محمد في التوراة والإنجيل والقرآن

إبراهيم خليل أحمد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: محمد في التوراة والإنجيل والقرآن المؤلف: الشيخ / إبراهيم خليل أحمد (من كبار علماء النصارى مَنَّ الله عليه بالإسلام) الناشر: دار المنار - 1409 هـ - 1989 م عدد الأجزاء: 1 تنبيه: [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ.

تقديم للمؤلف

تقديم للمؤلف الحمد لله الذي هداني للإسلام ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً، والصلاة والصلام على سدينا محمد وعلى آل بيته أجمعين ... أما بعد: فقد نشأت نشأة دينية، وكان طبيعياً أن خصصت حياتي وجهادي ومالي في سبيل الله مخلصاً متفانياً ابتغاء مرضاته. والله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان وفضله على سائر خلقه بما حباه وكمله بنعمة العقل والقدرة على التعقل والإدراك، وكان لهذا حقاً لله سبحانه أن يخاطب الإنسان على ما يفعله إن كان خيراً فخير، وإن شراًَ فشر. والله سبحانه وتعالى تمكيناً للإنسان من العزة وبالعقل لم يفرض كيانه فرضاً سواء أرضى أو لم يرض، بل توخى هبته للإنسان من العقل، ومن العقل أراد أن يدخل إلى قلب الإنسان بالإيمان، لهذا قيل في الإنجيل للباحثين عن الحق: "وتعرفون الحق والحق يحرركم". وفي هذا المعنى يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم" [رواه أحمد وابو داود والترمذي] ويقول تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} بَلْ يتجه الله جل شلأنه إلى أُلئك الذين لم ينهموا بنعمة البصر فيستلهمهم البصيرة بقوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} . وهكذا يهدي الله الإنسان إلى الطاقات العظمى لنعمة العقل لتكون أساس الإيمان. والتاريخ شاهد صدق كل رجال من كبار اللهوتيين الذين نشدوا الحق واستبسلوا له، فهذا آريوس في القرن الثالث الميلادي الذي استبسل لعقيدته عن المسيح عليه السلام بما يتقارب مع عقيدة المسلم عنه. وذاك لوثيروس الذي نادى بالإصلاح الديني وحمل لواء الإصلاح في عزم وتصميم

ونادى بأن الله وحده هو الغفور الرحيم وأن البشر جميعهم سواسية أمامه لا فضل لكاهن على مواطن بالتقوى. وفي هذا يقول نبي الله داود عليه السلام: "باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته، الذي يغفر جميع ذنوبك، الذي يشفي كل أمراضك" بل يؤكد أن الغفران لله جل شأنه وحده فيقول: " عند كثرة همومي في داخلي تغرياتك تلذذ نفسي". وبهذا يخلص إلى الحقيقة التي يؤمن بها المسلم والتي يوضحها قول داود عليه السلام: "كنت تراقب الآثام يارب يا سيد فمن يقف. لأنه عندك المغفرة لكي يخاف منك". إذن الطريق إلى الله واضح العالم، والوصول إليه رائده المنطق والعقل، والرسالات السماوية جميعها تناشد الإنسانية ما قاله المسيح عليه السلام: "الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" وفي هذا المعنى يقول سبحانه وتعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} والذي حفزني إلى البحث بغية النفع العام هو ما تنبأ به المسيح عليه السلام عن الرسول الكريم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا. لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره" ومن دواعي الاطمئنان واليقين، أن هذا السند يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقوله تعالى: {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} من هنا بدأت في اطمئنان ويقين تام أبحث عن هذا الرسول النبي الأمي الذي تنبأ عنه المسيح عليه السلام وأشار إليه بقوله، "المسيا المنتظر"

ومن هنا بدأت أربط بين رأي آريوس في القرن الثالث الميلادي، وآراء لوثيروس في القرون الوسطى، والنبوءات العديدة في التوراة والإنجيل، والأنبياء والمزامير عن الرسول المصطفى حتى مكنني الله من إخراج هذا المؤلف الطيب لأمة خيرة. وكان ما استرعى نظري عن الإعداد لهذا البحث العناصر الآتية: 1 - الوحدانية. 2 - الغفران. 3 - المبادئ وتقويمها بالأشخاص. 4 - الرسالات السماوية. 1 - الوحدانية. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وأخذت أتامل الوحدانية في القرآن الكريم، الأمر الذي يستطيع العالم وغير العالم فهمه واستيعابه وإدراكه والإيمان بما يتضمنه من المعاني، من غير إجهاد الفكر، أو عناء الدرس والتحصيل. وقارنتها بالوحدانية التر وردت في إنجيل متى في الباب الأول والعدد الأخير: الآب والابن والروح القدس "إله واحد آمين" وعند دراستي النص الأصلي علمت أن هذه العبارة لم ترد في الأصل اليوناني. هذا بالإضافة إلى بلبلة أفكار عامة الناس وحيرة جهابذة العلماء في الدفاع عن هذه العقيدة السقيمة التي كشف التاريخ عنها القناع. وأكد العلامة جارسلاف كرينى أستاذ الحفريات من جامعة أكسفورد في كتابه "ديانة قدماء المصريين" أن عقيدة التثليث مستمدة من الوثنية الفرعونية. 2 - الغفران: قرأت بتأمل وتقكر قوله تعالى:

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وقارنت بين هذه الآية وما ورد في الإنجيل عن الغفران: "بدون سفط دم لا تحصل مغفرة"، وبالقول: "هكذا أحب الله حتى بذل ابنه الحبيب لكيلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية". قارنت بين العقيدتين: الأولى: أن رحمة الله ومغفرته تكون لعباده دون قيد أو شرط مادي. الثانية: أنها مقيدة بقيود من جانب الله ببذل ابنه الحبيب حسبما يعتقدون، ومن جانب المرء بضرورة الإيمان بهذا الابن. ومن هذه العقيدة نشأت فريضة كنسية تعرف بسر الأفخار ستبا، أو سر الشكر، وفيخا يؤمن المسيحي باستحالة الخبز إلى جسد المسيح، واستحالة الخمر إلى دم المسيح حقيقة، وبتناولهما تصير في حياة أبدية. ومن هذه العقيدة نشأت صكوك الغفران، وما أدراك ما صكوك الغفران! إنها بدعة وخروج عن الحق الإلهي، وكم ندد بها زعماء الإصلاح في القرن الخامس عشر وعلى رأسهم لوثيروس الألماني ثك زوينجلي ثم كلفن وغيرهم. فحمدت الله على رحمته الواسعة ومغفرته اليقينة بدون قيد ولا شرط مادي، بل بتوبة صادقة وعزم على الحياة الطاهرة: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [صدق الله العظيم] 3 - المبادئ وتقويمها بالأشخاص: قرأت قول الله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وقرأت ما جاء بالإنجيل: "إذن لسنا أولاد جارية، بل أولاد حرة". وزال عني العجب للتفرقة العنصرية عند الأمرييكن في أيامنا هذه بين البيض

والسود، وزاد إعجابي وإجلالي للمسلمين أن سيد القوم يقف بجانب المواطن العامل والمزارع والتاجر والموظف، كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، راكعين، ساجدين يخشون ربهم ويرجونه الرضا والعفو، فأيقنت أن مجد الإسلام والمسلمين في هذا التساند الجميل، والتآخي الحبيب، "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى". 4 - الرسالات السماوية: قرأت قول المسيح عليه السلام، ومثاله: "خرج الزارع ليزرع وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق" وقرأت كتابة بولس. ومثاله: "فإني أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن ولكني أرى قاموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعشائي، ويحى أنا الشقي من ينقذني من جسد الموت هذا؟! ". قولان: أحدهما للمسيح يمتاز بالبساطة ووضوح التعبير، وثانيهما يمتاز بعمق وغور المعاني، وكلاهما ينسب إلى الله جل شأنه. وقرأت في القرآن الكريم قوله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ... } . وما قبل فاتحة القرآن الكريم إلى قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ} إلخ السورة، وتأملت وتدبرت، وإذا بالله العزيز الحكيم يحسم الأمر بقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} ثم يتحدى الله خلقه بقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . فازددت إيماناً ورسوخاً، وقرتت قراراً، واعتزلت الخدمة الدينية وظيفة، وانتهجت نهج الأعمال الحرة. فعملت بشركة استندر ستيشيزي بالقاهرة من سنة 1955 إلى سنة 1959 لكسب عيشي بالحق والأمانة، ومازالت تربطني بالكنيسة روابط كثيرة. ويشاء الله أن يهيدني إليه، أليس هو القائل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} ، {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} .

ويشاء الله أن يعقد بيني وبينه حباً ووداً قائماً، فيهدي إلى سيادة الدكتور محمد عبد المنعم الجمال حيث تلاقينا على تفسير القرآن الكريم، فوسعني في قلبه حباً، وإعجاباً، ووسعني بمنزلة منزلة وكرامة في دراسة وتفسير للقرآن الكريم، وآليت على نفسي أن أعلنها صراحة بقبول الإسلام ديناً، وبراءتي من كل دين يغاير ويخالف دين الإسلام. ودخلت وأبنائي الأربعة إلى دين الله أفواجاً، نسبح بحمده وتمت كل الإجراءات القانونية من تغيير شهادات الميلاد بموجب قرار وزاري صادر من وزارة الصحة قسم المواليد بتاريخ 30/5/1960 م. وبهذا انتهيت من الجهاد لاعتناق الإسلام حيث بدأت الجهاد في سبيل الله ورسوله الكريم بحياة إسلامية مضيئة مشرقة نقية طاهرة، وبالدعوة القوية المفعمة بالحب والإخلاص للقرآن الكريم والإسلام الحنيف. وفقنا الله لما يريد، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين. إبراهيم خليل أحمد سابقاً: القس إبراهيم خليل فيلبس * * *

تقريظ للمغفور له الأستاذ علي حسب الله

تقريظ للمغفور له الأستاذ علي حسب الله الأستاذ بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة (سابقاً) {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، أرسله الله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله، ففتح به قلوباً غلفاً، وأعيناً عمياً، وارتفع شأنه وعلا ذكره بأولئك الطيبين الطاهرين، الذين سبقوا إلى الإيمان به، ونصروا الرسول بأموالهم وأنفسهم، فسجل الله ذكرهم في كتابه الكريم. {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {سَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} لقد أرسل الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بقواعد الحق، ومبادئ الفطرة السليمة، التي تصلح بها أمور الناس في الدنيا والآخرة، والتي يتقبلها العقل البشري بقبوب حسن إذا بعد التأثر برواسب الجهل، وبواعث الانحراف والضلال، ومن تقليد الآباء، والاعجاب بمظاهر دنيوية لا تمت إلى الحق والخير بصلة، وإذا أراد الله بعبد من عباده الخير والهداية بصره بما في الحق من جمال وانسجام، وبما في تلك العوامل والبواعث من انحراف عن الصراط المستقيم، واتجاه إلى سوء المصير، فسلك إلى الحق طريقه، وبعد عن طريق الهلاك:

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} والأخ السيد "إبراهيم خليل أحمد" من المثل الطيبة للتحول من الضلال إلى الهدى بتوفيق من الله تعالى، وبدارسة عاقلة بصيرة، وهو من الأدلة الصادقة على أن توجه إلى الله قبله، ومن تقرب إليه شبراً تقرب الله منه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب منه باعاً. لقد أثار العليم الخبير وجدانه بآية سمعها من كتابه الكريم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} فكانت مصباحاً أضاء جوانب قلبه، ووجهه إلى البحث عن الحقيقة، فأخذ يصارع - بإرادة قوية، وعقل واع، ونية طيبة - عقيدة قديمة، تغلقت بقلبه منذ وجد عليها الآباء وقد بوأته متعباً وجاها، وأغدقت عليه رزقاً حسناً، واستمر في ضالة العقلي والنفسي دون أن يلويه عن غرضه منصب أو جاه، أو يفكر فيما هو فيه من سعة الرزق، وما يمكن أن يصير إليه من حاجة. حتى شرح الله صدره وهداه إلى دين الحق أغناه عن كل ما كان فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} لقد رأى من أول الواجبات عليه أن يضع تحت سمع الناس وبصرهم ما وفقه الله إليه من دلائل الحق ومعالم الهدى، فقد يهدي الله به رجلاً واحداً فيكون خيراً له من الدنيا وما فيها، فجعل باكورة عمله في الإسلام ذلك الكتيب، الصغير في حجمه، والكبير في قيمته: "محمد - صلى الله عليه وسلم - في التوراة والإنجيل" لينبه به الغافلين، ويحفز إلى التفكير همم العاقلين.

وكان من أظهر ما وجه إليه الأذهان في هذا الكتيب أمور تعتبر في الدين من أصول العقيدة والسلوك المستقيم، وهي من الوضوح بحيث لا ينبغي أن يماري فيها عقل الإنسان، ومن هذه الأمور: 1 - وحدة الإله: إن وجود هذا الكون - بما فيه من نظام محكم، وتناسق دقيق - يقتضي عقلاً وجود موجد متصف لكل صفات الكمال التي تلائم دقة نظامه وأحكام تناسقه، وهذه قضية سهلة لا التواء فيها، ومن زعم أن الكون لا خالق له، فهو مكابر، يعترف بالأثر وينكر المؤثر. ومن زعم أن له أكثر من خالق فعليه الدليل، ولن يجد دليلاً على وجود معدوم، وإذا لم نكن مطالبين بإقامة الدليل على نفي التعدد، لأن المطالب بالدليل هو المثبت لا النافي - فقد تفضل العليم الحكيم على المنحرفين القائلين بالتعدد بالتنبيه على ما في مقالتهم من فساد بقوله سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وبهذا يتقرر في العقل ما قرره القرآن الكريم في قوله سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ويقابل هذه العقيدة السهلة السمحة في الإسلام - عقيدة التثليث المعقدة في المسيحية، التي تنزل الله من عليائه ليحل في بعض خلقه، أو ترفع بعض المخلوقين إلى منزلة الخالق، مما يبلبل أفكار عامة الناس، ويحير جهابذة العلماء. وقد بين السيد إبراهيم في بحثه أن هذه العقيدة دخيلة على المسيحية، وليس لها وجود في الأصل اليوناني للإنجيل، بل هي مأخوذة من الوثنية الفرعونية، والمبادئ البابلية التي وجدت في لوحة أثرية عثر عليها في بابل، ويرجع تاريخها إلى سنة 1200 ق. م ولم تقرر هذه العقيدة عند المسيحيين إلا في مجمع نيقية المنعقدة سنة 325 م م بدعوة من الإمبراطور قسطنطين بسبب الخلاف بين الأسقف آريوس والشماس أثناسيوس الإسكندريين. قال الأسقف: إن المسيح مخلوق لله، ومتصف بكل الصفات الإنسانية وتعتريه كل العواطف البشرية، من نوم ويقظة، وفرح وحزن، وغير ذلك، فلا يكون إلهاً بحال.

وقال الشماس: إن المسيح ابن الله، والابن لابد أن يكون مساوياً للأب، لأنهما من عنصر واحد، فلابد أن يكون المسيح إلهاً مثل أبيه. وقد صدر قرار بإدانة الأسقف، لأن فكرته تقلل من شأن المسيح، كأن المسيح لا يرتفع شأنه - وهو بشر - إلا إذا وضع - برغم أنف العقل والنصوص الدينية - في مصاف الآلهة. وفي سنة 334 دعا الإمبراطور قسطنطين إلى مجمع صور، الذي قرر إلغاء قرارات مجمع نيقية، وعفا عن الأسقف، وقبل تعاليمه. ثم مازالت المجامع تنعقد، وتقرر القرارات المختلفة - مما يدل على اضطراب العقيدة وعدم اعتمادها على أساس - حتى انقسم المسيحيون بسبب قرارات مجمع القسطنطينية الرابع سنة 869 م - قسمين، وأصبح لهم كنيستان: شرقية أرثوذكسية بالقسطنطينية، وغربية كاثوليكية بروما، ثم كانت حركة مارتن لوثر سنة 1517م التي نشأت بسسها كنيسة ثالثة بروتستانتية بألمانيا، انتقلت بعد إلى انجلبترا والولايات المتحدة. وقد اكتشفت حديثاً فوق هضبة بجوار البحر الميت - مخطوطات يرجع تاريخها إلى سنة 100 ق. فيها معلومات تصحح الفكرة الخاطئة عن ألوهية المسيح عليه السلام، وقد أرسل الدكتور تريفور صورة منها إلى الدكتور و. ف. ألبرايث - وهو حجة في علم آثار الإنجيل فهنأه على هذا الكشف، وقال: إنه " لا يشك أحد في العالم في صحة هذه المخطوطات التي ستحدث ثورة في فكرتنا عن المسيحية". ويؤخذ من هذه المخطوطات أن عيسى عليه السلام ابن الإنسان وليس ابن الله كما ادعى أتباعه من قبل. 2 - غفران الذنوب: يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}

ويقول سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} ويقول الله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفي الحديث القدسي أن رب العزة جل جلاله يقول: "يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، وبهذا كان باب التوبة في الإسلام مفتوحاً لكل من يطرقه من بني الإنسان، وتقبل توبة التائب - بندمه على ما فرط منه، ومعاهدته ربه على عدم العودة إلى ما يغضبه، ولا تتوقف على شيء من غيره. أما في المسيحية "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" و"أحب الله العالم حتى بذل ابنه الحبيب لكيلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية"، وهو كلا تظهر عليه مسحه الوضع البشري، لاستهواء أفئدة العامة، وحملهم على حب المسيح، والإيمان به. ولا يدري عاقل كيف يصل العجز بالإله إلى الحد الذي لا يستطيع معه أن يغفر للبشر إلا بتقديم ابنه الحبيب قرباناً، فإلى من يتقرب؟ وإلى من يتقدم بالرجاء؟ وكيف تغفر ذنوب السابقين واللاحقين بتقديم ابنه قرباناً؟ وهل هذا إلا فتح لباب المعصية في المستقبل اعتماداً على هذا الغفران؟ وقد نقل إلينا إبراهيم في هذا الموضع كلام العلامة روى ديسكون سميث في كتابه "ضوء جديد على البعث" إذ قال: "لا يوجد متدين مهما كان مذهبه أو فرقته يعتقد أن الله العظيم قد أرسل ابنه الوحيد إلى هذه البشرية التي لا تساوي - في مجموعها منذ بدء الخلق إلى نهايته - كوكباً من الكواكب المتناهية في الصغر، لكي يعاني موتاً وحشياً على الصليب، لترضيه النقمة الإلهية على البشر، ولكي يساعد جلالته على أن يغفر للبشرية على شرط أن تعلن البشرية اعترافها بهذا العمل الهمجي - ألا وهو الفداء - الذي لا يستسيغه عقل ... ولماذا لا نقول: إن الله العالم بما سيكون سمح بتضحية رسوله لا ليغفر للبشرية جرائمها، بل لتكون هذه الحادثة سبباً في انتشار الإنجيل".

وقد ذكر السيد إبراهيم أن الصليب اتخذ شعاراً منذ آلاف السنين قبل المسيح عليه السلام، وجاء في إنجيل برنابا - أن المسيح عليه السلام لم يقتل ولم يصلب، وإنما وقع القتل والصلب بشبيه به، وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - متى جاء سيكشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله، وقد نفى القرآن الكريم ذلك حقاً في قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} 3 - المساواة بين الناس: يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ويقول الرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم". ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "لا فصل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود - إلا بالتقوى" فالقياس الذي يتفاضل به الناس عند الله هو التقوى والعمل الصالح، أما الجنس واللون فلا أثر لشيء منهما في رفعة شأنهم أو ضعته. أما الأناجيل الموضوعة فقد ورد فيها تفاخرهم بأنهم أولاد حرة لا أولاد أمة: "إذن لسنا أولاد جارية، بل أولاد حرة". ولا يزال لهذا المعنى رواسب في نفوس القوم إلى اليوم، يظهر أثرها في التفرقة العنصرية في أمريكا وجنوب أفريقيا. 4 - البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} وقد بين السيد إبراهيم أن هذه البشارة وردت في التوراة والإنجيل. وردت في التوراة في قوله: "أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، لأجعل كلامي

في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به" وهي عبارة مجملة، فسرها اليهود بمجئ رسول منهم، لا من ولد إسماعيل، وكأن الله تعالى جعل هذه العبارة مجملة، وألهمهم هذا التفسير حفظاً لهذه البشارة، لأنهم لو عرفوا أن الرسول المبشر به سيكون من ولد إسماعيل لأخفوها أو محوها وقد أثبتت الأيام أن الرسول المبشر به هو محمد - صلى الله عليه وسلم -. ورد في الإنجيل ما يدل على انتقال النبوة من ولد إسحاق إلي ولد إسماعيل في قوله: "الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا، وهو عحيب في أعيننا، كذلك اقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم، ويعطي لأمة تعمل أثماره". والحجر الذي رفضه البناءون كناية عن إسماعيل عليه السلام جد محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبهم البناء فيقولون: ألا وضعت ها هنا لبنة ليتم البناء؟ فأنا اللبنة جئت فختمت الأنبياء". وقال المسيح عليه السلام للحواريين: "إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون الآن أن تحتملوا وأما مت جاء ذاك - روح الحق - فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آيته". ويؤخذ من المخطوطات التي عثر عليها بجوار البحر الميت كذلك أن عيسى كان مسيا المسيحيين وأن هناك مسيا آخر سيأتي بعده، وقد قال عنه المسيح: "ومتى جاء المعزى - البار قليط - فهو يشهد لي". ومحمد - صلى الله عليه وسلم - هو الذي جاء بعده، فشهد له وأنصفه، ودافع عنه وعن العقيدة الصحيحة التي جاء بها. وقد جاء في إنجيل برنابا - الذي استبعدته الكنيسة في عهدها الأول، وحرم البا جلاسيوس قراءته سنة 492 م - ما يؤيد هذه المخطوطات ما فيها من إجمال قال: "فلما كان الناس قد دعوني الله، وابن الله - على أني كنت بريئاً في العالم - أراد الله أن يهزأ الناس في هذا العالم بموت يهوذا معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله،

الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمونون بشريعة الله". وبهذا تكون البشارة في الإنجيل المختلفة مطابقة للبشارة في التوارة، فللبشرية نبي كموسى، من وسط إخوتهم، وينزل عليه كتاب يكلم الناس بما فيه، وهو روح الحق، لا يتكلم من نفسه، بل بما يوحى به إليه، وصدق الله العظيم في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} ومهما أخفى القوم من الأناجيل الصحيحة فإن القرآن الكريم قد تكفل ببيان ما لابد من بيانه مما أخفوا، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهكذا يسلط السيد إبراهيم خليل الأضواء على أشهر مواضع الخلاف بين الديانتين المسيحية والإسلامية بخبرته السابقة، ويستخلص الحق فيما وقع فيه الخلاف، مؤيداً ما اهتدى إليه بالعقل والنقل، ومبيناً منشأ ما عليه القوم من انحراف في العقيدة، وأن الحكام وبعض رجال الدين أرادوا بتضليلهم الولاية على الشعب واستغلاله. والله ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. علي حسب الله.

تقريظ للمغفور له الشيخ عبد الحليم محمود علي شيخ الجامع الأزهر السابق

تقريظ للمغفور له الشيخ عبد الحليم محمود علي شيخ الجامع الأزهر السابق: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله وصحبه والتابعين، وبعد: فقد طوف بنا الأخ الفاضل الأستاذ إبراهيم خليل أحمد، على مراحل التحريف للدين المسيحي مستنداً لها بأسانيد تاريخية ودينية في عرض مقارن. وخلص من كل ذلك إلى دين الحق الذي يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وليحق الحق، ويبطل الباطل ولو كره الكافرون. ولقد تحدث سيادته عن دخوله في الإسلام بعد أن تداركته عناية الله، إذ سمع قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} فشرح الله صدره للإسلام، وأخذ يبحث في قضايا الوحدانية، والغفران وتقييم المبادئ بالأشخاص، والرسالات السماوية في عرض مقارن. وهو في هذا العرض التاريخي الدقيق المستند إلى النصوص والوثائق الصحيحة والمنطق العقلي يؤيد الإسلام تاريخياً فيما أتى به القرآن وحياً من السماء. وممن أثبت هذا من علماء الغرب بصورة واضحة سافرة، الأستاذ (شارل جنيبير) أكبر أستاذ لتاريخ الأديان في فرنسا، مع أنه من أسرة مسيحية، وكتبه مشهورة معروفة، ومكانته العلمية ذائغة شائعة.

وإننا أمام هذه الرسالة القيمة، لنشكر الأستاذ إبراهيم خليل أحمد، فلقد وفق كل التوفيق في إخراجها للناس إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل في حيدة تامة، لك يكن مدفوعاً بدوافع عاطفية أو مادية، وإنما كان من عشاق الحق لذاته، غير مبال بما يصيبه في سبيله. ونرجو الله تعالى أن يديم له التوفيق والرشاد. وقد بين أن التثليث دخيل على المسيحية الحقة، وأنه مستورد من الوثنية الفرعونية، كما صرح بذلك الأستاذ (جارسلاف كرينى) أستاذ الحفريات بجامعة (أكسفورد) في كتابه (ديانة قدماء المصريين) وأن هذا التثليث لم يوجد في الأصل اليوناني. وصكوك الغفران، واستحالة الخبز إلى جسد المسيح عليه السلام، خروج عن الحق الإلهي، كما صرح بذلك زعماء الإصلاح في القرن الخامس عشر، وعلى رأسهم: (لوثيروس الألماني) وبشرت التوراة بالرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -. ففي سفر التثنية 33: 3 "جاء الرب من سيناء، اشرق لهم من سعير، تلألأ من جبل فاران". وتلك هي الرسلات الثلاث: لموسى وللمسيح، ولمحمد عليهم جميعاً أفضل الصلاة والتسليم. وهذا مصداق قوله تعالى في القرآن الكريم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} . لأن منبت التين والزيتون مهجر إبراهيم. ومولد عيسى عليهما السلام، وطور سيناء مكان مناجاة الله تعالى لموسى عليه السلام، وفاران في مكة: مولد الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -. وجاء في أسفار الأنبياء عليهم الصلاة: أنه - صلى الله عليه وسلم - روح الحق، والفارقليط، والمعزى، وأنه لا يتكلم إلا بما سمع من الله تعالى، وأنه اساس الحق ورأس زاويته، وهو البار الذي تنبأت به زوجة الوالي الروماني. والمخطوطات والآثار القديمة، تثبت بشرية المسيح ووحدانية الله، ومجئ محمد عليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد صرح إنجيل برنابا بذلك كله.

وكلمة (مسيا) آرامية معناها (رسول) وعند مجئ الرسول علية الصلاة والسلام يسجد العالم شكراً وسيجعل كل سنة هذا اليوبيل بدل كل مائة سنة، وهذا الذي قاله برنابا معناه: الحج في الإسلام وهو الركن الخامس منه. وكلمة (إنجيل) معناها: بشرى، لأن المسيح عليه السلام جاء مبشراً بقدوم محمد عليه السلام. وتعاليم المسيح عليه السلام تهدم التعصب الطائفي والعنصري كما جاء في قصة الكاهن الذي مر عليه وتركه، ولقد صرح الأسقف الإسكندري (آريوس) بأن المسيحية قد حرفت بما دخل عيلها من المبادئ الفلسفية المستوردة من الهند والصين وفارس، ومصر، فلم يبة إذ غير الرجوع للحق ولدين الحق الذي تكفل الله بحفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ولي أجمل من هذا ولا أحسن: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} . وبالله التوفيق. عبد الحليم محمود علي * * *

تقريظ لفضيلة الشيخ محمد الغزالي السقا

تقريظ لفضيلة الشيخ محمد الغزالي السقا مدير الدعوة بوزارة الأوقاف "سابقاً" دراسة الملل والنحل جزء مهم من ثقافتنا الدينية القديمة ... ودراسة النصرانية خاصة وكتبها المقدسة لديها موضوع احتذب انتباه العلماء المسلمين وكثرت فيه مؤلفاتهم. ولا عجيب، فإن العلاقات بين الإسلام والنصرانية ظلت متشابكة ومعقدة منذ أمد طويل. ومن المحزن أن تسفك فيها دماء كثيرة. وكان أولى بالفريقين أن يقبل كل على ما لدى الآخر يدرسه بعناية وتمحيص ثم يدع للفكر المجرد أن يصدر حكمة، وللرغبة الخالصة أن تأخذ وجهتها. ونحن - المسلمين - غير مسئولين عن الطريقة الدامية التي سارت فيها العلاقات العالمية بين الإسلام والصليبية. إن الحقد التقليدي جزء من السياسة الأجنبية نحو الإسلام. أما الإسلام فهو يقول لأتباعه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} لكن ما الذي أنزل إلى أهل الكتب الأولى؟ أن المواريث السماوية بين أيدى القوم تحتاج إلى تأمل وطول نظر ففيها كلام حسن عن الله الواحد، وعن وصاياه للعالمين بالاستقامة والتقوى.

وهذا الكلام يستحق القبول والعناية. بيد أن هناك كلاماً آخر يشعر الإنسان الحصيف بقلق عندما يتلوه، ذاك الذي ينسب إلى الله الكبير صفات تتنزه عنها ذاته العليا ... ثم ذاك الذي يؤرخ لأنبياء الله وهم قمم الإنسانية من أزلها إلى أبدها - فيبرزهم وكأنهم خريجو حانات وأحلاس شهوات. وشيء آخر لا يعود إلى هذه الكتب قدر ما يعود إلى أصحابها وهو تراطؤهم على جحد العروبة ونبيها الخاتم لما سبق، صاحب الرسالة التي قدر الله أن تصحب العالم في مراحل وجوده حتى الحصاد الأخير للنشاط الإنساني فوق الأرض. إن إنكاره نبوة محمد صلوات الله عليه وتناسى دلائلها الثابتة في الكتب المقدسة عند القوم شيء مستغرب. ومن حق الباحث المسلم أن يجلو غوامضه. وقد وفق الله الأخ المخلص السيد إبراهيم خليل أحمد إلى تأليف هذه الرسالة في هذا الموضوع، وسيادته خبير به، بل خبير بالعهد القديم والعهد الجديد. وعندي أن صحاب الدراسات الإسلامية لا يستكملون ثقافتهم حتى يطلعوا على أمثال هذه الرسائل ويتعرفوا منه ما لدى الآخرين من ثراث يقترب منا أو يبتعد عنا. وفق الله المؤلف الفاضل إلى خدمة الحق وأجزل مثوبته. 3/11/1963 محمد الغزالي

رؤية مستنيرة لأسرار إسلامي

رؤية مستنيرة لأسرار إسلامي بقلم / إبراهيم خليل أحمد القس إبراهيم خليل فيلبس/ سابقاً في ذروة العمل الديني كقسيس راعي الكنيسة الإنجيلية، وأستاذ العقائد واللاهوت بكلية اللاهوت الكندية بأسيوط، وزميل للمراسلين الأمريكيين والسويسرسسن والألمانيين بمصر، وكضالع معهم في الحركة التبشرية. من قمة هذا العمل بدأت دراسة مقارنة للإسلام مع المسيحية من عام 1955 حتى 25/12/1959 عندما أعلنت إسلامي للمرسلية الأمريكية بمصر ثم اتخذت الإجراءات القانونية لإشهار الإسلام وكان عمري وقتئذ 40 سنة واليوم قد بلغت: 13/8/1982 - 13/1/1919 = 63 سنة، وسبعة شهور. يسعدني أن اقدم كتابي محمد - صلى الله عليه وسلم - في التوراة والإنجيل والقرآن، في طبعته الخامسة وأقرر من قمة هذا العمر أن الآيات الكريمة في سورة الأعراف في قوله سبحانه وتعالى: { ... الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] كانت مشجعاً لي لدراسات مقارنة بدأتها في صمت في خلال خمس سنوات، حتى أتاني اليقين فدخلت وأبنائي وكريمتي في دين الله نسبح بحمده، ونستغفره على ما تقدم وما تأخر من ذنوبنا. وأقرر أن اللقاء الإسلامي المسيحي بالخرطوم عام 1980م/ 1401 هـ جعلني أتفرغ لدراسات مقارنة لأقدم للإسلام وزاداً ينفع كل داعية إسلامي على بصيرة في الدعوة الإسلامية. وتقديمي لكتابي (محمد - صلى الله عليه وسلم -) إنما هو خلاصة الكتاب في ملزمة واحدة، بل هو رؤية لأسرار إسلامي. فأقول ويقول كبار اللاهوتيين المعاصرين - بالرغم من

البصمات البشرية الفادحة من زيادة وحذف، ومن تغيير وتبديل، ومن إسقاط وإقحام في أسفار الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) فإنه لازالت أجزاء برمتها على حالتها الأولى فلم تصب ببصمات بشرية على الإطلاق، ظلت أصلية برهان ساطع على قطع من التوراة الأصلية، وقطع من مقالات المسيح عيسى ابن مريم الأصلية وهي الإنجيل الأصلي. نعم فالكتاب المقدس المتداول الآن على اختلاف الترجمات في عصرنا هذا، وأمامي نسخة للترجمة العربية البيروتية/ الطبعة الثامنة - عام 1936 بمعرفة جمعية التوراة الأمريكية المنشأة عام 1816 بنيويورك، لا زال يشمل أجزاء هامة ووحيدة للتوراة والإنجيل الحقيقيين، وهي كثرة والحمد لله، حتى أن كل من يؤمن بالله وبرسوله المسيح عيسى ابن مريم، ويتبع الكتاب المقدس تماماً في حالته الراهنة، فإن الكتاب المقدس بما يشمله من أجزاء أصلية سيقوده إلى الإسلام ولا ريب. كما قال الله سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121] إن أولئك الذي يتبعون تعاليم موسى تماماً، وأولئك الذين يتبعون تعاليم عيسى تماماً عليهما السلام، حتى في حالتهما المتداولة إنما يقادون بفضل الله ونعمته إلى إنجاز وإيقاء ما يطلبه الله منهم. ولا ريب أن هذا الاختيار الروحي قد مارسه ذوو العقول المتحررة، والقلوب المتعطشة، إلى معرفة الحق، ولا غزو أن أقدم ذاتي مثالاً حياً حتى بعد أن جاوزت الثلاثة والستين سنة من العمر أن الله شرح صدري للإسلام فأخذت طريقي إليه هجرة لله ولرسوله. يحتوي الكتاب المقدس على نصوص شديدة الوضوح حول رسالة وشخصية الرسول النبي الأمي محمد - صلى الله عليه وسلم -. وضوحاً بيناً لا لبس فيه. حتى إن كثيراً من اليهود والنصارى الغيورين ليسعدون بقبول محمد رسولاً نبياً عند ظهوره. ولكن القرون اللاحقة للمنازعات اللاهوتية، والتي انعقد لأجلها العديد من المجامع المسكونية، شهدت موجة رهيبة ومحمومة لتدوين المخطوطات المقدسة، وما أصابها من تحوير وتنقيح وزيادة ونقص، وحذف وإقحام، كانت هذه البصمات البشرية في تدوين الكتاب المقدس غشاوة سميكة تخفي الحقيقة. وفي هذه القرون، ولد قانون الإيمان".

وغشى بشروحات مذهبية، فإذا ما نحيث هذه وتلك فإن الحقيقة ستظهر في جلاء ووضوح، ومن ثم يستطع العلماء الباحثون أن يهتدوا بهذه الخيوط الربانية. دور الكتابة في الهداية: نحن معشر المسلمين نؤمن أن التوراة الصلية والإنجيل الأصلي موحى بهما من الله على عبديه ورسوليه موسى وعيسى عليهما السلام، ونحن معشر المسلمين نعلم أن المسيح عيسى ابن مريم بعثه ربه رسولاً إلى بني إسرائيل، فلما ابتدأ رسالته الجهارية بينهم، وجد أن توراة موسى قد تعرضت لبصمات بشرية. فلقد فقدت في عهد مملكة يهوذا، واكتشفت في أيام يوشيا ملك يهوذا، ثم تعرضت للضياع حتى الغزو البابلي في عهد نبوخذ نصر ملك بابل، ثم أعيد تدوينها بعد عودة اليهود المسبيين في بابل إلى أرض فلسطين في عهد كورش ملك الفرس، من ثم تعرضت التوراة إلى عوامل تغيير جسيمة وخطيرة للغاية. لقد تعرضت في إعادة التدوين إلى اللامبالاة، وإضافات توحي بمذاهب وعقائد المحررين والنساخ، من هذا فإن المسيح رأى فيها أجزاء مازالت على أصلها من وحي الله دون أن تمسه يد ولا فكر بشري، لهذا جاهر بقوله لليهود المتعنتين وغيرهم: "ولا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل". (إنجيل متى 5: 17، 18) وبهذا التصريح فإن المسيح عيسى ابن مريم يصادق على جوهر التوارة، ولقد تعرض إنجيل المسيح عبر ستمائة سنة مثلما عانت التوراة من البصمات البشرية، فضلاً عن رداءة الخط في التدوين والنسخ، بالإضافة إلى المخطوطات العبرية والآرامية واليونانية التي أعد بها كتاب العهد الجديد. ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عام 610 م برسالة التوحيد، وتلقى من ربه قرآناً كريماً حيث يقول الله سبحانه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء 192 - 195] وحفظه الله مصداقاً لقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] هذا القرآن نزل مصدقاً للتوراة والإنجيل اللذين نزلا على موسى وعيسى عليهما السلام، فضلاً عن

أنه مهين عليهما، وفي هذا قال الله سبحانه كما في المائدة: 44 - 48. يقول كيرت "إن الكتاب المقدس المتداول حالياً لا يحتوي على التوراة والإنجيل المنزلين من الله، ولقد اعترف علماء باحثين أنفسهم باللمسات البشرية في إعداد هذا الكتاب المقدس". ويقول جيمس هيستنج: "ومع هذا فإننا نتوقع أن نجد خلال صفحات الكتاب المقدس بعض الأجزاء من التوراة والإنجيل الأصليين مما يتحتم معه دراسة جادة، لكي تجعل مضمون الكتاب المقدس مفهوماً". إن ما يتميز به الكتاب المقدس حتى في حالته الراهنة. هو أنه يشير إلى أن التنزيل الألهي إنما يتوالى على من اصطفاهم الله لحمل رسالته من الأنبياء والمرسلين، وسيكمل التنزيل بالنبي الخاتم، نبي وحيد واحد مميز، ورسالته ستكون مستوعبة ومهيمنة، ونبوته ستكون عالمية حتى إنه لن يكون هناك حاجة لرسول بعده. وتقرر التوراة أنها تنزيل من رب العالمين: ودعا الله موسى إلى رأس الجبل فصعد موسى (خروج 19: 20) ، ثم تكلم الله بجميع هذه الكلمات (خروج 20: 1) وكتب موسى هذه التوراة وسلمها للكهنة بني لاوى حاملي تابوت عهد الرب، ولجميع شيوخ إسرائيل (تثنية 31: 9) . ويقرر المسيح عيسى ابن مريم قائلاً: فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل (إنجيل متى 5: 18) . ويقول لتلاميذه: ومتى قدموكم إلى المجامع والرؤساء والسلاطين فلا تهتموا كيف أو بما تحتجون، أو بما تقولون، لأن الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوه (إنجيل لوقا 12: 11، 12) .

ويقرر بطرس في رسالته الثانية قائلاً: لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين بالروح القدس (رسالة بطرس الثانية 1: 21) ويقرر بولس في رسالته إلى تلميذه تيموثاوس قائلاًَ: كل الكتاب هو موحي به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر، لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح (2 تي 3: 16) إنه من الميسور على الله سبحانه وتعالى أن يتكلم في وضوح وجلاء، عن أشياء قبل حدوثها بآلاف السنين مما تعدون، وبالحرى فإنه من المستحيل استحالة قطعية أن يفعل هذا الإنسان. من هذه الأحداث في امتداد التاريخ مجازاة الله سبحانه لإبراهيم عليه السلام، إيمانه وأمانته وصلاحه وإخلاصه كافأه الله بأن جعله أبا للمؤمنين، وجعل في ذريته النبوة والكتاب والملك، فضلاً عن أن الله قطع على نفسه ميثاقاً لإبراهيم ونسله قائلاً: "وقال بذاتي أقمست يقول الرب إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر، ولم تمسك ابنك وحيدك أباركك مباركة، وأكثر نسلك تكثيراً، كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب أعدائه في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي" (تكوين 22: 16 - 18)

وفي (سفر التكوين 17: 23 - 26) يقول: فأخذ إبراهيم إسماعيل ابنه وجمع ولدان بيته وجميع المبتاعين نفضته، كل ذكر من أهل بيت إبراهيم، وختن لحم غرلتهم في ذلك اليوم عينه كما كلمه الله، وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة حين ختن في لحم غرلته، وكان إسماعيل ابنه ابن ثلاث عشرة سنة حين ختن في لحم غرلته. في ذلك اليوم عينه ختن إبراهيم وإسماعيل ابنه. وفي (سفر التكوين 25/9) يقول: وأسلم إبراهيم روحه ومات بشيبة صالحة شيخاً وشبعان أياماً، وانضم إلى قومه. ودفنه إسحاق وإسماعيل ابناه في مغارة المكفيلة في

حقل عفرون بن صوحو الحثى الذي أمام ممرا. الحقل الذي اشتراه إبراهيم من بني حث، هناك دفن إبراهيم وساره امرأته (تك 25: 8 - 10) . إن الكتاب المقدس على بينة بأن في تشل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام النبي الخاتم، ومن ثم فإن الكتاب المقدس يحمل كل الدلالات على بنوة إسماعيل الحقيقية، فضلاً عن كونه بكر إبراهيم، ولم يكن ولن يكون بأي ذريعة يتذرع بها أحبار اليهود ابناً غير شرعي. ومن هذا فإن الكتاب المقدس بالنسبة لليهود هو السجل الأساسي لمفاضلاً الله لإسحاق الابن الثاني لإبراهيم، ومن سلالته تسلسل الأنبياء، ومنهم موسى كليم الله، وعيسى كلمة الله عليهما السلام، ولكن ماذا عن الابن الأول لإبراهيم الذي هو إسماعيل؟ إن سفر التكوين يروى لنا بكل الأسى قصة انقلاب سارة على إسماعيل وأمه هاجر جاريتها المصرية: تعود إلى طنوح سارة في تحقيق الميراث لابنها إسحاق، ذلك الميراث الكائن في الميثاق: "لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" (تكوين 15: 18) فتعار من هاجر التي ولدت إبراهيم ابنه البكر إسماعيل، وأن هذه الأثرة الموغلة في القدم تدل على الولع بالانتماء إلى الجنس السامي العبراني، هذه الأثرة مليئة بعناصر متناقضة. E. A. Speiser, Genesis (New York, 1964) The Anchor Bible, Vol. I, P. P 156, 157 وقد جاءت هذه الرواية في سفر التكوين هكذا. "وأما ساراى امرأة أبرام فلم تلد له، وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر، فقالت ساراى لأبرام: هو ذا الرب قد أمسكني عن الولادة، أدخل على جاريتي لعلى أرزق منها بنين، فسمع أبرام لقول ساراى، فأخذت ساراى امرأة أبرام هاجر المصرية جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان، وأعطتها لأبرام رجلها زوجة له فدخل على هاجر فحبلت، ولما رأت أنها حبلت صغرت مولاتها في عينيها. فقالت ساراى لأبرام ظلمي عليك. أنا دفعت جاريتي إلى حضنك، فلما رأت أنها حبلت صغرت في عينيها. يقضي الرب بيني وبينك، فقال أبرام لساراى هو ذا جاريتك في يدك افعلي

بها ما يحسن في عينيك. فأذلتها ساراى فهربت من وجهها" (تكوين 16: 1 - 6) . وحاصل ذلك فإن سفر التكوين أغلق الباب دون إسماعيل، وأمه هاجر زوجة أبيه إبراهيم، منذئذ فصاعداً إلا إسحاق وسارة أمه أصبحا ذا شأن "وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده" (تكوين 17: 19) "ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك ساره في هذا الوقت في السنة الآتية" (تكوين 17: 21) ومن المفارقات أن ميثاق الله لإبراهيم لم يتحرف إطلاقاً، ذلك عندما أراد الله مجازاة إبراهيم لأمانته بأن أخذ على نفسه ميثقاً لتوريث إبراهيم ونسله أرض الميعاد، لم يكن إسحاق في الصورة بعد فيقول سفر التكوين: "وقال أبرام أيضاً إنك لم تعطني نسلاً وهوذا ابن بيتي وارث لي، فإذا كلام الرب إليه قائلاً لا يرثك هذا، بل الذي يخرج من أحشائك هو يرثك" (تكوين 15: 3، 4) وهذا هو الميثاق بنصه الكامل: "في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقاً قائلاًَ: لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" (تكوين 15: 18) وحدد الميثاق الأماكن التي ينتزعها من سكاناه لذنوبهم وهي: "القينيين والقنزيين والقدمونيين والحثيين والفرزيين والرفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين والببوسيين" (تكوين 15: 19، 20) وفي هذه الفترة يقول سفر التكوين: "وأما ساراى امرأة أبرام فلم تلد له" (تكوين 16: 1) بل كان إسماعيل هو الابن الوحيد لإبراهيم من هاجر جارية سارة، وكان إسماعيل قرة عين أبويه فقال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك (تكوين 17: 18) فاستجاب له ربه قائلاً: "وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً. اثنى عشر رئيساً يلد وأجعله أمة كبيرة" (تكوين 17: 20) . ولقد جعل الله الختان لكل ذكر لإبراهيم ونسله فريضة ابدية، وعلامة عهد مع الله فيقول سفر التكوين: "وتكلم الله معه قائلاً: أما أنا فهوذا عهدي معك، وتكون أباً لجمهور من الأمم، وأثمرك كثيراً جداً، وأجعلك أمماً وملوك يخرجون، وأقيم عهدي بيني وبينك، وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً، لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً. وأكون الهمهم" (تكوين 17: 3 - 8) فما هو العهد إذن؟ يقول سفر التكوين: "وقال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي، أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم، هذا

استحقاق نسل إسماعيل لحقوق البكورية:

هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يختن منكم كل ذكر، فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم، ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم، وليد البيت والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك يختن ختاناً وليد بيتك والمبتاع بفضة، فيكون عهدي في لحمكم عهداً أبدياً، وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها. إنه قد نكث عهدي" (تكوين 17: 9 - 14) واستجاب إبراهيم لأمر ربه فيقول سفر التكوين: "فأخذ إبراهيم إسماعيل ابنه، وجميع ولدان بيته وجميع المبتاعين بفضته، كل ذكر من أهل بيت إبراهيم، وختن لحم غرلتهم في ذلك اليوم عينه، كما كلمه، وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة حين ختن في لحم غرلته، وكان إسماعيل ابن ثلاث عشرة سنة حين ختن في لحم غرلته، في ذلك اليوم عينه ختن إبراهيم وإسماعيل ابنه" (تكوين 17: 23 - 25) . استحقاق نسل إسماعيل لحقوق البكورية: يدافع جيمس هيستنج عن حق البكورية إسماعيل فيقول: لقد جانب التوفيق كتاب سفر التكوين. أولئك الذين حاولوا أن يجعلوا نسل إسماعيل واستحقاقه لحقوق البكورية أقل مرتبه زعماً أن انتهاؤه لأمه هاجر جارية إسماعيل يفقده حق البكورية، فهم يزعمون أن هاجر جارية سارة، وأن سارة هي الحرة، ومن ثم فإن البكورية لإسحاق ابن سارة الزوجة الحرة، وبهذا الصنيع فإنهم يغفلون قانون الأسرة الواضح والصريح المنصوص في التوارة في سفر التثنية، ووفقاً لهذا القانون فإن حقوق الابن البكر لا يمكن إسقاطه بسبب الوضع الإجتماعي للأم، هذا الحق الشرعي قج بينه الناموس بالنسبة للرجل الذي يجمع في معيشته أكثر من زوجة، وحالة إبراهيم تنطبق عليها الشريعة إن هوى النفس والأثرة لا تحرم الابن البكر حقه، ولا تحتم خطوة الله للزوجة الحرة فيجعل الله عهده مع ابنها والشريعة صريحة. نص شريعة حق البكورية "إذا كان لرجل امرأتان إحداهما محبوبة والأخرى مكروهة، فولدتا له بنين المحبوبة والمكروهة، فإن كان الابن البكر للمكروهة فيوم يقسم لبنيه ما كان له لا يحل له أن يقدم ابن المحبوبة بكراً على ابن المكروهة البكر، بل بعرف ابن

المكروهة بكراً ليعطيه نصيب اثنين من كل ما يوجد عنده، لأنه هو أول قدرته له حق البكورية" (تثنية 12: 15 - 17) ومع هذه الصراحة في النص إلا أن التوراة أغفلت هذا المبدأ المنصف، وصارت تعطي من البداية إلى النهاية النصيب المضاعف من المجد لابن المحبوبة أو الحرة، فأعطت إسحاق ابن سارة الزوجة الحرة، وهو الابن الثاني لإبراهيم أعطته حق البكورية، وأيدته بالنص القائل: "ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآنية" (تكوين 17: 21) وأن هذا التصرف يجعل التوراة والكتاب المقدس متناقض مع الشريعة، ومجانب للعدل. فإن النصيب المضاعف وحق البكورية تخص إسماعيل وسلالته، ولا يمكن أن تكون الحالة الاجتماعية الممجوحة لأمة بكونها جارية سارة أن تبخس هذه الحقوق على الإطلاق. ولم يكن إسماعيل وحده الذي جنت عليه التوراة، بل هذا هو رأوبين الابن البكر ليعقوب من أمه ليئة الزوجة المكروهة انتزعت منه البكورية، ومنحتها ليوسف ابن راحيل الزوجة المحبوبة، فيقول سفر التكوين: "وبنو رأوبين بكر إسرائيل لأنه هو البكر، ولأجل تدنيسه فراش أبيه أعطيت بكوريته لبني يوسف بن إسرائيل فلم ينسب بكراً، لأن يهوذا اعتز على إخوته ومنه الرئيس وأما البكورية فليوسف" (أخبار الأيام الأول 5: 1، 2) ويوسف هذا قد حظى منذ ولادته بحب أبيه فاصطفاه عن باقي إخوته مما أثار حسدهم وبغضهم له: "وأما إسرائيل فأحب يوسف اكثر من سائر بنيه لأنه ابن شيخوخته، فصنع له قميصاً ملوناً، فلما رأى إخوته أن أباه أحبه أكثر من جميع إخوته أبغضوه، ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام" (تكوين 37: 3، 4) إن ذرية إسماعيل صارت معلومة لدى الإسرائيليين بأنهم سكان الصحراء العربية

ولم تكن مصادفة لأن واحداً من الأثنى عشر رئيساًَ من ابناء إسماعيل ذلك الابن المسمى قيدرا. وأن اسم قيدار صار أكثر شهرة في مجال النبوة من أنبياء بني إسرائيل وتقول التوراة: "وهذه مواليد إسماعيل بن إبراهيم الذي ولدته هاجر المصرية سارة لإبراهيم، وهذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم حسب مواليدهم، نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار وأدبئيل ومبسام ... أثنا عشر رئيساً حسب قبائلهم" (تكوين 25: 12 - 16) . وبعض نصوص الكتاب المقدس تبين أن قيدار رمز للعرب عامة كما يقول أرمياً: "فاعبروا جزائم كتيم، وانظروا وأرسلوا إلى قيدار وانتبهوا جداً، وانظروا هل صار مثل هذا، هل بدلت أمة آلهة وهي ليست آلهة، أما شعبي فقد بدل مجده بما لا ينفع، ابهتي أيتها السموات من هذا، واقشعري وتحيري جداً يقول الرب، لأن شعبي عمل شرين، تركوني أنا ينبوع المياة الحية لينفروا لأنفسهم آباراً مشققة لا تضبط ماء" (إرميا 2: 10 - 13) . ويقول حزقيال: "العرب وكل رؤساء قيدارهم تجاريدك بالخزفان والكباش والأعتدة في هذه كانوا تجارك" (حزقيال 27: 21) . ويقول أشعياء: "كل غنم قيدار تجتمع إليك كباش نبايوت تخدمك تصعد مقبولة على مذبحي وأزين بيت جمالي" (أشعياء 60: 7) . وهذا دلالة هامة على أن ذرية قيدار صارت مرموقة عند الله سبحانه، وليست هذه الشهوة عفواً، ولكن بهدف رباني، وغرض لا مثيل له ليؤكد لبني إسرائيل أن من نسل هذا يولد الذي حياته وأعماله، فضلاً عن سمو ذاته سيتحقق فيه النصيب المضاعف لحقوق البكر من المجد لسلالة إسماعيل ولا ريب. إن طبيعة المجد المضاعف تبدأ بالظهور في العهد القديم في سفر أشعياء التي تتلق بإيفاء وعد الله ليبارك به الجنس البشري "ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تكوين 22: 18) من خلال ذرية إبراهيم.

