نوح عندما حصل الطوفان كان (600) سنة (سفر التكوين 7 / 6) ، فإذا طرحنا من زمان الطوفان 1307- 930 عمر آدم عندما مات = 377 سنة، فيكون آدم قد مات قبل حصول الطوفان بـ 377 سنة. فإذا طرحنا من عمر نوح عندما حصل الطوفان 600- 377= 223 سنة، فيكون نوح قد عاش 223 سنة في حياة آدم على حسب التوراة السامرية، وهذا باطل باتفاق المؤرخين، وتكذبه النسختان العبرانية واليونانية؛ لأن مجموع عمر آدم عندما مات وعمر نوح عند الطوفان 930+ 600= 1530 سنة. فعلى حسب التوراة العبرانية 1656-1530= 126، أي ولد نوح بعد موت آدم بـ 126 سنة.

التحريف في مدة أعمار الأكابر بعد الطوفان

وعلى حسب التوراة اليونانية 2262-1530= 732، أي ولد نوح بعد موت آدم بـ 732 سنة. ولأجل هذا الاختلاف الفاحش بين النسخ الثلاث فإن يوسيفوس - المؤرخ اليهودي المشهور والمقدم عند كافة النصارى - لم يعتمد على نسخة من النسخ المذكورة، ورجح أن مدة الزمان من خلق آدم إلى الطوفان كانت (2256) سنة. [التحريف في مدة أعمار الأكابر بعد الطوفان] 2 - التحريف في مدة أعمار الأكابر بعد الطوفان: وردت مدة الزمان من طوفان نوح إلى ولادة إبراهيم في سفر التكوين 11 / 10 -26، وهي الفقرات التي وردت فيها مدة أعمار الأكابر الذين بين نوح وإبراهيم عليهما السلام، ومدة هذا الزمان على حسب نسخة التوراة العبرانية (292) سنة، وعلى حسب نسخة التوراة السامرية (942) سنة، وعلى حسب نسخة التوراة اليونانية (1072) سنة، ويلاحظ فرق كبير في هذه المدة بين النسخ الثلاث بحيث لا تمكن المطابقة بينها. وقد اتفقت النسخ الثلاث على أن نوحا عاش بعد الطوفان (350) سنة (سفر التكوين 9 / 28) . فإذا طرحنا من حياة نوح بعد الطوفان 350-292 مدة الزمان من الطوفان إلى ولادة إبراهيم =58 سنة، فيكون إبراهيم قد عاش 58 سنة في حياة نوح على حسب التوراة العبرانية، وهذا باطل باتفاق المؤرخين، وتكذبه النسختان السامرية واليونانية، فعلى حسب التوراة السامرية 942-350= 592، أي ولد إبراهيم بعد موت نوح بـ 592 سنة. وعلى حسب التوراة اليونانية 1072-350= 722، أي ولد إبراهيم بعد

التحريف في اسم الجبل المخصص لنصب الحجارة

موت نوح بـ 722 سنة. ولأجل هذا الاختلاف الفاحش بين النسخ الثلاث فإن المؤرخ يوسيفس اليهودي لم يعتمد على نسخة من النسخ المذكورة، ورجح أن مدة الزمان من طوفان نوح إلى ولادة إبراهيم (993) سنة. وقد نقل المفسران هنري وإسكات في تفسيرهما قول أكستاين: إن اليهود في سنة 130 م قد حرفوا النسخة العبرانية في بيان زمان الأكابر الذين هم من قبل زمن الطوفان وبعده؛ لتصير الترجمة اليونانية غير معتبرة، ولعناد النصارى الذين كانوا آنذاك يقدمون النسخة اليونانية على النسخة العبرانية. وذكر هورن في تفسيره أن المحقق هيلز أثبت بالأدلة القوية تحريف النسخة العبرانية، وأن كنى كات أثبت أن اليهود حرفوا نسختهم قصدا. فانظر أن الملجأ الوحيد الذي لجأ إليه المفسرون والمحققون هو الاعتراف بالتحريف القصدي في التواريخ بالزيادة فيها أحيانا وبالنقص منها أحيانا أخرى بدافع التعصب والهوى. [التحريف في اسم الجبل المخصص لنصب الحجارة] 3 - التحريف في اسم الجبل المخصص لنصب الحجارة: ففي سفر التثنية 27 / 4 في النسخة العبرانية: (حين تعبرون الأردن تقيمون هذه الحجارة التي أنا أوصيكم بها اليوم في جبل عيبال وتكلسها بالكلس) . وهذه الفقرة وردت في التوراة السامرية كما يلي: (ويكون عند عبوركم الأردن تقيمون الحجارة هذه التي أنا موصيكم اليوم في جبل جرزيم وتشيدها بشيد) .

التحريف في اسم المملكة

ويفهم من سفر التثنية 27 / 12 -13 و11 / 29 أن جرزيم وعيبال جبلان متقابلان في مدينة نابلس بفلسطين، ونص فقرة سفر التثنية 11 / 29: (وإذا جاء بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها فاجعل البركة على جبل جرزيم واللعنة على جبل عيبال) . ويوجد بين اليهود العبرانيين والسامريين سلفا وخلفا نزاع مشهور في اسم الجبل الذي أمر موسى ببناء الحجارة عليه وخصصه للبركة، وكل فرقة منهما تدعى أن الفرقة الأخرى حرفت التوراة في هذا الموضع بتبديل اسم الجبل، وما زال النزاع قائما بين المحققين والمفسرين من البروتسانت ـ فبعضهم يدعى صحة السامرية في هذا الموضع، وبعضهم يدعى صحة العبرانية، والراجح عند آدم كلارك وعند المحقق كني كات صحة السامرية؛ لأن اليهود العبرانيين حرفوا هذا الموضع قصدا لأجل عداوة السامريين الذين يقدسون جبل جرزيم، وهو جبل ذو عيون وحدائق ونباتات، فيكون مناسبا لإسماع البركة، وأما جبل عيبال فهو أجرد يابس لا شيء عليه من هذه الأشياء، فيكون مناسبا لإسماع اللعنة، وهذا اعتراف صريح من كبار محققيهم بوقوع التحريف في هذا الموضع من النسخة العبرانية للتوراة. [التحريف في اسم المملكة] 4 - التحريف في اسم المملكة: ففي سفر أخبار الأيام الثاني 28 / 19 من النسخة العبرانية: (لأن الرب ذلل يهوذا بسبب آحاز ملك إسرائيل) ، فلفظ إسرائيل في هذا النص غلط يقينا، وهو من التحريف بالتبديل؛ لآن آحاز ملك يهوذا (المملكة الجنوبية وعاصمتها أورشليم) ، وليس ملك إسرائيل (المملكة الشمالية وعاصمتها

التحير بين النفي والإثبات

نابلس) ، والصواب أن توضع كلمة يهوذا مكان كلمة إسرائيل، كما وقع في النسختين اليونانية واللاتينية: أن الرب أذل يهوذا بسبب آحاز ملك يهوذا، فالنسخة العبرانية محرفة في هذا الموضع. [التحير بين النفي والإثبات] 5 - التحير بين النفي والإثبات: ففي المزمور 105 / 28 من النسخة العبرانية: (ولم يعصوا كلامه) . ووردت هذه الفقرة في النسخة اليونانية: (وهم عصوا قوله) . ففي العبرانية نفي العصيان، وفي اليونانية إثباته، فإحدى الفقرتين غلط يقينا، وقد اعترف العلماء في هذا الموضع بالتحريف وتحيروا فيه، ولم يقدروا على الجزم بتعيينه، وذكر هنري وإسكات في تفسيرهما أن المباحثة في هذا الفرق قد طالت جدا، وظاهر أنه نشأ إما لزيادة حرف أو لتركه. [الدليل على أن التوراة الحالية مكتوبة بعد موسى عليه السلام] 6 - دليل على أن التوراة الحالية مكتوبة بعد موسى عليه السلام: ففي سفر التكوين 36 / 31: (وهؤلاء هم الملوك الذين ملكوا أرض أدوم قبلما ملك ملك لبني إسرائيل) . ثم شرعت الفقرات في ذكر أسماء ملوك أدوم الذين حكموا قبل أن يحكم طالوت (شاول) أول ملوك بني إسرائيل، وقد خلفه في الحكم داود عليه السلام، فقبل حكمهما كان بنو إسرائيل في عهد القضاة، وهذه الفقرات من سفر التكوين 36 / 31 -39 هي عينها فقرات سفر أخبار الأيام الأول 1 / 43 -50، ومناسبتها لسفر الأخبار ظاهرة ولا اعتراض؛ لأنها تدل على أن المتكلم بها موجود بعد زمن قيام سلطنة بني إسرائيل في فلسطين، وكان أول ملوكهم طالوت (شاول) ، وكان هذا بعد موسى عليه السلام بـ (356) سنة، لكن لا مناسبة بتاتا لوجود هذه الفقرات

التحريف بزيادة عبارة إلى هذا اليوم

في سفر التكوين الذي هو أسفار التوراة، فكيف دخلت في المتن؟! والصواب ما رجحه المفسر آدم كلارك أن هذه الفقرات ليست من كلام موسى قطعا، وأنها كانت مكتوبة على حاشية سفر التكوين في بعض النسخ، فظن الناقل فيما بعد أنها جزء من المتن فأدخلها فيه. فانظر كيف اعترف هذا المفسر بأن هذه الفقرات التسع الخارجة عن التوراة قد ألحقت في المتن بإحدى نسخها، ثم شاعت بعد ذلك ودخلت في جميع النسخ، وعلى اعترافه يلزم أن كتبهم كانت صالحة للتحريف بالزيادة. [التحريف بزيادة عبارة إلى هذا اليوم] 7 - التحريف بزيادة عبارة (إلى هذا اليوم) : ففي سفر التثنية 3 / 14: (يائير ابن منسى أخذ كل كورة أرجوب إلى تخم الجشوريين والمعكيين ودعاها على اسمه باشان حووث يائير إلى هذا اليوم) . وهذه الفقرة كلها لا يمكن أن تكون من كلام موسى عليه السلام؛ لأن المتكلم بها لا بد أن يكون متأخرا كثيرا عن زمان يائير بن منسى كما يشعر به قوله: (إلى هذا اليوم) ، فإن مثل هذا اللفظ لا يستعمل إلا في الزمان الأبعد. وقد نفي هورن في تفسيره أن تكون هاتان الفقرتان من كلام موسى عليه السلام، (أي التحريف الذي مر في رقم 6 ورقم 7) ؛ لأن الفقرة الأولى الواردة في سفر التكوين 36 / 31 دالة على أن الكاتب كان في زمان بعد زمان قيام مملكة لليهود في فلسطين، والفقرة الثانية دالة على أن الكاتب كان في زمان بعد زمان إقامة اليهود في فلسطين، وكلاهما بعد موسى، وهاتان الفقرتان في نظر هورن ليستا بلا فائدة فحسب، بل هما ثقلان على متن الكتاب، فلو كان مصنف سفر التثنية هو موسى عليه السلام لا يقول: (إلى هذا اليوم) ، ورجح

هورن أن هذا اللفظ زاده أحد الكتاب في الحاشية بعد عدة قرون من موسى؛ ليعلم أن الاسم الذي سماها به يائير بن منسى هو مازال اسمها إلى الآن، ثم انتقل هذا اللفظ من الحاشية إلى المتن في النسخ المتأخرة، ومن يشك في هذا الذي رجحه هورن، فليقابل النسخ اليونانية، فسيجد أن الإلحاقات (الزيادات) التي توجد في متن بعض النسخ هي نفسها توجد في النسخ الأخرى مكتوبة على الحاشية، فاعترف هورن أن مثل هذه الزيادات في الحواشي بعد عدة قرون من موسى عليه السلام، دخلت في المتون، وصارت جزءا من الكتاب، ثم شاعت في جميع النسخ المتأخرة، وهذا يدل على صلاحية كتبهم لتحريف المحرفين، ولذلك قال جامعو تفسير هنري وإسكات: إن مثل هذه الجمل الإلحاقية التي ألحقها أحد الكتاب بعد موسى عليه السلام لو تركت لا يقع الفساد في المضمون. والعبارة السابقة كلها لا تصلح أن تكون من كلام موسى عليه السلام، ومثلها تماما فقرة سفر العدد 32 / 41: (وذهب يائير ابن منسى وأخذ مزارعها ودعاهن حووث يائير) . وهنا تحريف آخر: وهو أن والد يائير ليس منسى ولكنه سجوب، ففي سفر أخبار الأيام الأول 2: (وسجوب ولد يائير وكان له ثلاث وعشرون مدينة في أرض جلعاد) . فيلزم الغلط والتحريف في اسم والده: إما في عبارة سفري العدد والتثنية، وقد ثبت أنها إلحاقية بعد موسى، وإما في عبارة سفر الأخبار. ولذلك قال مؤلفو قاموس الكتاب المقدس المطبوع في أمريكا وإنكلترا

التحريف بإضافة مقدمات لبعض الأبواب

والهند: إن بعض الجمل التي توجد في الأسفار الخمسة تدل صراحة على أنها ليست من كلام موسى عليه السلام، وفيها بعض العبارات ليست على طريقته في الكلام، ولا على أسلوب محاورته، وإنهم لا يستطيعون أن يجزموا باسم الشخص الذي ألحق هذه الجمل والعبارات. وقال جامعو تفسير هنري وإسكات بأن عبارة: (إلى هذا اليوم) وقعت في أكثر كتب العهد القديم، وحكموا بأن كل عبارة تكون مثلها فهي إلحاقية ومزيدة بأيدي الكتاب، وضربوا أمثلة لزيادة هذه العبارة في ثمانية مواضع من كتاب يوشع، ويطول الحصر والاستقصاء في سائر كتب العهد القديم. [التحريف بإضافة مقدمات لبعض الأبواب] 8 - التحريف بإضافة مقدمات لبعض الأبواب: إن الذي يقرأ بداية سفر التثنية 1 / 1 -5 يجزم بأن هذه الفقرات الخمس ليست من كلام موسى عليه السلام؛ لأن الكاتب تكلم به موسى بصيغة الغائب كقوله: (1) هذا هو الكلام الذي كلم به موسى جميع إسرائيل. . . (3) كلم موسى بني إسرائيل حسب كل ما أوصاه الرب إليهم (5) في عبر الأردن في أرض موآب ابتدأ موسى يشرح هذه الشريعة قائلا) . وقد اعترف آدم كلارك بزيادة هذه الفقرات الخمس لتكون مقدمة لباقي سفر التثنية، وقال: إن الإصحاح (الباب) الرابع والثلاثين من سفر التثنية ليس من كلام موسى أيضا؛ لأن كلامه تم على الإصحاح الثالث والثلاثين، ولا يجوز أن يقال: إن موسى كتب هذا الباب؛ لأن هذا الاحتمال بعيد من الصدق، وجزم آدم كلارك بأن هذا الباب الرابع والثلاثين كان أول أبواب كتاب يوشع، وقال كثير من المفسرين: إن هذا الباب كتبه المشايخ السبعون بعد مدة

من موت موسى، وكان هو أول أبواب كتاب يوشع ثم انتقل إلى سفر التثنية. ولكن هذا الجزم بلا دليل، فقد قال جامعو تفسير هنري وإسكات وتفسير دوالي ورجردمينت: إن هذا الملحق لهذا الباب إما يوشع أو صموئيل أو عزرا أو أحد آخر لا يعلم اسمه بالجزم، وربما ألحق بعد رجوع بني إسرائيل من سبي بابل. فانظر إلى ما في أقوالهم من الشك وعدم الجزم بشيء. وفيما يلي بعض الفقرات من الباب الرابع والثلاثين من سفر التثنية: (1) وصعد موسى من عربات موآب إلى جبل نبو. . . فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى دان (4) وقال له الرب. . . (5) فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب (6) ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم (7) وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات. . . (8) فبكي بنو إسرائيل موسى. . . (10) ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى. .) . فهل الكتاب السماوي المنزل على موسى عليه السلام يكون فيه موته ودفنه والبكاء عليه واندثار قبره إلى هذا اليوم وعدم قيام نبي مثله؟! ونحن المسلمين نجزم أن الباب الرابع والثلاثين من سفر التثنية الذي به ختمت الأسفار الخمسة ليس من كلام موسى قطعا، ولا نقف عند هذا الجزم فحسب، بل نجزم أن جميع الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام ليست من كتابته قطعا، ونسبتها إليه لا تجوز، فهذه الأغلاط والاختلافات والتحريفات دلائل بينه لنا على ذلك؛ لأن الكتاب الموحي به إلى النبي لا يجوز

التحريف للانتصار لعقيدة التثليث

أن تقع مثل هذه الأمور، ويعد ذلك طعنا في النبي ونبوته، وبعض أهل الكتاب استدلوا بمثل هذه الأمور على مثل ما قلنا، وجزموا بمثل ما جزمنا به. [التحريف للانتصار لعقيدة التثليث] 9 - التحريف للانتصار لعقيدة التثليث: ففي رسالة يوحنا الأولى 5 / 7 -8: (7) فإن الذين يشهدون (في السماء هم ثلاثة الآب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد (8) والذين يشهدون في الأرض) هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم في الواحد) . وقد كان أصل العبارة على ما قال محققوهم هكذا: (فإن الذين يشهدون هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم في الواحد) ، وهذا نص طبعة سنة 1865م. أي بدون الزيادة التي بين القوسين المعقوقتين. أما نص طبعة سنة 1825م و1826م فهكذا: (لأن الشهود الذين يشهدون ثلاثة وهم الروح والماء والدم وهؤلاء الثلاثة تتحد في واحد) . والنصان متقاربان، فزاد معتقدو التثليث في المتن فيما بين أصل العبارة العبارة التالية: (في السماء هم ثلاثة الآب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد والذين يشهدون في الأرض) فهذه العبارة التي هي مستند أهل التثليث إلحاقية يقينا، أي من التحريف بالزيادة، وقد قال كثير من المحققين المتعصبين بأنها إلحاقية واجبة الإخراج، مثل كريسباخ وشولز وهورن وآدم كلارك وجامعو تفسير هنري وإسكات. وأما العالم أكستاين الذي هو أعلم علماء النصارى في القرن الرابع الميلادي، والذي هو إلى الآن عمدة أهل التثليث، وكان يناظر فرقة إيرين التي تنكر التثليث، فقد كتب عشر رسائل في شرح رسالة يوحنا الأولى، ولم ينقل

هذه العبارة في رسالة من رسائله العشر، ولم يستدل بها على منكري التثليث، وراح يرتكب التكلف البعيد، فكتب في الحاشية أن المراد بالماء: الآب، وبالدم: الابن، وبالروح: الروح القدس، ولو كانت هذه العبارة الإلحاقية موجودة في عهده، لتمسك بها ولنقلها في رسائله للاستدلال بها ضد المنكرين للتثليث، ولكن يظهر أن معتقدي التثليث بعد أكستاين استفادوا من هذا التكلف البعيد والتفسير الغريب، فاخترعوا هذه العبارة التي هي مفيدة لعقيدتهم الباطلة، وأدخلوها في رسالة يوحنا الأولى، وجعلوها جزءا من المتن. وفي المناظرة الكبرى التي تمت في الهند سنة 1270هـ 1854 م بين الشيخ رحمت الله الكيرانوي وبين القسيسين الدكتور فندر وشريكه فرنج أقر القسيسان بأن هذه العبارة محرفة، وسلما بالتحريف في سبعة مواضع أخرى. وقد كتب هورن اثنتي عشرة ورقة في تحقيق هذه العبارة، فقام بتلخيصها جامعو تفسير هنري وإسكات، وفي تلخيصهم ذكروا أدلة الذين يثبتون أن هذه العبارة كاذبة كما يلي: 1 - أن هذه العبارة لا توجد في نسخة من النسخ اليونانية المكتوبة قبل القرن السادس عشر الميلادي. 2 - أن هذه العبارة لا توجد في النسخ المطبوعة التي طبعت بالجد والتحقيق التام في الزمان الأول. 3 - أن هذه العبارة لا توجد في أكثر النسخ القديمة اللاتينية، ولا توجد أيضا في ترجمة من التراجم القديمة غير الترجمة اللاتينية. 4 - أن هذه العبارة لم يتمسك بها أحد من القدماء ولا مؤرخو الكنيسة.

- أن هذه العبارة أسقطها من المتن أئمة فرقة البروتستانت ومصلحو دينهم، وبعضهم وضع عليها علامة الشك. وبهذا يظهر لك جليا أن النصارى كانوا يحرفون كتبهم قصدا إذا رأوا في التحريف مصلحة لهم أو انتصارا لعقيدتهم، والعجب أن باب التحريف الذي كان واسعا قبل اختراع المطابع، مازال مفتوحا وما انسد بعد اختراعها، فهذا لوثر الإمام الأول لفرقة البروتستانت والرئيس الأقدم ترجم الكتب المقدسة باللسان الجرمني ليستفيد منها أتباعه، وطبعت هذه الترجمة مرارا في حياته، ولم يكتب هذه العبارة في ترجمته ولا ظهرت في الطبعات المتكررة أثناء حياته، وفي آخر حياته أعاد طباعتها سنة 1456م، فأوصى في مقدمة هذه الطبعة: (أن لا يحرف أحد ترجمتي) ، لكن هذه الوصية لما كانت مخالفة لعادة أهل الكتاب عموما ولعادة النصارى خصوصا، لم يلتزموا بها وعملوا بعكسها، فلم يمضي على موته ثلاثون سنة حتى قام أهل مدينة فرانكفورت بألمانيا سنة 1574م بطباعة ترجمة لوثر، فأدخلوا فيها هذه العبارة الجعلية الكاذبة، ثم أعيدت طباعتها بعد ذلك عدة مرات، فأسقطوها من الطبعات اللاحقة خوفا من طعن الخلق عليهم، ثم قام أهل مدينة وتنبرغ بألمانيا بإعادة طباعة ترجمة لوثر سنة 1596م و1599م فأدخلوا فيها هذه العبارة، ومثلهم كذلك أهل مدينة هامبورغ، حيث طبعوا ترجمة لوثر سنة 1596 م فأدخلوا فيها هذه العبارة، ثم خاف أهل مدينة وتنبرغ من اختلاف الطبعات للترجمة الواحدة أن يجر ذلك طعن الخلق عليهم، فأعادوا طباعتها مرة أخرى فأسقطوا منها هذه العبارة، ثم ما رضي النصارى البروتستانت بهذا التردد بين الإدخال والإسقاط، فأجمعوا على

التحريف لإظهار أن عيسى ابن الله

إدخالها في ترجمة لوثر في جميع الطبعات اللاحقة على خلاف وصية إمامهم، فمن كانت هذه عادتهم بعد انتشار المطابع، فكيف يرجى منهم عدم التحريف في النسخ القليلة المحصورة بأيدي أناس معدودين قبل ظهور المطابع؟! وقد كتب الفيلسوف المشهور إسحاق نيوتن رسالة حجمها بقدر خمسين صفحة أثبت فيها أن هذه العبارة وعبارات أخرى جعلية محرفة. وهذه العبارة الجعلية المحرفة وردت في طبعتي سنة 1865 م و1983م بين قوسين هلاليين كبيرين كما يلي: فإن الذين يشهدون (في السماء هم ثلاثة الآب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد والذين يشهدون في الأرض) هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم في الواحد. وقد قال الطابعون والمصححون لهاتين الطبعتين في الصفحة الأولى منهما: إن الكلمات والعبارات التي ليس لها وجود في أقدم النسخ وأصحها جعلوها بين قوسين هلاليين. وهذه العبارة لم ترد في طبعة العهد الجديد للآتين التي نشرتها دار المشرق في بيروت في المطبعة الكاثوليكية سنة 1982م، وكذلك لم ترد في طبعة مطابع الحرية في بيروت سنة 1983م بإشراف جان عون. [التحريف لإظهار أن عيسى ابن الله] 10 - التحريف لإظهار أن عيسى ابن الله: ففي سفر أعمال الرسل 8 / 37: (فقال فيلبس إن كنت تؤمن من كل قلبك يجوز. فأجاب وقال أنا أومن أن يسوع المسيح هو ابن الله) . فهذه الفقرة: (أن يسوع المسيح هو ابن الله) إلحاقية زادها أحد من أهل

التحريف في حادثة زنا رأوبين بسرية أبيه

التثليث، واتفق كريسباخ وشولز على أنها إلحاقية جعلية كاذبة. [التحريف في حادثة زنا رأوبين بسرية أبيه] 11 - التحريف في حادثة زنا رأوبين بسرية أبيه: ففي سفر التكوين 35 من النسخة العبرانية هكذا: (وحدث إذ كان إسرائيل ساكنا في تلك الأرض أن رأوبين ذهب واضطجع مع بلهة سرية أبيه. وسمع إسرائيل) . ولا شك أن في هذه الفقرة تحريفا بالنقصان، واليهود معترفون بسقوط عبارة هاهنا، قال جامعو تفسير هنري وإسكات: إن اليهود يسلمون أن شيئا سقط من هذه الفقرة، وتتمته من الترجمة اليونانية هكذا: (وكان قبيحا في نظره) . فلماذا أسقط اليهود العبرانيون هذه العبارة من نسختهم؟! [التحريف في حادثة سرقة الصواع] 11 - التحريف في حادثة سرقة الصواع: ففي سفر التكوين 44 / 5 من النسخة العبرانية هكذا: (أليس هذا هو الذي يشرب سيدي فيه) . ولا شك أن في هذه الفقرة تحريفا بالنقصان، وقد أقر المفسر هارسلي بالنقصان هاهنا، وأمر بزيادته على حسب ما في الترجمة اليونانية لتصبح الفقرة كما يلي: (لم سرقتم صواعي. أليس هذا هو الذي يشرب سيدي فيه) . [التحريف بإسقاط اسم مريم ابنة عمران أخت موسى] 13 - التحريف بإسقاط اسم مريم ابنة عمران أخت موسى: ففي سفر الخروج 6 من النسخة العبرانية هكذا: (وأخذ عمرام يوكابد عمته زوجة له فولدت له هارون وموسى) . ولا شك أن في هذه الفقرة تحريفا بالنقصان يظهر من النسخة السامرية

التحريف في الزبور إما بالزيادة وإما بالنقصان

والترجمة اليونانية هكذا: فولدت له هارون وموسى ومريم أختهما) . قال آدم كلارك: إن كبار المحققين يعتقدوم أن هذا اللفظ: (ومريم أختهما) كان موجودا في المتن العبري. ومعنى كلامه أن هذا اللفظ أسقطه اليهود العبرانيون، إما عنادا للسامريين المعتمدين على التوراة السامرية، وإما عنادا للنصارى المعتمدين على التوراة اليونانية. وشيء آخر يفهم هنا، وهو أن عمران بن قهات بن لاوي قد تزوج يوكابد بنت لاوي، فهي عمته أخت أبيه قهات، وقد ورد لفظ العمة في التوراة السامرية والعبرانية، وفي التراجم العربية المطبوعة سنة 1811م و1865 م و1970 -1983م، وفي التراجم الفارسية المطبوعة سنة 1839م و1845م و1856م، وفي التراجم الهندية المطبوعة سنة 1822م و1829م و1842م. وبما أن نكاح العمة حرام في التوراة كما في سفر الأحبار (اللاوين) 18 / 12 و20 / 19، فلما طبعت الترجمة العربية في عهد البابا أربانوس الثامن (المتوفى سنة 1644م) حرف لفظ العمة بابنة العم كما يلي: (فتزوج عمران يوكابد ابنة عمه) ، فهذه الفقرة وردت بلفظ ابنة العم في الطبعات العربية المطبوعة سنة 1625م و1671م و1844م و1848م، فلزمهم التحريف بالتبديل في بعض الطبعات. [التحريف في الزبور إما بالزيادة وإما بالنقصان] 14 - التحريف في الزبور إما بالزيادة وإما بالنقصان: وقعت فقرات بين الفقرتين الثالثة والرابعة من المزمور الرابع عشر، وهذه الفقرات توجد في الترجمة اللاتينية والترجمة العربية ونسخة واتيكانوس إحدى

التحريف في إنجيل لوقا بالنقصان

نسخ الترجمة اليونانية، ونصها كما يلي: (فحلقومهم قبر مفتوح وهم يغدرون بألسنتهم وسم الثعابين تحت شفاهم وأفواهمم مملؤة من اللعن والمرورة وأقدامهم مسرعة لسفك الدم والتهلكة والشقاء في طرقهم ولم يعرفوا طريق السلامة وخوف الله ليس بموجود أمام أعينهم) . وهذه الفقرات لا توجد في النسخة العبرانية، ولكنها توجد في رسالة بولس إلى أهل رومية 3 / 13 -18، فإما أن اليهود أسقطوها من نسختها العبرانية عنادا للنصارى الذين كانوا يعتمدون على نسخة التوراة اليونانية، وهذا هو التحريف بالنقصان، وإما أن النصارى زادوها في التراجم المذكورة انتصارا لبولس، وهذا هو التحريف بالزيادة، فالتحريف لازم قطعا لأحد الفريقين. [التحريف في إنجيل لوقا بالنقصان] 15 - التحريف في إنجيل لوقا بالنقصان: ففي إنجيل لوقا 21 / 32 -34: (32) الحق أقول لكم إنه لا يمضي هذا الجيل حتى يكون الكل (33) السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول (34) فاحترز لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم، قال هورن: إن فقرة تامة ما بين الفقرتين (33) و (34) قد أسقطت من إنجيل لوقا، وإن المحققين والمفسرين كلهم قد أغمضوا عيونهم عن هذا النقصان العظيم الواقع في متن إنجيل لوقا، حتى قام المحقق هيلز بالتنبيه عليه، وتجاسر هورن فأمر بزيادة هذه الفقرة في إنجيل لوقا بالرجوع إلى إنجيل متى وإنجيل مرقس؛ ليكون موافقا لهما. وفيما يلي نقل هذه الفقرة مع الفقرات السابقة لها؛ ليظهر التحريف القصدي في إنجيل لوقا بإسقاط هذه الفقرة منه: ففي إنجيل متى 24 / 34 -36: (34) الحق أقول لكم لا يمضي هذا

التحريف لعناد اليهود والنصارى بعضهم بعضا

الجيل حتى يكون هذا كله (35) السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول (36) وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا ملائكة السماوات إلا أبي وحده) . وفي إنجيل مرقس 13 / 30 -32: (30) الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله (31) السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول (32) وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب) . فعلى اعتراف هورن وهيلز أن الفقرة الواردة في إنجيل متى 24 / 36 وفي إنجيل مرقس 13 ساقطة من إنجيل لوقا ويجب زيادتها فيه. [التحريف لعناد اليهود والنصارى بعضهم بعضا] 16 - التحريف لعناد اليهود والنصارى بعضهم بعضا: ففي إنجيل متى 2: (وأتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة. لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيدعى ناصريا) . فقوله: (لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيدعى ناصريا) من الأغلاط المشهورة في هذا الإنجيل؛ لأنه لا يوجد هذا القول في كتاب من الكتب المعروفة المنسوبة للأنبياء، فإما أن يكون النصارى أدخلوا هذا القول في كتبهم عنادا لليهود، وهو من التحريف بالزيادة، وإما أن يكون اليهود أسقطوا هذا القول من كتبهم عنادا للنصارى، وهو من التحريف بالنقصان. والمحقق كريزاستم وعلماء الكاثوليك يعتقدون أن هذا القول كان في كتب الأنبياء، لكن هذه الكتب انمحت وضيعها اليهود لغفلتهم وعدم ديانتهم، فمزقوا بعضها، وأحرقوا بعضها؛ لأنهم لما رأوا أن الحواريين يتمسكون بهذه

الكتب في إثبات عقائد ملتهم، ضيعوها قصدا لإنكار نبوة المسيح عليه السلام، ويعلم هذا من إعدامهم كتبا نقل عنها متى. وقد قال جستن في مناظرته لطريفون اليهودي: إن اليهود حرفوا كتبا كثيرة وأخرجوها من العهد العتيق؛ ليظهر أن العهد الجديد مخالف للعهد القديم. وهذا يدل على أن التحريف في سالف الزمان كان سهلا، ألا ترى كيف انمحت عن صفحة العالم كتب كثيرة بإعدامهم لها لعناد بعضهم بعضا؟! وأي تحريف بالنقصان أكثر من أن تضيع فرقهم الكتب السماوية قصدا للأغراض النفسانية. وإذا كان اليهود قد حرفوا كتبهم لإنكار رسالة عيسى عليه السلام، وكذلك النصارى حرفوا كتبهم لإثبات التثليث وألوهية عيسى وبنوته لله، فلا يستبعد منهم تحريف نصوص البشارات الدالة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بل هم أشد اهتماما بهذا الأمر من غيره؛ لأنهم حرفوا ويحرفون كل عبارة نافعة للمسلمين.

مغالطات نصرانية والرد عليها

[مغالطات نصرانية والرد عليها] [الأولى زعمهم أن المسلمين فقط هم الذين يدعون أن كتب العهدين محرفة] مغالطات نصرانية والرد عليها المغالطة الأولى: يزعم النصارى لتغليط الجاهلين بحقيقة كتبهم أن المسلمين فقط هم الذين يدعون أن كتب العهدين محرفة. وللرد على هذه المغالطة تكون الشواهد في ثلاثة مسالك: المسلك الأول: في نقل أقوال المخالفين للنصارى: ا - العالم الوثني سلسوس كتب في القرن الثاني للميلاد كتابا في الرد على النصارى، ونقل العالم الجرمني أكهارن عن كتاب سلسوس ما يلي: بدل المسيحيون أناجيلهم ثلاث مرات أو أربع مرات بل أزيد من هذا تبديلا كأن مضامينها بدلت. فهذا المشرك الوثني أخبر أن النصارى بدلوا أناجيلهم إلى عهده أكثر من أربع مرات. ب - القس والمصلح الأمريكي باركر المتوفى سنة 1860م - وهو في نظر النصارى ملحد - قال: إن اختلاف العبارات في كتب النصارى ثلاثون ألفا، وهذا العدد هو على تحقيق ميل. ج - عمل أحد الملاحدة جدولا للأسفار المنسوبة إلى عيسى بن مريم والحواريين والتي يرفضها النصارى الآن، فكان عددها أربعة وسبعين سفرا. ثم قال: كيف نعرف أن الكتب الإلهامية هي المسلمة الآن ضمن العهد الجديد أو هذه المرفوضة؟! وإذا لاحظنا أن هذه الكتب المسلمة أيضا قبل إيجاد المطابع كانت قابلة للإلحاق والتبديل يقع الإشكال.

