محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه

أحمد بن حجر آل بوطامي

مقدمة

مقدمة الطبعة الثانية بقلم الفقير إلى عفو ربه: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عفا الله عنه. الحمد لله الذي مَنَّ على عباده في كل زمان فترة بإيجاد أئمة هدى؛ يدعون الناس إلى الصراط المستقيم، ويرشدونهم إلى الطريق القويم، ويبصّرون بكتاب الله أهل العمى، ويصبرون منهم على الأذى، ينفون عن كتاب الله وعن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، ويشرحون لهم حقيقة الدين، ويكشفون لهم الشبه بواضحات البراهين. وكان من جملة هؤلاء الأئمة المهتدين والدعاة المصلحين؛ الإمام العلامة، والحبر الفهامة، مجدد ما اندرس من معالم الإسلام في القرن الثاني عشر، والدعي إلى سنة خير البشر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي، طيب الله ثراه، وأكرم في الجنة مثواه، فلقد شرح الله صدره لمعرفة حقيقة الإسلام وما دعا إليه سيد ولد عدنان عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام؛ من الهدى ودين الحق، في عصر استحكمت فيه غربة الإسلام، وغلب على أهله الجهل والبدع والخرافات، وعبادة الأنبياء والصالحين والأشجار والأحجار، وقَلَّ فيه من يصدع بالحق، ويشرح للناس حقيقة التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، ويحذرهم من أنواع الشرك المنافية لدين الإسلام، فقام هذا الإمام في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري بالدعوة إلى الله سبحانه بقلمه ولسانه، وأوضح للناس حقيقة ما بعث الله به نبيه عليه الصلاة والسلام، وما ألصقه به الجهال والضُّلاَّل وهو برئ منه من الشرك والبدع والخرافات، وأوذي في ذلك أذى كثيراً من الجهال وأدعياء العلم، ومن علماء السوء الذين آثروا الحظ الأدنى على الحظ الأعلى، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ، ومن الأمراء الجهال الذين لا يهمهم إلا تثبيت مناصبهم، وتحصيل أغراضهم العاجلة. فصبر رحمه الله على ذلك، واستمر في الدعوة

والبيان، وإيضاح الحق بأنواع الأدلة من الكتاب والسنة، وشرح حال سلف الأمة؛ حتى قَبِل الدعوة من سبقت له السعادة، وساهم في نصرها ونشرها بكل ما يستطيع من قوة. وكان على رأس من نصر الدعوة، وأيدها بقلمه ولسانه وسيفه وسنانه وأولاده وعشيرته، وكل من دخل في طاعته: الإمام الهمام محمد بن سعود؛ جد الأسرة السعودية الحاكمة، تغمده الله برحمته، وأسكنه فسيح جنته، وسائر من ساهم في نصر الدعوة وتأييدها، والاستقامة عليها. فقام في ذلك هذا الإمام أكمل قيام، وأعلن الجهاد على من وقف في طريق الدعوة، ولم ينشرح لها صدره فلم يتقبلها، بل حاربها وصد عنها، حتى أيده الله ونصره وأتباعه، وأظهر على يديه الدعوة الإسلامية نقية سليمة من شبهات المخرفين، وبدع المضلين. واستمر الشيخ رحمه الله في الدعوة إلى الله عز وجل، وتدريس العلوم الشرعية للطالبين، وكشف الشبهات التي يروجها الكفار والملحدون من عبّاد القبور وغيرهم، ويشجع على الجهاد بأنواعه، ويشارك فيه بنفسه وأولاده، ويؤلِّف المؤلفات النافعة والرسائل المفيدة في بيان العقيدة الصحيحة، ورد ما يخالفها بأنواع الأدلة والبراهين؛ حتى ظهر دين الله، وانتصر حزب الرحمن، وذلَّ حزب الشيطان، وانتصرت العقيدة السلفية في الجزيرة العربية وما حولها، وكثر الدعاة إلى الحق، ونكست أعلام البدع والشرك والخرافات، وقام سوق الجهاد، وعمّرت المساجد بالصلوات والدروس الإسلامية النقية. فلله الحمد على هذه النعمة العظيمة، والمنحة الجسيمة، التي تفضل الله بها سبحانه على عباده عند ظهور البدع وغلبة الجهل، واندراس معالم الإسلام، وظهور الشرك في غالب المعمورة. فجزى الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود وأتباعهما وأنصارهما أفضل الجزاء، وأعظم المثوبة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وقد ألَّف في دعوة الشيخ وجهاده وجهاد آل سعود جَمٌّ غفير، منهم الشيخ العلامة المؤرخ: أبو بكر حسين بن غنام، ومنهم الشيخ العلامة: عثمان بن عبد الله بن بشر، ومنهم في عصرنا الشيخ العلامة: أحمد بن حجر بن محمد آل أبو طامي، القاضي حالياً بالمحكمة الشرعية بقطر، فقد ألَّف كتاباً موجزاً مفيداً، عنوانه: الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عقيدته السلفية، ودعوته الإصلاحية، وثناء العلماء عليه، أجاد فيه وأفاد، وأوضح فيه دعوة الشيخ وعقيدته وجهاده؛ بأسلوب جيد مفيد، ونقل فيه عن معاصريه وغيرهم من العلماء والمفكرين من المسلمين وغيرهم ما كتبوه عن دعوته، وما أثنوا به عليه، ورغب إليَّ في قراءة كتابه، وتصحيح ما وقع فيه من أخطاء مطبعية، وتعليق

ما استحسن تعليقه، فأجبته إلى ذلك مساهمة في نشر الحق والدعوة إليه، وقرأت كتابه قراءة تدبّر وتفهّم واستفادة، وأصلحت ما وجدت من أخطاء مطبعية، وعلّقت بعض التعاليق القليلة التي أرى أن فيها مزيداً من الفائدة لقارئ هذا الكتاب. وكان المؤلف أثابه الله قد وضع بعض الحواشي المفيدة على الطبعة المذكورة، فلهذا رأيت تمييز تعليقي بوضع اسمي في آخره، وما سواه فهو للمؤلف. وقد رأى وفقه الله أن يضيف إلى النقول السابقة في الطبعة الأولى نقولاً أخرى مفيدة، تبتدئ من الثاني والثلاثين، وتنتهي بالثاني والأربعين من بنود هذا الكتاب، وقد قرأتها فألفيتها مفيدة تحسن إضافتها إلى الكتاب. وأسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب الجليل جميع من اطلع عليه ويضاعف لمؤلفه الأجر وأن يغفر للشيخ محمد بن عبد الوهاب أنصاره وأتباعه في الحق وسائر دعاة الهدى وأن يتغمدهم برضوانه ويعاملنا وإياهم وسائر المسلمين بلطفه وعفوه وأن يكثر في المسلمين دعاة الهدى وأنصار الحق وأن يجمع كلمتهم على الهدى ويصلح قادتهم أنه سميع قريب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. حرر في 22/3/1393 رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عبد العزيز بن عبد الله بن باز

مقدمة الطبعة الأولى بقلم السيد: علي صبح المدني بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والصلاة والسلام الأتَمَّان الأَكملان على أَفضل الخلق وخاتم الرسل، سيد الخليقة على الإطلاق؛ محمد بن عبد الله، الذي ابتعثه الله على حين فترة من الرسل، فهدى به من الضلالة، وبصّر به من العمى، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فأدّى الأمانة، وبلّغ الرسالة، وجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله، ورفع راية التوحيد، وجاهد في الله حق جهاده، ففتح الله على يديه الفتح المبين. ولم ينتقل من هذه الدنيا إلا وقد دانت الجزيرة العربية بدين الحق، وتخطت دعوته إلى تخوم الأقطار الفارسية والرومية، فأتم صحابته الكرام فتح تلك الأصقاع المجاورة، فدخل الناس في دين الله أفواجاً. ثم بعد انقراض رجال القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية، دَبَّ في المسلمين داء التنافس على الرئاسة، وحب الدنيا، فتفرقت كلمتهم، وتبدد شملهم، فذلوا بعد عزة، وضعفوا بعد قوة، فأصبحوا مسودين بعد أن كانوا سائدين، ومحكومين بعد أن كانوا حاكمين، وفقدوا كل شيء حتى تعاليم دينهم الحنيف، ولا سيما توحيد رب العالمين، فاشرأبت أعناق الشرك، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم، فأحلّوا البدعة محل السنة، والشرك محل التوحيد. وما زالوا كذلك غارقين في بحار الوثنية والشرك إلا من شاء الله، إلى أن قيّض الله لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها؛ ألا وهو شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب،

فاندفع إلى مبارزة أئمة الشرك والضلال، سلاحه كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، يكر على تلك الجحافل، فيبددها مع قلة عدد أنصاره وعدده، فكان النصر حليفه في كل وقائعه، ولا غرو فقد قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} وقال: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . ولم يمت - رحمه الله ورضي عنه - إلا بعد أن دانت لدعوته الجزيرة العربية، فوحّد الله على يديه تلك القبائل والأمراء المتناثرة المتنافرة، فتحققت الوحدة العربية، ومات وهو قرير العين، مطمئن القلب، وقد خلفه أولاده ولا زالوا إلى الآن فكانوا خير خلف لخير سلف. فجدير بالأجيال المتأخرة أن يدرسوا سير عظماء أسلافهم ليتأسّوا بهم، وينهجوا على منوالهم، فدراسة مناقب هؤلاء الأعلام تملأ الأجيال المتأخرة روحاً تقدمية، وأنفساً طموحة إلى العلا، شريطة أن تكون تلك الدراسة موزونة بميزان الكتاب والسنة، وكذلك كما قال عمر بن الخطاب: "كنا أذل أمة فأعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله". لذلك نقدم هذه السيرة العطرة لنباتة البلاد العربية خصوصاً، ولكافة المسلمين عموماً، لتكون حافزاً لهم على التمسك بدينهم، خالصاً من شوائب الشرك والبدع. ونهيب بسكان الجزيرة العربية ولا سيما الأقطار المقدسة أن يحرصوا على تربية أولادهم وتثقيفهم بالثقافة الإسلامية، ويبعدوهم عن بهرجة المدينة اللادينية الزائفة. وختاماً فقد أجاد وأفاد مؤلف هذه الرسالة، فقد جمع إلى إيجاز العبارة، إستيفاء المراد. فنسأل الله أن يجزل له الثواب جزاء ما بذل من هذا المجهود الطيب، وأن يوفقه إلى الاستزادة من المؤلفات النافعة التي تغرس الفضائل الإسلامية في الناشئة حتى ينبتوا نباتاً حسناً، وعلى الله التوفيق. وصلى الله وسلم وبارك على خاتم رسله محمد وآله وصحبه أجمعين.

مقدمة المؤلف: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسائر أئمة الدين والهداة المخلصين والدعاة المصلحين. أما بعد: فلم يخف ما كانت عليه العرب قبل البعثة المحمدية من شقاء، وشرك، وكفر، وذل، وفقر، وانحطاط، وتفرق، وشتات. لا شريعة سماوية إليها يرجعون، وعلى منهاجها يسيرون، ولا ملك يجمع كلمتهم ويعدل بينهم. ولما أراد الله لهم السعادة، وإنقاذهم من مهاوي الذل والكفران؛ بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، فدعاهم إلى توحيد الخالق العليم، وأرشدهم إلى سلوك الصراط المستقيم، فدخلوا في دين الله أفراداً وجماعات، واعتنقوا هذا الدين الحنيف بحب وإخلاص، ومشوا على منهاجه القويم. فتوحدت كلمتهم، وقويت شوكتهم، وعز سلطانهم، وفتحوا الأقطار، وأناروا الطريق للبشر، وهدوهم إلى السبيل الأقوم، ودانت لهم الأمم، ودخلوا في دين الله أفواجاً أفواجاً، وخفقت رايتهم من حدود أوروبا إلى الصين، وقوي سلطانهم، فأذل الله لهم الملوك الكافرين. وذلك كله ببركة اتباعهم لكتاب الله المجيد والسنة المطهرة، واتصافهم بالأخلاق العظيمة والصفات الكريمة.

وبعد انقضاء القرون المفضلة؛ كثرت البدع والخرافات، والرجوع إلى الوثنية الأولى، بتعظيم المشاهد والقبور، وصرف العبادة لها من دون الله، وتقديم الآراء على السنة المطهرة، والتقليد على الأخذ من الوحيين، وتعطيل الأسماء والصفات بالتأويل، ودانوا بالبدع، وحكموا بحسن أكثر أنواعها. سرى ذلك في أكثر الأمة الإسلامية، من بعض الأمم الأعجمية الداخلة في الإسلام نفاقاً وكيداً من بعضهم، وحسن ظن من بعض، وعدم فهم كامل لأصول الدين. وسكت الأكثرون، إما لجهل بالحقائق، وإما مداهنة مع الرؤساء والجماهير، فلهذه الأسباب عَمَّ طوفان البدع والوثنية، فأغرق الأكثرين، وعم أرجاء الأرض من سائر الأقطار. ولكن والحمد لله لم يخل قرن من القرون التي كثرت فيها البدع والشرك القبيح؛ من علماء ربانيين، ودعاة مصلحين، يجددون لهذه الأمة أمر دينها، بالدعوة والتعليم، وحسن القدوة، وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، كما يقومون برد الشبه، وقمع الملحدين، وتأييد شريعة سيد المرسلين. وذلك مصداق ما ورد في الحديث الذي رواه أبو داود: "إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لههذ الأمة أمر دينها" 1. ولقد كان الشيخ الكبير والمصلح الشهير، الداعي إلى توحيد الله العلي الكبير، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي، رحمه الله، من أولئك العدول المجددين، والمصلحين والمخلصين. 1 هذا الحديث إسناده جيد، رجاله كلهم ثقات، وقد صححه الحاكم والحافظ العراقي والعلامة السخاوي وآخرون، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "النهاية" لما ذكر هذا الحديث ما نصه: "وقد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث، والظاهر ـ والله أعلم ـ أنه يعم حملة العلم من كل طائفة، وكل صنف من أصناف العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء ونحاة ولغويين، إلى غير ذلك من الأصناف"انتهى، والله أعلم. عبد العزيز بن عبد الله بن باز.?

قام يدعو إلىتجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده بمشرعه في كتاباته، وعلى لسان رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. كما قام يدعو إلى نبذ البدع والمعاصي، وعبادة الأولياء والصلحاء والأشجار والغيران. ويأمر بإقامة شرائع الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة. ولا زال الناس من عصره إلى اليوم، من مادح وقادح، يعتقد أن الشيخ لم يكن على الصواب، وأن دعوته التي دعا إليها الناس مخالفة للسنة والكتاب ولمذاهب الأئمة الأربعة - رحمهم الله -. والسبب في ذلك: أن دعاية الأتراك واشراف مكة في العصر الماضي بضد دعوة الشيخ والسعوديين لأغراضهم السياسية قد نالت رواجاً وانتشاراً في الأقطار الإسلامية1، وتأثر بها الأكثرون، كما أثّرت الكتب التي كتبها بعض أدعياء العلم في نقد الدعوة، والرد على الشيخ. وما كان أولئك عالمين بحقيقة دعوته، لأنهم لم يطلعوا على كتبه، ولا على كتب أبنائه وأحفاده، من أجل أن وسائل نشر العلم والكتب لم تكن إذ ذاك ميسورة كاليوم، وإنما سمعوا من أفواه بعض الناس، وكتبوا بدون تثبت ومستند، وراجت الدعاية لدى الجمهور، وظنوا أنها صحيحة. كما اعتقدوا صحة ما كانوا يسمعونه وما يقرءونه من بعض الكتب التي تنتقد الشيخ ودعوته. وجهل أولئك المؤلفون أو تجاهلوا أن الواجب على الشخص ولا سيما من انتسب إلى العلم أن لا يقبل كل ما يقال عن شخص أو مذهب أو طائفة 1 سيجئ هذا البحث في أثناء الكتاب مفصلاً.

حتى يثبت لديه، بأن يسمع من ذلك المنسوب إليه ما أذيع عنه، أو يقرأ كتابه ويتأكد من صحة نسبة الكتاب إليه، وهكذا القول فيما سمعه عن مذهب أو طائفة. قلنا: إن دعاية الأتراك والأشراف في العصر الماضي قد نالت رواجاً وانتشاراً. أما في هذا العصر، فقد خفّت وطأة تلك الدعاية السيئة، وعرف كثير من العقلاء في سائر الأقطار والبلدان، حقيقة دعوة الشيخ وصحتها، وذلك بفضل انتشار العلم والوعي في العالم، وبفضل ما اتصفت واشتهرت به الدولة السعودية من التوحيد، وتحكيم الشرع المبين، وإقامة شعائر الإسلام، وإقامة الحدود الشرعية، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونشر العدل والأمان، وتمسكها بالسنة الصحيحة والقرآن، ومحاربة أهل البدع، والاهتمام بالعلم والتعليم، ونشر المدارس والمعاهد والكليات في سائر أرجاء المملكة العربية، وفتح الأبواب للطلاب الوافدين من مختلف البلدان، وإعانتهم بالوسائل النافعة الكافية. كما اشتهرت بالكرم والبذل لجميع الوافدين إليها؛ من غير فرق بين مذهب وبلد وعنصر. وبالرغم مما قلنا من انتشار الوعي، واتصاف الدولة العربية السعودية بتلك الصفات الكريمة؛ لا زال كثير من المنتسبين إلى العلم فضلاً عن العوام يزعمون أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لم يكن على الصواب، وأن الفئة الوهابية تكفّر المسلمين، ولا ترى للأنبياء مقاماً ولا احتراماً ولا شفاعة، كما لا تحترم الأولياء والصالحين، ولا ترى زيارة قبر الرسول ولا غيره. إلى غير ذلك من الأقاويل الزائفة التي لا تعتمد إلا على الوراثة، والسماع عن الماضين الجاهلين، والاغترار ببعض كتب المخرفين.