ومع هذا الوضوح إلا أن بعض المفسرين سواء أكانوا يهوداً أو نصارى، يزعمون أن هذه البركات إنما تنصب انصباباً على المسيح عيسى ابن مريم في ذاته وفي رسالته، ويقف الإصحاح الثاني والأربعون من سفر أشعياء ليجلى الحقيقة في ايهما يكون المجد المضاعف في عيسى أم محمد فيقول: "هو ذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم ... " إلى أن يقول: " ... لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته" (أشعياء 42: 1 - 4) فاشعياء يتبنأ عن نبي تشكل نبوته اشتمالاً للجنس البشري كافة، بعكس أنبياء بني إسرائيل ومنهم المسيح عيسى ابن مريم الذين تحددت رسالاتهم إلى بني قومهم من بني إسرائيل. وأشعياء ينتبأ عن رسالة هذا النبي، بل عن ذاته قائلاً: "وض2عت روحي عليه فيخرج الحق للأمم" (أشعياء 42: 1) فسيقوده الروح الأمين لوضع رواسخ وأسس العدل الاجتماعي في الأرض، وعن ذاته وصفاته فيقول أشعياء: "لا يصيح ولا يسمع في الشارع صوته" (أشعياء 42: 2) بمقابلة هذا مع رسالة المسيح عيسى ابن مريم، فضلاً عن قصر مدتها إذ لا تعدو سنوات ثلاث ونصف السنة، مهد لها سايفة يوحنا المعمدان الذي لم يمهله قوى الشر فأنهت حياته في السجن، وجعلت رأسه ثمناً لنزوة طائشة لهيرودس ملك اليهودية قدمها لماجنة مبتذلة ابنة هيروديا زوجة أخيه فيلبس التي كانت على علاقة غير شرعية معه، كان قد قال له يوحنا: "لا يحل أن تكون لك، ولما أراد أن يقتله خاف من الشعب، لأنه كان عندهم مثل نبي" (إنجيل متى 14: 3 - 5) هذا بينما نبوة هذا النبي من سلالة إسماعيل سيمتد بها الأجل لفترة كافية لاستتباب الحق على الأرض، ولتأسيس مجتمع مؤمن موحد حقاً وشعب على أسس العدل والحق والنقاء والطهارة الجوانية والظاهرية، ومن ثم قلإنه سيصبح كما تنبأ أشعياء قائلاً: "أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهداً للشعب ونوراً للأمم" (أشعياء 42: 6) . وما هو أروع وأكثر انبهاراً حول عبوديته الخصوصية لله الواحد الأحد، فإنه محمد سليل إسماعيل هو وحده الذي تتطابق شخصيته مع شخصية الجد الأعلى قيدار، إذ يتنبأ اشعياء فيقول في وضوح وجلاء: "لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها

قيدار، لتترنم سكان طالع، من رءوس الجبال ليهتفوا" (أشعياء 42: 11) . هذه الوضوح يتجلى في نبوة اشعياء عن ذات النبي سليل إسماعيل فيقول: "هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشراع صوته، قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ. إلى الأمان يخرج الحق. لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته" (أشعياء 42: 1 - 3) . ويقول: "هكذا يقول الرب خالق السموات وناشرها، باسط الرض ونتائجها، معطي الشعب عليها نسمة، والساكنين فيها روحاً، أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهداً للشعب ونوراً للأمم. لتفتح عيون العمى لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة" (أشعياء 42: 5 - 7) . ولا ريب أن أشعياء تنبأ فقال عن سلالة إسماعيل سكان جزيرة العرب: "لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع، من رءوس الجبال ليهتفوا، ليعطوا الرب مجداً ويخبروا بتسبيحه في الجزائر، الرب كالجبار يخرج، كرجل حروب بنهض غيرته، يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه" (المرجع السابق/ أشعياء 42: 11 - 13) . إن هذه النبوة لا تنطيق على أحد من أنبياء بني إسرائيل حتى المسيح عيسى ابن مريم، فقد كفانا تدليلاً عن رسالته للمرأة الكنعانية التي تضرعت إليه قائلاً: "أرحمنى يا سيد يا ابن داود ابنتي مجنونة جداً) (متى 15: 22) فرد عليها وأجاب: "قال لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة (متى 15: 4) . زد على ذلك أنه أوصى تلاميذه قائلاً: "إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (متى 10: 5 - 6)

من هذين النصين على حسب رواية متى يتبين أن رسالة المسيح كانت محددة لبني قومه، وهنا يسأل طائل كيف خرجت رسالة المسيح من أورشليم إلى الأمم؟ كيف صارت عالمية؟ والجواب عن هذا يمكن فيما رواه لوقا في سفر أعمال الرسل. ولوقا استقى معلوماته وكتابته للإنجيل المعروف باسمه وبسفر الأعمال هذا كما يعترف في صدر إنجيله قائلاً: "إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا. كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة، رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفليس، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به" (إنجيل لوقا 1: 1 - 4) ويقول في صدر سفر أعمال الرسل: "الكلام الأول أنشأته ياثاوفيلس عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلم به" (أعمال الرسل 1: 1) إذن مصادر تدوين إنجيل لوقا، وسفر أعمال الرسل هي كما قال: "كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة" (لوقا 1: 2) على هذا الأساس سنعالج خروج الدعوة من أورشليم إلى الأمم: لم يكن يسوع المسيح هو الذي أعطى رسالته طبيعة الشمول والعالمية، أبداً ولكن من؟ إنه شاول مضطهد الكنيسة الذي زعم أن المسيح تراءى الله وجعله تلميذاً. وعلى أثر هذا الانقلاب تسمى باسم بولس تيمناً تيمناً باسم الوالي الروماني بجزيرة قبرص، واسمه سرجيوس بولس "وهو رجل فهيم. فهذا دعا برنابا وشاول والتمس أن يسمع كلمة الله" (أع 13: 7) . ويروى سفر الأعمال كيفية قيامه بالعمل مع تلاميذ يسوع المسيح: "وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس: أفرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه" (أع 13: 2) . كما يروي كيفية حلول الروح القدس عليه: "وأما شاول الذي هو بولس أيضاً فامتلأ من الروح القدس" (أع 13: 2) .

كيفية الخروج بالدعوة إلى الأمم يروى سفر الأعمال أن بولس وقف في مجمع أنطاكية يتكلم محاجاً اليهود: الذين "جعلوا يقاومون ما قاله بولس مناقضين ومجدفين. فجاهر بولس وبرنابا وقالا كان يجب أن تكلموا أنتم أولاً بكلمة الله. ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجه إلى الأمم" (أع 13: 45، 46) ليس فحسب به إنه أقحم نبوة أشعياء 42: 6 وألصقها بنفسه وفي هذا تمويه وتضليل إذ قال: "لأن هكذا أوصانا الرب قد أقمتك نوراً لأمم لتكون أنت خلاصاً إلى أقصى الأرض" (أع 13: 47) نبوة تنبأ بها أشيعاء عن محمد - صلى الله عليه وسلم - انتحلها لنفسه - ليس هذا فحسب، بل شطر الدعوة إلى شطرين وشطر التلاميذ في مجموعهم في كفة وشخصه في كفة أخرى فقال: "وأما المعتبرون أنهم شيء مهما كانوا لا فرق عندي الله لا يأخذ بوجة إنسان، لإغن هؤلاء المعتبرين لم يشيروا على بشيء. بل بالعكس إذ رأوا أنى أؤتمنت على إنجيل الغرلة كما اؤتمن بطرس على إنجيل الختان. فإن الذي عمل في بطرس لرسالة الختان عمل في أيضاً للأمم. فإذا علم بالنعمة المعطاة إلى يعقوب وصفاً ويوحنا المعتبرون أنهم أعمدة أعطوني وبرنابا يمين الشركة لنكون نحن للأمم وأما هو فللختان" (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 2: 6 - 9) . وبولس قد أحاط نفسه بهالة من التقديس فزعم أنه كارميا الذي إليه كانت كلمة الرب قائلاً: "قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبياً للشعوب" (أرميا 1: 5) فتتداعي في ذهنه المخزون من المحفوظات اليهودية وادعى قائلاً: "ولكن لما سر الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته. أن يعلن ابنه في لأبشر به بين الأمم للوقت، لم أستشر لحماً ودماً، ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي، بل انطلقت إلى العربية ثم رجعت أيضاً إلى دمشق" (غلاطية 1: 15 - 17) . أما الإنجيل الذي كرز به لم يكن إنجيل المسيح، بل إنجيل شخصي إذ قال: "ثم بعد أربع عشرة سنة صعدت أيضاً إلى أورشليم مع برنابا آخذاًَ معي تيطس أيضاً، وإنما صعدت بموجب إعلان وعرضت عليهم الإنجيل الذي أكرز به بين الأمم، ولكن بالانفراد

على المعتبرين لئلا أكون أسعى أو قد سعيت باطلاً" (غلاطية 2: 1، 2) إنه بعد أربع عشرة سنة صعد إلى أورشيلم وكان التلاميذ يخافونه، فأخذه برنابا وقدمه إليهم "ولما جاء شاول إلى أورشليم حاول أن يلتصق بالتلاميذ، وكان الجميع يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ، فأخذه برنابا وأحضره إلى الرسل وحدثهم كيف أبصر الرب في الطريق وأنه كلمه وكيف جاهر في دمشق باسم يسوع. فكان معهم يدخل ويخرج في أورشليم ويجاهر باسم الرب يسوع" (أع 9: 26 - 28) . هذه فذلكة موجزة حول شاول الذي هو بولس لتوضيح الرؤيا حول ادعائه أنه رسول المسيح يسوع، وإذا كان هذا مع بولس فإن بطرس فتح الباب للأمم. كيف كان ذلك؟ يحاجج بطرس اليهود قائلاً: "فسمع الرسل والإخوة الذين كانوا في اليهودية أن الأمم أيضاً قبلوا كلمة، ولما صعد بطرس إلى أورشليم خاصمه الذين من أهل الختان قائلين إنك دخلت إلى رجال ذوي غلفة، وأكلت معهم، فابتدأ بطرس يشرح لهم بالتتابع قائلاً أنا كنا في مدينة يافا أصلي فرأيت في غيبة رؤيا إناء نازلاً مثل ملاءة مدلاة بأربعة أطراف من السماء فأتى إلى فتفرست فيه متأملاً فرأيت دواب الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء، وسمعت صوتاً قائلاً لي: قم يا بطرس اذبح وكل فقلت كلا يارب لأنه لم يدخل فمي قط دنس أو نجس فأجابني صوت ثانية من السماء: ما كهره الله لا تنجسيه أنت، وكان هذا على ثلاث مرات ثم انتشل الجميع إلى السماء ايضاً. وإذا ثلاثة رجال قد وقفوا للوقت عند البيت الذي كنت فيه مرسلين إلى من قيصرية. فقال لي الروح أن أذهب معهم غير مرتاب في شيء وذهب معي أيضاً هؤلاء الإخوة الستة، فدخلنا بيت الرجل، فأخبرنا كيف رأي الملاك في بيته قائماً وقائلاً له: أرسل إلى يافا رجالاً واستدع سمعان الملقب بطرس، وهو يكلمك كلاماً به تخلص أنت وكل بيتك، فلما ابتدأت أتكلم حل الروح القدس عليهم كما علينا أيضاً في البداءة

فتذكرت كلام الرب كيف قال إن يوحنا عمد بماء وآما أنتم فستعمدون بالروح القدس. فإن كان الله قد أعطاهم الموهبة كما لنا ايضاً بالسوية مؤمنين بالرب يسوع المسيح فمن أنا بقادر أن أمنع الله، فلما سمعوا ذلك سكتوا وكانوا يمجدون الله قائلين إذا أعطى الله الأمم أيضاً التوبة للحياة" (أعمال الرسل 11: 1 - 18) إذن من هذه الشواهد يتبين بكل وضوح أن يسوع المسيح لم يجعل لرسالته طبيعة الشمول، ولكنهما شاول الذي هو بولس وبطرس تحت ظروف وقوعهما في غيبوبة بالنسبة لبطرس ومقاومة اليهود لبولس تنتهي إلى فتح الباب للأمم. هذا ولم يكن المسيح عيسى ابن مريم أو أي أحد الأنبياء العبرانيين ينتمي بأي شكل إلى قيدار، إذن فإن الوعد بنبي عظيم من بين العرب هو ما أشار إليه أشعياء باستيفاء حول النبوة بسليل قيدار. ولم يكن أشعياء إلا مؤيداً لموسى كليم الله، فإن الله سبحانه قد أوحى إلى عبده موسى عليه السلام بأن الله سيقيم نبياً من وسط إخوتهم - إن العرب سلالة إسماعيل الابن البكر لإبراهيم أبناء عم إسحاق الابن الثاني لإبراهيم، يستحوذون انتباه عالمي ورجاء الأمم، إذ جاء في التوراة: "أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك. وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي أتكلم به باسمي أنا أطالبه" (تثنية 18: 18، 19) هذا المنتظر يتحتم أن يكون مماثلاً لموسى: فموسى مؤسساً لشعب إسرائيل وقائداً لهم، ورائداً يهديهم سواء السبيل. فهذا النبي المرتجى ينبغي أن يكون مؤسساً وقائداً ورائداً لمجتمع أهل الإيمان هذا فضلاً عن أن رسالة هذا النبي المرتجى ستمكث أمداً طويلاً كافياً لأنجاز أهداف حقيقية متماسكة. * * *

The Gospel Preview: The Paraclete رؤية مبصرة للإنجيل: الباراقليط إن إنجيل يسوع المسيح يعطي وصفاً محدداً وبتركيز عن ذاتية لذلك الذي فيه يتحقق الوعد ليجعل سلالة إسماعيل أمة عظيمة تأكيداً للوعد الذي جاء في سفر التكوين: الوعد لإبراهيم: "وأجعله أمة كبيرة" (تكوين 17: 20) . الوعد لإبراهيم ثانياً: "سأجعله أمة لأنه نسلك" (تكوين 21: 13) الوعد لهاجر: "لأني سأجعله أمة" (تكوين 21: 18) . ونحن سنتاول إنجيل يوحنا في دراسة تحليلة حول النبأ بالنبي المرتجى الخاتم. فنقول ويقول العلماء الباحثون إنجيل حسب رواية يوحنا ليس بإنجيل يسوع المسيح الذي اشار إليه بولس في رسالته إلى أهل رومية إذ قال عن إنجيل المسيح: "فإن الله الذي أعبده بروحي في إنجيل ابنه" (رومية 1: 9) . وقال: "لأني لست أستحي بإنجيل المسيح" (رومية 1: 16) أين هذا الإنجيل؟ لا ندري ... وبغض النظر عن عدم وجود إنجيل المسيح فماذا يحدثنا إنجيل يوحنا؟ يعتبر إنجيل يوحنا صورة وصفية لحياة المسيح عيسى ابن مريم، وتعاليمه، وممارسته لآيات الله من شفاء المرضى إلى إخراج الشياطين إلى إقامة الموتى بإذن الله وضمن إنجيله أجزاء من كلمات المسيح والآيات التي صنعها الله بيديه ومع هذا فإن المسيح قد أخبر تلاميذه ولا سيما المقربين إليه بطرس ويعقوب ويوحنا فأنبأهم بأن خدمته تقترب إلى نهايتها "وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني" (يوحنا 16: 5) ومن ثم أنبأهم بأن الرسالة لم تكتمل بعد وأن النبوة لم تختتم بعد، ولم يتركهم حيارى بل أنبأهم بالنبي الخاتم والرسالة التي ينزلها رب العالمين عليه ليسأنف حركة النبوة "إن لي أموراً كثيرة أيضاً لقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتيه. ذاك يمجدني" (يوحنا 16: 12 - 14) .

هذا النبي الخاتم رجاء الإنسانية يحدثنا يوحنا عنه قائلاًَ: 1 - يسوع يخبر تلاميذه بالرحيل: "لا تضطرب قلوبكم، أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي في بيت أبي منازل كثيرة وإلا فإني كنت قد قلت لكم أن أمضي لأعد لكم مكاناً" (يوحنا 14: 1، 2) 2 - يسوع يخبر تلاميذه بالنبي المنتظر: "إن كنت تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق ... " (يوحنا 14: 15 - 17) . 3 - يسوع يؤكد لتلاميذه ملامح النبي المنتظر: "بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأما المعزى الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم" (يوحنا 14: 25، 26) . 4 - يسوع يثنى تأكيداته عن شخصية النبي المنتظر: "ومتى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء" (يوحنا 26، 27) . وقبل الاسترسال في شخصية النبي المنتظر نتساءل من هو يسوع المسيح بشهادات تلاميذه؟ : على أثر امتلاء التلاميذ بموهبة الروح القدس في أثناء اجتماعهم بدارهم في أورشليم يوم الخمسين. استقر الروح على المجتمعين وابتدءوا يتكلمون بألسنة أخرى، كما أعطاهم الروح أن ينطقوا. فتحير اليهود الأمر الذي دفع بطرس أن يخطب فيهم قائلاً: 1 - "أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال. يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم تعلمون" (أعمال الرسل 2: 22) . 2 - "يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه. ونحن شهود

بكل ما فعل في كورة اليهودية وفي أورشليم" (أعمال الرسل 10: 38، 39) هذا هو المسيح عيسى ابن مريم عزى تلاميذه بأن أنبأهم بالنبي المنتظر ورسالته: إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدني" (إنجيل يوحنا 16: 12 - 14) . قد يثار حول النص الأخير من إنجيل يوحنا 16: 12 - 14 جدل بأن يسوع المسيح كان يتنبأ عن مكوث الروح القدس بينهم إلى الأبد من أجل خير معاصريه حتى خمسمائة عام على الأقل وقبل ظهور محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً. ولدحض هذا الجدل ولتأكيد أن هذه نبوة واضحة حلية عن شخص سيبعثه الله رسولاً نبياً للإنسانية كافة نقول وتقرر الأناجيل أن حديث يسوع المسيح ومواعظة بين تلاميذه المقربين وجمهور المؤمنين تحمل في مضمونها ومدلولها أنباء عن المستقبل وتوجيهات إلى الأجيال المتعاقبة في مستقبل الأيام ... مثال ذلك حديثه عن يوم الدينونة: "فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته. وحينئذ بجازي كل واحد حسب علمه. الحق أقول لكم إن القيام ها هنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتياً في ملكوته" (متى 16: 27، 28) . مثال آخر عن مجيئه الثاني: "وفيما هو جالس على جبل الزيتون تقدم إليه التلاميذ على انفراد قائلين قل لنا متى يكون هذا وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر" (متى 24: 3) "والحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتي يكون هذا كله. السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول. وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا ملائكة السموات إلا أبي وحده" (متى 23: 34 - 36) . واضح كل الوضوح أن هؤلاء التلاميذ الذين يتبعون يسوع المسيح لن يتمتد بهم الأجل ليشاهدوا أيا من يوم الدينوية ولا مجيئه الثاني بل لا حتى حدوثهما.

إن كلمات المسيح عيسى ابن مريم بالرغم من أنها موجهة إلى معاصريه إلا أنها تتضمن إشارات اصلاً إلى تحقيق حدوث يوم الدينوية ويم مجيئه الثاني في مستقبل الأيام، اي بمعنى آخر أجل غير مسمى وهذا ما دل عليه بطرس عن مجيئه الثاني حيث قال: ولكن لا يخف عليكم هذا الشيء الواحد أيها الأحباء أن يوماً واحداً عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد (رسالة بطرس الثانية 3: 8) . بل هذه حقيقة أقرها القرآن الكريم في أقوال الله سبحانه وتعالى: 1 - {إِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] 2 - {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] 3 - {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] إن يسوع المسيح في مقاله: "الحق أقول لكم إن من القيام ها هنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتياً في ملكوته" (متى 16: 28) إنما يقصد في رؤية مبصرة على امتداد الأيام مستقبلاً إنما يقصد أتباعه الذين سيعاصرون مجيئه الثاني حتى قوله: "أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به" (يو 15: 14) إنما يقصد كل مؤمن يلتزم بوصايا الله ووصاياه. وقياسا على هذا فإن تعريف المسيح عيسى ابن مريم للرسول النبي الخاتم أن هذا الرسول النبي المنتظر سيكون عزاء ورحمة لأتباعه على مر اليام والأجيال، وخاصة أولئك الذين سيعاصرون ظهوره. إن ما جاء على حسب رواية يوحنا من وصف لذلك النبي الخاتم إنما هو وصف ناطق وواضح وجلي فجاءت الكلمة (المعزى) وهي الترجمة العربية للكلمة الإنجليزية Comforter وهي ترجمة للكلمة اليونانية (البارقليط) Parakletos كما جاءت في كتاب العهد الجديد الترجمة اليونانية، هذه الكلمة تعني بأكثر دقة (المحامي) Advocate أي الإنسان الذي يدافع عن حقوق الآخرين. بل هو الإنسان الذي يحرص على المؤمنين

وينصحهم في شئوزنهم من أجل سعادتهم ورفاهيتهم إن كلمة (البارقليط) ******Parakletos تشير إلى هذا المعنى. بل تشير إلى الإنسان الذي هو رحيم بالبشرية، وفي هذا قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] بل هو الإنسان المرشد والناصح الأمين الذي يقود أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وفي هذا قال الله سبحانه: {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق: 11] . هو ذلك المحامي الأمين الذي يحرص على المؤمنين وفي هذا قال الله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] فهو الحريص الصادق من أجل رفاهية الإنسانية، يشفع للإنسانية ويهديهم الطريق السوي، ويجهل لهم الحظوة عند الله، فيلقون الله يوم الدين موقنين أنه وحده الديان في ذلك اليوم: في رضاً. The Greek Word "Paraclete" (Ho Parakletos) ************* "ومهما اعتقد العلماء الباحثون أن حديث يسوع المسيح عن المعزى بلسانه الآرامي بأنه يمثل في دقة متناهية الترجمة اليونانية Peroklytos التي تعني المعجب Admirable أو الممجد Glorified فكلمة (الباراقليط) تطابق كلمة (محمد) أو (محمود) في اللغة العربية.

ويوجد في كتاب العهد الجديد الترجمة اليونانية حالات من هذا القبيل مؤكدة وكثيرة جداً عن استعاضة كلمة بأخرى. كما يوجد العديد من الشواهد والدلائل لاحتمالات أخرى هذه الاحتمالات تكمن في أن النص اليوناني الصلي يشتمل على الكلمتين Periklytos And Parakletos ونظراً للتشابه التام في التهجئة والتقارب الدقيق الواحدة للأخرى في الجملة التامة. فإن احتمال أن إحدي الكلمتين قد سقطت سهواً من الناسخ وفي مثل هذه الحالة فإن النص اليوناني يقرأ هكذا: that is, "and he will give you anther Counsellor, the admirable one" insstead of the present reading: "and he will give you anther Counsellor". "Conunsellor" فيعطيكم معزياً آخر" (يوحنا 14: 16) مثل هذه الأخطاء تحدث في النسخ بسبب أن النصوص القديمة نجد كتاباتها متقاربة الحروف بعضها لبعض، الأمر الذي قد تتعرض له عين الناسخ للتخطي لكلمة متشابهة في التهجئة أو متقاربة في وضعها مع الأخرى. مثال ذلك بمقارنة التحقيقات الكثيرة لكلمات وعبارات دونت على نهج المخطوطات القديمة، والتي حذفت من متن كتاب العهد الجديد اليوناني الإمام. كما وجد في The Emphatic Diaglott of B. Wilson عندما اعلن يسوع الميح عن مجئ النبي الذي يأتي بعده (المعزى) إذ أنبأهم عنه قائلاً: "فيعطيكم معزياً آخر ليمكث إلى الأبد" (يوحنا 14: 15) بين أن لا حاجة لأنبياء آخرين يتعقبونه، ومن ثم فإنه سيكون النبي الخاتم، وسيقود الجنس البشري إلى الحق كما قال: "وأما متى ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق" (يوحنا 16: 13) فهو يرشدكم إلى كل وجوه الحق. The Spirit of truth ... ti the Whole truth - to every aspect of the truth. وسوف لا تكون هناك حاجة لأي إنسان يأتي بعد ذلك النبي بحقوق إضافية. حقاً فإنه لا حاجة لحقوق إضافية، وبمعنى عام يأتي ذلك الإنسان الشديد الإيمان، وأهل الثقة ذلك هو محمد الذي عرف منذ صباه وقبل النبوة بالأمين كما يعبر عنه النص في الترجمات: العربي (روح الحق) والإنجليزي The spirit of truth وكما يعبر عنه بالترجمة اليونانية.

To هذا هو الإنسان الذي نزل فيه قول الله سبحانه وتعالى: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70] * * * إن عبارة (الروح) لا تعني أن النبي الآتي سيكون غير إنسان، ففي كتاب العهد الجديد اليوناني أن عبارة (الروح) استخدمت عن الإنسان الموحي إليه: "الإنسان المحتوى بالاتصال الروحي بالسماء" أو (الإنسان المحتوي بالاتصال بالوحي) . فالإنسان الذي يصبح مستحوذاً بالوحي السماوي هو الإنسان الذي ينطبق عليه العبارة (الروح) وأمثله على ذلك. الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس 2: 9 - 11: بل كما هو مكتوب ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه فأعلنه الله لنا نحن بروحه، لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله، لأن من من الناس يعرف أمور الإنسان إى روح الإنسان الذي فيه، هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله". الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكى 2: 2: "لا تتزعزعوا سريعاً عن ذهنكم ولا ترتاعوا لا بروح ولا بكلمة ولا برسالة كأنها منا أي أن يوم المسيح قد حضر". رسالة يوحنا الأولى 4: 1 - 3: أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم، بهذا تعرفون روح الله، كل روح بعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد، فهو من الله كل روح لا يعترف بيسوع المسيح لأنه قد جاء في الجسد فليس من الله.

(روح الحق) (يوحنا 16: 13) إنه إذن الإنسان الذي يصير مستحوذاً بصلة روحية لا انفصام لها هي الوحي، وهو الذي حياته وسلوكه وأخلاقه تتميز بأقصى درجات بذل الذات للحق. هذا هو السبب أن العبارة التالية للنص من إنجيل (يوحنا 16: 13) تحتوي على هذا التعبير: "فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به". هذا الإنسان سيتلقى وحي الحق من الله، وهذا التنزيل وحده هو أسس الرسالة، وبالتالي فليست أفكاره الذاتية، ولا كتابات صحابته، إن الرسالة أو التنزيل لابد أن تكون أولاً وقبل كل شيء وبتحنف كلام الله، لاحظ التطابق التام لما أوحاه الله على عبده موسى عليه السلام عن النبي الذي سيقيمه الله من وسط إخوتهم - العبرانيين - "أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به" (تثنية 18: 18) . وهنا نقطة تشد الانتباه جداً هي التشابه بين البعثة السماوية الممنوحة لموسى ولعيسى، وبين (روح الحق) محمد - صلى الله عليه وسلم - كحمله مشعل النور والهداية - التسلسل الفكري الإلهي - فمقارنة ما جاء في تثنية 18: 15 "يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي. له تسمعون" وما جاء في تثنية 18: 17 - 19 "قال لي الرب قد أحسنوا في ما تكلموا، أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه" قارن هذا مع ما جاء في إنجيل يوحنا عن الوحي الذي نزل على عيسى عليه السلام: "لأني لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا اقول وبماذا أتكلم" (يوحنا 12: 49) مع ما جاء في ذات الإنجيل عن الوحي سينزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -: "وأما متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني" (يوحنا 16: 13، 14) قارن هذا كله مع ما جاء في القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل: 15]

إن المرء يلاحظ - بالرغم من أن حقبة زمنية خلت تقدر بآلاف السنين، وتعرض الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد إلى التدخل البشري الفادح في كتابته، مما أكثر اللبس في نصوصه، وبالرغم من هذا كله ظلت حقائق بعث الأنبياء إلى أقوامهم موسى وعيسى ثم ظهور محمد رسولاً نبياً للعالمين كافة، هذه الحقائق ظلت دون أن تمسسها يد بشر بتغيير أو تحوير أو تحريف تصف الشخصيات الثلاثة موسى - عيسى - محمد في تنزيل الوحي وصفاً واحداً مماثلاً، وهو أنهم تلقوا وحياً من الله سبحانه وتعالى. وبناء عليه فإن التوراة الصلية والإنجيل الأصلي والقرآن الكريم كلها من نبع واحد هو الله. وتكشف حقيقة واحدة هي الحياة الأبدية. لا يمكن إغفال ما قاله المسيح عيسى ابن مريم عن مقتضيات نادرة للنبي الخاتم، مما يساعد على تشخيص ذاتيته إذ قال: "ذاك يمجدني" (يوحنا 16: 14) ولعل هذا ما قصده يوحنا في رسالته إذ قال: "بهذا تعرفون روح الله، كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله" (رسالة يوحنا الأولى 4: 2) - فإذا جاء إنسان ما، وادعى أنه ذلك النبي، ولا يعطي مجداً للمسيح عيسى ابن مريم كنبي، ومسيح الرب فإنه سيكون نبياً كاذباً، هكذا قال يوحنا في رسالته: "وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله" رسالة يوحنا الأولى 4: 3. وجاء العهد الجديد ولا سيما في الأناجيل صيحة صارخة من الإسرائيليين الذين رفضوا المسيح عيسى ابن مريم كما قال بيلاطس الوالي الروماني عنهم وقتئذ: "أسلموه حسداً" (متى 27: 18) بلغت صلافتهم أن قالوا "دمه علينا وعلى أولادنا" (متى 27: 25) . إن هذا النبي الآتي لن يكون من شيعة النصارى، والدليل على ذلك ما قاله لتلاميذه بصريح العبارة: "فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به" (يوحنا 16: 13) بل زاد إيضاحاً فأنبأ بأن هذا النبي المنتظر سيرشد إلى حقائق لم يبلغها المسيح عيسى ابن مريم ذاته فقال: "ويخبركم بأمور آتية" (يوحنا 16: 13) والقرآن الكريم هو الآية الخالدة إلى أن تقوم الساعة، إنه الإعجاز البياني، والإعجاز العلمي، والمضمون لحقائق ما وصل إليه الإنسان في عصرنا من كشف علمي وما سيصل إليه الإنسان من كشوف علمية، فلا جديد تحت شمس القرآن الكريم.

وهنا نقول إذا كان ابن مريم قد جاء (بكل الحق) فلا داعي إذن أن يبعث الله رسولاً آخر. وفي نبوة ابن مريم عن النبي الخاتم إن هذا النبي سيأتي بكل الحق. وإذا كان هذا النبي سيأتي بكل الحق فإنه سيكون ولا ريب آخر الأنبياء والمرسلين بل خاتم النبيين ولا تعقيب بعده. لذلك فعلينا أن نبحث عن إنسان على نسق إبراهيم عليه السلام، ومن سلالته فننتظر ظهوره، هذا النبي لن يكون يهودياً ولن يكون نصرانياً ولكن مؤمناً حنيفاً على ملة أبيه إبراهيم، إن هذا النبي سيمجد المسيح بما هو أهله تأكيداً لقوله "ذاك يمجدني" (يوحنا 16: 14) . والقرآن الكريم حافل بآيات الدفاع عن المسيح عيسى ابن مريم وأمه، ودفع عنه الشبهات بالحجة البالغة والاعتراف به عبداً لله ونبيه ورسوله أرسله إلى بني إسرائيل، وأيده بالإنجيل والروح القدس. لقد كانت رسالة المسيح موحي بها من الله، لهذا واجه بني قومه قائلاً: "أجابهم يسوع وقال تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني" (يوحنا 7: 16) وقال: "لأني لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم" (يوحنا 12: 49) . وكذلك تعاليم هذا النبي الآتي لابد ان تكون وحياً من الله، فضلاً عن أن تكون تصديقاً وتثبيتاً على الرسالات السابقة السماوية (التوراة والإنجيل) وهيمنة عليهما. ومن ثم فإن رسالة النبي الخاتم لن تكون محض انتحال صورة طبق الأصل للتوراة والإنجيل، أو محض انتحال ملحض التوراة والإنجيل، حاشا ولن يكون كذلك. فإن الله القادر على كل شيء أبان شخصية هذا النبي الخاتم في التوراة قائلاً: "وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به" (تثنية 18: 18) هذا فضلاً عن وجوب اتفاق هذه الكلمات مع كلمات الوحي للرسالات السماوية السابقة، لأنها ولا ريب من مصدر واحد هو الله الواحد الأحد، وفارق كبير بين الاتفاق والنقل. وقال الله تثبيتاً لما قاله على لسان موسى قال على لسان عيسى: "لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به" (يوحنا 16: 13) . إن الإشارة المفردة في إنجيل يوحنا 14: 26 التي تتوخى شخصية النبي الآتي تقرر أنه (المعزي) "وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل

شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم" (يوحنا 14: 26) المعزى (الباراقليط) أو (الروح) إنه الفرد الوحيد، وما يماثله في كل الكتاب المقدس، ومع هذا الوضوح فإن أحد كتاب إنجيل يوحنا شاء بطريقته الخاصة وحسب تفكيره أن يبين أن (روح الحق) هو (غير المعزى) . وهذا بحث كدح فيه وعناء لا مبرر له، ولا يمكن تحديده، بل بكل بساطة يتناقض مع ما قرره يسوع المسيح فيما تحدث به في مكان آخر من إنجيل يوحنا وطبقاً لنصوص أخرى كانت دلالات واضحة بأن ذلك النبي هو (المعزى) الباراقليط الذي لن يأتي إلا بعد أن تنتهي رسالة يسوع المسيح. المعزى - الروح القدس - روخ الحق - ملاك الوحي هو كان على أهبة النشاط قبل بعثه يسوع المسيح، وفي اثناء بعثته على السواء - وبعد بعثته على النبي الخاتم يتنزل بالوحي على أنبياء الله بأمر الله وإرشاده. ويؤيدهم بنعمته وآياته ويعضدهم. هذا هو داود عليه السلام يتضرع إلى الله قائلاً: "روحك القدوس لا تنزعه مني" (مزمور 51: 11) وهذا يوحنا المعمدان يشهد للمسيح عند معموديته منه قائلاً: "فلماذا اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء. وإذا السموات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتياً عليه" (متى 3: 16) . ويروى متى في إنجيله كيف أصعد الله المسيح إلى البرية ليجرب من إبليس تمهيداً لابتعاثه رسولاً: "ثم اصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس" (متى 4: 1) ويروى عند انتصار المسيح على إبليس: "ثم تركه إبليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه" (متى 4: 11) إلخ. هذا فضلاً عن نشاط الروح مع التلاميذ: أولاً - مع الرسل: "فألقوا أيديهم على الرسل ووضعوهم في حبس العامة، ولكن ملاك الرب في الليل فتح أبواب السجن وأخرجهم وقال: أذهبوا قفوا وكلموا الشعب في الهيكل بجميع كلام هذه الحياة" (أع 5: 18 - 20) .

ثانياً - مع استفانوس: "ثم إن ملاك الرب كلم فيلبس قائلاً: قم واذهب نحو الجنوب على الطريق المنحدرة من أورشليم إلى غزة التي هي برية فقام وذهب وإذا رجل حبشي خصى وزير لكنداكة ملكة الحبشة كان على جميع خزائنها" (أع 8: 26، 27) "ولمل صعدا من الماء خطف روح الرب فيلبس فلم يبصره الخصي أيضاً، وذهب في طريقه فرحاً، وأما فيلبس فوجد في أشدود" (أع 8: 39، 40) . ثالثاً - مع بطرس: "ولما كان هيرودس مزمعاً أن يقدمه، كان بطرس في تلك الليلة نائماً بين عسكريين مربوطاً بسلسلتين، وكان قدتم الباب حراس يحرسون السجن، وإذا ملاك الرب أقبل ونور أضاء في البيت، فضرب جنب بطرس وأسقظه قائلاً: قم عاجلاً، فسقطت السلسلتان من يديه، وقال له الملاك، تمنطق والبس نعليك، ففعل هكذا فقال لع البس رداءك واتبعني، فخرج يتبعه، وكان لا يعلم أن الذي جرى بواسطة الملاك هو حقيقي بل يظن أنه ينظر رؤيا فجاز الأول والثاني وأتيا إلى باب الحديد الذي تؤدي إلى المدينة فانفتح لهما من ذاته فخرجا وتقدما زقاقاً واحداً، وللوقت فارقه الملاك" (أع 12: 6 - 10) . رابعاً - مع موسى كليم الله: "ها أنا مرسل ملاكاً أمام وجهك ليحفظك في الطريق وليجئ بك إلى المكان الذي أعددته، احترز منه واسمع لصوته ولا تتمرد عليه، لأنه لا يصفح عن ذنوبكم، لأن اسمي فيه" (خروج 23: 20، 21) . خامساً - موقف المسيح من الروح القدس: "كل من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، وأما من جدف على الروح القدس فلا يغفر له" (لوقا 12: 10) "لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يغفر للناس، وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس، ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي" (متى 12: 31 - 32) .

هذا (الروح القدس) العجيب الذي فيه بلغ التفسيرات المتداولة حداً كبيراً - فقط عندما انعقدت المجامع المسكونية، وأخذت تناقش العقيدة في ضوء الفكر الفلسفي المعاصر، الأمر الذي تسرب إلى العقيدة النصرانية (عقيدة التوحيد) عقائد من ديانات الخلاص المنتشرة في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، فجعلت من الإنسان يسوع المسيح الإله المتأنس، وجعلت من أمه الرب مريم البتول أماً للإله، وجعلت من الروح القدس (جبرائيل ملاك الرب) روح الله، ومن ثم صاغوا من هنا وهناك عقيدة التثليث فجعلوا من الله الواحد الأحد إلهاً مثلث الأقانيم "آب وابن وروح قدس" وللحقيقة والتاريخ أن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد يخلو تماماً من عقيدة التثليث، ومن حتى فكرته. إن (المعزى الروح القدس) (الباراقليط) هو إنسان لا خيال، وقد أبان يسوع المسيح هذا فقال: وغن أخطأ أحد فلنا شفيع عن الآب يسوع المسيح البار" (رسالة يوحنا الأولى 2: 1) . فإن يسوع المسيح اصبح بهذا المفهوم أيضاً (الباراقليط) كما تصوره يهود عصره، وكما تصوره تلاميذه. ولكن (الباراقليط) الآتي بعد المسيح سيكون للناس كافة لكل زمان ولكل مكان كما جاء في إنجيل يوحنا 14: 16، 17 "وأنا أطلب من الاب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد روح الحق ... " إن النص اليوناني لإنجيل يوحنا 14: 16، 17 التي تخبر مقدماً بمجئ (معزياً آخر) منصوص عنه حتى إن كلمة (آخر another) لها دلالة حقيقة ففي اللغة الإنجليزية another تعني one more of the same one more of a different kind or one more of different kind. ومن المهم أن نعلم أي معنى عن يسوع في ذهن الإنسان. ذلك الذي قصد (معزياً آخر) وهذا يقصد الباراقليط ربما يكون خيال. وتفسيرات رجال اللاهوات المتداولة لها مزية، ولكن إذا قصد one more of the same kind إذن فهذا برهان إيجابي بأن الباراقليط سوف يكون مثل يسوع المسيح رجل، إنسان بشري، نبي لا خيال. فماذا كان يعنيه يسوع المسيح؟ إن النص اليوناني من كتاب العهد الجديد يعطي الرأي الممحص بكل الوضوح بسبب لأنه يستعمل كلمة allon وهي مذكر لصيغة

المفعول الصريح لكلمة allos إن الكلمة اليونانية for another of a different kind هي heteros ولكن كتاب العهد الجديد لا يستعمل هذه الكلمة في إنجيل يوحنا 14: 16. clearly, then the paraclete Would be "another" of the same kind" as Jesus, or Moses said "like unto me": a man not a spirit, ويعطيكم معزياً آرخ ليمكث معكم إلى البد (يوحنا 14: 16) نبياً من وسطك من إخوتك مثل (تثنية 18: 15) نبياً من وسط إخوتهم مثلك (تثنية 18: 18) . وجاءت نصوص تؤكد أن المسيح عيسى ابن مريم حقيقة بشرية لا خيال: من إنجيل متى 14: 25 - 27 (وفي الهزيع الرابع من الليل مضى إليهم يسوع ماشياً على البحر. فلما أبصره التلاميذ ماشياً على البحر اضطربوا قائلين إنه خيال. ومن الخوف صرخوا. فللوقت كلمهم يسوع قائلاً تشجعوا. أنا هو لا تخافوا" وجاءت الترجمة الإنجليزية للعبارة (قائلين إنه خيال) هكذا: ومن إنجيل لوقا 24: 39 (انظروا يدي ورجلي أني أنا هو جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحكم وعظم كما ترون لي" وجاءت الترجمة الإنجليزية هكذا. * * *

نظرة تفصيلية للنبوات نستطيع بعد هذه الدراسة التحليلة أن نضع الصورة الكاملة التي نستمدها من نصوص الكتاب المقدس، والتي لم يطرأ عليها تغيير ولا تبديل ولا تحريف، لأن الله شاء فحفظها حرصاً على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثم إننا نحصل على تصور معين لصورة الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوارة والإنجيل، هذا الرسوا بدا شامخاً بشيمه الشماء وهي من شقين: (أ) أنه الرسول النبي الخاتم ولا نبي بعده. (ب) أنه رسول الله للعالمين كافة للأسباب: 1 - لأنه متمكن ورحيم. 2 - لأنه مؤسس لأمة على الحق والبر. 3 - لأنه بفضل الله نور للأمم. 4 - لأنه وثيق الصلة بسلالة قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام. وهذه الحقائق مؤسسة على سفر أشعياء 42: 1 - 11: 5 - لأنه سليل إسماعيل - وإسماعيل أخو غسحاق فهو عم العبرانيين كافة. 6 - لأن فيه يتحقق مواعيد الله لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. 7 - لأن فيه تتبارك كل شعوب الأرض. 8 - لأنه الوارث الحقيقي لإسماعيل، وإسماعيل هو بكر إبراهيم، فله النصيب المضاعف. 9 - لأنه يتلقى الوحي مباشرة من الله. هذه الحقائق مؤسسى على سفر التكيون 17: 20 - 22: 16 - 18: وسفر التثنية 21: 15 - 17 - 18: 15 - 19: - لأنه يأتي على أثر اختتام رسالة المسيح عيسى ابن مريم.