المسلك الثاني: في نقل أقوال الفرق النصرانية القديمة التي يعدها النصارى الآن من المبتدعين: ا - الفرقة الأبيونية: ظهرت هذه الفرقة في القرن الميلادي الأول وكانت معاصرة لبولس، فأنكرت عليه إنكارا شديدا وعدته مرتدا، وكانت تسلم من كتب العهد القديم بالتوراة فقط، وتسلم من كتب العهد الجديد بإنجيل متى فقط، لكن نسخته التي عند هذه الفرقة مخالفة لنسخة الإنجيل المنسوب إلى متى الآن التي يسلم بها أتباع بولس، ولم يكن البابان الأولان موجودين في إنجيلها؛ لأنها تعتقد أن هذين البابين ومواضع أخرى كثيرة محرفة، وكانت تنكر ألوهية المسيح وتعتقد أنه إنسان فقط. ب- الفرقة المارسيونية: من فرق النصارى القديمة أيضا، وكانت تنكر جميع كتب العهد القديم وتقول: إنها ليست إلهامية، وتنكر جميع كتب العهد الجديد إلا إنجيل لوقا وعشر رسائل من رسائل بولس، وهذه الرسائل العشر المسلمة عندها مخالفة للرسائل الموجودة الآن، وأما إنجيل لوقا فكانت هذه الفرقة تنكر البابين الأولين منه، وتنكر مواضع أخرى كثيرة منه، ذكر منها لاردنر في تفسيره أربعة عشر موضعا. وذكر (بل) في تاريخه أن هذه الفرقة المارسيونية تعتقد أنه يوجد إلهان، أحدهما خالق الخير، وثانيهما خالق الشر، وتقول: إن التوراة وسائر كتب العهد العتيق من عند إله الشر؛ لأنها مخالفة للعهد الجديد. ج - فرقة ماني كيز: أعظم علماء هذه الفرقة هو فاستس الذي عاش في القرن الرابع الميلادي، وقد نقل لاردنر في تفسيره عن أكستاين ما يلي:

قال فاستس: أنا أنكر الأشياء التي ألحقها في العهد الجديد آباؤكم وأجدادكم بالمكر، وعيبوا صورته الحسنة وأفضليته؛ لأن هذا الأمر محقق: أن هذا العهد الجديد ما صنفه المسيح ولا الحواريون، بل صنفه رجل مجهول الاسم، ونسبه إلى الحواريين ورفقاء الحواريين خوفا عن أن لا يعتبر الناس تحريره ظانين أنه غير واقف على الحالات التي كتبها، وآذى المريدين لعيسى إيذاء بليغا بأن ألف الكتب التي توجد فيها الأغلاط والتناقضات. فزعيم هذه الفرقة كان ينادي بعدة أشياء أبرزها: أن النصارى أدخلوا في العهد الجديد أشياء خارجة عنه. أن هذا العهد الجديد المعروف الآن ليس من كتابة المسيح ولا الحواريين ولا تابعيهم، وإنما هو من كتابة رجل مجهول الاسم. أن هذا العهد الجديد وقعت فيه الأغلاط والتناقضات. وقال لاردنر في تفسيره: اتفق المؤرخون على أن فرقة ماني كيز كلها لم تكن تسلم بكتب العهد العتيق في كل وقت، وكانت تعتقد أن الشيطان كلم موسى وخدع أنبياء اليهود، وتصفهم بأنهم سراق ولصوص. فظهر من المسلكين السابقين أن المخالفين للنصارى، وكذلك الفرق النصرانية القديمة التي يعدها نصارى اليوم من المبتدعين، كانوا ينادون بأعلى نداء من القرون الأولى بوقوع التحريف في كتب العهدين القديم والجديد.

المسلك الثالث: في نقل أقوال المفسرين والمؤرخين المتعصبين للنصرانية، والمقبولين عند كافة النصارى: ا - قال آدم كلارك في تفسيره: أكثر البيانات التي كتبها المؤرخون للرب (يقصد عيسى) غير صحيحة؛ لأنهم كتبوا الأشياء التي لم تقع بأنها وقعت يقينا، وغلطوا في الحالات الأخر عمدا أو سهوا، وهذا الأمر محقق أن الأناجيل الكثيرة الكاذبة، كانت رائجة في القرون المسيحية الأولى، وبلغت هذه الأناجيل أكثر من سبعين إنجيلا، وكان فابري سيوس قد جمع هذه الأناجيل الكاذبة وطبعها في ثلاثة مجلدات. ب- نسبت إلى موسى عليه السلام غير الكتب الخمسة - (التكوين والخروج والأحبار والعدد والتثنية) والمشهورة الآن بالتوراة - ستة كتب هي: 1 - كتاب المشاهدات 2 - كتاب التكوين الصغير 3 - كتاب المعراج 4 - كتاب الأسرار 5 - كتاب تستمنت (العهد أو الميثاق) 6 - كتاب الإقرار قال هورن: المظنون أن هذه الكتب الجعلية اخترعت في ابتداء الملة المسيحية، أي في القرن الميلادي الأول. قال المؤرخ موشيم: تعلم يهود مصر قبل المسيح مقولة مشهورة عند الفلاسفة هي: أن الكذب والخداع لأجل أن يزداد الصدق وعبادة الله ليسا بجائزين فقط، بل قابلان للتحسين، وعملوا بهذه المقولة كما يظهر هذا جزما من كثير من الكتب القديمة، وانتقل وباء هذه المقولة السيئة إلى النصارى كما يظهر هذا الأمر من الكتب الكثيرة التي نسبوها إلى الكبار

كذبا. فإذا كان الكذب والخداع من المستحبات الدينية عند اليهود قبل المسيح وعند النصارى بعده، فهل يقف الجعل والتحريف والكذب عند حد؟! د- قال لاردنر في تفسيره: حكم على الأناجيل المقدسة لأجل جهالة مصنفيها بأنها ليست حسنة بأمر السلطان أناسطيثوس (الذي حكم ما بين سنتي 491-518م) فصححت مرة أخرى، فلو كان للأناجيل إسناد ثابت في عهد ذلك السلطان ما أمر بتصحيحها، ولكن لأن مصنفيها كانوا مجهولين أمر بتصحيحها، والمصححون إنما صححوا الأغلاط والتناقضات على قدر الإمكان، فثبت التحريف فيها يقينا من جميع الوجوه، وثبت أنها فاقدة الإسناد. هـ - أكستاين وهيلز وقدماء النصارى كانوا يقولون: إن اليهود في سنة 130م حرفوا التوراة العبرانية قصدا لعناد النصارى الذين كانوا يعتمدون على الترجمة اليونانية، ولتصير هذه الترجمة غير معتبرة، وأثبت كني كات بأدلة قوية لا جواب عليها بأن اليهود حرفوا توراتهم العبرانية لأجل عداوة السامريين الذين كان لهم توراة خاصة بهم غير توراة العبرانيين. وقال المفسر هارسلي: لا ريب في أن المتن المقدس قد حرف، وهذا ظاهر من اختلاف النسخ وتناقض العبارات، وهذا الأمر قريب من اليقين أن العبارات القبيحة جدا دخلت في المتن المطبوع، وأن المتن العبري في النقول التي كانت عند الناس كان في أشنع حالة التحريف. ز- قال واتسن: إن أوريجن كان يشكو من الاختلافات، وينسبها إلى أسباب

مختلفة، مثل غفلة الكاتبين وشرارتهم وعدم مبالاتهم، ولما أراد جيروم ترجمة العهد الجديد قابل النسخ التي كانت عنده فوجد اختلافا عظيما. وقال آدم كلارك في تفسيره: كانت ترجمات كثيرة باللغة اللاتينية من المترجمين المختلفين موجودة قبل جيروم، وكان بعضها في غاية درجة التحريف، وبعض مواضعها مناقضة للمواضع الأخرى، كما صرح به جيروم. الراهب فيلبس كوادنولس كتب كتابا للرد على بعض المسلمين سماه (الخيالات) وطبعه سنة 1649م، وقال فيه: يوجد التحريف كثيرا في كتب العهد القديم، ونحن النصارى حافظنا على هذه الكتب لنلزم اليهود بالتحريف، ونحن لا نسلم أباطيلهم. ط - وصل عرضحال (معروض) من فرقة البروتستانت إلى السلطان جيمس الأول (المتوفى سنة 1625 م) يقولون فيه: إن الزبورات (المزامير) التي هي داخلة في كتاب صلاتنا مخالفة للنص العبري بالزيادة والنقصان والتبديل في مائتي (200) موضع تخمينا. ي- قال المؤرخ الإنكليزي مستر توماس كارلايل (المتوفى سنة 1881م) : المترجمون الإنكليزيون أفسدوا المطلب، وأخفوا الحق، وخدعوا الجهال، ومطلب الإنجيل الذي كان مستقيما جعلوه معوجا، وعندهم الظلمة أحب من النور، والكذب أحق من الصدق. ك- مستر بروتن كان كبير المسؤولين عن مجلس الترجمة الجديدة في بريطانية فقال للقسيسين: إن الترجمة السائدة في إنكلترة مملوءة من الأغلاط، وإن

ترجمتكم الإنكليزية المشهورة حرفت عبارات كتب العهد القديم في ثمانمائة وثمانية وأربعين (848) موضعا، وصارت سببا لرد كتب العهد الجديد من قبل أناس غير محصورين.

أسباب وقوع اختلاف العبارة في كتب العهدين قال هورن في تفسيره: لوقوع اختلاف العبارة أربعة أسباب: السبب الأول: (غفلة الكاتب وسهوه) ، وهو يتصور على وجوه: أن الذي كان يملي العبارة على الكاتب حرف في الإملاء فألقى ما ألقى، أو أن الكاتب لم يفهم قوله حين أملاه عليه فكتب ما كتب. أن الحروف العبرانية واليونانية بعضها متشابهة، فكتب أحدها بدل الآخر. أن الكاتب ظن الإعراب خطأ، أو ظن الخط الذي كان يكتب عليه جزءا من الحرف، أو أن الكاتب لم يفهم أصل المطلب فأصلح العبارة باجتهاده وغلط. أن الكاتب انتقل من موضع إلى موضع آخر سهوا، فلما تنبه لم يمح ما كتب، وبدأ الكتابة مرة أخرى من الموضع الذي تركه، فبقي ما كتبه من قبل بلا محو. أن الكاتب نسي شيئا، فبعدما كتب شيئا آخر تنبه فكتب العبارة المتروكة بعده مباشرة، فانتقلت العبارة من موضعها الصحيح إلى موضع آخر. أن نظر الكاتب أثناء الكتابة أخطأ ووقع على سطر آخر، فسقطت عبارة أو عبارات ولم يعلم بها. أن الكاتب غلط في فهم بعض الألفاظ فكتبها على حسب فهمه، فوقع الغلط. أن جهل الكاتبين وغفلتهم سبب عظيم لوقوع اختلاف العبارة، بأنهم فهموا عبارة الحاشية أو التفسير جزءا من المتن فأدخلوها فيه.

السبب الثاني: (نقصان النسخة المنقول عنها) وهو يتصور على وجوه: انمحاء إعراب الحروف. أن الإعراب الذي كان في صفحة ظهر في صفحة أخرى وامتزج بحروف الصفحة الأخرى، ففهمه الكاتب جزءا منها، فكتبه كما يفهم. أن الفقرة المتروكة كانت مكتوبة على الحاشية بلا علامة تدل على موضع نقصانها، فلم يعلم الكاتب الثاني أين موضع نقصانها الذي نكتب فيه، فاجتهد فغلط في موضعها. السبب الثالث: (التصحيح الخيالي والإصلاح) وهو يتصور على وجوه: أن الكاتب فهم العبارة الصحيحة أنها ناقصة، أو أنه غلط في فهم المطلب، أو أنه ظن أن العبارة غلط ولم تكن غلطا. أن بعض المحققين لم يكتفوا على إصلاح الغلط، بل بدلوا العبارات غير الفصيحة بعبارات فصيحة، وأسقطوا الفضول من الكلام والألفاظ المترادفة التي لم يظهر لهم فرق فيها. أنهم سووا الفقرات المتقابلة باعتبار المعاني، فجعلوها متساوية، فالزائد نقصوه إلى القليل، أو القليل زادوه، وهذا التصرف وقع في الأناجيل خصوصا، ولأجل ذلك كثر الإلحاق في رسائل بولس؛ لتكون العبارات التي نقلها عن العهد القديم مطابقة للترجمة اليونانية. وهذا هو أكثر الوجوه وقوعا. أن بعض المحققين جعل عبارات العهد الجديد مطابقة للترجمة اللاتينية.

السبب الرابع: (التحريف القصدي) : وهذا التحريف صدر من المتشددين في الدين وصدر أيضا من المبتدعين، وأعظم المحرفين المبتدعين هو مارسيون، وأما المتشددين فكانوا يحرفون قصدا لتأييد مسألة مقبولة، أو لدفع الاعتراضات الواردة، ثم ترجح هذه التحريفات بعدهم. وضرب هورن أمثلة كثيرة لهذه التحريفات القصدية الصادرة عن المتشددين الذين هم عند قومهم من أهل الديانة والدين. إذا ثبت أن عبارات الحاشية والتفسير دخلت في المتن بسبب جهل الكاتبين وغفلتهم، وأن الكاتبين أصلحوا العبارات التي ظنوا أنها غلط، وأنهم بدلوا العبارات غير الفصيحة، وأسقطوا ألفاظا فضولا أو مترادفة، وسووا الفقرات المتقابلة وخصوصا في الأناجيل، وأن بعض المحققين جعلوا العهد مطابقا للترجمة اللاتينية، وأن المبتدعين حرفوا قصدا، وأن أهل الديانة والدين من المتشددين في ملتهم كانوا يحرفون قصدا لتأييد المسائل أو لدفع اللاعتراضات، وأن هذه التحريفات القصدية كانت ترجح بعدهم، فأي وجه من وجوه التحريف لم يفعلوه؟! وأي باب من أبواب التحريف لم يدخلوه؟! وأي استبعاد لو قلنا: إن النصارى عباد الصليب حرفوا قصدا بعد ظهور دين الإسلام العبارات التي كانت نافعة للمسلمين، ثم رجح هذا التحريف بعدهم؟! بل إن هذا التحريف الذي هو ضد المسلمين أشد اهتماما عندهم من التحريف الذي هو ضد بعضهم بعضا، وترجيحه عندهم أولى وأشد.

الثانية زعمهم أن المسيح عليه السلام شهد بحقية كتب العهد العتيق

[الثانية زعمهم أن المسيح عليه السلام شهد بحقية كتب العهد العتيق] المغالطة الثانية: يزعم النصارى أن المسيح عليه السلام شهد بحقية كتب العهد العتيق، ولو كانت محرفة ما شهد بها، بل كان عليه أن يلزم اليهود بالتحريف. يقال في الرد على هذه المغالطة: إنه لما لم يثبت التواتر اللفظي لكتاب من كتب العهدين العتيق والجديد، ولا يوجد لها سند متصل إلى مصنفيها، وثبت وقوع جميع أنواع التحريف في هذه الكتب، وثبت أن المتشددين من أهل الدين والديانة كانوا يحرفون قصدا لتأييد المسائل أو لدفع الاعتراضات الواردة، فصارت هذه الكتب جميعها مشكوكة عندنا، ولا يجوز الاحتجاج علينا ببعض فقراتها؛ لاحتمال أن تكون هذه الفقرات إلحاقية، أدخلها المتشددون من النصارى في القرن الثاني أو في القرن الثالث ضد الفرقة الأبيونية والفرقة المارسيونية وفرقة ماني كيز، ثم رجحت هذه التحريفات بعدهم لكونها مؤيدة لمسائلهم، كما فعلوا ضد فرقة إيرين، وكانت الفرق الثلاث المذكورة تنكر كتب العهد العتيق إما كلها أو أكثرها. ثم لو قطعنا النظر عن كون هذه الفقرات إلحاقية، فلا يثبت منها سند هذه الكتب؛ لأنها لم يبين فيها أعداد هذه الكتب ولا أسماؤها، فكيف يعلم أن كتب العهد العتيق تسعة وثلاثون (كما هي الآن عند البروتستانت) ، أو ستة وأربعون (كما هي الآن عند الكاثوليك) ؟! والمؤرخ اليهودي يوسيفس - الذي هو متعصب جدا وعاش بعد المسيح عليه السلام، والنصارى يحترمونه ويقبلون كتبه - كتب في تاريخه يقول: نحن اليهود ليس عندنا ألوف من الكتب يناقض بعضها بعضا، بل عندنا

اثنان وعشرون كتابا منها خمسة لموسى. فبين غير أسفار موسى الخمسة سبعة عشر كتابا من ملحقات التوراة، والحال أن هذه الملحقات للتوراة عند البروتستانت أربعة وثلاثون كتابا، وعند الكاثوليك واحد وأربعون كتابا، فأي كتاب من هذه الكتب الملحقات يكون داخلا في السبعة عشر؟! وأي كتاب منها يكون خارجا عنها؟! وقد مر أن المحقق كريزاستم وعلماء الكاثوليك يعترفون أن اليهود ضيعوا كتبا بسبب غفلتهم وعدم ديانتهم، فمزقوا بعضها، وأحرقوا بعضها الآخر فيجوز أن تكون هذه الكتب المضيعة داخلة ضمن السبعة عشر، وقد اعترف المحققون بفقدان عشرين كتابا ورد ذكرها وليس لها وجود الآن. قال طامس إنكلس: اتفق العالم على أن الكتب المفقودة من الكتب المقدسة ليست بأقل من عشرين. وثبت بشهادة يوسيفس أن خمسة كتب منسوبة إلى موسى عليه السلام ولكن لا يعلم أن هذه الكتب الخمسة التي كانت في عهد يوسيفس هي هذه الخمسة المتداولة الآن أم غيرها؟! والظاهر أنها غيرها لما مر أن يوسيفس لم يكن يعتمد في تاريخه على الأسفار الحالية. ثم لو سلمنا أن هذه الكتب من العهد القديم التي كانت متداولة في عهد المسيح، وشهد المسيح والحواريون لها، فمقتضى هذه الشهادة أن هذه الكتب كانت موجودة عند اليهود في ذلك الوقت، سواء كانت من تصنيف الأشخاص المنسوبة إليهم أو لم تكن، وسواء كانت الحالات المندرجة فيها

صادقة أو بعضها صادقة وبعضها كاذبة، ولا يفهم من هذه الشهادة أن كل كتاب منها هو من تصنيف الشخص المنسوب إليه، ولا أن كل حال من الحالات المذكورة فيها صادقة قطعا، ولو نقل المسيح والحواريون من هذه الكتب شيئا، فلا يلزم من مجرد النقل صدق الكتاب المنقول منه بحيث إنه لا يحتاج إلى تحقيق، نعم لو أن المسيح صرح في كل جزء من أجزاء هذا الكتاب وفي كل حكم من أحكامه أنه من عند الله وثبت تصريح المسيح بالتواتر فيكون هذا الكتاب صادقا قطعا، وما سواه يكون مشكوكا يحتاج إلى تحقيق. ولكن لم يثبت هذا التصريح من المسيح عليه السلام بخصوص أي كتاب من كتب العهد القديم. والمحقق بيلي ذكر في كتابه أن المسيح قال بأن التوراة من عند الله، وقوله ذلك لا يعني أن العهد العتيق كله أو كل فقرة منه صحيحة، ولا أن كل كتاب منه أصلي، ولا أن تحقيق مؤلفيه واجب، نعم لقد كان الحواريون واليهود المعاصرون للمسيح يرجعون إليها ويستعملونها، فيثبت من هذا الرجوع والاستعمال أنها كانت مشهورة ومسلمة في ذلك الوقت، ولا يلزم من نقل فقرة في العهد الجديد عن العهد العتيق صدق تلك الفقرة بحيث لا تحتاج إلى تحقيق. ثم لو فرضنا أن المسيح شهد لكتب العهد القديم فشهادة المسيح لا تنافي التحريف الواقع بعدها، فكما حرف اليهود قبل المسيح حرفوا بعده أيضا، وقد مر أن مذهب الجمهور من العلماء والمحققين والمفسرين والمؤرخين أن اليهود حرفوا قصدا بعد المسيح سنة 130 م عنادا للنصارى، فشهادة المسيح لا تنفي أن يكون التحريف قد وقع بعدها في هذه الكتب.

الثالثة زعمهم أن وقوع التحريف مستبعد لأن نسخ الكتب المقدسة كانت منتشرة شرقا وغربا

[الثالثة زعمهم أن وقوع التحريف مستبعد لأن نسخ الكتب المقدسة كانت منتشرة شرقا وغربا] المغالطة الثالثة: يزعم النصارى أن وقوع التحريف مستبعد؛ لأن نسخ الكتب المقدسة كانت منتشرة شرقا وغربا فلا يمكن لأحد تحريفها. وللرد على هذه المغالطة فيما يلي إيراد أمور يزول بها استبعاد وقوع التحريف في كتبهم: أن موسى عليه السلام كتب نسخة التوراة وسلمها إلى الأحبار، وأوصاهم بالمحافظة عليها بوضعها داخل صندوق الشهادة، أي التابوت الذي صنعه موسى، فكانت توراة موسى موضوعة في الصندوق، وكانت الطبقة الأولى محافظة عليها، فلما انقرضت هذه الطبقة تغير حال بني إسرائيل، فكانوا يرتدون تارة ويسلمون أخرى، ويقي حالهم هكذا إلى سلطنة داود وسليمان عليهما السلام، فحسنت حالهم، واستقامت عقيدتهم، أما التوراة الموضوعة في التابوت فضاعت قبل عهد سليمان بسبب الارتدادات الكثيرة، ولا يعلم جزما متى ضاعت؛ لأن سليمان عليه السلام عندما فتح الصندوق لم يجد فيه سوى اللوحين اللذين كانت الأحكام (الوصايا) العشرة فقط مكتوبة فيهما، كما هو مصرح به في سفر الملوك الأول 8 / 9. ثم وقع الارتداد العظيم في آخر حكم سليمان على ما تشهد به كتبهم المقدسة (ولا شك أنه إفك مفترى على سليمان) . فيقولون إن سليمان ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها المعابد الكثيرة إرضاء لأزواجه (سفر الملوك الأول 11 / 1 -11) ، فإذا صار سليمان في آخر عمره مرتدا وثنيا بشهادتهم القبيحة، فما بقي له غرض بالتوراة. وبعد موت سليمان عليه السلام سنة 931ق. م وقع الارتداد الأعظم بأن انقسم أسباط بني إسرائيل، فصارت المملكة الواحدة مملكتين، وصار

يربعام بن ناباط ملكا على عشرة أسباط في شمال فلسطين، وسميت مملكته بمملكة إسرائيل، وعاصمتها ترصة قرب شكيم (نابلس) ، وصار رحبعام بن سليمان ملكا على سبطين في جنوب فلسطين، وسميت مملكته بمملكة يهوذا، وعاصمتها أورشليم (القدس) ، وقد شاع الكفر والارتداد في المملكتين، وكان في مملكة إسرائيل أسرع وأشد؛ لأن يربعام بعدما تولى الحكم ارتد ونصب عجول الذهب وأمر بعبادتها، فارتدت معه الأسباط العشرة وعبدوا الأصنام، ومن بقي منهم على التوحيد هاجر إلى مملكة يهوذا، وقد تعاقب على حكم مملكة إسرائيل تسعة عشر (19) ملكا، ولم يتغير حالهم، فهؤلاء الأسباط العشرة من عهد أول ملوكهم إلى آخرهم كانوا كافرين بالله، عابدين للأصنام، نابذين للتوراة، فأبادهم الله بأن سلط عليهم الأشوريين بقيادة سرجون الثاني سنة 722ق. م، فأسروا وقتلوا القسم الأكبر منهم، وفرقوا قسما آخر في الممالك، ولم يبق منهم في هذه المملكة إلا شرذمة قليلة، فجلبوا الوثنيين وأسكنوهم في مملكة إسرائيل، فاختلطت هذه الشرذمة الإسرائيلية القليلة بالوثنيين اختلاطا شديدا، فتزاوجوا وتوالدوا، فسميت أولادهم بالسامريين، فمن عهد يربعام أول ملوك المملكة الإسرائيلية وإلى اندثارها بعد مدة تزيد عن قرنين من الزمان ما كان لهؤلاء الأسباط العشرة غرض بالتوراة، وكان وجود نسخ التوراة في هذه المملكة كوجود العنقاء، يسمع بها ولا أصل لها. أما مملكة يهوذا التي تضم سبطين من أسباط بني إسرائيل فجلس على سرير الحكم فيها بعد موت سليمان عليه السلام عشرون ملكا، وكان المرتدون من هؤلاء الملوك أكثر من المؤمنين الموحدين، فمن عهد رحبعام بن سليمان

شاعت عبادة الأصنام، ووضعت تحت كل شجرة وعبدت، فسلط الله عليه شيشق ملك مصر، فغزا مملكة يهوذا، ونهب جميع أثاث الهيكل وأثاث بيت السلطان، ثم سلط الله على آسا ثالث ملوكها بعشا بن أخيا ثالث ملوك مملكة إسرائيل، وكان بعشا وثنيا مرتدا، فجاء إلى القدس ونهب الهيكل وبيت السلطان نهبا شديدا، وفي عهد أخزيا سادس ملوك يهوذا بنيت المذابح للبعل في كل جانب من مدينة أورشليم (القدس) ، حتى سدت أبواب بيت المقدس، ثم في عهد منسي ملكها الرابع عشر اشتد الكفر حتى صار أكثر أهل المملكة وثنيين، فبني مذابح الأوثان في فناء بيت المقدس، ووضع الوثن الذي كان يعبده في بيت المقدس، وهكذا كان حال الكفر والارتداد في عهد ابنه آمون. ولما تولى الحكم يوشيا بن آمون سنة 638ق. م تاب إلى الله توبة نصوحا، وأمر أركان دولته بنشر الملة الموسوية، وهدم رسوم الكفر والوثنية في غاية الجد والاجتهاد، واتخذ الكاهن حلقيا مرشدا له، وعين الكاتب شافان لجمع الضرائب من الشعب لإصلاح الهيكل، وكان بحاجة شديدة إلى التوراة، ولكنه مع ذلك ما رأى أحد ولا سمع بوجود نسخة التوراة إلى سنة 621 ق. م، أي بعد سبعة عشر عاما من حكمه، ثم في العام الثامن عشر ادعى مرشده الكاهن حلقيا أنه وجد مخطوطة لسفر التثنية ومجموعة من الشرائع في بيت المقدس، عندما كان يحسب الفضة الواردة إلى الهيكل، فأعطى هذا السفر لشافان فقرأه على الملك يوشيا، فلما سمع يوشيا مضمونه شق ثيابه حزنا على عصيان بني إسرائيل، (سفر الملوك الثاني 22 / 1 -11 وسفر أخبار الأيام الثاني 34 / 1 -19) .

ولكن هذه النسخة لا اعتماد عليها ولا على قول حلقيا؛ لأن الهيكل نهب مرتين قبل عهد الملك أخزيا، وفي عهده جعل بيتا للأصنام، وكان سدنتها يدخلون البيت كل يوم، ففي خلال أكثر من قرنين من الزمان، (منذ بداية حكم أخزيا سنة 843 ق. م إلى سنة 621 ق. م التي هي العام السابع عشر لحكم يوشيا) ما سمع أحد اسم التوراة ولا رآها، علما أن يوشيا وأركان دولته وجميع رعيته كانوا في غاية الاجتهاد لإحياء شريعة موسى، وكان الكهنة يدخلون كل يوم إلى الهيكل، فالعجب أن يكون سفر التثنية في الهيكل ولا يراه أحد طيلة سبعة عشر عاما، والحق أن هذا السفر اخترعه الكاهن حلقيا؛ فإنه لما رأى أن الملك يوشيا وأركان دولته متوجهون بشدة إلى اتباع شريعة موسى، قام بجمع هذا السفر من الروايات اللسانية غير المدونة التي كان يتناقلها الأحبار، أو وصلت إليه من أفواه الناس سواء كانت صادقة أو كاذبة، وكان طيلة سبعة عشر عاما في جمعها وتأليفها، فبعدما أتم جمعها نسبها إلى موسى، وادعى أنه وجد هذا السفر في الهيكل، ومثل هذا الافتراء والكذب لترويج الملة كان من المستحبات الدينية عند متأخري اليهود وقدماء النصارى. وبقطع النظر عما فعله حلقيا، فإن سفر الشريعة الذي سلمه للملك يوشيا سنة 620 ق. م في العام الثامن عشر من حكمه، بقي العمل به طيلة حياته، أي لمدة ثلاثة عشر عاما، ولما مات يوشيا سنة 608 ق. م جلس ابنه يهوآحاز على سرير الملك، فارتد وأشاع الكفر في المملكة، فسلط الله عليه (نخو) ملك مصر، فأسره وأجلس مكانه أخاه يهوياقيم بن يوشيا، وكان أيضا مرتدا وثنيا كأخيه، وبعد موته جلس على سرير الملك ابنه يهوياكين بن

يهوياقيم، وكان أيضا مرتدا وثنيا كأبيه وعمه، فسلط الله عليه بختنصر (نبوخذنصر) ملك بابل، فأسره مع جم غفير من بني إسرائيل، ونهب الهيكل والقدس وكنز بيت الملك، وأجلس مكانه على السرير عمه صدقيا بن يوشيا، وكان مرتدا وثنيا كأخويه، فحكم أحد عشر عاما كان خلالها ذليلا لنبوخذ نصر، وفي سنة 587ق. م جاء نبوخذ نصر فقبض على صدقيا وقتل أولاده أمام عينه، ثم قلع عينيه وربطه بالسلاسل وأرسله مع سائر بني إسرائيل أسرى إلى بابل، وأشعل النار في الهيكل وفي بيوت الملك وجميع بيوت أورشليم، فدمرها تدميرا كليا وهدم أسوارها، وقضي نهائيا على مملكة يهوذا سنة 587 ق. م، أي بعد أن قضى سرجون الثاني الأشوري على مملكة إسرائيل بـ 135 سنة. إذن يكون تواتر التوراة في اليهود منقطعا قبل زمان يوشيا (638-608 ق. م) ، والسفر الذي وجد في عهده لا اعتماد عليه ولا يثبت به التواتر، وما عمل به إلا ثلاثة عشر عاما، وبعدها اندثر ولم يعلم حاله، والظاهر أنه لما رجع الكفر والارتداد والوثنية في أولاد يوشيا زال هذا السفر قبل حادثة بختنصر، ولو فرض بقاؤه فزواله في حادثة بختنصر أمر مقطوع به؛ لأن جميع كتب العهد العتيق التي كانت مصنفة قبل هذه الحادثة انعدمت عن صفحة العالم رأسا، وهذا الأمر مسلم عند أهل الكتاب، لذلك يضطرون للقول: إن عزرا كتب العهد العتيق مرة أخرى في بابل. وذكر كتاب قاموس الكتاب المقدس أنه مما لا شك فيه أن معظم الأسفار المقدسة أتلفت أو فقدت في عصر الارتداد والاضطهاد وبخاصة في مدة حكم

منسى الطويل (55 سنة ما بين 693-639 ق. م) ، ورجحوا أن مخطوطة نسخة الشريعة التي عثر عليها حلقيا قد عبث بها عند تدنيس الهيكل. لما كتب عزرا كتب العهد القديم مرة أخرى - على زعمهم - وقعت حادثة أخرى مروعة، جاء ذكرها في كتاب المكابيين الأول وفي تاريخ يوسيفس وفي كتب أخرى، وهي أنه لما فتح أنطيوخس الرابع (أنتيوكس ابيفانيس) أورشليم، أراد أن يمحق الديانة اليهودية، فأحرق جميع نسخ كتب العهد القديم التي حصلت له من أي مكان بعدما قطعها، وأمر بقتل كل من توجد عنده نسخة من نسخ كتب العهد القديم أو من يؤدي رسم الشريعة، وكان يفعل هذا الأمر في كل شهر ولمدة ثلاث سنوات ونصف، وكانت هذه الحادثة حوالي سنة 161 ق. م، فقتل خلق كثير من اليهود، وأعدمت فيها جميع النسخ التي كتبها عزرا، ولذلك قال جان ملنر: اتفق أهل العلم على أن نسخة التوراة ونسخ كتب العهد العتيق ضاعت من أيدي عسكر بختنصر، ولما ظهرت نقولها بواسطة عزرا ضاعت تلك النقول أيضا في حادثة أنتيوكس، ثم وقعت على اليهود بعد حادثة أنتيوكس حوادث أخرى انعدمت فيها نقول عزرا ونسخ لا تحصى، ومنها حادثة تيطس الرومي سنة 70م، وهي مكتوبة بالتفصيل في تاريخ يوسيفس وتواريخ أخرى، وقد أهلك في هذه الحادثة من اليهود في القدس ونواحيها مليون ومائة ألف (000ر100ر1) بالسيف والصلب والنار والجوع، وأسر سبعة وتسعين ألفا (97000) ، وباعهم في الأقاليم المختلفة، وأهلك جموعا كثيرة في أقطار أرض فلسطين وسوريا، فلو أن شيئا من كتب العهد القديم نجا من إحراق أنتيوكس، فمن المحقق أنه أحرق وأعدم في هذه

الحادثة. (انظر رقم (1) في حال التوراة ص20) . - أن قدماء النصارى لم يكونوا معترفين بالنسخة العبرانية من العهد القديم، وكانوا يعتقدون أنها محرفة، وكانوا يستعملون الترجمة اليونانية إلى آخر القرن الميلادي الثاني، وأما في معابد اليهود فكانت الترجمة اليونانية مستعملة إلى نهاية القرن الميلادي الأول، وكانت نسخ العبرانية قليلة جدا عند الطرفين، وقد أعدم اليهود بأمر محفل الشورى نسخا كتبت في القرنين السابع والثامن الميلادي؛ لأنها كانت تخالف النسخ المعتمدة عندهم مخالفة كبيرة، ولذلك لم تصل إلى أيدي المصححين أية نسخة مكتوبة في هذين القرنين، فإذا أعدموا النسخ المخالفة لنسخهم، وأبقوا النسخ التي يرضون بها صار لهم مجال واسع للتحريف. 4 - الحوادث التي مرت على النصارى في القرون الثلاثة الأولى كانت سببا لقلة النسخ عندهم، ولسهولة التحريف فيها؛ لأن تواريخهم تشهد بأنهم طيلة هذه القرون الثلاثة ابتلوا بأنواع المحن والبلايا، فقد وقعت عليهم اضطهادات عظيمة كانت كافية لضياع الإنجيل الصحيح وسائر أسفارهم المقدسة، وأبرزها عشرة اضطهادات كما يلي: الأول: في عهد السلطان نيرون سنة 64م، وكان مشهورا بالظلم والقسوة، حتى إنه أحرق مدينة روما وألقى تبعة ذلك على النصارى فاضطهدهم بعنف، وكان الإقرار بالنصرانية يعد جرما عظيما، فقتل بطرس وزوجته وأناسا كثيرين، وكان هذا القتل في العاصمة وفي سائر الولايات مستمرا إلى نهاية حياة هذا السلطان سنة 68م.