السبب الباعث للتأليف: فمن أجل ذلك؛ رأيت أن أكتب في سيرة الشيخ المجدد لما اندرس من معالم الإيمان والإسلام، وعقيدته، ودعوته الإصلاحية مؤلفاً وسطاً، اعتمدت فيه على ما ذكره المؤؤخون لـ"نجد" كابن غنام، وابن بشر، والألوسي، والريحاني وغيرهم ممن ذكر الشيخ ودعوته في ثنايا كتبهم. كما اعتمدت على بعض رسائل إمام الدعوة وأبنائه وأحفاده. وسأختمه إن شاء الله بثناء العلماء الراسخين، وبعض المؤرخين المحققين من المسلمين والغربيين، على ذلك الإمام الجليل، الذي شغل عصره وبعده، بعلومه وآرائه، وإصلاحه، ودعوته المقيدة بالكتاب والسنة، والذي دوى صوته بعلومه ودعوته في نجد وفي الخارج، وجادل وناضر بقوة جنانه، وفصاحته لسانه، وواضح برهانه. وإن كنت لست أهلاً لذلك؛ لقصور باعي، وعدم سعة إطلاعي عما هنالك، ولكني بالله استعنت، وإليه تضرعت؛ أن يعينني على هذا المرام، راجياً أن يقف القارئ بعد الاطلاع على هذا الكتاب، وإمعان النظر فيه؛ على حقيقة دعوة الشيخ وعقيدته السلفية، وما اتصف به من العلم والورع والغيرة على الدين، والنصح لعباد الله، والجهاد في سبيله. فلا ينتهي من قراءته، إلا وقد انكشفت تلك الحجب والأستار التي نسجها أولئك المغرضون حول دعوة الشيخ رحمه الله. ويعلم أن ما كان يسمعه من أفواه بعض الجاهلين، أو أدعياء العلم ضد الشيخ ودعوته وأتباعه؛ لا نصيب له من الصحة.

وأن تلك الكتب التي ألَّفها بعض من انتسب إلى العلم، راداً بزعمه على الشيخ وأتباعه لا قيمة لها في ميزان العلم والنقد، إذ لم تستند على دليل نقلي صحيح، ولا برهان عقلي سليم. وكل ما هناك افتراءات على الشيخ، واستنادات على حكايات ملفّقة، وأحاديث ضعيفة أو موضوعة. وهذا أوان الشروع في المقصود، بعون الله الملك المعبود. فأقول وبالله التوفيق، وبيده أزمة التحقيق. المؤلف:

محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه

محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه ... بسم الله الرحمن الرحيم ولادته، ونشأته ورحلته لطلب العلم: ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد ابن راشد التميمي، سنة 1115 هجرية، الموافق سنة 1703م، في بلدة العيينة، الواقعة شمال الرياض. ونشأ الشيخ في حجر أبيه عبد الوهاب، في تلك البلدة في زمن إمارة عبد الله بن محمد بن حمد بن معمر. وكان سباقاً في عقله وفي جسمه، حاد المزاج، فقد استظهر القرآن قبل بلوغه العشر، وبلغ الاحتلام قبل إتمام الاثنتي عشرة سنة. قال أبوه: "رأيته أهلاً للصلاة بالجماعة، وزوجته في ذاك العام". طلبه للعلم: درس على والده الفقه الحنبلي والتفسير والحديث. وكان في صغره، منكباً على كتب التفسير والحديث والعقائد. وكان يعتني بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم رحمهما الله، ويكثر من مطالعة كتبهما. رحلاته العلمية: ثم غادر البلاد قاصداً حج بيت الله الحرام. وبعد أدائه الفريضة أَمَّ المدينة المنورة، وقصد المسجد النبوي، وزار إمام المرسلين صلى الله عليه وسلم، وصحابته الأبرار المخلصين.

شيوخه بالمدينة المنورة: وكان فيها إذ ذاك من العلماء العاملين، الشيخ: عبد الله بن إبراهيم بن سيف من آل سيف النجدي، كان رأساً في بلد المجمعة. فأخذ عنه الشيخ: محمد بن عبد الوهاب كثيراً من العلم، وأحبه الشيخ عبد الله، وكان به حفياً، وبذل جهداً كبيراً في تثقيفه وتعليمه، وكان من أكبر عوامل توثيق الروابط بينهما وتمكين المحبة توافق أفكاره ومبدئه مع تلميذه في عقيدة التوحيد، والتألم مما عليه أهل نجد وغيرهم من عقائد باطلة، وأعمال زائفة. واستفاد الشيخ من مصاحبته فوائد عظيمة، وأجازه الشيخ: عبد الله بالحديث المشهور والمسلسل بالأولية "الراحمون يرحمهم الرحمن" من طريقين: أحدهما: من طريق ابن مفلح عن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وينتهي إلى الإمام أحمد. والثاني: من طريق عبد الرحمن بن رجب عن العلامة ابن القيم عن شيخ شيخ الإسلام، وينتهي أيضاً إلى الإمام أحمد. كما أجازه الشيخ بكل مافي ثبت الشيخ عبد الباقي الحنبلي، شيخ مشايخ وقته؛ قراءة وعلماً وتعليماً، صحيح البخاري بسنده إلى مؤلفه، وصحيح مسلم وشروح الصحيحين، وسنن الترمذي والنسائي، وأبي داود، وابن ماجة ومؤلفات الدارمي، بسنده المتصل إلى المؤلف. ومسند الإمام الشافعي، وموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد، إلى غير ذلك مما ثبت في ثبت الشيخ عبد الباقي. ثم وصل الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف حبل الشيخ محمد، بحبل المحدث الشيخ محمد حياة السندي، وعرفه به وبما هو عليه من عقيدة صافية، وبما تجيش به نفسه من مقت الأعمال الشائعة في كل مكان من البدع، والشرك الأكبر والأصغر، وأنه إنما خرج من نجد للرحلة في طلب العلم،

وسعياً إلى الاستزادة من السلاح الديني القوي، الذي يعينه على ما هو مصمم عليه من القيام بالدعوة والجهاد في سبيل الله. وممن أخذ عنهم الشيخ وانتفع بمصاحبته الشيخ: علي أفندي الداغستاني، والشيخ: إسماعيل العجلوني، والشيخ: عبد اللطيف العفالقي الإحسائي، والشيخ: محمد العفالقي الإحسائي. وقد أجاز الشيخان الداغستاني والإحسائي بمثل ما أجازه الشيخ عبد الله بن إبراهيم بما في ثبت أبي المواهب. ثم توجه إلى نجد، ثم البصرة، قاصداً الشام، ليستزيد من العلوم النافعة. شيوخه بالبصرة: فأقام مدة بالبصرة، درس العلم فيها على جماعة من العلماء. منهم الشيخ: محمد المجموعي، وقرأ الكثير من النحو واللغة والحديث، كما كتب كثيراً في تلك الإقامة من المباحث النافعة والكتب القيمة، ونشر علمه النافع وآراءه القيمة حول موضوع البدع والخرافات، وإنزال التضرع والحاجات بسكان القبور من عظام نخرة، وأوصال ممزقة، وعزز كلامه بالآيات الساطعات، والبراهين الواضحات. فقابلوه بالتكذيب والأذى وأخرج من البلاد وقت الهجرة1 وأنزلوا بعض الأذى بشيخه المجموعي. فقصد الزبير في وقت الصيف وشدة الرمضاء، وكان ماشياً على رجليه، وكاد يهلك من شدة الظمأ. فساق الله إليه رجلا من بلد الزبير يسمى أبا حميدان، فرآه من أهل العلم والصلاح، فحمله على حماره، حتى أوصله إلى بلد الزبير. وتوجه إلى الشام راجلاً لينهل من مناهل العلماء، ويتغذى من الثقافات الدينية، مستزيداً. 1 الهجيرة.

عودته إلى نجد: غير أنه قلت نفقته، فقفل راجعاً، فأتى الأحساء، فنزل بها عند الشيخ: عبد الله بن عبد اللطيف الشافعي، وقرأ عنده ما شاء الله أن يقرأ. ثم توجه إلى حريملاء، قرية من نجد، وذلك لأن والده الشيخ: عبد الوهاب قد انتقل إليها. ولما آب الشيخ من رحلته الطويلة وراء العلم والتحصيل، لازم أباه، واشتغل عليه في علم التفسير والحديث وغيرهما. وعكف على كتب الشيخين: شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم رحمهما الله، فزادته تلك الكتب القيّمة علماً ونوراً وبصيرة، ونفخت فيه روح العزيمة. ورأى الشيخ بثاقب نظره ما بنجد وما بالأقطار التي رحل إليها من العقائد الضالة، والعادات الفاسدة، فصمم على القيام بالدعوة. حالة نجد قبل الدعوة من حيث الديانة والسياسة سبق أن ذكرنا لك أيها القارئ الكريم: أن الشيخ رحمه الله زار الحجاز والأحساء والبصرة ولا زبير، وقيل: حتى فارس، حسبما نقل عن "لمع الشهاب"؛ ليروي ظمأه من مناهل العلوم الدينية، ويتفهم أصول الدين وشرائعه القويمة، ويقف على أحوال أولئك الأقوام وعقائدهم وعلومهم، بعدما شاهد في نجد وطنه ما شاهد من المنكرات الأثيمة، والشركيات القبيحة الذميمة، القائلة لمعنى الإنسانية. وكان أيام تحصيله يقرر لسامعيه ومخالطيه ما فهمه من الدين والتوحيد، ويبين قبائح ما تأتيه العامة وأشباه العامة من أدعياء العلم. وعندما كان في المدينة المنورة يسمع الاستغاثات برسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائه من دون الله؛ فكاد مرجل غيظه ينفجر.

فقال للشيخ محمد حياة السندي: ما تقول يا شيخ في هؤلاء؟. فأجابه على الفور: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . درس أحوال نجد وأهل البلدان التي زارها، ورأى ماهم فيه من بُعْدٍ عن الدين، ولا سيما نجد. ماذا رأى؟. رأى نجداً كما يحدثنا المؤرخون السالفون لنجد، كابن بشر، وابن غنام، والألوسي، والمعاصرون ك "حافظ وهبة"، وغيره مرتعاً للخرافات والعقائد الفاسدة التي تتنافى مع أصول الدين الصحيحة، فقد كان فيها كثير من القبور تنسب إلى بعض الصحابة، يحج الناس إليها، ويطلبون منها حاجاتهم، ويستغيثون بها لدفع كروبهم، فقد كانوا في الجبيلة يؤمون قبر زيد بن الخطاب، يتضرعون لديه، ويسألونه حاجاتهم وكذلك في الدرعية، كان قبر لبعض الصحابة كما يزعمون.. وأغرب من ذلك: توسلهم في بلد المنفوحة بفحل النخل، واعتقادهم أن من تؤمه من العوانس تتزوج، فكانت من تقصده تقول: "يا فحل الفحول، أريد زوجاً قبل الحول". وفي الدرعية، كان غار يقصدونه، بزعم أنه كان ملجأ لإحدى بنات الأمير التي فرّت هاربة من تعذيب بعض الطغاة. وفي شعب غبيرا، قبر ضرار بن الأزور، كانوا يأتون لديه من الشركة والمنكر ما لعل مثله، لا يتصور. ورأى في الحجاز من تقديس قبور الصحابة وأهل البيت والرسول صلى الله عليه وسلم؛ ما لا يسوغ إلا مع رب الأرباب. كما رأى في البصرة والزبير، وسمع عن العراق والشام ومصر واليمن من الوثنية الجاهلية ما لا يستسيغه العقل، ولا يقره الشرع.

كما سمع عن العيدروس في "عدن"، والزيلعي في اليمن الشئ الكثير. رأى ما رأى، وسمع ما سمع، وتحقق، ووازن تلك الأفعال المنكرة بميزان الوحيين: كتاب الله المبين، وسيرة الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، وأصحابه المتقين، فرآهم في بعد عن منهج الدين وروحه. رآهم لم يعرفوا لماذا بعث الله الرسل؟، ولماذا بعث الله محمداً للناس كافة؟، ورأى أنهم لم يعرفوا حالة الجاهلية، وما كان فيها من الوثنية الممقوتة، رآهم غَيَّروا وبدلوا أصول الدين وفروعه، إلا القليل. هذه حالتهم في دينهم وعبادتهم. حالة نجد السياسية: أما حالتهم السياسية: فكما جاء في كتاب "جزيرة العرب في القرن العشرين": رأى أنه ليس هناك قانون ولا شريعة إلا ما قضت به أهواء الأمراء وعمالهم، وكانت نجد متقسمة إلى ولايات عديدة، يحكم كل واحدة منها أمير، لا تربطه وجاره أية رابطة. ومن أهم هؤلاء الأمراء: بنو خالد في الأحساء، وآل معمر في العيينة، والأشراف في الحجاز. وعدا هؤلاء، أمراء لا يعبأ بذكرهم. وقد كان أولئك الأقوام في حروب دائمة، لا سيما مع البادية. وكان الأمير على قدم الاستعداد عندما تسنح الفرص ليعتدي على جيرانه إذا بدا من هؤلاء الجيران ضعف أو عدم استعداد. انتهى. هكذا كانت حالة بلاد العرب عند إياب الشيخ من رحلته العلمية. بدء نهضة الشيخ في الإصلاح الديني: وبعد أن ثبت لديه وتحقق حالتهم السيئة في دينهم ودنياهم، ورأى إقرار العلماء في الحجاز وفي نجد وسائر الأقطار على تلك المنكرات والمبتدعات،

إلا القليل منهم ممن كان لا يتجاسر أن يبوح بمقت ما فعلوا، وأيقن أنهم قد أدخلوا في أصول الإسلام العليا ما يأباه القرآن، وما تأباه السنة المحكمة. وكان يقوي عقيدته بخطئهم، وركونهم إلى البدع ما يقرؤه من الروايات القائلة: بأن المسلمين لا بد أن يغيروا، وأن يسلكوا مسالك الذين من قبلهم، كالحديث الصحيح: "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، وكحديث: " لا تقوم الساعة حتى يعبد فئام من أمتي الأوثان"، وحديث: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ". حينئذ صمّم الشيخ أن يعلن قومه بأنهم قد ضلوا الطريق السوي، وزاغوا عن منهج الصواب. يقول بعض الكاتبين: "حقاً إن الموقف دقيق حرج، يحتاج إلى شجاعة ما ضية، وإلى إيمان لا يبالي بالأذى في سبيل إرضاء الله وإرضاء الحق الذي اقتنع به، وسبيل إنقاذ البشرية المعذّبة، كما يحتاج إلى عدة كافية من قوة اللسان، وإصابة البرهان، ليواجه ما يجابهه من شبهات واعتراضات لا بد منها. ثم إلى مؤازر قوي يحمي ظهره، ويدافع عن دعوته". دعوته لقومه: ابتدأ الشيخ رحمه الله، دعوته لقومه في بلدة "حريملاء"، وبَيّن لهم أن لا يُدعى إلا الله، ولا يُذبح ولا يُنذر إلا له، وأن عقيدتهم في تلك القبور والأحجار والأشجار من الاستغاثة بها، وصرف النذور إليها، واعتقاد النفع والضرر منها؛ ضلال وزور، وبأنهم في حالة لا ترضي، فلا بد من نبذ ذلك، وعزز كلامه بآي من كتاب الله المجيد، وأقوال الرسول وأفعاله، وسيرة أصحابه، فوقع بينه وبين الناس نزاع وجدال، حتى مع والده العالم الجليل، لأنه كان مغتراً بأقاويل المقلدين السالكين تلك الأفعال المنكرة في قوالب حب الصالحين.

فاستمر الشيخ يجاهد بلسانه وقلمه وإرشاده، وتبعه أناس من أهل تلك البلدة، حتى انتقل أبوه عبد الوهاب إلى جوار رب الأرباب سنة 1153هـ. والظاهر أن والده اقتنع بأقوال ابنه ومبادئه، كما اقتنع أخوه سليمان بعدما وقع بينه وبينه نزاع وردود1. وبعد وفاة والده جاهر قومه بالدعوة والإنكار على عقائدهم الضالة، ودعا إلى متابعة الرسول في الأقوال والأفعال. وكان في تلك البلدة قبيلتان، وكل يدعي الزعامة، وليس هناك من يحكم الجميع، ويأخذ حق الضعيف، ويردع السفيه، وكان لإحدى القبيلتين عبيد يأتون بكل منكر وفساد، ولا يحجمون عن التعدي على العباد؛ فصمم الشيخ على منعهم وردعهم. ولما أحس أولئك الأرقّاء بما صمّم عليه الشيخ، عزموا أن يفتكوا به خفية، فتسوروا عليه من وراء الجدار، فشعر بهم بعض الناس، فصاحوا بهم وهربوا. عندها غادر الشيخ "حريملاء" إلى "العيينة" مسقط رأسه، وموطن آبائه، وحاكمها إذ ذاك عثمان بن حمد بن معمر، فتلقاه بكل إجلال وإكرام، وبين الشيخ له دعوته الإصلاحية المباركة، القائمة على دعائم الكتاب والسنة المطهرة، وشرح له معني التوحيد، وأن أعمال الناس اليوم وعقائدهم منافية للتوحيد، وتلا عليه الآيات والأحاديث النبوية، ورجا له من الله إن قام بنصر

_ 1 راجع "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" ص: 461، الطبعة الثالثة، رسالة الشيخ سليمان بن عبد الوهاب إلى أحمد بن محمد التويجري، وأحمد ومحمد ابني عثمان ابن شبانة، كيف نصحهم بأن يقوموا مع الحق أكثر من قيامهم مع الباطل، وصرح فيها بأن الشرك أعظم ما نهى الله عنه. وانظر جواب أولئك الثلاثة للشيخ سليمان ابن عبد الوهاب، ص: 461 برجوعهم عما كانوا عليه.