- لأنه يعزى ويرشد جماعة المؤمنين من أتباع المسيح (الباراقليط) Paraclete - لأنه أفعاله وأقواله وخصاله تنبؤ أنه المحمد. The Praised one (Pericyte) - لأنه الصادق الأمين وشهرته ذائعة في العالمين بالصدق والأمانة. - لنه يتلقى الوحي مباشرة من الله. - لأن رسالته خالدة أبدية. - لأن يرشد إلى الحق ... إلى جميع الخلق. - لأنه يدافع عن المسيح عيسى ابن مريم وأمه (ذاك يمجدني) ويدفع عنهما الشبهات. (هذه الحقائق مؤسسة على إنجيل يوحنا 14: 16، 17 - 14: 45، 26 إنجيل يوحنا 15: 26، 27 - إنجيل يوحنا 16: 13، 14) ولتصفية هذه الشواهد في تركيز وإيجاز أوضح فإن النبي الخاتم يختلف عن الآخرين من أنبياء العبرانيين في ثلاثة وجوه حيوية ورئيسية على الأقل: 1 - أنه سيكون صاحب رسالة عالمية. 2 - أنه سيصبح خاتم النبيين ولا نبي بعده ولا نبوة بعده. 3 - أنه من ذرية إسماعيل عليه السلام الذي خلعت عليه بنو إسرائيل (العرب) . وأنه سليل قيدار بن إسماعيل. (هذه الحقائق مؤسسة على إنجيل يوحنا 16: 12 - 14، وسفر إشعياء 60: 1 - 7) وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت. يوم السبت: 14/8/1982. المؤلف إبراهيم خليل أحمد

الباب الأول التوراة والإنجيل يتنبآن ببعث الرسول الكريم

الباب الأول التوراة والإنجيل يتنبآن ببعث الرسول الكريم {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} . أرسل الله رسوله الكريم وأمره بالتبليغ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وهنا يتبادر إلى ذهن الإنسان الذي يتذوق حلاوة الإسلام ديناً أن يتسائل: ما الرسالة؟ فيوحى القدير بقوله إلى الرسول الكريم ليجيب بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ويزكى الله الحكيم نبيه لأهل الكتاب بقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ولهذه التزكية من بر العالمين للنبي الكريم وجب على العالمين الإيمان به. ومن أهل الكتاب راسخون في العلم:

{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أولئك هم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} . وللمسلم أن يعتز بدينه، فهو كالشمس: تشرق على المسلمين وغير المسلمين. وللمسلم أن يعتز بإسلامه، فهو كالهواء النقي: لا يستغنى عنه الخلق، ولا حياة لهم بدونه. وللمسلم أن يعتز بقرآنه، فهو كالماء: فيه حياة لكل من نهل منه. وليس بعجيب أن يوصى الله المسلم بقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} والواقع أن الله ميز المسلم بإقامة الدين بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}

بشارات من التوراة والإنجيل

بشارات من التوراة والإنجيل أولاً - من التوراة: التوراة كلمة عبرية بمعنى "قرآن" وبهذا صار سيدنا موسى عليه السلام يتلقى الوحي من الله، فيقرؤه لبني قومه الإسرائيليين، وعند قراءة التوراة كان على الحبر أن يتأكد من طهارة جسده من كل دنس، وعند ذكره للفظ الجلالة يجب أن يخر ساجداً خاشعاً من خشية الله تعالى. ولقد تبنأ سيدنا موسى عليه السلام ببعث الرسول الكريم في عدة آيات: 1 - قال في سفر التثنية 23: 3: "جاء الرب من سيناء واشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران".

وهذه الآية الكريمة هي البركة التي بها سيدنا موسى عليه السلام بني إسرائيل في برية سيناء قبل غروبه إلى الراحة الأبدية. ولكي نفهم هذه المعاني لا يسعنا إلا التدبر فيما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} . ومن هذه الآية القرآنية الكريمة نجد تطابقاً كاملاً في الوسيلة والتعبير، إذ أقسم الله تعالى ببقاع مباركة عظيمة ظهي فيها الخير والبركة في الوسيلة والتعبير، فالتين والزيتون مجاز عن منابتهما بالأرض المباركة وفيها مهجر إبراهيم، ومولد عيسى ومسكنه عليهما السلام. وطور سينين الجبل الذي كلم الله عليه سيدنا موسى عليه السلام، والبلد الأمين مكة المكرمة التي ولد فيها وبعث منها أشرف الخلق وهو سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفيها البيت العظيم. والتطايق بين الآية التي وردت في التوراة والآية القرآنية هو: سيناء مجاز عن الجيل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام. وسعير مجاز عن الأرض المباركة التي ولد فيها سيدنا عيسى عليه السلام، ويكن بها رجال فيها يصنع خيراً للبشرية، وفاران مجاز عن الأرض التي سكن إليها جد الرسول الكريم: سيدنا إسماعيل عليه السلام. والأمر الذي يسترعى الانتباه هو: كيف نستدل على أن فاران هي الأرض المباركة التي سكن فيها سيدنا إسماعيل جد الرسول الكريم عليهما أفضل الصلاة والسلام؟. والدليل على هذا من التوراة في سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع زوجته سارة وهاجر، لقد كانت جارية للسيدة سارة وصارت وززوجة لسيدنا إبراهيم عليه

السلام لإنجاب نسل له، وظنت السيدة سارة زوجة سيدنا إبراهيم أن مهمة جاريتها السيدة هاجر هي إنجاب نسل مع بقائها جارية تسخرها السيدة سارة كيفما شاءت وأرادت. وأنجبت السيدة هاجر ابناً لإبراهيم عليه السلام، وكان هذا الابن قرة عينيها وبهجة قلبها، لكن الزمن لم يرحمها فأذلتها سيدتها السيدة سارة، وخضعت هي لها، وازدادت السيدة سارة إذلالاً لها وتعنتاً. فاستجارت بزوجها إبراهيم عليه السلام لكنه تركها لسيدتها سارة بقوله لها: "هو ذا جاريتك" فاشتدت بها إيلاماً وإيذاء حتى هربت ترجو النجاة مما ألم بها، فقابلها ملاك الله في الطريق فقال له الملاك: "مالك يا هاجر؟ لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغرم حيث هو، قومي أحملي الغلام وشدي يدك لأني سأجعله أمة عظيمة وفتح الله عينيها، فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام وكان الله مع الغلام، فكبر وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر". فيتضح من التوراة إذن أن الذي سكن أرض فاران هو سيدنا إسماعيل عليه السلام، ولعل الله في حكمته سمح بهذه التيارات التي تفاعلت في بيت سيدنا إبراهيم عليه السلام ليستقر إسماعيل في أرض يتميز بها، وتأتي النبوءة على لسان موسى عليه السلام بقوله: "تلألأ من جبل فاران". 2 - قال في سفر التثنية 18: 15: "يقيم الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون". 3 - قال في سفر التثنية 18: 18 "أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به". والإعجاز في هاتين الآيتين في العبارة: "من إخوتك. من وسط إخوتهم". والإعجاز الأقوى في قوله: "أجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به". هذا هو الإعجاز في النبوة.

ويشاء الله - وهو العليم بجبله بنب إسرائيل - كما وضح لنا بقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . يشاء الله أن يجعل الأمر لإسرائيل طلسما حتى لا يحرفوا الكلم عن مواضعه، فيظهر الحق ويزهق الباطل، ويحرصوا على حماية الرسول الكريم، وهم لا يدرون. ينتظروا الرسول الكريم، لكنهم كانوا يظنون أنه إسرائيلي لا عربي، فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاب رجاؤهم وقابلوه بعدوان. كأنه اغتصب منهم النبوة والكتاب والملك. ولنا من التاريخ الديني عبرة، والله يضرب للناس الأمثال لعلهم يهتدون، فقد شاءت إرادة القدير أن ينجي شعبه من بني إسرائيل من ظلم فرعون مصر، وأراد فرعون أن يدرأ عن نفسه ما تنبأ له به الكهنة من أنه يولد من بني إسرائيل ولد ينتزع منه السلطان، فأمر بقتل الذكور ممن يولد للإسرائيليين، حتى كان مولد سيدنا موسى عليه السلام، ويسخر الله فرعون وجنوده، لحماية هذا الوليد. وتبلغ السخرية حد القسوة، فيجعل أمانع وملجأه في بيت فرعون، ليتهذب بكل حكمة المصريين، وليعرف أسرارهم وقوتهم، وكأنه بإرادة إلهية جعله الله عيناً لإسرائيل ليتعرف على قوتهم وعتادهم. هذه هي معاملة الله لكل ماكر عنيد والله خير الماكرين. إن إسرائيل أرادت أن تطفئ النور هي معاملة إسماعيل عليه السلام لكن الله متم نوره ولو كرهوا. فشكراً لإسرائيل. لأنهم حرصوا على سلسلة نسب الرسول الكريم في جده إسماعيل، شكراً لهؤلاء. لأنهم حرصوا على أشادوا بمجد العرب في إسماعيل عليه السلام، فأرادوا له اندثاراً، ولكن الله ثبته وثبت ملكه في حفيده الرسول الكريم، وأرادوا التنكيل به كما ورد في قوله: "اطرد هذه الجارية وابنها لأنه ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحق" ولكن الله يدهم إسماعيل بالحق بقوله: "سأجعله أمة عظيمة"، ليولد منه سيد ولد عدنان محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا كان صراع بين إرادة بني إسرائيل وإرادة الله القدير العزيز، وأتى للإسرائيليين أن يغيروا مقاصد العلي الكبير، فباتوا في حسرة وندم". {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} ثم {بَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}

ثانيا - من الأنبياء:

دعني أيها القارئ العزيز أتتبع البشارات من التوراة للأنبياء إلى الإنجيل، ثم نربط هذه السلسلة بشريط من بعث الرسول الكريم، فأنتقل بك إلى النبوءات التي بشرت بالرسول الكريم، كما وردت عن الأنبياء. ثانياً - من الأنبياء: 1 - في سفر دانيال: في الفترة من سنة 597 إلى 538 ق. م، وفي أيام دانيال النبي، وفي أرض السبى بمملكة بابل، وفي السنة الثانية من ملك الملك نبوخذ نصر ملك بابل - يلهم القدير ذلك الملك الوثني برؤيا منامية، ويكشف له الإمبراطوريات التي تتعاقب وتدور حتى يأتي الإسلام ديناً ودولة، ويرمز إليه بحجر قطع بغير يدين، والقصة وردت في سفر دانيال 2: 1 - 25، نكتفي منها بما ورد في هذا الجزء: "كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير دين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف، فسحقهما فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معاً، وصار كعصافة البيدر في الصيف، فحملتها الريح، فلم يوجد لها مكان. أما الحجر. الذي ضرب اتمثال فصار جبلاً كبيراً وكلأ الأرض كلها". هذه الرؤيا المنامية التي أراها القدير - وهو رب العالمين، رب المؤمنين والوثنيين، والجميع يعملون وفق إرادته وعلمه السابق، ولا يتعدى أي منهم النطاق الذي يحيا فيه إلا بإذنه - هذه الرؤيا يراها نبوخذ نصر الملك ويعبر عنها نبي الله المؤمن، ويفسرها بإذن الله، ويتحقق هذا في حقب التاريخ التي تعاقب كالآتي: 1 - سنة 701 ق. م. مملكة بابل، ويرمز إليها بالرأس من الذهب في عهد نبوخذ نصر. 2 - سنة 612 ق. م. مملكة الكلدانيين في عهد ميداس، ويرمز لها بالفضة. 3 - سنة 326 ق. م. المملكة الإغريقية في عهد الإسكندر المقدوني. ويرمز لها بالنحاس. 4 - سنة 53 ق. م، الإمبراطورية الرومانية في عهد بومباي، ويرمز لها بالحديد.

2 - الأحبار والالتزام بالحلف: "ويل لكم أيها القادة العميان. القائلون من حلف بالهيكل فليس بشيء ولكن من حلف بذهب الهيكل يلتزم، أيها الجهال والعميان أيما أعظم الذهب أم الهيكل الذي يقدس الذهب؟ ومن حلف بالمذبح فليس بشيء ولكن من حلف بالقربان الذي عليه يلتزم، أيها الجهال والعميان أيما أعظم القربان أم المذبح الذي يقدس القربان؟ فإن من حلف بالمذبح فقد حلف به وبكل ما عليه، ومن حلف بالهيكل فقد حلف به وبالساكن فيه، ومن حلف بالسماء فقد حلف بعرش الله وبالجالس عليه". 3 - الشعب والأحبار: يقترب إلى هذا الشعب بفمه، ويكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمبتعد عني بعيداً وباطلاً يعبدونني، وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس". 4 - المسيح والأحبار: "لا تظنوا أني أشكوكم إلى الله. يوجد الذي يشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم لأنكم لو كنت تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني، فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي". 5 - المسيح والتلاميذ (الحواريون) : "فأجابه بطرس: يارب إلى من تذهب وكلام الحياة الأبدية عندك؟ ونحن قدآمنا، وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي؟ أجابهم يسوع: أليس أني أنا اخترتكم الاثنى عشر وواحد منكم شيطان". 6 - المسيح وإبليس: "وقال له إبليس: أعطيك هذه إن خررت وسجدت لس. حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد، ثم تركه إبليس".

وللإجابة عن هذا نجد صلة نسب الرسول الكريم من نبايوت بن إسماعيل ابن إبراهيم عليهم أفضل الصلوات والسلام، وهذه السلسلة النبوية الكريمة يدونها موسى عليه السلام هكذا: "وهذه أسكاء بني إسماعيل حسب نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار ... اثنى عشر قبيلة". ويزداد الأمر وضوحاً وإشراقاً بذكر رموز خاصة "كثرة الجمال"، "يأتي إليك غني الأمم"، "غنم قيدار"، "كباش نبايوت"، "تصعد مقبولة على مذبحي"، إشارة إلى يوم النحر بمنى، و"جبل عرفات بمكة"، "الجزائر وسكانها"، "الديار التي سكنها قيدار"، "الرب كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض". ولقد قال الغرب: إن افسلام قام غارياً كجبار، يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه. 3 - في سفر حبقوق: قال نبي العهد القديم: "الله جاء من تيمان. والقدوس من جبل فاران. سلاه، جلاله غطى السموات، والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع وهناك استتار قدرته". يتنبأ حبقوق بالرسول والرسالة وامتداد رقعة الإسلام، فيوضح سلسلة نسب الرسول الكريم بمنبت جده إسماعيل عليه السلام في أرض فاران، ثم يتحدث عن امتداد الإسلام حيث تسبح الأرض بحمد الله قائلة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم يتحدث عن الركع والسجود الذين يملأون الأرض بحمده وتسبيحه ثم يتحدث عن الإعجاز للقرآن الكريم، الإعجاز العلمي في كل ميادين العلم، وإعجاز تأثيره على السامعين: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}

ثالثا - نبوءات من الإنجيل:

أنتقل بالقارئ الكريم العزيز إلى مرحلة ثالثة وهي البشارات التي وردت عن الرسول في الإنجيل. ثالثا - نبوءات من الإنجيل: يقول سيدنا عيسى عليه السلام للحواريين: "إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون الآن أن تحتملوا، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتيه". ولعلك أيها القارئ العزيز تستطيع أن تجمع بين قول عيسى في هذه الآية، وقول موسى في الآية التي وردت آنفاً بصفحة 38: "وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به". فتجد الأضواء تسلط على نبي سيأتي من هذا النبي؟ لم يكن موسى، ولم يكن عيسى، فمن هذا النبي الكريم؟ إن الأضواء تتجمع في بؤرة واحدة لتكشف عن شخصية هذا النبي. ولعل سيدنا عيسى عليه السلام يزيد وضوحاً في تعريفه لهذا النبي، فيخبرنا عنه أنه "روح الحق" ولسيدنا محمد أسماء منها، "روح الحق" ويحدثنا الله عن الرسول الكريم فيقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} وهذا يتفق مع قول الرسولين الكبيرين: موسى وعيسى عليهما السلام. "لأنه لا يتكلم عن نفسه، بل ما يسمع يتكلم به"، "وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به". المسيح عليه السلام صوت يتنبأ بمقدم الرسول الكريم: لقد جهد المسيح عليه لاسلام من الكهنة والكتبة والفريسيين والصدوقين، وندد بهم بقوله: "ليس كل من يقول" "يارب. يارب، يدخل ملكوت السموات. بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات. كثيرون يقولون لي في ذلك اليوم: يارب يارب،

أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة، فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم". وأسى للشعب فقال عنهم: "يقترب إلى هذا الشعب بفمه، ويكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمبتعد عني بعيداً، وباطلاً يعبدونيي وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس". وفي هذا القول ترديد لما قاله نبي العهد القديم أشعياء وهو في أرض السبى في بابل سنة 701 ق. م: "فقال السيد: إن هذا الشعب قد اقترب إلى بفمه، وأكرمني بشفتيه وأما قلبه فأبعده عني بعيداً وصارت مخافتهم مني وصية الناس معلمة. لذلك ويل للذين يتعمقون ليكتموا رأيهم عن الرب، فتصير أعمالهم الظلمة ويقولون: من يبصرنا؟ ومن يعرفنا؟ لتحريفكم! هل يحسب الجليل كالطين حتى يقول المصنوع عن صانعه لم يصنعني أو تقول الجبلة عن جابلها: لم يفهم؟ " فيقرر سيدنا عيسى عليه السلام قرار الرب بانتزاع النبوة والكتاب من ذرية إسحق إلى ذرية من؟ قال لهم يسوع: "أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية. من قبل الرب كان هذا وهو في أعيننا. لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم، ويعطي لأمة تعمل أثماره". ولتفسير هذا القرار الخطير نستند إلى قوله تعالى في القرآن الكريم لعلنا نهتدي إلى شخصية الرسول الكريم الذي يتحدث عنه المسيح عيسى بن مريم عليه السلام: 1 - الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية: قال الرسول الكريم: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بنياتاً، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة في زواية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبهم البناء فيقولون: ألا وضعت هنا لبنة فيتم البناء؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: فأنا اللبنة، جئت فختمت الأنبياء" صدق رسول الله الذي يؤيده القدير بقوله:

{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ولقد سبق أن وضحت من هو النبي الذي رفضه بنو قومه: إنه جد الرسول عليه السلام، إنه سيدنا إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وذلك بإقرار أهل الكتاب وتفاخرهم عليه بقولهم: "إذن لسنا أولاد جارية، بل أولاد حرة". 2 - إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمة تعمل أثماره: قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} ولعلك أيها القارئ العزيز استطعت أن تدرك المقصود بالحجر: إنه مجاز عن الرسول الكريم، كما أن فاران مجاز عن الأرض التي سكنها جد الرسول سيدنا إسماعيل عليه السلام. ومن هنا نستطيع أن ندرك النبوءة العظمى التي تنبأ بها ملك وثني، وعبر عنها نبي من بني إسرائيل هو سيدنا دانيال نبي الله في العبارة: "كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين، فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف، فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس، والفضة والذهب معاً، وصارت كعصافة البيدر في الصيف، فحملتها اليح، فلم يوجد مكان ... أما الحجر الذي ضرب التمثال - فصار جبلاً كبيراً، وملأ الأرض كلها". هذه هي الحقيقة التاريخية التي وردت في الأنبياء في سفر دانيال، تؤيدها الحقيقة التاريخية إبان بزوغ الإسلام وتقويضه لإمبراطورية الرومان بالغرب وفارس في الشرق، وامتداد الإسلام شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً. وفي هذه الحقبة من الزمن يتنبأ نبي آخر عن الجزيرة العربية وعن البلد الأمين، وعن مناسك الحج، فيتحدث عن بزوغ نور الإسلام بقوله: "ها هي الظلمة تغطي الأرض، والظلام الدامس الأمم، أما عليك فيشرق الرب، ومجده عليك يرى فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك"

وهذه حقيقة تاريخية يثبتها التاريخ: فبينما العالم الشرقي والعالم الغربي بفلسفاتهما العقيمة يعيشان في دياجير ظلام الفكر، وفساد العبادة - بزغ من مكة المكرمة - في شخص سيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نور وضياء، أضاء على العالم فهداه إلى الإسلام. ويتحدث عن إقبال الأمم لمكة ولبيت الله الحرام، يسوقون الهدى للذبح هلى جبل عرفات بقوله: "تغطيك كثرة الجمال مديان ... تبشر بتسابيح الرب، كل غنم قيدار تجتمع إليك، كباش نبايوت تصعد مقبولة على مذبحى، وأزين بيت جمالي". ويرتبط هذا النبي بإعجاز أبد الدهر بما يخبرنا به المسيح في قوله عنه: "ويخبركم بأمور آتيه" هذا الإعجاز هو القرآن الكريم معجزة الرسول الباقية ما بقى الزمان. فالقرآن الكريم يسبق العلم الحديث في كل مناحيه: من طب وفلك وجغرافيا، وجيولوجيا، وقانون، واجتماع، وتاريخ ... ففي أيامنا هذه استطاع العلم أن يرى ما سبق إليه القرآن بالبيان والتعريف: أي يرى الخيط الأبيض من الخيط الأسود، إذ قال تيتوف في أثناء رحلته في الفضاء حول الكرة الأرضية: أنه ذهل لهذا المنظر عند بزوغ الخيوط الأولى من النور لتنقشع على أثرها الخيوط للظلام، وفي رحلته استطاع أن يرى كروية الأرض، وقد سبق القرآن الكريم فوضح الأمر بقوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} ويتحدث جاجارين عن رحلته في الفضاء إلى القمر ومشاهداته للأفلاك، بما قد سبق القرآن الكريم فأخبر به في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} وقوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}

وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ... {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وأعتقد يقيناً أنني لو كنت إنساناً وجودياً (من أنصار الفليسوف سارتر) لا يؤم برسالة من الرسالات السماوية، وجاءني نفر من الناس وحدثني بما سبق به القرآن العلم الحديث - في كل مناحيه - لآمنت برب العزة والجبروت خالق السموات والأرض، ولم أشرك به أحداً. فكيف بي وقد أضاء الله قلبي بنور من الإيمان بتلكم الرسالات السماوية، فما أن أشرقت شمس الإسلام حتى تمت الاستنارة المطلقة والإيمان الكامل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .

الباب الثاني ما الذي اختلفت عليه أهل الكتاب؟

الباب الثاني ما الذي اختلفت عليه أهل الكتاب؟ {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} إن العداوة القائمة بين العرب وإسرائيل عداوة قديمة قدم الزمن، فمنابتها منذ عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام، وجذورها تتأصل في قلب السيدة الأولي في تاريخ الإيمان وهي السيدة سارة، وسهام هذه العداوة موجهة إلى السيدة الوديعة المطمئنة، التي شاء القدر أن تصير لها جاريه، وهي السيدة هاجر. لقد أردت سارة ابناً لإبراهيم، وهي المرأة العاقر، فأدخلت إبراهيم على هاجر جاريتها، فحملت هاجر، وولدت إسماعيل، وظنت هاجر أنها أصبحت حرة تشارك السيدة سارة قلب إبراهيم عليه السلام، لكن سارة سرعان ما امتعضت، وصرخت إلى سيدنا إبراهيم قائلة: "ظلمي عليك، أنا دفعت جاريتي إلى حضنك، فلما رأت أنها حبلى صغرت في عينيها، يقضي الرب بيني وبينك" ولم يجد سيدنا إبراهيم عليه السلام إلا التسليم لإرادة زوجته سارة، فقال لها: "هوذا جاريتك في يدك، افعلي بها ما يحسن في عينيك، فأذلتها ساراى فهربت من وجهها" وتوارث الإسرائيليون هذه العداوة من جبل إلى جبل حتى كان عهد الحواريين، فقال بولس المدعو رسولاً لشيعة النصارى: "ماذا يقول الكتاب؟ اطرد الجارية وابنها، لأنه لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة. إذن أيها الإخوة لسنا أولاد جارية، بل أولاد حرة".

وتوارث الإسرائيليون هذه العداوة وتأصلت في نفوسهم، وأثمرت غروراً وعنجهية، فظنوا في أنفسهم أنهم (شعب الله المختار) وأن بقية الخلق هم الأمم الذين لا يرقون إلى مرتبة الإنسانية، فهم عبيد الأرض، وهم الأرقاء هم حثالة الخلق، هذا ظنهم وهذا افتراؤهم، وبئس ما يفترون! وجاء لبنبي الكريم بالبشرى والرحمة للعالمين. فقال: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فأكرم الله سبحانه وتعالى الإنسان بالعزة والكرامة. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} أكرم الله المجتمع ببناء سليم: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} وفي هذا البناء السليم الخير والرفاهية والسلام. واعلك أيها القارئ استطعت أن تدرك أن الإسلام يبني الإنسان بكرامة، ويبني الإنسانية بعزة بالتعاون الاشتراكي، ويؤلف بين القلوب في خشية الله وإجلاله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وهنا نتساءل: ما الذي يختلف عليه أهل الكتاب؟ والرد على هذا يكمن في البحث العلمي الذي قام به العلامة البريطاني البروفسور توينبى: من بحث مستند إلى التاريخ الزمني وتاريخ التوراة والإنجيل معبراً عن رأيه بقوله: "إن النفسية التي تدمغ اليهودي أساسها خطيئتهم القاتلة التي ارتكبوها في حق أنفسهم، إذ كانوا في سالف العصور الشعب الوحيد الذي بلغ مكانة روحانية سامية بفضل اعتناقه وحدانية الله، وبلغوا مكانة روحية سامية دون بقية الشعوب، لكن اليهود بعد أن زودهم الله بهذه الحقيقة المطلقة الخالدة، وأودع فيهم فراسة روحانية لا تبارى، تركوا العنان لأنانيتهم فاستهواهم سراب دنيوي خادع، إذ توهموا أن السمو الروحي الذي

بلغوه إنما خلعه الله عليهم وحدهم بموجب عقد أبدي يجعل منهم شعب الله المختار". وبذلك تردوا في خطأ مميت، ولعل هذه المفاهيم الخاطئة كانت سبباً في غضب الله عليهم حتى قال ذو العزة والجلال: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} وهنا أيضاً نتساءل عن الدافع الذي قاد اليهود إلى اعتبار أنفسهم شعب الله المختار، وإلى سيطرة تلك النفسية المميزة عليهم؟ ويكمن الرد على هذا التساؤل في الأحداث التي جلبها اليهود على أنفسهم فمنذ القدم قال لهم خليفة موسى عليه السلام يشوع بن نون - وهو يدخل أرض فلسطين: "بهذا تعلمون أن الله الحي في وسطكم، وطرداً يطرد من أمامكم الكنعانيين، والحثيين، والحويين، والفرزيين، والجرجاشيين، والأموريين، واليبوسيين". قال لهم يسوع: "إن الله سيحارب عنكم، وينتزع أرضا من أهلها ويورثها لكم". وسكن بنو إسرائيا أرض فلسطين منذ خروجهم من مصر سنة 1375 ق. م. ومازالت تلك الشعوب في وسطهم. ومنذ تلك اللحظات الأولى بدت فيهم رغبة قاتلة لمنهضة الشعوب حولهم, ومناهضة الإمبراطوريات التي تكونت في الشرق الأوسط، وذلك بالعدوان على جيرانهم من الأمم الأخرى. ولهذا عمد البابليون إلى اقتلاعهم من فلسطين، ونقلهم إلى بابل في عهد نبوخذ نصر، وفي سنة 722 ق. م غزا سرجون الثاني ملك أشور فلطسين، ودمر هيكل سليمان، وسبى الإسرائيليين إلى بابل ونينوي، وداس مقدساتهم. ولا غرابة بعد ذلك في ضياع أصول التوراة والأنبياء والمزامير. فلما انقضى أجل الإمبراطورية الأشورية بقيام إمبراطورية فارسية أسسها قورش، سمح لهم الفاتح الجديد بالعودة إلى فلسطين، ولم يطل بهم المقام إذ استولت روما على فلسطين في عهد بومباي العاهل الروماني سنة 53 ق. م، فخضعوا للإمبراطورية

الرومانية في بادئ الأمر، لكن سرعان ما تألبوا، وعادوا جيرانهم، وتعدوا عليهم العداون الأثيم، مما اضطر جيرانيهم إلى سحقهم، وتشتيتهم في بقاع الأرض. وهنا يتجلى الخطأ الذي تردوا فيه، لقد ظنوا أنهم امتلكوا الأرض بقوتهم واقتدارهم، ونسوا الله الذي أراد أن يورثها لهم، فلما عاندوا وتمردوا سلمهم للهزيمة والسحق، وأنذرهم نبيهم إرمياً بهذا القول: "ويعبر أمم كثيرة في هذه المدينة ويقول الواحد لصاحبه: لماذا فعل الرب مثل هذا لهذه المدينة العظيمة؟ فيقولون: من أجل أنهم تركوا عهد الرب إلههم، وسجدوا لآلهة أخرى وعبدوها". لقد أنذرهم ذلك النبي 722 ق. م. بهذا المصير، ولم يرع بنو إسرائيل الحق ولا الأمانة، فكان قول الله عنهم: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} ولما تبين لليهود عقم العنف في تحقيق غاياتهم في السيطرة ركنوا إلى الخيال يستلهمونه حل مشكلة الحفاظ على كيانهم المهدد بالزوال، فكان أن بث الأحبار في نفوس اليهود أنهم شعب الله المختار، وأن العالم يتألف من أشتات الناس مقدراً لهم الخضوع لسيطرتهم في نهاية المطاف. وأخذوا يتشبثون بأهداب الآمال العريضة في مولد ملك من نسل داود، يخلصهم من نير الرومان، ويتسلط على الأرض، ويمتلكون معه، ويقيم لهم إمبراطورية كونية قاعدتها أورشليم "بيت المقدس" ويجعل منهم العنصر الحاكم، وأطلقوا على المخلص المرتقب اسم المسيح، والمسيح لقب ظهر في التوراة يوم مسح شاول بن قيس ملكاً على إسرائيل، ففي يوم تتويجه صبوا على رأسه ذهناً، ومسحوه به، وبهذا سمي مسيح الله، أي الذي مسحه الله بدهن الابتهاج، كعلامة الرضا والتأييد، وأطلقوا على المسيح بن مريم المخلص، أي يسوع، وهي كلمة يونانية تفيد معنى: المخلص، وكلمة يسوع مع تحوير بسيط نطقها نحن المسلمين عيسى.

ما حديث الأناجيل عن شخصية المسيح؟

ويركن أهل الكتاب إلى نبوءة، وإلى تذكير بهذه النبوءة، أما النبوءة فقد وردت في سفر زكريا: "ابتهج جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم، هو ذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومنصور ووديع وراكب على حمار، وعلى جحش ابن أتان". وأما التذكير بهذه النبوة فهو: "قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك يأتيك وديعاً راكباً على أتان". ويأتي المسيح عليه السلام فيستنكر هذا كله. 1 - أما عن الإمبراطورية الإسرائيلية: فإنه يقوض هذا الزعم بهذه الحقيقة في قوله: "يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء والمرسلين ... هوذا بيتكم يترك لكم خراباً". وقد تم التخريب والتدمير الشامل في عهد الدولة الفارسية الساسانية سنة 614 م. 2 - وأما عن شخصيته، فإنه يقول: "مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكيلا أسلم إلى اليهود". وعندما أرادوا أن يأخذوه بمكر قدموا له ديناراً وسألوه: أتعطي جزية لقيصر؟ فأجلبهم: لمن هذه الصورة، ولمن الكتابة؟ قالوا: لقيصر؟ قال: ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. وبهذا أفحمهم جواباً وحسم الأمر. ولقد أفاض Will Durant في هذا الشأن تحت عنوان المسيح والإنجيل في كتابه: The Story of Civilization, Vol. III pp. 564 - 570 ما حديث الأناجيل عن شخصية المسيح؟ إن المسيح عيسى بن مريم لم يكن من النساك الزاهدين كما كان الأنبياء والأسنيون ويوحنا المعمدان.

متى بدأ ظهوره؟ بدأ ظهوره وعمله على أثر سجن يوحنا المعمدان: "وبعدما اسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله"، "وأخذ يعمل عمل يوحنا المعمدان ويخطب في الناس مبشراً بملكوت الله حتى ظن أتباع يوحنا المعمدان أن يوحنا المعمدان قد قام من الأموات". المسيح واختياره لتلاميذه: لقد اختار المسيح تلاميذه من طراز يصعب على المفكر أن يقول إنهم من النوع القيادي الذي يستطيع بشخصيته أن يبدل اتجاهات العالم وتفكيره فالأناجيل تظهر بين أخلاقهم من اختلاف واقعي، وتكشف عيوبهم صريحاً، فهذا بطرس - الذي قال بسيده المسيح: "وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك فيك أبداً" - ينكر صحبته لسيده المسيح عند محاكمة المسيح. في بيت قيافا رئيس الكهنة: "فأنكر قدام الجميع قائلاً: لست أعرف الرجل، وهذا يهوذا يخون سيده، فيتنبأ عنه المسيح وعن خيانته بقوله: "إن واحداً منكم يسلمني، فأجاب يهوذا مسلمه وقال: هل أنا هو يا سيدي؟ قال له: أنت قلت"، وبقلبة خان يهوذا سيده:: فقال له يسوع: يا يهوذا أبقلية تسلم ابن الإنسان؟! ". وهذان هما يوحنا ويعقوب ابنا زبدي لا يخفيان مطامعهما، فيقولان للمسيح: "أعطنا أن نجلس، واحد عن يمينك، والآخر عن يسارك - في مجدك"، والتلاميذ جميعاً كانت مطامعهم تتفق مع مطاعن هذين التلميذين، حتى إن المسيح أراد أن يهدئ. من هذه المطامع، فوعدهم بأنهم سيجلسون على اثنى عشر كرسياً، يدينون أسباط إسرائيل الإثنى عشر.

المشكلة التي واجهها المسيح في إنجيله:

المشكلة التي واجهها المسيح في إنجيله: لقد أدرك المسيح أنه لن يحقق القومية اليهودية بالصورة التي أرادها اليهود، ولهذا قال: "مملكتي ليست من هذا العالم". ولعله كان يقصد بملكوت الله حالة روحية سامية يصل إليها الأبرار والأطهار كما قال: "ملكوت الله في داخلكم". ولقد ظل المسيح زمناً طويلاً لا يرى في نفسه إلا أنه أحد اليهود، يؤمن بأفكار الأنبياء، ويواصل عملهم ويجري على سنتهم، فلا يخطب إلا في اليهود، بدليل أنه التقى بالمرأة السامرية عند البئر، فقال لها: "أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فسنجد لما نعلم" ولما طلبت منه امرأة كنعانية أن يشفى ابنتها أبى في أول الأمر وقال لها: "لم أرسل إلا خراف بيت إسرائيل الضالة". لقد كان متمسكاً بشريعة موسى، حتى إنه لما شفى الأبرص قال له: "اذهب أر نفسك للكاهن، وقدم القربان الذي أمر به موسى شهادة لهم. وإنه كان يلزم اليهود بشريعة موسى بقوله: "كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون، فكل ما قالوا لكم أن تخفظوه فاحفظوه وافعلوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعلموا لأنهم يقولون ولا يفعلون". ولما عرض عليه أن يغير الشريعة أبى، وتمسك بالشريعة الموسوية قائلاً: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض، بل لأكمل". هل كانت تعاليم المسيح جديدة؟ الواقع أنه لا جديد فيما جاء به المسيح من تعاليم، فإن بشارته بمجئ ملكوت الله قد وقع نظيرها قبل مجيئه بقرن من الزمان، وأن الناكوس قد حرص على بث الألفة بين الأفراد بمحبة الفرد للآخر في مثل قوله: "لا تبغض أخاك في قلبك ... لا تنتقم،

ولا تحقد على أبناء شعبك، بل تحب قريبك كنفسك"، "وإذا نزل عندك غريب في أرضكم فلا تظلموه، كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم، وتحبه كنفسك، لأنكم كنت غرباء في أرض مصر". لقد نادى المسيح بشريعة موسى، وحث الناس على أن يستعدوا للدخول في ملكوت الله، بأن يحيوا حياة العدالة والرحمة والحق مستنداً إلى ما جاء بسفر هوشع: "وأخطبك لنفسي إلى الأبد. وأخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم، أخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب". كما أنه في نهجه على شريعة موسى وتفسيره لها كان يتعمق إلى جذور الأحكام، ففي مسائل العلاقات الشخصية قال: "وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق، وأما أنا فأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا لعلة الزني يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني". ووضوح حقيقة السبت بأن ذكر الفريسيين أن السبت قد وضع لخير الإنسان فقال لهم: "السبت، إنما جعل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت". وعدل أركان الدين - كما حدد أهدافه يعقوب في رسالته: "الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم" - من المراسم والطقوس إلى الصلاح والاستقامة. وندد بالجهر بالصلوات حذر اليراء والنفاق، فقال: "فمتى صليت فادخل مخدعك، وأغلق بابك، وصل إلى أبيك الذي في الخفاء"، وندد بالتظاهر بالصدقات خشية طلب كرامة الإنسانية، وعزتها فقال: "احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات".

موقف الأحبار والكهنة من المسيح:

موقف الأحبار والكهنة من المسيح: لقد قاوم الأحبار والكهنة المسيح على اختلاف فرقهم، عدا فرقة الأسنيين، فقد هالهم أن يختلط بموظفي الإمبراطورية الرومانية المبغضين، وبالنساء ذوات السمعة السيئة: "وكان جميع العشارين والخطاة يدنون منه، ليسمعوه، فتذمر الفريسيون والكتبة قائلين: هذا يقبل خطاة ويأكل معهم". ولهذا كان كهنة الهيكل وأعضاء السنهدرين يرقبون نشاطه بعين الريبة، ويرون في هذا النشاط ما كان يراه هيرودس الملك في نشاط يوحنا المعمدان، وظنوا أنه ستار يخفي تحته ثورة سياسية ضد الإمبراطورية الرومانية، وكانوا في حرصهم على مراكزهم الاجتماعية والدينية يخسون أن يتهمهم الحاكم الروماني بأنهم يتحللون مما هو مفروض عليهم من تبعات، ليحافظوا على النظام الاجتماعي والسياسي، "وأرسلزا جواسيس يتراءون أنهم أبرار لكي يمسكوه بكلمة حتى يسلموه إلى حكم الوالي وسلطانه". ومما زاد في ارتباهم في قوله: "أما تنظرون جميه هذه. الحق أقول لكم: إنه لا يترك حجر على حجر لا ينقض". على أن المسيح كان يقصد بقوله هذا انبثاق الإنسان إلى نور الإيمان الكامل وصدق الاستمساك بروح الشريعة عن يقين، لا بطقوسها. موقف علماء القرن العشرين من المسيح: كتب هرمان ريماس Herman Reimarus أستاذ اللغات الشرقية في جامعة كامبردج مخطوطات عن حياة المسيح تشتمل على 1400 صفحة حرص على ألا ينشرها في حياته، وتوفى سنة 1768 م. وبعد ست سنين من وفاته نشر جتهولد لسنج Gotthold Lessing أجزاء من هذا المخطوط مع معارضة أصدقائه في هذا النشر، وسماه "هتامات ولفنبتل" Wolfenbuttal Fragments.

ويقول ريمارس Reimarus: إن يسوع المسيح لا يمكن أن يكون مؤسس المسيحية أو أن يفهم هذا الفهم، بل يجب أن يفهم على أنه الشخصية النهائية في جماعة المتصوفة اليهود الأسنيين القائلين بالبعث والحساب، ومعنى هذا أن المسيح لم يفكر في إيجاد دين جديد، بل كان يفكر في تهيئة الناس لاستقبال دمار العالم المرتقب، ويوم الحشر الذي يحاسب فيه الله الأرواح على ما قدمت من خير أو شر. وفي عام 1796 اشار هردر Herder إلى ما بين مسيح متى ومرقس ولوقا والمسيح في إنجيل يوحنا من فوارق لا يمكن التوفيق بينها. وفي الفترة 1835 - 1836 قال دافيد ستروس David Strauss إن ما في الأناجيل من خوارق الطبيعة يجب أن يعد من الأساطير الخرافية، وغن حياة المسيح الحقيقية ينبغي أن تعاد كتابتها بعد أن تحذف منه هذه العناصر أياً كانت صورها. وقد اثارت مجلدات ستروس Strauss الضخمة عاصفة قوية من التفكير الألماني، دامت جيلاً من الزمان. من هذا يتبين أن المفكرين أخذوا يتساءلون: هل وجد المسيح حقاً؟ أو أن قصة مؤسس المسيحية وثمرة أحزان البشرية وخيالها وآمالها أسطورة من الأساطير شبيهة بخرافات كرشنا وأوزوريس وأتيس، وأدنيس، ودونتيسيس ومتراس؟ وفي عام 1863 أخرج إيرنست رينان Ernest Renan كتابه "حياة يسوع" جمع فيه نتائج النقد الألماني، وعرض مشكلة الأناجيل على العالم المثقف. وبلغت المدرسة الفرنسية صاحبة البحوث الدينية ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر على يد الأب لوارى Lousy، لذى حلل نصوص العهد الجديد تحليلاً بلغ من الصرامة حداً اضطرت معه الكنيسة الكاثوليكية إلى إصدار قرار بحرمانه هو وغيره من العلماء المحدثين. وفي إنجلترا أدلى و. ب. سميث W. B. Smithوج. م روبرتسن J. M. Robertson بحجج من هذا النوع أنكر فيها وجود المسيح.

ويقول ثالس Thsllus وهو كاتب وثني عاش في القرن الأول: إن الظلمة العجيبة التي يقال إنها حدثت وقت موت المسيح كانت ظاهرة طبيعية ولم تكن أكثر من مصادفة عادية. هذا ما كان من أمر المسيح نفسه، أما الأناحيل فليس أمرها بنفس النمط الذي سار عليه الباحثون الناقدون، ذلك لأن الأربعة الأناجيل التي وصلت إلينا هي البقية الباقية من عدد أكبر منه كثيراً كانت في وقت ما منتشرة بين المسيحيين في القرنين الأول والثاني. واللفظ الدال على الإنجيل Gospel - ترجمة للفظ اليوناني، euangelion، ومعناه الأخبار السارة، وهي أن المسيح قد جاء ليبشر بأن ملكوت الله قريب المنال. لقد اختلف اليهود في إدراك ميراث الأرض. واختلف النصارى في إدراك شخصية المسيح عيسى بن مريم. وفي هذا الاختلاف تضاربت أقوالهم. وأصبحوا أمام الأمر الواقع مضطرين أن يدافعوا عن هذا التضارب، وأصبحت الأوهام في الدفاع عن ذلك تكبر شيئاً فشيئاً حتى أصبحت عملاقاً يسيطر على تفكيرهم، ويطغى عليهم، وصارت هذه الأوهام حقائق في نظرهم. ومن هنا كان سر متاعبهم، وسر إتعابهم لمن حولهم.

الباب الثالث المسيحية وتطويرها

الباب الثالث المسيحية وتطويرها {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} يقول العزيز الحكيم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} ويقول أيضاً: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وقال المسيح عليه السلام: متى جاء ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثنى عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر". لم يفهم الكهنة ولا الحواريون كلام المسيح عليه السلام فس جوهره الذي يعينه، بل حرفوا الكلم عن مواضعه لدرجة أن تطلب أم ابني زبدي منه عليه السلام بقولها: "قل أن يجلس ابناى هذان واحد عن يمينك والآخر عن يسارك في ملكوتك" فيجيبها بقوله: "مملكتي ليست من هذا العالم"

أسلوب المسيح في بشارته بملكوت الله:

ومنى الحواريون واليهود قلطبة بخيبة أمل حينما قال لهم سيدنا عيسى عليه السلام: "مملكتي ليست من هذا العالم"، حتى إن كبير كهنتهم جمع رؤساء الكهنة والفريسيين في مجمع وقال لهم: "ماذا نصنع؟ فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة. إن تركناه هكذا يؤمن به الجميع، فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا ... أنتم لستم تعرفون شيئاً، ولا تفكرون أنه خير لنا أم يموت واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها". فلا بدع ولا ملام - والحالة هذه بالنسبة إلى عقلياتهم المتحجرة - أن يكفروا برسالة سيدنا عيسى عليه السلام، وقد جاء يبشرهم بمملكة أخرى أخروية لا دنيوية، مملكة روحانية وليست مادية. حقيقة المسيح من ملكوت الله أسلوب المسيح في بشارته بملكوت الله: كان المسيح يعلم الناس بالبساطة التي تتطلبها حال مستمعيه، ويمزج هذه التعاليم بالقصص الطريفة التي تجعل دروسه تنفذ إلى الأذهان، وترسخ في القلوب، وبالحكم والأمثال بدل الحجج العقلية. ومن أقواله: إن ملكون الله قد حان أجله، وإن الله سيقضي عما قريب على عهد الشر والخبائث. وكانت هذه الأفكار مألوفة لسامعيه، ولهذا لم يحددها تحديداً واضحاً، ومن ثم نشأت في وقتنا هذا صعاب جمة، سببها ما في هذه الأفكار من غموض. ترى ماذا كان يعني بملكوت السموات؟ أهي سموات خيالية خارجية عن مألوف الطبيعة؟ أم هي حالة معنوية للتسامي بالنفس الإنسانية عن مستواها الحيواني؟ أم هي شيء آخر؟ ويقول Will Durant ول ديورانت في كتابه (قصة الحضارة The Story of Civilization) تخيل إلى أنها لم تكن كذلك لأن التلاميذ والمسيحيين الأولين

كانوا على بكرة أبيهم ينتظرون أن توجد مملكة أرضية، لهذا أخذوا يرددون هذه العبارة: "ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك" ولقد رأى المسيح في ملكوت الله مجازاً للكمال الخلقي، وأن هذا الكمال الخلقي إنها هو إعداد لهذا الملكوت، وثمن يؤدي للحصول عليه، "وكل من ترك بيوتاً، أو إخوة أو أخوات، أو أباً أو أماً أو امرأة أو أولاداً، أو حقولاً من أجل اسمى - يأخذ مائة ضعف، ويرث الحياة الأبدية". وقد حدد موعد هذا الملكوت تحديداً متضارباً فإنه يقول لأتباعه: "فإني احق أقول لكم لا تلكمون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان". ثم يعود فيؤخر قليلاً بقول: "الحق أقول لكم إن من القيام ها هنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتياً في ملكوته"ز ثم يعود فيؤخره أكثر بقوله: "الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله". ثم رأى بعد أن مرت به الأيام أنه من حسن السياطة أن يحذر رسله بقوله: "أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء". ثم حدد علامات لهذا اليوم كقوله: "وسوف تسمعون بحربو وأخبار حروب. انظروا، لا ترتاعوا، لأنه لابد أن تكون هذه كلها، ولكن ليس المنتهى بعد. بل تقوم أمة على أمة. ومملكة على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن، ولكن هذه كلها مبتدأ الأوجاع". تفسيرات المسيحيين الأولين لملكوت الله: لقد فهم المسيحيون الأولون أن ملكوت الله هو Cnmmunist Utopia الاشتراكية المثالية، وحسبوا أن المسيح ثائر اجتماعي، وأخذوا من الأسانيد التي وردت في الأناجيل

ما يؤيد رأيهم من قوله: "ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله"، ومن قوله: "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ وماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه". ومن قوله" "إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع كل أملاكك، وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء". ومن قوله "لا يقدر خادم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويجب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر، لا تقدرون أن تخدموا الله والمال". ولعل هذا ما جعل التلاميذ يكونون جماعة اشتراكية تعاونية: "وجميع الذين آمنوا كانوا معاً، وكان عندهم كل شيء مشتركاً، ولأملاك ولمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسنمونها بين الجميع، كما يكون لكل واحد احتياج". تفسيرات الأحبار والكهنة لملكوت الله: "جمع رؤساء الكهنة والفريسيون مجمعاً، وقالوا: ماذا تصنع؟ فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة. إن تركناه هكذا يؤمن الجميه به، فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا. فقال لهو واحد منهم - وهو قيافا كان رئيساً للكهنة في تلك السنة: أنتم لستم تعرفون شيئاً، ولا تفكروا أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها" أما المسيح نفسه "فكان يعلم كل يوم في الهيكل، وكان رؤساء الكهنة والكتبة مع وجوه الشعب يطلبون أن يهلكوه، ولم يجدوا ما يفعلون، لأن الشعب كله كان متعلقاً به يسمع منه" وهذا تآمر عليه الأحبار والكهنة، ووجهوا إليه تهمة أنه يهيج الشعب "وهو يعلم في كل اليهودية مبتدئاً من الجليل إلى هنا". لقد كفروا به، وتآمروا على موته حتى إن بيلاطس الوالي الروماني تقدم إليهم بقوله: "هوذا ملككم ... فأجاب رؤساء الكهنة: ليس لنا ملك إلا قصير".