والثاني: في عهد السلطان دومشيان (دوميتيانوس) ، الذي صار إمبراطور روما عام 81م، (وهو أخو تيطس الذي ذبح اليهود سنة 70م) ، وكان طاغية جبارا، وعدوا للنصارى مثل نيرون، فأجلى يوحنا الحواري، وأمر بالقتل العام، وأسرف في قتل الكبراء ومصادرة أموالهم، ونكل بالنصارى تنكيلا عظيما فاق ما فعله أسلافه، وكان أن يستأصل النصرانية، وبقي الحال هكذا إلى أن قتل سنة 96م. والثالث: في عهد السلطان تراجان (ترايانوس) ، الذي صار امبراطور روما عام 98م، فقد بدأ اضطهاده العنيف للنصارى سنة 101م، واشتد جدا سنة 108م حيث أمر بقتل كل من بقي من ذرية داود، فقام الضباط بالتفتيش، وبقتل كل من وجدوه منهم، وأعدم كثيرين من الأساقفة بالصلب أو بالضرب أو بالإغراق في البحر، وبقي الحال هكذا طيلة حياته إلى أن فاجأه الموت سنة 117م. والرابع: في عهد السلطان مرقس أنتيونينس (أنطيونينوس ماركوس) ، الذي صار إمبراطور روما عام 161م، وكان فيلسوفا رواقيا ووثنيا متعصبا، بدأ اضطهاده للنصارى عام 161م ولمدة تزيد على عشر سنين، حتى بلغ القتل شرقا وغربا، وكان يطلب من الأساقفة أن يكونوا مع جملة سدنة الأوثان، ومن أبى يجلسونه على كرسي حديد تحته نار، ثم يمزق لحمه بكلاليب من حديد. والخامس: في عهد السلطان سويرس (سيفيروس) ، الذي صار إمبراطور روما عام 193م، وابتدأ اضطهاده للنصارى عام 202م، فأمر بالقتل في كل ناحية، وكان القتل على أشده في مصر وقرطاجة وفرنسا حيث قتل

الألوف في غاية الشدة، فظن النصارى أن هذا الزمان هو زمان الدجال. والسادس: في عهد السلطان مكسيمن (ماكسيمينيوس) ، الذي صار إمبراطور روما سنة 235م، فأحيا رسوم الوثنية، وبدأ اضطهاده للنصارى عام 237م، فأصدر أمره بقتل جميع العلماء؛ لأنه ظن أنه إذا قتل العلماء جعل العوام مطيعين له في غاية السهولة، ثم أمر بقتل كل نصراني بلا فحص ولا محاكمة، فكثيرا ما كان يطرح منهم في جب واحد خمسون أو ستون قتيلا معا، ثم هم بقتل جميع سكان روما، فقتله أحد الجند سنة 238م. والسابع: في عهد السلطان دي شس (دنيس) ، الذي بدأ اضطهاده للنصارى سنة 253م، وقد أراد هذا السلطان استئصال الملة النصرانية، فأصدر أوامره بذلك إلى حكام الولايات، ونفذ الولاة أوامره بقسوة فبحثوا عن النصارى وقتلوهم في كل مكان بعد التعذيب الشديد، وكان ظلمه وقهره شديدا في مصر وأفريقيا وإيطاليا والمشرق (آسيا الصغرى وبلاد الشام) ، حتى ارتد في زمنه كثيرون من النصرانية إلى الوثنية. والثامن: في عهد السلطان ولريان (والريانوس) (فالريان) ، الذي بدأ اضطهاده للنصارى سنة 257م، عندما أصدر أمره الشديد بقتل جميع الأساقفة وخدام الدين، وإذلال الأعزة ومصادرة أموالهم، وسلب حلي نسائهم، وإجلائهن من الأوطان، ومن بقي منهم بعد ذلك نصرانيا ورفض تقديم قربان للإله جوبيتر يقتل أو يحرق أو يلقى للنمور تفترسه، فقتل بضعة ألوف، وأخذ الباقون عبيدا مقيدين بالسلاسل لاستعمالهم في أمور الدولة. والتاسع: في عهد السلطان أريلين، الذي بدأ اضطهاده للنصارى بأوامر

مشددة ضدهم سنة 274م، لكن لم يقتل فيه كثير؛ لأن السلطان قتل. والعاشر: في عهد السلطان ديوكليشين (دقلديانوس) ، الذي صار إمبراطور روما عام 284م، وبدأ اضطهاده للنصارى سنة 286م بقتل (6600) من النصارى، وكانت ذروته سنة 302م، واستمر إلى سنة 313م، ففي سنة 302م أحرق بلدة فريجيا كلها دفعة واحدة بحيث لم يبق فيها أحد من النصارى، وأراد هذا السلطان أن يمحو الكتب المقدسة من الوجود، واجتهد في هذا الأمر اجتهادا عظيما، فأصدر أمره في شهر آذار (مارس) سنة 303م بهدم جميع الكنائس وإحراق الكتب، وعدم اجتماع النصارى للعبادة، فنفذ الولاة أمره بصرامة شديدة، فهدمت الكنائس في كل مكان، وأحرق كل كتاب عثروا عليه بالجد التام، وعذب عذابا شديدا كل من ظن أنه أخفى كتابا، وامتنع النصارى عن الاجتماع للعبادة، قال يوسي بيس: إنه رأى بعينيه تهديم الكنائس وإحراق الكتب المقدسة في الأسواق. وأصدر أمره لعامله على مصر أن يجبر الأقباط على عبادة الأصنام، وأن يذبح بالسيف كل من يأبى، فقتل منهم (000ر800) ، فسمي عصره بعصر الشهداء، وكان يقتل من النصارى في كل يوم ما بين 30-80 نفسا. واستمر اضطهاده للنصارى عشر سنين حتى ملأ الأرض قتلا شرقا وغربا، فهذا الاضطهاد أعنف من كل الاضطهادات السابقة وأطولها أمدا. فهذه الوقائع العظيمة والبلايا الجسيمة التي يكتبونها في تواريخهم، لا يتصور فيها كثرة النسخ وانتشارها شرقا وغربا كما يزعمون، بل لا يتصور فيها إمكانية المحافظة على سلامة النسخ الموجودة بين أيديهم ولا تصحيحها ولا

تحقيقها؛ لأن النسخ الصحيحة تضيع في مثل هذه الأحداث، ويكون للمحرفين مجال كبير للتحريف المناسب لأهوائهم. وبسبب الحوادث المذكورة وغيرها فقدت الأسانيد المتصلة لكتب العهدين، وصار الموجود باسم كتب العهدين جعليا مختلقا، فلا يوجد عند اليهود ولا عند النصارى سند متصل لكتاب من كتبهم، وقد طلب الشيخ رحمت الله في مناظرته للقسيسين فندر وفرنج السند المتصل لأي كتاب من كتبهم، فاعتذرا بأن سبب فقدان الإسناد هو وقوع المصائب والفتن على النصارى إلى مدة ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة (313م) . وبهذا ثبت أنه لا يوجد دليل قطعي على أن النسخ الموجودة بين أيديهم قد كتبت في قرن معين، وليس مكتوبا في آخر أسفارها أن كاتبه فرغ من كتابته في سنة معينة كما هو الحال في نهاية الكتب الإسلامية غالبا، فأهل الكتاب يقولون رجما بالغيب وبالظن الذي نشأ لهم من بعض القرائن أنها لعلها كتبت في قرن كذا أو قرن كذا، مجرد الظن والتخمين لا يتم دليلا على المخالف. ونحن المسلمين لا نقول إن كتب أهل الكتاب لم تحرف قبل زمان محمد صلى الله عليه وسلم وأنها حرفت بعد زمانه فقط، بل إن إجماع المسلمين كلهم على أن كتب أهل الكتاب حرفت وفقدت إسنادها قبل زمانه صلى الله عليه وسلم، وأن التحريف في كثير من المواضع وقع فيها بعد زمانه أيضا، وكثرة النسخ لا تنفع في رد التحريف، بل إن وجود نسخ كثيرة قديمة يكون نافعا لدعوى التحريف، باعتبار أن اشتمال هذه النسخ على الكتب الجعلية المكذوبة، واختلافها عن بعضها اختلافا شديدا، من أعظم الأدلة الدالة على تحريف أسلافهم لكتبهم المقدسة،

ولا يلزم من القدم الصحة. وبهذا ثبت والحمد لله وقوع التحريف بجميع أنواعه في كتب أهل الكتاب، وأنهم لا يملكون السند المتصل لأي كتاب منها، وأنهم يقولون ما يقولون بالظن والتخمين، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا.

الفصل الرابع إثبات وقوع النسخ في كتب العهدين

[الفصل الرابع إثبات وقوع النسخ في كتب العهدين] [بيان معنى النسخ] الفصل الرابع إثبات وقوع النسخ في كتب العهدين النسخ: مصدر نسخ ينسخ نسخا، ويأتي في اللغة بمعنيين: الإبطال والإزلالة , يقال: نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الأثر، ونسخ الحاكم الحكم. ومنه قوله تعالى في سورة البقرة آية 106: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وقوله تعالى في سورة الحج آية 52: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52] أي يزيله ويبطله فلا يبقى له أثرا. النقل والتحويل، يقال: نسخ الكتاب: أي نقله وكتبه حرفا بحرف، ونسخت النحل العسل: أي حولته من مكان إلى آخر، ومنه قوله تعالى في سورة الجاثية آية 29: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] والنسخ في الاصطلاح الإسلامي: بيان مدة انتهاء الحكم العملي الجامع للشروط، ويعرف أيضا بأنه: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. والنسخ عندنا نحن المسلمين لا يطرأ على القصص والأخبار، ولا على الأمور العقلية القطعية مثل: أن الله موجود وأنه واحد، ولا على العقائد مثل: وجوب الإيمان وحرمة الكفر والشرك، ولا على الأحكام المؤبدة، كقوله تعالى في سورة النور آية 4: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ولا على الأحكام المؤقتة قبل وقتها المعين، ولا على الأدعية. وإنما يطرأ النسخ على الأحكام العملية المحتملة

للوجود والعدم, وأن تكون غير مؤبدة ولا مؤقتة، وتسمى الأحكام المطلقة. ولا يقصد المسلمون بالنسخ المصطلح عندهم ما يقصده اليهود الذين يجوزون البداء على الله تعالى؛ لأن معنى البداء: ظهور الشيء بعد خفائه، أي أن الله أمر بشيء أو نهى عن شيء دون أن يعلم عاقبة الأمر والنهي، ثم بدا له رأي فنسخ الحكم الأول، وهذا فيه لزوم الجهل على الله - والعياذ بالله من هذه العقيدة الفاسدة وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- لكن معنى النسخ المصطلح عند المسلمين أن الله تعالى كان يعلم أن هذا الحكم من الأمر أو النهي يكون باقيا على المكلفين به إلى وقت معين في علم الله ثم ينسخه الله، أي إذا جاء الوقت المعين في علم الله يعطي الله المكلفين حكما آخر يظهر منه للمكلفين الزيادة على الحكم الأول أو النقصان منه أو رفعه نهائيا، فهذا الحكم الآخر هو في الحقيقة بيان انتهاء العمل بالحكم الأول، ولكننا نحن المكلفين لأننا لم نكن نعلم بالحكم الآخر ولا بوقت وروده، ولأن الحكم الأول لم يكن مؤقتا وكنا نظن دوامه، فعند ورود الحكم الآخر نظن لقصور علمنا أن هذا تبديل وتغيير للحكم الأول، ولكن هو بالنسبة إلى الله ليس تبديلا ولا تغييرا, وإنما هو بيان انتهاء العمل بالحكم الأول , ولكن هو بالنسبة إلى الله ليس تبديلا ولا تغييرا, وإنما هو بيان انتهاء العمل بالحكم الأول، وفي هذا حكم ومصالح للعباد يعلمها الله وسواء ظهرت لنا أو لم تظهر؛ لأن جميع الأحكام التي يشرعها الله لعباده فيها مصلحتهم، إما في جلب منفعة أو تكميلها، وإما في درء مفسدة أو تقليلها، والحكم والمصالح تكون نظرا إلى حال المكلفين والزمان والمكان، وهذا لا يعلمه أحد إلا الله سبحانه، لذلك كان نسخ الأحكام حقا لله وحده، وليس البداء من هذا القبيل، وهو ممتنع في حق الله سبحانه؛ لأن علم الله أزلي أبدي يعلم

كذب بعض القصص الموجودة في كتب العهدين القديم والجديد

الأشياء قبل وقوعها , أما البداء فجائز في حقنا نحن البشر. [كذب بعض القصص الموجودة في كتب العهدين القديم والجديد] وبعد بيان معنى النسخ المصطلح عندنا نحن المسلمين نقول: ليس هناك قصة من القصص الموجودة في كتب العهدين القديم والجديد منسوخة عندنا, لكن بعضها كاذب قطعا، مثل: أن لوطا عليه السلام زنى بابنتيه, وحملنا منه بهذا الزنا: (سفر التكوين19 / 30 -38) . أن يهوذا بن يعقوب عليه السلام زنى بثامار زوجة ابنه, وحملت منه بهذا الزنا توأمين - فارص وزارح: سفر التكوين 38 / 12 -30) ، وأن الأنبياء داود وسليمان وعيسى عليهم السلام كلهم من أولاد ولد الزنا فارص: (إنجيل متى 1 / 3 -16) . أن داود عليه السلام زنى بامرأة أوريا، وحملت منه بهذا الزنا، ثم أهلك زوجها بالمكر, وأخذها زوجة له: (سفر صموئيل الثاني 11 / 2 -27) . أن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام، وبنى المعابد لها: (سفر الملوك الأول 11 / 1 -13) . أن هارون عليه السلام صنع العجل لبني إسرائيل وعبده, وأمرهم بعبادته: (سفر الخروج 32 / 1 -6) . فنقول في هذه القصص وأمثالها: إنها كاذبة مفتراه على أنبياء الله تعالى , وباطلة يقينا، ولا نقول إنها منسوخة. وبهذا المعنى المصطلح عندنا للنسخ لا يكون الزبور ناسخا للتوراة ولا يكون منسوخا بالإنجيل، لأن الزبور أدعية , والأدعية لاتنسخ، وإنما منعنا

بعض الأمثلة على وجود الحكم الناسخ في شريعة نبي سابق

عن استعمال الزبور والكتب الأخرى التي في العهدين القديم والجديد, لأنها كلها مشكوكة يقينا، وفاقدة لأسانيدها المتصلة، وثبت وقوع التحريف اللفظي فيها بجميع أقسامه. أما الأحكام المطلقة الصالحة للنسخ فنعترف أن بعض الأحكام في التوراة هي الصالحة للنسخ، ونسخت الشريعة الإسلامية بعضها, ولا نقول: إن كل حكم وارد في التوراة منسوخ، فبعض أحكام التوراة لم تنسخ مثل: حرمة اليمين الكاذبة والقتل والزنا واللواط والسرقة وشهادة الزور والخيانة في مال الجار وعرضه ونكاح المحارم وعقوق الوالدين، فهذه الأحكام ما زالت حرمتها باقية في شريعة الإسلام ولم تنسخ. وقد يكون الحكم الناسخ في شريعة نبي لاحق، والحكم المنسوخ في شريعة نبي سابق، وقد يكون الحكمان الناسخ والمنسوخ في شريعة النبي نفسه، والأمثلة من كتب العهدين العتيق والجديد غير محصورة. [بعض الأمثلة على وجود الحكم الناسخ في شريعة نبي سابق] وفيما يلي بعض الأمثلة على وجود الحكم الناسخ في شريعة نبي سابق, وبعض هذه الأمثلة يكون إيرادها من قبيل الإلزام فقط: الزواج بالأخت كان جائزا في شريعة آدم عليه السلام، وقد تزوج أولاده بأخواتهم، ثم نسخ وصار محرما في شريعة موسى عليه السلام: ففي سفر الأحبار (اللاويين) 18 / 9: (عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة في البيت أو المولودة خارجا لا تكشف عورتها) . وفي سفر الأحبار (اللاويين) 20 / 17: (وإذا أخذ رجل أخته بنت أبيه أو بنت أمه ورأى عورتها ورأت عورته فذلك عار. يقطعان أمام أعين بني

شعبهما، قد كشف عورة أخته. يحمل ذنبه) . وفي سفر التثنية 27 / 22: (ملعون من يضطجع مع أخته بنت أبيه أو بنت أمه) . فلو لم يكن الزواج بالأخت في شريعة آدم جائزا، للزم من هذه النصوص أن يكون أولاد آدم كلهم زناة وواجبي القتل وملعونين، والصواب أنه كان جائزا، ثم نسخ وحرم في شريعة موسى عليه السلام. جميع الحيوانات كانت حلالا في شريعة نوح: ففي سفر التكوين9 / 3: (كل دابة حية تكون لكم طعاما كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع) . فجميع الحيوانات في شريعة نوح عليه السلام كانت حلالا كالبقولات, ونسخت شريعة موسى حلية بعضها فصارت حراما, كما في سفر الأحبار (اللاويين) 11 / 4 -8, وسفر التثنية 14 / 7 -8, وفيما يلي نص فقرتي سفر التثنية: (7) إلا هذه فلا تأكلوها مما يجتر ومما يشق الظلف المنقسم. الجمل والأرنب والوبر لأنها تجتر لكنها لا تشق ظلفا فهي نجسة لكم (8) والخنزير لأنه يشق الظلف لكنه لا يجتر فهو نجس لكم. فمن لحومها لا تأكلوا وجثثها لا تلمسوا) . الجمع بين الأختين كان جائزا في شريعة يعقوب عليه السلام، وقد جمع يعقوب بين الأختين (ليئة وراحيل) كما في سفر التكوين 29 / 15 -35, ثم نسخت شريعة موسى عليه السلام حليته، وصار الجمع بين الأٍختين حراما، ففي سفر الأحبار (اللاويين) 18 / 18: (ولا تأخذ امرأة على أختها

للضرر لتكشف عورتها معها في حياتها) . فلو لم يكن هذا الجمع بين الأختين جائزا في شريعة يعقوب يلزم منه أن يكون أولاده أولاد الزنا والعياذ بالله , وأكثر أنبياء بني إسرائيل من ذرية أولاده. 4 - الزواج بالمطلقة: في شريعة موسى عليه السلام يجوز أن يطلق الرجل امرأته لأي سبب، وبعد خروجها من بيته يجوز لأي رجل آخر أن يتزوجها، كما ورد في سفر التثنية 24 / 1 -4، وفي شريعة عيسى عليه السلام لا يجوز الطلاق إلا بسبب الزنا، ولا يجوز لرجل آخر أن يتزوج هذه المطلقة، والزواج بالمطلقة بمنزلة الزنا، ففي إنجيل متى 5 / 31 -32: (31) وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق (32) وأما أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني. ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني) . وفي إنجيل متى 19 / 8 -9 جواب عيسى للفريسيين: (8) قال لهم إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم. ولكن من البدء لم يكن هكذا (9) وأقول لكم إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنا وتزوج بأخرى يزني. والذي يتزوج بمطلقة يزني) . فثبت من هذا النص أن النسخ وقع مرتين، ويفهم ذلك من الفقرة الثامنة، أي كان الطلاق قبل موسى حراما، ثم نسخت حرمته وأبيح في شريعة موسى، ثم نسخت الإباحة وصار حراما في شريعة عيسى، بل هو بمنزلة الزنا. - نسخ جميع أحكام التوراة: توراة موسى عليه السلام فيها جميع أحكام شريعة بني إسرائيل، وكل

أنبيائهم مأمورون بالعمل بأحكامها، ومنها أحكام الحلال والحرام من الحيوانات، فيما يحل أكله أو يحرم منها، وعيسى عليه السلام من بني إسرائيل، وتابع لشريعة موسى عليه السلام، وليس بناسخ لها، فقد ورد على لسانه كما في إنجيل متى 5 / 17 -18: (17) لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل (18) فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل) . وقد تمسك الدكتور القسيس فندر بهاتين الفقرتين في الصفحة (24) من كتابه (ميزان الحق) على أن أحكام التوراة لا تنسخ، ونفى أن يكون المسيح قد نسخ شيئا من أحكام التوراة؛ لأنه ما جاء لينقضها بل ليكملها. ولكن جميع المحرمات في التوراة أصبحت حلالا بفتوى بولس، ولا يوجد في شريعته شيء حرام إلا للنجسين، فالأشياء الطاهرة هي للنجسين نجسة، والأشياء النجسة هي للطاهرين طاهرة، وهذه من أعجب الفتاوى، ففي رسالة بولس إلى أهل رومية 14 / 14: (إني عالم ومتيقن في الرب يسوع أن ليس شيء نجسا بذاته إلا من يحسب شيئا نجسا فله هو نجس) . وفي رسالة بولس إلى تيطس 1 / 15: (كل شيء طاهر للطاهرين وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهرا بل قد تنجس ذهنهم أيضا وضميرهم) . ويفهم من النصين السابقين أن موسى وسائر أنبياء بني إسرائيل إلى عيسى عليه السلام وأتباعهم لم يكونوا طاهرين، فلم تحصل لهم هذه الإباحة

العامة لجميع المحرمات، ولم يستطع عيسى عليه السلام أن ينسخ شريعة موسى، ولما كان أتباع بولس طاهرين حصلت لهم هذه الإباحة العامة لجميع المحرمات والمطعومات النجسة، وصار كل شيء طاهرا وحلالا لهم، واستطاع رئيسهم بولس أن ينسخ شريعة موسى كلها، واجتهد كثيرا في إشاعة حكم الإباحة العامة، وفي إقناع أتباعه بأن أحكام التوراة كلها صارت منسوخة، ولذلك كتب إلى تيموثاوس في رسالته الأولى 1 / 1 -7: (1) إنه في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان تابعين أرواحا مضلة وتعاليم شياطين (3) وآمرين أن يمتنع عن أطعمة قد خلقها الله لتتناول بالشكر من المؤمنين وعار في الحق (4) لأن كل خليقة الله جيدة ولا يرفض شيء إذا أخذ مع الشكر (5) لأنه يقدس بكلمة الله والصلاة (6) إن فكرت الإخوة بهذا تكون خادما صالحا ليسوع المسيح متربيا بكلام الإيمان والتعليم الحسن الذي تتبعته (7) وأما الخرافات الدنسة العجائزية فارفضها) . - نسخ الأعياد الإسرائيلية والسبت: وردت أحكام الأعياد والسبت مفصلة في سفر الأحبار (اللاويين) 23 / 1 -44، وورد في الفقرات 14 و21 و31 و41 أنها فريضة دهرية في جميع أجيال بني إسرائيل وفي جميع مساكنهم. وكان تعظيم السبت حكما أبديا في شريعة موسى، وكل من عمل فيه عملا يقتل، وتكرر تعظيم السبت في مواضع من كتب العهد العتيق منها: سفر التكوين 2 / 2 -3، وسفر الخروج 20 / 8 -11، و23 / 12، و34، وسفر الأحبار (اللاويين) 19 / 3، و23 / 3، وسفر التثنية 5 / 12 -15،

سفر إرميا 17 / 19 -27، وسفر إشعياء 56 / 1 -8، و58 / 13 -14، وسفر نحميا 9 / 14، وسفر حزقيال 20 / 12 -24. وأما قتل كل من عمل عملا يوم السبت فقد ورد في سفر الخروج 31 / 12 -17، و35 / 1 -3، وفي زمان موسى عليه السلام وجدوا رجلا يحتطب يوم السبت فأخرجوه خارج المحلة ورجموه بالحجارة فمات، كما ورد في سفر العدد 15 / 32 -36. وقد نسخ بولس جميع أحكام الأعياد بما فيها حكم تعظيم السبت، فقال في رسالته إلى أهل كولوسي 2 / 16: (فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت) . ونقل في تفسير دوالي ورجردمينت عن اثنين من العلماء المفسرين قولهما: كانت الأعياد في اليهود على ثلاثة أقسام: في كل سنة سنة، وفي كل شهر شهر، وفي كل أسبوع أسبوع، فنسخت هذه الأعياد كلها، بل ونسخ يوم السبت أيضا، وأقيم سبت النصارى مقامه، أي يوم الأحد بدل يوم السبت. - نسخ حكم الختان: حكم الختان كان في شريعة إبراهيم عليه السلام حكما أبديا كما هو مصرح به في سفر التكوين 17 / 9 -14، وأكتفي بنقل بعض الفقرات: (12) ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم (13) فيكون عهدي في لحمكم عهدا أبديا) . وبقي هذا الحكم مستمرا في أولاد إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، وبقي كذلك في شريعة موسى عليه السلام، ففي سفر الأحبار (اللاويين) 12 / 3 بخصوص المولود الذكر: (وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته) .

وقد ختن عيسى عليه السلام، ففي إنجيل لوقا 2: (ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع) . وفي عبادة النصارى إلى هذا الحين صلاة معينة يؤدونها في يوم ختان عيسى تذكرة لهذا اليوم، وبقي حكم الختان في عهده عليه السلام ولم ينسخه، ولكن بولس شدد تشديدا بليغا في نسخ هذا الحكم كما يظهر من رسالته إلى أهل رومية 2 / 25 -29، ورسالته إلى أهل غلاطية 2 / 3 -5، و5 / 1 -6، و6 / 11 -16، ورسالته إلى أهل فيلبي 3 / 3، ورسالته إلى أهل كولوسي 2 / 11، وأكتفي بنقل فقرتين من رسالته إلى أهل غلاطية 5 / 2 و6: (2) ها أنا بولس أقول لكم إنه إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئا (6) لأنه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئا ولا الغرلة) . والنصارى تركوا هذا الحكم الذي هو حكم أبدي ولم ينقضه عيسى عليه السلام، وصدقوا أن بولس نسخه لهم. 8 - قيمة التوراة في نظر بولس: ورد قول بولس في الرسالة إلى العبرانيين 7 / 18: (فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها) . ونص هذه الفقرة في طبعتي سنة 1825م و1826 م كما يلي: (لأن نسخ ما تقدم من الحكم قد عرض لما فيه من الضعف وعدم الفائدة) . ونص هذه الفقرة أيضا في طبعات سنة 1671م و1823م و1844م كما يلي: (وإنما كان رذالة الوصية الأولى لضعفها وأنه لم يكن فيها منفعة) . ونصها في طبعة سنة 1882م كما يلي: (إذن نرفض الوصية السابقة لضعفها

وعدم نفعها) . وفي الرسالة العبرانية 8 / 7 و13: (7) فإنه لو كان ذلك الأول بلا عيب لما طلب موضع لثان فإذ قال جديدا عتق الأول. وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال) . ونص هاتين الفقرتين في طبعتي سنة 1823م و1844م كما يلي: (7) ولو أن الأول كان بلا لوم لم يطلب للثاني موضع (13) وإذا قال جديدا فعتق الأول والذي عتق وشاخ فهو قريب من الفساد) . ونصهما في طبعتي سنة 1825م و1826م كما يلي: (7) فلو كان العهد الأول غير معترض عليه لم يوجد للثاني موضع (13) فبقوله عهدا جديدا صير الأول عتيقا والشيء العتيق والبالي قريب من الفناء) . وفي الرسالة إلى العبرانيين 10 / 9: (ينزع الأول لكي يثبت الثاني) . ففي الفقرات السابقة أطلق بولس على التوراة أنها ضعيفة وعديمة النفع وعديمة الفائدة ورذيلة ومعابة وعتيقة وشاخت وقريبة من الاضمحلال ومرفوضة وملومة وقريبة من الفساد ومعترض عليها وبالية وقريبة من الفناء ومنزوعة ومنسوخة. نقل في تفسير دوالي ورجردمينت قول بايل: هذا ظاهر جدا أن الله تعالى يريد أن ينسخ العتيق الأنقص بالرسالة الجديدة الحسنة، فلذلك يرفع المذهب الرسومي اليهودي ويقوم المذهب النصراني مقامه، وفيه إشعار بكون ذبائح

اليهود غير كافية، ولذا تحمل المسيح على نفسه الموت ليجبر نقصانها، ونسخ بفعل أحدهما استعمال الآخر. فظهر من الأمثلة السابقة ما يلي: أن وجود بعض الأحكام المنسوخة في شرائع سابقة والأحكام الناسخة في شرائع لاحقة ليس مختصا بشريعة الإسلام، بل وجد في الشرائع السابقة أيضا. أن جميع أحكام التوراة العملية أبدية كانت أو غير أبدية وجميع الفرائض والمحرمات نسخها بولس حسب ما ورد في رسائله، وجعل أتباعه غير مطالبين بها. أن لفظ النسخ أيضا وجد في كلام بولس بالنسبة إلى التوراة وأحكامها، وورد في كلام المفسرين والمحققين منهم. أن بولس ادعى أن الشيء العتيق البالي قريب من الفناء والفساد وضعيف وعديم النفع وعديم الفائدة ورذيل ومعاب ومضمحل ومرفوض وملوم ومعترض عليه ومنزوع ومنسوخ، إذن لا استبعاد في نسخ شريعة أهل الكتاب بشريعة الإسلام، بل هذا ضروري على وفق كلام بولس؛ لأن شريعة أهل الكتاب تعد قديمة بالنسبة إلى شريعة الإسلام الجديدة، كيف لا يكون ذلك ضروريا ورسولهم بولس والمفسرون أطلقوا على التوراة ألفاظا غير ملائمة، مع أنهم يقولون إنها كلام الله؟! إذن نسخ أحكام التوراة والإنجيل بأحكام القرآن أمر لا شك فيه، وثبت نظائره فيمن سبقنا، وإذا نسخت أحكامهما نسخ العمل بهما بالعمل بالقرآن

بعض الأمثلة على وجود الحكم الناسخ والمنسوخ في شريعة النبي نفسه

الكريم. [بعض الأمثلة على وجود الحكم الناسخ والمنسوخ في شريعة النبي نفسه] وفيما يلي إيراد أمثلة أخرى على وجود الحكم الناسخ والمنسوخ في شريعة النبي نفسه، أي في الشريعة الواحدة، وبعض هذه الأمثلة يكون إيرادها من قبيل الإلزام أيضا: نسخ الأمر بالذبح: ورد في سفر التكوين 22 / 1 -14 أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده إسحاق عليه السلام (والصواب أنه إسماعيل عليه السلام) ، فلما استجابا للأمر نسخ الله تعالى هذا الحكم قبل العمل به، وفدى الذبيح بكبش من السماء. أمر حزقيال ثم نسخ الأمر قبل العمل به: ففي سفر حزقيال 4 / 10 و12 و14 و15: (10) وطعامك الذي تأكله يكون بالوزن. كل يوم عشرين شاقلا. من وقت إلى وقت تأكله (12) وتأكل كعكا من الشعير. على الخرء الذي يخرج من الإنسان تخبزه أمام عيونهم (14) فقلت آه يا سيد الرب ها نفسي لم تتنجس ومن صباي إلى الآن لم آكل ميتة أو فريسة ولا دخل فمي لحم نجس (15) فقال لي انظر. قد جعلت لك خثي البقر بدل خرء الإنسان فتصنع خبزك عليه) . يظهر من هذا النص أن الله تعالى أمر حزقيال أن يكون الخبز مخبوزا على رجيع الناس، فلما استغاث حزقيال عليه السلام نسخ الله تعالى هذا الحكم قبل العمل به، وأمر أن يكون الخبز مخبوزا على زبل البقر. نسخ الأمر بالذبح في المذبح المخصص:

ورد في سفر الأحبار (اللاويين) 17 / 1 -6 أن الله تعالى أمر موسى وبني إسرائيل أن تذبح الذبائح التي تكون من البقر أو الغنم أو المعز في المذبح المخصص لذلك القريب من خيمة الاجتماع - وتسمى (قبة الزمان) (قبة العهد) (قبة الشهادة) - لتكون الذبائح قربانا للرب، والإنسان الذي يذبح خارج المذبح المخصص يهلك من شعبه، أي يقتل. ثم نسخ هذا الحكم بما في سفر التثنية 12 / 15 -22، وصار يجوز لهم الذبح في كل مكان وعدم الاقتصار على المذبح المخصص، قال هورن في تفسيره بعد أن نقل الفقرات المشار إليها من سفر الأحبار وسفر التثنية: في هذين الموضعين تناقض في الظاهر، لكن إذا لوحظ أن الشريعة الموسوية كانت تزاد وتنقص على وفق حال بني إسرائيل، وكانت قابلة للتبديل، فالتوجيه في غاية السهولة، فقد نسيخ موسى في السنة الأربعين من التيه قبل دخولهم فلسطين حكم سفر الأحبار بحكم سفر التثنية نسخا صريحا، فيجوز لهم بعد دخول فلسطين أن يذبحوا البقر والغنم والمعز في أي موضع شاؤوا ويأكلوا. فاعترف بوقوع النسخ في شريعة موسى، وأنها كانت تزاد وتنقص على وفق حال بني إسرائيل، فالعجب أن أهل الكتاب يعترضون على وقوع النسخ والزيادة والنقصان في شريعة أخرى، ويقولون: إن النسخ مستلزم لجهل الله، ولكن هذا المحذور لا يلزم من النسخ الذي يقول به المسلمون، والذي هو حق لله وحده، وإنما يلزم من عقيدة البداء التي يصرحون بها في كتبهم، وصرح بها بولس في رسائله أيضا. الحكم في عمر اللاوي (الحبر) المخصص للخدمة:

ورد في سفر العدد 4 / 3 و23و30و35و39و43و46 أن الحبر اللاوي المخصص للخدمة في خيمة الاجتماع لا يكون عمره أنقص من ثلاثين سنة ولا يزيد عن خمسين: (من ابن ثلاثين سنة فصاعدا إلى ابن خمسين سنة) . ورد في سفر العدد 8 / 24 و 25 أن عمر الحبر اللاوي المخصص للخدمة لا يكون أنقص من خمس وعشرين سنة ولا يزيد عن خمسين: (هذا ما للاويين من ابن خمس وعشرين سنة فصاعدا) . فإما أن يكون هذا الفرق من التناقض والاختلاف الواقع بالتحريف، وإما أن يكون هذا الحكم الثاني ناسخا للأول. فيجب الإقرار بأحد الأمرين. الزيادة في عمر حزقيا: ورد في سفر الملوك الثاني 20 / 1 -6 أن الله تعالى أمر النبي إشعياء بن آموص أن يذهب إلى حزقيا ملك مملكة يهوذا فيخبره بانتهاء أجله لكي يوصي على بيته، فأقبل الملك حزقيا بوجهه إلى الحائط وصلى وبكى بكاء عظيما، فلما خرج النبي إشعياء نسخ الله تعالى هذا الحكم بعد تبليغه، وأوحى إليه قبل أن يصل إلى وسط الدار أن يرجع إلى حزقيا ويقول له: إن الله قد سمع صلاتك، ورأى دموعك، وشفاك، وزاد في عمرك خمس عشرة سنة. فالحكم المنسوخ والناسخ بلغا بواسطة النبي إشعياء بوحي الله إليه. الرسالة العيسوية بين الخصوص والعموم: ورد في إنجيل متى 10 / 5 -6: (5) هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا: إلى طريق أمم لا تمضوا إلى مدينة للسامريين لا تدخلوا (6) بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة) .