بلا إله إلا الله أن ينصره الله ويعلي كلمته، وتكون له السيادة والزعامة على نجد وغيرها، وله السعادة الأبدية إن شاء الله. فقبل عثمان، ورحّب بما قال الشيخ، فأعلن الشيخ بالدعوة إلى الله، وإفراد العبادة لله، والتمسك بسنة رسول الله، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقطع الشيخ الأشجار المعظّمة هناك، وهدم قبة زيد بن الخطاب، بمساعدة عثمان الأمير، وأقام الحد على امرأة اعترفت بالزنا مراراً، بعدما تأكد من صحة عقلها وكمال حواسها. فاشتهر أمر الشيخ، وذاع صيته في البلدان. فبلغ خبره "سليمان بن محمد بن عريعر" حاكم الأحساء وبني خالد، فبعث هذا الجاهل الظالم إلى عثمان بن معمر كتاباً جاء فيه: "إن المطوّع الذي عندك، قد فعل ما فعل، وقال ما قال، فإذا وصلك كتابي فاقتله، فإن لم تقتله، قطعنا خراجك الذي عندنا في "الأحساء"". فعظم على عثمان الأمر، وكبر عليه مخالفة ابن عريعر، وغاب عن ذهنه عظمة رب العالمين، وكانت النتيجة من جرّاء ذلك الكتاب وضعف إيمان ابن معمر أن أمر بإخراج الشيخ من بلده. ولم يفد فيه وعظ الشيخ ونصحه، وأنه لا بد للداعي والمصلح من أن يناله الأذى، ولابد أن تكون العاقبة للمتقين. فخرج الشيخ رحمه الله، يمشي على رجليه موكلاً به فارس يمشي من خلفه، وليس مع الشيخ إلا المروحة في أشد وقت الحر من الصيف. فهمّ الفارس بقتل الشيخ، وكان بإيعاز من ابن معمر، فارتعدت يده وكفى الله شره. وكان الشيخ في مشيه لا يفتر عن ذكر الله، ويردد قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} .

ونزل الشيخ بالدرعية وقت العصر سنة 1158هـ ضيفاً على عبد الرحمن ابن سويلم، وابن عمه أحمد بن سويلم. وخاف ابن سويلم على نفسه من الأمير محمد بن سعود، لأنه كان يعلم حالة الناس، وأنهم لا يقبلون ما أتى به هذا العالم الجليل، ويقابلون ذلك بالأذى، ولا سيما من بيده الأمر. ولكن الشيخ الممتلئ إيماناً وثقة بالله، سكن جاشه، وأفرغ عليه من العظات، وملأه رجاءاً، ووعده بأنه لا بد من أن يفرج الله وينصره نصراً مؤزراً. فعلم به الخواص من أهل الدرعية، فزاروه خفية، فشرح لهم معاني التوحيد وما يدعو إليه. وكان للأمير أخوان: مشاري وثنيان، وزوجة كانت لبيبة عاقلة. فبين الأخوان بعد ما نهلا من مناهل الشيخ لأخيهما الأمير، أن الشيخ محمداً نازل ضيفاً على ابن سويلم، وأن هذا الرجل غنيمة ساقه الله إليك، فاغتنم ما خصك الله به، ورغّبوه في زيارة الشيخ، فامتثل وزار الشيخ. فدعاه الشيخ إلى التوحيد، وأن التوحيد هو ما بعثت من أجله الرسل، وتلا عليه آيات من الذكر الحكيم، فيها البيان ببطلان عبادة غير الله، ولفت نظره إلى ما عليه أهل نجد من الشرك، والجهل، والفرقة والاختلاف، وسفك الدماء، ونهب العباد. وبالجملة: بَيَّن له ضعف دينهم ودنياهم، وجهلهم بشرائع الإسلام، ورجاه أن يكون إماماً يجتمع عليه المسلمون، ويكون له الملك والسيادة، ومن بعده في ذريته. عند ذلك شرح الله صدر محمد بن سعود وأحبّه، واقتنع بما دعاه إليه الشيخ، وبشّر الأمير الشيخ بالنصرة، وبالوقوف معه على من خالفه. وشرط الأمير على الشيخ شرطين: الأول: أن لا يرجع الشيخ عنه إن نصرهم الله ومكّنهم.

والثاني: أن لا يمنع الأمير من الخراج الذي ضربه على أهل الدرعية وقت الثمار. فقال الشيخ: "أما الأول: الدم بالدم، والهدم بالهدم. وأما الثاني: فلعل الله يفتح عليك الفتوحات، وتنال من الغنائم ما يغنيك عن الخراج". فبايع الأمير الشيخ على الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، والتمسك بسنة رسول الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الشعائر الدينية. وبعد استقراره في الدرعية أتى إليه من كان ينتسب إليه، ومعتنقاً مبادئ دعوته، من رؤساء المعامرة وغيرهم، وأخذت الوفود تأتي من كل حدب لما علموا أن الشيخ في دار منعة. عند ذلك، سمع عثمان بن معمر الذي أخرج الشيخ من بلده أن محمد بن سعود رحمه الله قد بايع الشيخ، وأنه ناصره وأهل الدرعية له مؤيدون، ومعه قائمون ومجاهدون. فندم عثمان على ما سلف منه في حق الشيخ، فأتى إليه ومعه ثلة من الرجال من رؤساء البلاد وأعيانها، واعتذر، وطلب منه الرجوع. فعلّق الشيخ الأمر على رضاء الأمير محمد بن سعود، فرفض الأمير السماح، ورجع عثمان خائباً. وشدت إلى الشيخ الرحال، وكثر الوافدون، ليرتووا من مناهله العذبة الصافية النقية من الخرافات والوثنية. وكانت الحالة الاقتصادية للأمير والبلاد لا تقوي على القيام بمؤن أولئك الوافدين الطالبين؛ فكان بعضهم من شغفه وحبه للعلم يحترف بالليل بالأجرة، وفي النهار يحضر الدروس، إلى أن وسّع الله عليهم وأتى بالفرج واليسر بعد الشدة والعسر.

وثابر الشيخ باذلاً جهده ووسعه في إرشاد الناس وتعليمهم، وبيان معنى "لا إله إلا الله"، وأنها نفي وإثبات؛ ف "لا إله" تنفي جميعا المعبودات، و"إلا الله" تثبت العبادة لله. وشرح لهم معنى الألوهية بأن الإله: هو الذي تأله القلوب محبة وخوفاً وإجلالاً ورجاءاً. وعلّمهم الأصول الثلاثة. وبفضل تعاليمه الرشيدة، تنورت أذهانهم، وصفت قلوبهم، وصحت عقائدهم، وزادت محبة الشيخ في قلوب الوافدين إليه. ثم أخذ يراسل رؤساء البلدان النجدية وقضاتهم، ويطلب منهم الطاعة والانقياد، ونبذ الشرك والعناد. فمنهم من أطاعه، ومنهم من عصاه، واتخذه سخرياً، واستهزأ به، ونسبه إلى الجهل وعدم المعرفة. ومنهم: من نسبه إلى السحر. ومنهم: من رماه بأمور منكرة، هو منها بريء. قاتل الله الجهل والتقليد الأعمى. ولو كان لأولئك عقل، لعقلوا أن الجاهل لا يستطيع إقامة الأدلة الصحيحة على مطالبه، الجاهل لا يستطيع أن يبارز العلماء الأجلاء ببراهين عقلية وحجج سمعية تقصر السامع على الخضوع، الساحر لا يأمر بخير، لا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر. ولكن لا عجب، فقد قيل سابقاً للمرسلين ولجميع المصلحين، مثل هذا الكلام. واصل الشيخ ليله ونهاره في نشر الدعوة والوعظ، وكتابة الرسائل العلمية مكتفياً بهذه الوسيلة السلمية،

والأمير "محمد بن سعود" يؤازره حسب مقدرته. ولكن خصوم الدعوة كانوا يعملون على تأليف القلوب لمحاربة الدعوة بكل الوسائل، والاعتداء على الداخلين في الدعوة، فلم ير الشيخ محمد والأمير بُدّاً من الاستعانة بالسيف بجانب الدعوة الدينية، واستمرت الحروب الدينية سنين عديدة، وكان النصر حليف ابن سعود في أغلب المواقف، وكانت القرى تسقط واحدة تلو الأخرى بيده، ودخل البعض في الطاعة بالاختيار والرغبة، لما عرف حقيقة الأمر. وإن أردت معرفة عناد القوم وبغيهم وجورهم واعتدائهم، ونقض بعضهم للعهد مرة بعد مرة، فاقرأ "عنوان المجد"، وأن زعماء الدعوة ما كانت خطتهم إلا الدفاع، ورفع العقبات عن سبيل الدعوة الخالصة. وبعد فتح الرياض1 واتساع ملكهم، وانقياد كل صعب لهم، فوض الشيخ أمور الناس وأموال الغنائم إلى عبد العزيز بن محمد بن سعود الأمير، وتفرّغ الشيخ للعلم وللعبادة وإلقاء الدروس. وكان محمد وابنه عبد العزيز لا يتصرفان في شيء إلا بعد أن يعلماه، ليعلمهما الحكم الشرعي، ولا ينفذان حكماً إلا عن أمره ورأيه.

_ 1 تم فتح الرياض سنة 1187، على يد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، بعد أن خرج دهام بن دواس هارباً من الرياض، وكان هروبه بعد أن اعتدى المرات العديدة على أئمة الدعوة، ونقض العهد أكثر من مرة، وكانت العاقبة للمتقين وجند الله الموحدين. وفي سنة 1179 توفي الإمام محمد بن سعود، وبويع على الإمامة ابنه عبد العزيز. وفي سنة 1215 غزا سعود بن عبد العزيز بأمر والده العراق، وأوقع خسائر هائلة بأهل كربلا،، وهدم قبة قبر الحسين. وفي سنة 1218 في شهر رجب قتل الإمام عبد العزيز رجل شيعي جاء من العراق متنكراً كدرويش، وأظهر التنسك والطاعة، وتعلم شيئاً من القرآن، فأكرمه عبد العزيز وأعطاه، وأخذ يتعلم أمور الدين، ولكنه كان رافضياً خبيثاً، فوثب على الإمام من الصف الثالث والناس في السجود فطعنه بخنجر معه انتقاماً منه، وقضى الإمام نحبه من جرّاء ذلك، وبويع سعود بن عبد العزيز على الإمامة.

وما زال الشيخ على هذه الحالة الحسنة، والسيرة الطيبة الطاهرة؛ حتى انتقل إلى جوار ربه في ذي القعدة سنة 1206، رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان. علم الشيخ وصفاته: كان الشيخ رحمه الله تعالى علماً من الأعلام، ناصراً للسنة، وقامعاً للبدعة، خبيراً مطلعاً، إماماً في التفسير والحديث والفقه وأصوله، وعلوم الآلة كالنحو والصرف والبيان، عارفاً بأصول عقائد الإسلام وفروعها، كشافاً للمشكلات، حلالاً للمعضلات، فصيح اللسان، قوي الحجة، مقتدراً على إبراز الأدلة، وواضح البراهين بأبلغ عبارة وأبينها، تلوح على محياه علامات الصلاح، وحسن السيرة، وصفاء السريرة، يحب العباد، ويغدق عليهم من كرمه، ويصلهم ببره وإحسانه، ويخلص لله في النصح والإرشاد، كثير الاشتغال بالذكر والعبادة، قلما يفتر لسانه من ذكر الله. وكان يعطي عطاء الواثق بربه، ويتحمّل الدين الكثير لضيوفه، ومن يسأله، وكان عليه أُبَّهة العظمة، تنظره الناس بعين الإجلال والتعظيم؛ مع كونه متصفاً بالتواضع واللين، مع الغني والفقير، والشريف والوضيع. وكان يخص طلبة العلم بالمحبة الشديدة، وينفق عليهم من ماله، ويرشدهم على حسب إستعدادهم. وكان يجلس كل يوم عدة مجالس ليلقي دروسه في مختلف العلوم، من توحيد، وتفسير، وحديث، وفقه، وأصول وسائر العلوم العربية. وكان عالماً بدقائق التفسير والحديث، وله الخبرة التامة في علله ورجاله، غير ملول ولا كسول من التقرير والتحرير، والتأليف والتدريس. وكان صبوراً عاقلاً، حليماً، لا يستفزه الغضب إلا أن تنتهك حرمة الدين، أو تهان شعائر المسلمين، فحينئذ يناضل بسيفه ولسانه، معظِّماً للعلماء، منوهاً بما لهم من الفضائل، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، غير صبور

على البدع، ينكر على فاعليها بلين ورفق، متجنباً الشدة والغضب والعنف، إلا أن تدعو إليه الحاجة. ولا غرو إذا اتصف الشيخ بتلك السجايا الحميدة، والأخلاق الكريمة، فقد ورث تلك عن آبائه واسلافه الأبرار، لأنهم كانوا معروفين بالعلم والفضل والزهد. فقد كان جده سليمان بن علي عالم نجد في زمانه له اليد الطولى في كثير من الفنون، فشدت إليه الرحال من أصقاع نجد لتحصيل العلوم. قال ابن بشر: "صنّف مصنفات عديدة، ودرّس وأفتى،وأفاد طلاب العلوم من علمه الواسع". وأبوه الشيخ عبد الوهاب قد كان عالماً كاملاً، ورعاً، زاهداً، له معرفة تامة في علوم الشريعة وآلاتها. تولّى القضاء في عدة أماكن من نجد، منها العيينة، وحريملا، وله مؤلفات ورسائل مستحسنة، فرحم الله الجميع رحمة واسعة. مؤلفات الشيخ: ألّف عدة كتب: منها: "كتاب التوحيد"، وهوغني بالشهرة عن التعريف به. "كشف الشبهات". "ثلاثة الأصول". "مختصر السيرة النبوية". "مختصر الإنصاف والشرح الكبير في الفقه". "نصيحة المسلمين بأحاديث خاتم المرسلين". "كتاب الكبائر". "آداب المشي إلى الصلاة". "أصول الإيمان". "مختصر زاد المعاد". "مختصر صحيح البخاري". "مسائل الجاهلية". "استنباط من القرآن" يقع في جزأين.

"أحاديث الفتن". وله رسائل عديدة، أكثرها في التوحيد. أبناء الشيخ وتلامذته: ذكر في "عنوان المجد": أن الشيخ رحمه الله قد أخذ عنه العلم عدة من العلماء الأجلاء، منهم: أبناؤه الأربعة العلماء، والقضاة الفضلاء، الذين درسوا العلوم الشرعية والفنون الأدبية، كما درسوا الفروع والأصول، وصارت لهم ملكة في المعقول والمنقول: حسين، وعبد الله، وعلي، وإبراهيم1. وقد كان لكل واحد منهم قرب بيته مدرسة، وعنده من طلاب العلوم من أهل الدرعية والغرباء العدد الكثير، بحيث قد يعده السامع أنه قد بولغ في العدد. ولا زال العلم في ذرية الشيخ وسيكون إن شاء الله باقياً إلى أن تقوم الساعة. وآل الشيخ في هذا اليوم هم القائمون في المملكة العربية السعودية بالوظائف الدينية، من الإفتاء، والتدريس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورئاسة المعاهد والكليات، وحل المشاكل، والدفاع عن حوزة الدين، ونصر شريعة سيد المرسلين. فجزاهم الله أحسن الجزاء، ووفقنا وإياهم لما يحبه ويرضاه. وأما التلامذة والطلاب الذين نهلوا من منهل الشيخ، وتخرجوا على يده، وصاروا قضاة ومفتين، فلا تحصيهم الأقلام. ولا بأس أن نذكر عدداً قليلاً: فمنهم الشيخ العالم الجليل: حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر، والد مؤلف "منحة القريب"2.

_ 1 وأما ابنه الخامس وهو حسن، فالظاهر أنه لم يكن من طلبة العلم الأجلاء، وقد أخبرني بعض آل الشيخ أن حسن والد الشيخ عبد الرحمن بن حسن مات شاباً، ولم يكن ممن اشتغل كثيراً بالعلم، بل بالتجارة والأعمال الدنيوية. 2 "منحة القريب في الرد على عُبّاد الصليب"، ألّفه الشيخ العلامة عبد العزيز ابن الشيخ أحمد المذكور، وهو ذاك.

والشيخ الزاهد الورع: عبد العزيز بن عبد الله الحصين الناصري، تولى القضاء إذ ذاك في ناحية الوشم. والشيخ الفاضل العالم العامل: سعيد بن حجي، قاضي حوطة بني تميم. والعالم الجليل الشيخ: عبد الرحمن بن نامي، تولى القضاء ببلد "العيينة" والأحساء. والشيخ المفضال: أحمد بن راشد العريني، القاضي في ناحية "سدير". والشيخ: عبد العزيز أبو حسين. والشيخ: حسن بن عيدان، وكان قاضياً في بلد حريملاء. والشيخ: عبد العزيز بن سويلم، وكان قاضياً في بلد "القصيم". ومن ذرية الشيخ حسن، وأشهر الموجودين من نسله في عصرنا الحاضر، الشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، وهو الآن مفتي المملكة العربية السعودية، وإليه مرجع الهيئات الدينية. وأخوه الشيخ: عبد اللطيف؛ رئيس المعاهد الدينية والكليات، والشيخ: عبد الملك رئيس هيئات الأمر بالمعروف بمكة المكرمة. كما أن من أشهر الموجودين من نسل الشيخ حسين بن محمد، الشيخ: عمر بن حسن، رئيس هيئة الأمر بالمعروف ب "نجد" والمنطقة الشرقية. عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجميع النجديين عقيدته كعقيدة السلف الصالح، على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون، والأئمة المهتدون: كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وابن المبارك، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، وسائر أهل السنن ممن تبعهم من أهل الفقه والأثر؛ كالأشعري، وابن خزيمة، وتقي الدين بن تيمية، وابن القيم، والذهبي، رحمهم الله.

يعتقد أن الله واحد أحد، فرد صمد، لا شريك له ولا مثيل، ولا وزير له ولا مشير، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، عالم بكل شيء ما كان وما يكون، ومالم يكن، لو كان كيف يكون، قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء، بل هو الفعّال لما يريد، ويثبت جميع صفات الله العليا، وأسماءه الحسنى كما نطق الكتاب، وجاءت به السنة الصحيحة من صفة: العلم، والسمع، والبصر، والقدرة، والإرادة، والكلام، والاستواء على العرش، والنزول كل ليلة إلى سماء الدنيا، وسائر الصفات الذاتية والفعلية والخبرية. يؤمن بها، ويمرّها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. توحيد العبادة والربوبية: يعتقد: بأن الله هو الحي القادر الخالق، الرازق، المحيي، المميت. يؤمن بأن يُفرد ربنا بالعبادة، ولا يُشرك به أحد، لا ملك مقرّب، ولا نبي مرسل. ويبرأ من عبادة ما سواه كائناً ماكان، وهذا هو الحكمة1 التي خلق الله لأجلها الجن والإنس، وأُرسلت لها الرسل، وأُنزلت بها الكتب. ويبرأ من عبادة الأحجار والأشجار والصالحين الأخيار. ويبرأ من عابديها، ويقيم الحجج العقلية والنقلية على أنها شرك وضلال، وكفر بالله ذي الجلال، كقوله تعالى حكاية عن قول الرسل لأقوامهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . وكقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .

_ 1 قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ، فقد صرح القرآن أنه لم يخلق الخلق إلا لأجل عبادته، وما روي من حديث: ""لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك" فباطل لا اصل له.

الإيمان بالرسل والأنبياء والملائكة والكتب واليوم الآخر: يؤمن بجميع أنبياء الله ورسله، لا يفرّق بين أحد منهم، ويعتقد أن محمداً أفضلهم؛ أرسله الله بالآيات الباهرة، والمعجزات الظاهرة، وكرّمه بطهارة الأعراق، وحباه محاسن الأخلاق، فمن اتبعه صار من المفلحين، ومن عصاه صار من الأشقياء الخاسرين. ويؤمن باليوم الآخر، وبالبعث بعد الموت، وحساب الله للعباد، وبالميزان والصراط، والجنة والنار، كما ستأتي عقيدته بنصها. مسائل القدر والجبر والإرجاء والإمامة: يؤمن بالقدر خيره وشره، ويبرأ مما قالته القدرية النفاة، والمجبرة، والمرجئة، ويوالي جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته الطاهرين، ويكفّ عما شجر بينهم، ويعتقد بأفضلية أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم. عقيدته في العلماء: يوالي كافة أهل الإسلام وعلمائهم، من أهل الحديث والفقه والتفسير، وأهل الزهد والعبادة، ولا سيما الأئمة الأربعة، ويرى فضلهم وإمامتهم، وأنهم من الفضل والفضائل في غاية ورتبة، يقصر عنها المتطاول، ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد إلا بدليل تقوم به الحجة من الكتاب والسنة، خلافاً لغلاة المقلدين. وعلى هذا القول أجمعت الأئمة الأربعة وغيرهم، كما حكاه ابن عبد البر رحمه الله.

نقول من رسائله وعقائده وها أنا أنقل لك أيها القارئ الكريم بعض ما كتبه الشيخ من رسائله1 التي ذكر فيها عقيدته وما هو عليه. فمن تلك الرسائل: ما كتبه لأهل القصيم. قال رحمه الله بعد البسملة: "أشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهِدكم أني أعتقد ما أعتقده أهل السنة والجماعة، من الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر، خيره وشره. ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فلا أنفي عنه، ما وصف به نفسه، ولا أحرّف الكلم عن مواضعه، ولا أُلْحِد في أسمائه وآياته، ولا أكيّف، ولا أمثّل صفاته بصفات خلقه، لأنه تعالى لا سَمِيّ له ولا كُفؤ، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه، فإنه سبحانه وتعالى أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً. فنزّه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل، وعما نفاه عنه النافون، منأهل التحريف والتعطيل، فقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . فالفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية2.

_ 1 وإنما أنقل لك أيها القارئ من رسائله الآتية لتعرف عقيدة الشيخ في توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وأنه على ما كان عليه السلف الصالح، وأن ما أشاعه أعداؤه مما يخالف ما جاء في رسائله وكتبه كذب لا أصل له، وسيأتيك زيادة بيان عند النقل. 2 القدرية: تسند الفعل إلى العبد، وتجعله خالقاً لفعل نفسه من خير أو شر. وخالفتهم الجبرية، وقالت: العبد مجبور على الفعل من خير أو شر، فالعبد كالريشة في مهب الأرباح. من رسالة ابنه الشيخ عبد الله بعد دخول الإمام سعود مكة المكرمة سنة 1218.

وهم وسط في باب وعبد الله، بين المرجئة والوعيدية. وهم وسط في باب الإيمان والدين، بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية. وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج1. وأعتقد: أن القرآن كلام الله، منزّل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة، وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده؛ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأؤمن بأن الله فعّال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.

_ 1 الحرورية: هم الخوارج الذين خرجوا على عليّ عندما رضى بتحكيم الحكمين. والمعتزلة: هم القدرية الذين أسندوا الفعل إلى العبد، ولم يؤمنوا بالقدر. والمرجئة: هم الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. والجهيمة: هم أتباع جهم بن صفوان، نفوا جميع صفات الله وأسمائه، ودانوا بالجبر المحض. والروافض: هم الذين يقولون: إن عليَّ بن أبي طالب هو الخليفة بعد الرسول، وأن الرسول أوصى له بالخلافة، ويكفّرون أكثر أصحاب رسول الله. والتوسط الذي أراده الشيخ، هو: أن أهل السنة يقولون ويعتقدون بعموم مشيئة الله وقدرته، ولا يقولون: إن العبد مجبور على فعل نفسه، بل هو مختار. والتوسط بين المرجئة والوعيدية، الذين هم الحرورية والمعتزلة، هو: أن أهل السنة لا يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية؛ لورود الآيات الناصّة على الوعيد. ولا يقولون: إن مرتكب الكبيرة كافر، كما تقوله الخوارج، ولا أنه في المنزلة بين المنزلتين، كما تقوله المعتزلة، بل يرجون للمحسن، ويخافون على المسيء، وإن مات ولم يتب فأمره مفوّض لله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. والتوسط بين الروافض والخوارج في الصحابة، هو: أن أهل السنة يعتقدون بفضل الصحابة كلهم، ولا يغلون في أهل البيت، بخلاف الروافض، فإنهم قد كفروا أكثر أصحاب رسول الله، وغلوا في أهل البيت. وبخلاف الخوارج، فإنهم كفّروا عثمان، وعلياً، وطلحة، والزبير، ومعاوية، وعمرو ابن العاص.

وأعتقد بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت. وأؤمن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين، حفاة، عراة، غرلاً، وتدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين، وتوزن به أعمال العباد: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} ، وتُنشر الدواوين، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله. وأؤمن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً. وأؤمن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم، يمر به الناس على قدر أعمالهم. وأؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أول شافع، وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضا، كما قال الله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . وهو لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله. وأما المشركون، فليس لهم في الشفاعة نصيب كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} . وأؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان وأنهما لا يفنيان. وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته. وأؤمن بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصبح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته.

وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضي، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم. وأتولى أصحاب رسول الله، وأذكر محاسنهم، وأستغفر لهم، وأكف عن مساوئهم، وأسكت عما شجر بينهم. وأعتقد فضلهم، عملا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . وأترضى عن أمهات المؤمنين، المطهرات من كل سوء. وأقر بكرامات الأولياء، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله شيئاً، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار، غلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجو للمحسن، وأخاف على المسئ. ولا أكفّر أحداً من المسلمين بذنبه، ولا أخرجه من دائرة الإسلام. وأرى الجهاد ماضياً مع كل إمام، براً كان أو فاجراً، وصلاة الجاعة خلفهم جائزة. والجهاد ماض، منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل. وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين، برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله. ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس، ورضوا به، أو غلبهم بسيفه، حتى صار خليفة، وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه. وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم، حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر، وأكل سرائرهم إلى الله. وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة.

وأعتقد أن الإيمان، قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها، شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. وأرى وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة. فهذه عقيدة وجيزة، حررتها وأنا مشتغل البال، لتطلعوا على ما عندي، والله على ما نقول وكيل". ومن رسالته إلى السويدي من علماء العراق، جواباً لما سأله عما يقول الناس فيه: قال بعد البسملة: "من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ في الله: عبد الرحمن بن عبد الله. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فقد وصل إليّ كتابك، وسَرّ الخاطر، جعلك الله من أئمة المتقين، ومن الدعاة إلى دين سيد المرسلين. وأخبرك أني ولله الحمد متّبع لست مبتدعاً. عقيدتي وديني، الذي أدين الله به: هو مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة. ولكني بيّنت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يُعبد الله به، من: الذبح، والنذر، والتوكل، والسجود، وغير ذلك مما هو حق الله، الذي لا يشركه فيه أحد، لا ملَك مقرب، ولا نبي مرسل. وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة. وبيّنت لهم أن أول من أدخل الشرك في هذه الأمة هم الرافضة، الذين يدعون علياً وغيره، ويطلبون منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات.

وأنا صاحب منصب، في قريتي مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء، لكونه خالف عادات نشأوا عليها، وألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا، وشرب المسكر، وأنواع المسكرات؛ فلم يمكن الرؤساء، القدح في هذا وعيبه، لكونه مستحسناً عند العوام، فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما أمرت به من التوحيد، ونهيت عن الشرك، ولبّسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس، ونسبوا إلينا أنواع المفتريات، فكبرت الفتنة، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله. فمنها: إشاعة البهت، كما ذكرتم أني أكفّر جميع الناس، إلا من اتبعني، وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة. فيا عجباً، كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟، وهل يقول هذا مسلم؟!، إني أبرأُ إلى الله من هذا القول الذي ما يصدر إلا عن مختل العقل. والحاصل، أن ما ذكر عني غير دعوة الناس إلى التوحيد، والنهي عن الشرك فكله من البهتان" اهـ باختصار. ومن رسالته إلى أهل المغرب: بعد أن ساق آيات وأحاديث على وجوب اتباع السنة وترك البدع والمحدثات، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته تأخذ مأخذ القرون قبلها "شبراً بشبر وذراعاً بذراع"، ولا بد أن تفترق كالأمم السالفة، وأن الناجية من كان على مثل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال: "إذا عرف هذا، فمعلوم ما عمّت به البلوي من حوادث الأمور التي أعظمها: الإشراك بالله، والتوجّه إلى الموتى، وسؤالهم النصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، التي لا يقدر عليها إلا رب السماوات، وكذلك التقرب إليهم بالنذور، وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد، وجلب الفوائد، إلى غير ذلك من أنواع العبادة، التي لا تصلح إلا لله.

وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، كصرف جميعها، لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، كما قال الله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} . فأخبر الله سبحانه أنه لا يرضي من الدين إلا ما كان خالصاً لوجهه. وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى، ويشفعوا لهم. وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفّار، فكذبهم في هذه الدعوى، وكفرهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} " اهـ. ومن رسالته في الأسماء والصفات: بعد البسملة والحمد لله: "الذي نعتقد وندين الله به: هو مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين، والتابعين لهم بإحسان من الأئمة الأربعة وأصحابهم رضي الله عنهم. وهو: الإيمان بآيات الصفات وأحاديثها، والإقرار بها، وإمرارها كما جاءت؛ من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} . وقدر الله لأصحاب نبيه ومن تبعهم بإحسان، الإيمان، فعلم قطعاً أنهم المرادون بالآية الكريمة. وقال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} .

وقال الله تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية. فثبت بالكتاب أن من اتبع سبيلهم فهو علىالحق، ومن خالفهم فهو على الباطل. فمن سبيلهم في الاعتقاد: الإيمان بصفات الله وأسمائه التي وصف بها نفسه، وسمى بها نفسه في كتابه وتنزيله، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير زيادة عليها ولا نقصان منها، ولا تجاوز لها، ولا تفسير، ولا تأويل لها، بما يخالف ظاهرها، ولا تشبه بصفات المخلوقين، بل أقروها كما جاءت. وردوا علمها إلى قائلها، ومعناها، إلى المتكلم بها1، وأخذ ذلك الآخر عن الأول، ووصّى بعضهم بعضاً بحسن الاتباع، وحذرونا من اتباع طريق أهل البدع والاختلاف، الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ، وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . والدليل على أن مذهبهم ما ذكرنا: أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم، وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقل مصدقٍّ لها، مؤمن بها، قابل لها، غير مرتاب فيها، ولا شاك في صدق قائلها، ولم يؤولوا ما يتعلق بالصفات منها.

_ 1 المراد بذلك: علم الكيفية والكُنه، ومعناهما عند أهل السنة والجماعة، وليس المراد علمهما ومعناهما من حيث اللغة العربية، فإن ذلك معلوم لدى أهل السنة، فإنهم يعلمون أن السمع غير البصر، وأن الاستواء غير النزول، وأن الغضب غير الرضا، وهكذا بقية الصفات، ويؤمنون بأن الله سبحانه موصوف بهذه الصفات حقاً لا مجازاً، على الوجه الذي يليق بجلاله، من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته، كما قال مالك وشيخه ربيعة رحمة الله عليهما: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول" إلخ، وقال مالك أيضاً: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" أي: عن الكيف، وقد تلقى عنه ذلك وعن شيخه ربيعة أئمة السنة، ووافقوه عليه. وهو الحق الذي لا ريب فيه، وهو الذي درج عليه أهل السنة جميعاً؛ عملاً بقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وما جاء في معناها من الآيات. والله أعلم. عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ولم يشبّهوه بصفات المخلوقين، إذ لو فعلوا شيئاً من ذلك لنقل عنهم، بل زجروا من سأل عن المتشابه، وبالغوا في كفه تارة بالقول العنيف، وتارة بالضرب. ولما سئل مالك رحمه الله عن الاستواء: أجاب بمقالته المشهورة، وأمر بإخراج الرجل. وهذا الجواب من مالك في الاستواء شاف كاف، في جميع الصفات، مثل: النزول والمجئ، واليد، والوجه، وغيرها. فيقال في النزول: النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وهكذا يقال في سائر الصفات، إذ هي بمثابة الاستواء، الوارد به الكتاب والسنة. وثبت عن الربيع بن سليمان قالك سألت الشافعي رضي الله عنه عن صفات الله، فقال: "حرام على العقول أن تمثل الله، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تتعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل، إلا ما وصف به نفسه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم". وثبت عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني أنه قال: "إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يصفون ربهم بصفاته التي نطق بها كتابه وتنزيله، وشهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت به الأخبار الصحاح، ونقلته العدول الثقات، ولا يعتقدون بها تشبيهاً بصفات خلقه، ولا يكيفونها تكييف المشبهة، ولا يحرفون الكَلِم عن مواضعه تحريف المعتزلة والجهمية. وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتكييف، ومَنَّ عليهم بالتفهيم والتعريف، حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واكتفوا في نفي النقائص بقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ

السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وبقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} . وثبت عن الحميدي شيخ البخاري وغيره، من أئمة الحديث أنه قال: "أصول السنة" فذكر أشياء وقال: "ما نطق به القرآن والحديث، مثل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ، ومثل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ، وما أشبه هذا من القرآن والحديث، لا نرده، ولا نفسره، ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة، ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، ومن زعم غير هذا فهو جهمي". فمذهب السلف رحمة الله عليهم: إثبات الصفات، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها، لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، كما أن إثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، ولا تشبيه، فكذلك الصفات، وعلى هذا مضى السلف كلهم. ولو ذهبنا نذكر ما أطلعنا عليه من كلام السلف في ذلك لطال الكلام جداً، فمن كان قصده الحق، وإظهار الصواب، اكتفى بما قدمناه. ومن كان قصد الجدال والقيل والقال، لم يزده التطويل إلا الخروج عن سواء السبيل، والله الموفق" اهـ. المسائل التي دعا إليها الشيخ ووقع فيها الخلاف بينه وبين الأكثرين 1- توحيد العبودية: ويقال له: توحيد الألوهية، وهو الذي بعث الله من أجله الرسل، من نوح إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وحيث رأى الشيخ أهل نجد وغيرها، كما سبق، قد ألّهوا قبور الأنبياء والصالحين، وبعض الغيران والأشجار، وصرفوا بعض العبادات إليها، كالنذر والحلف والنحر والاستعانة والاستغاثة، إلى غير ذلك، مما لا ينبغي

صرف إلا الله1؛ أنكر عليهم، وبَيّن لهم أن العبادة هي طاعة الله، بامتثال ما أمر، وأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال. وأفراد العبادة كثيرة، منها: الصلاة، والصيام، والصدقة، والنذر، والذبح، والطواف، والاستعانة، والاستغاثة. فمن صرف منها شيئاً لغير الله يكون مشركاً، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، فاتبعه بعضهم واعتنق مبدأه رغبة واختياراً، وأبى الأكثرون متمسكين بتقليد الآباء والخضوع للعادات، وبفشو هذه الأعمال في سائر الأمصار والقرى، وسكوت الأكثرين من العلماء. 2- التوسل: التوسل قسمان: قسم مطلوب ومرغوب فيه، وهو التوسل بالإيمان، وبأسماء الله الحسنى وبالأعمال الصالحة، كما توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم، ففرج الله عنهم2. والثاني: التوسل المبتدع، وهو: التوسل بالذوات الصالحة، مثل: أن يقول الشخص: "اللهم إني أسألك بجاه الرسول، أو بحرمة فلان الصالح، أو بحق الأنبياء والمرسلين، أو بحق الأولياء والصالحين". فنهاهم الشيخ عن القسم الثاني، إذ لم يرد عن الرسول ولا أصحابه رضي الله عنهم، وهو دعاء، والدعاء عبادة، ومبناها على التوقيف، ويعبد الله بما شرع، لا بالأهواء والبدع.

_ 1 وأضف إلى ذلك ما اتصفوا به من التهاون بالصلاة، ومنع الزكاة، والتحاكم إلى الطواغيت، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. راجع ما سبق "حالة نجد قبل الدعوة". 2 حديث الثلاثة: أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود، وملخص معناه: أن أحد الثلاثة توسل بعفته عن الزنا، والثاني ببره لوالديه، والثالث بتنميته أجرة أجير قليل، وتوفيره حتى صار مالاً جزيلاً طائلاً، وكل عمل من الأعمال الثلاثة لا ريب أنه من أجلّ الأعمال الصالحة.