والحقيقة التى لا ريب فيها - أن المسيح لم يقصد انقلاباً ثورياً بتحقيق ما يجيش بخاطر اليهود من القومية اليهودية، ومع هذا جاءه الرؤساء والشعب يجربونه ليأخذوه بكلمة من فيه قائلين له: "قل لنا: ماذا تظن؟ أيجوز أن نعطي جزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم، وقال لهم: لماذا تجربونني يامراءون؟ أروني معاملة الجزية. فقدموا له ديناراً، فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله". وكان المسيح صديقاً للجميع، فاتخذ من اليهود موظفي الإمبراطورية الرومانية أصدقاء له مع كراهية بني قومهم لهم إذ "عشاراً اسمه لاوى جالساً عند مكان الجباية فقال له: اتبعني. فترك كل شيء، وقام وتبعه، وصنع له لاوى ضيافة كبيرة في بيته والذين كانوا متكئين معهم جميعاً كثيراً من عشارين وآخرين". كما يبدو أن المسيح لم يكن يفكر في القضاء على الأغنياء أو الفقراء، لأن الفقراء معه، فهو كالأقدمين جميعاً يرى أن من الأمور المسلم بها أنه يجب على العبد أن يخدم سيده على خير وجه، كقوله: "طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا". ومع هذا كله اجتمع السنهدرين في اليوم التالي، وأثبت عليه جريمة التجديف، وكان عقابها الإعدام، ورغبة منهم في إظهار الولاء للرومان قرر السنهدرين أن يساق المسيح أمام الحاكم الروماني الذي جاء إلى أوشليم ليرقب الجماهير المختلفة أثناء عيد الفصح، وأمام ثورة اليهود العارمة تقدمت كلوديا زوجة الوالي الروماني بيلاطس تحذر زوجها بقولها: "إياك وذلك البار، لأني تألمت كثيراً في حلم من أجله". وكان بيلاطس البنطي حاكماً قاسياً، فلم يهتم بشأن المسيح إذ سأله سؤالاً يكاد يكون من قبيل المداعبة: "أأنت ملك اليهود؟ فقال له يسوع: أنت تقول". ولم يسمع بيلاطس وقد تيقن من براءة المسيح عليه السلام إلا أن يقول قوله

المشهور: "إني برئ من دم هذا البار". وما كان لبيلاطس أن يرفض رغبة لزوجته كلوديا، السيدة البارة. والمرأة في أي ميدان تقوم بدور خطير في حياة الشعوب، فإلى جانب هذه السيدة البارة سيدة شريرة وهي "هيروديا" التي استهوت هيرودس الملك بخلاعتها في رقصها أمامه. وأخضع الملك لهيروديا وانتهزت تلك نشوة الملك، فطلبت رأس يحيى بن زكريا عليه السلام في طبق، وكان لها ما أرادت وقتل النبي، وفيهن يقول العزيز الحكيم: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} ويقرر Will Durant في كتابة The Story of Civilization أنه لا يسع الإنسان أن يشك في هذه التفاصيل التي تناقلها الناس مشافهة في أغلب الأحيان، ثم دونوها بعد وقوعها بزمن طويل، فإذا أخذنا بهذا النص وجب علينا أن نجزم أن يسوع المسيح كان قد قرر أن يموت، وأن نظرية بولس الرسول عن التمفير "لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه في ما كان ضعيفاً بالجسد فالله إذ أرسل ابنه في سبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح". وينقل يوحنا في محاكمة المسيح عليه السلام أن يسوع خاطب بيلاطس البنطي بقوله: "أنت تقول إني ملك، لهذا قد ولدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم، لأشهد للحق، كل من هو من الحق يسمع صوتي"، فسأله بيلاطس تعقيباً على جوابه: "ما هو الحق؟ " زلعل الباعث على هذا السؤال نزعة الإنجيل الرابع الميتافيزيقية، ومهما يكن من شيء فلم يكن أمام القانون بعد اعتراف المسيح إلا أن يدينه بتهمة "ثائر

نظرية بولس في التفكير

ضد نظام الحكم"، وبناء عليه أصدر بيلاطس حكمة بالإعدام وهو كاره له، وكان الصليب من طريق الإعدام الرومانية. ووضع الجنود تاجاً من الشوك على رأس المسيح استهزاء به، كما نقشوا على صليبه باللغات الآرامية واليونانية عيسى الناصري ملك اليهود" Nazarathean Rex Ioudaeorum لقد خاب الحواريون في زعمهم في المسيح حتى انبرى لهم بولس المدعو رسولاً، ورأى أن يجمع شتات الفكر في عقيدة يكرز بها ويبشر؛ فكان أن اعتبر شخصية عيسى عليه السلام ملكاً مخلصاً، ولعله استقى هذا الاعتبار من الديانة السائدة في تلكم الأيام، وهذه الفكرة قديمة قدم التاريخ. نظرية بولس في التفكير لقد أنشأ بولس لاهوتاً لا نجد له إلا أسانيد غامضة أشد الغموض في أقوال المسيح. وكانت العوامل التي أوحت إليه بالأسس التي قام عليها ذلك اللاهوت هي انقباض نفسه، وندمه على اضطهاده للمسحيين الأولين، والصورة التي استحال إليها المسيح في خياله عند المحاكمة وعند الصلب. ولعله قد تأثر بالفلسفة الأفلاطونية والرواقية في نبذهما للمادة والجسم واعتبارهما شراًَ وخبثاً. ولعله تذكر السنة اليهودية مستقاة من شريعة موسى في التضحية الفدائية وما ينهجه في هذا المقام أصحاب الديانات الوثنية للتكفير عن خطايا البشر. أما هذه الأسس فأهمها "أن كل ابن أنثى يرث خطية آدم، وأن لا شيء ينجيه من العذاب الأبدي إلا موت ابن الله ليكفر بموته عن خطيئته". "لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات الذي ليس له اضطرار كل يوم مثل رؤساء الكهنة أن يقدم ذبائح أولا عن خطايا نفسه عن خطايا الشعب، لأنه فعل هذا مرة واحدة إذ قدم نفسه. فإن الناموس يقيم أناساًَ بهم ضعف رؤساء كنهة. وأما كلمة القسم التي بعد الناموس فتقيم ابناً مكملاً إلى الأبد".

لقد كان اليهود والأقدمون يشتركون مع الكنعانيين والمؤابين والفينيقيبن والفرطاجنيين وغيرهم من الشعوب في عادة التضحية بطفل، بل بطفل محبوب لاسترضاء السماء الغضبي. ثم اصبح في الإمكان على توالي الأيام أن يستبدل الطفل مجرم محكوم عليه بالإعدام. وكان البابليون يلبسون هذه التضحية أثواباً ملكية، لكي يمثل ابن الملك، ثم يجلد ويعدم شنقاً. ومثل هذه الأعمال كانت تحدث في رودس Rhodes في عيد كرونس Cronus، وأكبر الظن أن التضحية بحمل أو جدى في عيد الفصح ليست إلا تخفيفاً لهذه التضحية البشرية اقتضاه تقدم المدينة، وفي ذلك يقول فرازر Frazer: وفي يوم الكفارة كان كاهن اليهود الأعظم يضع كلتا يديه على جدي حي، ويعترف فوق رأسه بجميع ما ارتكبه بنو إسرائيل من مظالم، حتى إذا ما حنل الحيوان خطايا الشعب على هذا النحو أطلقه في البرية". وهذه الفكرة كانت أكثر قبولاً لدى الوثنيين منها لدى اليهود. ولقد كانت مصر وآسيا الصغرى وبلاد اليونان تؤمن بالآلهة من زمن بعيد. تؤمن باوزوريس وأتيس وديونشيس Osiris, Attis, Dionysus وديونشيس هذه ماتت لتفتدي بموتها بني البشر، وكانت ألقاب سوتر المنقذ Soter Savior واليوتريس المنجمي Eleatherios Deliverer تطلق على هذه الآلهة، وكان لفظ كريوس الرب Kyrios Lord الذي أطلقه بولس على المسيح هو اللفظ الذي تطلقه الطقوس اليونانية السورية علة ديونشيس Dionysus. ولم يكن في وسع غير اليهود. أهل أنطاكية وسواها من المدن اليونانية الذين لم يعرفوا عيسى بجسمه - أن يؤمنوا به إلا كما آمنوا بآلهتهم المنقذين، ولهذا ناداهم بولس بقوله: "هو ذا سر أقوله لكم"، ثم يستطرد فيقول: "الذين أراهم أيضاً نفسه ببراهين كثيرة بعد ما تألم وهو يظهر لهم أربعين يوماً ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله".

لقد كانت فكرة "انتقال القديس" بجسمه حياً إلى السماء من الأفكار الشائعة المألوفة بين اليهود، فقد رووها عن موسى وأخنوخ وإيليا. وهكذا اختفى بنفس الطريقة الخفية التي ظهر بها "وأخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا. ورفع يديه وباركهم، وفيما يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء". التعليق: في سفر التثنية تأكيد أن الأبناء لا يقتلون عن الآباء: "ولا يقتل الآباء عن الأولاد، ولا يقتل الأولاد عن الآباء كل إنسان بخطيته يقتل". وجاء أيضاً في طفر التثنية أن المعلق على خسبة ملعون من الله، "وإذا كان على إنسان خطية حقها الموت فقتل وعلقته على خشبة فلا تبت جثته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المعلق ملعون من الله، فلا تنجس أرضك التي يعطيك الرب إلهك". ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} ولقد كشف القناع عن هذه الحقائق السير آرثر فندلاى في كتابه (صخرة الحق) في صحيفة 45، فذكر ستة عشر إلهاً ملكاً مخلصاً عرفوا قبل مجئ المسيح. وهؤلاء أيضا في تواضعهم وحبهم لبني قومهم ماتوا لأجل خطايا العالم، وسمى كل واحد من هؤلاء إلهاً مخلصاً، وأعطى لقب المسيح، وهذه هي أسماؤهم:

1 - أوزوريس مصر 1700 ق. م. 2 - بعل بابل 1200 ق. م. 3 - أتيس فرجيا 1170 ق. م. 4 - ثاموس طوريا 1160 ق. م. 5 - ديونسيوس اليونان 1100 ق. م. 6 - كرشنا الهند 1000 ق. م. 7 - هيوس أوربا 834 ق. م. 8 - أندرا التبت 725 ق. م. 9 - بالي آسيا 725 ق. م. 10 - أياو نيبال 622 ق. م. 11 - الستيس فيريا 600 ق. م 12 - كويكس لكوت المكسيك 587 ق. م. 13 - وتيبا ترفانسكور 552 ق. م. 14 - برومثيوس اليونان 547 ق. م. 15 - كورينوس روما 506 ق. م. 16 - مذرا الفرس 400 ق. م. ويقول السير آرثر فندلاى في متابه (الكون المنشور) : "إن أول إله مخلص قرأنا عنه هو أوزوريس الذي ظهر في مصر في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وكان أميراً مصلحاً، فظن أنه إله، لأن الآلهة - كما يعتقدون - تلبس لباس ذوي الشرف الرفيع. ولما ظهر شبحه بعد الممات ظنوا ان الآلهة سمحت بالحياة، وأنها لم تعد غاضبة على الشعب الذي كان يرزخ في خطاياه وآثامه، وأنها رفعت عنه غضبها ولعنتها التي كتبت عليه بسبب آثامه وخطاياه". وبهذا كان ظهور الفداء بعد الموت معناه أنه قهر الموت، وفتح أبواب السماء للمؤمنين، وبذا عمل أوزوريس على "أن يتواضع ويصير مطيعاً حتى الموت". ولا عجب أن بولس مؤسس المسيحية يتحدث عن المسيح عليه السلام بقوله: "إنه تواضع حتى الموت، موت الصليب" ... ومن هذه الزاوية بدأ بولس يكرز برسالته

بقوله: "لأني لم أعزم شيئاً بينكم إلا المسيح وإياه مصلوباً" وفي هذا تطابق بين أوزوريس الذي أصبح مخلصاً وفادياً ووسيطاً للفراعنة، ومنهم يتقبل كل الحب والتقدير في عبادتهم وسجودهم له، وبين المسيح كزعمهم المخلص والفادي والوسيط. والحقيقة التي لا ريب فيها هي: ظهر المسيح عليه السلام في عهد الإمبراطور الروماني أو غسطس سنة 14 م، عقب فراغ طويل المدى من الجدب الديني لبني إسرائيل، وذلك تأديباً لهم إذ تركهم الله سبحانه وتعالى بلا راع يرعاهم ويهديهم سواء السبيل، فقد قال الله في محكم آياته: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ....} ويقول أيضاً: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} وقال عنهم إيليا نبي العهد القديم: "قتلوا أنبياءك، وهدموا مذابحك ... " وقال عنهم المسيح "يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء والمرسلين". وقد حقت عليهم غضبة الله حيث قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} فأصبحوا فترة من الزمن بلا نبي ولا رسول، هذه الفترة تطلق عليها الكنيسة "فترة الصمت المطلق". وبالإضافة إلى هذا الجدب الديني بالنسبة لإسرائيل كان العالم الروماني يشعر نوع من الفراغ أو الجدب الديني كذلك، فالرومان أنفسهم بدءوا - ولا سيما المتعلمون -

يناقشون الوثنية، ويناقشون تقديس الأباطرة والأديان المحلية سواء أكانت يونانية أو لاتينية. وقد اتجهوا إلى الآراء التي بادى بها الرواقيون. وحتى هذه الفلسفات أخذت تتضاءل أمام بحثهم عن حقيقة الوجود وحقيقة الله. وفي هذا الفراغ الديني الهائل لم يجد الرومانيون - وهو سلدة العلم - وسيلة سوى الاتجاه شطر العقائد الدينية المختلفة المستوردة من الشرق، مثل ديانة سبيل من آسيا الصغرى وديانة متراس من فارس، وديانة إيزيس من مصر، وأخيراً المسيحية التي نبتت في فلسطين. يقول السير آرثر فندلاي في كتابه (الكون المنشور) صحيفة 119: "ترتبط خمسة أسماء بالتغيرات الفكرية الهامة في العالم وهي: 1 - كرشنا 2 - بوذا 3 - كونفشيوس 4 - سقراط 5 - عيسى. "ومع ذلك لم يترك واحد من هؤلاء أية كتابة شخصية، وإنما تركوا أفكارهم لكي تسجلها الأجيال التالية ... ويجب أن يعلم كل إنسان أنه لا توزجد وثيقة اصلية واحدة متعلقة بحياة عيسى". ثم يستطرد فيقول: "إن الإناجيل لا تعتبر سجلات تاريخية، فأولها "مرقس" كتب حوالي سنة 70 م و"لوقا" كتب بين سنة 80 وسنة 95، و"متى" كتب حوالي سنة 100، و"يوحنا" حوالي سنة 110. وليس للأخير قيمة تستحق الذكر في سرد الحوادث الأكيدة، ويظهر أن كل محتوياته لعب فيها خيال الكاتب دوراً بعيداً. ثم جاءت بعد ذلك ترجمة الأناجيل من اللغة الآرامية الشرقية إلى اللغة اليونانية. فاللغة اللاتينية الغربية. وهنا حدثت أخطاء كثيرة، إذ أن الكلمة الآرامية الواحدة قد يكون لها 6، أو 7 معان مختلفة". ويقول أيضاً سير آرثر فندلاى في كتابه (صخرة الحق) ص 59: "إن الأناجيل الحالية لم تستقر إلا في القرن الرابع الميلادي عقب مجمع قرطاجنة عندما تقرر أي الكتابات يحتفظ بها، وأيها يرفض ويستبعد. وقبل ذلك التاريخ سنة 397م لم يكن هناك شيء اسمه العهد الجديد الذي نعرفه اليوم. ويعلل أحد رجال الكنيسة القديس آريرونيوس اختبار أربعة أناجيل في القرن الثاني بأن الأرض لها أربعة أركان".

ويسترسل السير آرثر فندلاى في كتابه (صخرة الحق) صحيفة 76 فيقول: "اكتشف لوحة أثرية في بابل ت تثبيت أن إلهم بعل كان يتصف بنفس الصفات التي أدلحقت بعيسى، وأن هذه اللوحة كتبت قبل العصر المسيحي بمئات السنين حوالي 1200 سنة". ثم وازن على ضوئها بين المبادئ البابلية والمبادئ المسيحية: المبادئ البابلية مقتبسة من اللوحة الأثرية.... المبادئ المسيحية من البابين 27و 28 من إنجيل متى 1 - أخذ بعل أسيراً.... 1 - أخذ عيسى أسيراً 2 - حوكم بعل في قاعة المحكمة.... 2 - حوكم عيسى في قاعة بيلاطس 3 - ضرب بعل.... 3 - جلد عيسى 4 - أخذ بعل إلى الجبل.... 4 - أخذ المسيح إلى الجمجمة 5 - أطلق سراح مجرمان أخذ معه مجرمان.... 5 - أطلق سراح مجرم (بارباس) وأخذ معه مجرمان 6 - بعد أخذ بعل تهدمت المدينة.... 6 - بعد موت عيسى تحطم الهيكل وخرج الموتى ودخلوا المدينة 7 - أخذت ملابس بعل.... 7 - اقتسم الجنود ملابسه واقترعوا على لباسه 8 - ذهب بعل إلى الجبل، واختفى من الحياة.... 8 - خروج عيسى من القبر وذهب إلى عالم الأموات 9 - ذهبت امرأة تبكي عند القبر.... 9 - ذهبت مريم المجدلية تبكي عند قبر عيسى 10 - عاد بعل إلى الحياة ثانية.... 10 - ارتفع عيسى من القبر حياً وبنى المسيحيون على فكرة بنوة عيسى فكرة أنه المخلص الوحيد للبشرية من ذنوبها، وفي هذا بالطبع كثير من الأخطاء والمعارضة للقوانين الكونية، وإذ أن المسئولية الشخصية اعتمدتها كل القوانين. بل إن العلم ينادي بذلك أيضاً.

فعلم الميكانيكا يقول: "لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار، ومضاد له في الإتجاة" وعلم الطبيعية يقول: "كل جسم يشع كمية من الإشعاع بمقدار ما يمكنه أن يستقبل" فلا يمكن إذن أن يتحمل إنسان نتيجة عمل إنسان آخر ... ولهذا جاء القرآن الكريم موضحاً ما لم يفهمه الناس من الإنجيل فقال صريحاً. {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ويقول السير آرثر فندلاى أيضاً في متابه (الكون المنشور) في صحيفة 157 مقارناً المسيحية بالوثنية الفرعونية وتماماً مثلما كان يردد المصريون: "لما كان أوزوريوس يحيا حقاً فسوف أحيا" "لما كان أوزوريس لن يموت فلن أموت". هذه العبارات نفسها يرددها المسيحيون الأولون والمتأخرون بقولهم: "لما كان المسيح يحيا حقاً فسوف أحيا. ولما كان المسيح لن يموت فلن أموت" وللتأكيد من هذا كله أنظر إلى: (يوحنا 6: 32 - 59، 1 كورنثوس 15: 1 - 58) تجد صدق التشابه في المقارنة التي أتى بها السير آرثر فندلاى والتي دونت في العهد الجديد. ويسترسل السير آرثر فندلاى فيقول: "نفس العباران التي قيلت لأوزوريس نسبت إلى المسيح، ولما أضيف اسم عيسى إلى قائمة الآلهة المخلصين أصبحت كل القصص التي قيلت عن الآلهة الوثنية تقال بالمثل تماماً عن عيسى ومن تلك: 1 - قصة الولادة من العذراء.

2 - قصة المحاكمة قبل الموت، وطريقة الإعدام، وطريقة القيامة، وطريقة الصعود. 3 - قصة القيامة بالجسد. "تلكم القصص التي كانت تتكرر في المعابد القيدمة صيغت في ألفاظ، وركزت حول المسيح عيسى بدلاً من أوزوريس الفراعنة، وبعل البابليين، وبرومثيوس اليونانيين، أو أي واحد من الآلهة الآخرين". ثم ينتهي بذكر رأيه فيقول في كتابه (الكون المنشور) ص 184: "لا يعتبر عيسى إلهاً أو مخلصاً، وإنما هو رسول من الله، خدم في حياته القصيرة في علاج المرضى، وبشر بالحياة الأخرى، وعلم بأن الحياة الدنيا ما هي إلا إعداد لحياة أخرى، للملكوت الإلهي، لحياة أفضل لكل من يعمل صالحاً". ثم يؤكد براءة عيسى من شبهات المسيحية في أكثر من موضع، فيقول في الكتاب نفسه بصحيفة 117: "إن بولس هو الذي وضع أساس الدين الذي يسمى الدين المسيحي ... الدين الذي ولد طفلاً عملاقاً متكاملاً في مجمع نيقية سنة 325 م بأمر الإمبراطور قسطنطين" ويقول العلامة روى ديسكون سميث في كتابه (ضوء على البعث) صحيفة 321. "لا يوجد متدين مهمت كان مذهبة أو فرقته يعتقد أن الله العظيم قد أرسل ابنه الوحيد إلى هذه البشرية التي لا توازي - في مجموعها منذ بدء الخلق إلى نهايته - كوكباً من الكواكب المتناهية في الصغر لكي يعاني موتاً وحشياً فوق الصليب، لترضيه النقمة الإلهية على البشرية، ولكي يساعد جلالته على أن يغفر للبشرية، على شرط أن تعلن البشرية اعترافها بهذا العمل الهمجي الذي لا يستسغيه عقل ألا وهو الفداء. "وإذا كان الله قد أذن بالصلب لأجل ترضيته فإنه يكون مشتركاً في الذنب مع السفاكين الذين يكونون قد قاموا بمهمة إلهية. لماذا لا نعتقد أن الله - والمستقبل امامه

كتاب مفتوح - قد سمح بتضحية رسوله لأنه تنبأ بالنتائج العظيمة من أن هذه الحادثة سوف تكون سبباً في حد ذاته في انتشار الإنجيل؟ ". لقد كان الصلب خدعة كبرى بات الإنسان أن يحل طلسمها. وهي عديمة التأثير على جلال الله بين غير المسيحيين، عديمة التأثير على عدالة الله وضبط قوانينه، تلك لقوانين التي تنص على مسئولية الفرد وحده عن عمله وجزائه عليه. {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ويقف القرآن الكريم كالعملاق، ليحسم هذه الفرية بقوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}

الباب الرابع المسيحيون والتعاليم الكتابية

الباب الرابع المسيحيون والتعاليم الكتابية {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} كلمة الله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} "في البدء كان الكلمة، والكلمو كان عند الله، وكان الكلمة الله". نور الله الوضاح - الذي ملأ العيون، وأضاء السبيل منذ فجر تاريخ الإنسانية احتجب النور عن بعض الناس على مر العصور، لا لأن النور ذاته قد تلاشى وتوقف، بل لأن هؤلاء الناس هم الذين وضعوا في طريقه الحواجز حتى لا يصل إليهم، وبذلك ضلوا وأضلزا معهم التابعين، وهكذا قال المسيح للأخبار: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيين المراءون، لأنكم تغلقون ملكوت السموات قدتم الناس، فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون". الدين الصافي الشفاف - الذي نزل كالسلبيل شفاء للقلوب وضياء للعقول - اختلط وتلون وذهب مع الريح، وجرت الإنسانية في الطريق المنحدر حيث ينتظرها في آخره حنفها المشين، الذي طالما حذرها منه القادة والرسل.

وينذرهم المسيح بقوله: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون والمراءون لأنكم تبنون قبور الأنبياء وتزينون مدافن الصديقين، وتقولون: لو كنا في أيام آبائنا ما شاركناهم في دم الأنبياء، فأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء فاملأوا أنتم المكيال مكيال آبائكم" وفي وسط الظلمة وفي عمق الهاوية تنبثق فجأة شعاعة ضوء كما انبثقت مرة لموسى في سفح الجبل: "إني أنا الله". نهم حمل الإنسان الكلمة في طبيعته الخالدة في روحه، إنها كلمة الله عادت اليوم صارخة مدوية تنادي أبناء آدم إلى سواء السبيل، مخدرة من اندفاعهم نحو الهاوية التي تنتظرهم إذا هم ظلوا سائرين في نفس الاتجاه المادي الذي هم فيه اليوم يسيرون. {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} إذن كل ما يضئ عقل الإنسان في طريق دنياه المظلم هو كلمة الله من الله، هو صوت هاتف في قلب الإنسان، هو صوت كاشف في ناظري الإنسان ولم يكن عيسى أول الأنبياء ولا آخرهم: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ومنذ فجر التاريخ بدأت الكلمة في الهبوط، ولكنها كانت دائماً لا تعم الأرض كلها، بل غالباً ما غيرت وبدلت وحرفت بعد أن يغادر حاملوها هذه الدار. وها نحن أولاء في أوائل عصر جديد، عصر لن يسمح للظلام بالعودة مرة أخرى، عصر لن يفرض على البشرية نظريات خاطئة، وخرافات يمحها العقل والمنطق. لقد ظن البعض أن الإنجيل ينص على ألوهية عيسى، وأن الله أرسل ابنه إلى الأرض ليخلص من عليها بتقديم ذاك البن نفسه عن الجنس البشري، وتحمله طوعاً

واختياراً ذنوب البشرية وأوزارها، ثم انتقل هؤلاء ليطبقوا هذه الفكرة بعد ذلك في جميع نواحي العلم، فظنوا أن الأرض إذ يختصها الله بذلك الشرف لابد أن تكون مركز الكون كله. ويقول السير آرثر فندلاى في كتابه (صخرة الحق) ص 134 عن تأثير هذه الفكرة على الكنيسة الأولى ووقوفها في وجه تيار العلم: "كانت الكنيسة تنادي بأن الأرض مستوية، ومركزها في بيت المقدس، وظنت في تلك الأيام أن الأرض هي وحدها العالم الذي يتكون منه الكون، وأن الشمس والكواكب تدور حول الأرض". ولما حاول العلماء الخروج من هذا الخيز بعد القرن الخامس الميلادي وإثبات أن الكون أكبر من الأرض، ظلت الكنيسة في أوهامها تنادي أن هذا الكشف يتعارض مع الافتراض المسيحي وفكرة الإله المخلص, فأحرق "برونو" في روما لما نادى "برونو" بأن هناك عوالم أخرى غير الأرض؛ وأخمدت الكنيسة أنفاس "كوبر نيكوس" الذي لم يجرؤ على أن يظهر كتابه الذي يقول فيه: "إن الأرض ما هي إلا كوكب مثل غيرها من الكواكب السيارة" إلا وهو على فراش الموت: "وجاليليو" اضطر وهو راكع على ركبتيه ذليلاً - خوفاً من المحاكمة - أن يكذب ما سبق أن صرح به من الأرض تدور حول الشمس. وهكذا استمرت الكنيسة واقفة بالمرصاد لكل من يأتي برأي جديد يتعارض ورأيها، فإنها في الحال ترميه بالكفر والإلحاد ولكنها اضطرت أخيراً أن تستسلم وتعترف بصحة هذه الاكتشافات بعد مضى أربعة قرون، أي في القرن التاسع عشر. ثم صار العقل البشري في طريقه إلى غزو الفضاء وتطوير العلم، وكان كلما تطور العلم تطورت معه طرق ومقاييس المفاهيم والقيم، وزالت الغشاوات من فوق العقول، بمعنى أن العلماء - عوضاً عن رجال الدين "رجال اللاهوت" اصبحوا هم الضياء المنير الذي يقود البشرية، ويعرفهم بالله، أو كما قال الله في محكم آياته. {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وأثبت العلم والعلماء وجود الله، إلهاً خالقاً للكون كله، أزلياً سرمدياًَ قديماً،

اكتشاف مخطوطات قديمة:

مستقلاً عما خلق، وعن التواريخ والحوادث التي وضعها الناس لأنفسهم، وأنه شيء آخر مختلف عما يدور بعقل أي إنسان. ومن كل ما سبق يتبين لنا مدى الخطأ الذي وقع فيه بغض المفسرين عندما فسروا الإنجيل تفسيراً حرفياً، وعندما أعطوا قيمة كبيرة للأرض التي نعيش عليها، ووصفوا عيسى بالألوهية، وهو ليس إلا واحداً من عباد الله الصالحين المختارين. اكتشاف مخطوطات قديمة: أكتشف حديثاً مخطوطات قديمة، كانت محفوظة في غحدى الحفر، يرجع تاريخها إلى ما قبل الميلاد، ووجد أنها تحوي معلومات تصحح الفكرة السائدة عن ألوهية عيسى ابن مريم. ولقد كنت الباحثون عدة تقارير حول القيمة العظيمة لهذا الاكتشاف، وهو مخطوطات قديمة مخبأة في أوان فخارية طويلة، هي جزء من مكتوبات الأسنيين القدماء العظماء. ولما أرسل الدكتور تريفور نسخة من هذه المخطوطات إلى الدكتور "و. ف. ألبرايت" - وهو عمدة في علم آثار الإنجيل - رد عليه بقوله: "تهانئي على اكتشاف أعظم مخطوط في العصر الحديث فوق هضبة بجوار البحر الميت"، وحدد تاريخ كتابته بمائة عام قبل الميلاد، وقال: "إنه لا يوجد أدنى شك في العالم حول صحة هذا المخطوط، وسوف تحدث هذه الأوراق ثورة في فكرتنا عن المسيحية". ويرى كثير من الباحثين ورجال الذين وغيرهم - أن هذه المخطوطات القديمة التي تعطي صورة واضحة عن الكتب القديمة التي حرفتها الكنيسة أو كذبتها (والتي ذكرت في الإنجيل) - سوف تحدث ثورة في تفكير كل من يبحث عن الحق بدلاً من العقائد الصناعية أو الدين الذي ةضعه الإمبراطور قسطنطين والذي عقد مجمع نيقية في سنة 320 تحت رئاسته، وفي هذا المجمع وضع نهاية لدين الناصرى المتواضع، دين الوحدانية إلى دين التثليث. والحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن بالنا هي ما قررته هذه المخطوطات "أن

إنجيل برنابا:

عيسى كان مسيا المسيحيين، وأن هناك مسيا آخر"، وقد يكون المقصود بالمسيا الثاني هو نفسه عند عودته بالروح في العصر المتأخر أو يكون المقصود به ظهور النبي محمد، لأنه كان يتكلم للحق منصفاً روح عيسى، ومدافعاً عن العقيدة الصلية التي جاء بها: "ومتى جاء المعزى "الباراقليط" فهو يشهد لي". ويقول القس (أ. باول ديفز) رئيس كهنة كل القديسين في واشنطن في كتابه (مخطوطات البحر الميت) في الصحيفة الأولى: "إن مخطوطات البحر الميت) في الصحيفة الأولى: "إن مخطوطات البحر الميت - وهي من أعظم الاكتشافات أهمية منذ قرون عديدة - قد تغير الفهم التقليدي للإنجيل". ويقول القس "الدكتور تشارلس فرنسيس بوتر" في كتابه (السنون المفقودة من عيسى تكشف) في صحيفة 127: "لدينا الآن وثائق كافيه تدل على أن المخطوطات هي حقيقة (هبة الله إلى البشر" لأن كل ورقة تفتح تأتي إثباتات جديدة على أن عيسى كان كما قال عن نفسه: "ابن الإنسان" أكثر منه "ابن الله" كما ادعى عليه ذلك أتباعه وهو منه برئ". وقال في صحفية 12: "من العسير العثور على كتاب في العهد القديم لا يحتاج إلى تصحيحات تحت ضوء نخطوطات البحر الميت، وكذلك ليس هناك كتاب في العهد الجديد لا يحتاج إلى تفسير شامل للآيات الأساسية التي تقوم عليها الشريعة". وقال في صحيفة 15: "لقد سمي عيسى نفسه "ابن الإنسان" لكنهم سموه "ابن الله": الشخص الثاني من الثالوث، الرب من الرب، ولكن من المشكوك فيه أن يكون الأسنيون أو عيسى نفسه قد وافقوا على هذا". إنجيل برنابا: ترجم الأستاذ خليل سعادة إنجيل برنابا إلى اللغة العربية، ونشرت دار المنار لصاحبها المرحوم رشيد رضا هذا الإنجيل وفي مقدمته كتبت هذه العبارة: "إنجيل برنابا وجد باللغة الإيطالية في مكتبة بلاط فينا. وترجم بعد ذلك إلى جميع اللغات، هذا الإنجيل يعترف صراحة بأن عيسى بشر مثل غيره من البشر، وينكر ألوهيته، وبعترف بوحدانية الله، وبأن محمداً عبد الله ورسوله. ويقال إن البابا "جلاطيوس" قد حرمم قراءة هذا الإنجيل سنة 492 م".

يعلن الدكتور تشارلس فرنسيس بوتر في كتابه (السنون المفقودة من عيسى تكشف) : "إن إنجيلا يدعى إنجيل برنابا استبعدته الكنيسى في عهدها الأول. والمخطوطات التي اكتشفت حديثاً في منطقة البحر الميت جاءت مؤيدة لهذا الإنجيل" وتوالت بعد ذلك الاكتشافات التي لم يسمع عنها الجمهور لدينا كثيراً، وهذا هو سر التعجب، فالمصادر التي تذكر هذه الأمور - كلها أجنبية غربية - قد ذكرت أن مخطوطاً آخر في الفيوم وآخر في مصر العليا، وثالثاً في سور سيناء في سنة 1958 م، وأن هذا الأخر مكتوب باللغة الديموطبقية، وأنه كتب في القرن الثالث بواسطة القديس مرقس الحواري المعروف، يصف فيه تاريخ عيسى ويصحح نقطاً مما جرى عليه العرف. لقد استبعد إنجيل برنابا الذي يهدي إلى الحق، فيهدي إلى الرسول الكريم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن عباراته: "فلما كان الناس قد دعوني الله، وابن الله، على أني كنت بريئاً في العالم - أراد الله أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة، وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله الذي جاء مشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله". وفي هذا المعنى يقول يوحنا الحواري: "ومتى جاء روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي". وقال برنابا أيضاً: "لأن الله سيصعدني من الأرض، وسيغير منظر الخائن حتى يظنه كل أحد إياي. ومع ذلك فإنه لما يموت شرميتة، أمكث في ذلك العار زمناً طويلاً في العالم، ولكن متى جاء محمد رسول الله المقدس تزال عني هذه الوصمة، وسيفعل الله هذا لأنني اعترفت بحقيقة مسيا الذي سيعطيني هذا الجزاء، أي أن أعرف أني حي، وأني برئ من وصمة تلك الميتة".

وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفند هذه الفرية بقول الله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} لقد استبعد إنجيل برنابا، وبقيت كتابات بولس الذي ادعى لنفسه الرسالة. وبين برنابا وبين بولس مشادة يكشف القناع عنها برنابا في قوله: "أيها الأعزاء، إن الله العظيم العجيب قد افتقدنا في هذه الأيام الأخيرة بنبيه يسوع المسيح، برحمته العظيمة للتعليم والآيات التي اتخذها الشيطان ذريعة لتضليل كثيرين بدعوى التقوى مبشرين بتعليم شديد الكفر داعين المسيح ابن الله، ورافضين الختان الذي أمر به الله دائماً، مجوزين أكل لجم نجس الذي ضل في عدادهم بولس الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى". ويقرر العهد الجديد في سفر الأعمال (15: 26 - 40) هذا القرار: "فحصل مشاجرة حتى فارق أحدهما الآخر، وبرنابا أخذ مرقش وسافر في البحر إلى قبرص، وأما بولس فاختار سيلا وخرج مستودعاً من الإخوة" استبعد إنجيل برنابا وبقيت كتابات بولس الذي جاء بتعليم شديد الكفر بقوله: "كأس البركة التي تباركها أليست هي شركة دم المسيح. الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح". ويسترسل الحواري يوحنا على هذا النمط فيقول: "جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق. من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأما فيه". ومن هنا نشأ أحد الأسرار الكنيسة السبعة المعروفة بسر "الأفخارستيا" وفحواه: "اننا نؤمن أنه بعد تقديس سر الشكر، واستدعاء حلول الروح القدس على القرابين - يستحل الخبز والخمر استحالة سرية إلى جسد المسيح ودمه الأقدسين حتى إن الخبز والخمر الذين ننظرهما على المائدة ليسا خبزاً خمراً بسيطين بل هما جسد الرب ذاته ودمه تحت الخبز والخمر". "ونؤمن أن ربنا يسوع المسيح حاضر في هذه الخدمة لا بوجه الرمز أو الإشارة أو الصورة أو المجاز ولا بأنه مستتر في الخبز بل هو حاضر حضوراً فعلياً". والحمد لله الذي قال في عزته وجلاله:

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} هذا هو جل جلاله برئ مما نسب إليه من النبوة والتثليث. هذا هو الله الواحد الأحد {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ليؤكد للإنسان أن الله غفور رحيم. * * *

الباب الخامس القرآن الكريم يهدي أهل الكتاب إلى الصراط المستقيم

الباب الخامس القرآن الكريم يهدي أهل الكتاب إلى الصراط المستقيم {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} إن سيدنا عيسى عليه السلام يتنبأ عن الرسول الكريم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "وأما كتى جاء ذالك (روح الحق) فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية". ويدعم هذه النبوءة بطرس خليفة المسيح على الأرض بقوله: "فإن موسى قال للآباء إن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يكلمكم به". "هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناءون الذي صار رأس الزاوية، وليس بأحد غيره الخلاص". ويقول الله تعال وهو خير القائلين: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}

ويقول سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ومن هذه الأسانيد والقرائن يتبين بوضوح لا ريب فيه أن نقطة التحول في تاريخ الرسالات السماوية هي: 1 - في اختيار الله للرسول الكريم، حفيد سيدنا إسماعيل عليه السلام، وهو شقيق سيدنا إسحق عليه السلام وكلاهما ابن سيدنا إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 2 - وفي تحول الأراضي المقدسة من أرض فلسطين مهد الأنبياء إلى أرض الحجاز، إلى مكة المركة أرض الرسول الكريم، فلنبدأ القصة من بدايتها حتى يتكشف لنا سر هذا التحول الخطير. قال الله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} وحذر سيدنا موسى عليه السلام بني إسرائيل أن ينحرفوا عن طريق الله بقوله: "إذا ولدتم أولاداً وأولاد أولاد، وأطلتم الزمان في الأرض، وصنعتم تمثالاً منحوتاً صورة شيء ما، وفعلتم الشر في عينى الرب إلهكم لإغاظته - أشهد تمثالاً عليكم اليوم السماء والأرض أنكم تبيدون سريعاً عن الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها، لا تطيلون الأيام عليها بل تهلكون لا محالة، ويبددكم الرب في الشعوب، فتبقون عدداً قليلاً بين الأمم التي يسوقكم البر إليها".

جاء المسيح عيسى ابن مريم فماذا وجد؟

وبرغم هذا التحذير والتنبيه فإنهم تردوا في آثامهم وخطاياهم فحقت عليهو غضبة الله. وفي سنة 701 ق. نفذ الله فيهم قضاءه، فقال أشعياء نبي العهد القديم: "من منكم يسمع هذا يصغى ويسمع لما بعد؟! من دفع يعقوب إلى السلب، وإسرائيل إلى الناهيبين؟ أليس الرب الذي إليه أخطأنا ولم يشاءوا أن يسلكوا في طرقه ولم يسمعوا لشريعته". ثم يعود فيحاججهم بقوله: "ها إن يد الرب لم تقصر عن أن تخلص، ولم تثقل أذنه عن أن تسمع، بل آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم، وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع". ويقول الله تعالى في محكم آياته: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} لا ريب أن إرادة الله لابد أن تتم مهما تجاهل الإنسان هذه الإرادة الأزلية السرمدية. كما تنبأ عنهم أرمياء نبي العهد القديم - عن تدمير بيت المقدس وعن تشتيت إسرائيل بقوله: "ويعبر أمم كثيرة في هذه المدينة ويقولون الواحد لصاحبه: لماذا فعل الرب مثل هذا لمدينة العظيمة؟ فيقولون: من أجل أنهم تركوا عهد الرب إلههم، وسجدوا لآلهة أخرى وعبدوها". جاء المسيح عيسى ابن مريم فماذا وجد؟ لقد وجد: 1 - الأحبار والهيكل: "ولما دخل الهيكل ابتدأ يخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه قائلاً لهم: مكتوب أن بيتي بيت الصلاة. وأنتم جعلتموه مغارة لصوص".

2 - الأحبار والالتزام بالحلف: "ويل لكم أيها القادة العميان. القائلون من حلف بالهيكل فليس بشيء ولكن من حلف بذهب الهيكل يلتزم، أيها الجهال والعميان أيما أعظم الذهب أم الهيكل الذي يقدس الذهب؟ ومن حلف بالمذبح فليس بشيء ولكن من حلف بالقربان الذي عليه يلتزم، أيها الجهال والعميان أيما أعظم القربان أم المذبح الذي يقدس القربان؟ فإن من حلف بالمذبح فقد حلف به وبكل ما عليه، ومن حلف بالهيكل فقد حلف به وبالساكن فيه، ومن حلف بالسماء فقد حلف بعرش الله وبالجالس عليه". 3 - الشعب والأحبار: يقترب إلى هذا الشعب بفمه، ويكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمبتعد عني بعيداً وباطلاً يعبدونني، وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس". 4 - المسيح والأحبار: "لا تظنوا أني أشكوكم إلى الله. يوجد الذي يشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم لأنكم لو كنت تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني، فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي". 5 - المسيح والتلاميذ (الحواريون) : "فأجابه بطرس: يارب إلى من تذهب وكلام الحياة الأبدية عندك؟ ونحن قدآمنا، وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي؟ أجابهم يسوع: أليس أني أنا اخترتكم الاثنى عشر وواحد منكم شيطان". 6 - المسيح وإبليس: "وقال له إبليس: أعطيك هذه إن خررت وسجدت لس. حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد، ثم تركه إبليس".

7 - المسيح والدينونة:

7 - المسيح والدينونة: التهمة التي أقاموها ضده "أنه جعل نفسه ابن الله" ويفند القرآن هذه الشبهة، ويدفعها عن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام بقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وكان موقف سيدنا عيسى عليه السلام إزاء هذا الانحراف الديني المريع موقفاً إيجابياً إذ حين تقدم إليه تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل قال لهم يسوع. "أما تنظرون جميع هذه؟ والحق أقول لكم إنه لا يترك ها هنا حجر على حجر لا ينقض". "وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة (بيت المقدس) وبكى عليها قائلاً: إنك لو علمت أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك ولكن الآن قد أخفى عن عينيك، فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة، ويحدقون بك، ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك. ولا يتركون فيك حجراً على حجر لأنك لم تعرفي زمان افتقادك" ولقد صب عليها لعنة الله بقوله: "يا أورشليم، يا أورشليم. يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين. كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها وتريدوا، هو ذا بينكم يترك لكم خراباً".د

هذه هي القصة من بدايتها إلى نهايتها، لقد غضب الله على إسرائيل وتحول قلبه عن بيت المقدس، فكيف يتم هذا ووعد الله لسيدنا إبراهيم: ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض". ويوضح الله الأمر في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} وهنا يأتي دور نبوءة المسيح عليه السلام عن الرسول المصطفى: "قال لهم يسوع: أما قرأتم فقط في الكتب. الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية. من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا، لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم، ويعطى لأمة تعمل أثماره". وهنا ايضاً يأتي دور تعزية الملاك للسيدة هاجر عندما هربت من نير الاستعباد تحت إذلال سارة زوجة سيدنا إبراهيم عليه السلام. "لأني سأجعله أمة عظيمة". وهنا أيضاً يأتي دور تعزية الله لسيدنا إبراهيم عليه السلام عندما رأى ابنه البكر إسماعيل مطروداً أمام عينيه من وجه عبودية السيدة سارة: "وابن الجاري أيضاً: سأجعله أمة، لأنه نسلك". ويؤكد الله هذه الأمور بقوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} هذه الحوادث لم تكن محض مصادفة، بل كانت في علم الله سبحانه وتعالى، وهي التي رآها سيدنا موسى عليه السلام، "إذ أراه الله من ثم رسوله على ذراعي إسماعيل، وإسماعيل على ذراعي إبراهيم، ووقف على مقربة من إسماعيل غسحق وكان على ذراعيه طفل هو المسيح عيسى ابن مريم يشير بأصبعه إلى رسول الله قائلاً: هذا هو الذي لأجله خلق الله كل شيء. فصرخ موسى من ثم بفرح: يا إسماعيل، إن على ذراعيك

والآن لنتتبع المنهاج المرسوم:

العالم كله والجنة اذكرني أنا عبد الله لأجد نعمة في نظر الله بسبب ابنك الذي لأجله صنع لله كل شيء". والآن لنتتبع المنهاج المرسوم: 1 - يقول الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يا أهل الكتاب، كفاكم دوراناً حول الجبل، واتجهوا إلى الصراط المستقيم. أما جاءت تلك المرأة السامرية وأخذت تحاور المسيح عيسى ابن مريم حتى قالت له: "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه. قال لها يسوع، يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة - لا في هذا الجبل، ولا في أورشليم تسجدون لله - الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" ويقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ويقول برنابا مشيراً إلى ركن من أركان الأسلام وهو الحج: "سيأتي مسيا المرسل من الله لكل العالم، الذي خلق الله العالم لأجله، وحينئذ يسجد لله في كل العالم وتناول الرحمة، حتى إن سنة اليوبيل التي تجئ الآن كل مائة سنة سيجعلها مسيا كل سنة من كل مكان".