وفي إنجيل متى 15: (فأجاب وقال: لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة) . ففي هذين النصين خصص عيسى عليه السلام رسالته ببني إسرائيل. وورد في إنجيل مرقس 16 / 15 أن عيسى عليه السلام قال للحواريين: (اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها) . ويزعم النصارى أن هذا النص دال على عموم الرسالة، فيكون هذا النص ناسخا للخصوصية، وصار الحكم الأول منسوخا. أي إن المسيح أولا خصص رسالته ببني إسرائيل فقط، ثم نسخ التخصيص وأمر بدعوة العالم أجمع، فإن أقروا بالنسخ حصل ما أردنا من إمكانية وقوع النسخ في كتبهم وأن كتبهم غير ممنوعة من النسخ، بل هو واقع فيها أيضا، وإن لم يقروا بالنسخ حصل ما أردنا من وجود التناقض والتحريف في أناجيلهم، والصواب أن عبارة إنجيل مرقس لم يقلها المسيح عليه السلام. وفي هذه الأمثلة كفاية، ولم يبق شك في وقوع النسخ بكلا قسميه في كتب أهل الكتاب، وظهر أن ما يدعونه من امتناع وقوع النسخ في كتبهم باطل لا ريب فيه، ثم كيف يدعون هذه الدعوى والحال أن مصالح العباد تختلف باختلاف الزمان والمكان والمكلفين، فبعض الأحكام يكون مقدورا للمكلفين في بعض الأوقات ولا يكون مقدورا لهم في وقت آخر، وبعض الأحكام يكون مناسبا للعباد في زمان ولا يكون مناسبا لهم في زمان آخر، والعباد لا يعلمون مصلحتهم الحقيقية أين تقع، ولكن الله الذي خلقهم هو أعلم بها منهم، وبناء عليه فلا يجوز لأهل الكتاب بتأويلاتهم الفاسدة وظنونهم الكاذبة أن ينكروا وقوع النسخ من جانب الله العليم الخبير.

الباب الثاني إبطال التثليث

[الباب الثاني إبطال التثليث] [مقدمة في بيان أمور تفيد الناظر بصيرة في الفصول] الباب الثاني إبطال التثليث وهو مشتمل على مقدمة وثلاثة فصول: المقدمة: بيان أمور تفيد الناظر بصيرة في الفصول. الفصل الأول: إبطال التثليث بالبراهين العقلية. الفصل الثاني: إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه السلام. الفصل الثالث: إبطال الأدلة النقلية على ألوهية المسيح عليه السلام.

المقدمة بيان أمور تفيد الناظر بصيرة في الفصول الأمر الأول: أن كتب العهد القديم ناطقة بأن الله واحد أحد، منزه عن الصاحبة والولد، حي لا يموت، قادر يفعل ما يشاء، ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، وهذا الأمر لشهرته وكثرته في تلك الكتب غير محتاج إلى نقل الشواهد. الأمر الثاني: أن عبادة غير الله حرام، وحرمتها التوراة في فقرات كثيرة، منها سفر الخروج 20 / 3 و4 و5 و23، و34 / 14 و17، وسفر التثنية 13 / 1 -11، و17 / 2 -7، وصرحت التوراة بوجوب قتل من دعا إلى عبادة غير الله ولو كان هذا الداعي نبيا ذا معجزات عظيمة، وكذلك صرحت التوراة بوجوب رجم كل من عبد غير الله أو رغب في عبادة غير الله، سواء كان هذا العابد رجلا أو امرأة، وسواء كان المرغب من الأقرباء أو الأصدقاء. الأمر الثالث: وردت في التوراة فقرات تفيد التنزيه لله تعالى وأنه ليس له شبيه، ففي سفر التثنية 4 / 12 و15: (12) فكلمكم الرب من وسط النار وأنتم سامعون صوت كلام ولكن لم تروا صورة بل صوتا (15) فاحتفظوا جدا لأنفسكم. فإنكم لم تروا صورة ما يوم كلمكم الرب في حوريب من وسط النار) . ووردت في العهد الجديد فقرات تفيد أن رؤية الله ممتنعة في الدنيا، ففي إنجيل يوحنا 1 / 18: (الله لم يره أحد قط) . وفي رسالة بولس الأول إلى تيموثاوس 6 / 16: (لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه) .

وفي رسالة يوحنا الأولى 4 / 12: (الله لم ينظره أحد قط) . فثبت من الفقرات السابقة أن الله تعالى ليس له شبيه، وأن رؤية الله في الدنيا غير واقعة، وأن من كان مرئيا لا يكون إلها قط ولو أطلق عليه في كلام الله أو الأنبياء أو الحواريين لفظ (الله) أو (رب) ؛ لأنه لا يجوز الأخذ بالفقرات المخالفة للبرهان العقلي وترك الفقرات السابقة التي مضمونها مطابق للبرهان العقلي، فقد ورد في مواضع غير محصورة من كتب العهدين إطلاق لفظ (إله) على الملك وعلى موسى وعلى قضاة بني إسرائيل وعلى الإنسان الكامل، بل وعلى آحاد الناس وعلى الشيطان الرجيم، وذلك لأنه يكون لإطلاق مثل هذا اللفظ على غير الله تعالى وجه مناسب لكل محل، ويدل سوق الكلام على ذلك الوجه بحيث لا يشتبه على الناظر في بادي الرأي، فلا يجوز لعاقل أن يستدل بإطلاق هذا اللفظ على بعض بني آدم أنه إله أو ابن الله، وينبذ وراءه جميع البراهين العقلية القطعية وكذلك البراهين النقلية الصحيحة. الأمر الرابع: عقيدة التثليث لم يأت بها نبي من الأنبياء، ولا نزلت في كتاب من الكتب السماوية، وعدم ورودها في التوراة غير محتاج إلى بيان؛ لأن من طالع التوراة الحالية لا يجد فيها ذكرا صريحا ولا إشارة أو تلميحا لهذا الأمر، وعلماء اليهود من عهد موسى عليه السلام إلى هذا الزمان لا يعترفون بعقيدة التثليث، ولا يرضون بنسبتها إلى كتبهم، فلو كانت عقيدة التثليث حقا لوجب على موسى وسائر أنبياء بني إسرائيل - وآخرهم عيسى عليه السلام - أن يبينوها حق التبيين، فقد كانوا مأمورين بالعمل بجميع أحكام التوراة في الشريعة والعقيدة، وأهل التثليث يعتقدون أن عقيدتهم هذه هي مدار النجاة ولا يمكن نجاة أحد بدونها نبيا كان أو غير نبي، فكيف فارق أنبياء بني إسرائيل كلهم الدنيا دون أن يبينوا هذه العقيدة بيانا واضحا وصريحا؟! وهم في نفس الوقت بينوا أمورا وأحكاما أقل أهمية من هذه العقيدة، وكرروا البيان لبعض الأحكام مرة بعد أخرى، وأكدوا على المحافظة عليها والعمل بها تأكيدا بليغا، وأوجبوا

القتل على تارك بعضها، فالعجب كل العجب أن عيسى عليه السلام الذي هو خاتم أنبياء بني إسرائيل والذي هو أحد أركان الثالوث عند النصارى عرج إلى السماء دون أن يبين لأتباعه هذه العقيدة بكلام واضح غير محتاج إلى التأويل، كأن يقول مثلا: إن الله ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس، وإن أقنوم الابن - الإله الثاني - متعلق بي بالعلاقة الفلانية، أو بعلاقة فهمها خارج عن إدراك عقولكم، أو أن يقول أي كلام آخر صريح في بيان هذه العقيدة. والصواب أن أهل التثليث ليس في أيديهم أي دليل على عقيدتهم، وأنهم يأتون بتأويلات بعيدة لأقوال ظاهرة لا تحتمل التأويل. وإن صاحب كتاب (ميزان الحق) الدكتور القسيس فندر سأل سؤالا في كتابه المسمى (مفتاح الأسرار) وهو: لم لم يبين المسيح ألوهيته ببيان واضح؟! ولم لم يقل باختصار: إني أنا الله؟ ثم أجاب نفسه على هذا السؤال بقوله: إنه ما كان أحد يقدر على فهم هذه العلاقة والوحدانية قبل قيامه من الأموات وعروجه إلى السماء، فلو قال صراحة: إني أنا الله، لفهموا أنه إله بحسب الجسم الإنساني، وهذا باطل، وهناك أمور كثيرة قال في حقها لتلاميذه كما في إنجيل يوحنا 16 / 12: (إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن) . ولذلك فإن علماء اليهود أرادوا مرارا أن يأخذوه ويرجموه، وهو ما كان يبين لهم ألوهيته بين أيديهم إلا على طريق الألغاز. ففي الرد على جواب الدكتور فندر نقول أولا: إن هذا جواب ضعيف غاية الضعف؛ لأن زعمه عدم قدرة أحد أن يفهم عقيدة التثليث وعقيدة ألوهية المسيح قبل قيامه وعروجه فلأن بإمكان المسيح أن يقول لأتباعه ولليهود: إن علاقة الاتحاد التي بين جسمي وبين الأقنوم الثاني (أقنوم الابن) فهمها خارج عن وسعكم، فاتركوا البحث فيها واعتقدوا بأني إله، وأني لست إلها باعتبار الجسم بل بعلاقة الاتحاد التي فهمها خارج عن إدراك عقولكم.

ولكن العجب أيضا أن عدم القدرة على فهم علاقة الاتحاد المذكور باقية بعد عروج المسيح أيضا، وإلى الآن لا يستطيع عالم من علماء النصارى أن يبين كيفية هذه العلاقة، وكتبهم مليئة بالاعترافات في عدة مواضع أن هذا الأمر من الأسرار الخارجة عن إدراك العقل، ومن أراد التأكد فليرجع إلى قاموس الكتاب المقدس الذي اشترك في تأليفه أكثر من عشرين عالما لاهوتيا من علمائهم، ولينظر بنفسه كيف تخبطوا تخبطا واضحا في شرح كلمة: تثليث. ونقول ثانيا: لماذا خاف المسيح من اليهود فلم يبين لهم ألوهيته إلا بطريق الألغاز؟! وأنتم تزعمون أن المسيح ما جاء إلا ليكون كفارة لذنوب الخلق بأن يصلبه اليهود، وأنه كان يعلم يقينا أنهم يصلبونه، فأي محل للخوف من اليهود في بيان هذه العقيدة الضرورية للنجاة؟! وكيف يخاف الإله العظيم خالق السماوات والأرضين من أذل أقوام الدنيا والحال أن بعض الأنبياء بينوا الحق لبني إسرائيل دون خوف منهم، فأوذي بعضهم إيذاء شديدا، وقتل بعضهم؟! ثم إن المسيح عليه السلام شدد في الإنكار على الكتبة والفريسيين ووصفهم بأنهم مراءون وقادة عميان وجهال وحيات وأفاع، وأظهر قبائحهم على رؤوس الأشهاد حتى شكا بعضهم بأنك تشتمنا (إنجيل متى 23 13 - 37، وإنجيل لوقا 11 37 - 54) فالمسيح الذي بين لعلماء اليهود بعض مخالفاتهم وعنفهم عليها تعنيفا شديدا، ووصفهم بأوصاف قاسية دون خوف منهم، فكيف يظن به أن يحمله الخوف منهم على أن يترك بيان العقيدة الضرورية للنجاة؟! حاشا وكلا أن يكون جنابه الشريف عند هذا الظن الفاسد.

الفصل الأول إبطال التثليث بالبرهان العقلي

[الفصل الأول إبطال التثليث بالبرهان العقلي] الفصل الأول إبطال التثليث بالبرهان العقلي النصارى يعتقدون أن التثليث حقيقي والتوحيد حقيقي، ولكن إذا وجد التثليث الحقيقي وجدت الكثرة الحقيقية أيضا، وإذا ثبت التثليث والكثرة الحقيقيان انتفى التوحيد الحقيقي ولا يمكن ثبوته، وإلا يلزم اجتماع الضدين الحقيقيين، وهو محال، ويلزم تعدد واجبي الوجود، وهو محال أيضا، فالقائل بالتثليث لا يمكن أن يكون موحدا لله توحيدا حقيقيا؛ لأن الواحد الحقيقي ليس له ثلث صحيح وليس هو مجموع آحاد، أما الثلاثة فلها ثلث صحيح هو واحد، وهي مجموع آحاد ثلاثة، فالواحد الحقيقي جزء الثلاثة، فلو اجتمعا في محل واحد يلزم منه كون الجزء كلا والكل جزءا، ويلزم منه أيضا كون الواحد ثلث نفسه وهو ثلاثة أميال الثلاثة، والثلاثة ثلث الواحد وهي ثلاثة أمثال نفسها. وكلها لوازم يرفضها العقل بالبداهة. وبناء على ذلك فإن التثليث الحقيقي ممتنع في ذات الله تعالى، فلو وجد قول في كتب النصارى يدل على التثليث بحسب الظاهر فيجب تأويله ليطابق العقل والنقل، فإن العقل والنقل يدلان على امتناع التثليث في ذات الله تعالى. وقد قام جرجيس صال (سيل) بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنكليزية وطبعت هذه الترجمة سنة 1836م، وكان قد وصى قومه بوصايا منها قوله: لا تعلموا المسلمين المسائل التي هي مخالفة للعقل؛ لأنهم ليسوا حمقى حتى نغلب عليهم في هذه المسائل، كعبادة الصنم والعشاء الرباني،

لأنهم يعثرون كثيرا من هذه المسائل، وكل كنيسة فيها هذه المسائل لا تقدر أن تجذبهم إليها. فانظر كيف اعترف هذا القسيس بأن في دينه مسائل مخالفة للعقل، والصواب أن أهل الدين الذي فيه مثل هذه المسائل مشركون يقينا، وقد قال علماء الإسلام: لا نرى مذهبا في الدنيا أشد ركاكة وبعدا عن العقل من مذهب النصارى، ولا نرى في الدنيا مقالة أشد فسادا وأظهر بطلانا من مقالتهم.

الفصل الثاني إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه السلام

[الفصل الثاني إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه السلام] الفصل الثاني إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه السلام القول الأول: ورد في إنجيل يوحنا 17 / 3 قول عيسى عليه السلام مخاطبا الله تعالى: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) . فقد بين عيسى عليه السلام أن الحياة الأبدية تنال بالإيمان بتوحيد الله تعالى وبرسالة رسوله عيسى، ولم يقل: إن الحياة الأبدية تنال بالإيمان بتثليث الأقانيم الإلهية، ولا بالإيمان بأن عيسى إله وابن الله، ولما كان قول عيسى هنا في خطاب الله تعالى فلا احتمال هنا لخوفه من اليهود، فلو كان اعتقاد التثليث وألوهية عيسى مدار النجاة لبينه، ولكن مدار النجاة والحياة الأبدية باعتقاد التوحيد الحقيقي لله وبأن المسيح رسوله، والاعتقاد بعكس ذلك هو الهلاك الأبدي والضلال المبين؛ لأن كون الله واحدا ضد لكونه ثلاثة، وكون المسيح رسولا ضد لكونه إلها، والمرسل غير الرسول المرسل. القول الثاني: ورد في إنجيل مرقس 12 / 28 -34: (28) فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله أية وصية هي أول الكل (29) فأجابه يسوع إن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد (30) وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى (31) وثانية مثلها هي

تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين (32) فقال له الكاتب جيدا يا معلم بالحق قلت لأنه الله واحد وليس آخر سواه (33) ومحبته من كل القلب ومن كل الفهم ومن كل النفس ومن كل القدرة ومحبة القريب كالنفس هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح (34) فلما رآه يسوع أنه أجاب بعقل قال له لست بعيدا عن ملكوت الله) . وهذه الفقرات وردت في إنجيل متى 22 / 34 -40، وأكتفي بنقل الفقرة (40) وهي قول عيسى عليه السلام: (بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء) . فقد أكدت الفقرات السابقة على أن أول الوصايا الموصي بها في التوراة وفي سائر كتب الأنبياء والتي هي مدار النجاة الاعتقاد بأن الله واحد لا إله غيره، ولو كان اعتقاد التثليث وألوهية المسيح حقا لكان مبينا في التوراة وفي جميع كتب الأنبياء. ولقال عيسى في جواب السائل: إن أول الوصايا هي الاعتقاد بأن الله واحد ذو أقانيم ثلاثة، وأني الإله الثاني وابن الله، وبما أن عيسى لم يقل ذلك ولم ترد إشارة له لا في التوراة ولا في كتب الأنبياء ثبت أن النجاة تكون باعتقاد التوحيد الحقيقي لله المناقض لاعتقاد التثليث ولاعتقاد الشريك والولد. وكتب العهد القديم مليئة بالنصوص المصرحة بتوحيد الله تعالى، وعلى سبيل المثال انظر (سفر التثنية 4 / 35 و39، و6 / 4 -5، وسفر إشعياء 45 / 5 -6، و46 / 9) . القول الثالث: ورد في إنجيل مرقس 13: (وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب) . فهذا القول ينادي على بطلان التثليث وألوهية المسيح؛ لأنه عليه السلام خصص علم ساعة القيامة بالله وحده، ونفى عن نفسه علمها كما نفاه عن

عباد الله الآخرين، وسوى بين نفسه وبينهم في عدم العلم، ولو كان إلها لكان يعلم وقت القيامة ولما نفى عن نفسه العلم بها. القول الرابع: ورد في إنجيل متى 27 / 46 و50: (46) ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني (50) فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح) . وهذا القول الذي صدر عن المسيح في آخر نفس من حياته بزعمهم ينفي ألوهيته؛ لأنه لو كان إلها لما استغاث بإله آخر، فالإله الحقيقي يمتنع عليه صفات النقص كالضعف والتعب والإعياء والصراخ والاستغاثة والعجز والموت، وهو حي قدوس، ففي سفر إشعياء 40 / 28: (أما عرفت أم لم تسمع. إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا) . ومثل فقرة سفر إشعياء فقرات كثيرة في كتب العهدين (انظر: سفر إشعياء 44 / 6، وسفر إرميا 10 / 10، وسفر حبقوق 1 / 12، ورسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس 1 / 17) وكلها فقرات تدل على أن الإله الحقيقي هو إله سرمدي حي قدوس لا يموت ولا إله غيره، بريء من الضعف والتعب والعجز، فهل يكون العاجز الفاني الميت إلها؟! لا شك أن الإله الحقيقي هو الذي استغاث به عيسى في هذا الوقت على زعمهم. وهنا ألفت نظر القاريء إلى أن فقرة سفر حبقوق 1 / 12 في الطبعات القديمة كما يلي: (يارب إلهي قدوسي لا تموت) فوردت فيها كلمة (تموت) بتاءين، أي تنفي الموت عن الله تعالى، وفي الطبعات الحديثة حرفت التاء الأولى وكتبت نون (ن) ، فوردت فيها هذه الكلمة بالنون أي (لا نموت) .

وذلك لتأكيد قتل المسيح الذي هو الله بزعمهم، وكلمة (لا نموت) بالنون لا معنى لها هنا، ولا فائدة منها في سياق هذا الموضع، فانظر كيف حملهم الدفاع عن عقيدة باطلة إلى تحريف كتابهم. القول الخامس: ورد في إنجيل يوحنا 20 / 17 أن عيسى عليه السلام قال لمريم المجدلية: (ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم) . ففي هذا القول سوى المسيح عليه السلام بينه وبين سائر الناس في أن الله أبوه وأبوهم وإلهه وإلههم؛ لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولوا إنه إله وابن الله، فكما أن تلاميذه هم عبادُ الله وليسوا أبناء الله على الحقيقة بل بالمعنى المجازي، فكذلك عيسى هو عبد الله وليس ابن الله على الحقيقة، وكما لم يلزم من بنوتهم لله كونهم آلهة فكذلك لا يلزم من بنوته لله كونه إلها، ولما كان هذا القول صدر عن المسيح بعد قيامه من الأموات على زعمهم أي قبل العروج بقليل ثبت أنه كان يصرح بأنه عبد الله وأن الله إلهه وإلههم إلى آخر لحظة من وجوده على الأرض، وهذا مطابق لأقوال المسيح الواردة في قوله تعالى عنه في سورة آل عمران آية 51: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [آل عمران: 51] وقوله تعالى عنه في سورة المائدة آية 72 وآية 117: {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] وقوله تعالى عنه في سورة مريم آية 36: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [مريم: 36] وقوله تعالى عنه في سورة الزخرف آية 64: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [الزخرف: 64] فالقول بالتثليث وألوهية المسيح يناقض آخر كلمات تكلم بها المسيح وودع بها تلاميذه قبل رفعه؛ لأنه بقي إلى تلك اللحظة يدعو إلى اعتقاد توحيد الله ووجوب عبادته، واعتقاد عبودية المسيح لله ربِّه. القول السادس: وردت في الأناجيل فقرات كثيرة يصعب حصرها صرح

فيها المسيح عليه السلام بأنه إنسانٌ معلِّمٌ ورسولٌ نبي يوحي إليه، ومن هذه الفقرات لمن أراد الرجوع إليها ما ورد في إنجيل متّى 10 / 40، و11 / 19، و13 / 57، و15، و17 / 12 و22، و19 / 16، و21 / 11 و46، و23 و10، و26 / 18 وما ورد في إنجيل مرقس 9 / 37 و38، و10 / 35. وما ورد في إنجيل لوقا 4 / 43، و5 / 5، و7 / 16 و39 و40، و8 / 24 و45، و9 / 33 و38 و56، و10 / 16، و12 / 13، و13 / 33 و34، و17 / 13، و23 / 47، و24 / 19. وما ورد في إنجيل يوحنا 1 / 38، و4 / 19 و31 و34، و5 ,24 و36 و37، و6 / 14 و25، و7 / 15 و16 و17 و18 و52، و8 / 16 و18 و26 و28 و29 و40 و42، و9 / 11 و15 و17، و11 / 42، و12 / 44 و49 و50، و13 / 13 و14، و14، و17 / 3 و8 و18 و25، و20 / 16 و21. وأكتفي بذكر بعضها: ففي إنجيل متى 10 / 40: (من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني) . وفيه 15: (فأجاب وقال لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة) . وفيه 21 / 11: (فقالت الجموع هذا يسوعُ النبي الذي من ناصرة الجليل) . وفيه 23 و10 قول المسيح لتلاميذه: (لأن معلمكم واحد المسيح) . وفي إنجيل لوقا 4 / 43: (فقال لهم إنه ينبغي لي أن أبشر المدن الأخر أيضا بملكوت الله لأني لهذا قد أرسلت) . وفيه 7 / 16 بعد أن أحيا المسيح ميتا: (فأخذ الجميع خوف ومجدوا الله

قائلين قد قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه) . وفيه 10 / 16: (الذي يسمع منكم يسمع مني. والذي يرذلكم يرذلني. والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني) . وفي إنجيل يوحنا 5 / 36 و37: (36) هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لي أن الآب قد أرسلني (37) والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي. لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته) . وفيه 6 / 14 بعد معجزة تكثير الطعام: (فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم) . وفيه 7 / 15 -17: (15) فتعجب اليهود قائلين كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم (16) أجابهم يسوع وقال تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني (17) إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي) . وفيه 8 / 18 و26 و29 و40 و42: (18) ويشهد لي الآب الذي أرسلني (26) لكن الذي أرسلني هو حق. وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم (29) والذي أرسلني هو معي ولم يتركني (40) ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله (42) لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني) . وفيه 9 / 10 و 11 و 17 في معجزة إبراء الأكمه: (10) فقالوا له كيف انفتحت عيناك (11) أجاب ذاك وقال: إنسان يقال له يسوع صنع طينا وطلى عيني (17) قالوا أيضا للأعمى ماذا تقول أنت عنه من حيث إنه فتح عينيك؟ فقال: إنه نبي) .

وفيه 13 / 13: (أنتم تدعونني معلما وسيدا وحسنا تقولون لأني أنا كذلك) . وفيه 14: (والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني) . ففي هذه الأقوال صرح المسيح عليه السلام بأنه إنسان معلم لتلاميذه، ونبي مرسل من الله، وأن الله يوحي إليه، فهو لا يتكلم إلا بالحق الذي سمعه من الله تعالى، وهو أمين على الوحي لا يخفي منه شيئا، ويعلمه لأتباعه كما تلقاه من ربه، وكان الله تعالى يجري المعجزات على يديه بصفته إنسانا نبيا مرسلا، لا بصفته إلها وابن الله. القول السابع: ورد في إنجيل متى 26 / 36 -46: (36) حينئذ جاء معهم يسوع إلى ضيعة يقال لها جَثْسَيْمَانِي فقال للتلاميذ اجلسوا هاهنا حتى أمضي وأصلي هناك (37) ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب (38) فقال لهم نفسي حزينة جدا حتى الموت. امكثوا هاهنا واسهروا معي (39) ثم تقدم قليلا وخر على وجهه وكان يصلي قائلا يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس. ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت (40) ثم جاء إلى التلاميذ فوجدهم نياما. فقال لبطرس أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة (41) اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف (42) فمضى أيضا ثانية وصلى قائلا يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك (43) ثم جاء فوجدهم أيضا نياما إذ كانت أعينهم ثقيلة (44) فتركهم ومضى أيضا وصلى ثالثة قائلا ذلك الكلام بعينه (45) ثم جاء إلى تلاميذه وقال لهم ناموا الآن واستريحوا، هو ذا الساعة قد اقتربت وابن الإنسان يسلم إلى أيدي الخطاة (46) .

قوموا ننطلق هو ذا الذي يسلمني قد اقترب. ومثل هذه الفقرات ما ورد في إنجيل لوقا 22 / 39 -46، فأقوال المسيح وأحواله المندرجة في هذه الفقرات تدل دلالة قطعية على عبوديته لله، وأنه ليس إلها ولا ابن الله؛ لأن الذي يحزن ويكتئب ويصلي ويدعو بغاية التضرع ويموت يكون بشرا مخلوقا وليس إلها خالقا.

الفصل الثالث إبطال الأدلة النقلية على ألوهية المسيح

[الفصل الثالث إبطال الأدلة النقلية على ألوهية المسيح] الفصل الثالث إبطال الأدلة النقلية على ألوهية المسيح يستدل النصارى على ألوهية المسيح ببعض النقول الواردة في الأناجيل (ومعظمها في إنجيل يوحنا) ، وفيما يلي إيراد أدلتهم وإبطال استدلالهم بها: دليلهم الأول: إطلاق لفظ (ابن الله) على المسيح عليه السلام. وهذا الدليل باطل لوجهين: أولهما: أن إطلاق لفظ ابن الله على المسيح معارض بإطلاق لفظ ابن الإنسان عليه ولفظ ابن داود أيضا، انظر مثلا إطلاق لفظ ابن الإنسان في إنجيل متى 8، و9 / 6، و16 / 13 و27، و17 / 9 و12و22، و18 / 11، و19 / 28، و20 / 18 و28، و24 / 27، و26 و45 و64. وانظر مثلا إطلاق لفظ ابن داود في إنجيل متى 9 / 27، و12، و15 / 22، و20 و31، و21 / 9 و15، و22 / 42، وفي إنجيل مرقس 10 / 47 و48، وفي إنجيل لوقا 18 / 38 و39. وكذلك سلسلة نسب المسيح التي تنسبه إلى داود عليه السلام، ثم إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام مذكورة في إنجيل متى 1 / 1 -17، وفي إنجيل لوقا 3 / 23 - 34، فإذا كان المسيح يرجع نسبه إلى الأنبياء المذكورين الذين هم من نسل الإنسان آدم عليه السلام فلا شك إذن في أنه ابن الإنسان، وظاهر أن ابن الإنسان لا يكون إلا إنسانا وليس ابن الله. وثانيهما: أن لفظ الابن في قولهم (ابن الله) لا يصح أن يكون بمعناه

الحقيقي؛ لأن المعنى الحقيقي للفظ الابن باتفاق جميع لغات أهل العالم هو المتولد من نطفة الأبوين، وهو محال هاهنا، فلابد من الحمل على المعنى المجازي المناسب لشأن المسيح عليه السلام، أي بمعنى الإنسان الصالح البار. والدليل على ذلك المعنى المجازي قول قائد المائة الوارد في إنجيلي مرقس ولوقا، ففي إنجيل مرقس 15 / 39: (قال حقا كان هذا الإنسان ابن الله) ، وفي إنجيل لوقا 23 / 47: (فلما رأى قائد المائة ما كان مجد الله قائلا بالحقيقة كان هذا الإنسان بارا) . فوقع لفظ البار عند لوقا مكان لفظ ابن الله عند مرقس، وبغض النظر عن أن هذا التناقض بين اللفظين هو بسبب التحريف المستمر الواقع في الأناجيل لإثبات ألوهية المسيح، فعلى فرض صحة اللفظين ففيهما دليل على جواز إطلاق لفظ ابن الله على الإنسان الصالح البار، وبخاصة أنه ورد في الموضعين وصف قائد المائة للمسيح بأنه إنسان. وقد ورد في الأناجيل إطلاق لفظ ابن الله على غير المسيح من الصالحين، كما ورد إطلاق لفظ ابن إبليس على فاعلي الشر، ففي إنجيل متى 5 / 9 و44 و45: (9) طوبى لصانعي السلام. لأنهم أبناء الله يدعون (44) وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم (45) لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات) . فأطلق عيسى على صانعي السلام والصالحين العاملين بما ذكر لفظ أبناء الله، وعلى الله لفظ الأب بالنسبة إليهم. ووقعت مكالمة بين المسيح عليه السلام وبين اليهود أقتطف بعض فقراتها من إنجيل يوحنا 8 / 41 و42 و44: (41) أنتم تعلمون أعمال أبيكم. فقالوا

له: إننا لم نولد من زنا. لنا أب واحد وهو الله (42) فقال لهم يسوع لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني. . (44) أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. . لأنه كذاب وأبو الكذاب) . فاليهود ادعوا أنهم أبناء الله، أي صالحون مطيعون لله، فرد عليهم المسيح عليه السلام بأنهم كذابون مطيعون للشيطان، فهم أبناؤه؛ لأنه كذاب وأبو الكذابين، ولا شك أن الله أو الشيطان ليس أبا لهم بالمعنى الحقيقي، فيجب الحمل على المعنى المجازي، ويؤيد هذا الوجوب فقرات كثيرة، منها فقرات رسالة يوحنا الأولى 3 و9 و10: (8) من يفعل الخطية فهو من إبليس لأن إبليس من البدء يخطئ. . (9) كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله (10) بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس. . . إلخ) . ومنها فقرة رسالة يوحنا الأولى 4 / 7: (وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله) . ومنها فقرتا رسالة يوحنا الأولى 5 / 1 -2: (1) كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله. وكل من يحب الوالد يحب المولود منه أيضا (2) بهذا نعرف أننا نحب أولاد الله إذا أحببنا الله وحفظنا وصاياه) . ومنها فقرة رسالة بولس إلى أهل رومية 8 / 14: (لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله) . ومنها فقرة رسالة بولس إلى أهل فيلبي 2 / 14 -15: (14) افعلوا كل شيء بلا دمدمة ولا مجادلة (15) لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولادا لله بلا عيب) .

ولا شك أن جميع المذكورين في الفقرات السابقة ليسوا أولادا لله على الحقيقة، فوجب الحمل على المعنى المجازي، وقد ورد إطلاق لفظ الابن لله وإطلاق لفظ الأب على الله في كتب العهدين في مواضع غير محصورة: ففي إنجيل لوقا 3 / 38 أطلق على آدم لفظ: ابن الله. وفي سفر الخروج 4 أطلق على إسرائيل لفظ: الابن البكر لله. وفي مزمور 89 / 26 و27 أطلق على داود لفظ: البكر، وأطلق على الله لفظ: الأب له. وفي سفر إرميا 31 / 9 أطلق على أفرام لفظ: البكر، وأطلق على الله لفظ: الأب لإسرائيل. وفي سفر صموئيل الثاني 7 / 14 أطلق على سليمان لفظ: الابن لله، وأطلق على الله لفظ: الأب له. فلو كان إطلاق لفظ: الابن على المسيح موجبا للألوهية لكان آدم وإسرائيل وأفرام وداود وسليمان أحق بالألوهية من المسيح؛ لأنهم من آباء المسيح، ولأنه أطلق على ثلاثة منهم لفظ: الابن البكر. وورد إطلاق لفظ: أبناء الله على جميع بني إسرائيل في مواضع منها ما في سفر التثنية 14 / 1، و32 / 19، وفي سفر إشعياء 1 / 2، و30 / 1، و63، وفي سفر هوشع 1 / 10. وورد في سفر التكوين 6 / 2 و4 إطلاق لفظ: أبناء الله على أولاد آدم. وفي سفر إشعياء 63 / 16 و64 أطلق على الله لفظ: الأب لجميع بني إسرائيل. وفي سفر أيوب 38 / 7: (وهتف جميع بني الله) .