وتمسّك المجوزون بآيات لا تمت إلى دعواهم بصلة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} . إذ التفسير الوارد عن السلف وأَجِلاّء المفسرين: أن ابتغاء الوسيلة يكون بالأعمال الصالحة. كما تمسكوا ببعض أحاديث موضوعة، كحديث: توسل آدم بالنبي لَمَّا اقترف الخطيئة. وضعيفة كحديث الأعمى، وحديث فاطمة بنت أسد، ولا حجة في موضوع ولا ضعيف. 3- منعه شد الرحال: منع من شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، كما جاء في الحديث الصحيح: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". ولم يلتفت الشيخ إلى تأويل المؤولين والمخالفين. كما أن شَدّ الرحال لطلب العلم، أو لزيارة الأرحام، أو للسعي وراء الكسب؛ خارج عن دائرة النزاع، لأن هذه الأشياء وردت بها أوامر شرعية. وقد سبق الشيخ إلى منع شد الرحال: شيخ الإسلام، أحمد بن تيمية، وابن القيم، والجويني والد إمام الحرمين من الشافعية، والقاضي عياض من المالكية. وليس للمجوزين أية حجة يصح الاعتماد عليها. 4- البناء على القبور وكسوتها وإسراجها، وما إلى ذلك: حرّم الشيخ: البناء على القبور، وكسوتها، وتعليق الستور عليها، وإسراجها، والكتابة عليها، وإقامة السدنة حولها وزيارتتها الزيارة الشركية التي تنجم منها مفاسد عديدة، كالتمسح بالقبر، والطواف حوله، والصلاة إليه، ودعاء المقبور في جلب نفع أو دفع ضر. واستند الشيخ في منعه وتحريمه إلى أدلة صحيحة من الأحاديث الصحيحة،

كحديث: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" وحديث: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد" إلخ. وأمر الشيخ بهدم تلك القبب المشيدة اتباعاً للأحاديث الصحيحة، كحديث أبي الهياج الأسدي لَمَّا قال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله؟، أن لا تدع تمثالاً إلى طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته. وفقهاء المذاهب الأربعة وغيرها قد سبقوا الشيخ بمنع هذه الأمور وتحريمها، وإن عَبّر بعضهم بالكراهة في بعض منها، فإنما القصد كراهة التحريم لا التنزيه، والكراهة في القرآن والسنة وعلى لسان السلف تُطلق على التحريم. والكراهة بمعنى: "لا يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها" اصطلاح حادث لا عبرة به، كما لا عبرة بقول بعض الفقهاء بتحريم البناء على القبر إن كان في أرض مسبلة لئلا تضيق الأرض على الموتى، وإن كان في ملكه فلا، بل يكره. وإنما قلنا: لا عبرة به، لأن الأحاديث المانعة من البناء، والآمرة بهدمه، عامة، وما أتى عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يخصصها. وليست عِلَّة التحريم تضييق الأرض كما زعم أولئك، بل العلة أن البناء يفضي إلى تعظيم المقبور ودعائه من دون الله، وهذا أمر مشاهد ملموس، لا يقبل الجدل والنزاع. 5- توحيد الأسماء والصفات: قد سبق ما جاء في رسائل الشيخ، أنه في المعتقد على ما كان عليه السلف الصالح، من الصحابة والتابعين وتابعيهم من الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو إثبات الأسماء والصفات، من غير تمثيل ولا تكييف. ولم يرق للمخالفين هذا الاعتقاد، حيث كانوا مؤولين ومقلدين للجهم

ابن صفوان، والجعد بن درهم، مستمسكين بشبه فلسفية، لا تتفق مع آي القرآن والأحاديث الصحيحة، ومعتقد الصحابة والتابعين، والأئمة المهتدين، رضوان الله عليهم أجمعين. 6- إنكاره للبدع: أنكر الشيخ البدع والمحدثات في الفروع، كالاحتفال بالمولد، والتذكير قبل الأذان، والصلاة على الرسول بعد الأذان جهراً، والتلفظ بالنية، وقراءة حديث أبي هريرة، عند صعود الخطيب على المنبر. كما أنكر طرائق الصوفية المبتدعة، وما إلى ذلك من المبتدعات التي لم يرد في استحبابها عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه. وقد ألَّف العلماء قبل الشيخ في إنكار البدع والمحدثات، كابن وضاح، والطرطوشي، والشاطبي. افتراء أعداء الشيخ عليه بما هو برئ، وتلقيب أتباعه بالوهابية: لَمَّا دعاهم الشيخ إلى التوحيد الخالص، ونبذ الشرك ووسائله، والبدع والخرافات والأوهام. وكان الأكثرون من أهل نجد وسائر الأقطار قد انغمسوا في حمأة تلك الرذائل، وورثوها عن آبائهم السالفين، تربى عليها الصغير، وهرم عليها الكبير؛ رأوا بفاسد فكرهم أن فيما يدعو إليه الشيخ تهجيناً بهم، ونسبتهم إلى الجهل والإشراك، وإزراءاً بآبائهم، ولا سيما أدعياء العلم، رأوا أنهم إن اتبعوه انحط مقامهم، وصغر شأنهم عند العامة، حيث إن العوام سيقولون: إن هؤلاء كانوا يزعمون بأنهم علماء، هادون إلى الخير، وكانوا يتصدرون للفتوى وللتعليم، وقد أتى هذا الشيخ وأبان جهلهم وفساد عقائدهم، وأنهم ليسوا على شيء، إلى غير ذلك مما أملاه عليهم الشيطان، وقادهم إليها الهوى، وحب الرياسة، إلى أن يستكبروا عن قبول الحق، وتسلحوا بسلاح الجدل والمكابرة.

فأوحوا إلى العوام أن الشيخ عقيدته غير صحيحة، ومخالف لما عليه المسلمون، ويتنقّص مقام الصالحين، فلا ينبغي أن يُتّبع، بل ينبغي أن يُزجر ويُقمع، وجادلوا الشيخ بالباطل، وبالآراء السخيفة والشبه الواهية، ونصر الله الشيخ، فأقام عليهم الحجج القويمة، المدعمة بآي القرآن وصحاح الأحاديث، كما تراها في مؤلفاته، ومؤلفات أبنائه وأحفاده، وأئمة الدعوة، وفَنَّد شبههم، وأزهق باطلهم، واشتد نكيره عليهم. وعند ما عجز فضلاؤهم في ميادين الحجج والبراهين، وآبوا بالفضل؛ لجأوا إلى وضع العقبات في سبيل الدعوة، وإلى الاعتداء؛ الأمر الذي ألجأ الشيخ وحزبه برئاسة الأمير محمد بن سعود أن يقاوموهم بالسنان، فجرت الحروب الشديدة بين حزب الشيخ وبين أولئك. فكما فشلوا في ميادين الحجج العلمية، وخرجوا صفر اليدين، فشلوا أيضاً في ميادين المقارعة والحروب، وكان النصر في الأغلب حليف الشيخ وحزبه. فلما لم يبق لديهم من سلاح يحاربون الدعوة؛ شرع بعض المدّعين للعلم والأمراء يزيدون في اختلافهم الأكاذيب والافتراءات، وينسبونها إلى الشيخ، وأخذوا في استعمال الدعايات الكاذبة، والإشاعات الباطلة، وطفق بعضهم يكتب إلى الأتراك، وإلى الأشراف في الحجاز: أن هذا الشيخ مبتدع، ومذهبه خامس المذاهب، ولا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا الأولياء، ومنع من زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكفّر جميع الناس، إلا من كان من أتباعه، ولا يعتبر المذاهب الأربعة، بل أمر بإتلاف كتب المذاهب، وينهي عن الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى أحرق دلائل الخيرات، وأن أولئك السعوديين يفسدون قلوب الناس، ويغيرون عقائدهم، ويريدون تحويلهم عن الطريق الموروثة، والسبيل التي وجدوا عليها الآباء والأجداد، ويحقرون شعائر الدين بهدم قباب المشايخ والأولياء الكبار، التي أطبقت الأجيال على تعظيمها والتبريك بها، وأن قعود الدولة عن رد هؤلاء المعتدين يذهب بهيبتها من

نفوس المسلمين، ويحقر من شأنها عندهم، فلا تبقى صاحبة الحق في دعوى الخلافة عليهم. وما زالوا بالدولة العثمانية يستنصرون بقوتها وجيشها، ويستفزون ملوكها وقضاتها بأساليب الخداع، وأنواع الإغراء؛ بأنها حامية الحرمين الشريفين، وحامية الإسلام، وأوغروا صدر الدولة على دعوة الشيخ، وشوهوا وجهها الجميل مما كذبوا عليها وألصقوه بها من الفرى والبهتان، حتى بلغت بهم الوقاحة، وقِلَّة الحياء والإيمان إلى حد أن زعموا: أن السعوديين النجديين لا يقولون في الأذان: أشهد أن محمداً رسولالله، بل يقولون: محمد رسول الله. قال في::جزيرة العرب في القرن العشرين" ما نصه "سمعت في نجد: أن حكام نجد الشمالية أثناء خصومتهم مع آل سعود، كانوا يكتبون إلى الأتراك: أن آل سعود اتخذوا راية شعارها: لا إله إلا الله محمد رسول الله "بحذف ميم محمد" تنفيراً للأتراك من خصومهم، وأنهم يعلمون حق العلم أن هذا كذب"اهـ. وما زالوا بالعثمانيين يتوسلون إليهم، وإلى شيوخ إسلامهم، وقواد جيشهم؛ حتى انخدعت الدولة بأولئك المفترين، وزاد الطين بلة ما رأت الدولة من قوة انتشار دعوة الشيخ، وتأسيس دولة آل سعود، ورأت أن الدولة السعودية قد بسطت نفوذها على نجد، وامتد إلى عمّان، وأخذت تغزو العراق وأطراف الشام، وخافت أن يزول استعمارها من البلدان العربية، لا سيما بعدما فتح آل سعود مكة المكرمة سنة 1218هـ. قام العثمانيون عنئذ بدورهم السياسي، واستعملوا القلم والسنان ضد الشيخ وأتباعه النجديين. أما القلم فأخذوا يوعزون إلى بعض العلماء ممن قَلَّ نصيبه من الدين والعقل والحياء، بأن يؤلِّفوا ضد الشيخ وأتباعه، وينشروا بين الناس تلك الأكاذيب. وأما السنان فقد أمرت الدولة "محمد علي باشا" واليها بمصر، أن يجهز الجيوش الجرارة لحرب النجديين وإبادتهم.

فرّحب بالأمر، وجهّز الوالي جيشاً عرمرماً بقيادة ابنه "طوسون"، ثم ابنه إبراهيم سنة 1226 هجرية1، وحارب النجديين، وانكسر الجيش التركي عدة مرات، ولكنه أخيراً تم له النصر على السعوديين سنة 1233هـ. وقامت أشراف الحجاز بدورهم السياسي قبل الترك، وحاربوا السعوديين والدعوة السلفية. ولكنهم باءوا بالفشل الذريع واندحروا، وتَمَّ للسعوديين فتح مكة كما سبق، كما حاربوا السعوديين قبل استيلائهم على مكة المكرمة، وبعد خروجهم منها؛ بنشر الدعايات الكاذبة، والافتراءات الصريحة، وإيعازهم إلى بعض علمائهم بتأليف كتب ضد دعوة الشيخ وأتباعه. فألّف مأجورو الترك والأشراف كتباً، شحنوها بالأكاذيب والترهات، وحشوها بالأحاديث الموضوعة والضعيفة، والحكايات السمجة ضد الدعوة السلفية، وزعموا أن الشيخ مبتدع خارجي. حتى إن "زيني دحلان" نزّل الأحاديث الواردة في الخوارج على الشيخ وأتباعه، في كتابه "الدرر السنية"، وفي "الفتوحات الإسلامية". فعلوا كل ذلك تنفيراً للناس، كيلا يتّبعوا الشيخ الجليل، ويعتنقوا مبدأه الصحيح. ومن دعايات الأتراك والأشراف المنفّرة للناس: نبزهم لأتباع الشيخ بالوهابية2، وجعلهم هذا اللهب على هذه الفرقة السلفية كعنوان لخروج هذه الفرقة عن المذاهب، وعدم محبة النبي والصالحين، وكذبوا والله في ذلك.

_ 1 هذه رواية ابن بشر، وأما الريحاني فيقول: إن ابتداء تسيير جيش محمد على الزحف على نجد 1229. ورواية ابن بشر أولى، لأن رب البيت أدرى بما فيه. 2 نسبة للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهي نسبة على غير القياس العربي، فلقد كان الصحيح أن يقال: المحمدية، إذ إن اسم صاحب هذه الدعوة والقائم بها هو الشيخ محمد، لا أبوه عبد الوهاب. ومن أعجب العجب أنك لا تجد لهذا اللقب أثراً بنجد، بل يستنكر النجديون هذا اللقب ممن يخاطبهم به، أو ينسبهم إليه، وهذا يدلك على أن هذه النسبة جاءت من الخارج من خصوم الدعوة، وأكبرهم إذ ذاك: الأشراف والأتراك، وأكثر علمائها.

والقصد الوحيد من تلك الدعايات والإشاعات الباطلة: صد الناس عن اعتناق الدعوة. وأمرٌ آخر وهو: أن لا تقوى شوكة السعوديين، ويتسع نفوذهم، كي تبقى سيطرة الأتراك، وإمارة الأشراف. ولكن الله ردّ كيدهم في نحرهم، وعاملهم بنقيض قصدهم؛ فانتشرت دعوة الشيخ في سائر الأقطار، وعرف كثير من الناس صحتها وحقيقتها، وأنها لا تخرج عن نطاق الكتاب والسنة، فاعتنقها كثيرون، وألّف جمع من المعتنقين لها كتباً في تأييدها والدفاع عنها1. ولا زالت الدعوة تزداد نفوذاً وقوة وانتشاراً، ما كرّت الليالي والأيام، وأزال الله دولة الأتراك والأشراف، ومكّن الله الدولة السعودية مرّة أخرى بقيادة مليكها الراحل "عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل السعود" رحمه الله، وبسطت سيطرتها ونفوذها على نجد والحجاز وعسير، وعرف الجمهور كذب أولئك المفترين. ومن معاملة الله لهم بنقيض قصدهم، هو: أنهم قصدوا بلقب الوهابية ذمهم، وأنهم مبتدعة، ولا يحبون الرسول كما زعموا، صار الآن لقباً لكل من يدعو إلى الكتاب والسنة، وإلى الأخذ بالدليل، وإلى الأمر بالمعروف الونهي عن المنكر، ومحاربة البدع والخرافات، والتمسك بمذهب السلف. فترى كل من تنكر عليه أو ينكر غيرك عليه، بدعة أو منكراً صار يقابلك بقوله: "أنت وهابي"، فصار هذا اللقب والحمد لله مدحاً وعَلَماً على الفرقة التابعة للكتاب والسنة، وعلى كل من يعتنق مذهب السلف الصالح، وعلى كل من يدعو إلى توحيد الألوهية والعبادة، وكفاهم فخراً وشرفاً، وما أحسن قول الشيخ عمران رحمه الله:

_ 1 كمؤلف "صيانة الإنسان"، و "نيل الأماني".

إن كان تابع أحمد متوهباً فأنا المقر بأنني وهابي أنفي الشريك عن الإله فليس لي رب سوى المتفرد الوهابي لا قبة تُرجى ولا وثن ولا قبر له سبب من الأسباب أيضاً ولست معلقاً لتميمة أو حلقة أو ودعة أو ناب لرجاء نفع أو لدفع بلية الله ينفعني ويدفع ما بي كتب أدعياء العلم تلك الكتب التي مَرَّ وصفها، متظاهرين بمظاهر العلماء الراسخين، الغيورين على دين الإسلام، المخلصين في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء والصالحين، والذابين عنهم، ولكن في الحقيقة أخلصوا لمطامعهم وأهوائهم، وأحبوا الرئاسة والزعامة على العوام، والتقرب من ملوك الأتراك وأمراء الأشراف، ونيل الأصفر الرنّان، وخابوا وخسروا، وباءوا بالفشل والحرمان، وأصبحت تلك الكتب لا قيمة لها، وليس لها ذكر إلا عند بعض الجهلة من القبوريين، وانتشر العلم، وتنوّرت الأذهان، وعرف المعلمون في سائر الأقطار أن أولئك الكاتبين ضد الشيخ وأتباعه كانوا دجاجلة، لا نصيب لهم من العلم والتحقيق. وإن أردت أيها القارئ أن تعرف وتتأكد من صحة قولي، فاقرأ "الدرر السنية" لزيني دحلان، وقارنها ب"صيانة الإنسان". واقرأ "شواهد الحق" للنبهاني، و"غاية الأماني" في الرد عليه، للشيخ: محمود شكري الألوسي. واقرأ الكتب التي أُلِّفت في تاريخ نجد من السالفين والمعاصرين؛ من المسلمين والغربيين الكافرين. الأسباب التي أدت لنفرة الكثيرين عن الشيخ وأتباعه: 1- كانت العامة في سائر الأقطار الإسلامية تنظر إلى دولة الأتراك إذ ذاك أنها دولة الخلافة، وأنها هي القائمة بنصر الدين ومحاربة الكافرين، وحماية شريعة سيد المرسلين.

رأوها تحارب هذه الدعوة السلفية النجدية، حتى إنها أرسلت الجيوش لمحاربة آل سعود وقمعهم. 2- كانت تسمع من علمائهم ذم الدعوة والشيخ والعلماء الصغار، كانوا يقتدون بعلمائهم الكبار، الذين أخذوا على عاتقهم محاربة الدعوة، والدعاية بضدها. 3- سمع الحجاج الوافدون إلى مكة من أشراف الحجاز وبعض علماء مكة والمدينة التقديس التام من العوام، والانقياد الكامل لأقوالهم1 ضد الشيخ وأتباعه الشئ الكثير، من كون أتباع الشيخ لا يحترمون الأولياء والصالحين، ويهدمون قبابهم، ويمنعون من زيارة القبور، ويقولون: "عصا أحدنا خير من محمد"، ولا يحبون الرسول، ويمنعون من زيارته. فلهذه الأسباب التي ذكرناها، أخذ جمهور الناس في سائر الأقطار فكرة سيئة عن الشيخ وأتباعه، واعتقدوا أنه وأتباعه على غير حق. وهذا بالنسبة لما سلف. أما اليوم فقد هان الأمر، واستبان الحق، وانتشر الوعي، وعرف الكثيرون بطلان تلك الدعايات. فلو كان عند خصوم الدعوة والمنخدعين بهم أدنى علم وعقل؛ لعلموا من سيرة الشيخ وأتباعه، ومن كتبهم؛ أنهم هم المحبون للرسول صلى الله عليه وسلم، المعظمون له. والدليل على ذلك: أنهم حكموا القرآن وسنة الرسول في جميع الأمور، ولم يسمحوا لأحد أن يخرج عن منهج الرسول وأصحابه. ومن ابتدع ولو بدعة صغيرة، نهوه عنها، ومنعوه من ارتكابها وقالوا: "من عمل عملاً ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو مرودود عليه، كائناً من كان"، طبقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".