وفي الركن الخامس من أركان الإسلام يقول الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} وفي تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة قال البراء بن معرور: "يا نبي الله، إني خرجت من سفري هذا، وهداني الله للإسلام، فرأيت ألا أجعل هذه البنية متى تظهر فصليت إليها. وقد خالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء فماذا ترى يا رسول الله؟ " قال: "لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها". وقال تعالى لسيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل عليهما السلام. {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} لقد كان على الرسول تطهير البيت العاكفين، فإن الوصية التي كانت لجده هي الوصية، وما إن فتح الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكة حتى عمد إلى تطهيرها من الأصنام. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح، وحول يوم الفتح، وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها يعود في يده، ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد"، أخرجه البخاري ج 5 ص 145. وهذا الأمر ليس بغريب على أهل الكتاب، فهم كما قال الله عنهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ولهذا قال لرسوله الكريم عند تحويل القبلة: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} .

هذه هي الحقائق الإلهية الثمنية:

هذه هي الحقائق الإلهية الثمنية: الحقيقة الأولى: انتزاع النبوة من بني إسرائيل: من بني إسحق بن إبراهيم، إلى محمد رسول الله: ثم بني قريش، من كنانة من بني إسماعيل ابن إبراهيم عليه السلام. وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل إن كون رسول الله المصطفى من نسل إسماعيل عليه السلام، وإن مركز إسماعيل بين الإسرائيليين مركز المحروم من الميراث كما صرحت به السيدة سارة: "اطرد هذه الجارية وابنها لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحق". "ولكن عهدي أقيمه مع إسحق الذي تلده لك سارة" ... وهذا هو العهد الذي اقامه الله مع إبراهيم عيله السلام: "أقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً لأكون إلهك لك ولنسلك من بعدك". وإذ يبوء بنو إسرائيل بغضب من الله. يخيب الله آمالهم فينتزع الميراث منهم ويورثه لذرية إسماعيل عيله السلام، في شخص الرسول الكريم، وهذا مصداق لما جاء على لسان موسى عليه السلام: "وأجعله أمة كبيرة" وقوله أيضاً: "لأني سأجعله أمة عظيمة وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت وملأت الفرية ماء وسقت الغلام". هذا هو الحجر الذي رفضه البناءون، هو بقدرة الله قد أصبح رأس الزاوية، هو محمد رسول الله سيد المرسلين وخاتم النبيين. الحقيقة الثانية: تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة. هذا الأمر عجيب جداً، لأن الله قدر فنفذ لا راد لتقديره ولا لمشيئته. بقى علينا أمر، وهو موقف التاريخ من هذه الحوادث: 1 - لقد ندد المسيح عيسى ابن مريم بالهيكل، وهو قبلة إسرائيل، تأمل فيما جاء بإنجيل متى 24: 1، 2.

2 - لقد تنبأ بخراب بيت المقدس (أورشليم) ، تأمل فيما جاء بإنجيل متى 23: 37و 38 وإنجيل لوقا 13: 34 و35. والتاريخ السياسي يؤكد ويؤيد ما جاء من كلام الله تعالى في التوراة أو الإنجيل أو القرآن، إذ تعرضت فلسطين للاستعمار الأجنبي الذي داس الهيكل، ودنس كل مقدساته في هذه الفترات، من عهد لامسيح إلى مبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والحقب التي مرت بها فلسطين تأييداً لما تنبأت به التوراة والإنجيل هي: 1 - كانت فلسطين ولاية رومانية من سنة 53 م إلى سنة 114م. 2 - ثم اصبحت ولاية فارسية من سنة 614م إلى سنة 626م تتبع الدولة الفارسية الساسانية. 3 - ثم عادت ولاية رومانية في عهد الإمبراطور هرقل سنة 626م إلى سنة 637م. 4 - ثم حررها الإسلام من سنة 673م، وحمى مقدساتها ورعى أهل الكتاب بالحق والأمانة. * * *

الباب السادس الرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - وإيمانه بشخص المسيح عليه السلام

الباب السادس الرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - وإيمانه بشخص المسيح عليه السلام {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} آمن الرسول الكريم بالمسيح ابم مريم الذي تنبأ قائلاًَ: "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء". وعمن يقول هذا القول؟ هل يقوله عن أخنوخ؟ فالتوراة تقرر: "وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه". أم يوقله عن إيليا؟ فالأنبياء تقرر: "وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينها، فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء". فالأول - وهو أخنوخ - لعل سيدنا الخضر، صعد إلى السماء وما زال فيها. والثاني - هو إيليا - لعله سيدنا إلياس، صعد إلى السكاء ومازال فيها. وإذ اعتبرنا الأمر للمسيح عليه السلام فإن الله رفعه إليه ولم ينزل بعد من السماء. فمن هذا المسيا (الرسول) إذن! إنه محمد - صلى الله عليه وسلم - عندما أسرى الله به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء، ورأى ما رأى:

{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} وهذه نبوءة أخرى من سيدنا عيسى عليه السلام للرسول الكريم صعوده إلى السماء ونزوله منها. أما عن الرحلة النبوية، فالرسالات السماوية تؤمن بها، وقد سبق إليها أخنوخ، وإيليا، والمسيح. وما سبق به القرآن الكريم من الإعجاز في هذه الرحلة أيده العلم الحديث، فرواد الفضاء الآن يدورون حول الأرض ويهبطون على القمر، وإذا كان الإنسان قد استطاع إلى ذلك سبيلاً - فالإنسان من خلق الله. والله يعطي بعض علمه لمن يشاء من خلقه ويقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ويؤكد أن الإنسان مهما بلغ من العلم لا يستطيع أن يصل إلى الأسرار الإلهية إلا بقدر: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} لقد آمن الرسول سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء قبله، وبعيسى، وبموسى، ولم يفرق بين أحد من رسل الله، وهذا هو الإيمان الخالص، والدين الصافي والحياة الربانية الكريمة. وكيف يؤمن الرسول بسيدنا عيسى علسه السلام؟ للإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نعرف ما معنى كلمة "مسيح"؟ وكيف نشأت؟ وهل هي مقصورة على سيدنا عيسى عليه السلام؟ في الفترة من 1100 ق. م إلى 1011 ق. م تاقت نفوس بني إسرائيل لأن يكونوا دولة كالدول التي بجوارهم، وأرادوا لهم ملكاً ومملكة. وفي هذا قال الله تعالى.

{إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} والقصة كما وردت في التوراة هكذا: "فأخذ صموئيل قنينة الدهن وصب على رأسه وقبله وقال: أليس لأن الرب قد مسحك على ميراثه رئيساً". ومن هنا نشأت فكرة المسيح، وهي رمز إلى ااويج الملك، ورمز إلى حلول الروح القدس على الملك بمجرد مسحه بالدهن، أما المسيح فسمي كذلك لأنه مذن ولادته حل عليه الروح القدس. قال لها: الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظلك". ويقول الله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} ويقول سبحانه: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ولا عجب أن الإنجيل يؤكد للإنسان الذي يبحث عن الحق ويتحرى الصدق، لا عجب أنه يدعم إنسانية عيسى عليه السلام، ويؤكد رسالته ونبوءته. فكلمة إنجيل كلمة يونانية تعني بشارة أو بشرى، ولعل هذا هو الذي نستفيده من سيرة سيدنا عيسى عليه السلام أنه كان بشرى من الله للرحمة وبشرى بتبشيره عن المسيا الذي سيأتي للعالمين هدى ورحمة، ألا وهو الرسول الكريم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -.

شهادة الإنجيل

شهادة الإنجيل والأناجيل تؤكد شخصية المسيح عيسى بما يتفق وإيمان المسلم. 1 - المسيح عيسى ابن مريم يخضع لناموس الغرائز الإنسانية: جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فتقولون هوذا إنسان أكول وشريب خمر، محب للعشارين والخطاة، والحكم تبررت من بنيها". ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس، فبعد ما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاع أخيراً، فتقدم إليه المجرب وقال له: إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً". وفي هذا مطابقة لقوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ويقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} 2 - المسيح عيسى ابن مريم يخضع لناموس الراحة والتعب: "وفي أحد الأيام سفينة هو وتلاميذه. فقال لهم: لنعبر إلى عبر البحيرة، فأقلعوا، وفيما هم يسيرون نام، فنزل نوء ريح في البحيرة وكانوا يمتلئون ماء، وصاروا في خطر، فتقدموا إليه وأيقظوه قائلين: يا معلم، يا معلم، إننا نهلك، فقام وانتهز الريح، وتموج الماء، فانتهيا وصار هدوء".

ويؤكد هذه القصة مرقس في إنجليه بما نصه: "وقال لهم في ذلك اليوم لما كان المساء: لنجتز إلى العبر. فصرفوا الجميع وأخذوه كما كان في السفينة، وكانت معه أيضاً سفن أخرى صغيرة فحدث نوء ريح عظيمة، فكانت الأمواج تضرب السفينة حتى صارت تمتلئ، وكان هو في المؤخرة على وسادة نائماً فأيقظوه وقالوا: يا معلم، أما يهمك أننا نهلك؟ فقام وانتهر الريح، وقال للبحر اسكت أبكم. فسكنت الريح، وصار هدوء عظيم. ويدعم هذه القصة أيضاً متى في إنجيله بما نصه: "ولما دخل السفينة تبعه تلاميذه، وإذا اضطراب عظيم قد حدث في البحر حتى غطت الأمواج السفينة، وكان هو نائماً، فتقدم إليه تلاميذه وأيقظوه قائلين: سيدنا، نجنا، فإننا نهلك. فقال لهم: ما بالكم خائفين يا قليلى الإيمان؟ ثم قال وانتهر الريح والبحر فصار هدوء عظيم، فتعجب الناس قائلين: أي إنسان هذا؟ فإن الريح والبحر جميعاً تطيعه". هذه إقرارات مؤكدة، ومن عجب أن الحواريين وضعوا شبهات من نسج خيالهم، فخذا هو بطرس خليفة المسيح يقول: "أنت هو المسيح ابن الله الحي. فكيف يتفق هذا وهو الإنسان الذي كان نائماً فأيقظوه كما تقرره القصص الثلاث؟ ويحسم القرآن الكريم الأمر في قوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} وبعد أن دفعنا هذه الشبهة عنه من القرآن الكريم نبحث عن دفع من التوراة، وقد حاء في سفر الملوك الأول قصة حوار بين إيليا نبي الله وبين أنبياء البعل، وفي هذا الحوار يتحدى إيليا البعل إله البابليين، ويسخر منه، ويقول لهم في سخرية لاذعة: "ادعو بصوت عال، لأنه إله لعله مستغرق، أو في خلوة، أو في سفر، أو لعله نائم قيتنبه". وبرهان آخر هو المعجزات التي ظهرت على يد موسى ومنها: ضرب البحر بعصاه فانفلق، أهذه قدرة بشرية أم قدرة إلهية؟.

3 - المسيح عيسى بن مريم يخضع لناموس المؤثران العاطفية:

3 - المسيح عيسى بن مريم يخضع لناموس المؤثران العاطفية: "وإذ كان في جهاد كان يصلي لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض. ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه. فوجدهم نياماً من الحزن. فقال لهم: لماذا أنتم نيام؟ قوموا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة، وبينما هو يتكلم إذا جمع، والذي يدعى يهوذا أحد الاثنى عشر يتقدمهم، فدنا من يسوع ليقبله، فقال يسوع: يا يهوذا، أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟ ". "وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلاً: إنك لو علمت أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك، ولكن قد أخفى عن عينيك، فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة، ويحدقون بك. ويحاصرونك، من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيه، ويتركون فيك حجر، لأنك لم تعرفي زمان افتقادك". هذا هو المسيح الإنسان، عاش في إطار الحزن والأسى، فتألم، وبكى وحزن، وهذه كلها انفعالات بشرية. ويأتي الرسول الكريم على نمط آخر يختلف عن المسيح عيسى ابن مريم بينه الله تعالى بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} 4 - المسيح عيسى ابن مريم يلتزم مكانته فلا يتعداها: (أ) أرادوه ملكاً. فانصرف عنهم: "وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختظفوه ليجعلوه ملكاً انصلاف إلى الجبل وحده". (ب) رئيس الكهنة يستجوبه، وواحد من الخدام يلطمه على وجهه: "فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه أجابه يسوع: أنا كلمت العالم علانية، أنا

5 - المسيح عيسى ابن مريم جاء غريبا وعاد غريبا:

علمت كل حين في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائماً، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء، لماذا تسألني أنا؟ اسأل الذين قد سمعوا ماذا كلمتهم، هوذا هؤلاء يعرفون ماذا قلت أنا. ولما قال هذا لطم يسوع واحد من الخدام كان واقفاً قائلاً: أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟ أجابه يسوع: إن كنت قد تكلمت ردياً فاشهد على الردى، وإن حسناً فلماذا تضربني؟ وكان حنان قد أرسله موثقاً إلى قيافا رئيس الكهنة". (جـ) ولقد حاوه الفريسيون بمكر ليصطادوه بكلمة فقالوا: "يا معلم، نعلم أنك صادق، وتعلم طريق الله بالحق ولا تبالي أحد، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس، فقل لنا: ماذا تظن؟ ايجوز أن نعطي جزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم، وقال: لماذا تجربونني يامراءون؟ أروني معاملة الجزية. فقدموا له ديناراً. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ فقالوا لقيصر، فقال لهم: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله". 5 - المسيح عيسى ابن مريم جاء غريباً وعاد غريباً: لقد تنبأ عن نفسه بالآلام، فتصدى له بطرس رياء يستبعد عنه ما هو محتوم أن يكون: "من ذلك الوقت ابتدأ يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتأ لم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، فأخذه بطرس إليه، وابتدأ ينتهزه قائلاً: حاشاك يارب، لا يكون لك هذا. فالتفت وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم بالله، لكن بما للناس". وبطرس هذا قد أنكر سيده طاعة المحاكمة: "قال واحد من عبيد رئيس الكهنة: أما رأيتك أنا معه في البستان؟ فأنكر بطرس أيضاً" هذا هو خليفة المسيح، تنكر لسيده ساعة المحنة. وأراد الذين رأوا الخير على يديه أن يتبعوه أينما يمضي، فقال لهم: "للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له ابن يسند رأسه".

6 - المسيح عيسى ابن مريم رسول الله:

وختام الأمر كله قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 6 - المسيح عيسى ابن مريم رسول الله: أراد اليهود أن يقتلوا المسيح رسول الله، فقال لهم: "لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعلمون أعمال إبراهيم، ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله، هذا لم يعمله إبراهيم". ويضرع إلى الله في صلواته فيقول: "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنا الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته". ويحدد اختصاص رسالته فيقول: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقص بل لأكمل". وبين القوم الذين جاءوا لأجلهم فيقول: "ينبغي لي أن أبشر المدن الأخرى أيضاً بملكوت الله، لأني لهذا قد أرسلت، فكان يكرز في مجامع الجليل". ويقول الله العزيز الحكيم في كتابه الكريم: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} 7 - المسيح عيسى ابن مريم نبي الله: أقر فب حزن دفين ألامكانة له في وطنه مهما يرفعه الله من درجات، وقد سجل هذا متى أحد الحواريين في إنجيله (الباب 13: 54 - 58) وهذا نصه للاستفادة من مناحيه المتعددة: "ولما جاء إلى وطنه كان يعلمهم في مجمعهم حتى بهتنوا وقالوا: من أين لهذا هذه الحكمة والقوات؟ أليس هذا ابن النجار؟ أبيست أمه تدعى مريم، وإخوته يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا؟ أو ليست أخواته جميعهن عندنا؟ فمن أين

8 - المسيح عيسى بن مريم رفيع الدرجة عند الله والناس:

لهذا هذه كلها، فكانوا يعثرون به. وأما يسوع فقال لهم: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه، وفي بيته، ولم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم". ويقول - عز وجل -: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ... } الآيات. وكان الشعب ينظر إليه - كنبي: "وإذ كانوا يطلبون أن يمسكوه خافوا من الجموع، لأنه كان عندهم مثب نبي لله. وقالت عنه المرأة السامرية: "أرى أنك نبي". 8 - المسيح عيسى بن مريم رفيع الدرجة عند الله والناس: لقد ندد المسيح بالكهنة والكتبة والفريسيين والصدوقيين والناموسيين ولما دخل الهيكل ابتدأ يخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه: "قائلاً لهم: مكتوب ان بيتي بيت الصلاة، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص". هذا هو المسيح. يتهم الجنس البشري على اختلاف طبقاته بالإثم والمعصية والخطيئة، ويتحداه بقوله: "من منك يبكتني على خطية، فإن كنت أقول الحق فلماذا لستم تؤمنون بي". ويؤيد الله هذه الدرجة في قوله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} 9 - المسيح عيسى ابن مريم مؤيد بالروح القدس: بين الأنبياء الذين أرسلهم الله لهداية الناس إلى الواحدنية ثلاثة يعتبرون أئمة الأنبياء، هؤلاء جاءوا بالحق يبشرون وينادون بالوحدانية، ويتشابه هؤلاء في إعجاز مولدهم، ونشأتهم، وتعلق البشر بهم.

لقد ولد في مصر نبي من بني إسرائيل هو موسى عليه السلام، وكانت مصر في ذلك الزمان أرض السحرة، وكان الله ناصراً ومؤيداً لنبيه بالمعجزات التي سحقت أعمال السحر، وكانت سبباً في إيمان امرأة فرعون بالله الواحد القهار. وفي فلسطين ولد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وفلسطين عاصرت عهدين: عهد الدولة الإغريقية التي اشتهرت بالحكمة والطب، وعهد الدولة الرومانية التي اشتهرت بالبطش والسطوة، فكان لابد أن تكون تأييدات الله من نوع يستطيع به رسوله ونبيه أن يفحمهم علماً وطباً. وفي الجزيرة العربية ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والعرب يمتازون بفصاحة القول وبلاغته فكان تأييد الله لرسوله بالقرآن الكريم. وكأن الله تعالى شاء أن تكون الأرض التي وطئتها أقدام الرسل والأنبياء مثلثة. زاويتها الأولى مصر، وزاويتها الثانية فلسطين، وزاويتها الثالثة الجزيرة العربية. جاء سيدنا عيسى عليه السلام مؤيداً بالروح القدس، فجرت على يديه معجزات شفاء المرضى وإبراء الأبرص، وإحياء الموتى. كل هذا وأكثر منه بإذن الله: "قال يسوع: ارفعوا الحجر، قالت مرثا أخت الميت: ياسيد، قد أنتن، لأن له أربعة أيام. قال لها يسوع: ألم أقل لك إن آمنت ترين مجد الله؟ فرفعوا الحجر حيث كان الميت موضوعاً، ورفع يسوع عينيه إلى السماء وقال: يالله، أشكرك. لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت. ليؤمنوا أنك أرسلتني. ولما قال هذا صرخ بصوت عظيم: لعازر هلم خارجاً. فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطات بأقمطة. ووجهه ملفوف بمنديل فقال لهم يسوع: حلوه ودعوه يذهب". ويفتري المسيحيون في ادعائهم أن المسيح لم يكن مؤيداً بالروح القدس فحسب بل هو ذاته الله في جسد إنسان، وبهذا الإدعاء، وذاك الافتراء باءوا بغضب ولعنة من الله. {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ

اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} . وإذا افترضنا - جدلا - صحة هذا الزعم، فهل نعد هؤلاء الذين أقاموا موتى آلهة؟ وهؤلاء هم: 1 - إيليا عندما طلب من الله: "يارب إلهي، لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه، فسمع الرب صوت إيليا، فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش". 2 - أليشع تلميذ إيليا عندما أقام ميتاً: "ودخل أليشع البيت وإذا بالصبي ميت ومضجع على سريره، فدخل وأغلق الباب على نفسيهما كليهما، وصلى إلى الرب، فعطس الصبي سبع مرات، ثم فتح الصبي عينيه". 3 - بطرس أحد الحواريين أقام ميتة: "فأخرج بطرس الجميع خارجاً وجثا على ركبتيه وصلى، ثم التفت إلى الجسد وقال: ياطابيثا قومي، ففتحت عينيها، ولما أبصرت بطرس جلست فناولها يده وأقامها، ثم نادى القديسين والأرامل، وأحضرها حية". 4 - بولس المدعو رسولا، أقام ميتاً: "وكان شاب اسمه أفتيخوس جالساً في الطاقة متثقلا بنوم عميق، وإذا كان بولس يخاطب خطاباً طويلا غلب عليه النوم، فسقط من الطبقة الثالثة إلى أسفل، وحمل ميتاً، فنزل بولس، ووقع عليه، واعتنقه قائلا: لا تضطربوا لأن نفسه فيه. . . وأتوا بالفتى حياً، وتعزوا تعزية". هل هؤلاء آلهة؟ حاشا، لا هؤلاء ولا المسيح عيسى بن مريم إله، بل كلهم بشر، ويدحض الله القدير هذه الشبهة بقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . ويوضح حقيقة الأمر بقوله تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} .

مقارنة بين تعاليم المسيح وتعاليم بولس

وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} . وقد بين الحقيقة في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . مقارنة بين تعاليم المسيح وتعاليم بولس لقد كان المسيح عليه السلام رسول الله، جاء ليحقق إرادة الله وينادي بما نادى به الرسول الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . ونطق بذلك خليفة المسيح بطرس إذ قال: "بالحق أنا أجد أن الله لا يقبل الوجوه، بل في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده". لقد جاء المسيح بطريقته الخاصة التي ميزت تعاليمه الباهرة ومباحثه الدينية بطابع السمو والبساطة حتى يفهمها لأول وهلة - الزارع، والصانع والمثقف، والأمي، والرجل، والمرأة - دون أدنى إجهاد للذهن، وها هو ذا يبسط تعاليمه لهذه الحقيقة التي قالها الله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} .

فيورد قصة مشهورة، هي قصة السامري الصالح، وتتلخص هذه القصة في استفسار من ناموسي - وهو الذي يسير وفق تعاليم التوراة تماماً - فيسأل: كيف يرث الحياة الأبدية؟ فيرد عليه المسيح عيسى ابن مريم بقوله: إن الدين هو حياة وقوة وليس مجرد تعاليم تحفظ. الدين هو أن يعيش المرء في إطار أحكام الشرع لا يتعدى أوامر الله ولا يقترف نواهيه. ونطق المسيح برده المشهور عقب إيراد القصة، وتتلخص في: 1 - كاهن يمر بالجريح الذي سطا عليه اللصوص من قطاع الطريق فيعبر الكاهن دون أن يقدم مساعدة. 2 - لاوى يمر كذلك دون أن يقدم أية مساعدة، وهذان من رجال الدين وعبورهما دون تقديم أية خدمة ينفي قوة الدين فيهما. 3 - سامري (وبين السامرين والإسرائيليين عداوة قديمة في كل شأن من شئون حياتهم) هذا السامري لم يكن في امتياز اليهود من ناحية الوحدانية ومن ناحية أنهم شعب الله المختار، ومع هذا قدم إسعافات طبية، ومعونة مالية، وأخذه إلى أقرب فندق للعناية به. وعهنا يشير المسيح عيسى ابن مريم إلى أن الغاية العظمى من الدين - هي كمحبة الله - ينبغي أن تكون محبة القريب. ومن هذا القريب؟ إنه ذلك الغريب الذي وقع بين قطاع الطريق. وها هي ذي القصة، نوردها بنصها: "وإذا ناموسى قام ليجربه قائلا: يا معلم، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال له: ما هو مكتوب في الناموس، كيف تقرأ؟ فأجاب وقال: تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك، فقال له: بالصواب أجبت. افعل هذا فتحيا." "وأما هو فإذ أراد أن يبرر نفسه قال ليسوع: ومن هو قريي؟ "فأجاب يسوع وقال: إنسان كان نازلا من أورشليم إلى أريحا فوقع بين لصوص، فعروه وجرحوه، ومضوا وتركوه بين حي وميت، فعرض أن كاهناً نزل في تلك الطريق فرآه وجاز مقابلة، وكذلك لاوى إذ أيضا صار عند المكان جاء ونظر وجاز مقابله. ولكن سامرياً مسافراً جاء إليه، ولما رآه تحنن، وتقدم وضمد جراحاته، وصب عليها زيتاً وخمراً، وأركبه على دابته، وأتى به إلى فندق، واعتنى به، وفي

الغد لما مضى أخرج دينارين، وأعطاهما لصاحب الفندق، وقال له: اعتن به، ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك: فأي الثلاثة ترى صار قريباً للذي وقع بين اللصوص؟ يقال: الذي صنع معه الرحمة. فقال له يسوع: اذهب أنت أيضاً واصنع هكذا". هذا هو أسلوب المسيح! أما أسلوب بولس المدعو رسولا فهكذا: "فإني إذ كنت حراً من الجميع استعبدت نفسي نفسي للجميع، لأربح الأكثرين، فصرت لليهودي كيهودي، لأربح اليهودي، وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس، وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموسن مع أني لست بلا ناموس لله، بل تحت ناموس للمسيح، لأربح الذين بلا ناموس، صرت للضعفاء كضعيف، لأربح الضعفاء، صرت للكل كل شيء لأخلص على كل حال". لعلك أيها القارئ تلمس في هذا الأسلوب عمق بولس في المسائل الفلسفية والمباحث العلمية، مما لم يرو قط عن المسيح، ولعلك تتبين أيضاً الفلسفة التي تتخلل مباحث رسائله، وهي ضرب من فلسفة أرسطا طاليس التي كانت شائعة في أوائل القرن الوسطى في أوربا. والحقيقة التي لا ريب فيها أن بولس كان على جانب كبير من معرفة الفلسفة اليونانية، وسمو المدارك، وقوة الحجة، وشدة العارضة، وجلاء البيان، وقد رأى بعضهم أن مباحثه الفلسفية عن الجسد والنس من الوجهة الدينية من أسمى ما كتب الباحثون الدينيون، فمن قوله: "ويحى أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من جسد هذا الموت؟ ". هذه الفلسفة في كتابات بولس، التي لم ترو قط عن المسيح، تجعلني أشك في أن الانجيل من وحي الله، وذلك لاختلاف أسلوب الكتابة ما بين السهولة المطلقة والفلسفة العميقة. وفي هذا يقول الله تعالى ليؤكد إعجاز القرآن الكريم: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}

وليت الأمر اقتصر على هذا، بل إن كتاباته أصبحت مبادئ يؤمن بها فأي تناقض بين نداء المسيح بالسلام كما أوردت في القصة آنفة الذكر ونداء بولس في رسالته إلى أهل غلاطية: "أطرد الجارية وابنها، لأنه لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة. إذن أيها الإخوة لسنا أولاد جارية بل أولاد حرة". ولا ريب في أن ما تعانية أمريكا اليوم من التفرقة العنصرية - وهي الدولة المسيحية اللاتينية - إنما هو وليد الإيمان بمثل هذه المبادئ التي تناقض إرادة الله القائل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . وقول المسيح: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم". وقد كتبت جريدة الأخبار بتاريخ 22/1/1962 في صحيفة 6 عمود 6 حادثاً يندى له جبين مدينة عصر الصواريخ، هذا الحادث يتلخص في طرد وكيل الخارجية الأمريكية من مطعم المطار لأنه زنجي. أهذه هي المسيحية التي نادى بها المسيح؟ إن المسيح وصى بمحبة القريب مثل محبة الله، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسو على أحمر - إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، صدق رسول الله.

الباب السابع الكتاب المقدس والعقيدة المسيحية

الباب السابع الكتاب المقدس والعقيدة المسيحية {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1 - الكتاب المقدس والعهد القديم (أ) نشأة اللغة العبرية: إن اللغة العبرية لم تذكر (بالنص) في الكتب المقدسة، وهو ما يدل على أن هذه التسمية كانت من عمل غير العبريين، وإنما ذكرت في سفر أشعياء 19: 18 - بلغة كنعان. مسماة باسم كنعان حفيد نوع عليه السلام. ثم أطلقوا عليها اسم اليهودية، جاء في سفر الملوك الثاني 18: 6، وسفر أشعياء 26: 13. ولقد ورد هذا الاسم (يهودي) في سفر نحميا، إلا أنه لم يذكر إلا بعد هجرة العشرة الأسباط - هنالك - وكان هذا النعت يطلق على اللغة والأمة أيضاً. والفرق كبير بين لفظي: عبري، وإسرائيل، لأن عبري إنما كان ينعت به الشعب قبل ظهور الأسباط في الأيام الخالية. أما بعد ذلك فقد أصبحوا يفخرون بالإسرائيلية. على أننا لا نجد من بين المؤرخين اليونانيين والرومان مثل بوزينوس وطسطيوس - وحتى المؤرخ الإسرائيلي بوسيفوس - من ذكر اليهود أو سماهم بالإسرائيليين. بل كلهم يجمعون على تسميتهم بـ (العبريين) . وهذا اللفظ مأخوذ من عبر النهر كما أسلفنا، أي (نهر الفرات) ، ثم إنهم أضافوا ياء بالنسبة إلى (عبر) فأصبح (عبرياً) ، وأول من سمى

(ب) تطور اللغة العبرية:

بهذا الاسم عشيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام التي جاءت من شرقي الفرات إلى أرض كنعان. "أبرام سكن في أرض كنعان". والتاريخ يجهل نشأة اللغة العبرية من عهدها الأول. وغاية ما يعرفه أنها وليدة أرض كنعان، وأنها كانت تجري على ألسنة قبائل الكنعانيين والفينيقيين سكان فلسطين قبل أن يسكن أبناء إبراهيم تلك البلاد. وكنعان اسم يشمل كل عشائر الكنعانيين، سكان فلسطين وما تاخمها من بلاد سوريا - ذلك الجزء الذي يقع على سكانه نعت الفينيقيين، وقد وجد في آثارهم عملة تشهد بذلك. ومما وقع في القرن الخامس عشر قبل الميلاد: كتب ملوك الشام وفلسطين رسائل إلى فرعون ملك مصر بالقلم المسماري، باللغة البابلية وقد وجد في ثبت هذه الرسائل ألفاظ دخيلة ليست من صميم اللغة في شيء، فقام الأستاذ "جمن" يتحقيقها، وكان أستاذاً في دار الفنون في مدينة لينزج، فقال إن هذه اللغة هي اللغة العبرية القديمة، وأجمع العلماء والمحققون على أن الشروح الموجودة في هذه المكاتب هي أقدم ما عرف من آثار اللغة العبرية. بيد أن بني إسرائيل، لم يعرف عنهم أنهم كانوا يسكنون بلاد فلسطين في ذلك العهد، ولكنهم كانوا أشتاتاً في البادية، بين جزيرة العرب وبلاد فلسطين. (ب) تطور اللغة العبرية: أما تاريخ اللغة العبرية فيمر بعصرين: 2 - العصر الذهبي: ويبتدئ من أول نشاة اللغة إلى هجرة بابل، والأسفار التي كتبت في ذلك العهد هي: التوراة: "سفر التكوين، الخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية". ثم الأنبياء، والمكتوبات: "يشوع والقضاء وراعوث وصموئيل الأول والثاني، والملوك الأول

2 - اللغة العبرية:

والثاني، والمزامير، وأسفار الأنبياء - يوئيل وعاموس وهوشع وأشعياء وميخا وصفنيا، وحبقو ومحميا وناحوم وعوبديا وإرميا وحزقيال". 3 - العصر الفضي: ويبتدئ من الهجرة إلى عهد المكابيين، أي إلى سنة 160 ق. م. وفي هذا العصر جرت اللغة الأرامية مع لهجة اليهود في أرض بابل، ولاكنها ألسنتهم، لسهولتها وتشابه لهجتها بلهجة اللغة العبرية، وتجد آثار اللغة الآرامية في أسفار عزرا ونحميا واستير، وأسفار الأنبياء - يونان وحجي وزكريا وملاخي ودانيال، وأيضاً في سفر الجامعة وبعض المزامير التي أضيفت إلى مزامير داود. (ج) اللغات السامية: تنقسم اللغات السامية ثلاثة أقسام: 1 - اللغة العربية. 2 - اللغة العبرية. 3 - اللغة الآرامية أو السريانية. 1 - اللغة العربية: مركزها الحد الجنوبي من منطقة اللغات السامية الأخرى، وينسب لها اللغة الكوشية وهي لغة أهل الحبشة، وهي مأخوذة من لغة العرب الحميريين وسائر المخطوطات السينائية. 2 - اللغة العبرية: تشبه الكنعانية والصورية. 3 - اللغة الآرامية: اللغة الآرامية أو السريانية هي لغة أهل الشمال والشمال الشرقي، وهي المنطقة التي أطلق عليها اسم (سوريت) . وهذا اسم أطلق على تلك المنطقة في عهد الحضارة النصرانية. أما اليهود، فيسمونها "كسديت" أو "الكلدانية".

(هـ) قواعد اللغة العبرية:

وسميت هذه اللغات بالسامية نسبة إلى (شم) وهو سام بن نوح، وكانت اللغات السامية في ذلك الوقت لغات أهالي فلسطين وفينيقيا وسوريا وبين النهرين وأرض بابل وجزيرة العرب، أعني المنطقة الواقعة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية حتى نهر دجلة، والواقعة من جبال أرمينيا حتى القسم القبلي من جزيرة العرب. (د) طريقة الكتابة: العبرية تكتب وتقرأ من اليمين إلى اليسار كأخواتها من اللغات السامية الأخرى. (هـ) قواعد اللغة العبرية: انتهى عهد الكتب المقدسة وجاء عهد المفسرين الذين عالجوا تفسير وتبيين ما حوته هذه الأسفار مما استغلق فهمه على الكافة من الناس، ثم أخذوا من بعد ذلك في ترجمتها إلى اللغات الحية المعروفة في البلاد التي هاجر إليها اليهود. وأقدم الترجمات الترجمة الإسكندرونية التي بدأت في عهد تلماى فيلدلفيوس للخمسة الأسفار الأولى، أي التوراة، وتمت بعد ذلك - وهذه الترجمة هي الترجمة اليونانية المعروفة بالترجمة السبعينية. ثم ترجمت إلى اللغة الآرامية، ثم ظهرت طائفة من علماء اليهود فوضعت الشكل. ولما كان القرن العاشر، بدأ اليهود في وضع قواعد اللغة العبرية محاكاة لما كان من شأن العرب في وضع قواعد اللغة العربية. (و) اللغة العربية واللغة العبرية: الرأي عند المحققين من أصحاب علم اللغات السامية أن نصف اللغة العبرية أقدم من اللغة العربية، والنصف الآخر أحدث منها. أما النصف الذي هو أقدم فهو الخاص بترتيب الجمل، وأما الحديث فهو ما يختص بالكلمات والأوزان. وقد كانت اللغة العربية أسرع وأنشط في التطور من العبرية، وأقدر على التعبير وأداء صيغ التفكير، فأوزان الأفعال والأسماء العربية أصح وأمتن منها في العبرية، وكثيراً ما يشبه العبري اللغة العربية العامية. خذ مثلا كلمية "عين" (أمثال 20: 12) "الأذن السامعة والعين الباصرة الرب صنعهما كلتيهما"، فأنت تجدها في العبرية على وتيرة واحدة "عاين"، أما في العبرية فعين وعينا وعين، وجمع المذكر السالم في العبري غالباً (يم) "بطنيم" جمع

(ز) السامريون:

بطم، وهي فاكهة ففي فلسطين (الفستق البري) "تكوين 43: 11" بخلاف العربي فإنه يجمع بالواو والنون والياء والنون. أما الثروة اللغوية فإن العربية تفضل غيرها من اللغات السامية غنى واتساعاً وطلاوة وحلاوة، وهذا ما يفض الخلاف القائم بين اليهود والمسلمين فإن العرب يقولون: إن لغتهم أقدم اللغات، وإن آدم كان يتكلم العربية، وكذلك اليهود يزعمون هم أيضاً هذا الزعم، والتحقيق العلمي له الولاية والأمر. (ز) السامريون: وبهذه المناسبة يجمل أن أذكر شيئاً عن السامريين لارتباطهم الوثيق بعلاقاتهم مع الإسرائيليين. لقد احتدم النزاع بين السامريين واليهود. فيزعم السامريون أنهم على حق، وأنهم أصحاب الدين الخالص، ويتهم على ذلك أنهم لم يهجروا بلادهم إلى بابل كما هاجر الذين يحاجونهم في ذلك، بل لبثوا في أرضهم مقيمين قانتين حفظة كراما للدين. ويقول اليهود: ليس السامريون على شيء، وإنهم (اليهود) يعلمون ويوقنون أن أباهم حافظ للدين، فلا يسمه سوء، لأنه الحق المبين. وإن الله كان مدركهم وهاديهم في مهجرهم، ثم إنهم من بعد ذلك عادوا إلى القدس - بيت الله وهم على دينهم الحنيف، قالوا: أما آباؤكم أيها السامريون فقد تزوجوا من نساء وثنيات فاختلط الدم بالدم، واستبحتم ما حرمنا على أنفسنا، بل لم تقف بكم الحال عند هذا الحد، حتى جعلتم بناتكم حلا للوثنيين تصاهرونهم وتخالطونهم. ولقد جمع السامريون من التوراة أسفار موسى الخمسة وكانت لهم هذه الأسفار بالعبرية بالخط العبري القديم، ورغبوا عن الخط المربع ولم يقبلوا الكتابة بع قط، وهو الذي كان يستعمله اليهود بعد هجرتهم إلى بابل. وقد ترجم السامريون أسفارهم الخمسة إلى اللغة الآرامية وبلهجة سامرية بعد أن شاعت اللغة الآرامية وذاعت في بلاد فلسطين.

2 - الكتاب المقدس والعهد الجديد

وأضاف السامريون على الحروف المعروفة عندهم الحروف الحلقية كالمتأخرين من اليهود. وأدخل الكتاب السامريون أوزاناً وكلمات عبرية في تجماتهم، وهو ما حدا بالعلماء حين قرءوا الترجمة السامرية إلى الاعتقاد بأنها خليط من العبرية والآرامية. 2 - الكتاب المقدس والعهد الجديد كتب العهد الجديد باللغة اليونانية، ولكن وجدت فيه كلمات آرامية مكتوبة بحروف يونانية، كما ظهر أن بعض الإنجيل كتب بالآرامي، ثم نقل من الآرامية إلى اليونانية. هذا ما كان من شأن الأناجيل الأربعة: متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا. أما رسائل بولس الرسول فقد كتبت باليونانية. وقد ترجمت أسفار العهد الجديد إلى السريانية، فأخذ هذه الترجمة نصارى فلسطين وسوريا واستعملوها في كنائسهم. وإنجيل متى ومرقس ولوقا - يمكن الإحاطة بها بنظرة واحدة - ذلك لأن محتوياتها وحوادثها يمكن ترتيبها في أعمدة متوازنة، والنظر إليها مجتمعة، ولهذا يطلق عليها عبارة Synoptic Gospels وقد كتبت باللغة اليونانية الدارجة Greek Koind، ولم تكن نماذج مصقولة في النحو أو البلاغة. ومن هذه المصادر كانت الترجمة الإنكليزية المشهورة والمعروفة بنسخة الملك جيمس King James, Version والتي أصبحت النسخة المعتمدة للعالم الإنكليزي ونالت هذا الامتياز بنسبتها للملك جيمس، وهي ترجمة بعيدة كل البعد عن الدقة. وترجع أقدم النسخ التي لدى الكنيسة من الأناجيل الأربعة إلى القرن الثالث الميلادي. أما النسخ الأصلية فيبدوا أنها كتبت بين عامي 60، 120 ثم تعرضت بعد كتابتها لتحريف مقصود يراد به التوفيق بينها وبين الطائفة التي ينتمي إليها الناسخ أو المطابقة لأغراضها في المسائل اللاهوتية لأهداف خاصة، كما تعرضت مدى قرنين من الزمان لأخطاء النقل.

(ب) إنجيل متى:

والنساخ المسيحيون الذين عاشوا قبل نهاية القرن الأول لا ينقلون شيئاً قط عن العهد الجديد، بل كل ما ينقلونه مأخوذ من العهد القديم، ولسنا نجد إشارة لإنجيل مسيحي قبل عام 150 م. (أ) إنجيل مرقس: يتفق الثقاة من العلماء النقاد على أن إنجيل مرقس أسبق الأناجيل الأربعة في الزمن، ويؤرخونه ما بين عامي 65، 70م ويقال إن مرقس هو الذي ألف إنجيله من ذكريات نقلها إليه بطرس. (ب) إنجيل متى: تقول الرواية المأخوذ بها في التقليد الأرثوذكسي Orthodox tradition إن إنجيل متى أقدم الأناجيل كلها، ويعتقد إيرونيوس Irenaes أنه كتب باللغة العبرية أي الآرامية، ويبدو أن هذا الإنجيل هو مجموعة آرامية من أقوال المسيح، والمرجح أن بولس كانت لديه وثيقة من هذا النوع، وذلك لأنه لم يتلق الإنجيل عن المسيح شأن الحواريين، فاستعان بهذه الوثيق لينقل أحياناً كلمات يسوع بنصها، ولكنه لم يصل إلينا إلا باللغة اليوناينة. ويميل العلماء النقاد إلى القول بأن هذا الإنجيل من تأليف أتباع متى، وليس من أقوال العشار نفسه، وأكثر العلماء يرجعون به إلى تلك الفترة البعيدة المحصورة بين عامي 85، 90م. وإذا كان الغرض الذي يبتغيه متى هو هداية اليهود، فإنه يعتمد أكثر من غيره من الحواريين على المعجزات التي تعزي إلى المسيح، ويحرص حرصاً شديداً - يدعو إلى الريبة - على أن يثبت أن كثيراً من نبوءات العهد القديم قد تحققت في شخص المسيح. (جـ) إنجيل لوقا: والإنجيل حسب نص القديس لوقا - وهو النص الذي يعزي عادة إلى العقد الأخير من القرن الأول - يعلن لوقا فيه أنه يرغب في تنسيق الروايات السابقة عن المسيح،

(د) إنجيل يوحنا:

والتوفيق بينها، وأنه يهدف إلى هداية الأمم لا اليهود. وأكبر الظن أن لوقا نفسه كان أممياً وأنه كان صديقاً لبولس وأيضاً هو مؤلف لسفر الأعمال. وقد اقتبس كثيرا من كتابات مرقص كما سبق، واقتبس منها القديس متى، فغن الإنسان يستطيع أن يجد في إنجيل متى ستمائة سند من الستمائة وواحد وستين سنداً التي يشتمل عليها النص المعتمد لإنجيل مرقس، ويجد أيضا ثلثمائة وخمسين في إنجيل لوقا، تكاد تكون هي بنصها في إنجيل مرقس. بل أكثر من هذا نجد في إنجيل متى كثيراً من الفقرات التي توجد في إنجيل لوقا، ولا توجد في إنجيل مرقس، وهذه أيضاً تكاد تكون بنصها. ويبدو أن لوقا قد أخذ هذه النصوص عن القديس متى، أو أن لوقا ومتى قد أخذاها عن أصل مشترك لم نعثر عليه بعد. ويصقل لوقا هذه النقول "الاقتباسات" الصريحة بمهارة أدبية، تحمي رينان Renan على الظن بأن هذا الإنجيل أجمل ما ألف من كتب. (د) إنجيل يوحنا: والإنجيل الرابع لا يدعى أنه ترجمة لحياة يسوع، بل هو عرض للمسيح من وجهة النظر اللاهوتية بوصفه كلمة الله، وخالق العالم، ومنقذ البشرية، وهو يناقض الأناجيل الأخرى Synoptic Gospels في مئات من التفاصيل وفي الصورة العامة التي يرسمها عن المسيح، وإن ما يصطبغ به الإنجيل - من نزعة قريبة من نزعة القائلين بأن الخلاص لا يكون بالإيمان بل بالمعرفة، وما فيه من تأكيد للآراء الميتافيزيقية metaphysical ideas قد جعل الكثيرين من الباحثين في الدين المسيحي في شك من أن واضع الإنجيل هو الرسول يوحنا، ويرجع أن كتابة هذا الإنجيل كانت في القرن الأول، وأن كاتبه هو كاتب رسائل يوحنا التي تعرض الأفكار نفسها بالأسلوب نفسه.