وفي المزمور 68 / 5: (أبو اليتامى وقاضي الأرامل الله) . فوجب المصير إلى المعنى المجازي في كل الفقرات السابقة، ولا أحد من أهل الكتاب يقول بأن الإطلاقات المذكورة تفهم على حقيقتها، فكما لا يجوز اعتقاد ألوهية آدم وأولاده ويعقوب وأفرام وداود وسليمان وجميع بني إسرائيل وجميع اليتامى، فكذلك لا يجوز اعتقاد ألوهية المسيح بسبب إطلاق بعض الألفاظ التي لا يراد منها حقيقتها. دليلهم الثاني: ما ورد أن المسيح من فوق وليس من هذا العالم، فقد ورد في إنجيل يوحنا 8 قول المسيح: (فقال لهم أنتم من أسفل. أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم. أما أنا فلست من هذا العالم) . فيظنون أن هذا القول يدل على أن المسيح إله نزل من عند الإله الآب الذي هو ليس من هذا العالم. وهذا التأويل غير صحيح ومخالف للظاهر؛ لأن عيسى عليه السلام كان من هذا العالم حقيقة، ويرد على تأويلهم بوجهين: الأول: أن هذا التأويل مخالف للبراهين العقلية وللنصوص الصريحة. الثاني: أن عيسى عليه السلام قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضا، ففي إنجيل يوحنا 15 / 19: (لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم) . وفي إنجيل يوحنا 17 / 14 و16: (14) والعالم أبغضكم لأنهم ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم (16) ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم) . ففي هذه الفقرات سوى المسيح عليه السلام بين نفسه وبين تلاميذه في

عدم كونهم من هذا العالم، فلو كان هذا القول مستلزما لألوهية المسيح كما زعموا للزم أن يكون جميع التلاميذ آلهة، وبما أن النصارى ينكرون ألوهية التلاميذ فثبت بطلان هذا التأويل، والصواب أن المسيح عليه السلام وتلاميذه ليسوا من طلاب الدنيا الدنية، بل هم من طلاب الآخرة ورضوان الله، وهذا المجاز شائع في اللغات، فيقال للزهاد والصالحين إنهم ليسوا من هذه الدنيا. دليلهم الثالث: ما ورد أن المسيح والآب واحد، فقد ورد في إنجيل يوحنا 10 قول المسيح: (أنا والآب واحد) . فهذا القول بزعمهم يدل على اتحاد المسيح بالله، فهو إله مثله. وهذا التأويل أيضا باطل بوجهين: الأول: لأن المسيح عليه السلام عندهم أيضا هو إنسان ذو نفس ناطقة، وليس بمتحد بهذا الاعتبار، فهم يقولون باتحاد المسيح بالله باعتبار لاهوت المسيح لا باعتبار ناسوته، ولما كان اسم المسيح عندهم يطلق على اللاهوت والناسوت معا بطل تأويلهم السابق. والثاني: لأن مثل هذا القول وقع في حق الحواريين، ففي إنجيل يوحنا 17 / 21 -23: (21) ليكون الجميع واحدا كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضا واحدا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني (22) وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد (23) أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني) . فالأقوال الواردة في هذه الفقرات دالة على اتحادهم ببعضهم وبالمسيح، وسوى المسيح بين اتحاده بالله وبين اتحادهم فيما بينهم، وظاهر أن اتحادهم فيما

بينهم ليس حقيقيا، فكذا اتحاد المسيح بالله ليس حقيقيا، والمعنى الصحيح للاتحاد هو طاعة أوامر الله تعالى والعمل بالأعمال الصالحات، وهذا المعنى يشترك فيه المسيح والحواريون وجميع أهل الإيمان، وإنما الفرق باعتبار القوة والضعف، ولا شك أن طاعة المسيح وكمال عبوديته لله أقوى وأشد من طاعة تلاميذه، والمقصود بالوحدة هنا اتفاق مرادهم وأمرهم، فهم واحد في العمل بأوامر الله ومحبته وطاعته، وكما لا يفهم منه اتحاد ذوات الحواريين ببعضهم أو بالمسيح، فكذلك لا يفهم منه اتحاد ذات المسيح بذات الله حقيقة. دليلهم الرابع: ما ورد أن رؤية المسيح رؤية لله لأنه في الآب والآب فيه، فقد ورد في إنجيل يوحنا 14 / 9 -10: (9) الذي رآني فقد رأى الآب فكيف تقول أنت أرنا الآب (10) ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب في. الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال) . فهذا الكلام بزعمهم يدل على ألوهية المسيح؛ لأن رؤيته رؤية لله والله حال فيه. وهذا الاستدلال أيضا باطل بوجهين: الأول: لأن رؤية الله في الدنيا ممتنعة بنص أسفارهم، فلا تكون رؤية المسيح رؤية لله حقيقة، ويؤولون الرؤية بالمعرفة، ومعرفة المسيح باعتبار الجسمية أيضا لا تفيد الاتحاد، والصواب أن من رأى الأفعال التي يفعلها المسيح فكأنه رأى أفعال الله؛ لأنها حصلت بأمره وإرادته. الثاني: أنه ورد مثل هذا القول في حق التلاميذ، ففي إنجيل يوحنا 14: (في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي وأنتم في وأنا فيكم) .

وفي إنجيل يوحنا 17: (أنت أيها الآب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضا واحدا فينا) . وورد في رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 6 / 19: (أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم) . وفي رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 6 / 16: (فإنكم أنتم هيكل الله الحي) . وفي رسالة بولس إلى أهل أفسس 4 / 6: (إله وآب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم) . فلو كان مثل هذا الكلام مشعرا بالحلول والاتحاد ومثبتا للألوهية للزم أن يكون الحواريون وجميع أهل كورنثوس وجميع أهل أفسس آلهة، والحق أن التأويل الصحيح لهذه الفقرات أن يقال: إن حلول الله في أحد أو حلول أحد فيه، وكذا حلول أحد في المسيح أو حلول المسيح فيه الوارد في هذه الفقرات يقصد به إطاعة أمرهما، فمعرفة المسيح وطاعته بمنزلة معرفة الله وطاعته. واعلم أيها القارئ الكريم أن نقل الأقوال السابقة هو على فرض صحتها لأجل زيادة الإلزام، ولإثبات بطلان تأويلاتهم في تأليه المسيح عليه السلام، ونحن المسلمين لا نعتقد جزما أن ما ورد في الأناجيل هو كلام المسيح أو كلام الحواريين؛ لأنه ثبت فقدان إسناد جميع كتبهم بما فيها الأناجيل الأربعة، وعقيدتنا الإسلامية هي أن المسيح عليه السلام والحواريين برآء من هذه العقائد الكفرية، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وأن الحواريين رسل عيسى عليه السلام.

الباب الثالث إثبات كون القرآن الكريم كلام الله ومعجزا ورفع شبهات القسيسين على القرآن والأحاديث

[الباب الثالث إثبات كون القرآن الكريم كلام الله ومعجزا ورفع شبهات القسيسين على القرآن والأحاديث] [الفصل الأول الأمور التي تدل على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى ورفع شبهات القسيسين على القرآن الكريم] الباب الثالث إثبات كون القرآن الكريم كلام الله ومعجزا ورفع شبهات القسيسين الواردة على القرآن وعلى الأحاديث النبوية الشريفة ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: الأمور التي تدل على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، ورفع شبهات القسيسين على القرآن الكريم. الفصل الثاني: دفع شبهات القسيسين الواردة على الأحاديث النبوية.

الفصل الأول الأمور التي تدل على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى ورفع شبهات القسيسين على القرآن الكريم الأمر الأول: أن القرآن الكريم في الدرجة العالية من البلاغة التي لم يعهد مثلها في كلام العرب، وتقاصرت عنها درجات بلاغتهم، والبلاغة هي التعبير باللفظ المعجب عن المعنى المناسب للمقام الذي أورد فيه الكلام بلا زيادة أو نقصان في البيان، وتدل على كونه في الدرجة العالية من البلاغة بضعة أوجه: الوجه الأول: أن فصاحة العرب والعجم سواء كانوا شعراء أو كتاب أكثرها في وصف ما يشاهدون، كوصف بعير أو فرس أو جارية أو ملك أو طعنة أو غارة أو حرب، ودائرة البلاغة في مثل هذه الأشياء متسعة جدا، لأن طبائع أكثر الناس تميل إليها، وقد يظهر من الشاعر أو الكاتب مضمون جديد ونكتة لطيفة، ويكون المتأخر المتتبع واقفا على تدقيقات المتقدم غالبا، والقرآن الكريم ليس في بيان خصوص هذه الأشياء، ومع ذلك فيه من الفصاحة والبلاغة ما لم تعهده العرب في كلامهم. الوجه الثاني: أن فصاحة العرب في شتى الأغراض والموضوعات لم تخل من الكذب حتى قيل: أحسن الشعر أكذبه، أما القرآن الكريم فجاء في غاية الفصاحة مع الصدق في جميعه، والتنزه عن الكذب. الوجه الثالث: أن الشاعر قد ينسب للفصاحة لبيت أو بيتين في قصيدة له، وباقيها لا يكون كذلك، أما القرآن الكريم فجاء كله في غاية الفصاحة

التي يعجز الخلق عنها، ومن تأمل في سورة يوسف وقصته عليه السلام عرف أنها مع طولها جاءت في الدرجة العالية من البلاغة. الوجه الرابع: أن الشاعر أو الكاتب إذا كرر مضمونا أو قصة لا يكون كلامه الثاني مثل الأول، بينما تكررت المضامين القرآنية في قصص الأنبياء وأحوال المبدأ والمعاد والأحكام والصفات الإلهية، واختلفت فيها العبارات إيجازا وإطنابا وغيبة وخطابا، ومع ذلك جاءت هذه المضامين كلها في نهاية الفصاحة، ولم يظهر التفاوت أصلا. الوجه الخامس: أن القرآن الكريم فيه الأوامر والنواهي وإيجاب العبادات وتحريم القبائح، وفيه الحث على مكارم الأخلاق والعمل للآخرة وتقديمها على الدنيا، وكل ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة، علما أن أمثال هذه الأمور توجب تقليل الفصاحة، ولذلك إذا قيل لشاعر فصيح أو كاتب بليغ أن يكتب بعض مسائل الفقه والعقائد في عبارة فصيحة مشتملة على التشبيهات البليغة والاستعارات الدقيقة فإنه يعجز عن ذلك. الوجه السادس: أن كل شاعر يحسن كلامه في فن ويضعف كلامه في غير ذلك الفن، أما القرآن الكريم فقد جاء فصيحا على غاية الفصاحة في كل فن، ترغيبا كان أو ترهيبا، زجرا كان أو وعظا أو غيرها. وفيما يلي بعض الأمثلة: ففي الترغيب مثل قوله تعالى في سورة السجدة آية 17: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وفي الترهيب مثل قوله تعالى في سورة إبراهيم آية 15-17: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ - مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ - يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 15 - 17]

وفي الزجر والتوبيخ مثل قوله تعالى في سورة العنكبوت آية 40: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40] وفي الوعظ مثل قوله تعالى في سورة الشعراء آية 204-207: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ - أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ - ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ - مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 204 - 207] وفي وصف الله تعالى مثل قوله تعالى في سورة الرعد آية 8-9: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ - عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 8 - 9] الوجه السابع: أن الانتقال من مضمون إلى آخر ومن قصة إلى أخرى، واشتمال الكلام على بيان أشياء مختلفة يضيع حسن الربط بين أجزاء الكلام، ويسقطه عن الدرجة العالية للبلاغة، والقرآن الكريم فيه الانتقال من قصة إلى أخرى، ومن مضمون إلى غيره، مع اشتماله على الأمر والنهي والوعد والوعيد وتوحيد الله وبيان صفاته تعالى وإثبات النبوات والترغيب والترهيب وضرب الأمثال وغيرها، ومع ذلك يوجد فيه كمال الربط مع الدرجة العالية للبلاغة الخارجة عن مألوف العرب حتى حارت فيه عقول بلغائهم. الوجه الثامن: أن القرآن الكريم يأتي باللفظ اليسير المتضمن للمعنى الكثير، فسورة (ص) مثلا جمع في أولها أخبار الكفار وتقريعهم بإهلاك القرون

من قبلهم، وخلافهم لمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم له، وتعجبهم مما أتى به، وإجماع ملئهم على الكفر، وظهور الحسد في كلامهم، ووعيدهم بخزي الدنيا والآخرة، وتكذيب الأمم قبلهم وإهلاك الله لهم، ووعيد قريش وأمثالهم مثل مصابهم، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم على الصبر على أذاهم، وتسليته بقصص الأنبياء قبله، وكل هذا الذي الذكر جاء بألفاظ يسيرة متضمنة لمعان كثيرة. وقوله تعالى في سورة البقرة آية 179: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فإن هذا القول لفظه يسير ومعناه كثير، ومع بلاغته فهو مشتمل على المطابقة بين المعنيين المتقابلين وهما القصاص والحياة، وعلى الغرابة في جعل القتل المفوت للحياة ظرفا لها، فهو أولى من جميع الأقوال المشهورة عند العرب في باب منع القتل؛ لأنهم عبروا عن هذا المعنى بقولهم: (قتل البعض إحياء للجميع) ، وقولهم: (أكثروا القتل ليقل القتل) ، وقولهم: (القتل أنفى للقتل) ، وهذا القول الأخير أخصر أقوالهم وأجودها، ولكن لفظ القرآن أفصح منه وأبلغ لما يلي: قوله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] أخصر من كل أقوالهم. قولهم: (القتل أنفى للقتل) يقتضي كون الشيء سببا لانتفاء نفسه، بخلاف لفظ القرآن الكريم، فإنه يقتضي أن نوعا من أنواع القتل - وهو القصاص - سبب لنوع من أنواع الحياة. أن في قولهم الأخصر والأجود (القتل أنفى للقتل) تكرار للفظ القتل، بخلاف لفظ القرآن الكريم. أن قولهم الأخصر والأجود لا يفيد إلا الردع عن القتل فقط، بخلاف لفظ القرآن فإنه يفيد الردع عن القتل والجرح، فالقصاص يشملهما.

أن قولهم الأخصر والأجود يدل على ما هو المطلوب - أي الحياة - بالتبع، أي جعل نفي القتل مطلوبا أصالة، والحياة تبع له، بخلاف لفظ القرآن الكريم فإنه دال على ما هو مقصود أصلي، أي جعل نفي القتل مطلوبا تبعا من حيث إنه يتضمن حصول الحياة الذي هو مطلوب أصالة. أن القتل ظلما قتل مع أنه ليس بناف للقتل، ولا يفيد وجوب الاقتصاد على قتل القاتل فقط، بخلاف لفظ القرآن الكريم، فإنه لايجيز القتل ظلما، وهو ناف للقتل بإيجابه القصاص الذي هو قتل القاتل لا غيره، فظاهر قولهم باطل، وأما لفظ القرآن الكريم فصحيح من كل وجه. الوجه التاسع: أن الجزالة والعذوبة بمنزلة الصفتين المتضادتين، واجتماعهما على ما هو ينبغي في كل جزء من أجزاء الكلام الطويل خلاف العادة المعتادة للبلغاء، فاجتماعهما في كل موضع من مواضع القرآن الكريم دليل على كمال بلاغته وفصاحته الخارجتين عن العادة. الوجه العاشر: أن القرآن الكريم مشتمل على جميع فنون البلاغة من ضروب التأكيد وأنواع التشبيه والتمثيل وأصناف الاستعارة، وحسن المطالع والمقاطع، وحسن الفواصل والتقديم والتأخير، والفصل والوصل اللائق بالمقام، وخلوه عن اللفظ الركيك والشاذ الخارج عن القياس النافر عن الاستعمال، وغير ذلك من أنواع البلاغة، ولا يقدر أحد من البلغاء الكملاء من العرب الأصلاء إلا على نوع أو نوعين من الأنواع المذكورة، ولو رام نوعا غيره في كلامه لم يتأت له وكان مقصرا، والقرآن الكريم محتو عليها كلها. فهذه الوجوه العشرة تدل على أن القرآن الكريم في الدرجة العالية من

البلاغة الخارجة عن العادة، ومن كان أعرف بلغة العرب وفنون بلاغتها كان أعرف بإعجاز القرآن. الأمر الثاني: تأليف القرآن العجيب، وأسلوبه الغريب في المطالع والمقاطع والفواصل، مع اشتماله على دقائق البيان وحقائق العرفان، وحسن العبارة ولطف الإشارة، وسلاسة التركيب وسلامة الترتيب، فتحيرت فيه عقول العرب العرباء (أي الخلص الصرحاء) ، والحكمة في هذه المخالفة أن لا يبقى لمتعسف عنيد مظنة السرقة، وأن يمتاز هذا الكلام عن كلامهم ويظهر تفوقه؛ لأن البليغ - ناظما كان أو ناثرا - يجتهد في هذه المواضع اجتهادا كاملا، ويمدح ويعاب عليه غالبا في هذه المواضع، وقد عيب على جميع فحول الشعراء مواضع لم يحسنوا فيها العبارة أو كانت مسروقة عن غيرهم. وأشراف العرب مع كمال حذاقتهم في أسرار الكلام وشدة عداوتهم للإسلام، لم يجدوا في بلاغة القرآن وحسن نظمه مجالا، ولم يوردوا في القدح مقالا، بل اعترفوا أنه ليس من جنس خطب الخطباء ولا شعر الشعراء، فنسبوه تارة إلى السحر تعجبا من فصاحته وحسن نظمه، وقالوا تارة إنه إفك افتراه وأساطير الأولين، وقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم في سورة فصلت آية 26: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] وهذه كلها دأب المحجوج المبهوت، فثبت أن القرآن الكريم معجز ببلاغته وفصاحته وحسن نظمه. ولقد كان فصحاء العرب وبلغاؤهم كثيرين ومشهورين بغاية العصبية والحمية الجاهلية، وبتهالكهم على المباراة والمباهاة والدفاع عن الأحساب،

فكيف يتصور أن يتركوا الأمر الأسهل الذي هو الإتيان بمقدار أقصر سورة من القرآن، ويختاروا الأشد الأصعب الذي هو القتال وبذل الأرواح والأموال، والرسول صلى الله عليه وسلم يقرعهم ويتحداهم بمثل قوله تعالى في سورة البقرة آية 23-24: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23 - 24] وبمثل قوله تعالى في سورة يونس آية 38: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38] وبمثل قوله تعالى في سورة الإسراء آية 88: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] ولو كان العرب يظنون أن محمدا صلى الله عليه وسلم استعان بغيره في تأليف القرآن الكريم لأمكنهم أيضا من أجل المعارضة والتحدي أن يستعينوا بغيرهم؛ لأنهم مثله في معرفة اللغة وفي المكنة من الاستعانة، فلما لم يفعلوا ذلك وآثروا المقاتلة والمقارعة بالسنان على المعارضة والمقاولة باللسان - ثبت أن بلاغة القرآن الكريم كانت مسلمة عندهم، وأنهم عاجزون عن المعارضة، وغاية الأمر أنهم صاروا مفترقين بين مصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن المنزل عليه من ربه، وبين معاند متحير في بديع بلاغة القرآن، والأخبار المنقولة في ذلك عن الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهما تؤيد ذلك. الأمر الثالث: كون القرآن الكريم منطويا على الأخبار عن الحوادث الآتية

في المستقبل، فوجدت في الأيام اللاحقة على الوجه الذي أخبر: منها قوله تعالى في سورة الفتح آية 27: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح: 27] ووقع كما أخبر. ومنها قوله تعالى في سورة النور آية 55: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] وقد وفى الله تعالى بما وعد، فمكن للمسلمين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وزاد هذا التمكين في خلافة الصديق أبي بكر رضي الله عنه، ثم زاد التمكين في خلافة الفاروق عمر رضي الله عنه بالفتوحات الواسعة، ثم زاد هذا التمكين في خلافة ذي النورين عثمان رضي الله عنه بأن توسعت الفتوحات كثيرا جدا شرقا وغربا، بحيث لم يمض ربع قرن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى غلب دين الله على سائر الأديان، وكان المسلمون يعبدون الله آمنين غير خائفين. ومنها قوله تعالى في سورة الفتح آية 16: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] ووقع كما أخبر. ومنها قوله تعالى في سورة النصر آية 1-2: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1 - 2] ووقع كما أخبر، ففتحت مكة المكرمة في العام الثامن للهجرة، ودخل الناس في الإسلام فوجا بعد فوج. ومنها قوله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم في سورة المائدة آية 67: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] ووقع كما أخبر، رغم كثرة من قصدوا ضرره، فعصمه

الله تعالى حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى. - ومنها قوله تعالى في سورة الروم آية 2-6: {غُلِبَتِ الرُّومُ - فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ - فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ - بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ - وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 2 - 6] ووقع كما أخبر، وانتصرت الروم على فارس بعد سبع سنين من هزيمتهم. - ومنها قوله تعالى في سورة الحجر آية 9: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] أي يحفظه الله تعالى من التحريف والزيادة والنقصان، وهذا الأمر مشاهد الآن، ولله الحمد على هذه النعمة. ومثله قوله تعالى في سورة فصلت آية 42: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] - ومنها قوله تعالى عن اليهود في سورة البقرة آية 94-95: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 94 - 95] ومثله قوله تعالى في سورة الجمعة آية 6-7: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6 - 7] ولا شك أن اليهود كانوا من أشد أعدائه صلى الله عليه وسلم، ومن أحرص الناس على تكذيبه، ومع ذلك لم يبادر أحد منهم إلى تكذيبه بأن يقول: إنه يتمنى الموت. - ومنها قوله تعالى في سورة البقرة آية 23-24: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23 - 24] ووقع كما أخبر.

فمن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان مشركو العرب في غاية العداوة له وفي غاية الحرص على إبطال دعوته وإلى وقتنا الحاضر لم يستطع أحد معارضة القرآن ولو بمقدار أقصر سورة من مثله رغم توافر الدواعي. فهذه الأخبار السابقة وأمثالها في القرآن الكريم تدل على أنه كلام الله تعالى؛ لأن سنة الله جارية على أن مدعي النبوة لو كذب على الله لا يخرج خبره صحيحا، بل ويفضحه الله ويظهر كذبه للناس. الأمر الرابع: أنه ورد في القرآن الكريم أخبار القرون السالفة والأمم الهالكة، ومعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يشتغل بمدارسة مع العلماء، وأنه نشأ بين قوم يعبدون الأصنام، ولا يعرفون الكتاب، وليس لديهم شيء من العلوم العقلية، وأنه لم يغب عن قومه غيبة يمكن له فيها التعلم من غيرهم، والمواضع التي خالف فيها القرآن الكريم كتب أهل الكتاب في بيان بعض القصص والحالات هي مخالفة قصدية لبيان الحق الذي انحرف عنه أهل الكتاب؛ لأنهم فقدوا النسخ الأصلية لكتبهم، والذي بين أيديهم فاقد للسند المتصل، وفاقد لصفة الوحي والإلهام، قال تعالى في سورة النمل آية 76: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76] الأمر الخامس: أنه ورد في القرآن الكريم كشف أسرار المنافقين، حيث كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكر والكيد، وكان الله تعالى يطلع

رسوله على تلك الأحوال حالا فحالا، ويخبره عنها على سبيل التفصيل، فما كانوا يجدون في كل ذلك إلا الصدق، ولم يستطيعوا أن ينكروا خبر القرآن عنهم، وكذلك ما فيه من كشف أحوال اليهود وضمائرهم. الأمر السادس: أنه ورد في القرآن الكريم من المعارف الجزئية والعلوم الكلية ما لم تعهده العرب عامة ولا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، ففيه علم الشرائع، والتنبيه على طرق الحجج العقلية، والرد على أهل الضلال، وفيه السير والمواعظ، والحكم، والأمثال، وأخبار الدار الآخرة، ومحاسن الآداب والشيم، وقد انبثقت من القرآن الكريم علوم كثيرة أهمها علم العقائد والأديان، وعلم الفقه والأحكام، وعلم السلوك والأخلاق. الأمر السابع: كونه بريئا عن الاختلاف والتفاوت، مع أنه كتاب كبير مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم، فلو كان هذا القرآن من عند غير الله لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة؛ لأن الكتاب الكبير لا ينفك عن ذلك، ولما لم يوجد فيه أدنى اختلاف علمنا علما يقينيا أنه من عند الله كما قال تعالى في سورة النساء آية 82: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وإلى هذه الأمور السبعة يشير قوله تعالى في سورة الفرقان آية 6: {أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6] ؛ لأن بلاغته وأسلوبه العجيب وإخباره عن الغيوب واشتماله على أنواع العلوم وبراءته عن الاختلاف والتفاوت مع كونه كتابا كبيرا لا يتأتى إلا من العليم الخبير الذي لا يغيب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.

الأمر الثامن: أن القرآن الكريم معجزة باقية متلوة في كل مكان؛ لأن الله تعالى تكفل بحفظه، بخلاف معجزات الأنبياء السابقين؛ فإنها مؤقتة في حياتهم وانقضت بوفاتهم، لكن معجزة القرآن الكريم باقية على ما كانت عليه من وقت نزوله وإلى زماننا هذا، ومازالت حجته قاهرة ومعارضته ممتنعة، فإن بلاد العالم مملوءة بالملاحدة والمخالفين العنيدين من كل ملة ونحلة، وكلهم عاجزون عن الإتيان بمقدار أقصر سورة من هذا القرآن الكريم، وستبقى هذه المعجزة إن شاء الله ما بقيت الدنيا وأهلها. الأمر التاسع: أن قارئ القرآن لا يسأمه، وسامعه لا يمله، بل تكراره يوجب زيادة محبته، وغيره من الكلام مهما كان بليغا فإن تكراره يمل في السمع، ويكره في الطبع، بخلاف القرآن الكريم فإن الهيبة تعتري تاليه، والخشية تلحق قلوب سامعيه، وهذه الهيبة والخشية قد تكون لمن لا يفهم معانيه ولا يفهم تفسيره، بل ولمن لا يعرف اللغة العربية أيضا. الأمر العاشر: أن القرآن الكريم يحفظ نصه بسهولة بالغة، كما قال تعالى في سورة القمر الآيات 17 و22 و32 و40: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] فحفظه ميسر على الأولاد الصغار في أقرب مدة، وحفاظ القرآن الكريم منتشرون في الأقطار بحيث يمكن أن يكتب القرآن الكريم كاملا من حفظ كل منهم دون وقوع الغلط في الإعراب فضلا عن الألفاظ، بينما لا يوجد في كل ديار النصارى واحد يحفظ الإنجيل فضلا عن حفظ كتب العهدين، وهذا هو الفضل البديهي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولكتابها القرآن الكريم.

ثلاثة أسئلة وجوابها: - السؤال الأول: ما سبب كون معجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من جنس البلاغة؟ الجواب: أن بعض المعجزات تظهر في كل زمان من جنس ما يغلب على أهل ذلك الزمان؛ لأنهم يكونون قد بلغوا فيه الدرجة العليا، ويقفون على الحد الذي يمكن للبشر الوصول إليه، فإذا شاهدوا ما هو خارج عن الحد المذكور علموا أنه من عند الله، فمثلا عندما رأى سحرة فرعون في زمان موسى عليه السلام أن عصاه انقلبت ثعبانا يتلقف سحرهم، علموا أن هذا الأمر خارج عن حد صناعة السحر، وأنه معجزة لموسى من عند الله فآمنوا به وبمن أرسله. وفي زمان عيسى عليه السلام كان علم الطب متقدما، فلما رأى أهل ذلك الزمان إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص علموا أنها ليست من حد صناعة الطب، وإنها معجزة لعيسى من عند الله؛ ليؤمنوا برسالته ويتبعوه. وفي زمان محمد صلى الله عليه وسلم كانت البلاغة قد وصلت إلى الدرجة العليا، وكان بها فخارهم نثرا وشعرا، فلما أتى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن الذي أعجز جميع البلغاء علم أنه من عند الله قطعا، وأن من لم يؤمن به فهو عنيد مستكبر. السؤال الثاني: ما حكمة نزول القرآن منجما مفرقا ولم ينزل دفعة واحدة؟ الجواب: إن لنزول القرآن منجما حكما كثيرة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل في أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة، فلو نزل عليه القرآن جملة واحدة لصعب عليهم حفظه وضبطه، وربما تساهلوا فيه، فكان نزوله مفرقا أنسب لهم، حيث تمكن الصحابة بالتدريج من حفظه

وضبطه وتعلمه وكتابته، وبقيت سنة الحفظ جارية في أمته. - أن كثيرا من آيات القرآن الكريم نزلت في وقائع وأحداث معنية، حلا لمشكلة أو جوابا على سؤال أو بيانا لحكم، فلو نزل عليه القرآن جملة واحدة لم يتضح المراد بها، فكان نزولها مفرقة مقترنة بالوقائع والأحداث أبلغ أثرا في النفوس، وأوضح في المراد بها. - لو أنزل الله تعالى عليه الكتاب جملة واحدة لكانت التكاليف (أي الأحكام الشرعية العملية) قد نزلت على المسلمين دفعة واحدة، ولثقل عليهم العمل بها، وبخاصة أن فيها الناسخ والمنسوخ، ولكن لما كان نزول القرآن مفرقا فإن التكاليف نزلت بالتدريج قليلا قليلا، فكان تحملها أسهل. - أن نزول القرآن منجما يقتضي أن يشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام حالا بعد حال، فيقوى قلبه على أداء الرسالة، ويصبر على أذية القوم. - أن نزول القرآن الكريم منجما أشد تعجيزا لهم، أي إنهم في غاية العجز بحيث إنهم لم يقدروا على الإتيان بمثله منجما مفرقا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تحداهم من أول الأمر، فكأنه تحداهم بكل واحد من نجوم القرآن، فلما عجزوا عنه كان عجزهم عن معارضة الكل أولى، فثبت بهذا الطريق أن القوم عاجزون عن المعارضة عجزا تاما من جميع الوجوه. السؤال الثالث: ما سبب تكرار بيان التوحيد وحال القيامة وقصص الأنبياء في عدة مواضع؟ الجواب: إن للتكرار في القرآن عدة أسباب منها: 1 - أن التكرار يفيد التقرير والتأكيد.