_ 1 مفعول لسمع الحجاج، أي: سمع الحجاج ضد الشيخ، وقوله: "ولعلماء مكة ... إلخ" جملة معترضة بين الفعل ومفعوله.

فهل هؤلاء محبون للرسول حقاً وصدقاً؟، أم الذين يتظاهرون بحب الرسول بألسنتهم وبالقصائد في مدحه صلى الله عليه وسلم، وبلفظ: "اللهم صل على سيدنا محمد" عند ذكره؟. والحال أنهم يأتون أفانين البدع وأنواع المحدثات، وينبذون السنة المطهرة خلف ظهورهم، ويحكّمون القوانين والآراء بدلاً عن القرآن والسنة. فيا أيها القارئ؛ وازن بين الطرفين بميزان العدالة، واحكم بالعدل والإنصاف. والله يتولى الهداية والتوفيق. من رسالة الشيخ: محمد بن عبد الوهاب أجزل الله له الأجر والثواب في بيان ماهم عليه، وكذب ما نسب إليه1 ننقل أيها القارئ من هذه الرسالة التي كتبها الشيخ عبد الله بعد دخول الإمام سعود رحمه الله مكة المكرمة سنة 1218هـ، جواباً لمن سأله عما يعتقدونه ويدينون الله به، فأجاب بما ستقف عليه: قال رحمه الله بعد البسملة والحمدلة: "أما بعد: فإننا معاشر غزو الموحدين لَمَّا مَنَّ الله علينا وله الحمد بدخول مكة المشرّفة نصف النهار، يوم السبت، 9 شهر محرم الحرام، سنة 1218هـ، بعد أن طلب أشراف مكة وعلماؤها وكافة العامة من أمير الغزو سعود حماه الله؛ الأمان، وقد كانوا تواطأوا مع أمراء الحجيج وأمير مكة على قتاله، أو الإقامة في الحرم ليصدوه عن البيت، فلما زحفت أجناده الموحدين ألقى الله الرعب في قلوبهم، فتفرقوا شذر مذر، كل واحد يعد الإياب غنيمة، وبذل الأمير حينئذ الأمان لمن بالحرم الشريف، ودخلنا وشعارنا التلبية، آمنين، محلقين رؤوسنا ومقصّرين، غير خائفين من أحد من المخلوقين، بل من مالك يوم

_ 1 رسالة الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، التي نقلت عنها هي في "الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية"، التي تشتمل علىخمس رسائل لكبار أئمة نجد وعلمائها، جمع وترتيب: الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله.

الدين، ومن حين دخل الجند الحرم، وهم على كثرتهم مضبوطون متأدبون، لم يعضدوا به شجراً، ولم ينفروا صيداً، ولم يريقوا دماً، إلا دم الهدي، أو ما أحل الله من بهيمة الأنعام على الوجه المشروع. ولَمَّا تَمَّت عمرتنا، جمعنا الناس ضحوة الأحد، وعرض الأمير على العلماء ما نطلب من الناس، ونقاتلهم عليه، وهو إخلاص التوحيد لله وحده، وعرّفهم أنه لم يكن بيننا وبينهم خلاف له وقع، إلا في أمرين: أحدهما: إخلاص التوحيد لله، ومعرفة أنواع العبادة، وأن الدعاء من جملتها، وتحقيق معنى الشرك الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واستمر دعاؤه برهة من الزمان بعد النبوة إلى ذلك التوحيد وترك الإشراك، قبل أن تفرض عليه أركان الإسلام الأربعة. والثاني: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، الذي لم يبق عندهم إلا اسمه، وانمحى أثره ورسمه، فوافقونا على استحسان ما نحن عليه جملة وتفصيلاً، وبايعوا الأمير على الكتاب والسنة، وقبل منهم، وعفا عنهم جميعاً، فلم يحصل على أحد منهم أدنى مشقة. ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق لا سيما العلماء، ويقرر لهم حال اجتماعهم، وحال انفرادهم لدينا، أدلة ما نحن عليه، ويطلب منهم المناصحة والمذاكرة، وبين الحق، وعرفناهم بأن صرح لهم الأمير حال اجتماعهم بأنا قابلون ما وضحوا برهانه من كتاب، أو سنة، أو أثر عن السلف الصالح، كالخلفاء الراشدين، المأمورين باتباعهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، وعن1 الأئمة الأربعة المجتهدين، ومن تلقى العلم عنهم إلى آخر القرن الثالث، لقوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". وعرّفناهم أنا دائرون مع الحق أينما دار، وتابعون للدليل الجلي الواضح، ولا نبالي حينئذ بمخالفة ما سلف عليه من قبلنا، فلم ينقم العلماء علينا أمراً".

_ 1 معطوف على قوله: "أو أثر عن السلف الصالح".

ثم ذكر الشيخ كلاماً طويلاً، إلى أن قال: "ونحن أيضاً في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلّد الأئمة الأربعة دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير، كالرافضة والزيدية والإمامية ونحوهم، لا نقرّهم ظاهراً على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة، ولا نستحق مرتبة الاجتهاد، ولا أحد منا يدعيه إلا أنا؛ في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة؛ أخذنا به، وتركنا المذهب1 كإمام الصلاة. فنأمر الحنفي والمالكي2 مثلاً بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين؛ لوضوح ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة فلا نأمره بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين. فإذا قوي الدليل؛ أرشدناهم بالنص وإن خالف المذهب، وذلك يكون نادراً جداً. ولا مانع من الاجتهاد، في بعض المسائل دون بعض. ولا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد المطلق. وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في بعض المسائل؛ مخالفة للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه. ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة، ومن أجلها لدينا

_ 1 مثّل هنا بتقديم الجد على الأخوة، وبإمام الصلاة لغير هذه المسألة. المصحح. 2 أما الأحناف فإنهم لا يرون الطمأنينة في الصلاة ركناً. وأما المالكية: فإنهم كالشافعية والحنابلة؛ يرون الطمأنيننة في الركوع، والاعتدال، والسجود، والجلوس بين السجدتين؛ ركناً، ولا تختلف المالكية عن المذهبين في فرائض الصلاة إلا شيئاً يسير. وأما الأحناف: فإنهم لا يعتبرون فرائض الصلاة المحررة عند المذاهب إلا ستة منها، وهي: النية، وتكبيرة الإحرام، والقراءة، ولو غير الفاتحة، والركوع، والسجود، والتشهد الأخير.

تفسير ابن جرير، ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذلك البغوي، والبيضاوي، والخازن، والحداد، والجلالين، وغيرهم. وعلى فهم الحديث بشروح الأئمة المبرزين، كالعسقلاني، والقسطلاني على البخاري، والنووي على "مسلم"، والمناوي على "الجامع الصغير". ونحرص على كتب الحديث، خصوصاً الأمهات الست وشروحها، ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون، أصولاً وفروعاً وقواعدَ وسيراً، ونحواً وصرفاً، وجميع علوم الأئمة، ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلاً؛ إلا ما اشتمل على ما يوقع الناس في الشرك، كروض الرياحين، وما يحصل بسببه خلل في العقائد، كعلم المنطق، فإنه قد حرمه جمع من العلماء، على أنا لا نفحص عن مثل ذلك، وكالدلائل إلا أن تظهر به صاحبه معاندا؛ أتلف عليه. وما اتفق لبعض البدو من إتلاف بعض كتب أهل الطائف، إنما صدر من بعض الجهلة، وقد زجروا غيرهم عن مثل ذلك. ومما نحن عليه: أنا لا نرى سبي العرب، ولن نفعله، ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان. وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق، بأنا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق أفهامنا، من دون مراجعة شرح، ولا معوّل على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: "النبي رمة في القبر، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى: لا إله إلا الله، حتى نزل عليه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ} "، مع كون الآية مدنية. وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء، فنتلف مؤلفات أهل المذاهب، لكون فيها الحق والباطل. وأنا مجسمة. وأنا نكفّر الناس على الإطلاق أهل زماننا ومن بعد الستمائة، إلا من هو على ما نحن عليه. ومن فروع ذلك: أن لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه بأنه كان مشركاً، وأن أبويه ماتا على الشرك بالله، وأنا ننهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحرّم زيارة القبور المشروعة مطلقاً. وأن من دان بما نحن عليه،

سقطت عنه جميع التبعات حتى الديون. وأنا لا نرى حق أهل البيت رضوان الله عليهم. وأنا لا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم. وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شاباً، إذا ترافعوا إلينا. فلا وجه لذلك. فجميع هذه الخرافات وأشباهها، لما استفهمنا عنها من ذكر أولاً كان جوابنا في كل مسألة من ذلك: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . فمن روى عنا شيئاً من ذلك أو نسبه إلينا، فقد كذب علينا وافترى. ومن شاهد حالنا، وحضر مجالسنا، وتحقق ما عندنا؛ علم قطعاً أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه أعداء الدين، وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك الذي نص عليه بأن الله لا يغفره {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . فإنا نعتقد: أن من فعل أنواعاً من الكبائر، كقتل المسلم بغير حق، والزنا، وشرب الخمر، وتكرر منه ذلك، أنه لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة الإسلام، ولا يخلد به في دار الانتقام إذا مات موحداً، بجميع أنواع العبادة. والذي نعتقده: أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حَيٌّ في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء، المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه، وتسن زيارته، إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه، وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس. ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه عليه الصلاة والسلام الواردة عنه؛ فقد فاز بسعادة الدارين، وكفى همه وغمه، كما جاء في الحديث عنه. ولا ننكر كرامات الأولياء، ونعترف لهم بالحق، وأنهم على هدي من ربهم، مهما ساروا على الطريقة الشرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئاً من أنواع

العبادات، لا حال الحياة، ولا بعد الممات، بل يطلب من أحدهم الدعاء، بل ومن كل مسلم، فقد جاء في الحديث: "دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه" الحديث. وأمر صلى الله عليه وسلم عمر وعلياً بسؤال الاستغفار من "أويس" ففعلا. ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسبما ورد، وكذا نثبتها لسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد أيضاً، ونسألها أيضاً من المالك لها، والإذن فيها لمن يشاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها، كما ورد، بأن يقول أحدنا متضرعاً إلى الله تعالى: "اللهم شفّع نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة" أو: "اللهم شفّع فينا عبادك الصالحين أو ملائكتك"، أو نحو ذلك مما يُطلب من الله، لا منهم. فلا يقال: يا رسول الله، أو يا ولي الله؛ أسالك الشفاعة، أو غيرها، كأدركني، أو أغثني، أو اشفني، أو انصرني على عدوي، أو نحو ذلك، مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى. فإذا طلبت ذلك مما ذكر في أيام البرزخ، كان من أقسام الشرك؛ إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة، ولا أثر من السلف الصالح على ذلك. بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف أن ذلك شرك أكبر، قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" اهـ ما أردنا نقله من تلك الرسالة. وقد اتضح لك أيها القارئ أن الشيخ وأتباعه في الأصول على مذهب السلف الصالح، وفي الفروع على مذهب الإمام أحمد، وقد يخالفون المذهب للدليل، كما هو إجماع أهل العلم. وأنه لم يبتدع ولم يقل إلا وحّدوا ربكم، وتمسكوا بسنة نبيكم، ودعوا المحدثات، ولا يغرّنكم كثرة السالكين المسلك المخالف لمسلك الرسول وأصحابه. كما اتضح لك كذب ما نُسِبَ إليهم من تلك المفتريات التي ذكرناها فيما سلف، وذكر كثيراً منها الشيخ: عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.

فيقال للمخالفين وللمفترين: أرونا هذه المفتريات أو بعضها في شيء من مؤلفات الشيخ، أو من مؤلفات أبنائه، أو مؤلفات أئمة الدعوة؟. ولا شك أنهم لا يستطيعون أن يثبتوا حرفاً واحداً في كتاب الشيخ وأتباعه. وأما نحن، فنقول: هذه كتبهم، تُطبع وتُنشر، وقد بيّنا لكم معتقد الشيخ وما دعا إليه. فإن كنتم في شك، فاقرأوا شيئاً من كتبه أو كتب أبنائه وأحفاده؛ لتطلعوا على الحقيقة، وتعرفوا كذب أولئك الأفّاكين، الذين اغتر بهم الأكثرون، وحسبوهم علماء محققين، ولا يقولون إلا الحق والصواب، والحال قد بان أنهم: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} الآية. وأزيدك بياناً وإيضاحاً بأن أنقل لك من "تاريخ نجد" لمحمود شكري الألوسي رحمه الله مناظرة ذكرها في تاريخه، جرت بين عراقي وهو "داود بن جرجيس البغدادي" وعالم نجدي، وهو الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، مؤلف "منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس". وإنما أنقل بعضها لك، لما تضمنت هذه المناظرة من الفوائد النافعة، والمسائل القيمة، والجواب عن بعض ما اشتبه على بعض الناس، وكشف ما أشكل. وها أنا ألخص منها ما يمسّ بموضوعنا. قال العراقي: لِمَ تكفّرون يا أهل نجد المسلمين وعباد الله الصالحين، وتعتقدون ضلالهم، وتبيحون قتالهم، واستبحتم الحرمين الشريفين، وجعلتموهما دار حرب، واستحللتم دماء أهلهما وأموالهم، وجعلتم دار مسيلمة الكذاب هي دار الهجرة، ودار الإيمان، مع ما ورد فيها من الحديث أنها مواضع الزلازل

والفتن، لما طلب أهل نجد الدعاء لأرضهم. والتكفير أمر خطير، حتى إن أهل العلم ذكروا أنه لو أفتى مائة عالم إلا واحداً بكلمة كفر صريحة مجمع عليها، وقال عالم واحد بخلاف أولئك؛ يُحكم بقول الواحد، ويُترك قول غيره، حقناً للدماء. فلم لا تتبصرون في أمور دينكم، ولا تراقبون وقوفكم بين يدي بارئكم، وتركتم الناس سالمين من ألسنتكم وأيديكم؟. قال العالم النجدي المجيب: "أيها العراقي: ليس الأمر كما علمت أنت وأمثالك، بل أنتم في لبس مما نحن عليه، وعسى أن يزول ذلك عنكم إذا صادف ما أكتبه لكم قلوباً سالمة من داء الغباوة، فأقول: أركان الإسلام خمسة: أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة. فالأربعة، إذا أقر بها أحد وتركها تهاوناً فنحن وإن قاتلناه على فعلها فلا نكفّره بتركها، والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود. ولا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان. وأيضاً نكفّره بعد التعريف إذا عرف وأنكر، فنقول: أعداؤنا معنا على أنواع: النوع الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أظهره للناس، وأقر أيضاً أن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر الذي هو دين غالب الناس أنه الشرك بالله، الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهي عنه، ويقاتل أهله ليكون الدين كله لله، ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد، ولا تعلمه، ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك؛ فهذا كافر، نقاتله بكفره، لأنه عرف دين الرسول فلم يتبعه، وعرف دين الشرك فلم يتركه، مع أنه لا يبغض دين الرسول، ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك، ولا يزينه للناس.

النوع الثاني: من عرف ذلك كله، ولكنه تبين في سب دين الرسول مع إدعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد غير الله وغالى في أوليائه، ففضلهم على من وحّد الله وترك الشرك؛ فهذا أعظم من الأول، وفيه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وهو ممن قال الله فيه: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} . النوع الثالث: من عرف التوحيد واتّبعه، وعرف الشرك وتركه، ولكن يكره من دخل في التوحيد، ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضاً كافر. وفيه قول الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده مصرحون بعداوة التوحيد واتباع أهل الشرك، وساعون في قتالهم، ويتعذر عليه ترك وطنه، ويشق عليه، فيقاتلهم أهل التوحيد، ويجاهدهم بماله ونفسه. فهذا أيضاً كافر، فإنهم لو يأمرونه بترك صوم رمضان، ولا يمكنه ترك الصيام إلا بفراقهم؛ فعل. ولو يأمرونه بتزوج امرأة أبيه، ولا يمكنه ترك ذلك، إلا بمخالفتهم؛ فعل. وموافقته على الجهاد معهم بنفسه زماله مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله؛ أكبر من ذلك بكثير، فهذا أيضاً كافر، وهو ممن قال الله فيه: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} . هؤلاء الذين نكفّرهم، لا غير. وأما القول: بأنا نكفّر الناس عموماً، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنا نكفّر من لم يكفر ولم يقاتل. ومثل هذا وأضعاف أضعافه؛ فكل هذا من الكذب والبهتان، الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله. وإذا كنا لا نكفّر من عبد القبور من العوام لأجل جهلهم، وعدم من

ينبههم1، فكيف نكفر من لم يشرك بالله، إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل؟، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . فقد ذكرنا لك - أيها السائل - ما يكشف عنك غطاءك، لو كان لك بصر ثاقب وفكر سديد، وفطنة كافية، تأخذ بيدك من أوهام الحيرة، وظلمات الوساوس، والله ولي التوفيق. وأما ما ذكره السائل من استباحة الحرمين الشريفين: فاعلم أيها السائل الفاضل، أن هذا من الكذب والبهت البين، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ، لم يقع فيهما قتال بحمد الله، فضلاً عن الاستباحة. وإنما دخلهما المسلمون في حالة أمن، وصلح، وانقياد من شريف مكة، ورؤساء المدينة. وجلس المشايخ منا في الحرمين الشريفين للتعليم والتدريس، وكتبت الرسائل في بيان التوحيد والتنزيه والتقديس، حتى جاءت العساكر: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} . وأما الأموال التي أخذت من الحجرة الشريفة، فلم تؤخذ ولم تصرف، إلا بفتاوى أهل العلم من سكان المدينة، ووضع خطوطهم بذلك. وحاصل ما كتب: أن هذه الأموال وضعت توسعة لأهل المدينة، وصدقة على جيران رسول الله، وأُرصِدَت لحاجتهم، وأُعِدَّت لفاقتهم، ولا حاجة لرسول الله إليها، وإلى اكتنازها وادخارها في حال حياته، فضلاً عن حال مماته. وقد تقطعت أسباب أهل المدينة ومرتباتهم بمنع الحاج في تلك السنة، وأخرجت تلك الأموال لما وصفنا من الحال، باطلاع وكيل الحرم وغيره من أعيان المدينة وغيرها.