خلاصة القول:

خلاصة القول: وخلاصة القول أن ثمة تناقضاً كبيراً بين بعض الأناجيل وبعضها الآخر، وأن فيها نقطاً تاريخية مشكوكاً في صحتها، وفيها من القصص - الباعثة على الشبهة والريبة ما يماثل مماثلة واضحة ما يروى عن آلهة الوثنيين، وكثير من الحوادث التي يبدو أنها وضعت عن قصد لإثبات وقوع كثير من النبوءات الواردة في العهد القديم، وفقرات كثيرة ربما كان المقصود منها تقرير أساس تاريخي لعقيدة متأخرة من عقائد الكنيسة أو طقس متأخر من طقوسها. ويبدو أن ما تنقله الأناجيل من أحاديث وخطب - وقد تعرض لما تتعرض له ذاكرة الأميين من ضعف وعيوب، ولما يرتكبه النساخ من أخطاء أو "تصيحيح وتنقيح للكتابات". وإن الحواريين - على ما يتصفون به من تحيز وميل مع الهوى، ومن الأخذ بأفكار دينية سابقة - ليسجلون كثيراً من الأحداث، كتنافس الرسل على المنازل العليا في ملكوت الله، وفرارهم هرباً بعد القبض على يسوع، وإنكار بطرس، وعجز المسيح عن إتيان المعجزات في الجليل، وإشارة بعض من سمعوا المسيح إلى ما عسى أن يكون دليلا على إصابته بالجنون، وتشككه الأول في رسالته، واعترافه بأنه يجهل أمر المستقبل، وما كان يمر به من لحظات يمتلئ قلبه فيها حقداً على أعدائه، وصيحة اليأس التي رفع بها عقيرته وهو على الصليب بقوله: "إلهي إلهي لماذا تركتني". وإن من يطلع على هذه الأحداث لا يشك قط في أن وراءها شخصية تاريخية حقة، وهي شخصية المسيح عيسى بن مريم، الذي تنبأ بكل هذا، بقوله في إنجيل برنابا: "لأن الله سيصعدني من الأرض وسيغير منظر الخائن حتى يظنه كل أحد إياي، ومع ذلك فإنه حين يموت شر ميتة أمكث أنا في ذلك العار زمناً طويلا في العالم ولكن متى جاء محمد رسول الله المقدس تزال عني هذه الوصمة". ويتنبأ بقوله في إنجيل يوحنا: "ومتى جاء المعزى - الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق - فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً

3 - الكتاب المقدس والأبوكريفا

لأنكم معي من الابتداء". وعن تلاميذه يتنبأ في إنجيل يوحنا: "هو ذا تأتي ساعة - وقد أتت الآن - تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته، وتتركوني وحدي، وأنا لست وحدي لأن الآب معي". إذن الأناجيل الأربعة هي قصة حياة المسيح وتعاليمه كتبها تلاميذه وتابعوهم ثم سفر الأعمال الذي ألفه لوقا: "الكلام الأول أنشأته ياثاوفيلس عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلم به"، وهو تاريخ الكنيسة ونشأتها بزعامة بطرس وبولس والتلاميذ، ثم الرسائل ومعظمها لبولس، وهي خطاباته للكنائس التي كان يبشر فيها في أوربا وآسيا. ثم سفر الرؤيا، وهو سفر نبوي كتبه يوحنا بن زبدى يتنبأ فيه عن مجيء المسيح وامتلاكه للأرض مع تلاميذه الاثنى عشر. 3 - الكتاب المقدس والأبوكريفا (أ) إنجيل برنابا. (ب) رسائل اكليمندس. (جـ) ترنيمة العذراء. (أ) إنجيل برنابا اكتشاف الإنجيل: عثر كريمر مستشار ملك بروسيا على نسخة لإنجيل برنابا مترجمة إلى اللغة الإيطالية، ولما لها من قيمة تاريخية أهداها إلى البرنس يوجين سافوى، ثم انتقلت النسخة مع سائر

مكتبة البرنس الزاخرة بالآثار التاريخية والكتب العلمية إلى مكتبة البلاط الملكي في فيينا حيث لا تزال هناك حتى الآن. وبرنابا حواري من أنصار المسيح الذين يلقبهم رجال الكنيسة بالرسل والذي عرف التلاميذ ببولس بعد ما اهتدى بولس إلى المسيحية ورجع إلى أورشليم: "ولما جاء شاول إلى أورشليم حاول أن يلتصق بالتلاميذ وكان الجميع يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ، فأخذه برنابا، وأحضره إلى الرسل، وحدثهم كيف أبصر الرب في الطريق، وأنه كلمه، وكيف جاهر في دمشق باسم يسوع". فلعل التلاميذ ما كانوا ليثقوا ببولس بعد ما كان من عداوته لدينهم لولا برنابا الذي عرفه أولا وعرفهم به بعد أن وثق به. ومع هذا فقد تنكر بولس لبرنابا، ولم يحفظ له الجميل، فاختلفا اختلافاً عنيفاً: "ثم بعد أيام قال بولس لبرنابا لنرجع ونفتقد إخوتنا في كل مدينة نادينا فيه بكلمة الرب كيف هم، فأشار برنابا أن يأخذا معهما أيضاً يوحنا الذي يدعى مرقس وأما بولس فكان يستحسن أن الذي فارقهما من بمفيلية ولم يذهب معهما لا يأخذانه معهما، فحصل بينهما مشاجرة حتى فارق أحدهما الآخر، وبرنابا أخذ مرقس وسافر في البحر إلى قبرص. وأما بولس فاختار سيلا". وانعكس هذا الافتراق في إنجيل برنابا، فجاء في مقدمته أن بولس انفرد بتعليم جديد مخالف لما تلقاه عن المسيح، ومن ذلك: "الأعزاء، إن الله العظيم العجيب قد افتقدنا في هذه الأيام الأخيرة بنبيه يسوع المسيح برحمته العظيمة للتعليم والآيات التي اتخذها الشيطان ذريعة لتضليل كثيرين بدعوى التقوى مبشرين بتعليم شديد الكفر، داعين المسيح ابن الله، ورافضين الختان الذي أمر به الله دائماً، مجوزين كل لحم نجس، الذي ضل في عدادهم أيضاً بولس، الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى، وهو السبب الذي لأجله أسطر ذلك الحق الذي رأيته وسمعته في أثناء معاشرتي ليسوع، لكي تخلصوا ولا يضلكم الشيطان فتهلكوا في دينونة، وعليه فاحذروا كل واحد يبشركم بتعليم جديد مضاد لم أكتبه لتخلصوا خلاصاً أبدياً".

موقف الكنيسة من إنجيل برنابا:

ومع مخالفة تعاليم بولس للحق انتشرت وتأصلت في الإمبراطورية الرومانية إذ صادفت هوى في نفوسهم وعبادتهم الوثنية التي كانوا يعتنقونها من قبل. موقف الكنيسة من إنجيل برنابا: ولعل في سيطرة تعاليم بولس في الكنائس وسيطرة شخصيته على التلاميذ ما دفع بعض علماء الغرب إلى القول بأن إنجيل يوحنا وإنجيل مرقس من تأليف بولس كما تحققه دائرة المعارف الفرنسية، وكما يحققه قاموس الكتاب المقدس. ولهذه الاعتبارات أثرها في جعل الكنيسة تستبعد إنجيل برنابا بمقتضى أمر بابوي أصدره. البابا جلاسيوس في أواخر القرن الخامس للميلاد، أي قبل بعثة الرسول سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. تاريخ كتابة إنجيل برنابا: يرجع تاريخ كتابة إنجيل برنابا باللغة الإيطالية إلى ما بين منتصف القرن الخامس عشر والسادس عشر، ومن المرجح أن النسخة الإيطالية هي عينها التي اختلسها الراهب فرامرينوا من مكتبة البابا سكتس الخامس الذي عاش في أواخر القرن السادس عشر، ولا سيما أن نوع الورق الذي سطرت عليه النسخة الإيطالية إنما هو من الورق الإيطالي المعروف بالآثار المائية التي فيه والتي يمكن اتخاذها دليلاً صادقاً على تاريخ النسخة الإيطالية. وإلى جانب النسخة الإيطالية ظهرت نسخة إسبانية في أوائل القرن الثامن عشر تقع في مائتين واثنين وعشرين فصلا، وفي أربعمائة وعشرين صفحة، وقد نقلها إلى اللغة الإنكليزية الدكتور منكهوس أحد أعضاء كلية الملكة في أكسفورد، ودفع الترجمة مع الأصل في سنة 1784 م إلى الدكتور هوايت أحد مشاهير الأساتذة. البراهين القاطعة على انتشار إنجيل برنابا قبل الإسلام: إن الأمر البابوي - الذي أصدره البابا جلاسيوس الذي جلس على الأريكة البابوية سنة 492 م - يبين أسماء الكتب المنهي عن مطالعتها، وفي عدادها كتاب يسمى إنجيل برنابا، وفي هذا دليل قاطع على أن هذا الإنجيل كان موجوداً قبل ظهور الإسلام، ومشهوراً بين خاصة العلماء.

مخالفة إنجيل برنابا للأناجيل الأربعة:

ودليل ثان هو نوع الورق الذي سطرت عليه النسخة الإيطالية، الذي هو من الورق المعروف بالآثار المائية التي فيه، والتي تدل على تاريخ النسخة الإيطالية مما يؤكد شيوعه. ودليل ثالث بشأن الزمن الذي كتب فيه - ما ورد: "أجاب يسوع أني حقاً أرسلت إلى بيت إسرائيل نبي خلاص، ولكن سيأتي بعدي مسيا المرسل من الله لكل العالم الذي لأجله خلق الله العالم، حينئذ يسجد لله في كل العالم. وتنال الرحمة حتى أن سنة اليوبيل التي تجيء الآن كل مائة سنة سيجعلها مسيا كل سنة من كل مكان". ولعل هذا الدليل يشير إلى ركن من أركان الإسلام، ألا وهو الحج. مخالفة إنجيل برنابا للأناجيل الأربعة: يخالف هذا الإنجيل الأناجيل الأربعة المشهورة في عدة أمور أهمها: 1 - قوله إن يسوع أنكر ألوهيته، وكونه ابن الله. 2 - أن الذبيح الذي عزم إبراهيم عليه السلام على تقديمه لله إنما هو إسماعيل الابن البكر لإبراهيم لا إسحق وأن الموعد لإسماعيل. 3 - أن مسيا، أو المسيح المنتظر، ليس هو يسوع بل محمد، وقد ذكر محمداً باللفظ الصريح المتكرر في فصول ضافية الذيول، وقال إن محمداً رسول الله، وإن آدم لما طرد من الجنة رأى مسطوراً فوق بابها بأحرف من نور "لا إله إلا الله، محمد رسول الله". 4 - أن يسوع لم يصلب، بل حمل إلى السماء، وأن الذي صلب هو يهوذا الأسخريوطي الخائن مسلم سيده.

التعليق:

التعليق: إن مسألة محاكمة المسيح وصلته تتناقض مع حقائق هامة في سباق ما جاء "بالأنبياء والأناجيل" فسرد تفاصيل لمخاوف الكهنة والكتبة من أن يسرقوا جسد المسيح من القبر - إنما هو خرافة أحاطت بسيرة المسيح في قول الكهنة لبيلاطس: "قد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حي: إني بعد ثلاثة أقوم، فمر بضبط القبر إلى اليوم الثالث، لئلا يأتي تلاميذه ويسرقوه، ويقولوا للشعب إنه قام من الأموات، فتكون الضلالة الأخيرة أشر من الأولى، فقال لهم بيلاطس: عندكم حراس، اذهبوا واضبطوه كما تعلمون فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر". وهذا يناقض رعاية الله لأبنائه وأنبيائه وأصفيائه في قصة دانيال في جب الأسود، وكيف حماه الله من الأسود الجائعة، فظل بينها وكأنها تحرسه حتى خضع الملك الوثني للقول: "يادانيال عبد الله الحي، هل إلهك الذي تعبده دائماً قدر على أن ينجيك من الأسود؟ فتكلم دانيال مع الملك: يأيها الملك، عش إلى الأبد، إلهي أرسل ملاكه، وسد أفواه الأسود، فلم تضرني لأني وجدت بريئاً قدامه، وقدامك أيها الملك". وما موقف الكردينال بيا - الذي يتزعم الحركة المؤيدة لإسرائيل وصاحب وثيقة "تبرئة اليهود من دم المسيح" التي نشرت تفاصيلها الأهرام في 2/10/1964 - من هذا السند الذي جاء في إنجيل متى؟ أيهما أصدق: بحوثه، أم ما جاء بإنجيل متى؟ ... وما جاء بإنجيل متى كما يلي: "وفيما هما ذاهبتان إذا قوم من الحراس جاءوا إلى المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان، فاجتمعوا مع الشيوخ وتشاوروا، وأعطوا العسكر فضة كثيرة قائلين: قولوا إن تلاميذه أتو ليلا وسرقوه ونحن نيام. وإذا سمع ذلك عند الوالي نستعطفه ونجعلكم مطمئنين، فأخذوا الفضة وفعلوا كما علموهم، فشاع هذا القول عند اليهود إلى هذا اليوم". 4 - الكتاب المقدس والتراجم (أ) نسخة الفولجاتا: كان للقديس جيروم أثر ظاهر في الحركات الإصلاحية. إذ قام بترجمة العهد القديم

من اللغة العبرانية إلى اللغة اللاتينية، وتنقيح العهد الجديد وترجمته من اللغة اليونانية إلى اللغة اللاتينية، ويعتبر هذا العمل أكبر الأعمال الكنسية، وتسمى هذه النسخة بالفولجاتا. وظل يعمل فيها حتى وفاته سنة 420 م، وقد كان الكتاب المقدس مغلقاً عليه حتى عهد الإصلاح سنة 1414 م. وهذه الترجمة قد نقحت في سنة 1592، سنة 1907، ومازالت تعتبر عمدة التراجم للكنيسة الكاثوليكية، ومنها كانت الترجمة الإنكليزية المعروفة Douai Bible (ب) نسخة اكسفورد: وفي سنة 1375 م قام جون ويكلف بترجمة الفولجاتا من اللغة اللاتينية إلى اللغة الإنكليزية، وعاونه في ذلك علماء جامعة أكسفورد، وكان عمله هذا بمثابة القبس الذي أشعل النهضة الروحية السياسية التي اجتاحت أوربا في العصور الوسطى، حيث طالبت الشعوب المسيحية بترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الإنكليزية ونشره لتداوله بينهم مما جعل الكنيسة الكاثوليكية - حرصاً منها على النسخ المقدسة - تستجيب لهذه النهضة، فكلفت الأسقف تشالور بترجمة الكتاب إلى اللغة الإنكليزية ترجمة تتفق ومشرب الكاثوليك وتمحض الأمر عن نسخة ديوى Douai Bible. (جـ) نسخة ديوىDouai Bible عكف الأسقف تشالور على ترجمة الكتاب المقدس من الفولجاتا من اللاتينية إلى الإنكليزية، وذلك في منتصف القرن السادس عشر مع بعض التغييرات الحديثة، وهذه التغييرات - في اعتبارهم - لم تؤثر إطلاقاً في جوهر معاني الكتاب المقدس أو مبادئه الأساسية، وطبع العهد الجديد في كلية ريمس سنة 1582، ثم طبع العهد القديم في كلية ديوى سنة 1609 وهذه النسخة تشتمل على أسفار الأبوكريفا، وعلى تقديم من البابا ليوس الثالث عشر والبابا بيوس الثاني عشر مع تذييل للأسفار كلها بالتحقيق التاريخي.

5 - الكتاب المقدس والخط اللاتيني

(د) التراجم إلى اللغات الحية: من هذه النسخ سواء كانت باللاتينية أو الإنكليزية كانت التراجم إلى اللغات الحية ومنها اللغة العربية. 5 - الكتاب المقدس والخط اللاتيني إن اللغة اللاتينية تعرضت لتغيرات ضخمة في مدى قرنين ونصف قرن، وهي المدة الواقعة بين (تاكتيوس سنة 55 - 130 م، وأغسطينوس سنة 354 - 430 م) . ذلك أن انتشار المسيحية في الغرب خلال هذه الفترة لم ينشأ عنه إدخال ألفاظ جديدة من أصل يوناني فحسب، بل أدى أيضاً إلى استحداث كلمات جديدة وتعبيرات لم تكن معروفة من قبل لتلائم الآراء والمعتقدات والطقوس الدينية التي أتت بها المسيحية. وقد نجم عن ذلك تغيير جسيم في اللغة اللاتينية، ويبدو الفاروق واضحاً بين اللغة اللاتينية الفصحى - كما كتبها شيشرون - واللغة اللاتينية الجديدة أو الدارجة التي استخدمها كتاب العصر المسيحي منذ عهد ترتوليان سنة 200 فصاعداً، وهكذا انتهى عصر البلاغة والبيان الذي كان يمتاز به الأسلوب اللاتيني. وثمة مظهر آخر من مظاهر التأخر الذي أصاب اللغة، وبالتالي أصاب أوربا في ذلك العصر، هو تدهور مستوى الخط في الكتابة وفي المخطوطات أو الوثائق الحكومية المعاصرة. ففي العصور القديمة كانت الكتب تدون على مجاميع من أوراق البردي، ولكنها منذ القرن الأول الميلادي أصبحت تدون على صفحات من الرقائق الجلدية مقطوعة على هيئة مربعات قائمة الزوايا أطلق عليها الكتب المربعة. ومعظم المخطوطات التي ترجع إلى العصر الميروفنجي أو العصر القوطي من هذا النوع. أما الخط فكان على ثلاثة أحجام، لكل حجم منها اسم خاص به وهي: 1 - الحروف الكبيرة، وتسمى: ماجسكيل. 2 - الحروف البوصية، وتسمى: يونيسكيل. 3 - الحروف الصغيرة، وتسمى: ماينوسكيل. ولم يلبث أن أدى انتشار الجهل إلى فساد الخط، وتعذر قراءته، فوقع الكتاب

6 - الكتاب المقدس والنسخ الخطية

بذلك في أخطاء عدة، مما أفسد الكتابة إفساداً يبدو بوضوح في الترجمة اللاتينية للإنجيل في ذلك العصر. 6 - الكتاب المقدس والنسخ الخطية (أ) نسخة الإسكندرية: وتشمل أربعة مجلدات ضخمة، الثلاثة الأولى منها للعهد القديم، والرابع للعهد الجديد، أجمع العلماء على كتابتها في القرن الرابع الميلادي بمدينة الإسكندرية. (ب) نسخة الفاتيكان: يؤكد العلامة مونتفكون والعلامة بلانشيني أنها كتبت في القرن الخامس، ولا يشبهها إلا نسخة الإسكندرية، وهي محفوظة الآن في الفاتيكان بروما. (جـ) النسخة السينائية: اكتشفها العلامة تشيدرف الألماني، وقد كتبت في القرن الرابع، ولهذا الكشف كرر العلامة زيارته لدير سانت كاترين بسيناء سنة 1844 م وسنة 1856 م، وأخذ المخطوطات وأهداها إلى قيصر روسيا الإمبراطور إسكندر، ومازالت إلى الآن محفوظة بمكتبة بطرسبرج، وهناك مخطوطات أخرى في لبسيك. (د) النسخة السبعينية: وهي التي استدعى لها بطليموس فيلادلفيوس سبعين من أحبار اليهود إلى مدينة الإسكندرية سنة 280 ق. م ليقوم كل منهم على حدة بترجمة التوراة من العبرانية إلى اليونانية، ثم يقابلوا تراجمهم بعضها على بعض ففعلوا ذلك وأظهرت المقابلة صحة الترجمة.

(ب) العقيدة المسيحية

(ب) العقيدة المسيحية ا - المسيحية دين الدولة يرجع الفضل في انتشار المسيحية في ربوع الإمبراطورية الرومانية إلى رحلات بولس المدعو رسولا في آسيا وأوروبا، وإلى كتاباته التي تحتل المكانة الأولى بين كتابات الحواريين. يرجع الفضل في تمكين المسيحية من الإمبراطورية الرومانية إلى اعتناق الإمبراطور قسطنطين المسيحية، ثم اعترافه بها في مرسوم ميلان الشهير سنة 333 م، وبهذا وضحت معالمها، وبرزت تعاليمها. وهذا الانتشار أو التطور جعل المثقفين يأخذون بهذه الأمور متسائلين عن العلاقة بين الله والمسيح، محاولين تحديد هذه العلاقة، كما استفسروا عن طبيعة الملائكة، وعن المقصود بأن الخبز والنبيذ تحولا إلى لحم المسيح ودمه. وسرعان ما احتلت هذه المسائل جانبا كبيرا من تفكير المسيحيين عندما غدت المسيحية دينا رسميا للدولة. وقد أدى هذا إلى تطور في أسلوب الدراسات اللاهوتية، وقيامها على منهاج يقتنع به المثقفون من معتنقي الديانة الجديدة. وقام بهذه المهمة مجموعة من كبار العلماء ومفكري المسيحية الذين يطلق عليهم لقب آباء. 2 - الآباء وتطوير المسيحية كان هؤلاء الآباء على معرفة بالفلسفة الكلاسيكية، فأفادوا منها - ولا سيما من الآراء الأفلاطونية الجديدة - في تأييد آرائهم، والتدليل عليها، وتقديم العقائد المسيحية في صورة علمية يتقبلها المثقفون. هذا إلى أن هؤلاء عملوا على التوفيق بين تعاليم المسيحية من جهة ومطالب الدولة والكنيسة من جهة أخرى، ومن هؤلاء الآباء وأهمهم:

1 - القديس كليمنت الاسكندري في القرن الثالث الميلادي. 2 - القديس جيروم حوالي (330 - 420 م) 3 - القديس أوريجانوس حوالي (185 - 254 م) 4 - القديس أمبروز حوالي (340 - 397 م) 5 - القديس أوغسطينوس حوالي (354 - 430 م) 3 - المجامع الكنسية ترتب على الاعتراف بالمسيحية دينا رسميا للإمبراطورية الرومانية نتائج بعيدة الأثر في الكنيسة ونظامها، وكان الجهاز الذي يحكم شئون المسيحيين روحيا يطلق عليه الكنيسة الكاثوليكية (وكلمة "كاثوليك" كلمة لاتينية، ترادف "كوزميك" اليونانية، ومعناها الكونية) ، وكانت الكنيسة في أيام قسطنطين كنيسة واحدة يتزعمها الإمبراطور قسطنطين، ثم بدأ هذا الجهاز يتألف من رجال الكهنوت فحسب، وكان صراع عنيف بين الأباطرة والباباوات حول الزعامة في العصور الوسطى. وقد ظهر على رأي الكنيسة بعدئذ خمسة بطارقة في خمس مدن رئيسية وهي: 1 - روما في إيطاليا. 2 - بيت المقدس في فلسطين. 3 - أنطاقية في الشام. 4 - القسطنطينية في آسيا الصغرى. 5 - الإسكندرية في وادي النيل. وهؤلاء البطارقة يمكن تشبيههم بكبار الرؤساء الإداريين في الإمبراطورية الرومانية "كالولاة". وكان الجهاز الكنسي يتدرج من القمة إلى مستوى الشعب، بأن يتبع هؤلاء البطارقة مجموعة من رؤساء الأساقفة، وهؤلاء الرؤساء من الأساقفة يشبهون في نظامنا السياسي المحافظين، ويمتد نفوذ الواحد منهم إلى عدة أسقفيات، وهذه الأسقفيات تشمل الكنائس والأديرة والمدارس والأوقاف الخيرية.

المشكلة التي تعرضت لها الكنيسة.

وتشمل الأسقفية الواحدة عدة أبروشيات، على كل أبروشيه قسيس راع، ويتبع الأبروشية الواحدة القساوسة المعلمون والمبشرون والشمامسة، ثم ينتهي هذا الجهاز ببسط نفوذه إداريا وروحيا على الشعب. وهكذا ظهر هرم كهنوتي متدرج يشبه إلى حد كبير هرم الوظائف الإدارية في الإمبراطورية الرومانية. وهذا الجهاز جعل من الكنيسة حكومة ثيوقراطية وراثية، تستمد نفوذها من المسيح، فهي بذل تعتمد على العقيدة المسيحية في سلطانها وسيطرتها على الشعب، من الملوك المزارعين والعمال. ونجم عن هذا الجهاز الدقيق وعن تشبث رجال الدين بمراكزهم أن كان هناك صراع من أجل النفوذ، دفعهم إلى العمل لاستبعاد كل الشخصيات التي يتوجسون منها خفية في إثارة مشاكل أو منافسة على سلطان الكنيسة. ومع هذا التشبث الدنيوي تعرضوا لأخطر مشكلة نجم عنها انقسام المسيحيين - بل الإمبراطورية الرومانية أيضا - إلى معسكرين، وثارت البغضاء الدينية والسياسية بينهما لمدة قرنين من الزمان. هذه المشكلة هي تحديد العلاقة بين المسيح الابن والإله الآب. المشكلة التي تعرضت لها الكنيسة. حدث خلاف جوهري بين اثنين من رجال الكنيسة بالإسكندرية حول تحديد العلاقة بين المسيح الابن والإله الآب. فقال آريوس - وهو أسقف إسكندري - إن المنطق يحتم وجود الآب قبل الابن، ولما كان المسيح الابن مخلوقا للإله الآب، فهو إذن دونه، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعادل الابن الإله الآب في المستوى والقدرة، وبعبارة أخرى فإن المسيح مخلوق لا إله، بمعنى هذه الكلمة المطلق وإلا فإن المسيحيين يصبحون متهمين بعدم التوحيد وبعبارة إلهين. وقال أثناسيوس - وهو شماس إسكندري - (لاحظ أيها القارئ التدرج الهرمي في الوظائف الدينية) إن فكرة الثالوث المقدس تحتم أن يكون الابن مساويا للإله الآب تماما في كل شيء، بحكم أنهما من عنصر واحد بعينه، وإن كان شخصين متميزين.

ويبدو أن الأثناسيوسيين أدركوا أن المسيحية تعتمد في دعوتها على مكانة المسيح، وأن أي اتجاه للتقليل من شأنه قد يؤدي إلى إضعاف الدعوة المسيحية. ومن الواضح أن المذهب الأريوسي كان يتفق مع منطق المثقفين لأنه أراد أن يقيم العقائد المسيحية على أساس من المنطق والتعقل، في حين كان المذهب الأثناسيوسي يلائم تفكير عامة الناس من الدهماء الذين يحكمون عواطفهم قبل عقولهم. وحسما للموقف دعا الإمبراطور قسطنطين إلى عقد مجمع نيقية سنة 325 م وفيه صدر قرار بإدانة آريوس أسقف الإسكندرية. وتوالت بعدئذ الدعوة إلى عقد مجامع يحضرها أساقفة المعمورة ليتدارسوا فيها شئون الكنيسة، وما يرتبط بها من نظام كهنوتي، وعقيدة، ولاهوت. أشهر المجامع الكنسية: ومن أشهر وأهم هذه المجامع - بعد مجمع نيقية آنف الذكر - المجامع الآتية: 1 - مجمع صور سنة 334 م: في هذا المجمع الذي عقده الإمبراطور قسطنطين صدر قرار بإلغاء قرارات مجمع نيقية سنة 325 م، وصدر قرار بالعفو عن آريوس وأتباعه، وبقبول تعاليمه. وكان هذا القرار تبرئة للمسيحية من الشرك: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . 2 - مجمع خلقدونيا سنة 451 م: أصبح رابع مجمع مسكوني ديني بإغفال مجمع صور سنة 334، وفيه اتخذ قرار بأن للمسيح طبيعتين: طبيعة إلهية، وطبيعة إنسانية، متحدتين اتحادا وثيقا، وكان هذا القرار في عهد البابا ليو الأول، ويعرف هذا المذهب بالمذهب الملكاني. 3 - مجمع القسطنطينية الثاني سنة 553 م:

في هذا المجمع استصدر قرار بتأييد مذهب الطبيعة الواحدة، وساند هذا التأييد الإمبراطور جستنيان، إرضاء لزوجته ثيودورا وتنكيلا بالبابا فجيليوس وتشجيعا ليعقوب براديوس معتنق مذهب الطبيعة الواحدة، ومؤسس كنيسة اليعاقبة، وقد جاء ذكرهم بكونهم جيراناً يقيمون على مشارف الجزيرة العربية. 4 - مجمع القسطنطينية الثالث سنة 860 م: وقد اتخذ هذا المجمع قرارا بإدانة مذهب الطبيعة الواحدة، فكان هذا نقضا لقرار سنة 553 م. 5 - مجمع نيقية الثاني سنة 787 م: وقد اتخذ قرارا بإدانة اللا أيقونية. 6 - مجمع القسطنطينية الرابع سنة 869 م: ويعتبر هذا المجمع نقطة الانقسام الكنسي، ففيه اتخذ قرار بإدانة البطريرك فسوتيوس وعزله. ومن هذا الوقت بدأ الانشقاق المذهبي بين الشرق والغرب وانتهى بالانقسام التام بين المسيحيين، إذ تكون على أثره كنيستان: كنيسة شرقية: أطلق عليها أرثوذكسية. وتعني مستقيمة الرأي، وقاعدتها القسطنطينية. وكنيسة غربية: بقيت على اسمها كاثوليكية وقاعدتها روما. هذا بالإضافة إلى مجمع كونستانس سنة 1414 ونسة 1418م، ومجمع بازل سنة 1431م. هذه المجامع دعا إليها رجال الإصلاح الكنسي، لما رأوا عليه الكنيسة الكاثوليكية من الانحراف عن الكتاب المقدس. وكان لهذه المجامع القوة الفعالة في حركة لوثيروس في أكتوبر سنة 1517م، ولو ثيروس راهب كاثوليكي استنار بنود الكتاب المقدس، فتكشف له سوء حالة الكنيسة والإكليروس وانحرافهم عن الحق، فندد بصكوك الغفران، وكان من الجرأة إلى حد أنه عرض حياته للحرمان وغضبة البابا عليه، وعرض جسده للموت حرقاً، وكان

4 - الفلاسفة وتطوير العقيدة

من الجرأة أن ألضق معلقته المشهورة والمشتملة على 95 بنداً كلها تنديد بالكفر والضلال. ولم يقف الباب نيو العاشر مكتوف اليدين، بل استصدر حكمين ضد هذا الراهب، الحكم الأول بالحرمان من الحياة الأبدية، والحكم الثاني بإعدامه حرقاً بالنار. وفي وسط هذه الغضبة العارمة كان الشباب الألماني سباقاً إلى إنقاذ حياة هذا الراهب، والإيمان بمبادئه، والضرب بأحكام البابا ليو العاشر عرض الحائط، وكان هذا التصرف بمثابة التفجير الذري الذي أصاب الكنيسة الكاثوليكية بتصدع عنيف لم تسكت عليه مدى الأيام، فوقعت الحروب الدامية واضطهادات التي يندي لها جبين الإنسانية. ومع هذا انسلخت كنيسة ثالثة أطلق عليها اسم الكنيسة البروتستانتية (أي المحتجة) ، وهكذا لم ينصرم عام 1521م حتى كان على الأرض ثلاث كنائس كبرى: 1 - الكنيسة الكاثوليكية، وقاعدتها روما. 2 - الكنيسة الأرثوذكسية وقاعدتها القسطنطينية. 3 - الكنيسة البروتستانتية، وقاعدتها ألمانيا، ثم انتقلت إلى انجلترا ثم إلى الولايات المتحدة. ومع تعدد هذه الكنائس الكبرى كانت كل كنيسة منها تنقسم على نفسها إلى عدة مذاهب، وكل مذهب له تفكيره الخاص في الإيمان، وكل مذهب له أنصاره. 4 - الفلاسفة وتطوير العقيدة 1 - كليمنت الإسكندري (150 - 315 م) وأرويجانوس (185 - 254م) : وقد تزعم هذان فلسفة مسيحية منظمة، مقرها الإسكندرية، واعتمدا في طريقتهما على أسس مستقاة من الفسلفة الأفلاطونية. وقد قال فرفريوس (232 - 304م) عن أوريجانوس: إنه مسيحي في أسلوب حياته، ولكنه يوناني في تفكيره ومنطقه.

5 - الصليب

وقد عاش أوريجانوس في الإسكندرية إبان نهضتها العلمية، حيث كانت تتلافى فيها الفلسفة اليونانية، والمناوية، والفيثاغورية، والمسيحية، فضلاً عن عقائد قدماء المصريين، والمذاهب الشرقية المستوردة من الهند وفارس والصين. وعلى الرغم من الاعتراف بأوريجانوس أباً من الآباء - إلا أن تشبعه بالفسفة اليونانية أدى إلى اتهامه بالهرطقة التي أدانه بها مجمع القسطنطينية في القرن السادس. على أن تيار الأفلاطونية استمر في تدفقه وتأثيره في الفكر المسيحي في القرن الرابع، ولم يلبث أن انتقل إلى الغرب عن طريق جريجورى اسقف نيسا سنة 400 م تقريباً، فالقديس أمبروز أسقف ميلان سنة 397 م تقريباً. 2 - ديونسيوس الأريوباغى: ظهر في القرن الخامس الميلادي، وكان قاضياً بمحكمة أثينا العليا، وله التأثير الفعال في تدعيم الفكر المسيحي بالآراء الأفلاطونية. ومن آثاره: "اللاهوت الصوفي" أي العلم بالهه وبكل الأمور الإلهية علماً ذوقياً تجريبياً. 3 - القديس أوغسطينوس (453 - 430 م) : ومن آثاره أنه وضح القضاء والقدر، ومذهب حريق الإنسان. 4 - بيوتيوس (453 - 524 م) : وهو من أرسرة رومانية شريفة، تدرج في منصب الوزارة لثيودريك ملك القوط الشرقيين في إيطاليا. ومن آثاره الرسائل التي كتبها في اللاهوت، ولخص فيها المبادئ الثالوث، وتجسد الأقنوم الثاني، وتتفق مبادئه مع الخطوط العريضة لعلم الأخلاق الأفلاطوني. 5 - الصليب {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}

(ب) التاريخ السياسي للصليب:

(أ) قصة الصليب وفلسفته: هذه الشبهة لها ماض سحيق يعود إلى أيام سيدنا موسى بين بني إسرائيل في "برية سيناء إذا تمردوا على الله وتنكروا له، فعاقبهم الله بالحيات والعقارب. ولما صرخوا إلى موسى يطلبون الخلاص من هذه الضربات أمره الله - عز وجل - بأن يصنع حية نحاسية، ويعلقها على طرف خشبة، ويأمر التائب من بني إسرائيل بأن يرفع وجهه لينظر إليها، فيشفى". لكن الأجيال توارثتها كعقيدة بقوة الرغبة في الخلاص من هذه الحية النحاسية، وضاع الحق بالباطل. وظل بنو إسرائيل يقيمون لهذا الحية الأنصاب على المرتفعات حتى جاء حزقيا بن آحاز ملك يهوذا، وأراد أن يعمل ما هو مستقيم أمام الله، "فأزال المرتفعات، وكسر التماثيل، وقطع الصواري، وسحق حية النحاس التي عملها موسى، لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها، ودعوها بحشتان". هذا هو التاريخ الكتابي لإقامة الصليب بمثابة الأله، من موسى سنة 1400 ق. م، إلى حزقيا سنة 538 ق. م. وظلت هذه العبادة قائمة برغم أن الوصية الإلهية الثانية من الوصايا العشر تنهى عن هذا: "لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالاً منحوتاًَ". (ب) التاريخ السياسي للصليب: يحدثنا عنه السير آرثر فندلاي في كتابه (الكون المنشور) صحيفة 58: "إن اكتشاف النار كان من أهم الاكتشافات التي وصل إليها الإنسان الأول في سابق العصور. لقد وجد أنه يمكنه توليد هذه النار باحتكاك قطعتين من العصى، ولما شاهد هذا اللهب العجيب سحر به وبهت إلى درجة أنه عبده، ومن ثم كانت عبادة النار". وإسرائيل الأمة الموحدة - وهي تعيش هؤلاء الأقوام - توارثت عنهم الكثير ...

ولقد جاء ذكر العصوين بمواصفات أوحى الله بها إلى عبده موسى بقوله: "وتصنع عصوين من خضب السنط وتغشيهما بنحاس. وتدخل عصوين في الحلقات. فتكون العصوان على جانبي المذبح حيثما يحمل". فأصبح أمر العصوين إسرائيل مزيجاً من الأمر الإلهي والعبادة الوثنية، فالعبادة الوثنية جعلت لتقريب الإله - الذي - يتعبدون له - أن ترمز إليه بعصوين متعامدتين على شكل صليب. وعلى هذا أصح الصليب رمزاً للحياة والتضحية منذ الآف السنين. وهذا الرمز وجد منقوشاً على الألواح الحجرية الموضوعة فوق القبور البالغة القدم. ولقد شغل الصليب مكانة دينية مرموقة في مصر وفي آشور، وفارس، والهند. ويقال: إن الإمبراطور قسطنطين قد اتخذه رمزاً للإيمان المسيحي نقلاً من المحورين المتعامدين الشمسة التي كانت جيوشه قد جاءت بها من بلاد الغال رمزاً لعبادتهم الشمس. وعلى هذا يكون الصليب رمزاً دينياً قديماً جداً. لا يمت إلى المسيحية بصلة. ويقول السير آرثر فندلاى أيضاً في كتابه (صخرة الحق) صحيفة 72: "حتى سنة 680 م لم تكن الفكرة قد تبلورت حول الرمز الذي يعطى لصلب عيسى. وقبل ذلك كان يرمز للنخلص مذراً. فاستبدل بالحمل رجل مربوط إلى صليب، ومذرا هو المسيح المخلص للفرس سنة 400 ق. م.".... ثم يستأنف السر آرثر فندلاى حديثه في صحيفة 43 من المرجع نفسه فيقول: "ولقد استخدم الصليب منذ الآف السنين كعلامة على الحياة، ففي مصر القديمة الفرعونية كان الصليب يستخدم كمركز للحياة، حتى إنه وجد في مدينة الأقصر بمصر على جدار معبد الأقصر كتابة قديمة تبشر بالأم العذراء، والروح القدس المصري كان يرسم قابضاً على صليب أمام وجه الأم العذراء، والروح القدس المصري كان يرسم قابضاً على صليب أمام وجه الأم العذراء، وفي المنظر بعد ذلك يصورونها وقد وضعت طفلاً إلهاً. وفي اليونان كان الصليب يستخدم كرمز للحب والتضحية وكذلك الأمر في التبت والهند".

ويسترسل السير آرثر فندلاى في كتابه (الكون المنشور) صحيفة 78 فيقول: "إن قصة الصليب قيلت قبل عيسى على الستة عشر إلهاً مخلصاً، وقصص حياتهم على الأرض من المهد إلى اللحد ثم البعث - كلها متشابهة، وكأن كل ديانة ترث من سابقتها". ونتيجة لهذا نشأت فكرة الفداء، فأولئك الذين يعبدون الشمس كانوا يقدموت آلاف الضحايا للشمس، وكان هذا العدد يتضاعف عندما يحل الكسوف، إذ كانوا يعتقدون أن الإله الشمس غاضب، أو أنه غير راض عن عباده، وكانوا يعتقدون عندما ينتهي الكسوف أن السبب في انتهائه فداء أحد زعماء القبيلة للشعب، بتقديم نفسه ضحية، وبهذا يعتبر ذلك الزعيم مخلصهم ومسيحهم، ويعتبر شخصاً إلهاً، حمل على نفسه عذاب شعبه. وعلى هذا المنوال أحاطت بالمسيح عليه السلام مثل هذه الضلالات، إذ قيل: إنه قد حصل على الأرض ظلام، "ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة". وبذلك كان موته - كما يحققه التلمود اليهودي - على الطريقة المنصوص عليها في التوراة، بحيث رجم بالأحجار، ثم علق جسده على شجرة. وأحيطت هذه الحادثة بخرافات ومعتقدات الأقدمين الذين أنشأوها رغبة في تهدئة إلههم الشمس في وقت الكسوف. وليس هذا بعجيب، فإن كهنة الهند قالوا - في مطلع سنة 1962 - إن القيامة لابد أن تقوم، وفسر علماء الفلك قولهم هذا بحقيقة وجود الشمس والقمر والأرض على خط واحد، ولولا عناية الله وحفظه لخلقه لحل الدمار بالعالم، باختلال الجاذبية التي تحفظ توازن كل كوكب من هذه الكواحكب في مساره، ومع هذا حفظ الله الأجرام في أفلاكها دون فقدان جاذبيتها التي تحفظ سابحة في أفلاكها. وأصبح الصليب معبود الأقدمين رمزاً للمحورين المتعامدين للمجموعة الشمسية، وينبغي تقديم الفدية حتى لا يقع كسوف شمس كما أشرت آنفاً. ثم أصبح الصليب في 622م وفي عهد الإمبراطور هرقل رمزاً للجيوش الصليبية، وكان ذلك عند استيلاء الدولة الفارسية الساسانية على فلسطنين وبيت المقدس سنة

1 - الشعب اليهودي يمجد مسيح الله:

617 م، إذ أعد الإمبراطور هرقل جيشاً صليباً لاسترداد الصليب الأعظم من يد الدولة الساسانية الغاضبة. ويبدو أن وجهة نظر الإمبراطور في تعبئة جيش صليبي كانت محاولة يائسة لرد هجوم الفرس الذين لم يبقوا له من أملاكه سوى القسطنطينية، وكانت هذه العلامة القوة الدافعة للنصر الرائع. ثم قامت الجيوش الصليبية بتنظيم حملات صليبية ضد جيوش المسلمين من سنة 1097 - 1250 - هذه الحملات السبع التي انتهى أمرها بالنتصار صلاح الدين الأيوبي انتصاراً رائعاً سنة 1187، واستيلائه على بيت المقدس. وتطهيره من تلكم الجيوش الباغية وبأسر لويس لبتاسع ملك فرنسا بالمنصورة سنة 1250م. هذه هي قصة الصليب من حيث التاريخ الكتابي، ومن حيث التاريخ السياسي. هذه هي قصة الصليب الذي أصبح عقيدة ورمزاً للمسيحيين. هذه هي قصة الصليب الذي مجده بولس المدعو رسولاً، وجعله موضع كرازته وتبشيره بقوله: "لأني لم أعزم شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً". 1 - الشعب اليهودي يمجد مسيح الله: إن الشعب اليهودي - وهو الشعب الموحد لله - يخشى الله ويخشى مسيح الله ويؤيد هذا الصراع المريع بين شاول الملك في مطاردته لداود النبي بغسة قتله والتخلص منه ويشاء الله القدير أن يقع شاول في قبضة داود الذي هرب إلى الجبال ليحتمي من سطوة الملك وبطشه. لقد وقع شاول الملك ثلاث مرات في قبضة داود، وفي كل مرة كان داود يصفح عنه. قال أبيشاى لدواد: "قد حبس الله اليوم عدوك في يدك فدعني الآن أضربه بالرمح إلى الأرض دفعة واحدة ولا أثنى عليه، فقال داود لأبيشاي: لا تهلكه، فمن الذي يمد يده إلى مسيح الرب ويتبرأ؟! وقال داود: حي هو الرب، إن الرب سوف يضربه، أو يأتي يومه فيموت، أو ينزل إلى الحرب ويهلك، حاشا لي من قبل الرب أن أمد يدي إلى مسيح الرب. فقال شاول: قد أخطأت".

2 - الحواريون ينظرون إلى المسيح كابن لله فكيف يتخلى عنه الله؟

هذا التصرف من داود النبي، هو التصرف السليم الذي تتحقق به إرادة الله (العفو عند المقدرة) ، الذي يقهر الخصم فيجبره على الاعتراف بخطئه كما اعترف شازل الملك بقوله لداود عليه السلام: قد أخطأت. وعلى هذا نتبين أن الرسالة واحدة، رسالة الله، وكلمة الله هي واحدة، والهدف واحد، وهو شارة إلى ملك الكون، الله جل جلاله، وإنما تختلف الطريقة وتتلون الحقيقة في أعين الناس على حسب اختلاف عقولهم وأزمانهم، وإذا كان عيسى أو موسى أو محمد - صلوات الله عليهم أجميعن - رسل الله يبشرون بالكلمة، فإن الله جل جلاله من ورائهم جميعاً، وأنبياء الله كمثل الكهرباء التي تسرى في المصابيح الكهربائية، فتشع بالضياء، أو تسرى في المحركات الآلية، فتولد الحركة، هذه الكلمة لا يمكن أن تسير بدون أضوائه المتلألئة في كل سماء، وإن كانت تحجبها أحياناً سحب من صنع البشر. 2 - الحواريون ينظرون إلى المسيح كابن لله فكيف يتخلى عنه الله؟ لقد ذكر الحواري متى في إنجيله قصة التجلي للمسيح عيسى ابن مريم وهذا نصها للفائدة التاريخية: "وبعد ستة أيام يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه، وصعد بهم إلى جبل عال منفردين. وتغيرت هيئته قدامهم، وأضاء وجهه كالشمس. وصارت ثيابه كالنور. وإذا موسى وإيليا قد ظهرا لهم يتكلمان معه.. وفيما هو يتكلم إذا سحابة نيرة ظللتهم، وصوت من السحابة قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي سررت له اسمعوا، ولما سمع التلاميذ سقطوا على وجوههم وخافوا جداً، فجاء يسوع ولمسهم وقال: قوموا ولا تخافوا، فرفعوا أعينهم ولم يروا أحداً إلا يسوع وحده". والأمر إلى هذا الحد لا يعود أن يكون قصة جميلة، لكن الأمر الخطير في هذه القصة هو وصية المسيح لهؤلاء التلاميذ الثلاثة بقوله: "لا تعلموا أحدا بما رأيتم". ولنقابل هذه الحادثة بأخرى مماثلة مع اختلاف الحالة العاطفية من المجد إلى الموت، ومن البهجة والسرور إلى الكآبة والحزن، وها هي ذى القصة الثانية وقد وردت في الأناجيل الثلاثة: إنجيل متى 26: 36 - 46، وإنجيل مرقس 14: 22 - 42، ثم إنجيل لوقا 22: 39 - 46.