2 - أن إعجاز القرآن الكريم لما كان باعتبار البلاغة وتحداهم بهذا الاعتبار، فجاء تكرار القصص وغيرها بعبارات مختلفة إيجازا وإطنابا، مع حفظ الدرجة العالية للبلاغة في كل مرتبة، ليعلم أن القرآن ليس بكلام البشر؛ لأن البلغاء يعرفون أن هذا الأمر خارج عن القدرة البشرية. 3 - إن المخالفين للرسول صلى الله عليه وسلم كان لهم أن يقولوا له: إن الألفاظ الفصيحة التي كانت مناسبة لهذه القصة قد استعملتها، ولا تناسبها الألفاظ الأخرى، أو أن يقولوا له: إن طريق كل بليغ يخالف طريق الآخر، فبعضهم يقدر على الطريق المطنب وبعضهم يقدر على الطريق الموجز، فلا يلزم من عدم القدرة على نوع عدم القدرة مطلقا، أو أن يقولوا له: إن دائرة البلاغة ضيقة في بيان القصص، والذي صدر عنك بيانه منها محمول على البخت والاتفاق، لكن تكرار القصص إيجازا وإطنابا يقطع جميع أعذارهم. 4 - أنه صلى الله عليه وسلم كان يضيق صدره بإيذاء قومه له كما قال تعالى في سورة الحجر آية 97: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] فيثبت الله قلبه بأن يقص عليه من قصص الأنبياء السابقين مناسبة لحاله في ذلك الوقت، كما قال تعالى في سورة هود آية 120 / 3 -: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120] 5 - أن أقواما كانوا يدخلون في الإسلام، وأن المسلمين كان يحصل لهم الأذى بأيدي الكفار، فكان الله تعالى ينزل في كل موضع من هذه القصص ما يناسبه؛ لأن حال السلف تكون عبرة للخلف، وقد يكون المقصود أحيانا تنبيه الكفار، فالقصة الواحدة قد تذكر تارة ويقصد بها بعض الأمور قصدا

وبعضها تبعا، وتُذكر تارة أخرى وتُعكس المقاصد. وفيما يلي ذكر أبرز شبهتين يوردهما المنصّرون على القرآن الكريم: الشبهة الأولى قولهم: (لا نسلم بأن عبارة القرآن في الدرجة القصوى من البلاغة الخارجة عن العادة، ولو سلمنا ذلك لكان دليلا ناقصا على الإعجاز؛ لأنه لا يظهر إلا لمن كانت له معرفة تامة بلغة العرب، ويلزم أن تكون من كلام الله جميع الكتب البليغة التي في اللغات الأخرى كاليونانية واللاتينية وغيرهما، ويمكن أن تؤدّى المطالب الباطلة والمضامين القبيحة بألفاظ فصيحة وعبارات بليغة في الدرجة القصوى) . والجواب عن هذه الشبهة أن عدم تسليمهم كون عبارة القرآن الكريم في الدرجة العليا من البلاغة هو مكابرة محضة لما مر في الأمر الأول والثاني من الفصل السابق. وقولهم: (لأنه لا يظهر إلا لمن كانت له معرفة تامة بلغة العرب) حق، لكن هذه المعجزة لما كانت لتعجيز البلغاء والفصحاء، وقد ثبت عجزهم ولم يعارضوها واعترفوا بها، وعرفها جميع أهل اللغة العربية بسليقتهم، وعرفها العلماء بمهارتهم في فن البيان وإحاطتهم بأساليب الكلام، فالعوام يكفيهم اعتراف العلماء بالعجز عن معارضة القرآن، وبه تقوم الحجة عليهم؛ لأن عجز العلماء والفصحاء يوجب عجز غيرهم من باب أولى، ثم إن الأمم غير العربية يكفيهم اعتراف العرب بعجزهم عن معارضة القرآن الذي هو بلغتهم، فتقوم عليهم الحجة أيضا، بالإضافة إلى أنه يوجد في هذه الأمم من يتكلمون اللغة العربية ويجيدون علومها، فشهادتهم ببلاغة القرآن الكريم وأنه كلام الله حجة

على سائر أقوامهم؛ لأن من كان أعرف بلغة العرب وفنون بلاغتها كان أعرف بإعجاز القرآن وفنون بلاغته، وبهذا ثبت يقينا أن بلاغة القرآن الكريم معجزة قاهرة ودليل كامل لا ناقص كما زعموا. ثم إن أهل الإسلام لا يدعون أن معجزة القرآن منحصرة في بلاغته فقط، بل يقولون: إن بلاغة القرآن الكريم سبب واحد من أسباب كثيرة توجب علما قطعيا بأنه كلام الله تعالى، وهذه المعجزة ظاهرة، وعجز المخالفين ثابت منذ زمان محمد صلى الله عليه وسلم وإلى هذا الزمان. وقولهم: (ويلزم أن تكون من كلام الله جميع الكتب البليغة التي في اللغات الأخرى. .) غير مسلَّم؛ لأن هذه الكتب لم تثبت بلاغتها في الدرجة القصوى باعتبار الوجوه التي مر ذكرها في الأمر الأول والثاني من الفصل السابق، ولأن مصنفي هذه الكتب لم يدعوا إعجازها ولا أن الفصحاء أمثالهم عاجزون عن معارضتها. فكيف يدّعي القساوسة هذا الادعاء وهم لا يميزون غالبا في لغة غيرهم بين المذكر والمؤنث، ولا بين المفرد والمثنى والجمع، ولا بين المرفوع والمنصوب والمجرور، فضلا عن أن يميزوا الأبلغ عن البليغ، ويشهد لهذا الأمر أن البابا أربانوس الثامن أذِن للأب سركيس الهاروني مطران الشام أن يجمع كثيرا من القساوسة والرهبان والعلماء المختصين باللغات العبرانية والعربية واليونانية لإصلاح الترجمة العربية التي كانت مملوءة بالأغلاط الكثيرة، فاجتهدوا في هذه المهمة اجتهادا تاما سنة 1625م، ولكن هذه الترجمة التي اجتهدوا في إصلاحها وقع في نصوصها أغلاط كثيرة بحيث إنهم اضطروا في المقدمة التي

كتبوها لهذه الترجمة إلى الاعتذار عن بعض الأغلاط الواقعة فيها كوجود كلام لا يوافق قوانين اللغة بل يضادها، وكوقوع لفظ المذكر بدل المؤنث، والعدد المفرد بدل الجمع، وكوضع حركة الرفع مكان الجر والنصب في الاسم، ومكان الجزم في الفعل، وقالوا في اعتذارهم: إن روح القدس لم يُردْ أن يقيد اتساع الكلمة الإلهية بالحدود المضيقة التي حدتها الفرائض النحوية، فقدم لنا الأسرار السماوية بغير فصاحة وبلاغة. وقولهم: (ويمكن أن تؤدَّى المطالب الباطلة والمضامين القبيحة بألفاظ فصيحة وعبارات بليغة في الدرجة القصوى) لا ورود له في حق القرآن الكريم؛ لأنه مملوء من أوله إلى آخره بذكر المطالب العالية الفاضلة والمضامين الحميدة مثل: 1 - ذكر صفات الكمال لله، وتنزيهه عن صفات النقص كالعجز والجهل والظلم وغيرها. 2 - الدعوة إلى إخلاص التوحيد لله، والتحذير من الشرك والكفر بجميع أنواعه، والتثليث نوع منه. 3 - ذكر الأنبياء وصفاتهم، وتنزيههم عن عبادة الأوثان والكفر وغيرها من المعاصي، ومدح المؤمنين بهم وذم أعدائهم، والتأكيد على وجوب الإيمان بهم عموما، وبالمسيح وبمحمد عليهما السلام خصوصا. 4 - الوعد بغلبة المؤمنين على الكافرين عاقبة الأمر. 5 - ذكر القيامة والجنة والنار وجزاء الأعمال، وذم الدنيا ومدح العقبى. 6 - بيان الحلال والحرام والأوامر والنواهي وسائر الأحكام في المطعومات

والمشروبات وفي الطهارة والعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية وغيرها. 7 - التحريض على محبة الله وأوليائه، والزجر عن مصاحبة الفجار والفساق. 8 - التأكيد على إخلاص النية لله في كل شيء، والتهديد على الرياء والسمعة. 9 - التأكيد على الأخلاق الجميلة ومدحها، والتهديد على الأخلاق الذميمة وذمها والتنفير منها. 10 - الوعظ المؤدي للتقوى، والترغيب في ذكر الله وعبادته. ولا شك أن مثل هذه المطالب الفاضلة محمودة عقلا ونقلا، وجاء ذكر هذه المطالب العالية مكررا في القرآن للتأكيد عليها وتقريرها، ولو كانت هذه المطالب والمضامين العالية قبيحة فأي مضمون بعدها يكون حسنا؟! نعم إنه لا يوجد في القرآن الكريم مضامين قبيحة كالتي في كتب العهدين مثل: 1 - ما ورد في سفر التكوين 19 / 30 -38 أن لوطا عليه السلام زنى بابنتيه وحملتا بهذا الزنا. 2 - وما ورد في سفر صموئيل الثاني 11 / 1 -27 أن داود عليه السلام زنى بزوجة أوريّا، ثم قتله بالحيلة وتزوجها. 3 - وما ورد في سفر الخروج 32 / 1 -6 أن هارون عليه السلام صنع العجل لبني إسرائيل وعبده معهم. 4 - وما ورد في سفر الملوك الأول 11 / 1 -13 أن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى المعابد لها. 5 - وما ورد في سفر الملوك الأول 13 / 11 -30 أن النبي الذي في بيت إيل

كذب على الله في التبليغ، وخدع بكذبه نبيا آخر وألقاه في غضب الرب. 6 - وما ورد في سفر التكوين 38 / 12 -30 أن يهوذا بن يعقوب عليه السلام زنى بكنّته= ثامار - أي زوجة ابنه عير - فولدت منه بهذا الزنا فارص الذي من نسله داود وسليمان وعيسى عليهم السلام، فكلهم أولاد ولد الزنا. 7 - وما ورد في سفر التكوين 35 أن رأوبين بن يعقوب عليه السلام زنى ببلهة سُرّيّة أبيه، ولما علم بهما (أي يهوذا ورأوبين) أبوهما يعقوب لم يُقم عليهما الحد، ودعا ليهوذا بالبركة التامة. 8 - وما ورد في سفر صموئيل الثاني 13 / 1 -39 أن أمنون بن داود عليه السلام زنى بأخته ثامار وعلم بهما أبوهما داود ولم يُقم عليهما الحد. 9 - وما ورد في الأناجيل (متى 26 / 14 -16، ومرقس 14 / 10 -11، ولوقا 22 / 3 -6، ويوحنا 18 / 1 -5) أن يهوذا الإسخريوطي الذي هو أحد الحواريين الاثني عشر رضي بتسليم عيسى عليه السلام لليهود مقابل ثلاثين درهما، والنصارى يعتقدون أن الحواريين أنبياء ورسل للإله المصلوب. 10 - وما ورد في الأناجيل (متى 26 / 57 -68، ومرقس 14 / 53 -65، ولوقا 22 / 54 -71، ويوحنا 18 / 12 -24) أن قَيَافَا رئيس الكهنة - والذي كان نبيا بشهادة يوحنا الإنجيلي - كذّب عيسى وكفّره وأهانه، وأفتى بقتله، وعيسى في زعمهم هو إله قَيَافَا، أي أفتى النبي بقتل إلهه بعدما كفّره وأهانه. فهذه المضامين القبيحة جدا وأمثالها توجد في كتبهم المحرَّفة، وهي مألوفة لدى القسيسين والمنصرين ويرونها مطالب عالية وحسنة، فلو وجدوا القرآن الكريم محتويا على أمثالها لاعترفوا أنه كلام الله وقبلوه، لكنهم لما وجدوه خاليا عنها أنكروه وطعنوا في صحته.

الشبهة الثانية قولهم: (إن القرآن يخالف كتب العهدين القديم والجديد في مواضع عديدة، فلا يكون كلام الله) . والجواب على هذه الشبهة أن كتب العهدين لم تثبت أسانيدها المتصلة إلى مصنفيها، وثبت أنها مملوءة من الاختلافات المعنوية والأغلاط الكثيرة، وثبت وقوع التحريف القصدي فيها بالزيادة على المتن وبالنقصان منه، وبالتبديل في الجمل والكلمات، فمخالفة القرآن لكتبهم في مواضع عديدة هي مخالفة قصدية لا سهوية؛ لأجل التنبيه على أن ما خالف القرآن في هذه الكتب هو غلط ومحرَّف، فهذه المخالفة لا تعيب القرآن، بل يُقطع بصحته وخطئها. ونستطيع أن نحصر المخالفة التي بين القرآن الكريم وبين كتب العهدين في ثلاثة أنواع، الأول منها باعتبار الأحكام المنسوخة، والثاني منها باعتبار بعض الحالات التي جاء ذكرها في القرآن الكريم ولم تذكر في كتب العهدين، والثالث منها باعتبار أن ما جاء في القرآن الكريم في بيان بعض الحالات يخالف بيان نفس الحالات في كتب العهدين. ولا حجة لهم في الطعن على القرآن الكريم باعتبار هذه الأنواع الثلاثة لما يلي: أما باعتبار الأحكام المنسوخة فلأنه قد مر في الباب الأول أن النسخ لا يختص بالقرآن الكريم، بل وُجد في الشرائع السابقة، وقد اعترف الدكتور القسيس فندر في المناظرة الكبرى التي جرت بينه وبين الشيخ رحمت الله بوقوع النسخ في التوراة والإنجيل، وكان قبل المناظرة ينكر بشدة وقوعه فيهما. وأما باعتبار بعض الحالات التي انفرد القرآن الكريم بذكرها ولم تذكر في كتب العهدين، فهذه المخالفة لا تنفي أن القرآن الكريم كلام الله تعالى؛ لأنه

وُجد في كتب العهد الجديد حالات لم تذكر في كتب العهد القديم، فانفراد العهد الجديد بذكرها لم يستلزم كونه معيبا في نظرهم، وفيما يلي بعض الأمثلة لذلك: 1 - ورد في الفقرة 9 من رسالة يهوذا: (وأما ميخائيل رئيس الملائكة فلما خاصم إبليس مُحاجًّا عن جسد موسى. .) . فهذه المخاصمة بينهما لم تذكر في كتاب من كتب العهد العتيق. 2 - ورد في الرسالة إلى العبرانيين 12: (وكان المنظر هكذا مخيفا حتى قال موسى أنا مرتعب ومرتعد) . وقد ورد صعود موسى إلى جبل سيناء ووقوف الشعب عند أسفل الجبل في سفر الخروج 19 / 7 -25، وليس فيه ولا في غيره من أسفار العهد العتيق هذه الفقرة. 3 - ورد في رسالة بولس الثانية إلي تيموثاوس 3: (وكما قاوم يَنِّيسُ ويَمْبِرِيسُ موسى) ، وقد وردت قصة سحرة فرعون في الأصحاح السابع من سفر الخروج، وليس فيه ولا في غيره من الأسفار هذه العبارة، ولا أثر لهذين الاسمين في أي كتاب من كتب العهد القديم. 4 - ورد في رسالة بولس الأولى= إلى أهل كورنثوس 15 / 6 ظهور المسيح بعد رفعه: (وبعد ذلك ظهر دَفْعَةً واحدة لأكثر من خمسمائة أخ أكثرهم باق إلى الآن ولكن بعضهم قد رقدوا) . ولا يوجد أثر لهذا الخبر في الأناجيل الأربعة ولا في سفر أعمال الرسل، مع أن لوقا أحرص الناس على كتابة مثل هذه الأمور العجيبة. 5 - يوجد في الأناجيل ذكر القيامة وجزاء الأعمال والجنة والجحيم، وذلك

بالإجمال، ولا أثر لذلك في كتب موسى الخمسة، بل كل ما فيها مواعيد دنيوية للمطيعين وتهديدات دنيوية للعاصين. 6 - ورد في إنجيل متى 1 / 13 -15 بعد اسم زَرُبّابل تسعة أسماء في بيان نسب المسيح عليه السلام، ولا ذكر لهذه الأسماء في كتاب من كتب العهد القديم. وهكذا أحوال أخرى يصعب حصرها يثبت منها أن انفراد الكتاب المتأخر بذكر بعض الحالات التي لم تذكر في الكتاب المتقدم لا يلزم منه تكذيب الكتاب المتأخر، وإلا يلزم منه أن يكون الإنجيل كاذبا لاشتماله على حالات لم تذكر في التوراة ولا في كتاب آخر من كتب العهد القديم، والحق أن الكتاب المتقدم لا يلزم أن يكون مشتملا على جميع الحالات المذكورة في الكتاب المتأخر. وأما طعنهم باعتبار أن بيان بعض الحالات في القرآن الكريم مختلف عن بيانها في كتب العهدين فلا حجة لهم في ذلك أيضا؛ لأن اختلافات فاحشة جدا وقعت بين كتب العهد العتيق بعضها مع بعض، وبين كتب العهد الجديد بعضها مع بعض، وبين كتب العهد الجديد والعهد القديم كما مر في الباب الأول، والنسخ الثلاث للتوراة (العبرانية والسامرية واليونانية) مختلفة فيما بينها اختلافات كبيرة، والأناجيل الأربعة (متى ومرقس ولوقا ويوحنا) مختلفة فيما بينها اختلافات كبيرة أيضا، لكن القسيسين يغمضون أعينهم عما في كتبهم من الاختلافات، ويتوجهون للطعن في القرآن الكريم لتغليط عوام المسلمين بهذه الشبهة، ومخالفة القرآن لكتبهم لا تضره؛ لأنه كتاب مستقل موحى به من الله، بل هذه المخالفة أكبر دليل قطعي على صدقه، وعلى وجود التحريف في كتبهم.

الفصل الثاني دفع شبهات القسيسين الواردة على الأحاديث النبوية الشريفة

[الفصل الثاني دفع شبهات القسيسين الواردة على الأحاديث النبوية الشريفة] [الشبهة الأولى زعمهم أن رواة الأحاديث هم أزواج محمد وأقرباؤه ولا اعتبار لشهادتهم في حقه] الفصل الثاني دفع شبهات القسيسين الواردة على الأحاديث النبوية الشريفة الشبهة الأولى قولهم: (إن رواة الأحاديث هم أزواج محمد - صلى الله عليه وسلم - وأقرباؤه وأصحابه ولا اعتبار لشهادتهم في حقه) . والجواب أن هذه الشبهة يمكن أن ترد على القسيسين بأن يقال: إن رواة حالات المسيح وأقواله المندرجة في هذه الأناجيل المعروفة الآن هم أصحابه وتلاميذه، ولا اعتبار لشهادتهم في حقه، وإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يبالغ أحد منهم كما بالغ الإنجيلي الرابع في آخر إنجيله (يوحنا 21 / 25) فقال: (وأشياء أُخَرُ كثيرة صنعها يسوع إن كُتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة) . ولا شك أن هذا الكلام كذب محض ومبالغة شاعرية قبيحة، ولا يكون دافعا للعقلاء إلى الإيمان، لكنه قد يخدع السفهاء. وليس للقسيسين حجة فيما تتفوّه به فرقة الشيعة الإمامية الاثني عشرية في حق الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؛ لأنه وجدت بعض فرق النصارى تقول أقوالا وتعتقد اعتقادات جعلت القسيسين يحكمون على هذه الفرق بالكفر والابتداع، كقولهم بأن الإله إلهان، أحدهما خالق الخير وثانيهما خالق الشر، وأن إله الشر هو الذي أعطى التوراة لموسى، وأن عيسى نزل إلى الجحيم وأخرج منها كل الأرواح الشريرة، وأبقى فيها أرواح الصالحين، وأن الذي كلم

موسى وخدع أنبياء اليهود هو الشيطان، وأن جميع أنبياء بني إسرائيل هم سُرّاق ولصوص، وهكذا أقوال أخرى لهذه الفرق المبتدعة، ولا شك أن النصارى ينكرون مثل هذه الأقوال والاعتقادات الكفرية ويقولون: إن أقوال هذه الفرق لا تقوم بها الحجة على سائر النصارى، فنقول لهم أيضا: إذا لم تتم أقوال هذه الفرق عليكم، فلا تتم أقوال بعض الفرق الإسلامية على جمهور أهل الإسلام، ولا تقوم بها الحجة، ولا سيما إذا كانت هذه الأقوال مخالفة لنصوص القرآن الكريم ولأقوال بعض الأئمة من آل البيت. ففي القرآن الكريم آيات كثيرة مصرحة بأن الصحابة لم يصدر عنهم شيء يوجب الكفر ويخرجهم عن الإيمان، منها: 1 - قال الله تعالى في سورة التوبة آية 100: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] بشر الله تعالى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار برضوانه عليهم وبخلودهم في الجنات، ولا شك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم كانوا من السابقين الأولين، فثبت أنهم من المبشرين برضوان الله وجناته، وثبتت صحة خلافتهم، وكما أن قول الطاعن في حق عليّ= مردود، فكذلك قول الطاعن في حق الثلاثة مردود، ولا مجال للطعن فيهم ولا في غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. 2 - وقال الله تعالى في سورة التوبة آية 20-22: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ - يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 20 - 22]

فقال الله تعالى في حق المؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيله بأنهم أعظم درجة عند الله وأنهم فائزون، وبشرهم بالرحمة والرضوان وبالخلود الأبدي في الجنات، وأكد ذلك بأنه نعيم مقيم، ولا شك أن الخلفاء الأربعة من المؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فثبت فوزهم وثبتت لهم البشرى، وثبتت صحة خلافتهم، ولا مجال للطعن فيهم ولا في غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. 3 - وقال الله تعالى في سورة التوبة آية 88-89: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 88 - 89] فبشر الله تعالى الصحابة المؤمنين المجاهدين الذين كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لهم الخيرات وبالفلاح وبالخلود في الجنات، ولا شك أن الخلفاء الأربعة كانوا من المؤمنين المجاهدين مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فثبت لهم الفلاح والخيرات والخلود في الجنات، وثبتت صحة خلافتهم، ولا مجال للطعن فيهم ولا في غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. 4 - وقال الله تعالى في سورة الحج آية 41: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41] فهذه أوصاف المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق المذكورين

في الآية (40) التي قبلها، فوصف الله تعالى المهاجرين بأنه إن مكنهم في الأرض وأعطاهم السلطة أتوا بالأمور الأربعة وهي: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يشك أحد في أن الله تعالى قد مكن للخلفاء الأربعة في الأرض، وتوسعت رقعة الإسلام في عهدهم، فثبت كونهم آتين بالأمور الأربعة، وثبت كونهم على الحق وعلى الطريقة المرضية لله تعالى، هم وأتباعهم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم. 5 - وقال الله تعالى في سورة النور آية 55: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] ولا شك أن المخاطبين في هذه الآية هم المؤمنون الموجودون في زمان نزولها، ولفظ الاستخلاف يدل على أن حصول ذلك الوعد يكون بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه خاتم الأنبياء ولا نبي بعده، فالمراد بهذا الاستخلاف إذن الأئمة والخلفاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وجميع الضمائر الراجعة إليهم في الآية وقعت كلها على صيغة الجمع، والجمع الحقيقي لا يكون محمولا على أقل من ثلاثة، فثبت أن هؤلاء الأئمة والخلفاء الموعودين بهذا الوعد لا يكونون أقل من ثلاثة. وقوله تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ} [النور: 55] وعد لهم بحصول الشوكة والقوة والنفاذ في العالم، ولا يشك أحد في حصول هذا الوعد للخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. وقوله تعالى: {دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55] يدل على أن الدين الذي يظهر

وينتصر في عهدهم هو الدين المرضي لله تعالى. وقوله تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55] وعد بأنهم في عهد خلافتهم يكونون آمنين غير خائفين، ولا يشك أحد في حصول هذا الوعد للخلفاء الثلاثة في عهدهم رضي الله عنهم. وقوله تعالى: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] يدل على أنهم في عهد خلافتهم يكونون مؤمنين لا مشركين. فدلت هذه الآية على صحة إمامة الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، ولا سيما في عهد الثلاثة منهم: أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين رضي الله عنهم؛ لأن الفتوحات العظيمة والتمكين التام وظهور الدين والأمن الذي حصل في عهدهم لم يحصل مثله في عهد عليّ رضي الله عنه، فثبت أن ما يتفوه به الشيعة في حق الثلاثة وأتباعهم من سائر الصحابة رضي الله عنهم، وما يتفوه به الخوارج في حق عثمان وعلي رضي الله عنهما، باطل بنص القرآن الكريم، فلا يلتفت لأقوالهم ولا يحتج بها على جمهور أهل الإسلام. 6 - وقال الله تعالى في سورة الفتح آية 26: : {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: 26] وقال الله تعالى في سورة الفتح أيضا آية 29: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] فقال الله تعالى في حق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم مؤمنون وشركاء للرسول في

نزول السكينة، وأنهم أحق بكلمة التقوى وأهلها وأنها لازمة لهم غير منفكّة عنهم، ومدحهم بأنهم أشداء على الكفار ورحماء بينهم، وبأنهم راكعون وساجدون ويبتغون فضل الله ورضوانه، ولا شك أن الخلفاء الأربعة كانوا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فهم داخلون في هذا الوصف والمدح، ومن اعتقد في حقهم وحق أتباعه من الصحابة غير هذا فهو مخطئ، وعقيدته باطلة مخالفة لنص القرآن الكريم. 7 - وقال الله تعالى في سورة الحجرات آية 7: : {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] ويُعلم من هذه الآية أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا محبي الإيمان وكارهي الكفر والفسوق والعصيان، وكانوا راشدين، فاعتقاد ضد هذه الأشياء في حقهم خطأ ومخالف لنص القرآن الكريم. وقال الله تعالى في سورة الحشر آية 8-9: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ - وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 8 - 9] فمدح الله تعالى المهاجرين بأن هجرتهم ما كانت لأجل الدنيا، بل كانت لأجل ابتغاء مرضاة الله، ولنصرة دين الله ورسوله، وأنهم كانوا صادقين قولا وفعلا، ومدح الله تعالى الأنصار بأنهم كانوا يحبون من هاجر إليهم، وأنهم كانوا

يسرون إذا حصل خير للمهاجرين، وكانوا يؤثرونهم ويقدمونهم على أنفسهم مع احتياجهم. ولا شك أن مثل هذه الأوصاف تدل على كمال الإيمان، وقد شهد الله تعالى بصدقهم، وبما أنهم كانوا يقولون لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: (يا خليفة رسول الله) ، فوجب أن يكونوا صادقين في هذا القول، ووجب الجزم بصحة إمامته وخلافته، ومن اعتقد في حقه أو حق المهاجرين والأنصار غير هذا فهو مخطئ، وعقيدته باطلة مخالفة لنص القرآن الكريم. 9 - وقال الله تعالى في سورة آل عمران آية 110: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] فمدح الله تعالى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم خير أمة، وأنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأنهم كانوا مؤمنين بالله، ولا شك أن الخلفاء الأربعة كانوا من هذه الأمة المحمودة، ومن يعتقد فيهم غير هذا فهو مخطئ ومخالف لصريح القرآن الكريم.

وفيما يلي بعض أقوال أئمة آل البيت: 1 - ورد في كتاب (نهج البلاغة) الذي هو كتاب مقبول عند الشيعة قول علي رضي الله عنه: " لله در فلان (وفي رواية: لله بلاء فلان) فلقد: 1- قوّم الأوَدَ (الاعوجاج) ، 2- وداوى العَمَدَ (العلة) ، 3- وأقام السنّة، 4- وخلّف البدعة (تركها) ، 5- ذهب نقيَّ الثوب، 6- قليل العيب، 7- أصاب خيرها، 8- وسبق شرها، 9- أدى إلى الله طاعته، 10- واتقاه بحقه ". والمراد بفلان على مختار أكثر الشارحين (منهم الفقيه كمال الدين البحراني الشيعي المتوفى سنة 681هـ / 1282 م) أبو بكر الصديق رضي الله عنه، واختار بعض الشارحين أنه عمر الفاروق رضي الله عنه، فذكر علي رضي الله عنه عشرة أوصاف من أوصاف أبي بكر أو عمر رضي الله عنهما، ولما ثبتت هذه الأوصاف بعد مماتهما بإقرار علي رضي الله عنه، فما بقي شك في صحة الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووقع في بعض مكاتيب علي رضي الله عنه قوله في حق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على ما نقله شارحو نهج البلاغة كما يلي: (لعمري إن مكانهما من الإسلام لعظيم؛ وإن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد، رحمهما الله وجزاهما الله بأحسن ما عملا) . 2 - وورد في كتاب (كشف الغمة) الذي صنفه أحد معتمدي الشيعة الإمامية الاثني عشرية (علي بن عيسى الأردبيلي المتوفى سنة 692هـ / 1293 م) قوله: " سئل الإمام أبو جعفر (محمد الباقر) عليه السلام عن حلية السيف: هل يجوز؟ فقال: نعم؛ قد حلى أبو بكر الصديق سيفه. فقال الراوي: أتقول

هكذا؟! فوثب الإمام من مكانه فقال: نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل له: الصديق، فلا صدّق الله قوله في الدنيا والآخرة ". ونقل صاحب كتاب (الفصول المهمة) الذي هو من كبار علماء الشيعة الإمامية الاثني عشرية (محمد بن الحسن الحرّ العاملي) أن جماعة خاضوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فقال لهم أبو جعفر محمد الباقر: ألا تخبروني، أنتم من (المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله) ؟ قالوا: لا. قال: فأنتم من (الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم) ؟ قالوا: لا. قال: أما أنتم فقد برئتم أن تكونوا أحد هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] فثبت بإقرار أبي جعفر محمد الباقر رحمه الله تعالى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه صديق حق، وأن منكره كاذب في الدنيا والآخرة، وأن الخائض في الصديق والفاروق وذي النورين رضي الله عنهم، خارج عن جماعة المسلمين الذين مدحهم الله تعالى: نجانا الله تعالى من سوء الاعتقاد في حق الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وأماتنا على حبهم. آمين.

الشبهة الثانية زعمهم أن مؤلفي كتب الحديث ما رأوا الرسول

[الشبهة الثانية زعمهم أن مؤلفي كتب الحديث ما رأوا الرسول] الشبهة الثانية قولهم: (إن مؤلفي كتب الحديث ما رأوا الرسول ولا شاهدوا معجزاته بأعينهم، ولا سمعوا أقواله منه مباشرة بلا واسطة، بل سمعوها بالتواتر بعد مائة أو مائتي سنة من وفاته، ثم جمعوها وأسقطوا مقدار نصفها لعدم الاعتبار) . والجواب عن هذه الشبهة أن جمهور أهل الكتاب سلفا وخلفا كانوا يعتبرون الروايات اللسانية الشفوية كالمكتوب، بل جمهور اليهود يعتبرونها اعتبارا أزيد وأحسن من المكتوب، أما فرقة الكاثوليك فتعتبر الروايات الشفوية مساوية للمكتوب، وتعتقد أن كليهما واجب التسليم وأصل للإيمان. موقف اليهود من الروايات الشفوية: إن اليهود يقسمون قانونهم على نوعين: مكتوب ويقولون له: التوراة، وغير مكتوب ويقولون له: الروايات اللسانية الشفوية التي وصلت إليهم بواسطة المشايخ، ويدعون أن الله تعالى قد أعطى موسى كلا النوعين على جبل الطور، فوصل إليهم أحدهما بواسطة الكتابة، ووصل ثانيهما بواسطة المشايخ بأن تناقلوه شفويا جيلا بعد جيل، ويعتقدون أن كليهما متساويان في المرتبة ومن عند الله ويجب قبولهما، بل يرجحون الروايات الشفوية على المكتوبة ويقولون: إن القانون المكتوب ناقص ومغلق في كثير من المواضع، ولا يمكن أن يكون أصل الإيمان على الوجه الكامل بدون اعتبار الروايات الشفوية اللسانية؛ لأنها أوضح وأكمل، وتشرح القانون المكتوب وتكمله، ولهذا يردون معاني القانون المكتوب (التوراة) إذا كانت مخالفة للروايات اللسانية الشفوية. واشتهر فيما بينهم أن العهد المأخوذ من بني إسرائيل ما كان لأجل القانون

المكتوب، بل كان لأجل هذه الروايات اللسانية، فكأنهم بهذه الحيلة نبذوا القانون المكتوب وجعلوا الروايات اللسانية مبنى دينهم وإيمانهم، ويفسرون كلام الله على حسب هذه الروايات وإن كان هذا المعنى الروائي مخالفا لمواضع كثيرة من كلام الله المكتوب، ووصلت حالة اليهود في زمان عيسى إلى حد الإفراط حتى عظموا هذه الروايات أكثر من المكتوب، ووبخهم عيسى في هذا الأمر بأنهم يبطلون كلام الله لأجل سنتهم، ويوجد في كتبهم أن ألفاظ المشايخ الشفوية اللسانية أحب من ألفاظ التوراة، وألفاظ التوراة بعضها جيد وبعضها غير جيد، لكن ألفاظ المشايخ كلها جيدة، وأجود جدا من ألفاظ الأنبياء. وهكذا أقوال أُخَرُ يُعلم منها أنهم يعظمون الروايات اللسانية أكثر من القانون المكتوب، ويفهمون القانون المكتوب على حسب ما تشرحه الروايات اللسانية الشفوية، فكأن القانون المكتوب عندهم بمنزلة الجسد الميت، والروايات اللسانية الشفوية بمنزلة الروح التي بها الحياة. ويقولون: إن الله أعطى موسى التوراة وأمره بكتابتها (فهي القانون المكتوب) ، وأعطاه أيضا معاني التوراة وأمره بتبليغها دون الكتابة (فهي القانون اللساني الشفوي) ، فجاء بهما موسى من الجبل وبلغ القانونين المكتوب والشفوي إلى هارون وابنيه والمشايخ السبعين، ثم أخبر هؤلاء سائر بني إسرائيل، وبقيت الروايات الشفوية تتناقل بالألسنة إلى أن بدأ بجمعها الربي يهوذا حق دوش (يوضاس) حوالي سنة 150م، ومكث في جمعها أربعين سنة بمشقة كبيرة، ثم دونها في كتاب سماه: المشنا، فهذا المشنا يضم الروايات الشفوية التي تناقلها المشايخ بألسنتهم حوالي سبعة عشر قرنا بعد موسى عليه

السلام، ويعتقدون أن كل ما فيه هو من عند الله مثل القانون المكتوب، وواجب التسليم والقبول مثله. وقد كتب علماء اليهود شرحين على كتاب المشنا، أحدهما في القرن الثالث (وقيل الخامس) الميلادي في أورشليم القدس، والثاني في بداية القرن السادس الميلادي في بابل، ويسمى الشرح (كمرا) أي الكمال؛ لأنهم يعتقدون أن التوضيح التام لمتن المشنا حصل في هذين الشرحين، فإذا جُمع المتن والشرح (مشنا + كمرا) يقال لهذا المجموع (التلمود) ، ويقال للتمييز: تلمود وأورشليم، وتلمود بابل، وهذا الشرح (كمرا) مملوء بالحكايات الواهية، لكنه معظم عند اليهود، ويدرسونه ويرجعون إليه في كل مُشْكِل، مذعنين بأنه مرشد لهم. فمذهب اليهود الآن وعقيدتهم تؤخذ من هذين التلمودين البعيدين عن التوراة وعن سائر كتب الأنبياء، ويقدمون تلمود بابل على تلمود أورشليم. فإذا كان اليهود قد تناقلوا الروايات اللسانية الشفوية سبعة عشر قرنا ويقدمونها على التوراة، علما أنهم تعرضوا خلال هذه المدة لآفات عظيمة ودواهٍ جسيمة أضاعت كتبهم المكتوبة ففقدت إسنادها وتواترها، ومع ذلك يعدون الروايات اللسانية هي مبنى إيمانهم وأصل عقائدهم، فكيف يجوز الطعن في الأحاديث الشريفة المكتوبة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرن أو قرنين. موقف جمهور قدماء النصارى من الروايات الشفوية: ذكر يوسي بيس في تاريخه أن كليمنس عندما بيّن حال يعقوب الحواريّ نقل حكايات عن الروايات اللسانية التي وصلت إليه من الآباء والأجداد، ونقل في حق يوحنا الحواريّ حكايات أخذها من المحفوظ في الصدور، وهو

(أي كليمنس) اعترف أنه كان ينقل الروايات اللسانية من عدة شيوخ، أحدهم سُرياني في اليونان، وثانيهم آشوري في المشرق، وثالثهم عبراني في فلسطين، ولكن الشيخ الذي نقل عنه الروايات اللسانية وكان أفضل من المشايخ كلهم ولم يطلب شيخا آخر بعده هو الشيخ الذي كان مختفيا في مصر. وذكر يوسي بيس أيضا أن أرينيوس كتب ما وصل إليه بالرواية اللسانية من بوليكارب، وكانت الكنيسة تبلغ عن بوليكارب بالرواية اللسانية، وكان أرينيوس يفتخر أنه لا يكتب في القرطاس، وإنما تعوّد من قديم الأيام أن يحتفظ بالأحاديث في صدره. وذكر أن أكناثيوس عندما مر في آسيا الصغرى قوّى الكنائس المختلفة وأوصاهم باللصوق بالروايات اللسانية لصوقا قويا. وأن بيبيس كتب جميع الأشياء التي وصلت إليه من المشايخ وأتباعهم؛ لأن الفائدة التي حصلت له من ألسنة الأحياء لم تحصل له من الكتب. وأن المؤرخ المشهور هجيسي بوس كتب مسائل الحواريين التي وصلت إليه بالرواية اللسانية بعبارة سهلة في خمسة كتب. وأن أساقفة كثيرين قبلوا روايات لسانية كثيرة في باب عيد الفصح قدمها لهم بعض الأشخاص، فكتبها الأساقفة في كتاب وأرسلوا نقوله إلى الكنائس لإلزام الناس بها. وأن كليمنس اسكندر يانوس الذي كان من أتباع تابعي الحواريين ألف كتابا في بيان عيد الفصح استجابة لرغبة الأحباء الذين طلبوا منه تدوين الروايات اللسانية التي سمعها من الأساقفة. وذكر جان ملنر الكاثوليكي في رسالته العاشرة التي كتبها إلى جيمس برون أن مبنى إيمان الكاثوليك ليس كلام الله المكتوب فقط، بل أعم من ذلك مكتوبا أو غير مكتوب، أي الكتب المقدسة والروايات اللسانية على ما

تشرح به كنيسة الكاثوليك، فإن أرينيوس بيّن أن أسهل أمر لطالبي الحق هو أن يتفحصوا الروايات اللسانية؛ لأنه وإن كانت ألسنة الأقوام مختلفة، لكن حقيقة الرواية اللسانية متحدة، والروايات اللسانية المنقولة عن الحواريين جيلا بعد جيل كلها محفوظة في كنيسة الروم الكاثوليك؛ لأن الحواريين سلموها للناس، والناس سلموها للكنيسة الكاثوليكية. وذكر ملنر في نفس الرسالة أن ترتولين قال بأن عادة أهل البدعة أنهم يتمسكون بالكتب المقدسة ويرفضون الروايات اللسانية ليلقوا الضعفاء في شباكهم، وليوقعوا المتوسطين في الشك، ولذلك لا نسمح لهؤلاء أن يستدلوا في مناظراتهم بالكتب المقدسة؛ لأن المباحثة المستندة إلى الكتب المقدسة لا يحصل منها فائدة سوى وجع الدماغ والبطن، ولو حصل شيء يكون ناقصا؛ لأن جميع أحكام الدين المسيحي وعقائده التي صرنا بسببها مسيحيين منقولة بالروايات اللسانية. وذكر ملنر عن أوريجن قوله: لا يليق بنا تصديق الناس الذين ينقلون عن الكتب المقدسة ونترك الروايات اللسانية التي تبلغها لنا كنيسة الله. وذكر عن باسيليوس أن المسائل الكثيرة المحفوظة في الكنيسة للوعظ بها أخذت بعضها من الكتب المقدسة وبعضها من الروايات اللسانية، وقوتهما في الدين متساوية. وذكر عن ابيفانس في رده على المبتدعين أنه حض على استعمال الروايات اللسانية؛ لأن جميع الأشياء لا توجد في الكتب المقدسة. وذكر عن كريزاستم أن الحواريين لم يبلغوا كل شيء بواسطة الكتابة، بل

بلغوا أشياء كثيرة بالروايات اللسانية، وكلتاهما متساويتان في الاعتبار؛ فإن الروايات اللسانية هي منشأ الإيمان، وإذا ثبت شيء بالرواية اللسانية لا نطلب دليلا آخر. وذكر عن أكستاين أن بعض المسائل ليس لها سند تحريري، وإنما تؤخذ من الرواية اللسانية؛ لأن الأشياء الكثيرة تسلمها الكنيسة العامة وهي ليست بمكتوبة. وقد أورد الربي موسى قدسي شواهد كثيرة على أن الكتاب المقدس لا يُفهم بدون الرواية اللسانية. وكذلك عقائد النصارى كلها لم يثبت شيء منها بالإنجيل، بل يقبلونها بالرواية اللسانية مثل: أن الابن مساوٍ للآب في الجوهر، وأن الروح القدس منبثق من الآب والابن، وأن المسيح ذو طبيعتين وأقنوم واحد، وأنه ذو إرادتين إلهية وإنسانية، وأنه بعدما مات نزل الجحيم، وهكذا غيرها الكثير. وذكر الدكتور بريت أن الأشياء التي لها دخل في النجاة ليست كلها مكتوبة؛ لأن الحواريين بلّغوا أحاديث كتابة، وبلّغوا أحاديث أخرى بالرواية اللسانية، والويل للذين لا يأخذون بهما؛ لأن الأحاديث اللسانية في أمر الإيمان سند كالمكتوب. وذكر أسقف مونيك أن التقرير اللساني درجته أزيد من المكتوب. وذكر جلنك ورتهه أن النزاع فيما هو قانوني يزول بالرواية اللسانية التي هي قاعدة الإنصاف لكل نزاع. وشهد أسقف ماني سيك بأن ستمائة أمر مقررة في الدين، وتأمر الكنيسة

بها، ولم يبيّنها الكتاب المقدس في موضع من المواضع، وإنما تقبل من الرواية اللسانية. وقال وليم ميور بأن قدماء المسيحية ما كان عندهم عقيدة مكتوبة من عقائد الإيمان التي اعتقادها ضروري للنجاة، وكانت تعلَّم للأطفال وللذين يدخلون في الملة المسيحية تعليما لسانيا. وبعد أن عرفنا حال اليهود والنصارى معا في اعتبارهم الرواية اللسانية أكثر من المكتوب، فلماذا الطعن في الأحاديث النبوية وقد قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم فمن كذب على معتمدا فليتبوأ مقعده من النار» . وهذا الحديث متواتر رواه اثنان وستون صحابيا. ولذلك كان اهتمام المسلمين في حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية منذ القرن الأول أشد من اهتمام النصارى في حفظ كتبهم المقدسة، لكن الصحابة لم يدونوا الأحاديث في عهدهم لبعض الأعذار، منها الاحتياط التام لأجل أن لا يختلط كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام الله تعالى، ولكن أتباع الصحابة شرعوا في تدوينها بدون ترتيب على أبواب الفقه، ولما كان هذا الترتيب حسنا ضبطها تابعو التابعين على هذا الترتيب، وكان اجتهادهم في أمر الأحاديث والتحري اجتهادا عظيما، حتى إنه صنف فن عظيم الشأن في أسماء الرجال لمعرفة حال كل راو من رواة الأحاديث من حيث الديانة والحفظ، وروى كل من أصحاب الصحاح الأحاديث بالإسناد منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض الأحاديث ثلاثية، أي تصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث وسائط، وقسمت الأحاديث إلى ثلاثة أقسام: متواتر ومشهور وآحاد.