_ 1 يريد الشيخ رحمه الله: أنهم لا يكفّرون العوام الجهال الذين لم تبلغهم الحجة من كتاب الله وسنة نبيه، وأما من بلغته الحجة، وعاند، وأصرّ على شركه من دعاء الموتى، والاستغاثة بهم، وطلب النفع منهم، أو دفع الضر؛ فلا شك في شركه، بل وفي كفر من لم يكفره.

وما وقع من خيانة وغلول، لا تجوز نسبته إلى أهل العلم والدين، أو أنهم راضون، أو غير منكرين له. ولا يجوز أن يسمي ما وقع، استباحة للحرمين، كما ذكرت أيها السائل. وقد وقع من تعظيم الحرمين وكسوة الكعبة الشريفة، وتأمين السبل، والحج إلى بيت الله، وزيارة الحرم الشريف النبوي، مالا يخفى على منصف عرف الحال، ولم يقصد البهت والضلال. وأما الاستدلال على صلاح أهلها بشرف تلك البقعة، فهو استدلال من عزبت عنه أدلة الشرع وقواعده، وغابت عنه عهود الكتاب العزيز ومواعده، وصار من جملة الغوغاء والعامة. ولا حاجة لنا إلى تعداد من كفر بآيات الله، وصادم رسله، ورد حججه من أهل الحرمين، ولا إلى تعداد من في بلاد الحبشة والهند، وبلاد الفراعنة كمصر، وبلاد الصابئة كـ"حران"، وبلاد الفرس المجوسية من أهل العلم والفقه والأمامة والدين. وفضل الحرمين لا يشك فيه من له أدنى إلمام بما جاءت به الرسل الكرام، ولكن ليس فيه حجة على تحسين حال أهلها مطلقاً، وقد قال سلمان الفارسي لأبي الدرداء لما دعاه إلى الأرض المقدسة، ورغبّه فيها: "إن الأرض لا تقدّس أحداً"، قال الله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} وهي: مصر والشام. فإن كان في شرف البقاع حجة ودليل على صلاح أهلها، فليكن هنا، وبنو إسرائيل في الأرض المقدسة، وسكان (إيليا) والمسجد الأقصى، وقد جرى منهم من الكفر والتكذيب، وقتل الأنبياء ما لا يخفى على من آنس شيئاً من أنوار النبوة والرسالة. ثم استدلال أهل اليمن على حسن حالهم مطلقاً، بحديث: "الإيمان يمان، والحكمة يمانية"، وحديث: "أتاكم أهل اليمن، أرق قلوباً، وألين أفئدة" أظهر

من الاستدلال بشرف البقاع على عدم ضلال أهلها، لأن حديث: "الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" يصدق ولو على البعض، والأول أدل1 على العموم، ولو احتج الأسود العنسي وأمثاله على حسن حالهم بما تقدم لكان جوابه جواباً لنا، فقد قال الله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} . إيضاح المراد بمواضع الزلازل والفتن: أيها السائل، إنك لمحت إلى أن المراد من مواضع الزلازل والفتن هي أرض نجد، وبلادها واتخذت ذلك سهماً رميت به من سكن هذه الخطة، ونحن نعذرك في ذلك، حيث لم تقف على معنى الحديث، وبعد بيانه، نرجو من لطف الله تعالى أن تذعن أنت وأضرابك للحق، إن كنت من أهل الفهم والإنصاف. أما الحديث فهو قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله؟، فكرر ثلاث مرات يدعو للشام واليمن، وهم يقولون: وفي نجدنا؟، فقال في الرابعة: "تلك مواضع الزلازل والفتن"، وقد استجيبت دعوته صلى الله عليه وسلم، وحصل من البركات بسبب هذه الدعوات في الشام واليمن، ما هو معروف ومشهور، وهل دوّنت الدواوين، ووضع العطاء، وجندت الجنود، وارتفعت الرايات والبنود، إلا بعد إسلام أهل اليمن وأهل الشام، وصرف أموالهما في سبيل الله. ولكن لا يحتج به على صلاح دين أهلهما، إلا من غربت عنه الحقائق، وعدم الفهم لأصول الدين، فضلاً عن الفروع والدقائق. وقد تقدم قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} ، وجمهور أهل نجد، كـ"تميم" و"أسد" و"طي" و"هوزان" و"غطفان" و"بني ذهل" و"بني شيبان"؛ صار لهم في الجهاد

_ 1 أي: حديث: "الإيمان يمان"، وحديث: "أتاكم أهل اليمن".

في سبيل الله، والمقام بالثغور، والمناقب والمآثر، لاسيما في جهاد الفرس والروم؛ ما لا يخفى على من له أدنى إلمام بشيء من العلوم، ولا ينكر فضائلهم، إلا من لم يعرف جهادهم وبلاءهم في تلك المواطن، ولا يشك عاقل أنهم أفضل من أهل الأمصار، قبل استيطان الصحابة، وأهل العلم والإيمان. وأما بعد ذلك، فالفضل والتفضيل، باعتبار الساكن، يختلف وينتقل مع العلم والدين. فأفضل البلاد والقرى في كل وقت وزمان: أكثرها علماً، وأعرفها بالسنن والآثار النبوية. وشر البلاد: أقلها علماً، وأكثرها جهلاً وبدعة وشركاً، وأقلها تمسكاً بآثار النبوة، وما كان عليه السلف الصالح. فالفضل والتفضيل، يعتبر بهذا في الأشخاص والسكان، وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ، وكما أن الحسنات تضاعف في البلد الحرام، فكذلك السيئات تضاعف، لعظم حرمته وفضيلته1. وقد جاء في فضل بعض أهل نجد كـ"تميم" ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أحب تميماً لثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله لما جاءت صدقاتهم: "هذه صدقات قومي "، وقوله في الجارية التميمية: "أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل"، وقوله: "هم أشد أمتي على الدجال". هذا في المناقب الخاصة. أما العامة للعرب، فلا شك في عمومها لأهل نجد، لأنهم من صميم العرب.

_ 1 ذهب بعض أهل العلم إلى أن المضاعفة في الكيفية لا في العدد، لقول الله سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} ، وهذا نص صريح من كتاب الله سبحانه، لا تجوز مخالفته إلا بدليل صحيح يخص الحرم المكي من هذه الآية، ولا نعلم في ذلك ما يحسن الاعتماد عليه. عبد العزيز بن عبد الله بن باز.

وما ورد في تفضيل القبائل والشعوب أدل وأصرح في الفضيلة مما ورد في البقاع والأماكن للدلالة على فضل الساكن والقاطن. ومعلوم أن رؤساء عباد القبور والداعين إلى دعائها وعبادتها لهم حظوا فيما يأتي به الدجال. وقد تصدّى رجال من تميم وأهل نجد للرد على دجاجلة عباد القبور الدعاة إلى تعظيمها مع الله تعالى، وهذا من أعلام نبوته إن قلنا (أل) في الدجال للجنس لا لعهد، وإن قلنا: إنها للعهد كما هو الظاهر، فالرد على جنس الدجال توطئة وتمهيد لجهاده، ورد باطله. فتأمّله فإنه نفيس جداً. وليت غيرك أيها السائل تكلم بهذا الكلام فإن بلادك أعني العراق معدن كل محنة وبلية، ولم يزل أهل الإسلام منها في رزية بعد رزية: فأهل "حروراء" وما جرى منهم على أهل الإسلام، لا يخفى. وفتنة "الجهمية" الذين أخرجهم كثير من السلف من الإسلام إنما خرجت ونبغت بالعراق. و"المعتزلة" وما قالوه في الحسن البصري، وتواتر النقل به، واشتهر من أصولهم الخمسة، التي خالفوا بها أهل السنة. ومبتدعة الصوفية الذين يرون الفناء في توحيد الربوبية، غاية يسقط بها الأمر والنهي، إنما نبغوا وظهروا بالبصرة1. ثم "الرافضة" و"الشيعة" وما حصل منهم من الغلو في أهل البيت، والقول الشنيع في علي والأئمة، ومسبّة أكابر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، كل هذا معروف مستفيض عن أهل بلادك، أفلا يستحي أهل هذه العظائم من عيب أهل الإسلام ولمزهم بوجود مسيلمة في بلادهم.

_ 1 وكذلك وقعة الجمل، كما وقع بالعراق حرب صفين، وقتل علي، وقتل مسلم بن عقيل، والحسين بن علي وأبنائه، ودعوى المختار ابن أبي عبيد النبوة، إلى غير ذلك مما لا يحصر. كذلك في عصرنا قد حصلت فتن بالعراق، ومنها أخيراً: فتنة عبد الكريم قاسم، وما جرى من القتل والسفك.

أما سمعت ما رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخل إبليس العراق، فقضى فيها حاجته، ثم دخل الشام فطردوه، ثم دخل مصر فباض فيها وفرّخ وبسط عبقريته". والعراق قبل الإسلام، هي محل المجوس، وعباد النيران والبقر. فإن قيل: طهرت بالفتح والإسلام. قلنا: فما بال اليمامة لا تظهر بما أظهر الله فيها من الإسلام، وشعائره العظام، وجهاد أعداء الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. هذا كله أيها السائل لو سلّمنا أن المراد بنجد في الحديث هي القطعة الشهيرة، مع أن الأمر ليس كما فهمت أنت وأضرابك، بل المراد بنجد في هذا الحديث وأمثاله هو "العراق"، لأنه يحاذي المدينة جهة الشرق. يوضحه أن في بعض طرق هذا الحديث وأشار إلى "العراق". قال الخطابي: " (نجد) من جهة الشرق ومن كان بالمدينة، كان نجده بادية العراق ونواحيها، فهي مشرق أهل المدينة. وأصل "نجد" ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور، فإنه ما انخفض منها". وقال الداوودي: "إن نجداً من ناحية العراق، ذكر هذا الحافظ ابن حجر". ويشهد له ما في مسلم عن ابن غزوان: سمعت سالم بن عبد الله، سمعت ابن عمر يقول: "يا أهل العراق، ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة!، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة من ههنا" وأومأ بيده إلى المشرق". فظهر أن هذا الحديث خاص لأهل العراق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر المراد بالإشارة الحسية. وقد جاء صرياً في الكبير للطبراني، النص على أنها "العراق".

وقول ابن عمر وأهل اللغة، وشهادة الحال، كل هذا يعيّن المراد1. وأما قولك أيها السائل: لو أفتى مائة عالم إلا واحداً بكلمة كفر صريحة مجمع عليها، وقال عالم بخلاف أولئك يحكم بقول الواحد ... إلخ. فمما يستوجب الأسف عليك، حيث كنت بهذه المنزلة من معرفة دينك، أما علمت أن المحتج به في العقائد والأعمال إنما هو الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فهذا الدليل من أي واحد من الأربعة. ومن عرف ما في الدعوى من العموم والإجماع، على خرق الإجماع، حمد الله على السلامة من داء الجهل. ثم هذا العدد المخصوص أهو غاية وحد، لا يجوز أن يتجاوزه أحد؟، أو هو مبالغة وتهور لا يبالي به عند التحقيق والتصور. قوم2 هذا حاصل بحثهم ونهاية إقدامهم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" فهو ليس مما نحن فيه، فإن الخلاف ليس من الشبهة، ولا يلتفت إليه إذا خالف الكتاب والسنة والإجماع. هذا باتفاق المسلمين، لا يشكل إلا على الأغبياء. وإطلاق القول بأن الخلاف شبهة، يعود على الإسلام بالهد والهدم، والتسجيل على عامة العلماء بالعيب والذم، فقل حكم من الأحكام الاجتهادية، إلا وفيه خلاف. ومن المعلوم أنه جاء الخبر النبوي: أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وتختلف في دينها. والعلماء مجمعون على القول بهذا، وأنه لا يلتفت إلى

_ 1 ومن الأجوبة المسكتة: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد قرأ كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وأمعن النظر فيها، وهضم معانيها، فنفخت فيه روح الثورة على تلك الأوضاع الفاسدة، ومنحته سلاحاً قوياً من الحجج النقلية والبراهن العقلية ما استطاع بها أن يزهق باطل أولئك المردة والمشركين، وأن يزيّف شُبَه علمائهم ودعاة مذاهبهم. ولا ريب أن الشيخين كانا شاميين، فإذا دعوة الشيخ شامية، والحديث يقول: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا". 2 خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هؤلاء قوم.

كل خلاف، لا سيما ما خالف النصوص والإجماع، وأفتوا بهذا في مسائل لا تحصى في أصول الدين وفروعه. فلو كان وجود الخلاف من الشبه، لحكما بضلالتهم في ذلك كله، وهم مجمعون على عكس ما قال السائل. ولو أفتى ألوف بما يخالف النصوص فهم في جانب النص والحجة، ولو مع واحد من الألوف. قال الفضيل بن عياض: "لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين". وأحسن منه وأدلّ قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، فبطل الاحتجاج بالكثرة في الأصول والفروع، وما أحسن ما قيل: وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له من حظ من النظر قال السائل: يا أهل نجد، ألم تعلموا أن من كفر المسلمين، هو في جملة المارقين؟، فما بالكم، اقتديتم بالخوارج، وسلكتم تلك المسالك والمناهج، ووافقتم مذهبهم الباطل، واعتقادهم العاطل، حيث قال أولئك: "لا حكم إلا لله"، وقلتم: "لا يعبد إلا الله"، وكل من الكلمتين معنى أريد بهما باطل، وتضليل الأمة المحمدية. قال المجيب: أيها السائل، لو عرفت حقيقة الحال؛ لما صدر منك هذا المقال، فأين أهل الإسلام والتوحيد الذين يكفّرون من عبد الأنبياء والأولياء والصالحين، ودعاهم مع الله، من الخوارج الذين يكفرون أهل القبلة والإيمان؟. وكأن عبدة القبور عندك هل سنة وجماعة!. ليس الأمر كما ظننت. {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} . ما أردنا نقله انتهى" ثم ذكر الشيخ حقيقة مذهب الخوارج، ومبدأ أمرهم، وبيان ما عليه عباد القبور، وبيان حال الشيخ محمد رحمه الله ومذهبه ومعتقده، إلى آخر ما ذكره.

المشابهة بين عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته وبين عصر الشيخ محمد ودعوته: ليس القصد أن نجعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب كالرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الرسول قد فضّله الله على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعله خاتمهم، وليست درجته كدرجة غيره. وأما الشيخ محمد، فعالم مصلح، مجدد لما اندرس من دين الرسول صلى الله عليه وسلم. وإلى القارئ وجه الشبه بين العصرين في بعض الأمور التي جرت للرسول الأكرم وللشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: 1- عصر الرسول كان عصراً قد بلغ من فساد العقائد والعادات والأخلاق مبلغاً عظيماً. فالأصنام كانت تُعبد من دون الله في المسجد الحرام عند الكعبة وغيرها. وكانت العرب قد انحطّت إلى أسفل الدركات من الوثنية الممقوتة والعادات السافلة الرذيلة، من: شرب الخمور، والبغاء، ووأد البنات، وتحكم الأقوياء في الضعفاء. وقصارى ما يقال في هذا العصر: أنه عصر انتحار الفضائل الإنسانية الكبرى، والمعاني السامية العليا. وكان عصر الشيخ ابن عبد الوهاب شبيهاً بذلك العصر، بما كانوا فيه من جاهلية مطلقة، كما كانوا غارقين في أودية الجهالة والرذيلة والوثنية المسبوكة في قالب حب الصالحين. وأوجز ما يقال فيه: أنه عصر انتحار الفضائل الإنسانية والمعاني الرفيعة، يضاف إليه محو الدين، والخضوع لسلطان الخرافات والبدع. 2- بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بعد فترة من الرسل، وكانت الإنسانية بما أصابها في مقاتلها تنتظر وتتعطش إلى هذه البعثة الكريمة، لعلها تهتدي بعد الضلال البعيد، وتنتقل من فوضى الأخلاق والطباع إلى نظام وطمأنينة وراحة.

وجاء الشيخ في وقت كانت جزيرة العرب في أمسّ الحاجة إلى مصلح بعالجها من أمراضها القاتلة، ويرجع بها إلى تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، وينقذها مما وقعت فيه، ويأخذ بيدها من تلك الهوة السحيقة التي ارتطمت فيها، لكي تسير في سبيل مستقيم، حيث تصفو العقائد، وتشفى العقول، حيث النور المنبثق من القرآن والسنة يملآن الرحاب والبقاع. 3- كما وفق نبينا في الدعوة إلى الله وتوحيده، ونبذ الشرك وتهجينه. وفّق محمد بن عبد الوهاب في تجديد دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، والسير على منهاجه، ونشر ما أتى عنه، نقياً خالصاً من كل شائبة وباطل. 4- لم يطلب المقام للرسول صلى الله عليه وسلم بمكة التي ولد فيها بإيذاء قريش له، وتسلطهم عليه بالسوء والأذى، حتى أجمعوا أخيراً على قتله، فهاجر إلى المدينة مع صديقه، ووجد من الأنصار عوناً وحباً، ثم تبعه صحابته فانتقلوا إليها مستخفين، خشية من الأذى والفتك، وفراراً بالدين والعقيدة. وكذلك الشيخ، قد تآمر عليه مماليك بلده الذي ولد فيه على قتله1، وتسوروا عليه الجدار، ولقي من أهله الأذى والتنكيل، مما جعل الإقامة به أمراً مستحيلاً، ففر بدينه وعقيدته إلى الدرعية، ولقي فيها محببين كانوا عوناً له. هنالك استطاع أن يهنأ بالعبادة والدين، وانتقل مريدوه وأتباعه إليها هرباً بمعتقداتهم وأرواحهم. 5- كما حدث للرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه للمدينة وهو مهاجر، أن تبعه سراقة بن مالك، طمعاً في جعل قريش.

_ 1 هذا خلاف المعروف، وإنما المعروف أن التآمر وقع في حريملاء، وبسببه انتقل الشيخ رحمه الله إلى العيينة، كما ذكر ذلك الشيخ ابن بشر في تاريخه. عبد العزيز بن عبد الله بن باز.