3 - التباس الحوادث مما ينفي حادث الصلب عن المسيح:

والقصة كما وردت في إنجيل لوقا: "وخرج ومضى كالعادة إلى جبل الزيتون وتبعه تلاميذه أيضاً. ولما صار إلى المكان قال لهم صلوا لكيلا تدخلوا في تجربة، وانفصل عنهم نحو رمية حجر، وجثا على ركبتيه وصلى قائلاً: يا أبتاه، إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، ولكن لتكن، لا إرادتي. بل إرادتك. وظهر له ملاك من السماء يقويه. وإذا كلن في جهاد كلن يصلي باشد لجاجة، وصار عرقة كقطرات دم نازلة على الأرض، ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه، فوجدهم نياما من الحزن، فقال لهم: لمذا أنتم نيام؟ قوموا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة". 3 - التباس الحوادث مما ينفي حادث الصلب عن المسيح: هذه هي القصة ومنها تستخلص كينونة المسيح عيسى بن مريم كإنسان بشر، يصلي في جهاد، فينزل ملاك من السماء ليقويه ويشد من أزره ثم يعود إلى تلاميذه، فيجدهم ساعة هذه التجربة العظمى نياماً. ومن هنا حدث لبس في شخصية المصلوب. 1 - كان مع تلاميذ طاهرا يصلي، وأولئك كانوا في سبات عميق نائمين. 2 - ويتقدم يهوذا الاسخريوطي الجمع الذي يريد القبض عليه وينطق المسيح بمثله المشهور: "أبقبله تسلم ابن الإنسان؟ " تقدم الجمع الذين جاءوا بمشاعل ومصابيح وسلاح، ومن هذا يتبين أن الوقت كان ليلا دامساً: "جاءوا بمشاعل ومصابيح". 3 - وإذا كان الله قد وهبه ملكاً ليقويه في أثناء الصلاة أفما كان الأولى به أن يحقق قول المسيح: "لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكيلا اسلم إلى اليهود، لكن الآن ليست مملكتي من هذا العالم". بل أكثر من هذا يتبين - بقراءة النص الآتي من إنجيل متى - تلك الخدعة الكبرى لموضوع القيامة على أثر الخدعة الصغرى بالصليب، وهذا هو النص: "وفي الغد الذي بعد الاستعداد اجتمع رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس قائلين: يا سيد، قد تذكرنا أن ذلك المضل قال - وهو حي - إني بعد ثلاثة ايام أقوم. فمر بضبط القبر

إلى اليوم الثالث، لئلا يأتي تلاميذه ليلا ويسرقوه ويقولوا للشعب: إنه قام من الأموات، فتكون الضلالة الأخيرة أشر من الأولى. فقال لهم بيلاطس: عندكم حراس، اذهبوا واضبطوه كما تعلمون. فمضوا وضبطوا القبر بالحراس، وختموا الحجر". هذه تالفقرة يتبين منها النية المبينة لرسول الله، حوله تلاميذ لا حول لهم ولا قوة. حوله تلاميذ تركوه عند المحنة، فهذا يهوذا يسلمه، وذاك بطرس ينكره، وبقية التلاميذ قد تخلوا عنه ساعة المحاكمة إن كان حقاً هو الذي حوكم. والحقيقة أنه لم يحاكم، ولم يصلب، ولم يرقد في قبر، ولم يقم من بين الأموات، إنما كانت الواقعة تدور في فلك يهوذا الذي أراد الله له تنكيلاً، جزاء خيانته ورفع نبيه إليه، وفي هذا قال برنابا الحواري: "فلما كان الناس قد دعوني الله، وابن الله، على أني كنت بريئاً في العالم أراد الله أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا، معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب، لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة، وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله". ثك نجد أن هيرودس الملك يأبى أن يقتل نبي الله بقوله: "ولما أراد أن يقتله خاف من الشعب، لأنه كان عندهم مثل نبي" وبيلاطس الوالي الروماني يتبرأ من هذا الذنب العظيم بقوله: "إني برئ من دم هذا البار، أبصروا أنتم". 1 - أهو الله؟ إن كان كإله خلص آخرين، أما كان الأولى به أن يخلص نفسه؟! 2 - أهو نبي ومسيح الله؟ إن الشريعة الموسوية تحرم القتل إطلاقاً، وقتل الأنبياء، فكيف يستقيم هذا الادعاء مع كونه نبياً؟! 3 - أهو إنسان مجرد من تأييد الروح القدس له؟ وهنا يجوز أن يقتل لو كانت هنا أسباب قانونية تدفع إلى القتل اقتصاصاً، والمسيح عيسى ابن مريم كان رسول الله ونبيه الممسوح بالروح القدس، الذي قال: "إن الله يقدر أن يرسل إليه جيشاً

4 - موقف القرآن الكريم من الصلب:

من الملائكة لحمايته والله لن يتخلى عنه". وفي حادثتى التجلي وجثيسماني انفرد بتلاميذه على الجبل وتراءى له في الأول أنبياء الله "إيليا وموسى" وفي الثانية ملائكة الله، ولعله في حادث القبض عليه قد ظلله الله بسحابة، ورفعه إليه، ولم يبق إلا يهوذا الذي شاءت العناية الإلهية أن يكون بديلاً للمسيح للموت اللعين. والقرآن وحده يحسم الأمر من الصلب. 4 - موقف القرآن الكريم من الصلب: قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} أيها القارئ المسلم، يجب عليك أن تشكر الله بالغداة والعشي على ما وصلت إليه من هداية وتوفيق. وأنت أيها القارئ المسيحي لعلك اقتنعت بأنك تعيش في طلاسم، تشرك بربك، وتقيم من الإنسان نداً لله، وتجعل من هذا الإنسان كبشاًَ لترضية الله. خبرنيبربك، أي إله هذا الذي تعتقد أن له الملك والسلطان ترضيه هذه الذبائح؟ أيرضيه ذبح إنسان برئ؟ إنها المسيحية التي تطورت، وأخذت من الوثنية الإغريقية، والوثنية الفرعونية والوثنية الفارسية، والوثنية الهندية، إنها خليط من عقائج وثنية لحضارات أمم قد اندثرت. وفي هذا الظلام الدامس - أيها المسيحي - يتألق القرآن الكريم، ليكشف لك عن الله - عز وجل -. فهذا هو الله الذي يخبرنا عنه الرسول في كلمة الله، في القرآن الكريم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فإذا كان النصارى يعتبرون موت المسيح عيسى بن مريم لغفران الخطايا فهذا اعتبار فيه مساس بقدرة الله، وبذاته جل شأنه، وفي هذا شرك بالله وضلال مبين. ويؤكد القرآن الكريم أن الله لا يعوزه للوسيلة لتحقيق غفران الخطايا:

6 - براءة الإسلام من الشبهات

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وبهذا استطاع أن يبرأ من كل ضلالة وفرية. فيا أخي المسلم، إن الإسلام دين المنطق والعقل. لم يجعل الإسلام وساطة بين الله والإسلام، ولم يترك مقادير الناس تحت رحمة نفر منهم يلوحون لهم بسلطان الكنيسة بقولهم: "وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحله لى الأرض يكون محلولاً في السماء". ومن هنا نشأ بالكنيسة سر يطلق عليه سر التوبة: ويشتمل على: 1 - التوبة. 2 - الاعتراف. 3 - التأديبات الكنسية. 4 - صكوك الغفران. 5 - المطهر. وعلى سبيل المثال فإن نص عقيدة الإعتراف على ما يلي: "الإعتراف في اللغة هو الإقرار بالشيء والتصريح به علناً، وفي اصطلاح الكنيسة هو إقرار الخاطئ بخطاياه - رجلاً كان أم إمرأة - أمام كاهن الله، إقراراً مصحوباً بالندامة والتأسف، والعزم الثابت على ترك الخطية وعدم الرجوع إليها، لينال الحل منه بالسلطان المعطى له من الله القائل: "من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت". 6 - براءة الإسلام من الشبهات ويحسم القرآن الكريم هذه الفلسفات التي انبثقت منه هذه الشبهات الآتية: 1 - في قولهم المسيح عيسى ابن مريم هو جوهر الله: هذه الشبهة لها صلة وثيقة بالفكر اليهودي عن الله - عز وجل - كما يصوره العهد القديم بأن الله - عز وجل - مماثل للحوادث في القول: "وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار"، "نزل الرب على جبل سيناء إلى رأس الجبل. ودعا الله موسى إلى رأس الجبل فصعد موسى"، "فوقف الشعب من بعيد وأما موسى

فاقترب إلى الضباب حيث كان الله"، "ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه كما يكلم الرجل لصاحبه"، "فنزل الرب في السحاب. فوقف عنده هناك ونادى باسم الرب". ولعل الله سبحانه وتعالى قد بين الأمر لعباده بقوله: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ومع هذا فإن موسى عليه السلام أراد أن يرى الله وجهاً لوجه فما استطاع إلى ذلك سبيلاً كما قررته التوارة في القول: "فقال أرني مجدك. فقال أجيز كل قدرتي قدامك. وأنادي باسم الرب قدامك وأتراءف على من أتراءف وأرحم من أرحم. وقال لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش". ومع أن موسى لم يقدر أن يرى الله كما قرهه القول: "لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش، فإن أحد الحواريين تقدم إلى المسيح بقوله: "يا سيد أرنا الآب وكفانا. قال له يسوع: أنا معكم زماناً هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس. الذي رآني فقد رأى الآب فكيف تقول أنت أرنا الآب؟! ". ومن هنا تمخضت فكرة أن المسيح هو جوهر الله وإذا تأملنا فيما كتبه متى أحد الحواريين بقوله: "ولما دخل السفينة تبعه تلاميذ وإذا اضطراب عظيم قد حدث في البحر حتى غطت الأمواج السفينة وكان هو نائماً فتقدم تلاميذه قائلين يا سيد نجنا فإننا نهلك". والقرآن وحده الفيصل. ففي قوله - عز وجل -: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}

وفي هذه الشبهة يقول الله سبحانه وتعالى وقوله الحق: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومن عجب أن كبير الحواريين ينفي عن المسيح شبه كونه جوهر الله بقوله: "يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة. الذي جال يصنع خيراً ويشفى جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه". 2 - وفي وقولهم إن المسيح عيسى ابن مريم ابن الله: وردت هيه الشبهة على لسان بطرس أحد الحواريين، وفيها انبثق التعلم الكنسي بحق منح الغفران أو حرمانه عن عباد الله للكنهة فحسب، ففي القول الوارد بلسان متى: "فأجاب سمعان بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي ... وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السموات. أما مرقص أحد التلاميذ السبعين فإنه يقرر هذه الحقيقة بلا شبهة فيها يقول بطرس: "فأجاب بطرس وقال له: أنت المسيح".

ثم يقف المسيح من هذه الشبهة بقوله قولاًَ يجعل من الابن شخصية تتميز في جوهرها عن الروح القدس بحيث يفهم الإنسان أنهما شخصيتان متباينتان في قوله: "ومل من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له. وأما من جدف على الروح القدس فلا يغفر له"، بل يؤكد المسيح هذه النظرية بقوله: "قال لها يسوع: لا تلمسني لأني لم اصعد إلى أبي. ولكن أذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني اصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم". لهذا المجاز لم يقصد منه أن المسيح ابن الله إطلاقاً. ومع هذا فالقرآن وحده الفيصل في هذه الشبهة بقوله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ومع هذا فإن الشريعة الموسوية ثارمة، فهي تطبق تطبيقاً حرفياً بلا تأويل أو تخريج يخرجها عن حقيقة بغيتها. وفي نظر السريعة الموسوية الإنسان الذي يجعل من نفسه ابناً لله يكون مجدفاً وينطبق عليه حكم الرجم. ولهذا قال بيلاطس: "خذوه أنتم واصلبوه لأني لست أحد علة علية. أجابه اليهود: لنا ناموس وحسب ناموسنا يجب أن يمون لأنه جعل نفسه ابن الله". ومع أن صرختهم كانت تدوي بإعدام شبيه المسيح، إلا أن الجريمة في حد ذاتها لم تكن لتثير بيلاطس الحاكم الروماني ليصدر أمره بإعدام شبيه المسيح. حتى تصايح اليهود قائلين: "إن أطلقت عذا فلست محباً لقيصر. كل من يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر". وهنا خشى بيلاطس على أمن الإمبراطورية الرومانية وتأكيداً لحكمه أن يكون صادراً على حيثيات لا علاقة لها بالشئون الدينية في كون المسيح ابن الله، حيث إن هذا الاعتبار من صميم حقوق الكهنة في تطبيق شريعة موسى وتنفيذ الإعدام بالرجم، بل حيثيات تعرض أمن الإمبراطورية للانهيار، فأراد أن يتأكد أن الشخص الذي سيصدر حكم

3 - وفي قولهم إن المسيح عيسى ابن مريم أقنوم من الأقانيم الثلاثة:

الصلب عليه علته هي كونه ملك إسرائيل إذ قال لهم: "هوذا ملككم. فصرخوا: خذه أصلبه، قال لهم بيلاطس: أأصلب ملككم؟ أجاب رؤساء الكهن ليس لنا ملك إلا قيصر، فحينئذ أسلمه إليهم ليصلب.. وكتب بيلاطس عنواناً ووضعه على الصليب وكان مكتوباً يسوع الناصري ملك اليهود" فما رأي أهل الكتاب إذن؟ وفي هذا ينتفي القول بأن المسيح ابن الله، وما هو إلا إنسان وعبد الله. 3 - وفي قولهم إن المسيح عيسى ابن مريم أقنوم من الأقانيم الثلاثة: مع أن حادثة الصلب حقيقة تاريخية، ومع ان الذي صلب كما حققه برنابا أحد الحواريين شبيه المسيح وليس المسيح ذاته، فإن مؤامرة القبض على المسيح وهو نبي الله كما أقر عن نفسه بقوله: "ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته". وما جبل عليه الاسرائيليون من مناوأتهم للأنبياء كما أقره وسجله عليهم بقوله: ويل لكم لأنكم تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم: إذا تشهدون وترضون بأعمال آبائكم لأنهم هو قتلوهم وأنتم تبنون قبورهم لذلك أيضاً قالت حكمة الله إني أرسل إليهم أنبياء ورسلاً فيقتلون منهم ويطردون لكي يطلب من هذا الجيل دم جكيع الأنبياء المهرق منذ إنشاء العالم. من دم هابيل إلى ذم زكريا الذي أهلك بين المذبح والبيت". وقد سبق أن تحدث نبي العهد القديم إيليا عن شراسة إسرائيل وبغضهم للحق وسعيهم للباطل وقتلهم للأنبياء بقوله: "غرت غيرة للرب إله الجنود لأن نبي إسرائيل قد تركوا عهدك ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف فبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها". وعلى هذا فقد رأى رئيس الكهنة "أن يموت واحد من الشعب ولا تهلك الأمة كلها". ومع هذا فإن المصلوب على الصليب قد صرخ صرخة داوية قائلاً: "إلهي إلهي لماذا تركتني"، ثم يستسلم المصلوب على الصليب بقوله: "يا أبتاه في

يديك أستودع روحي. لوما قال هذا أسلم الروح". وعلى هذا القياس فهناك شخصيات متباينة كل التباين فكيف بهم يقسمون الواحد إلى ثلاثة ثم يجمعون الثلاثة في واحد؟! والقرآن وحده يفرق بين الباطل والحق بقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} وقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

الباب الثامن العالم قبل بزوغ الإسلام

الباب الثامن العالم قبل بزوغ الإسلام {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} سارت الكنيسة - منذ أن أصبحت هيئة رسمية - على نهج النظام الإداري الإمبراطوري، وتطلب هذا النهج قيام شخصية عظيمة على رأسها، تعادل في الزعامة والقوة ما للإمبراطور على الإمبراطورية الرومانية بأسرها. ولعلنا نلاحظ فارقا واضحا بين الشرق والغرب، ففي الشرق تزعم الأباطرة الكنيسة منذ عهد الإمبراطور قسطنطين حتى غدوا يمثلون القيصرية البابوية. ومن الواضح أن الإمبراطور قسطنطين وضع أساس هذه السياسة عندما شد من أزر المسيحية، واعترف بها ديناً رسمياً للدولة، وشيد القسطنطينية قاعدة الإمبراطورية "قيصرية بابوية". وكان للإمبراطور الحق في دعوة المجامع الدينية لبحث مختلف المشاكل المتعلقة بالكنيسة والعقيدة المسيحية. أما في الغرب فإن الوضع يختلف عن ذلك كثيرا، لأن الإمبراطورية الغربية أصبحت - بعد تقسيم العالم الروماني شرقي أو بيزنطي، ورماني غربي - ضعيف، لا تستطيع أن تفرض سيطرتها على الكنيسة والدولة جميعا كما حدث في الشرق. ولكنها سرعان ما وجدت ضالتها المنشودة في شخص أسقف روما الذي تحول كرسيه إلى بابوية لها السيادة العليا على الكنيسة في مختلف أنحاء العالم الغربي. وترجع أسباب

ازدهار روما إلى أهمية المدينة ذاتها، فاستغل أساقفة روما هذه الأهمية والمكانة، لتحقيق نوع من السمو والزعامة على باقي أسقفيات الغرب. وكان التنافس على أشدة بين القسطنطينية وروما، فاستندت القسطنطينية على أنها قاعدة الإمبراطورية السياسية، ومقر إقامة الأباطرة. واعتمدت روما على تشريف خليفة المسيح عيسى بن مريم، وهو بطرس الحواري، ومكانة بطرس في الكنيسة مكانة الصخرة التي بها يدعم الإيمان المسيحي، لهذا قال عنه المسيح: "أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابن كنيستي"، وبالإضافة إلى هذا خول له المسيح حق الحل والربط، إذ أعطاه مفاتيح ملكوت السموات. وفي إنجيل متى: "وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أنت كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السماء". وإذا كان هذا التشريف لبطرس زعيم الحواريين ومقدم الرطل - فإن خلفاءه أساقفة روما أحق الناس بأن يرثوا عنه زعامة العالم. والواقع أننا لم نعرف من أساقفة روما في القرن الرابع وبعد عصر قسطنطين إلا نفرا ارتبطت أسماؤهم بحوادث جسام، ومن هؤلاء البابا داماسوس 336 - 384 م الذي كتب مؤلفا استعرض فيه مكانة كرسي روما الأسقفي، وأكد سيادة البابوية وسموها، كما أنه عهد إلى القديس جيروم بترجمة الإنجيل إلى اللاتينية. أما خليفته البابا سيركيوس 384 - 399 م فترجع إليه أولى المراسيم البابوية من عهده، التي تناولت مسائل معروضة على أسقف روما للبت فيها. وبعد ذلك اشتهر البابا ليو الأول 440 - 461 م الذي تم في عهده الاعتراف بسيطرة البابوية على كافة الكنائس المحلية في الغرب. وفي سنة 455 م أصدر الإمبراطور فالنشيان الثالث إمبراطور الغرب مرسوما إمبراطوريا يقضي بخضوع جميع أساقفة الغرب للكرسي البابوي. وهكذا ازدهرت البابوية حتى وصل نفوذها السياسي والديني إلى القمة في عهد البابا جريجوري الأول 590 - 604 م.

من هذا نجد أن الاعتراف بالمسيحية دينا رسميا للدولة استلزم قيام تنظيم جديد للعلاقة بين الكنيسة من جهة، والدولة المجتمع من جهة أخرى، ذلك أن الامبراطورية الرومانية كان لها دين رسمي وكهنة يتمتعون بمساندة الحكومة وتأييدها. ولكن رجال الدين في العصر الوثني لم يحاولوا التدخل في شئون السلطة الزمنية مطلقا، على عكس الكنيسة التي أخذت تكتسب شيئا فشيئا جديدة منافسة للسلطة العلمانية، مما أوجد نفورا بين السلطتين الزمنية والروحية. ونلاحظ أيضا أن تدخل الكنيسة في شئون السلطة الزمنية يمتد ويشتد بقوة تبعا لازدياد ضعف الإمبراطورية الرومانية، الذي أدى في النهاية إلى بسط سلطان الكنيسة المطلق وإحلالها محل الأباطرة في تصريف شئون الدولة. وهكذا أصبح الأساقفة يضطلعون بعبء التنظيم الإداري في أقليم الإمبراطورية الرومانية، فضلا عن قيامهم بمهام التنظيم الكنسي. ولقد كانت هناك مساجلات بين الأباطرة والباباوات، نذكر منها مساجلة بين فردريك والبابا أدريان الرابع، إذ قال فردريك ردا على رسالة البابا: "إننا نتسلم الإمبراطورية من الله عن طريق انتهاب الأمراء، وإن شريعة الله تقتضي أن يكون حكم العالم بواسطة سيد الإمبراطورية والبابوية، كما قضت تعاليم القديس بطرس بأنه يجب على الناس أن يخافوا الله وأن يحترموا الملك، وعلى هذا يعتبر كل من يقول بأننا تسلمنا التاج الإمبراطوري إقطاعاً من البابا ملحداً باطل العقيدة، لأنه يخالف أوامر الله وتعالم القديس بطرس". وبهذا استطاع فردريك أن يجعل من نفسه السيد العظيم خليفة قيصر بروسيا 1152 - 1190 م. وقال جريجوري السابع - الذي تولى منصب البابوية سنة 1073 م - بشأن الكرسي البابوي: "إن قوة الملوك مستمدة من كبرياء البشر، وقوة رجال الدين مستمدة من رحمة الله، إن البابا سيد الأباطرة، لأنه يستمد قداسته من تراث سلفه القديس بطرس". على أن هناك مشكلة دينية كبرى ظهرت في ذلك العصر وامتد أثرها عدة قرون في تاريخ غرب أوروبا، فضلا عن شرفها، وهذه المشكلة قامت حول عبادة الصور

والأيقونات ومهما كان الامر فإنه يبدو أن عبادة الأيقونات انتشرت انتشاراً سريعا واسعا في القرن الثامن، مما نشأ عنه صراع مستمر بين الأباطرة والبابوية وتطلب من الإمبراطور الأيسوري ليو الثالث علاجا سريعا لهذه المشكلة، بل هناك رأي يقول: إن الإمبراطور ليو استغل هذه المشكلة للقضاء على نفوذ الأديرة اليونانية بعد أن تضخمت ثروتها، وتضاعفت ممتلكاتها المعفاة من الضرائب، وازدادت حقوقها وامتيازاتها ومسموحاتها، مما جعلها خطرا على الدولة. والغريب أن إثارة الحرب على الأيقونية بدأت في الدولة الإسلامية عندما أمر الخليفة يزيد بن عبد الملك سنة 723 بإزالة جميع الأيقونات من الكنائس الواقعة داخل حدود الدولة العربية، ثم انتقلت الفكرة بعد ذلك إلى الدولة البيزنطية، بدأ ليو الثالث حملة ضد الأيقونات وعبادتها سنة 726. وهنا لا نستطيع أن نجد تفسيرا لقوة الحركة اللاأيقونية في الشرق وضعفها في الغرب إلا أثر العقيدة الإسلامية التي قاومت الأصنام وعبادتها، فضلا عن تأثير اليهود الذين حرموا عبادة الصور وتقديسها. كان المرسوم الذي أصدره ليو الثالث سنة 726 بتحريم عبادة الأيقونات حازما وشديداً، إذ قضى بإزالة جميع التماثيل والصور الدينية من الكنائس والأديرة، وبدأ المواطنون فعلا في إزالة الصليب الكبير المقام فوق بوابة القصر الإمراطوري في القسطنطينية، ولم تلبث هذه الأعمال أن استفزت رجال الكنيسة لا سيما في الغرب حيث وقف البابا جريجوري الثاني ثم البابا جريجوري الثالث موقفا عنيدا من سياسة الإمبراطور اللا أيقونية حتى أصدر البابا جريجوري الثالث قرارا بحرمان الإمبراطور من رعوية الكنيسة سنة 731 م. ويهمنا في هذا المقام أن النزال اللا أيقوني كان له أثره الخطير في إيطاليا والبابوية وعلاقتهما بالدولة البيزنطية، ذلك أن أواسط إيطاليا وروما ورافنا وقفت جميعا إلى جانب البابوية في المعسكر الأيقوني، على حين كانت صقلية وجنوب إيطاليا في جانب

الإمبراطور اللا أيقوني. وقد رد الإمبراطور ليو الثالث على قرار البابا بالحرمان من الكنيسة بأن حرم البابوية من حقوقها وأملاكها في صقلية وجنوب إيطاليا وفصل الكراسي الأسقفية في هذه الجهات عن سلطان البابا الديني والقضائي، وجعلها تحت نفوذ وسلطان بطريق القسطنطينية. وهكذا جاء النزاع اللا أيقوني ليزيد من حدة الشقاق بين الكنيستين الشرقية والغربية، مما كان له أثر واضح في مستقبل الحوادث التاريخية. ولقد خلف الإمبراطور ليو الثالث ابنه قسطنطين الخامس (741 - 775 م) الذي وجد أن طريقة العنف وحدها غير كافية لتحقيق سياسته اللا أيقونية وأن كثيراً من الناس استمروا يباشرون عبادة الصور والأيقونات الدينية سرا، ولهذا لجأ إلى عقد مجمع ديني في القسطنطينية سنة 753، 754 م لتأييد سياسته العدائية للبابا وللأيقونية. وكان أن قرر هذا المجمع تحريم تصوير المسيح بأي شكل من الأشكال لأن هذه الصور والتماثيل تعبر عن طبيعته الإنسانية والإلهية في طابع مجسد بشري، وبذلك تطمس صفته الإلهية. أما صور القديسين فقد حرم المجمع عبادتها هي الأخرى بدعوى أن هذه العبادة ضرب من الوثنية وعبادة البشر. وهكذا اتخذ قسطنطين من قرارات مجمع القسطنطينية سلاحاً قوياً ساعده على التطرف في اضطهاد الأيقونيين والتنكيل بالديريين بوصفهم أشد أنصار الأيقونية، بل إنه عمد إلى هدم الحياة الديرية في بلاده بمختلف الطرق والوسائل وإن لم يتمكن من تحقيق هدفه. على أن هذا المجمع لم يكن مسكونيا إلا من الناحية الاسمية فقط لأن البابوية ردت على الدعوة لحضور هذا المجمع بإنزال اللعنة على كل من يحضره. وامتنع عن حضور

بطاركة أنطاكية وبيت المقدس والإسكندرية - الذين كانوا في حماية المسلمين - وبذلك لم يحضر المجمع سوى ثلاثمائة وأربعين أسقفاً تقريباً برئاسة بطريرك القسطنطينية. هذا هو الصراع بين الأباطرة والبابوية، يشتد بقوة نفوذ الأباطرة، ويضعف بضعف نفوذهم، حتى آلت القوة نهائيا إلى البابوية التي استطاعت أن تفرض سيطرتها على الشعوب في شئونهم الدينية والدنيوية. ولعل أقوى دليل على هذا هو المجموعة التي تنسب إلى البابا جريجوري السابع 1073 - 1085 م وتعرف باسم الإدارة البابوية. وأهم موادها: 1 - البابا وحده هو الذي يتمتع بسلطة عالية. 2 - البابا وحده يمتلك سلطة تعيين الأساقفة أو عزلهم. 3 - جميع الأمراء العلمانيين يجب أن يقبلوا قدم الباب وحده. 4 - للبابا وحده الحق في عزل الأباطرة. 5 - لا يجوز عقد أي مجمع ديني عام إلا بأمر البابا. 6 - ليس لأي فرد أن يلغي قرارا بابويا، ومن حق البابا وحده أن يلغي قرارات سائر الناس. 7 - لا يسأل البابا عما يفعل، ولا يحاكم على تصرفاته. 8 - للبابا وحده أن يجيز لرعايا أي حاكم علماني التحلل من العهود وإيمان الولاء التي أقسموها لحكامهم. وهكذا كان الصراع بين الأباطرة والبابوية صراعاً مريراً على حساب الكنيسة وحدها.

وهكذا أيضا يبدو من هذه الإدارة البابوية أن البابوية آمنت إيمانا قويا بأن البابا له السلطة في حكم المجتمع المسيحي، وأنه يعزل الملوك والأباطرة بوصفه نائبا عن القديس بطرس. ولهذا وجه جريجوري السابع مجمع روما الديني المنعقد سنة 1075 م نحو اتخاذ قرار حاسم بشأن التقليد العلماني هذا نصه: "أي فرد من الآن فصاعدا يتقلد مهام وظيفته الدينية من أحد الحكام العلمانيين يعتبر مطروداً من هذه الوظيفة ومحروماً من الكنيسة، ومن رعاية القديس بطرس، وإذا جرؤ إمبراطور أو ملك أو دوق أو كونت أو أي شخص علماني على تقليد أحد رجال الدين مهام وظيفته الدينية فإنه يحرم من الكنيسة فوراً". هذه هي المسيحية وتدخلها في الشئون السياسية بالإضافة إلى نفوذها البعيد المدى في الأمور الكنسية والنظم الكنسية التي تمخضت عن الأسرار السبعة التي يدين لها بالولاء والخضوع كل مسيحي. وهذه الأسرار - من قبيل العلم بالأمر - هي: 1 - سر المعمودية (التنصير) 2 - سر الميرون (المسحة المقدسة) 3 - سر الأفخارستيا (العشاء الرباني) . 4 - سر التوبة (الإعتراف) 5 - سر مسحة المرضى. 6 - سر الزيجة. 7 - سر الكهنوت. واعتبرت الكنيسة التقليدية (الكاثوليك والارثوذكس) منذ بداءتها هذه الأسرار السبعة. ولم يستبعدها، وينكرها سوى البروتستانت الذين انشقوا على الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر، ولم يحصل بينهم اتفاق على عدد الأسرار، وارتأى أتباع الكنيسة البروتستانتية أنه لا يوجد إلا سران فقط وهما المعمودية والعشار الرباني، وحجتهم في ذلك أن الكتاب المقدس لم يذكر أن الأسرار الكنسية سبعة إطلاقا. ولسنا في صدد تفنيده عقيدة، بل بصدد مجرد التمثيل للوقوف على شيء من التعاليم الكنسية التي تقدس كتقديس كلمة الكتاب المقدس. وامتد النفوذ المسيحي وهيمن على أمور أخرى منها العلم، مما أدى إلى تحديد مجال الدراسات العلمية، لأن العقيدة المسيحية - كما قال المعاصرون - تقوم على أساس الإيمان، في حين يعتمد العلم على العقل والمنطق.

ويكفي أن يطلع المرء على كتابات مفكري العصور الوسطى مثل القديس أوغسطينوس ليدرك مدى التأخر العلمي الذي كانت عليه بلاد الغرب المسيحية. هذا إلى أن إصرار الكنيسة على توجيه الناس إلى الحياة الباطنية "الجوانية" أعمى أنظار المعاصرين عن العالم الطبيعي المحيط بهم، فالقديس أوغسطينوس سنة 354 - 430 م يبدي دهشته من أن الناس يذهبون بتفكيرهم بعيدا إلى التأمل في ارتفاع الجبال، أو دراسة مدارات الفلك والكواكب، ويهملون التأمل في أنفسهم، بل إن القديس أوغسطينوس نفسه يهزأ من فكرة كون الأرض كروية، تلك النظرية التي عرفها اليونان قبل ذلك بقرون، ويصرح بأن فكرة نصف الكرة الشمالي يقابله نصف الكرة الجنوبي، وأن عليهما مخلوقات خلقها القدير لتدب عليهما - إنما هي فكرة باطلة هرطقية. وإلى جانب هذا النحطاط في التفكسر العلمي انتشرت الاعتقاد بالخرافات والمعجزات بين أهالي أوروبا الوسطى حتى قضت هذه الشعوذة والأباطيل على البقية من المعرفة العلمية. ويقول إميل لودفيج: "انتشرت الرهبانية ووجدت بيئة خصبة في مصر، والواقع أن الألوف من أولئك المصريين كانوا من الفلاحين، وليس من المحتمل أن ينتحل الرهبانية ملايين الفلاحين مع استمرارهم على زرع حقول أجدادهم، وقد عانى الفلاحون طائفة من المكاره مدة ثلاثة آلاف سنة من عهد الفراعنة، ومدة سبعمائة سنة من السلطان الأجنبي، وللمرة الأولى يقول أناس من أقوياء الإيمان للعبيد المضطهدين على ضفاف النيل ما ليس لديهم عنه فكر منهم، يقولون لهم إن الإنسان في الحياة الآخرة يحاكم على مقياس آخر فتتوقف سلامته على طهارة قلبه، لا على أبهة ضريحه". "وتعلن هذه البشرى السارة بلغة الفلاح لأول مرة، وكان الفلاح كارهاً لإغريقية أفلاطون (أنصار الأفلاطونية الجديدة) وللاتينية عباد جوبيتر كابيتو لينوس ... "ويظهر كهنة إيزيس عزلا، ويمكن الفقراء أن يشعوا ثورة كالتي وقعت منذ ثلاثة آلاف سنة، ويتصرفون في الأمر ببراعة فيوجهون الجموع ضد الأجنبي، ويعد الأغارقة والرومان من عبدة الأصناف للمرة الأولى لا من قبل النصارى، بل من قبل أتباع الدور القديم بمصر.

"وظاهرة ما بعد ذلك الحين هي اختلاط الأديان، لا اختلاط الشعوب واللغات وحده، واذهب إلى جزيرة بلاق الصغيرة التي يطاف حولها في نصف ساعة، تر أنه كان يقام في وقت واحد من كل يوم بشعائر يسوع وإيزيس، وينقلب معبد الملكة حتشبسوت المأتمى إلى مصح يوناني ثم إلى دير نصراني، واذهب إلى شوطئ بحيرة مريوط تر زمرة يهودية كانت تحتفل في كل خمسين يوما بعيد مشتق من أسطورة للإسكندر حولتها البدهية (البوذية) ، واذهب إلى معبد الكرنك تر أنه استعمل كنيسة، ويجعل النصارى الجدد بأدفو القديس أبولون من خليفة هوروس.... "ويستمع الفلاح المصري إلى هؤلاء الرهبان الذين كانوا يقولون إن يسوع الإله ذا الهالة ليس غير أوزيوس المحول ... "ويعترف بالنصرانية في القرن الرابع فيفوق نصارى مصر مضطهديهم عنفا، ويظهر من هؤلاء النصارى أناس بلغوا من التعصب ما يهدمون به المعابد والكتابات والتماثيل والصور الجدارية التي لم يمسها أي شعب أجنبي في ألوف السنين، ويقتل من يزعم أنهم وثنيون بالمئات، وتقطع تلميذة أفلاطون الحسناء ومعلمة علم الفلك في الجامعة، هيباته، إربا وتحرق كصنيعة للشيطان، ولما نهب معبد السرابيوم من غير أن تنزل صاعقة على الهدامين، كان ذلك خلفة لأحد وجوه العالم القديم". ومما زاد الامر سوءاً أن أوروبا في العصور الوسطى - وهي تعيش في ظلمات بعضها فوق بعض - تورث العالم المخطوطات القديمة، ومنها النسخ القديمة للكتاب المقدس، هذه الثروة الهائلة ورثها العالم من تلكم الأجيال التي تفشي فيها الجهل، ورداءة الخط وانحطاط اللغة. والإيمان بالخرافات والمعجزات. فكيف للجيل الذي بلغ في مدى تفكيره الحر الطليق أن يصل إلى التفكير في الدوران حول الأرض، وإصابة العدو عي مئات الأميال من قاعدة الصواريخ دون أن تتحرك قوة للدولة المحاربة وأخيراً إلى القمر.. كيف لهذا الجيل أن يتقبل مثل هذه المخطوطات، ويستند إليها. ويعتمد على صحتها؟! إنني أرى المنطق يقول: كيف نؤمن بتراث موروث من عهد تفشي فيه الجهل، ورداءة الخط وانحطاط اللغة وهيمنة الكنيسة على الشئون الزمنية والدينية، وتفشي المعتقدات الباطلة، مثل صكوك الغفران، والمطهر، وغير ذلك مما ندد به

لوثيروس الراهب الألماني زعيم الإصلاح ومؤسس الكنيسة البروتستانتية في القرن السادس عشر؟ وقد كان من نتيجة هذا كله ذلك الفساد الذي استشرى، وعم ربوع الإمبراطورية الرومانية التي تعرضت بسببه للغزو الأجنبي. ولذلك تعرضت الإمبراطورية البيزنطية في عقد هرقل لغزو الفرس، ففي سنة 614 م اجتاح الفرس بلاد الشام واستولوا على أورشليم (بيت المقدس) ، وفي سنة 616م استولوا على مصر. ولم يشأ هرقل أن يستسلم لهذه الحروب من الجهتين: الشرقية (بلاد فارس) ، والغربية (الآفار) ، فاخذ يعد جيوشه لمحاربة الفرس، وأخذت الحملة التي أعدها بنفسه طابعا دينياً لاسترداد الصليب الأعظم، وبهذا الطابع الديني تجهزت الحملة التي مكنت هرقل من توجيه ضربه قاصمة إلى الفرس. فقدم سنة 626 م عبر سهول دجلة والفرات نحو قلب الإمبراطورية الفارسية حيث أنزل بكسرى الثاني (590 - 628 م) هزينة ساحقة في ديسمبر سنة 627 م قرب أطلال نينوى، وعندما فر كسرى الثاني من ميدان المعركة لحق به هرقل إلى المدائن عاصمة الفرس، مما أدى إلى قيام ثورة داخلية أطاحت بكسرى الثاني، وجعلت خليفته يعقد صلحاً مع الإمبراطور البيزنطي على العودة إلى الحدود التي كانا عليها من قبل سنة 614 م. على أن أحوال الدولة الفارسية لم تستقر بعد ذلك، إذ تكاثرت الثورات والانقلابات الداخلية تعاقب على عرش فارس - في فترة تسع سنوات تالية - أربعة عشر حاكماً، مما مزق أوصال الدولة الفارسية وجعلها مسرحاً للفتن والقلاقل الداخلية. وفي ذلك الوقت تعرضت الدولة الفارسية لغزو من نوع جديد، هو غزو لسحق الوثنية في موطنها. عن ابن عباس رضي الله عنه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين. فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: "فدعا عليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يمزقوا كل ممزق" رواه البخاري ص6 جـ6.

ذلك النوع الجديد من الغزو هو انسياب الجيوش العربية مؤمنة بربها، ورسوله الكريم وبكتبه وملائكته وبرسله وباليوم الآخر، حتى أنهم الله عليها بنصر رائع في موقعة نهاوند سنة 641 م، وبذلك دالت دولة الفرس لتصبح جزءا من الوطن الإسلامي العربي الكبير. * * *

الباب التاسع (أ) العالم في فجر الإسلام

الباب التاسع (أ) العالم في فجر الإسلام {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} علمنا فيما سبق أن دولتي الفرس والروم كانتا في شغل شاغل بالنزاع والحروب المستمرة فيما بينهما، مما صرفهما عن الاهتمام بما يجري في شبه الجزيرة العربية من مولد الرسول الكريم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - سنة 570 م تقريبا، والحدث التاريخي للهجرة النبوية الشريفة سنة 622 م تقريباً، ثم ما تبع ذلك من إنهاء حالة الفوضى والتفكك السياسي والنزاع القبلي التي عاش فيها العرب قرونا طويلة، فقد أدى انتصار الإسلام إلى جعل العرب أمة، واحدة متساندة متماسكة، تخضع لحكومة واحدة تدين بدين واحد، شعاره: "لا إله إلا الله محمد رسول الله". على أن رسالة الإسلام لم يقصد بها العرب وحدهم، بل العالم أجمع. ومن ثم أصبحت مهمة الرسول بعد أن تم له توطيد دعائم الإسلام في بلاد العرب أن يدعو الأمم المجاورة لاعتناق الإسلام قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} . وفي الحديث الشريف: "وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة. وبهذا يتضح الفارق بينه وبين الأنبياء قبله".

وقد كتب الرسول كتباً إلى الأباطرة والملوك حوله، يدعوهم إلى الإسلام دين الوحدانية. ومن كتبه كتاب رفعه إلى المقوقس حاكم مصر هذا نصه: "من محمد بن عبد الله، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم القبط". {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وقرأ المقوقس الكتاب، ثم طواه في عناية وتوقير، ووضعه في حق من عاج، ودفعه إلى واحدة من جواريه. والتفت بعد ذلك إلى حاطب ابن أبي بلعته يسأله أن يحدثه عن النبي، ويصفه له. فلما فعل فكر المقوقس مليا، ثم قال لحاطب: "قد كنت أعلم أن نبيا قد بقى أظن أنه يخرج من أرض العرب، ولكن القبط لا تطاوعني، وأنا أضن بملكي أن أفارقه". وقد كان من حب الرسول لمصر ولأقباط مصر ما دفعه أن يوصي بهم خيرا بقوله: "استوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحما". صدق رسول الله الكريم. ويبدو أن بعض الرسل الذين أوفدهم النبي إلى ملوك الدول المجاورة وحكامها قد صادفوا إعراضاً بل امتهاناً، مما جعل النبي الكريم يعد العدة، ويأتمر بأمره تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} . وجاهد الصحابة في سبيل الله جهاد حق وصدق، ونظمت الجيوش العربية دفاعا عن كيانها وكرامة دينها ومبادئها، وشعارها في كل هذا: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} ، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .

وزحفت الجيوش العربية عقب سنة 632 م تنقض على الإمبراطورية الرومانية البيزنطية، في عهد الإمبراطور هرقل وعلى الدولة الفارسية الساسانية في عهد ملوكها الذين يتعاقبون واحداً تلو الآخر، فتسحق الدولتين، وتتحقق نبوءة الملك نبوخذ نصر في الحلم الذي رآه وفسره له النبي دانيال، وهذا هو تفسير الحلم: "كنت تنظر وإذا بحجر يقطع من جبل بلا يدين هذا الحجر يسحق التمثال كعصافة تذروها الرياح". هذا الحجر هو الأمة العربية في شخص الرسول الكريم، سحق حضارات الأمم السابقة، ومنها الإمبراطورية الرومانية والدولة الفارسية الساسانية وأصبح الإسلام كالجبل وعلمه "لا إله إلا الله محمد رسول الله". وليس العجيب في أمر الغزوات العربية الدفاعية ضد اعتداء الدول المعادية - أن العرب اجترءوا على مهاجمة الفرس والروم وهما أكبر إمبراطوريتين عرفهما العالم بل التاريخ منذ فجر المسيحية حتى القرن السابع المسيحي - ليس العجيب هذا، بل العجيب في الأمر أن العرب غزوا فارس في نفس الوقت الذي غزوا فيه إمبراطورية الروم، وأحرزوا انتصاراتهم الضخمة الرائعة على الدولتين في وقت واحد، إذ تحركت الجيوش الإسلامية في صحراء فلسطين سنة 629 م على أثر انتهاء المعارك المريرة بين الإمبراطوريتين: الرومانية والفارسية، وكأن الله قد أراد للأرض خيرا بانتصار المسلمين إذ خذل به الباطل والبطش والغرور بعد أن مهد لذلك بما كانت تعانيه الإمبراطورية الرومانية من غزوات البرابرة المهاجمين لأراضيها في البلقان، وحركات انفصالية أخذت تقوى عند أقباط مصر، الآراميين في سوريا، والأرمن عند أطراف آسيا الصغرى، مما هدد كيانها ووحدتها تهديدا خطيرا. وفي خلافة أبي بكر الصديق أمر بتسيير جيشين: أحدهما لغزو الروم، والثاني لغزو الفرس سنة 633 م. وهكذا أخذت الجيوش العربية - بقيادة أبي عبيدة الجراح - تعمل في الشام ضد الروم، في حين كان الجيش الثاني بقيادة خالد بن الوليد يعمل في العراق ضد الفرس. وقد حاول الإمبراطور هرقل إرسال قوة ضاربة بقيادة أخيه تيودور لإنقاذ الموقف في فلسطين، ولكن القائد العربي المغوار خالد بن الوليد أتى مسرعا من العراق لنجدة إخوانه بالشام، وبذلك أمكن إنزال هزيمة ساحقة بالقوات البيزنطية في موقعة أجنادين سنة 634 م.

وعندما توفى الخليفة أبو بكر الصديق خلفه عمر بن الخطاب 634 - 644 م. الذي اتسعت في عهده فتوحات الإسلام، فاستولى المسلمون على دمشق سنة 635 م، ثم على حمص بعد قليل، وعندئذ سار الإمبراطور هرقل، وحشد جيشاً من ثمانين ألفاً من رجاله لقتال العرب، ولكن خالد بن الوليد أنزل بالجيوش البيزنطية عند اليرموك سنة 636 م هزيمة جديدة ساحقة. ولما أدرك هرقل أنه من الصعب محاربة المسلمين ترك بيت المقدس تقع في أيدي المسلمين سنة 637 - 638 م. ولم تكن انتصارات العرب على الفرس أقل سرعة من النتصاراتهم على الروم، ففي سنة 637 م كان العرب قد فتحوا العراق، وفي سنة 641 م أحرزوا انتصاراً ساحقاً في نهاوند، مما فتح الطريق أمامهم إلى قلب بلاد الفرس. ولم تجد مقاومة الفرس العنيفة في وجه العرب الذين تم لهم القضاء على يزدجرد الثالث أخر ملوك بني ساسان سنة 652 م. وبذلك اختفت الملكية الفارسية من الوجود وتم للعرب فتح فارس كلها. وكان العرب من قوة الاستبسال والإيمان في الجهاد في سبيل الله في مستوى رفيع استطاعوا به فتح مصر بقيادة عمرو بن العاص سنة 641 م، أي قبل أن ينتهوا من فتح فارس، ويعتبر فتح مصر بالذات مثلا واضحا على مدى ضعف الدولة الرومانية البيزانطية وانحلالها سياسيا. ولعل ما عرف عن المسلمين من تسامح مع الشعوب المقهورة جعل تلك الشعوب تدرك أن خلاصها من الاضطهاد العنصري والديني الذي تلاقيه على أيدي البيزنطيين لن يكون إلا على أيدي هذه القوة الجديدة التي بدأت تتوغل في الإمبراطورية الرومانية المتداعية، وأخذ شعب مصر يترقب زحفها إلى مصر، ويتمنى مجيئها. ويؤرخ (إميل لودفيج) انهيار الدولة الرومانية في مصر بقوله: "لم يستطع جوستينيان أن يشمل النيل بعدله، ولم يأل جوستينيان جهداً في نصر النصرانية فحمل البدويين والبليمي، وزنوج جوار دنقلة أيضا على العماد وكان هذا قبل ولادة

محمد بزمن قليل، وما كان من نزاع بين المذاهب وضعف في الحكومة البيزنطية قد اجتذب الفرس مرة ثانية، فدام احتلالهم العاصمة عشر سنين، ولكن القضاء على تلك الفوضى كان يتطلب أمة جديدة لم يقدر على استعبادها الأشوريون والفرس والمصريون والبطالمة والرومان. "وكان أولئك الناس يحملون عن شمالهم سيوفا طويلة، وكانوا يحملون عن يمينهم سيوفا قصيرة محدبة الفصل داخلة في منطق، وكانوا يحملون تروسا مدورة، وكان النبالة منهم يلبسون جوارب وأحذية مستوية، وكان الفرسان منهم يلبسون جراميق وصدرات قصيرة وثلاثة أوشحة ملونة ملفوفة حول الخصر والصدر والرأس، ويدخل العرب في سنة 640 م أي بعد وفاة محمد بسنين ثمان، حظيرة التاريخ والدلتا عن انطلاق ديني حربي، يدخلها أبناء البحر والصحراء هؤلاء، يدخلها سكان شبه الجزيرة المجاورة هؤلاء. "ويستولى عمرو بن العاص، وكان قائدا لجيش الخليفة الثاني عمر، على ميناء بيلوزة، وهليوبوليس ومدن أخرى في الدلتا. ويقوم عمرو بن العاص ويعد نشيده مجدا لمصر، بذلك العمل خلافا لأمر مولاه عمر، الذي قدر عدم كفاية أربعة آلاف فارس لذلك الفتح. ومن النادر أن تسفر مثل تلك المخالفة عن مثل تلك الفائدة، ويدوم سلطان العرب هناك تسعمائة سنة بفضل تلك اليد القوية.. "ويلقي الفاتح حيرة في قلوب البيزنطيين.. وتقوم بيزنطة بأخر محاولة لاسترداد الإسكندرية فتجد جميع مصر مكافحة لها بجانب سادتها الجدد، وتهدم أسوار الإسكندرية بعد أن ظلت عاصمة الدنيا ثلاثة قرون ثم عاصمة مصر وأهم موانئ البحر المتوسط ستة قرون، ويبدو جميع نصارى مصر أنصارا شديدى الحمية للعرب الفاتحين، الذين طردوا السادة الأجانب فتركوا للأقباط الابن الذي هو جوهر الآب، ولم يكرهوهم على عبادة إله واحد ليس ذلك الابن من جوهره. "ويبني حصن جديد، يبني الفسطاط بالقرب من منفيس وعلى رأس الدلتا، وينقل نحو الشمال نقلا خفيفا في غضون القرون الآتية، ويغدو عاصمة مصر، ويطلق العرب عليه اسم إحدى السيارات مارس التي مرت في ساعات إنشائه الأولى من دائرة نصف نهاره فيدعونه "القاهرة".