وقول الطاعن: (جمعوها وأسقطوا مقدار نصفها لعدم الاعتبار) غلط؛ لأن رواة الأحاديث ما أسقطوا إلا الأحاديث الضعيفة التي لم تكن أسانيدها كاملة، وتركها لا يضر، وأهل الإسلام جميعا يقبلون الأحاديث الصحيحة المروية في كتب الحديث المعتبرة، أما الأحاديث المروية في كتب غير معتبرة، فلا يقبلها أهل الإسلام، ولا تعارض الصحيحة. وبهذا ثبت أنه لا مجال لأحد أن يطعن على أهل الإسلام في قبولهم أحاديث نبيهم صلى الله عليه وسلم. ويناسب لبيان حال النصارى في هذا المقام ذكر الحكاية التي نقلها جان ملنر في كتابه المطبوع سنة 1838م وهي: أن القديسة الفرنسية جان دارك (وتُدعى عذراء أورليان) والمولودة سنة 1412م، بدأت الشعوذة في سن السادسة عشرة وصار لها أتباع، ثم ادعت أنها هي المرأة التي ورد في حقها في سفر رؤيا يوحنا 12 / 1 -2 ما يلي: (1) وظهرت آية عظيمة في السماء امرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبا (2) وهي حُبلى تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد) . فادعت أنها حبلى من عيسى عليه السلام، فتبعها كثير من النصارى، وفرحوا فرحا شديدا بهذا الحمل، وصنعوا أطباق الذهب والفضة لاستقبال المولود الإلهي. قال الشيخ رحمت الله معلقا على هذه القصة: هل حصلت رتبة الألوهية لهذا الولد السعيد مثل أبيه أم لا؟! وفي صورة الحصول: هل بدل اعتقاد التثليث بالتربيع أم لا؟! وكذا هل بدل لقب الله الآب بالجد أم لا؟! فانظروا إلى أبناء صنف القسيسين كيف يُتلاعب بعقولهم؟! ومن كان هذه حاله وعقله فليس له أن يطعن على دين الإسلام وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم. اللهم وفقنا للإيمان والهدى، وجنبنا الضلالة والردى.

الباب الرابع إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

[الباب الرابع إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم] [المسلك الأول ظهور المعجزات الكثيرة على يده عليه السلام] [النوع الأول بيان إخباره عن المغيبات الماضية والمستقبلة] الباب الرابع إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفيه: - ستة مسالك، وأربع بشارات. المسلك الأول - ظهور المعجزات الكثيرة على يده صلى الله عليه وسلم، وهي نوعان: أما النوع الأول: ففي بيان إخباره عن المغيبات الماضية والمستقبلة. أما المغيبات الماضية فكثيرة جدا، كقصص الأنبياء، وقصص الأمم البالية، من غير أن يسمعها من أحد ولا تلقنها من كتاب، وإلى هذا المعنى وردت الإشارة في قوله تعالى في سورة هود آية 49: : {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49] والمخالفة الحاصلة بين القرآن الكريم وبين كتب أهل الكتاب في بيان بعض القصص هي مخالفة قصدية؛ لبيان أن هذه الكتب محرفة، وأن القرآن الكريم أتى بالحق كما قال تعالى في سورة النمل آية 76: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76] وأما المغيبات المستقبلة فكثيرة جدا أيضا وردت في الأحاديث، مثل: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر الصحابة بفتح مكة وبيت المقدس واليمن والشام والعراق، وأن الأمن يظهر حتى ترحل المرأة من الحيرة إلى مكة لا تخاف إلا الله، وأن خيبر تفتح على يد علي رضي الله عنه في غد يومه، وأنهم يقسمون كنوز فارس والروم، وأن بنات فارس تخدمهم، وأن فارس ستزول ولا فارس بعدها، وأما الروم فذات قرون كلما هلك قرن خلفه قرن آخر، والمراد بالروم الفرنج وسائر النصارى، وهذه الأمور كلها وقعت في زمن الصحابة رضي الله عنهم كما أخبر صلى الله عليه وسلم. وأخبر أن الفتن لا تظهر مادام عمر حيا، وكان كما أخبر، وكان عمر رضي الله عنه سد باب الفتنة.

وأخبر صلى الله عليه وسلم أن عثمان يقتل وهو يقرأ في المصحف، وأن أشقى الآخرين الذي يقتل عليا، وأن عمارا تقتله الفئة الباغية، فاستشهد الثلاثة رضي الله عنهم كما أخبر صلى الله عليه وسلم. وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يظهر في قبيلة ثقيف كذاب (متنبىء) ومبير (مهلك) ، فظهرا كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فقد ادعى النبوة المختار الثقفي، فقاتله أمير البصرة (مصعب بن الزبير) فقتله في الكوفة سنة 67هـ / 687 م، والمهلك هو الحجاج الثقفي المتوفى سنة 95هـ / 714 م. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الوباء يكون بعد فتح بيت القدس، فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فقد ظهر هذا الوباء بعد فتح القدس بثلاث سنوات في خلافة عمر رضي الله عنه في قرية عمواس البعيدة عن القدس حوالي 20كم، وبها كان اجتماع العسكر، وكان هو أول طاعون وقع في الإسلام، مات به سبعون ألفا. وأخبر صلى الله عليه وسلم أم حرام بنت ملحان النجارية الأنصارية، أنها وناسا من أمته يركبون البحر غزاة في سبيل الله، فركبت البحر مع زوجها عبادة بن الصامت رضي الله عنهما لفتح جزيرة قبرص بقيادة أمير الشام معاوية رضي الله عنه في خلافة عثمان رضي الله عنه، فلما خرجت من البحر وقربت إليها دابتها لتركبها فصرعتها فماتت ودفنت في موضعها سنة 27هـ / 647 م، وكانت أول امرأة ماتت في غزو المسلمين للبحر. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن ابنته فاطمة أول أهله لحوقا به، فتوفيت رضي الله عنها في رمضان سنة 11هـ / 632 م بعد ستة أشهر من وفاته صلى الله عليه وسلم. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الحسن بن علي رضي الله عنهما سيد، وسيصلح الله به

بين فئتين عظيمتين، ووقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بويع بالخلافة بعد مقتل أبيه سنة 40هـ، ودامت خلافته سبعة أشهر، ثم كره اقتتال المسلمين، فتنازل عن الخلافة في جمادى الأولى سنة 41هـ لمعاوية رضي الله عنه، فأصلح الله به بين أهل العراق وأهل الشام، وسمي هذا العام عام الجماعة. 9 - وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الحسين بن علي رضي الله عنهما يقتل بالطف (مكان في ناحية الكوفة على شط نهر الفرات ويعرف الآن بكربلاء) ، فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم. - وأخبر صلى الله عليه وسلم سراقة بن جعشم أنه يلبس سواري كسرى، فلما أتى بهما عمر رضي الله عنه في خلافته ألبسهما إياه تنفيذا لوعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عمر رضي الله عنه: الحمد لله الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة. - وأخبر صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه حين وجهه لأكيدر بن عبد الملك الكندي - صاحب دومة الجندل - أنه يجده يصيد البقر، فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم. - وأخبر صلى الله عليه وسلم أن نارا ستخرج من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل في بصرى، فخرجت هذه النار العظيمة قرب المدينة المنورة في جمادى الآخرة سنة 654 هـ، واشتدت حتى اضطربت الأرض بمن عليها، وارتفعت الأصوات لخالقها، وأيقن أهل المدينة بالهلاك، وبقي الناس في زلزال شديد حتى انطفأت في 27 رجب، وأخبار هذه النار مدونة في كتب التواريخ، وفيها كتب مستقلة، وذكرها البخاري ومسلم في صحيحيهما قبل ظهورها بمقدار أربعمائة سنة.

النوع الثاني الأفعال التي ظهرت منه صلى الله عليه وسلم على خلاف العادة

[النوع الثاني الأفعال التي ظهرت منه صلى الله عليه وسلم على خلاف العادة] وأما النوع الثاني: ففي الأفعال التي ظهرت منه صلى الله عليه وسلم على خلاف العادة وقد أحصاها العلماء فزادت على ألف، مثل: 1 - الإسراء والمعراج: قال الله تعالى في سورة الإسراء آية 1: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1] ولا شك أن الإسراء والمعراج كان في اليقظة بالروح والجسد؛ لأن لفظ العبد يطلق عليهما معا، ولذلك استبعد الكفار هذا الأمر وأنكروه، ولو لم يكن بالجسد وفي اليقظة ما كان سببا للاستبعاد والإنكار؛ لأن مثل هذا في المنامات لا يستبعد ولا ينكر، ألا ترى لو أن شخصا ادعى أنه طار في نومه في الشرق وفي الغرب وهو لم يتحول عن مكانه ولم تتبدل حاله الأولى لم ينكر أحد عليه. فالإسراء والمعراج الحاصل لمحمد صلى الله عليه وسلم بالجسد والروح معا وفي اليقظة لا استحالة فيه عقلا ولا نقلا. أما عقلا: فلأن الله تعالى خالق العالم، وهو على كل شيء قدير، وحصول الحركة البالغة السرعة في جسد محمد صلى الله عليه وسلم أمر يسير على الله تعالى، وغاية ما فيه أنه خلاف العادة، وهكذا المعجزات كلها تكون خلاف العادة. وأما نقلا: فلأن صعود الجسم إلى السماوات ليس بممتنع عند أهل الكتاب لما يلي: ا - ورد في سفر التكوين 5: (وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه) ، فهذا نص على أن النبي أخنوخ (إدريس عليه السلام) رفع إلى السماء حيا، ودخل بجسده ملكوت السماء.

ب - ورد في سفر الملوك الثاني 2 / 1 و11: (1) وكان عند إصعاد الرب إيليا في العاصفة على السماء أن إيليا وأليشع ذهبا من الجلجال (11) وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء) . وهذا نص على أن النبي إيليا رفع إلى السماء بجسده حيا. وهذان النصان مسلمان عند القسيسين، وهم يعتقدون أن المسيح عليه السلام بعدما مات ودفن في القبر قام حيا وصعد بجسده إلى السماء وجلس عن يمين أبيه، فلا مجال لهم أن يعترضوا على معراج محمد صلى الله عليه وسلم لا عقلا ولا نقلا. 2 - انشقاق القمر: قال الله تعالى في سورة القمر آية 1-2: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ - وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1 - 2] وقد دلت الأحاديث الصحيحة على وقوع حادثة انشقاق القمر لمحمد صلى الله عليه وسلم، فهي حادثة متواترة منصوص عليها في القرآن الكريم ومروية في الصحيحين وغيرهما، وأقوى شبه القسيسين عندهم أن هذه الحادثة لو وقعت لم تخف على أهل الأرض كلهم، ولنقلها مؤرخو العالم، وهي عندنا شبهة ضعيفة جدا لما يلي: ا - أن حادثة طوفان نوح عليه السلام حادثة عظيمة جدا وكانت على الأرض كلها، ومذكورة في الإصحاحين السابع والثامن من سفر التكوين، ومع ذلك فإن مشركي الهند والفرس والكلدانيين وأهل الصين ينكرون هذه الحادثة إنكارا بليغا، وأما ملاحدة نصارى الغرب فيستهزئون بها

وينكرونها، ويتجاوزون الحد في إساءة الأدب على الله تعالى وعلى نبيه نوح عليه السلام، فهل يرضى القسيسيون بإنكار الأمم المشرقية لحادثة الطوفان وباستهزاء الملاحدة من قومهم؟! ب - أن حادثة وقوف الشمس يوما كاملا ليوشع (يشوع بن نون) مذكورة في سفر يشوع 10 / 12 -13، وذكر مؤرخو أهل الكتاب ومفسروهم بأنها دامت إلى أربع وعشرين ساعة، فهذه الحادثة العظيمة التي وقعت سنة 1450ق. م يجب أن يراها سكان الأرض كلهم؛ لأن السحاب الغليظ لا يمنع العلم بها في المناطق التي كان عليها النهار، وأما سكان المناطق التي كان عليها الليل فلابد أن يعلموا بهذه الحادثة لامتداد ليلهم بمقدار أربع وعشرين ساعة، ومع ذلك فإن مشركي الهند والفرس وأهل الصين ينكرونها ولم تذكر في تواريخهم، وملاحدة أوروبا يستهزئون بها ويوردون عليها اعتراضات، فهل يقبل القسيسون بإنكار الأمم المشرقية لهذه الحادثة وباعتراضات أبنائهم الملاحدة؟! ج - أن متى روي في إنجيله 27 / 51 -53 عدة حوادث عظيمة وقعت بعد حادثة الصلب مباشرة، وهي: انشقاق حجاب الهيكل من فوق إلى أسفل، وتزلزل الأرض، وتشقق الصخور، وتفتح القبور، وقيام كثير من أجساد القديسين الموتى، وخروجهم من القبور، ودخولهم القدس، وظهورهم لكثيرين، وهذه الحوادث كاذبة يقينا لكن نقول: إن هذه الحوادث العظيمة غير مذكورة في كتب الرومان ولا في كتب اليهود، بل لم يذكرها إنجيل يوحنا، وإما إنجيل مرقس وإنجيل لوقا فذكرا انشقاق حجاب

الهيكل فقط ولم يذكرا باقي الأمور العظيمة، علما أن ذكرها أولى من ذكر صراخ المصلوب وأمور أخرى لا قيمة لها اتفقا على ذكرها، وعلما أن بعض الأمور يبقى أثرها بعد الوقوع كتشقق الصخور وتفتح القبور، والعجب من متى أنه لم يذكر أن هؤلاء القديسين بعد خروجهم من قبورهم أحياء أين ذهبوا؟! هل بقوا على قيد الحياة أم رجعوا إلى قبورهم؟! ولذلك استهزأ بعضهم بهذه المبالغات الشنيعة فقال: لعل متى رآها في المنام. ويفهم من عبارة إنجيل لوقا أن انشقاق حجاب الهيكل كان قبل وفاة المصلوب، بينما يفهم من عبارتي متى ومرقس أنه بعد وفاة المصلوب. فكيف يعالج القسيسون هذه المعضلات؟! د- أنه ورد في إنجيل متى 3 / 16 -17 وإنجيل مرقس 1 / 10 -11 وإنجيل لوقا 3 / 21 -22 أن يحيى عمد عيسى عليهما السلام في نهر الأردن، وفي وقت صعود عيسى من الماء، انشقت السماوات وانفتحت ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسيمة في شكل حمامة، وقال صوت من السماوات: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. فانشقاق السماوات لم كان في النهار فلابد أن يراه أكثر أهل العالم، وكذا رؤية الحمامة المجسمة وسماع الصوت لا يختص بواحد دون غيره من الحاضرين، ومع ذلك لم يكتب أحد من مؤرخي ذلك الزمان هذه الحادثة غير الإنجيليين الثلاثة، ولذلك صارت سببا لاستهزاء ملاحدة أوروبا فقالوا: لماذا أبقانا متى محرومين من معرفة الأبواب التي انفتحت في السماوات هل هي أبوابها الكبيرة أم المتوسطة أم الصغيرة؟! وفي أي جانب منها كانت هذه الأبواب؟!

وقسوسنا يضربون رؤوسهم متحيرين في تعيين ذلك. ولماذا لم يخبرنا متى عن الحمامة هل أخذها أحد وحبسها في القفص أم رأوها راجعة إلى السماوات؟! وإذا رجعت إلى السماوات فهل بقيت أبوابها مفتوحة كل هذه المدة؟! وهل رأوا باطن السماوات بوجه حسن؟! فماذا يقول القسيسون في هذه التساؤلات؟! إذن فالاعتراض على معجزة انشقاق القمر لمحمد صلى الله عليه وسلم اعتراض باطل ولا قيمة له. 3 - معجزة تكثير الماء القليل: وهذه المعجزات صدرت منه صلى الله عليه وسلم في مواطن متعددة، فقد «روى أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان بالزوراء عند سوق المدينة وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الماء ليتوضؤوا فلم يجدوه، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في إناء به ماء قليل، فجعل الماء يفور من بين أصابعه حتى توضأ الناس عن آخرهم.» «وروي جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن الناس عطشوا يوم الحديبية، ولم يكن عندهم ماء، وكان بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم إناء صغير به ماء قليل، فوضع صلى الله عليه وسلم يده في الإناء فجعل الماء يفور من بين أصابعه أمثال العيون، وكان الناس ألفا وأربعمائة.» «وروي جابر أن الناس لم يجدوا الماء في غزوة بواط، فجاء جابر بجفنة فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده فيها وصب عليه جابر قليلا من الماء، فدارت الجفنة واستدارت حتى امتلأت، وأمر الناس بأن يتوضؤوا ويسقوا حتى لم يبق لأحد منهم حاجة بالماء، ورفع الرسول صلى الله عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأى.» وروي معاذ بن جبل رضي الله عنه «أن الناس في غزوة تبوك لما وردوا العين وجدوها مثل الشراك، أي ضعيفة مثل سير النعل، فغسل الرسول صلى الله عليه وسلم وجهه

ويديه في العين، فجرت بماء كثير له حس كحس الصواعق، فاستقى الناس، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا ".» «وروي عمر رضي الله عنه أن الناس أصابهم العطش في جيش العسرة حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، فرغب أبو بكر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه فلم يرجعهما حتى انسكبت السماء، وملئوا آنيتهم، ولم تجاوز العسكر. » وروي عمران بن حصين رضي الله عنه أنه «أصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عطش في بعض أسفارهم، فوجه رجلين إلى مكان كذا، وأعلمهما أنهما يجدان امرأة معها بعير عليه مزادتان (المزادة تشبه القرية) فذهبا فأتيا بها، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم ربه، ثم أمر الناس فملؤوا آنيتهم حتى لم يدعوا شيئا إلا ملؤوه، والمزادتان لم تنقصا، ثم جمع للمرأة من الأزواد حتى ملأ ثوبها وقال لها: اذهبي فإنا لم نأخذ من مائك شيئا ولكن الله سقانا.» 4 - معجزة تكثير الطعام القليل: وهذه أيضا وقعت عدة مرات، فقد روي جابر رضي الله عنه «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه، فأعطاه شطر وسق شعير، فما زال يأكل منه وامرأته وضيفه حتى كاله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو لم تكله لأكلتم منه ولقام بكم.» «وعن جابر رضي الله عنه أنه عجن صاعا من شعير وطبخ عناقا (أنثى المعز دون السنة) يوم الخندق، فبصق النبي صلى الله عليه وسلم في العجين والقدر وبارك،

فأطعم من الصاع والعناق ألف رجل في ذلك اليوم.» «وعن جابر رضي الله عنه أن والده مات وعليه دين، فجاء غرماء أبيه ولم يكن الثمر يكفي لسداد ديونهم، فبذل لهم جابر أصل ماله فلم يقبلوه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بقطف الثمار وجعلها بيادر (أي أكوام) ، فمشي فيها النبي صلى الله عليه وسلم ودعا، فأوفى جابر دين غرماء أبيه، وزاد منها مثل ما كانوا يقطفون كل سنة.» «وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأقراص شعير تحت إبطه، فأطعم النبي صلى الله عليه وسلم منها ثمانين رجلا. » «وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين تزوج بزينب أمره أن يدعو له قوما سماهم، حتى امتلأ البيت والحجرة، فقدم لهم إناء صغيرا فيه قدر مد من تمر جعل حيسا، فوضعه وغمس فيه ثلاث أصابعه، وجعل القوم يتغدون ويخرجون، وبقي الإناء نحوا مما كان. » «وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه صنع للرسول صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر رضي الله عنه طعاما يكفيهما فقط، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو ثلاثين من أشراف الأنصار، فدعاهم فأكلوا وخرجوا، ثم أمره أن يدعو ستين، فدعاهم فأكلوا وخرجوا، ثم أمره أن يدعو سبعين، فدعاهم فأكلوا وخرجوا، قال أبو أيوب رضي الله عنه: فأكل من طعامي مائة وثمانون رجلا. » وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقصعة فيها لحم، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل يقوم قوم ويقعد آخرون.» «وعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أنهم كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم مائة

وثلاثين رجلا، فعجن صاع من طعام، وصنعت شاة، فشوي سواد بطنها (الكبد وقيل: حشو البطن كله) ، فلم يبق أحد من المائة والثلاثين إلا أخذ قطعة لحم، وجعل الباقي في قصعتين حتى أكل الجميع، وحمل عبد الرحمن ما فضل على البعير. » وعن سلمة بن الأكوع وأبي هريرة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم «أن مخمصة أصابت الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات (وفي بعض الروايات أنها غزوة تبوك) ، فدعا ببقية الأزواد، فجاؤوا بما معهم من الطعام، وأعلاهم الذي يأتي بالصاع من التمر، فجمع على بساط كربضة العنز (أي كقدر العنزة وهي رابضة) ، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم الناس أن يملؤوا أوعيتهم، فما بقي في الجيش وعاء إلا ملؤوه، وبقي منه.» 5 - كلام الشجر والحجر وشهادتهما له بالنبوة: عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أعرابيا إلى الإيمان برسالته، فقال الأعرابي: من يشهد لك على ما تقول؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هذه الشجرة السمرة، وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تشق الأرض حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثا، فشهدت أنه كما قال، ثم رجعت إلى مكانها.» وعن جابر رضي الله عنه «أن رسول صلى الله عليه وسلم ذهب ليقضي حاجته، فلم ير شيئا يستتر به، فإذا بشجرتين بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي علي بإذن الله، فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده (أي البعير الذي جعل في أنفه حلقة فيها الخطام ليكون أسرع لانقياده) ، وفعل بالشجرة الأخرى مثل ذلك،

حتى إذا كان بينهما قال: التئما على بإذن الله، فالتأمتا، فلما قضى حاجته افترقتا وعادت كل واحدة منهما إلى منبتها، وقامت على ساق. » وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأعرابي: أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة، أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فجعل العذق ينقز (أي يثب صعدا) حتى أتاه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجع، فرجع على مكانه.» وعن بريدة بن الحصيب «أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم آية على نبوته، فقال للأعرابي: قل لتلك الشجرة: رسول الله يدعوك، فقال، فمالت الشجرة عن يمينها وعن شمالها، فتقطعت عروقها، وجاءت تشق الأرض حتى وقفت بين يديه صلى الله عليه وسلم فقالت: السلام عليك يا رسول الله، فقال الأعرابي: مرها فلترجع إلى منبتها، فرجعت، فقال الأعرابي: ائذن لي أسجد لك، فقال صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي السجود إلا لله تعالى، فقال: ائذن لي أقبل يديك ورجليك، فأذن له.» وروي بضعة عشر من الصحابة رضي الله عنهم «أن المسجد النبوي كان سقوفا على جذوع من نخل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر وكان عليه، سمعوا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار من الإبل، حتى انشق الجذع، وارتج المسجد لشدة خواره، وكثر بكاء الناس، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت، وقال: إن هذا بكى لما فقد من ذكر الله تعالى، والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة، ثم أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فدفن تحت المنبر.» وهذا الخبر بأنين الجذع وحنينه باعتبار مبناه مشهور عند السلف

والخلف، وباعتبار معناه متواتر يفيد العلم القطعي. وروي ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كنا نسمع تسبيح الطعام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكل.» 6 - سقوط الأصنام: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه «كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما مثبتة في الحجارة بالرصاص، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد عام الفتح، جعل يشير إليها بقضيب كان في يده ويقول {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] فما أشار لوجه صنم إلا وقع لقفاه، ولا لقفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم، فأمر بإخراجها.» 7 - شفاء العلل بريقه وكفه المباركة صلى الله عليه وسلم: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه «أن عين قتادة بن النعمان أصيبت يوم أحد حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أحسن عينيه.» وعن عثمان بن حنيف رضي الله عنه «أن أعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ادع الله أن يكشف لي عن بصري، فعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم دعوات يدعو بها، فرجع وقد كشف الله عن بصره.» «ابن ملاعب الأسنة أصابه استسقاء فبعث رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيده حثوة من الأرض، فتفل عليها وأعطاها للرجل، فأتاه بها وهو مشرف على الموت، فشربها فشفاه الله تعالى» . «وعن حبيب بن فديك رضي الله عنه أن أباه ابيضت عيناه، فكان لا يبصر بهما شيئا، فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه فأبصر، فكان يدخل الخيط في

الإبرة وهو ابن ثمانين سنة. » «وتفل صلى الله عليه وسلم يوم خيبر في عيني على ابن أبي طالب رضي الله عنه وكان رمدا، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع.» «ونفث صلى الله عليه وسلم يوم خيبر على ضربة بساق سلمة بن الأكوع رضي الله عنه فبرأت» . «وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من خثعم معها صبي به بلاء لا يتكلم، فأتي بماء فمضمض فاه وغسل يديه، ثم أعطاها الماء فسقته للصبي ومسته به، فبرأ وعقل عقلا يفضل عقول الناس» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أن امرأة جاءت بابن لها به جنون، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم صدره، فقاء فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود وشفي. » «وانكفأت القدر على ذراع محمد بن حاطب وهو طفل، فمسح عليها النبي صلى الله عليه وسلم وتفل فيها، فبرأت لحينها.» «وكانت غدة في كف شرحبيل الجعفي، تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة، فشكاها للنبي صلى الله عليه وسلم، فمازال يطحنها بكفه حتى رفعها ولم يبق لها أثر. » 8 - إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم: «عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له فقال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما آتيته. قال أنس: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليعادون اليوم على نحو المائة.» «ولما مزق كسرى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه أن يمزق الله ملكه، فلم تبق له باقية، ولا بقيت لفارس رئاسة في سائر أقطار الدنيا.»

وأنشد النابغة الجعدي أبياتا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: «لا يفضض الله فاك» ، فما سقطت له سن، وكان من أحسن الناس ثغرا، وعاش مائة وعشرين سنة، وقيل: كان إذا سقطت له سن نبت في مكانها سن أخرى. وعن أنس رضي الله عنه «أن أعرابيا دخل المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فشكا القحط، فدعا الله فسقوا، ولم يروا الشمس إلى الجمعة الأخرى، حتى دخل الأعرابي عليه صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فشكا كثرة المطر، فدعا الله فانكشف السحاب.» «وكان عتبة بن أبي لهب يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذيه كثيرا، فدعا الله أن يسلط عليه كلبا من كلابه، فخرج عتبة في قافلة إلى الشام، فنزل منزلا فقال: إني أخاف دعوة محمد، فجعلوا متاعهم حوله وقعدوا يحرسونه، فجاء الأسد وأخذه من وسط أصحابه فذهب به.» ودعا صلى الله عليه وسلم على محلم بن جثامة فأصبح ميتا، فدفنوه فلفظته الأرض، فدفنوه مرارا فلفظته الأرض، فتركوه. وقال صلى الله عليه وسلم لرجل يأكل بشماله: «كل بيمينك، فقال الرجل: لا أستطيع، ما منعه إلا الكبر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا استطعت. فما رفعها إلى فيه» . وأكتفي بما ذكر؛ لأن مثل هذه المعجزات التي جرت على يديه صلى الله عليه وسلم كثيرة تزيد على ألف، وهذه المعجزات وإن لم تتواتر كل واحدة منها، لكن القدر المشترك بينها متواتر بلا شبهة، كشجاعة علي وسخاوة حاتم، وهذا القدر المشترك المتواتر يكفي لإثبات ظهور المعجزات المتنوعة على يديه صلى الله عليه وسلم وللرد على من ينكر ذلك.

المسلك الثاني وجود المحاسن والأخلاق العظيمة في ذاته مما يجزم العقل بأنها لا تجتمع في غير نبي

[المسلك الثاني وجود المحاسن والأخلاق العظيمة في ذاته مما يجزم العقل بأنها لا تجتمع في غير نبي] المسلك الثاني أنه صلى الله عليه وسلم قد اجتمع فيه من الأخلاق العظيمة والأوصاف الجليلة والكمالات العملية والعلمية والمحاسن الراجعة إلى النفس والبدن والنسب والوطن ما يجزم العقل بأنه لا يجتمع في غير نبي، فإن كل واحد منها وإن كان يوجد في غير النبي أيضا، لكن مجموعها مما لا يحصل إلا للأنبياء، فاجتماعها في ذاته صلى الله عليه وسلم من دلائل النبوة، وقد أقر المخالفون أيضا بوجود هذه المحاسن والأخلاق العظيمة في ذاته صلى الله عليه وسلم. [المسلك الثالث الكمال والشمول في شريعته عليه السلام يدل على أن المبعوث بها نبي مرسل من الله تعالى] المسلك الثالث أن شريعته صلى الله عليه وسلم اشتملت على الاعتقادات والعبادات والمعاملات والسياسات والآداب والحكم بأكمل وجه، ومن نظر إلى هذا الكمال والشمول في شريعته صلى الله عليه وسلم علم يقينا أنها من الوضع الإلهي والوحي السماوي، وأن المبعوث بها نبي مرسل من الله تعالى، ولا منشأ للاعتراض عليها إلا حب العناد الصرف والاعتساف. [المسلك الرابع القرآن الكريم وانتصار النبي على الكافرين لا يكون إلا بعون إلهي] المسلك الرابع أنه صلى الله عليه وسلم ظهر بين قوم لا كتاب لهم ولا حكمة فيهم، فجاءهم بالكتاب المنير والحكمة الباهرة، وحثهم على الإيمان والعمل الصالح، وقام مع ضعفه وفقره وقلة أعوانه مخالفا لجميع أهل الأرض آحادهم وأوساطهم وسلاطينهم وجبابرتهم، فضلل آراءهم، وسفه أحلامهم، وأبطل مللهم، وهدم دولهم، وظهر دينه على سائر الأديان في مدة قليلة شرقا وغربا، وزاد ظهورهم على مر الأزمان، وأعداؤه مع تنوعهم وكثرة عددهم وشدة شوكتهم وشكيمتهم وفرط تعصبهم وحميتهم وبذل غاية جهدهم، لم يقدروا على إطفاء نور دينه، ولا على طمس آثار مذهبه، فهل يكون ذلك إلا بعون إلهي وتأييد سماوي؟!