ويقول سير أرنولد: "إن ميخائيل الأكبر اليعقوبي كان يرى في فتح العرب المسلمين لمصر وفي انتصاراتهم المتلاحقة يد لعدالة الإلهية التي بعثت لتثأر لما نال الكنيسة المصرية من تعذيب واضطهاد". ولقد أسرع المصريون إلى اعتناق الإسلام حباً وكرامة، لتعاليمه الصافية، وإيمانا منهم بأن المبادئ السامية التي يطبقها العرب المسلمون في سلوكهم معهم جديرة بأن تكون جزءاً من حياتهم الاجتماعية. ويسترسل إميل لودفيج فيقول: "عاش السلاطين على شواطئ النيل مسالمين للنصارى قرونا كثيرة، ويقع الصراع ذات حين، وتصعب معرفة المسئول عن ذلك، ولا عجب، مادمنا لا نعرف المسئول عن الحوادث العصرية في الغالب، ومع ذلك يلوح أن التبعة تقع على النصارى، لما كان من رغبتهم في حمل الناس على اعتناق دينهم، وهل انتهك المسلمون حرمة بيت المقدس؟ كان المسيح خامس الأنبياء مرتبة لدى المسلمين، وكان محمد قد صرح بصحة دين اليهود والنصارى الأولين وبأن كتبهم المقدسة هي التي حرفت، ولم يستول العرب وخلفاؤهم على مصر حملا لها على الإسلام وما كان من بدئهم بالهجرة إليها قبل محمد إلى تلك الأرض الخصيبة الطيبة طلبا للحب والجزية، لا حباً لها لحمل الناس على دينهم، وإذ كان العرب يجهلون لغة مصر مع عدم ثقافة فإنهم تركوا إدارة مصر للأقباط الذين كانوا أقدر منهم على الحساب، ويقوم الأقباط بفتن منعاً لزيادة الضرائب في الدلتا فيبدى العرب شدة، وتصبح اللغة العربية لغة مصر الرسمية بعد قرنين فتحل بذلك محل اللغة القبطية، ويكون الأقباط أول من يتعلم اللغة العربية. "وكان النصارى معتدين عندما حفزهم مقصد نبيل إلى الاستيلاء على القبر المقدس، ولكن القدس لم تظل نصرانية غير 113 سنة من ثلاثة عشر قرناً ثم غدت قبضة المسلمين نهائياً". ولقد سار المسلمون في نشر دعوتهم في ضوء المبدأ الأساسي للإيمان وهو: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}

وليس هناك من دليل علة تقدير المسلمين للمواطنين ولو كانوا على غير دينهم وملتهم أوضح من سرعة انتشار الإسلام بين المصريين. لقد استعادت الكنيسة القبطية في مصر في ظل الحكم الإسلامي قوتها ونفوذها، وأصبح الأقباط في مصر يؤدون طقوسهم الدينية في حرية مطلقة، بفضل المبادئ الإسلامية النقية الصافية". {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} هذه المبادئ السامية ساعدت العرب على الاستيلاء على قبرص سنة 648 - 649م وعلى رودس سنة 653م، بل هاجموا القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية ذاتها سنة 667م ثم سنة 672 - 673م، في حين انتهوا من غزو شمال أفريقيا بأكمله سنة 709م بفضل جهود موسى بن نصير. * * *

(ب) التوسع الإسلامي وأثره

(ب) التوسع الإسلامي وأثره {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} كان للفتوحات الإسلامية الأثر البعيد في البلاد التي دخلت تحت لواء الإسلام، وظهر هذا الأثر بوضوح في شمال إفريقيا، إذ تحول شمال إفريقيا ومصر بأكملها من الحضارة اللاتينية إلى الحضارة العربية، ومن الديانة النصرانية إلى الديانة الإسلامية. ولا عجب أن يسارع البرابرة - الذين طالما كانوا أشد عناداً في حروبهم - إلى الاندماج في تيار الحضارة، ويصبحوا مسلمين، ولم يكن هناك أي تدخل من جانبي السلطات الإسلامية الحاكمة في عقائد المسيحيين المصريين أو كنيستهم، ولم يحدث قط أن شكا أحد من المسيحيين من تعرض المسلمين له في مجال نشاط الديني، وفي هذا مكنتهى ما تصل إليه حرية العقيدة: أن تجد على اختلاف منازعها - حماية كاملة من الدولة. وقد ينسى الغرب الحروب المذهبية الدامية منذ عهد لوثيروس إلى القرن الثامن عشر، ويأخذ على المسلمين في عهد الدولة الأموية حركة التذمر التي سادت أقباط مصر، والتي لم يكن من زرائها أي لون من ألوان الاضطهاد الديني، فهلا أخذ على الإمبراطور دقلديانوس أنه أذل المسيحيين، وحاول إبادتهم، حتى إن أقباط مصر ربطوا تقويمهم القبطي بهذا الاضطهاد الديني الذي حل بهم. وهل ينسى الغرب الاضطهاد الديني السافر للعقيدة الذي جعل أقباط مصر يؤدون شعائرهم الدينية تحت الأرض أو في أقبية بعيدين عن أنظار الرومان؟ هل ينسى الغرب هذا كله وينسى ما حدث منذ 1688 سنة، شهداء، الموافق نهاية القرن الثالث الميلادي في عصر الإمبراطور دقلديانوس.

الواقع يا غرب أن هذا التذمر الذي وقع من أقباط مصر في عهد الدولة الأموية لم يكن اضطهاد ديني، بل كانت أسبابه ترجع إلى ظروف اقتصادية بحتة اكتنفت الدولة الأموية في فترة من فترات توسعها السياسي والعمراني، وأرادت أن تعتمد في نفقاتها على دخلها القومي، مما استلزم فرض ضرائب على الولايات الإسلامية التي كانت مصر واحدة منها، ولم تفرض هذه الضرائب على أقباط مصر فحسب، بل عليهم وعلى المسلمين أيضاً، وهذه هي العدالة المطلقة في الواجبات التي تفرضها الدولة على المواطنين. بل أكثر من هذا يا غرب، لقد استطاعت الأمة الإسلامية بعد توسعها السياسي شرقاً وغرباً - أن تقصم ظهر الأباطرة والملوك، وأن تغسل سبعمائة سنة عاشها الغرب في ظل الإمبرطورية الرومانية، والشرق في ظل الدولة الفارسية، استطاع الإسلام أن يغسل عقول سكان تلكم الأقاليم مما علق بها من عقائد فاسدة وتعاليم باطلة، وتقاليد سقيمة، استطاع الإسلام أن يضئ عليهم كضياء الشمس في وضح النهار، وكفى هذه الشعوب في هذه الأقاليم أن تتمتع بالنور الرباني الذي يشعه عليها القرآن الكريم وسنة الرسول الكريم. وقد ازداد التوسع حتى بلغ سردينيا سنة 711م، واسبانيا سنة 710 - 714م. وإن أثر العرب والإسلام في تاريخ العصور الوسطى لا يقف عند حد التغييرات السياسية التر أحدثوها في أوضاع العالم المعروف، بل يبدو الأثر أشد ما يكون وضوحاً في الميدان الحضاري. والحضارة العربية الإسلامية تقوم على دعامتين أساسيتين: هما اللغة العربية، والديانة الإسلامية، ومازالت السرعة التي انتشرت بها العربية اللغة العربية والديانة الإسلامية لغزاً يثير حيرة المفكرين. فاللغة العربية ليست باللغة السهلة القليلة التعقيد حتى يقال إن سهولتنا أدت إلى سرعة انتشارها من المحيط الأطلسي حتى الخليج العربي، ومع هذا نجحت في أن تبسط سيادتها على جميع البلاد التي فتحها العرب، وحكموها زمناً طويلاً باستثناء فارس. ولم يستطع الباحثون تفسير هذه الظاهرة: ظاهرة انتشار اللغة العربية إلا في ضوء انتشار العقيدة الإسلامية نفسها، وما تتطلبه هذه العقيدة من معرفة بأصول اللغة العربية لأداء فروض الدين.

ويقول بيكر: "إن أوروبا في العصور الوسطى نظرت إلى انتشار الإسلام من وجهة النظر الكنسية الدينية، وكأن الكنيسة قد أفزعها وآلمها ضياع البلاد بالشام ومصر وأعلي العراق، وكانت كلها ترتبط بأصول مسيحية، فراحت نفسر انتشار الإسلام في هذه البلاد بأنه لم يتم إلا بحد السيف". وهم بهذا الادعاء يموهون على خوف ينتابهم ورهبة تسرى في أوصالهم عند سماعهم للإسلام والعرب. وقد سجل التاريخ أنهم لم يكن لهم شأن يذكر حين احتضنهم العامل الروماني الإمبراطور قسطنطين بحمليته لهم وحماية عقيدتهم، وذلك باستصدار قانون بمرسوم ميلان سنة 313م باعتبار المسيحية ديناً رسمياً للدولة، شأنها في ذلك شأن الوثنية. أما الإسلام فهو كالعملاق الذي ولد ولم يركن إلى حماية دولة من الدول، بل استمد مجده من الله الملك القهار، فهو كالعملاق الذي يحمي ولا يهدد، يصون ولا يبدد، وهو في كل هذا يحرص كل الحرص على العزة والكرامة. إزاء هذا لا يسعني إلا أن آتي بوجهات نظر الغرب عن الإسلام وهم فئتان: فئة يتحاملون على الإسلام، وفئة تنصف الإسلام بتحريهم التاريخ الصادق من غير تحيز. فالفئة الأولى: غربيون يتحاملون على الإسلام: يقول بيكر، ويقول برنارد لويس. مستدلين بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} يقولان: إن انهيار سد مأرب في القرن السادس، وما أصاب البلاد من تقلب الأحوال الاقتصادية والاجتماعية - دفعهم إلى الهجرة، ولا فرق في ذلك بين الهجرات السابقة التي قام بها الآراميون والكنعانيون، والهجرات اللاحقة التي قام بها الغرب عقب ظهور الإسلام.

ويشاركهما في هذا الرأي توماس أرنولد، ويشتد تحاملاً عن سابقيه فيقول إن حركة التوسع العربي كانت هجرة جماعة نشيطة، دفعها الجوع والحرمان إلى أن تهجر صحاريها المجدبة، وتجتاح بلاداً أكثر خصباً كانت ملكاً لجيران أسعد منهم حظاً. ومن الواضح أن هذه الآراء تتضمن كثيراً من التضليل والبعد عن الحقيقة. ومع هذا فلنستمع إلى الفئة الثانية، إلى الغربيين الذين ينصفون الإسلام بتحقيقهم التاريخ الصادق من غير تحيز. الفئة الثانية: غربيون يحققون التاريخ وينصفون الحق: ليس أدل على إنصاف المسلمين وبيان حقيقة الغرض من أقول قادة الحرب المقهورين، فهذا هو الإمبراطور هرقل يسخط على الحاكم الروماني ويندد بانكساره أمام جيوش المسلمين، فيقول الحاكم مدافعاً عن نفسه: "إنهم أقل منا عدداً، ولكن عربياً واحداً يعادل مائة من رجالنا، ذلك أنهم لا يطمعون في شيء من لذات الدنيا، ويكتفون بالقليل من الكساء والغذاء في الوقت الذي يرغبون فيه في الاستشهاد، لأنه أفضل طريق يوصلهم إلى الجنة، على حين نتعلق نحن بأهداب الحياة، ونخشى الموت، يا سيدي الإمبراطور". ويتحدث بيرون مؤكداً أن الحماسة الدينية وحدها هي التي أدت إلى نجاح العرب في حركتهم التوسعية، فيقول: "إن الفارق كبير بين الجرمان أو المغول الذين غادروا بلادهم ومعهم نساؤهم وأطفالهم وعبيدهم ومواشيهم بغية السلب والنهب والحصول على أرض جديدة تدر عليهم من خيراتها ما يكفل لهم عيشاً رغداً، والعرب الذين خرجوا في أوائل القرن السابع الميلادي ينادون بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، دون أن يصطحبوا معهم سوى سيوفهم وخيولهم". حقيقة أن الفتح الإسلامي أعقبه حركة أخرى للتهجير والاستيطان في الولايات العربية الجديدة التي تم فتحها، ولكن هذه الحركة الأخيرة لم تبدأ إلا بعد أن انتهت الحركة الأولى بنحو قرنين من الزمان، تغيرت فيهما أوضاع البلاد المفتوحة وأصبحت جزءاً من الوطن العربي.

نظرة إلى التاريخ:

ومع هذا فإن بيكر "يؤكد أن النظرة السالفة التي مازال بعض المثقفين في أوروبا حتى اليوم يعتقدون صحتها، بعيدة عن الواقع لأن الوثائق المعاصرة كلها تثبت أن العرب لم يفرضوا دينهم على أهالي البلاد المفتوحة، بل فرضوا سيطرتهم السياسية لا غير. فسيطرة العرب السياسية هي التي انتشرت بقوة السلاح أما الديانة الإسلامية نفسها فقد وجدت سبيلها إلى قلوب عدد كبير من أهالي البلاد المفتوحة، بدليل ما أجمعت عليه الوثائق من تسامح العرب المطلق مع المسيحيين واليهود على السواء. وهو تسامح لم يخطر على بال إنسان ولم يحظ به المسيحيون واليهود في ظل حكامهم السابقين". "لا شك أن روح التسامي والتسامح التي عرف بها العرب، والتي لا يوجد لها نظير في الشرق أو الغرب في العصور الوسطى كان لها أكبر الأثر في تفهمهم للحضارات الأخرى السابقة تفهماً صحيحاً واضحاً، وفي تفهم الأوروبيين والإفريقيين لحضاراتهم تفهماً مفيداً". ذلك بأن العرب لم يفرقوا في نشاطهم الحضاري بين المسلمين وغير المسلمين، بل سمحوا للنصارى واليهود بالتتلمذ عليهم والاستفادة منهم، فأقبل الأوروبيون في الأندلس وصقلية، والآسيويون في الشام وغيرها، على دراسة المعارف الإسلامية وترجمتها، ممتا ساعد على نهضة أوروبا في العصور الوسطى. نظرة إلى التاريخ: أصبح الإسلام قوياً بتضامن المسلمين، ووقف العالم بأسره أمام الفتوحات الإسلامية وكأنه أمام لغز، وعمل الكثير من العلماء والمؤرخين لفك طلسم هذا اللغز. فالعرب الذين غزوا العالم الروماني في القرن السابع وأوائل القرن الثامن كانوا أقل عدداً من الجرمان الذين تدفقوا على الإمبراطورية الرومانية من قبل، ومع ذلك أذابت الحضارة الرومانية والعقيدة المسيحية تلك الشعوب الغازية في ذاتها فتلاشت نهائياً، في حين كان الانتصار الساحق في الجهات التي انتزعها العرب واستقروا فيها - مثل الشام ومصر وشمال أفريقيا والأندلس - سبيلاً إلى انتشار القرآن بنوره، والإسلام بتسامحه، فانتصر الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً، وما لبث تلك الشعوب التي دانت

للإسلام أن ذابت في دين الله وصارت مع الفاتحين بنعمته إخواناً مسلمين متحابين. وهذه الظاهرة البارزة العظمى ليس لها سوى تفسير تاريخي واحد، هو أن الجرمان لم يكن لديهم من الطاقات النورانية أو الحضارية ما يواجهون به القوة الرومانية والكنيسة الكاثوليكية وسطوتها الروحية والدنيوية، فلم يلبثوا أن استوعبتهم الإمبراطورية الرومانية بحضارتها، والكنيسة بعقيدتها فذاب الغزاة في المجتمع الذي غزوه. أما العرب فقد تقدموا وظهروا مزودين بعقيدة جديدة، وديانة سماوية أدت إلى تماسكهم، وحالت دون ذوبانهم في المجتمع الجديد، عالمين بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ... } وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}

الباب العاشر 1- لمحة من حياة محمد

الباب العاشر 1 - لمحة من حياة محمد (1) الرجل الكامل في القرآن لقد طالما صور الكتاب في مختلف العصور والأمم صورة الرجل الكامل، صورة الشعراء والكتاب والفلاسفة والمسرحيون، صوروا هذه الصورة في العصور القديمة وما يزالون يصورونها حتى اليوم، ومع ذلك لن نجد صورة لهذا الرجل الكامل كهذه الصورة الفذة التي وردت في سياق سورة الإسراء، وهي ليست إلا بعض ما أوحى الله إلى رسوله من الحكمة، لايقصد بها إلى تصوير الرجل الكامل، وإنما يقصد بها أن يذكر الناس بعض ما يجب عليهم يقول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ

(ب) القرآن وأدب النفس:

أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} . أي سمو بالنفس كذا السمو، وأي كمال لها كهذا الكمال، وأي طهر للذيل كذا الطهر! إن كل آية من هذه الآيات ليقف قارئها أمامها، مقدسا لما جمعت من القوة والروعة وسحر البيان وسمو المعنى والإعجاز في التصوير. وليت المقام هنا يتسع لهذه الوقفات!.. ولكن كيف يتسع الحديث عما تنطوي عليه هذه الآيات الست عشرة جدير بأن يستوعب مؤلفاً ضخماً. (ب) القرآن وأدب النفس: ولو شئنا أن نجئ بطرف مما في القرآن في أدب النفس، وتهذيب الأخلاق لا نفسح المجال إلى ما لا تنفسح له خاتمة الكتاب وحسبنا أن نذكر أنه ما خص كتاب على الخير والفضل ما خص القرآن، وما سما كتاب بالنفس الإنسانية ما سما بها القرآن، وما تحدث كتاب عن البر والرحمة، وعن الإخاء والمودة، وعن التعاون والوفاق، وعن الصدقة والإحسان، وعن الوفاء وأداء الأمانة، وعن سلامة القلب وصدق الطوية، وعن العدل والمغفرة، وعن الصبر والثبات، وعن التواضع والإذعان، وعن الخير والمعروف، وعن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوة والإقناع والإعجاز في الأداء، ما تحدث القرآن. وما نهى كتاب عن الضعف والجبن وعن الأثرة والحسد، وعن البغض والظلم، وعن الكذب والنميمة، وعن التبذير والبخل، وعن الاعتداء والإفساد، وعن البهتان واللمز، وعن الغدر والخيانة، وعن كل رذيلة ومنكر، ما نهى القرآن، وبالقوة والاقناع والإعجاز التي نزل بها الوحي على النبي العربي. وما من سورة تتلوها إلا وجدت فيها من الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والتوجه إلى الكمال ما تسمو به نفسك غاية السمو. اسمع إلى قوله تعالى في التسامح:

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} . ويول الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} . ولكن هذا التسامح الذي يدعو إليه القرآن لا يدفع إليه ضعف، وإنما يدفع إليه سمو الخلق وحرص على استباق الخيرات، وترفع عن الدنايا. ويقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} . ويقول تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} . وهذا صحيح في أن الدعوى إلى التسامح دعوة إلى الفضل لا شيء من الضعف فيها، وإنما هو السمو النفساني الذي لا تشوبه شائبة. هذا التسامح الذي يدعو القرآن إليه عن فضل، إنما أساسه الإخاء الذي جعله الإسلام دعامة حضارية، والذي أراد به أن يكون إخاء بين الناس كافة في مشارق الأرض ومغاربها. والإخاء الإسلامي يتضافر فيه العدل والرحمة من غير ضعف ولا استكانة. وهو إخاء تساو في الحق والخير والفضل غير متأثر بالعاجل من المنافع، بل يؤثر الآخذون به على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، والآخذون به يخشون الله ولا يخشون غيره. وهم لذلك الإباء والأنفة، وهم مع ذلك التواضع الجم، الصادقون الموفون بعهدهم إذا عاهدوا، الصابرون في البأساء والضراء وحين البأس، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، لا يصعر أحدهم خده ولا يمشي في الأرض مرحا، وقاهم الله شح أنفسهم، لا يقولون على اللهولا على عبادة الكذب، ولا يحبون أن

(جـ) عظمة النبوة:

تشيع الفاحشة في الذين آمنو، يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذ ما غضبوا هم يستغفرون غيظهم ويعفون عن الناس، يجتنبون كثيرا من الظن ولا يتجسسون ولا يغتاب بعضهم بعضا، لا يأكلون أموالهم بينهم بالباطل، ولا يدلون بها إلى الحكام ليأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم، تتنزه نفوسهم عن الحسد وعن الخديعة وعن لغو القول وعن كل منقصة. وهذه الصفات والأخلاق التي يقوم عليها أدب النفس ويهذب الخلق على مقتضاها، إنما تستند إلى النظام الروحي الذي نزل به القرآن الكريم والذي يتصل بالإيمان بالله. (جـ) عظمة النبوة: تظهر العظمة المحمدية في هذا الجانب المشرق من حياة الدعوة. كيف استطاع أن يؤلف بين رجال تباينت أفكارهم وأمزجتهم وجنسياتهم. ألغى الفوارق بينهم، وصهرهم في بوتقة الإسلام إخواناً متحابين يرفعون هذا الشعار الإلهي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . كان حريصاً على تأديبهم وتفجير الطاقات الكامنة فيهم، يهش لكل منهم كأنما يؤثره على الآخرين، يأسرهم بحديثه وجمال خلقه وفهمه العميق لمعادن الرجال فيأخذون عنه دون شك. يقول لهم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ويقول: "خذوا عني مناسككم" وكان دائب التربية والتوجيه لهم. غذاهم بنور القرآن، فكانوا يجلسون إليه ويتلقون عنه، فإذا عادوا إلى منازلهم بادرتهم زوجاتهم: "كم نزل من القرآن؟ وكم حفظتم من حديث رسول الله؟ ". كانوا كما وصفهم القرآن: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} .

أعدهم لتحمل الأعباء ونشر الدين في الأرض. وسلحهم بكل أسلحة الحكم قادرين على سياسة الشعوب. ولذا نرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ركز على الحجاز باعتبار مكة مركز الدائرة. وإن محمداً في ثلاثة وعشرين عاماً أسس دولة. ووضع لها دستوراً، ونشر الإسلام في جزيرة العرب، ولم يمض على موته قليل حتى دق الإسلام أبواب الدنيا ناشراً العدل والرحمة، وجاء أبو بكر ليخضع الجزيرة لسلطان الدين، وخرج عمر ليلتحم مع فارس والروم ويقضي على نفوذ أعظم دولتين في ذلك الزمان. ثم يركب المسلمون البحر في عهد عثمان ومن بعده، حتى أصبح البحر المتوسط بحيرة عربية، وانتشر الإسلام في كل أنحاء العمران. غيرته على أصحابه: كرمهم القرآن واعتبر الفوز لمن يحشر معهم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} . وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} .

2 - الزواج والطلاق في الإسلام

2 - الزواج والطلاق في الإسلام (أ) الزواج في الإسلام: جاء الإسلام يسوى المرأة بالرجل في كل الحقوق والواجبات، فهي مكلفة بكل ما يكلف به الرجل من العبادات، وهي تبايع الرسول كما يبايعه الرجال سواء بسواء، وهي سيدة نفسها لا تتزوج إلا برضائها، وهي ترث من أبيها كما يرث الرجل، وقد ترث في بعض الأحوال أكثر مما يرث الرجل، إن كان الرجل أباً أو عماً. ووصل الإسلام في رفع مكانة المرأة وتسويتها بالرجل إلى حد أن يقول القرآن الكريم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . وهكذا سوى في الولاية بين الرجل والمرأة، ويدخل فيها ولاية الأخوة والمودة والتعاون المالي والاجتماعي، وولاية النصرة والحرية والسياسة. هذه هي روح الإسلام وجوهر تعاليمه، ومع هذا فقد حشد المستشرقون والمبشرون كتبهم بالطعن على الإسلام ورسوله مستندين في ذلك إلى ما أباحته الشريعة من حل التزوج بأكثر من واحدة، ولو كانوا يعرفون العربية ويفقهون كتاب الله وقواعده ما استطاعوا أن يلصقوا بالإسلام ما ليس من شيمه. وما اتفق خصوم الإسلام سيئو النية على شيء كما اتفقوا على خطة التبشير في موضوع الزواج على الخصوص، فكلهم يحسب المقتل الذي يصاب منه الإسلام في هذا الموضوع هو تشويه سمعة رسول الله، وتمثيله لأتباعه في صورة الرجل الشهوان الغارق في لذات الجسد، وهي صورة لا تلائم شرف النبوة ولا يتصف صاحبها بفضيلة الصدق في طلب الإصلاح، ورسالته العامة عن عفاف القلب والروح.

ولقد حاول خصوم الإسلام أن يجعلوا من مبدأ تعدد الزوجات وإباحته في الإسلام سلاحا يحاولون أن يحاربوه به. فكثيرا ما قالوا إن الإسلام يهدر كرامة الزوجة حين يبيح للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة، ويزيد من النسل الذي يؤدي إلى الفقر والعوز. إن الثابت في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ظل ذا زوجة واحدة حتى بلغ الرابعة والخمسين من عمره، ثم أخذ يعدد زوجاته في فترة امتدت من السنة الثالثة إلى السنة الثامنة من الهجرة، وهذه الفترة هي التي تواصلت فيها الحروم بين المسلمين والمشركين حتى انتهت بفتح مكة. ونتيجة للحروب المستمرة اختل التوازن العددي بين الذكور والإناث في مجتمع المسلمين بالمدينة وأصبح من المحتم إعالة الأرامل واليتامى اللاتي سقط عائلوهن في ميادين الجهاد. وما كان لمصلح اجتماعي كالنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهتم فقط بإطعام الأرامل دون الاهتمام بحماية عفتهن وهو أعلم الناس بأن الغريزة الجنسية شيء مغروس في الطبيعة البشرية، وأن إهمال شأنها خليق بأن يؤدي إلى فساد المجتمع. والغريزة الجنسية هي ما عبر عنها بولس في رسالته إلى أهل رومية في عرض حديثه عن المرأة وارتباطها برجلها وتحررها من رباط الزوجية. وما يتعرض له الأعزب من نوازع نفسية فيقول: "ولكني أرى ناموسا آخر في أعضائي. ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت"؟! ولا نجاة للإنسان إلا بعصمته بالزواج الحلال الطيب، كما بينه الإسلام. ولقد دافع الفونس اتيين دينيه في كتابه (محمد رسول الله) ةفي رسالته (أشعة خاصة بنور الإسلام) عن مبدأ تعدد الزوجات دفاعا مجيدا، فيقول في مسايرة الطبيعة: لا يتمرد الإسلام على الطبيعة التي لا تغلب، وإنما هو يساير قوانينها ويزاول أزماتها بخلاف ما تفعل الكنيسة من مغالطة الطبيعة ومصادمتها في كثير من شئون الحياة، ومثل ذلك الفرض الذي تفرضه على أبنائها الذين يتخذون الرهبنة، فهم لا يتزوجون، وإنما يعيشون غرباء. فيوصي بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس بقوله: "فأريد أن تكونوا بلا هم غير المتزوج يهتم في ما للرب كيف يرضي الرب. وأما المتزوج فيهتم في ما للعالم كيف يرضى امرأته". ثم يحفز المرأة الأرمل على التنكر لطبيعتها وغريزتها الجنسية

فيوصيها بقوله: "المرأة مرتبطة بالناموس ما دام رجلها حياً، ولكن إن مات رجلها فهي حرة لكي تتزوج بمن تريد في الرب فقط ولكنها أكثر غبطة إن لبثت هكذا بحسب رأيي. وأظن أني أنا أيضا عند روح الله". على أن الإسلام لا يكفيه أن يساير الطبيعة، وألا يتمرد عليه، وإنما هو يدخل على قوانينها ما يجعلها أكثر قبولا وأسهل تطبيقا في إصلاح ونظام ورضاء ميسور مشكور، حتى لقد سمى القرآن لذلك "بالهدى" لأنه المرشد إلى قوم مسالك الحياة، ولأنه الدال على أحسن مقاصد الخير. والأمثلة العديدة لا تعوزنا، ولكننا للقصد نأخذ بأشهرها، وهو التساهل في سبيل تعدد الزوجات، وهو الموضوع الذي صادف النقد الواسع، والذي جلب للإسلام في نظر أهل الغرب مثالب جمة، ومطاعن كثيرة. ومما لا شك فيه أن التوحيد في الزوجة هو المثل الأعلى، ولكن ما العمل وهذا الأمر يعارض الطبيعة ويصادم الحقائق، بل هو الحل الذي يستحيل تنفيذه؟ ومن هنا نادى بولس في رسالته إلى تيموثاوس قائلا: "فيجب أن يكون الأسقف بلا لوم بلا امرأة واحدة.. يدبر بيته حسنا، له أولاد في الخضوع بكل وقار. وإنما إن كان أحد لا يعرف أن يدبر بيته فكيف يعتني بكنيسة الله؟! " الأمر الذي يفهم منه ضمنا أن الزواج بأكثر من واحدة كان قائما. إذن لم يكن للإسلام أمام الأمر الواقع، وهو دين اليسر، إلا أن يستبين أقرب أنواع العلاج فلا يحكم فيه حكما قاطعا ولا يأمر به أمرا باتاً. والذي فعله الإسلام أول كل شيء أنه أنقص عدد الزوجات الشرعيات وقد كان عند العرب الأقدمين مباحا دون قيد، ثم أشار بعد ذلك بالتوحيد في الزوجة في قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} . وأي رجل في الوجود يستطيع أن يعدل بين زوجاته المتعددات؟! ولذا كان التعدد بهذا الشرط مستحيل التنفيذ. ولكن انظر كيف وضعه الإسلام وضعاً هو غاية في الرقة والدقة واللطف مع الحكمة.

ثم انظر هل حقيقي أن الديانة المسيحية بتقريرها الجبري لفردية الزوجة والتوحيد فيها، وتشددها في تطبيق ذلك قد منعت تعدد الزوجات؟! إن تعدد الزوجات قانون طبيعي، سيبقى ما بقى العالم، ولذلك فإن ما فعلته المسيحية لم يحقق الغرض الذي أرادته، فانعكست الآية معها، وصرنا نشهد الإغراء بجميع أنواعه. على أن نظرية التوحيد في الزوجة. وهي النظرية الآخذة بها المسيحية ظاهرا تنطوي تحتها سيئات متعددة ظهرت على الأخص في ثلاث نتائج واقعية شديدة الخطر جسيمة البلاء، تلك هي: الدعارة، وكثرة العوانس من النساء، والأبناء غير الشرعيين. ولعل العلم الحديث قد أفصح عن الأهداف الإنسانية والعمرانية التي توخاها الإسلام في تعاليمه بالنسبة إلى سماحه بالزواج من أكثر من واحدة، فقد قرر أساتذة علم الاجتماع أمصال جينز برج ووستر مارك أن تعدد الزوجات كان النظام المتبع في الشعوب المتمدينة في حين كان نظام الزوجة هو النظام المتبع في الشعوب المتأخرة. وإن الشعوب التي كانت تحرم الزواج بأكثر من واحدة إنما كانت تتبع تقاليد لا تتصل بالدين من قريب أو بعيد، كما أن الشعوب التي أجازت الزواج بأكثر من واحدة إنما أجازته طبقا لما رأت فيه من فوائد اقتصادية أو عمرانية دون نظر كذلك إلى الدين. فلم يرد في الإنجيل نص صريح يدل على تحريم الزواج بأكثر من واحدة وإن الإسلام في إباحته تعدد الزوجات قد أباحه في حدود عينها لظروف حددها. وبقيود تجعل من العسير الأخذ به إلا في حالات اضطرارية ويكفي لبيان فضل الإسلام وسمو أهدافه أن نقارن مبدأ تعدد الزوجات بالحلول التي يقترحها مفكرو أوروبا وأمريكا اليوم لعلاج المشكلة الاجتماعية التي تنشأ دائما عقب الحروب بوجود عدد كبير من النساء اللاتي لا يجدن الزواج. والحل المفضل لديهم حتى الآن هو إباحة العلاقة الجنسية وحماية الأمومة غير الشرعية. والفرق بين الحلين هو الفرق بين مجتمعين يقوم أحدهما على أقوم المبادئ ويرغب في تأدية واجبه كاملا نحو أفراده، بينما يتجاهل الآخر واجبه نحو صيانة الأسرة، ويتساهل إلى حد بعيد في القيم الأخلاقية التي يجب أن تسود بين الناس. وهو على كل حال زواج قانوني يكفل للمرأة ولأولادها احترام المجتمع وهو ما لا يكفله لهم الحل الآخر مهما عملت الدولة على كفالة احتياجاتهم المادية. وبالرغم من عدم تبين البعض لأوجه الحكمة في شرعية الإسلام بتعدد الزوجات. فإنه في الأزمات الإجتماعية التي نشأت بسبب الحرب في كثير من نواحي العالم ما يبين

بجلاء حكمة العلاج الذي وضعه الإسلام لمثل هذه الأزمات صوناً لبناء المجتمع وحماية للمستوى الخلقي، وذلك بمنح المرأة نصف بيت إذا تعذر عليها الحصول على بيت كامل. ونصف البيت هو بيت على كل حال. وهو خير كثيراً من تركها بدون بيت. وتعدد الزوجات الشرعي خير بلا شك من تعدد الزوجات غير الشرعي. ولا شك أن العالم سيهتدي يوما إلى حكمة تعدد الزوجات. كما سيهتدي إلى حكمة الطلاق، وهو الآخر موضع إنكار شديد. أما تعدد الزوجات من الناحية الموضوعية فإن الإسلام لم يبتكره. كما أنه لم يستعره، فتعدد الزوجات من حيث هو نظام اجتماعي، وكان مألوفا أزمنة طويلة قبل بزوغ فجر الإسلام على شبه الجزيرة العربية والكتاب المقدس مليء بقصص عن زوجات إبراهيم وسليمان: "وأرسل داود وتكلم مع أبيجايل ليتخذها له امرأة.. فقامت وسجدت على وجهها إلى الأرض، وقالت: هو ذا أمتك جارية لغسل أرجل عبيد سيدي.. وسارت وراء رسل داود وصارت له امرأة. ثم أخذ داود أخينوعم من يزرعيل فكانتا له كلتاهما امرأتين، فأعطى شاول ميكال ابنته امرأة داود لفلطى بن لايش الذي من حليم". "فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات رجلها ندبت بعلها، ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة وولدت له ابنا". "وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون من أبيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات وحثيات من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل: لا تدخلون إليهم وهو لا يدخلون إليكم لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم. فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة وكانت له سبعمائة من النساء السيدات وثلاث مائة من السراري، فأمالت نساؤه قلبه ... وراء آلهة أخرى فذهب سليمان وراء عشتورث الإلهة الصيدونيين وملكون رجس العمونيين.. وهكذا فعل لجميع نسائه العربيات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لآلهتهن". وأما المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فإن زوجاته بعد السيدة خديجة رضي الله عنها كن في الغالب

من الأرامل ذوات الأولاد لينفي كل شك في الدافع الذي دعا إلى تعدد الزوجات في صدر الإسلام، ويبين أي غرض نبيل قام عليه هذا المبدأ. وإن التأمل في موقف صدر الإسلام إزاء الأرامل ذوات الأولاد ليجلو لنا بوضوح نظرة الإسلام إلى الزواج واعتباره إياه واجبا على الأفراد نحو المجتمع يقابله واجب على المجتمع نحو الأفراد بتيسير الزواج لمن يجدنه كالأرامل والمطلقات. وهكذا حرر الإسلام المرأة تحريرا كاملا ورد إليها إنسانيتها، وانتشلها من العبودية إلى طريق العزة والكرامة، فسوى بينها وبين الرجل في جميع الحقوق. وقد علم الله من طبيعة خلقه أنه يمكن أن يعدل الإنسان القادر بين أربع فيؤدي لهن حقوقهن كاملة، أما ما زاد على ذلك فليس في مقدور الإنسان من حيث هو إنسان. فمن خاف عدم العدل، فلا يحل له أن يعدد الزوجات وإن أقدم عليه فهو آثم إثما كبيراً، وكفى بذلك زاجرا للمسلمين! ومن هنا يرى بعض الناس أن تعدد الزوجات يكاد يكون ممتنعا في نظر الدين: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} . فالذي صنعه الإسلام هو تقييد تعدد الزوجات وعدم التشجيع عليه. وأن إباحة الإسلام الزواج حتى أربع زوجات، هذه الإباحة تعد تقييدا لما كان سائدا قبل الإسلام، إذ كانت البيئة العربية تغلب عليها الإباحية والفوضى في الفروج إلى حد أن الزوج كان يبعث بامرأته إلى من ينكحها لتلد مثله. وهو نكاح الاستطراق. وكان التقييد بأربع قد قيده بتحذير إلهي: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} مما يتحتم معه من الناحية العملية الاكتفاء بزوجة واحدة. ويقول العقاد: "قال لنا بعض المستشرقين: إن تسع زوجات لدليل على فرط الميول الجنسية. قلنا إنك لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية لأنه لم يتزوج قط فلا ينبغي أن تصف محمداً بأنه مفرط الجنسية لأنه جمع بين تسع نساء. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمكنه أن يسوس تسع زوجات ولم يؤثر عنهن خصام أو نزاع إلا مرات تعد على أصابع اليد، فمن أتيح له أن يجمع بين عدد من الزوجات فعليه أن يقتدي به في معاملة زوجاته بالعدل ومعالجة الشئون المنزلية بالأناة وسعة الصدر، وعلى النساء أن يتخذن من زوجات النبي الكثيرات مثالا صالحا يحتذينه من العفة والزهد وتدبير

لا رهبانية في الإسلام:

المنزل والرضا بما قدر لهن من متاع في هذه الحياة الدنيا، وبذلك تسعد الأسرة بتمامها وتقوم بواجبها نحو الله ونحو المجتمع الإنساني. "ولو أن المسلمين وغيرهم تأملوا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع نسائه. واقتدوا به في معاملة الأزواج والأبناء والأقارب كما أمرهم الله لعاشوا عيشة راضية مرضية". هذه بعض الأسرار التي من أجلها شرع الله لنبيه أن يجمع بين عدد من الزوجات، فلم يعدد النبي الزوجات لمجرد قضاء الشهوة وهو أكمل خلق الله أخلاقا وأعفهم نفسا وأزهدهم في متاع الحياة الدنيا. وقد حرم الله عليه أن يتزوج غير نسائه أو يبدل واحدة منهن بغيرها. وقد عرفت أنه كان منهن الطاعنة في السن ومنهن غير الجميلة ولم يكن من بينهن من يصح أن يستمتع بها سوى واحدة أو اثنتين، فإذا كان محمدا شهوانيا، وكان يشرع لنفسه ما يوافق شهوته، فكيف يحرم على نفسه أن يتزوج ممن تصبو إليه نفسه ويلزمها أن تبقى مع من لا تشتهيه عادة!! إنه بهذا التشريع يعذب نفسه ولا ينعمها، ألم يقل له رب العزة: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} . هؤلاء وزجاته اللواتي بنى بهن وجمع بينهن.. لم تكن واحدة منهن هدف اشتهاء كما يزعمون، وما من واحدة منهن إلا كان زواجه بها أدخل في باب الرحمة وإقالة العثار ولامواساة الكريمة، أو لكسب مودة القبائل وتأليف قلوبها بالمصاهرة، وهي بعد حديثة عهد بالدين الجديد إنه الواجب.. واجب الدعوة أو واجب النخوة وشتان ذلك وما يتشدقون به، من إثارة النزوة. لا رهبانية في الإسلام: ولعله لا يلخص مبادئ الإسلام في الطريق الوسط، إلا قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .

ويقول تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} . ومن هذه الآية الكريمة بتبين أن الحياة الإنسانية تقوم على أساس من الغريزة الجنسية، واتصال الذكر بالأنثى، ولكن الإسلام لا يقاوم ذلك وإنما يباركه في ظل النظام والشريعة. فلا حرج في الزواج بل هو مندوب ومطلوب ليعمر الكون، لكن الحرج كل الحرج في أن يخرج الإنسان لإشباع غريزته عن السدود والقيود فيعتدي على أعراض الناس. ويغلظ الإسلام في عقوبة الزنى زجرا للناس وحفظا للحقوق والأنساب. ويروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه وصل إلى علمه أن نفرا من الصحابة نحوا نحو الرهبانية المسيحية، فآلى بعضهم على نفسه أن يظل طول الدهر صائما، وأقسم البعض الآخر ان يبيت الليل قائما، بينما نذر البعض الثالث ألا يتزوج النساء. فاشتد غضب الرسول على هذا النفر، واستنكر ما هموا بفعله، وقال قولته الخالدة التي قضت على الرهبانية في الإسلام. "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم لله، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" وقال قوم لرسول الله: إن فلاناً يصوم النهار ويقوم الليل، ويكثر الذكر، فقال: "أيكم يكفيه طعامه وشرابه؟ فقالوا: كلنا، قال: كلكم خير منه". وهكذا حيث تجعل البوذية والمسيحية الرهبانية هن أعلى صور الكمال الإنساني، فإن الإسلام يحث أتباعه على العمل، والإنتاج والتعامل مع الحياة، والاستمتاع بطيباتها، ولكن في اتزان واعتدال، باتباع الطريق الوسط، الذي ترسمه وتحدده عشرات ومئات من الآيات القرآنية، التي تحض على الفضائل ومكارم الأخلاق والأدب العالي، مما لخصته أكمل تلخيصـ وأوجزته إيجازاً معجزاً هذه الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .

(ب) الطلاق في الإسلام:

فشتان بين سماحة الإسلام وبين دعوة النصرانية للرهبنة: "وأقول لكم إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنى وتزوج بأخرى يزني، والذي يتزوج بمطلقة يزني. قال له تلاميذه: إن كان هذا أمر الرجل مع المرأة فلا يوافق أن يتزوج. فقال لهم: ليس الجميع يقبلون هذا الكلام بل الذين أعطى لهم، لأنه يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكون السموات. من استطاع أن يقبل فليقبل". (ب) الطلاق في الإسلام: إن خصوم الإسلام من المبشرين والمستشرقين يعتبرون الطلاق وصمة في جبين الإسلام. ولقد أباح الله الطلاق للمسلمين لأنه قد تدعو إليه الضرورة القصوى، أما حيث لا ضرورة فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - أبغض الحلال إلى الله، كما أن المسلمين اتفقوا على النهي عنه عند استقامة الزوجين، فمنهم من قال إنه نهي كراهة، ومنهم من قال: نهي تحريم.. وقد نهى الرسول عنه في قوله: "لا ضرر ولا ضرار". أما الطلاق بسبب فلم يرفضه أحد، ولكن اختلفوا في بيان الأسباب، قال ابن عابدين: وأما الطلاق فالأصل فيه الحظر أي الحرمة، والإباحة للحاجة إلى الخلاص، فإذا كان بلا سبب أصلا لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص بل يكون حمقاً وسفاهة رأي ومجرد كفران للنعمة وإيقاع الأذى بالزوجة وبأهلها وأولادها. ولذا قالوا إلى سببه الحاجة إلى الخلاص عند تباين الأخلاق وعروض البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله تعالى، فحيث تجرد عن الحاجة المبيحة له شرعا يبقى على أصله من الخطر، ولذا قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} . أي لا تطلبوا الفراق. والطلاق في الإسلام، كما هو معلوم، حق من حقوق الزوج.

{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} . أما غير المسلمين، فمنهم من لم يجوز الطلاق أصلا إلا للزنى، كالأمة الإنجليزية، فأيهما اقترفه كافة للآخر أن يرفع الأمر إلى المحكمة ليفصل القاضي بينهما، أما أهل الولايات المتحدة بأمريكا فكانوا على هذه السنة، ثم وجدوا أن هناك أسبابا أخرى يتحتم معها الطلاق، ولكن لا فرقة عندهم إلا بقضاء قاض. ولابد لجميعهم - يوماً - أن يرجعوا إلى ما قرره الإسلام من الأسباب. حقا إن الشريعة الإسلامية لم توقف تنفيذ الطلاق على حكم الحاكم، وبعض الناس يرون أن الأول أعدل، لأن فيه محاسبة الرجل والمرأة ما يعملان، فلم يخل السبيل للرجل يفعل ما يريد، ولكن دين الإسلام أقوى ركنا وأحكم وضعاً وأبعد مرمى، فلم يفعل ذلك إلا لحكمة صالحة ذلك أن في تعليق الطلاق على حكم القاضي بثبوت الزنى أقبح تشهير للمقترف، وأشنع سبة تنفر من مرتكبه القلوب، وتشوه سمعته في المجتمع. ولا مجال للكثير من القول في الطلاق. فالواقع أن الشكوى ترتفع من الإجراءات نفسها لا من المبدأ ذاته، ويكفي أن نتأمل الآيتين الكريمتين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} . هذا، والديانة المسيحية لم تمنع الطلاق، وغاية ما ورد في الإنجيل أن "من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني" وذهبت المسيحية إلى أن توصي المرأة بعدم مفارقة زوجها أو تصالحه إذا فارقته: "وأما المتزوجون فأوصيهم لا أنا بل الرب ألا تفارق المرأة رجلها وإن فارقته فلتلبث غير متزوجة أو لتصالح رجلها ولا يترك الرجل امرأته" وذهبت المسيحية إلى حد الترغيب في التبتل للحد من المشاكل والمضايقات: "وأما العذارى فليس عندي أمر من الرب فيهن ولكنني أعطي رأيا كمن رحمه الرب أن يكون أميناً، فأظن أن هذا حسن بسبب الضيق الحاضر. إنه حسن للإنسان أن يكون هكذا".

وتنادى بعدم الانفصال: "أنت مرتبط بامرأة فلا تطلب الانفصال". وفي حالة الانفصال لا يجوز للمنفصل أن يتزوج: "أنت منفصل عن امرأة فلا تطلب امرأة". وهذا المذهب تأخذ به الكنيسة الكاثوليكية وتتشدد به فيه. وكل ما ذهب إليه المسيحية من تقنين أو تشريع فهي لم تتعرض لحكم الطلاق أصلا. وكان الطلاق قبل الإسلام منتشرا في جميع أمم الشرق، لا فرق بين يهودي أو مسيحي أو وثني، وكذا بين الرومانيين، فلقد اعتبر قانون "الموائد الاثنتي عشرة" الطلاق جائزاً. ولعل الرومانيين في أخريات أمرهم أصلحوا كثيراً من شأن المرأة وأنصفوها. فإنهم بإجازتهم الطلاق إنما أرادوا حماية إنسانية المرأة، لأن الرجل في القرون الأولى كان لابد له أن يقتل امرأته عقابا لها على بعض الجرائم كالسكر. فكانت عند الرجل كالأمة، كما أنها إذا طلبت من زوجها الطلاق اعتبر ذلك منها قحة ونشوزا يخول له عقوبتها. ويقول الأمير على في كتابة "سر الإسلام" إن المعتزلة لا يجوزون وقوع الطلاق إلا بحكم القاضي الشرعي العادل، فلابد أن يمتحن الأسباب بلا تحيز فيوقع الطلاق أو يرفضع حسبما يراه صالحا. وهو ما يتجه التفكير إليه الآن في بلادنا. ومن هنا يظهر أن من طوائف الإسلام من يعلقون الطلاق بحكم القاضي، فلا يصح عندهم وقوع الطلاق من الزوج إلا بعد محاسبته وامتحان الأسباب التي يبديها للتفرقة. وإن من أكبر الدلائل على بغض الشرع الطلاق أن جعل للرجل أن يسترجع امرأته في الطلقة الأولى والثانية، حتى يتروى ويتدبر ويرجع إليه رشده، حتى إذا طلق الثالثة وجبت عقوبته بعدم جواز الرجعة حتى تتزوج غيره، لما تبين من أنه سفيه الرأي ضعيف العزم.

المراجع

قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} . ومن هنا نجد أن الأصل في الطلاق التحريم إلا لسبب. ذلك أهم ما عنى به المبشرون والمستشرقون من المطاعن في الدين الحنيف وصاحبه، وتجاوزوا حد الأدب مع خير دين، وخير الرسل وخاتمهم. * * * المراجع 1 - القرآن الكريم. 2 - الكتاب المقدس (أ) الطبعة الأمريكية ببيروت. (ب) الطبعة اليسوعية. 3 - تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط: للأستاذ يوسف كرم. 4 - أوروبا العصور الوسطة "التاريخ السياسي": للدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور. 5 - المسيح قادم: للدكتور علي عبد الجليل راضي. 6 - أبو بكر الصديق: للدكتور محمد حسين هيكل. 7 - قصص الأنبياء: للأستاذ عبد الوهاب النجار. 8 - حياة محمد: للدكتور محمد حسين هيكل. تنويه ينبغي أن أثبت تقديري وشكري العميق للسادة الأساتذة الذين كرموا العالم الإسلامي بمؤلفاتهم وترجماتهم، الذين وضعوا بين يدي نصوصا بعضها فرنسي وبعضها إنجليزي لم يكن يسيراً حصولي عليها، وكتبهم المشار إليها بقائمة المراجع وفيها ترجمة لتلك النصوص. إبراهيم خليل أحمد

§1/1