وكتب أهل الكتاب نفسها تشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، ففي سفر المزامير 1 / 6: (لأن الرب يعلم طريق الأبرار. أما طريق الأشرار فتهلك) . وفي المزمور 5 / 6: (تهلك المتكلمين بالكذب. رجل الدماء والغش يكرهه الرب) . وفي المزمور 34 / 16: (وجه الرب ضد عاملي الشر ليقطع من الأرض ذكرهم) . وفي المزمور 37 / 17 و20: (17) لأن سواعد الأشرار تنكسر وعاضد الصديقين الرب (20) لأن الأشرار يهلكون وأعداء الرب كبهاء المراعي. فنوا. كالدخان فنوا) . وفي سفر أعمال الرسل 5 / 35 -39 كلام غمالائيل كما يلي: (35) ثم قال لهم: أيها الرجال الإسرائيليون احترزوا لأنفسكم من جهة هؤلاء الناس في ما أنتم مزمعون أن تفعلوا (36) لأنه قبل هذه الأيام قام ثوادس قائلا عن نفسه إنه شيء. الذي التصق به عدد من الرجال نحو أربعمائة. الذي قتل وجميع الذين انقادوا إليه تبددوا وصاروا لا شيء (37) بعد هذا قام يهوذا الجليلي في أيام الاكتتاب وأزاغ وراءه شعبا غفيرا. فذاك أيضا هلك وجميع الذين انقادوا إليه تشتتوا (38) والآن أقول لكم تنحوا عن هؤلاء الناس واتركوهم. لأنه إن كان هذا الرأي أو هذا العمل من الناس فسوف ينتقض (39) وإن كان من الله فلا تقدرون أن تنقضوه. لئلا توجدوا محاربين لله أيضا) . فعلى حسب نص هذه الفقرات لو كان محمد صلى الله عليه وسلم متكلما بالكذب على الله ولم يكن نبيا صادقا لأهلكه الرب، ولقطع من الأرض ذكره، ولكسر

المسلك الخامس حاجة العالم في هذا التوقيت لبعثة النبي ليزيل ظلمة الشرك ولتشرق شموس التوحيد على الأرض

سواعده، ولأفناه كالدخان، ولبدده وأتباعه وشتتهم، ولنقض قوله وعمله، ولكن الله تعالى لم يفعل شيئا من ذلك، بل مد في الأرض ذكره، وعضده ونصره، وصدق قوله وعمله، فثبت بما لا يدع مجالا للشك صدق محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ورسالته، وثبت أن اليهود والنصارى المكذبين له محاربون لله ورسوله، وقد قال الله تعالى في سورة الشعراء آية 227 30: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] وقال الله تعالى في سورة الصف آية 8: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] [المسلك الخامس حاجة العالم في هذا التوقيت لبعثة النبي ليزيل ظلمة الشرك ولتشرق شموس التوحيد على الأرض] المسلك الخامس أنه صلى الله عليه وسلم ظهر في وقت كان الناس كلهم محتاجين إلى من يهديهم إلى الطريق المستقيم، ويدعوهم إلى الدين القويم، فالعرب كانوا على عبادة الأوثان، والفرس على الاعتقاد بإلهين، والهند على عبادة البقر والشجر، واليهود على التشبيه والجحود وترويج الأكاذيب المفتريات على الله وعلى أنبيائه، والنصارى على التثليث وعبادة القديسين، وهكذا سائر أنحاء العالم في أودية الضلال، فمن حكمة الله العليم الحكيم أن يرسل في هذا الوقت أحدا يكون رحمة للعالمين، ولم يظهر أحد يصلح لهذا الشأن العظيم، ويؤسس هذا البنيان القويم غير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فأزال ظلمة الشرك والتثليث والثنوية والتشبيه، وأشرقت شموس التوحيد على الأرض، وإليه أشار الله تعالى بقوله في سورة المائدة آية 19: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19]

المسلك السادس البشارات المحمدية في الكتب السماوية السابقة

[المسلك السادس البشارات المحمدية في الكتب السماوية السابقة] [التنبيه إلى بعض الأمور] المسلك السادس إخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته صلى الله عليه وسلم، (أي البشارات المحمدية في الكتب السماوية السابقة) . وقبل ذكر بعض هذه البشارات فيما يلي التنبيه إلى بعض الأمور: 1 - أن أنبياء بني إسرائيل أخبروا عن الحوادث الآتية، كحادثة بخت نصر وقورش وإسكندر وخلفائه، وحوادث أرض أدوم ومصر ونينوى وبابل، فيبعد كل البعد أن لا يخبر أحد منهم عن خروج محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان وقت ظهوره كأصغر البقول، ثم صار شجرة عظيمة تتآوى طيور السماء في أغصانها، فكسر الجبابرة والأكاسرة، وشاع دينه شيوعا تاما في الأوطان الأصلية لأنبياء بني إسرائيل، وبلغ شرقا وغربا في مدة وجيزة، وغلب كل الأديان، وامتد من ذلك الوقت وإلى الآن هو في توسع، فهذه الحادثة أعظم من كل الحوادث التي أخبر عنها أنبياء بني إسرائيل، فكيف يجوز العقل السليم أنهم أخبروا عن الحوادث الضعيفة، وتركوا الإخبار عن هذه الحادثة العظيمة جدا؟! 2 - أن النبي المتقدم إذا أخبر عن النبي المتأخر لا يشترط أن يخبر عنه بالتفصيل التام، بل غالبا ما يكون هذا الإخبار مجملا، فيكون خفيا عند العوام، أما عند العلماء فيكون جليا بواسطة القرائن، وقد يكون خفيا أيضا عند العلماء، فإذا ظهر النبي وصدقت نبوته بالمعجزات وعلامات النبوة، صار عندهم جليا بلا ريب، ولذلك عاتب المسيح عليه السلام علماء اليهود بقوله المذكور في إنجيل لوقا 11 / 52: (ويل لكم أيها الناموسيون لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة. ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم) . وقد قال علماء الإسلام: ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي محمد

صلى الله عليه وسلم، لكن بإشارات، ولو كان منجليا للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه، ثم ازداد غموضا بنقله من لسان إلى لسان. 3 - أن أهل الكتاب كانوا ينتظرون نبيا آخر غير المسيح، ففي إنجيل يوحنا 1 / 19 -25 أن علماء اليهود سألوا يحيى عليه السلام: أأنت المسيح؟ ولما أنكر سألوه: أأنت إيليا؟ ولما أنكر سألوه: أأنت النبي؟ أي النبي المعهود الذي أخبر عنه موسى عليه السلام، فعلم أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان منتظرا مثل المسيح، وكان مشهورا عندهم بحيث ما كان محتاجا إلى ذكر الاسم، بل الإشارة إليه كانت كافية، ولذلك قابلوه بالمسيح، ففي إنجيل يوحنا 7 / 40 -41: (40) فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام قالوا هذا بالحقيقة هو النبي (41) آخرون قالوا هذا هو المسيح) . ولما لم يثبت مجيء هذا النبي المعهود قبل المسيح، فثبت قطعا أنه يكون بعد المسيح، وأنه هو محمد صلى الله عليه وسلم. وأما قول المسيح عليه السلام في إنجيل متى 7 / 15: (احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة) . فالتمسك بهذا النص لنفي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم باطل قطعا؛ لأن المسيح عليه السلام لم يأمر بالاحتراز من النبي الصادق، ولا أمر بالاحتراز من كل نبي يأتي بعده مطلقا، وإنما أمر بالاحتراز من الأنبياء الكذبة فقط، وقد ثبت في كتبهم ظهور أنبياء كذبة كثيرين في الطبقة الأولى بعد رفع المسيح عليه السلام في عهد الحواريين، فمقصود المسيح عليه السلام التحذير من هؤلاء الأنبياء الكاذبين لا من النبي الصادق الذي له علامات تدل على صدقه، ولذلك قال

بعد ذلك القول مباشرة في إنجيل متى 7 / 16 و17 و20: (16) من ثمارهم تعرفونهم. هل يجتنون من الشوك عنبا أو من الحسك تينا (17) هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارا جيدة. وأما الشجرة الردية فتصنع أثمارا ردية (20) فإذا من ثمارهم تعرفونهم) . ولا شك أن محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء الصادقين كما تدل عليه ثماره وثمار دعوته، ولا قيمة لطعن المنكرين له؛ لأن اليهود أنكروا نبوة عيسى عليه السلام وكفروه، وليس عندهم رجل أشر منه من ابتداء العالم إلى زمان خروجه، وكذا ملاحدة أوروبا أنكروا وجود عيسى واستهزءوا به، وألفوا في ذلك كتبا كثيرة، وانتشرت كتبهم في أنحاء العالم، ويزيد أتباعهم كل يوم في ديار أوروبا، فكما أن إنكار اليهود وملاحدة أوروبا لعيسى غير مقبول عند النصارى وعندنا أيضا، فكذلك إنكار أهل التثليث لمحمد صلى الله عليه وسلم غير مقبول عندنا. 4 - أن أهل الكتاب سلفا وخلفا عادتهم جارية في تراجمهم بأنهم غالبا يترجمون الأسماء ويوردون بدلها معانيها، ويزيدون تارة شيئا بطريق التفسير في متن الكلام الذي هو بزعمهم كلام الله، وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم، ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة، فلو بدلوا في نصوص البشارات المحمدية اسما من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم أو زادو شيئا غامضا فلا استبعاد منهم؛ لأن هذا الأمر يصدر عنهم بحسب عادتهم، ولذلك لا يرجى منهم المحافظة في كتبهم على اسم محمد أو أحمد أو لقب من ألقابه صلى الله عليه وسلم؛ لأن عادتهم الجبلية التغيير والتبديل في كتبهم تغييرا بحيث يخل بالاستدلال حسب الظاهر؛ لتأييد مسألة مقبولة عندهم أو لدفع الاعتراض الوارد

ضدهم، وفرقهم لم يقصروا في هذا الأمر في هذا الأمر في مقابلة بعضهم بعضا، ولا شك أن اهتمامهم بمثل هذا الأمر في مقابلة المسلمين أشد وأقوى، ولذلك نجد أن نصوص البشارات المحمدية التي نقلها القدماء من علماء المسلمين في كتبهم غير موافقة في كثير من الألفاظ للتراجم المشهورة الآن، والسبب أنهم نقلوا من كتب أهل الكتاب المشهورة في زمانهم، ثم وقع التغيير في الألفاظ بعدهم، وقد يكون اختلاف التراجم أيضا سببا في ذلك، لكن الأول هو الراجح، لأننا نرى أن هذه العادة في التغيير جارية في تراجمهم وكتبهم إلى هذا الحين. وفيما يلي نقل بعض البشارات المحمدية من كتب أهل الكتاب:

البشارة الأولى في سفر التثنية أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك

[البشارة الأولى في سفر التثنية أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك] البشارة الأولى: ورد في سفر التثنية 18 / 17 -22: (17) قال لي الرب قد أحسنوا في ما تكلموا (18) أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به (19) ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه (20) وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاما لم أوصه أن يتكلم به أو الذي يتكلم باسمه آلهة أخرى فيموت ذلك النبي (21) وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب (22) فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه) . فالنبي المقصود بهذه البشارة هو محمد صلى الله عليه وسلم، وليس هو يوشع بن نون كما زعم اليهود، ولا هو عيسى عليه السلام كما زعم النصارى؛ لما يلي: 1 - أن اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام كانوا ينتظرون نبيا آخر مبشرا به، فهذا الانتظار دليل قطعي على أن المبشر به غير يوشع الذي كان معاصرا لموسى عليه السلام، وأيضا هو غير عيسى الذي كان حاضرا معهم. 2 - أنه وقع في نص هذه البشارة لفظ (مثلك) ، ويوشع وعيسى ليسا مثل موسى عليه السلام؛ لأنهما من بني إسرائيل، وعلى حسب نص فقرة سفر التثنية 34 / 10 لم يقم في بني إسرائيل نبي مثل موسى الذي كلمه الله وأرسله بكتاب مستقل وشريعة جديدة مشتملة على الأوامر والنواهي والحدود وأحكام الحلال والحرام والغسل والطهارات وغيرها، بينما كان يوشع وعيسى تابعين لشريعته، وكان موسى عليه السلام رئيسا مطاعا في قومه منفذا للحدود ومسلطا عليهم، وليس كذلك عيسى عليه السلام؛ لأن كتابه الإنجيل خال

عن الأحكام والتشريعات، ولم يكن مطاعا في قومه، بل هو بزعم النصارى قتل مصلوبا بأيدي اليهود بعدما كفروه وأهانوه، فلا توجد المماثلة التامة بينه وبين موسى عليهما السلام. 3 - أنه وقع في هذه البشارة لفظ (من وسط إخوتهم) وفي بعض الروايات (من بين إخوتهم) ، ولا شك أن الأسباط الاثني عشر كانوا موجودين في ذلك الوقت مع موسى عليه السلام، فلو كان النبي المبشر به من بني إسرائيل لقال: (منهم) أو (من بينهم) أو (من أنفسهم) أو (من خلفهم) ، وبما أن يوشع وعيسى يرجع نسبهما إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، فهما من بني إسرائيل ولا تصدق فيهما هذه البشارة، والصواب أن المراد بالإخوة هنا هم بنو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، فقد ورد في التوراة إطلاق لفظ الإخوة على نسل إسماعيل ونسل إسحاق، وورد في حق إسماعيل عليه السلام في سفر التكوين 16 / 12: (وأمام جميع إخوته يسكن) . وكذلك في سفر التكوين 35 / 18: (أمام جميع إخوته نزل) . وبما أن محمد صلى الله عليه وسلم من نسل إسماعيل إخوة بني إسرائيل فتصدق فيه هذه البشارة صدقا بينا. 4 - أن هذه البشارة وردت بصيغة الاستقبال؛ لأن لفظ (سوف أقيم) أو (أقيم) أو (يقيم) دال على مستقبل الزمان، فلا يصدق على يوشع فتى موسى الذي كان حاضرا عنده وملازما له، وداخلا في قوم بني إسرائيل. 5 - أنه وقع في هذه البشارة لفظ: (أجعل كلامي في فمه) ، وهو إشارة

إلى أن النبي المبشر به ينزل عليه كتاب، ويكون أميا لا يقرأ في السطور المكتوبة، وإنما ينطق بكلام الله المنزل عليه والمحفوظ في صدره، ولا يصدق ذلك على يوشع الذي لم ينزل عليه كتاب أصلا، وكان يقرأ التوراة من السطور المكتوبة لا من حفظه. 6 - أنه وقع في هذه البشارة: (الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه) ، وفي رواية: (ومن لم يطع كلامه الذي يتكلم به باسمي فأنا أكون المنتقم من ذلك) . ولما كان هذا الانتقام امتيازا لهذا النبي المبشر به عن غيره من الأنبياء فلا يجوز أن يراد بالانتقام من منكر هذا النبي الانتقام الدنيوي بالمحن، ولا الانتقام الأخروي في جهنم؛ لأن هذا النوع من الانتقام الدنيوي أو الأخروي لا يختص بإنكار نبي دون نبي، بل هو يعم الجميع، والصواب أن المراد بالانتقام هنا الانتقام التشريعي بأن يكون هذا النبي المبشر به مأمورا من الله تعالى بالانتقام من المنكرين له، ومجاهدتهم بالسيف، واستحلال دمائهم وأموالهم، وسبي ذراريهم، وهذا يصدق كل الصدق على محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يصدق على عيسى عليه السلام؛ لأنه لم يكن مأمورا بقتال منكريه، وإنجيله خال عن أحكام الحدود والقصاص والتعزير والجهاد. 7 - أنه وقع في هذه البشارة في طبعة سنة 1844م: (فأما النبي الذي يجترئ بالكبرياء ويتكلم في اسمي ما لم آمره بأنه يقوله أم باسم آلهة غيري فليقتل) . وهو نص صريح في أن النبي الكاذب الذي ينسب إلى الله ما لم يأمره به يقتل، وهو

موافق لقوله تعالى في سورة الحاقة آية 44- 46: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ - لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ - ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46] فلو لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم نبيا صادقا لقتل، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام قاتل الأعداء وثبت لهم بنفسه في مواطن كثيرة، ولم يستطع أحد قتله، وعصمه الله تعالى من أعدائه، وعاش حتى التحق بالرفيق الأعلى بوفاة عادية وموت طبيعي، تصديقا لقوله تعالى في سورة المائدة آية 67: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وأما عيسى عليه السلام فيزعم أهل الكتاب أنه قتل مصلوبا، فلو كانت هذه البشارة في حقه للزم أن يكون متنبئا كما يزعم اليهود - والعياذ بالله. تنبيه: بما أن محمد صلى الله عليه وسلم مات موتا طبيعيا ولم يقتل فتصدق فيه هذه البشارة صدقا جليا، فلما تنبيه أهل الكتاب إلى ذلك قاموا بتبديل كلمة (فليقتل) الواردة في الطبعات القديمة، ووضعوا مكانها كلمة (فيموت) في طبعة سنة 1865م وما بعددها؛ إصرارا منهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الموت أعم من القتل، والنبي الصادق والكاذب كلاهما يموتان، ولكن هذا التحريف لنص البشارة لم ينفعهم في صرفها عن الدلالة على محمد صلى الله عليه وسلم لما يلي: 8 - لأن الفقرة (22) آخر فقرات البشارة بينت أن علامة النبي الكاذب أن إخباره عن الحوادث الغيبية المستقبلية لا يكون صادقا؛ لأن الله يفضحه ويظهر كذبه، وبما أن محمدا صلى الله عليه وسلم أخبر عن حوادث مستقبلية كثيرة وظهر فيها صدقه، فيكون نبيا صادقا حقا مرسلا من الله تعالى. 9 - ولأن علماء اليهود المعاصرين له سلموا بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو المبشر

به في التوراة، وبعضهم أسلم مثل: مخيريق وعبد الله بن سلام وكعب الأحبار، وبعضهم سلم بنبوته ولم يسلم مثل: عبد الله بن صوريا وحيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر بن أخطب، ولا غرابة في ذلك؛ لأن علماء اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام سلموا بنبوته ومعجزاته، ثم أفتوا بكفره وقتله كما هو مصرح في إنجيل يوحنا 11 / 45 -57 و18 / 1 -24. اعتراض أول: إخوة بني إسرائيل لا ينحصرون في بني إسماعيل فقط؛ لأن بنو عيسو بن إسحاق إخوتهم أيضا. الجواب: لم يظهر في بنو عيسو بن إسحاق نبي تنطبق عليه الأمور المذكورة في هذه البشارة، ولم يرد وعد من الله لإبراهيم في حق عيسو بن إسحاق، لكن ورد وعد الله لإبراهيم وهاجر في حق ابنهما إسماعيل ونسله في مواضع كثيرة من التوراة. اعتراض ثان: ورد في بعض الطبعات في هذه البشارة لفظ (الرب إلهك يقيم من بينك من بين إخوتك) . فلفظ (من بينك) صريح في أن النبي المبشر به يكون من بني إسرائيل. الجواب: لو سلمنا بذلك لا ينافي مقصودنا؛ لأن قوله (من بين إخوتك) إما بدل اشتمال وإما بدل إضراب، وعلى كلا التقديرين يكون المبدل منه غير مقصود، ويكون المقصود الأصلي لفظ: (من بين إخوتك) ، ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة المنورة، وبها تكامل أمره، وكان بها وحولها عدد من قبائل اليهود مثل خيبر وبني النضير وبني قينقاع وبني قريظة، فكأنه قام من بينهم، وهو في نفس الوقت قام من بين إخوتهم.

فائدة: فيما يلي بعض أوجه المماثلة بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، فكلاهما: (1) عبد الله ورسوله (2) ذو والدين (3) ذو نكاح وأولاد (4) مأمور بالجهاد وبقتل المشركين الوثنيين (5) مأمور بحد الزنا (6) قادر على إجراء الحدود (7) رئيس مطاع في قومه (8) شريعتهما مشتملة على اشتراط طهارة الثوب والبدن للعبادة، والغسل للجنب والحائض والنفساء (9) شريعتهما تحرم غير المذبوح وتحرم قرابين الأوثان (10) شريعتهما فيها تعيين القصاص والحدود والتعزيرات (11) تحريم الربا (12) موتهما على الفراش ودفنهما. وهكذا أمور أخرى تظهر منها المماثلة بالتأمل، ولذلك قال الله تعالى في سورة المزمل آية 15: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل: 15]

البشارة الثانية في سفر التثنية وهذه هي البركة التي بارك بها موسى

[البشارة الثانية في سفر التثنية وهذه هي البركة التي بارك بها موسى] البشارة الثانية: ورد في سفر التثنية 33 / 1 -2: (1) وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته (2) فقال: جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم) . وفي طبعة سنة 1844م وردت العبارة التالية: (استعلن من جبل فاران ومعه ألوف الأطهار في يمينه سنة من نار) . فمجيء الرب من سيناء إعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام، وإشراقه من ساعير إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه السلام؛ لأن ساعير اسم لجبال فلسطين، واسم لقرية من قرى الناصرة، وأما استعلانه من جبل فاران فهو إنزاله القرآن الكريم على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن فاران هي مكة المكرمة، والدليل على ذلك ما ورد في حق إسماعيل عليه السلام في سفر التكوين 21: (20) وكان الله مع الغلام فكبر. وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس (21) وسكن في برية فاران. وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر) . وفي التوراة السامرية المطبوعة سنة 1851م تحديد فاران بأنها في الحجاز، وعبارتها كما يلي: (سكن برية فاران بالحجاز) . ولا شك إن إسماعيل عليه السلام كان مسكنه مكة المكرمة، ولم يظهر فيها نبي بعده غير حفيده محمد صلى الله عليه وسلم، فظهر أن المقصود باستعلان الله من جبل فاران هو نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، لأنه لا يقال: جاء الله من ذلك الموضع إلا إذا نزل فيه وحي من الله، وبما أن الوحي نزل بالتوراة في سيناء، ونزل الوحي بالإنجيل في ساعير (فلسطين) ، فكذا لا بد أن يكون

المقصود هنا نزول الوحي بالقرآن الكريم في مكة المكرمة، وأول شيء نزل من القرآن الكريم كان في غار حراء الذي هو في أعلى جبال فاران، وعبارة طبعة سنة 1844م: (ومعه ألوف الأطهار) ؛ وعبارة بعض النسخ القديمة: (ومعه ألوف الصالحين ومعه كتاب ناري) صريحة في الدلالة على الصحابة الذين نصروا محمدا صلى الله عليه وسلم، وعز الدين بمتابعتهم له وجهادهم معه، فإذا فكر العاقل المنصف من هو النبي المبعوث في فاران ومعه ألوف الأطهار والصالحين ومعه كتاب ناري - الذي ما منه سورة إلا وفيها الوعيد بالنار للكافرين والمخالفين له - علم يقينا أن هذا المبشر به هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولوضوح هذه البشارة في الدلالة عليه وكأنها نص فيه عمد أهل الكتاب إلى حذف عبارة: (ومعه ألوف الأطهار) وعبارة: (ومعه كتاب ناري) من الطبعات الحديثة، فهذه البشارة تدل دلالة صريحة على الأنبياء الثلاثة موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وتدل على الكتب الثلاثة المنزلة عليهم في هذه المواضع الثلاثة المباركة، وهي موافقة لقوله تعالى في سورة التين آية 1-3: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ - وَطُورِ سِينِينَ - وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 1 - 3] حيث أشار لمواضع بعثة الأنبياء الثلاثة؛ لأن فلسطين يكثر فيها التين والزيتون، لكن لما كان المقصود في القرآن التعظيم، تدرج من الأدنى إلى الأعلى، فرسالة موسى عليه السلام أعظم من رسالة عيسى عليه السلام، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من رسالتيهما، وكذلك مكة أشرف وأقدس من فلسطين وسيناء، ولما كان المقصود في التوراة الخبر التاريخي فقط ذكرت هذه المواضع الثلاثة مرتبة على حسب زمان بعثة الأنبياء الثلاثة، فشبه بعثة موسى بمجيء الفجر، وشبه بعثة عيسى بشروق الشمس، وشبه بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بالظهور والاستعلان في كبد السماء الذي هو أوضح من سابقيه، وبه يتم النور على الخلائق ويكتمل، ولم يستعلن دين وكتاب في الأرض ماحيا من ظلمات الشرك والوثنية كالإسلام والقرآن اللذين جاء بهما محمد صلى الله عليه وسلم.

البشارة الثالثة في سفر التكوين ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا

[البشارة الثالثة في سفر التكوين ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا] البشارة الثالثة: ورد في سفر التكوين 17 / 20: (وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا. اثني عشر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة) . ونصها في طبعة سنة 1844م كما يلي: (وعلى إسماعيل استجبت لك هو ذا أباركه وأكثره جدا فسيلد اثني عشر رئيسا وأجعله لشعب كبير) . وورد نصها في بعض التراجم العربية القديمة كما يلي: (وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاك ها أنا قد باركت فيه وأثمره وأكبره بماد ماد) . وقد صرح القاضي عياض في كتابه (الشفا) بأن من أسمائه صلى الله عليه وسلم (مادماد) ، فقوله في البشارة: (وأجعله أمة كبيرة) (وأجعله لشعب كبير) ، بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن في ولد إسماعيل عليه السلام من كان له شعب كبير وأمة كبيرة غير حفيده محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الذي ورد في حقه دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في قوله تعالى في سورة البقرة آية 129: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129] وقد ذكر القرطبي في كتابه (الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام) بأنه يخرج من النص العبري لهذه البشارة اسم محمد صلى الله عليه وسلم في موضعين بحساب الجمل الذي يستعمله اليهود فيما بينهم؛ لأن قوله في الترجمة العربية: (وأكثره كثيرا جدا) وفي بعض الطبعات (جدا جدا) يقابله في اللغة العبرية (بماماد) ، وقوله (لشعب كبير) يقابله (لجوي جدول) ، ويبلغ مجموع حروف هذه الكلمات العبرية بحساب الجمل مجموع حروف كلمة (محمد) ،

وهو اثنان وتسعون، وصورتهما بالحساب المذكور كما يلي: م ح م د 40 - + 8 + 40 + 4 = 92 ب م ا د م ا د 2 - + 40 + 1 + 4 + 40 + 1 + 4 + = 92 ل ج وي ج د ول 30 - + 3 + 6 + 10 + 3 + 4 + 6 + 30 = 92 ولما أسلم الحبر عبد السلام الدفتري في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) صنف رسالة صغيرة، سماها: (الرسالة الهادية) ، وذكر فيها أن أكثر أدلة أحبار اليهود بحرف الجمل الكبير الذي هو حرف أبجد، ورد فيها على اليهود الذين نفوا أن تكون كلمة (بماماد) رمزا لاسم محمد صلى الله عليه وسلم، على ما تعارف عليه أحبارهم وأخفوه فيما بينهم، وضرب مثالا لكيفية استعمالهم هذا الحساب. فوعد الله لإبراهيم وهاجر بتكثير نسلهما من إسماعيل حتى تكون أمة كبيرة وارد مورد المدح والتشريف لإسماعيل، ولا شرف له ولا مدح بكثرة النسل فقط إذا لم يكونوا على التوحيد والإيمان، ولما لم يظهر بعده نبي في مكة يدعو لذلك غير حفيده محمد صلى الله عليه وسلم، فكون إسماعيل أمة كبيرة لم يظهر إلا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أنكر صدق هذه البشارة فيه وتصديق وعد الله بظهوره فليقل لنا أين هي الأمة الكبيرة التي ظهرت لإسماعيل غير الأمة المحمدية؟!

البشارة الرابعة في سفر التثنية فأنا أغيرهم بما ليس شعبا بأمة غبية أغيظهم

[البشارة الرابعة في سفر التثنية فأنا أغيرهم بما ليس شعبا بأمة غبية أغيظهم] البشارة الرابعة: في سياق الحديث من عبادة بني إسرائيل الأوثان ورد في سفر التثنية 32: (هم أغاروني بما ليس إلها. أغاظوني بأباطيلهم. فأنا أغيرهم بما ليس شعبا. بأمة غبية أغيظهم) . ونصها في طبعة سنة 1844 م كما لي: (هم أغاروني بغير إله وأغضبوني بمعبوداتهم الباطلة وأنا أيضا أغيرهم بغير شعب وبشعب جاهل أغضبهم) . ويزيد هذه البشارة بيانا النص التالي من سفر إشعياء 65 / 1 -6، وما كتب بين الأقواس المعقوفة هو من طبعة سنة 1844م: (1) أصغيت إلى الذين لم يسألوا. وجدت من الذين لم يطلبوني. قلت ها أنذا لأمة لم تسم (يدعوا) باسمي (2) بسطت يدي طول النهار إلى شعب متمرد (غير مؤمن) سائر في طريق غير صالح وراء أفكاره (3) شعب يغيظني بوجهي (يغضبني أمام وجهي) دائما يذبح في الجنات (البساتين) ويبخر على الآجر (ويذبحون على اللبن) (4) يجلس في القبور ويبيت في المدافن (وفي مساجد الأوثان يرقدون) يأكل لحم الخنزير وفي آنيته مرق لحوم نجسة (5) يقول: قف عندك (ابعد عني) لا تدن مني لأني أقدس منك (لأنك نجس) هؤلاء دخان في أنفي - رجزي) نار متقدة كل النهار (6) ها قد كتب أمامي (قدامي) لا أسكت بل أجازي أجازي (أرد وأكافي جزاء) في حضنهم) . فالمراد بالشعب الجاهل: العرب؛ لأنهم كانوا في غاية الضلالة والجهل، وهم المقصودون بالذين (لم يسألوا ولم يطلبوني ولم يدعوا باسمي) ؛ لأنهم كانوا غير واقفين على التوحيد الحقيقي لله، ولا عارفين لصفاته وأسمائه الحسنى، ولا عاملين بالشرائع المستقيمة، وما كانوا يعرفون سوى عبادة الأصنام،

فكأنهم ما كانوا سائلين عن الله، ولا طالبين له، ولا داعين باسمه، وفي أودية الضلال يهيمون، كما قال تعالى في سورة آل عمران آية 164: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] ومثلها في سورة الجمعة آية 2 قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2] وكان اليهود يحتقرون العرب لكونهم أولاد الأمة هاجر، ولجهلهم بالله وضلالتهم، ويرى اليهود أنفسهم أنهم يمتازون عن العرب بكونهم أولاد الحرة سارة، وفيهم الأنبياء والكتب والتشريع، ولكن بني إسرائيل بقتلهم الأنبياء، وانحرافهم عن التوحيد، وعبادتهم آلهة الأمم الوثنية وتقديم الذبائح لها أغضبوا الله تعالى، فشاء سبحانه أن يغيظهم بنقل النبوة منهم، وباصطفاء العرب الذين هم في نظرهم محقرون وجاهلون، فكانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة الأمية، وإنزال الكتاب والحكمة عليه لهدايتهم إلى الصراط المستقيم - أكبر درجات الإغاظة لبني إسرائيل. وإننا إذا تتبعنا تاريخ اليهود وجدنا أن أكثر أمة أغاظت اليهود هي أمة العرب بعد البعثة المحمدية؛ لأنه وإن كان الفرس والروم قد دمروا مملكة اليهود في فلسطين وسبوهم أكثر من مرة، إلا أنهم لم يظهر فيهم كتاب ونبوة تقابل نبوة موسى وكتابه، تكون سببا لغيظ اليهود وحقدهم وغيرتهم، أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد سبت اليهود وأذلتهم، وأورثها الله الكتاب والنبوة بعد انقطاعها في بني إسرائيل،

حتى نافق اليهود للعرب وتملقوهم وخافوهم، ولا شك أن في هذا غاية الإغاظة والإغارة لبني إسرائيل. ومن فسر هذه البشارة بنبوة المسيح عليه السلام فلا يلتفت إلى تفسيره؛ لأن المسيح من بني إسرائيل وفيهم أرسل، ولا يغار الإنسان من بنيه، لكنه قد تحصل له الغيرة من بني إخوته وبني أعمامه، وبخاصة إذا كانوا في نظره محتقرين، ثم إن وصف الجهالة والأمية لم يكن يصدق على أية أمة إلى نهاية القرن السادس الميلادي إلا على العرب؛ لأن القراءة والكتابة وعلوما أخرى كانت معروفة في أمم ذلك الزمان ماعدا الأمة العربية، فكأن هذه البشارة نص فيهم وفي النبي المبعوث منهم محمد صلى الله عليه وسلم. والبشارات التي في كتب أهل الكتاب كثيرة، بعضها بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبعضها فيها إشارة لأمته، أو إشارة للوحي المنزل عليه، أو إشارة لجهاده، أو إشارة للتسبيح والأذان، أو إشارة لمكة المكرمة، أو إشارة لاتساع رقعة الإسلام، وبعض البشارات أوردها المسيح عليه السلام بأمثال مضروبة، كما نقلتها الأناجيل.

الخاتمة

[الخاتمة] الخاتمة أحمد الله تعالى الذي أعانني على إتمام هذا المختصر، وأسأله سبحانه أن يجعله عند حسن ظن الإخوة الكثيرين الذين أشاروا على بهذا العمل الجليل، كما أسأله سبحانه أن يجعله نافعا للقارئ الباحث عن الحق. أيها القارئ الكريم: إن هذا الكتاب قد كشف لك حقيقة كتب العهدين، وأثبت أن أهل الكتاب لا يوجد عندهم سند متصل لأي كتاب من كتب العهدين القديم والجديد، وأن هذه الكتب فاقدة لصفة الوحي والإلهام، فهي مليئة بالاختلافات والتناقضات والأغلاط والتحريف. كما أن هذا الكتاب أبطل عقيدتي التثليث وألوهية المسيح، وأثبت بما لا يدع مجالا للشك في أن المسيح بشر مخلوق، وأنه عبد الله ورسوله. وفي هذا الكتاب رد على الشبه التي يثيرها المنصرون والمستشرقون ضد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فهناك أمور تدل دلالة قطعية على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بشرت به كتب أهل الكتاب، ورغم التحريف الواقع فيها فالبشارات الواردة في هذه الكتب لم يظهر تصديقها إلا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فكأنها نص صريح على أنه نبي صادق، وأنه رسول الله إلى العالمين. فيا أيها اللبيب العاقل، اترك التعصب والهوى، واختر لنفسك الدين الذي رضيه الله تعالى للناس كافة {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] اللهم نجنا من سوء الاعتقاد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

§1/1