ولما أدرك النبي وأبا بكر، ساخت قوائم فرسه في الأرض، فإذا هو في وثاق، لا يستطيع منه فكاكاً، حتى يستنجد بالرسول فينطلق. كذلك قد جرى للشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقد وكل به أمير العيينة عثمان بن معمر عندما أمر بمغادرة الشيخ البلاد فارساً والشيخ كان راجلاً، كافي القدم، حاسر الرأس، إلا من مروحة يتقي بها لظى القفر. حتى إذا رام أن يقتله، واستل سيفه، إذا بيده القوية تتهالك، فيسقط منها. 6- وكان ابن عبد الوهاب يعرض نفسه على القبائل والبطون، فمن ناصرة ومجيرة، إلى خاذلة وصادفة عنه، إلى قبائل لا تتورع عن إيذائه والكيد له، كما كان يكيد له الكراء والزعماء، فلا تلين له قناة. كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل، ويستقبلها في المواسم والأسواق، فينصره بعضها، ويخذله بعضها، ويهزأ به بعضها، ويناله بعضها بما يكره، ولكنه صابر يقول في ابتسامته الحلوة الرائعة: "اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون". 7- ومثل ما اعترض حياة الرسول الكريم الخطر والهلاك، اعترضت حياة تابعه المخلص، الويلات والكوارث. فكان يستدبر كارثة ليستقبل أخرى بنفس مطمئنة، وقلب مفعم بالإيمان. 8- وكما كان الرسول يغزو بنفسه، ويزج بها في المعارك والميدان، وإذا احتدم القتال يقوي قلوب صحابته الكرام، ويعززهم ويذكرهم، ويدعو الله لهم. كان التابع المتبوع الإمام محمد بن عبد الوهاب، يغزو بنفسه مع محمد بن سعود، ولا يبخل بالرأي السديد، وكان من أبرز رجال القيادة العليا، حتى إذا اختلف في الرأي بينه وبين غيره؛ قدم رأيه، لأنه يسير بهدي الله ونوره.

9- وكان محمد عليه الصلاة والسلام يرسل الرسل للملوك، يدعوهم إلى الهدى ودين التوحيد، ويرسل السرايا للغزو، إن أعلنوا الحرب على الدعوة. وكان ابن عبد الوهاب يفعل ذلك أيضاً، متبعاً سنة رسولنا عليه الصلاة والسلام. 10- وكما ابتلى الرسول بأعداء أقوياء، لدد في الخصومة، ينفسون عليه، ويتهمونه بالسحر والكذب، حتى إن أقرب ذوي قرباه كانوا في حيرة من أمره، وحتى إن عمه أبا لهب كان لا يرضى عنه، وخاصمه وسفه حلمه، ولم يأل جهداً في تأليب الناس عليه. ابتلى ابن عبد الوهاب أيضاً بخصوم أشداء، نصبوا له الحبائل، ورشقوه بالسهام، ولكنها كانت تطيش وكان ينجو، بفضل الله، حتى أخوه سليمان، ونقد آرائه ودعوته وطريقته نقداً لاذعاً1. 11- وكما انتصر الرسول على أعدائه، وخضعوا له، وأصبحوا من خيرة أنصاره، كعمر، وخالد، وعمرو بن العاص. فكذلك انتصر تابعه المخلص الأواه على مناوئيه، وأتوا إليه معتذرين، فإذا به يعفو كرماً، ويرتاح إليهم، ويصفح عنهم. وإذا بهم يعودون إخوة وأنصاراً مخلصين2.

_ 1 ثم إن سليمان المذكور اتضح له الحق فتاب إلى الله، ووفد على اخيه الشيخ محمد رحمه الله في الدرعية، واستقر بها حتى توفاه الله، كما ذكر ذلك العلامة ابن بشر في حوادث سنة 1190 في كتابه "عنوان المجد". عبد العزيز بن عبد الله بن باز 2 جله منقول من كتاب محمد بن عبد الوهاب، لأحمد عبد الغفور، لكن باختصار في بعض العبارات، وزيادة في البعض.

أثر الدعوة في البلاد النجدية: 1- قضت هذه الدعوة المباركة قضاءً تاماً على ما كان شائعاً في "نجد" من الخرافات، وما كان شائعاً من تعظيم القبور والنذر لها، والاعتقاد في بعض الأشجار، وأحيت معالم الشريعة بعد اندثارها. 2- إن أهل نجد قد رجعوا إلى التوحيد الخالص من شوائب الشرك والوثنية، كما رجعوا إلى الكتاب والسنة المطهرة، وحكموها في جليل الأمور وحقيرها. 3- كانوا متفرقين، لا تجمعهم رابطة، ولا يجمعهم حكم شرعي، ولا قانوني، بل كانوا مختلفين ومتفرقين، في المشارب والنهزعات. فوحّدت هذه الدعوة كلمتهم، وجمعت شملهم، وجعلتهم تحت راية واحدة وأخضعتهم لسلطان واحد، يسوسهم بكتاب الله المجيد، وسنة رسوله. 4- كانوا في نهاية من الجهل والغباوة، إلى حد أن اعتقدوا في الأشجار والغيرام. فنشرت الدعوة فيهم علوم الشريعة المطهرة، وآلاتها من: التفسير، والحديث، والتوحيد، والفقه، والسير، والتواريخ، والنحو، وما إلى ذلك من العلوم. وأصبحت الدرعية كعبة العلوم والمعارف، يفد إليها طلاب العلوم من سائر النواحي من أرجاء نجد، واليمن، والحجاز، والخليج العربي، وانتشر العلم في جميع الطبقات، حتى قال المؤرخون: أصبح الراعي يرعى المواشي في الفيافي، ولوح التعليم في عنقه. حتى من قوة انتشار العلم وسريانه ظهر العلماء الراسخون، وألّفوا الكتب القيمة في مختلف العلوم، بعد ذلك الجهل العظيم الذي خيّم على أرجاء نجد، وتركها تتخبط في دياجير الظلمات والأوهام.

5- انتشر الأمن في جميع أرجاء نجد، حتى كان الماشي والراكب يمشي المسافات الطويلة، ذات اليالي والأيام، لا يخاف إلا الله، ولو كان عنده من الأموال ما تنوء بحملها عصبة من الرجال. 6- لم تكن نجد معروفة لدى الأمم، وكانت حقيرة، وليس لها حساب، ولا ميزان، ولا قيمة، ولم يكن لها ملِك ولا حاكم معروف، ما عدا بعض الأمراء الصغار الذين كانوا يحكمون قرية أو قريتين؛ فأصبحت نجد ببركة هذه الدعوة مملكة موحّدة، طار صيتها في الآفاق، ووضعت في صف الأمم. وكانت الدولة إذ ذاك الدولة العثمانية، حسبت لها ألف حساب وحساب، وخافت على سلطتها وسيطرتها من هذه الدولة السعودية المباركة، حتى جرت الجيوش الجرارة لمحاربتها وإماتتها. 7- إنه بقي من آثارها: هذه الدولة السعودية الحاضرة، الممتد سلطانها من الخليج العربي شرقاً إلى البحر الأحمر غرباً، دولة الكتاب والسنة والتوحيد النقي. دولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دولة نشرت العدل والأمن والسلام. دولة عززت من مركز العلم، وقامت بنشره بين جميع أفراد الرعية، وكل من يفد إليها، فأسست المعاهد العلمية والكليات، والمدارس وأنفقت الأموال الطائلة للمدرسين والدارسين، سواء كانوا من الوطنيين، أو من غيرهم. دولة تمثل الصدر الأول والسلف الصالح في أحكامها، وهيمنتها على الأخلاق، وتحكيمها للكتاب والسنة. دولة تسهر على مصالح الرعية، وتعمل لرفاهية الشعب، ومحاربة الفقر، ورفع مستوى المعيشة، كما تسهر على راحة الحجاج، وبذل جميع الوسائل لرفاهية الحجاج، وتذليل جميع العقبات أمامهم، وترغيبهم في العودة المرّة بعد المرة إلى حج بيت الله الحرام، وزيارة المسجد النبوي، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام.

وبالجملة؛ فهي أحسن الدول العربية في تحكيم الشرع، ونشر الأمن والعدل والعلم، ومحاربة أهل البدع والضلال، والأخذ على أيدي السفهاء والعابثين بالأخلاق، والمنتهكين الحرمات. أيدها الله، ووفقها للخير والنفع العام. انتشارها في الخارج: انتشرت دعوة الشيخ في خارج نجد من أجل استيلاء الدولة السعودية على مكة المكرمة سنة 1218هـ، وأصبح حجاج البلاد الإسلامية يفدون إلى مكة المكرمة، ويشاهدون علماء هذه الدعوة الحقة، ويستمعون خطبهم ومواعظهم، وإرشاداتهم السديدة، وتوجيهاتهم القيمة، كما شاهدوا سيرة الدولة السعودية إذ ذاك، وما هي عليه من الاعتصام بالكتاب والسنة، ونشر الأمن والعدل والإنصاف. فتأثر بعض الحجاج بدعوة الشيخ، فأخذ ينشر في بلاده التوحيد، ويحارب الخرافات الشائعات في بلاده، كما قام بضد القبوريين والداعين إلى تقديس القبور وبناء القباب عليها. فانتقلت هذه المبادئ الإصلاحية إلى السودان في إفريقيا، وسومطرة في آسيا والهند. كما انتشرت في العراق والشام ومصر والجزائر وجاوة، وعمان، وفارس، وكان هدف رعاتها في كل مكان تحل به هو: محاربة الفساد، والقضاء على البدع والخرافات، وتصحيح العقيدة الدينية. فقامت الثورات على يد دعاة الوهابيين ضد الوضاع السائدة في البلاد. أما في السودان فقد كان الداعية هو الشيخ عثمان بن فودي، أحد أفراد قبيلة الفولا، وهي من قبائل رعاة السودانيين، فإنه بعد التقائه بعلماء الدعوة في موسم الحج، وبعد اعتناقه المبادئ التي دعا إليها الشيخ؛ عاد إلى بلاده، وأخذ يحارب البدع الشائعة بين عشيرته وقومه، ويعمل للقضاء على بقايا الوثنية وعبادة الأموات، التي كانت لا تزال مختلطة بالعقيدة الإسلامية في

نفوس السودانيين، وأخذ ينشر تعاليم الدين الإسلامي الصحيحة، ويذيع مبادئ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فاستطاع أن يجمع حوله قبيلته في وحدة متماسكة، مرتبطة برباط الدين المتين، بعد أن كانت منقسمة إلى عدة وحدات ضعيفة متخاذلة. وبعد ذلك ابتدأ حروبه سنة 1802م ضد قبائل الهوسا الوثنية، وقضى على مملكة غبر، التي كانت تقع على مجرى نهر النيجر. وما مضت سنتان، حتى أقام عثمان مملكة (سوكوتو) في السودان على أساس من الدعوة الدينية الوهابية، ومدت رواقها على جميع الأقطار الواقعة بين (تمبكتو) وبحيرة (تشاد) ، وبقيت محافظة على استقلالها ووحدتها نحو قرن، حتى استطاع الاستعمار الأوربي، أن يقضي على ما كان لها من استقلال ووحدة. وكما غزت الدعوة الوهابية السودان، كذلك غزت الدعوة بعض المقاطعات الهندية بواسطة أحد الحجاج الهنود، وهو السيد أحمد. وقد كان هذا الرجل من أمراء الهند، وذهب إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، بعد أن اعتنق الإسلام سنة 1816 م. فلما التقى بالوهابيين في مكة اقتنع بصحة ما يدعون إليه، وأصبح من دعاة المذهب، الذين تملكهم الإيمان، وسيطرت عليهم العقيدة. ولما عاد سنة 1820م إلى وطنه في الهند بجهة البنغال، وجد ميداناً صالحاً للدعوة بين سكان المنطقة من الهنود المسلمين، الذين اختلطت عقائدهم وتقاليدهم الدينية بالكثير من عقائد الهندوس وعوائدهم. فابتدأ الدعوة في مدينة (بتين) ، ودعا إخوانه المسلمين ليؤمنوا بمبادئ الإسلام الصحيحة، ويتركوا البدع والعقائد الهندوسية، التي كانت شائعة بنيهم. وبعد مرحلة من الجهاد استطاع هؤلاء المسلمون الوهابيون أن يقيموا الدولة الإسلامية على أساس من المبادئ الوهابية، بجهة البنجاب، تحت حكم الداعية السيد أحمد.

ولم تلبث هذه الدولة طويلاً، حتى قضى عليها الاستعمار الإنكليزي في العقد الرابع من القرن التاسع عشر. ولكن الدعوة الوهابية ظلت قائمة هناك على يد خلفاء السيد أحمد من بعده، ولم يستطع المستعمرون أن ينالوا منها. ولا يزال الكثيرون من سكان هذه المناطق يدينون بالإسلام على المذهب الوهابي. وفي سومطرة ابتدأت الدعوة الوهابية سنة 1803م على يد أحد الحجاج من أهل الجزيرة، وكان قد عاد من الحج في نفس السنة، بعد أن التقى بالوهابيين، واطلع على صحة ما يدعون إليه. فلما عاد إلى وطنه ابتدأ دعوته، ثم تطورت الحركة إلى حروب طاحنة بين المسلمين والوهابيين، الذين أصبحوا قوة كبيرة في سومطرة، وبين غير المسلمين من سكانها الأصليين، حتى رأت حكومة الاستعمار الهولندية سنة 1821م أن تناهض هذه الحركة القوية، محافظة على كيانها ونفوذها هناك. واستمرت المناوشات والحروب بين المستعمرين الهولنديين، وبين السومطرين الوهابيين، مالا يقل عن ستة شعر عاماً. ثم انتهت بتغلب قوى الاستعمار على القائمين بحركة الوهابية. كذلك الحركة السنوسية، التي ابتدأت في الجزائر أواسط القرن التاسع عشر، ثم غزت طرابلس بعد ذلك، وانتشرت في شمال أفريقيا، ثم مدت رواقها نحو الجنوب، فتمكنت في السودان هذه الحركة السنوسية، التي ناهضت الاستعمار في كل مكان، والتي كانت ولا زالت مدرسة تربية وتهذيب للشعب السنوسي، قد تأثرت بالدعوة الوهابية في أساسها. فالسيد محمد علي السنوسي، مؤسس الحركة السنوسية، كان في مكة يطلب العلم وقت استيلاء الوهابيين عليها، فعاشرهم، وتتلمذ على علمائهم، وتأثر بمذهبهم.

ثم عاد إلى الجزائر، وابتدأ حركته الإصلاحية على ضوء تعاليم الإصلاح الدينية الإسلامية، التي أضرم نارها في الجزيرة العربية: محمد بن عبد الوهاب. انتهى بحذف واختصار1. وكما انتشرت في الجزائر بواسطة الدعوة السنوسية، فقد انتشرت هذه الدعوة المباركة بحضرموت، وجاوة بواسطة السيد محمد رشيد رضا، وتأليفه جمعية الإرشاد الداعية هناك إلى الكتاب والسنة، ونبذ البدع والخرافات، بق مبادئ الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وقد تأثر فيها كثيرون بحضرموت، وعدن، وجاوة، كما هو معروف. بالجملة؛ فقد كان لهذه الدعوة أثر عظيم خطير في العالم الإسلامي من نواح مختلفة، وكانت الشعلة الأولى لليقظة الحديثة في العالم الإسلامي كله تأثر بها زعماء الإسلاح في سائر الأقطار الإسلامية، وكل الحركات الإصلاحية مدينة للدعوة الوهابية. ويمكن تحديد الصلة بينها وبين كل من هذه الحركات، إما عن طريق الاقتباس، أو المحاكاة، أو مجرد التأثر. ثناء العلماء على الشيخ محمد بن عبد الوهاب من المسلمين والغربيين الكافرين: أكثر العلماء السلفيون والمؤرخون المحققون من الثناء على الشيخ، والتنويه بدعوته القائمة على دعائم الكتاب والسنة. من ذلك: قصيدة الشيخ: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، مؤلف "سبل السلام"، لما بلغه دعوة الشيخ وثورته على البدع والخرافات، وقيامه بالدين الصحيح، والسنة المطهرة، وإرشاد الناس إلى أن يتمسكوا بالوحيين. وإلى القارئ بعض القصيدة: سلامي على نجد ومن حل في نجد وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي وقد صدرت من سفح صنعا سقى الحيا رباها وحياها بقهقهة الرعد

_ 1 من كتاب "النهضات الحديثة" لابن ماضي.

سرت أسير بنشد الريح أن سرت ألا يا صبا نجد متىهجت من نجد قفي واسألي عن عالم حل سوحها به يهتدي من ضل عن منهج الرشد محمد الهادي لسنة أحمد فيا حبذا الهادي وياحبذا المهدي لقد أنكرت كل الطوائف قوله بلا صدر في الحق منهم ولا ورد وما كل قول بالقبول مقابل وما كل قول واجب الرد والطرد سوى ما أتى عن ربنا ورسوله فذلك قول جل، ياذا، عن الرد وأما أقاويل الرجال إنها تدور على قدر الأدلة في النقد وقد جاءت الأخبار عنه بأنه يعيد لنا لاشرع الشريف بما يبدي وينشر جهراً ما طوى كل جاهل ومبتدع منه، فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادماً مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا بها معنى سواع ومثله يغوث وود، بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة أهلت لغير الله جهراً على عمد وكم طائف حول القبور مقبل ومستلم الأركان منهن باليد لقد سرني ماجاءني من طريقه وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي يصب عليه صوت ذم وغيبة ويجفوه من قد كان يهواه عن بعد ويعزي إليه كل مالاً يقوله لتنقيصه عند التهامي والنجدي فيرميه أهل الرفض بالنصب فرية ويرميه أهل النصب بالرفض والجحد وليس له ذنب سوى أنه أتى بتحكيم قول الله في الحل والعقد ويتبع أقوال النبي محمد وهل غيره بالله في الشرع من يهدي لئن عده الجهال ذنباً فحبذا به حبذا يوم انقرادي في لحدي سلامي على أهل الحديث فإنني نشأت على حب الأحاديث من مهدي هم بذلوا في حفظ سنة أحمد وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد

أأنتم أهدى من صحابة أحمد وأهل الكساء هيهات ما الشوك كالورد أولئك أهدى في الطريقة منكمو فهم قدوتي حتى أوسد في لحدي إلى آخر ما جاء في تلك القصيدة ومنهم: الشيخ: محمد بن أحمد الحفظي، صاحب دوجال من قرى عسير، فقد نظم أرجوزة طويلة، ذكر دعوة الشيخ، وأثنى عليه ثناءً حسناً، افتتح الأرجوزة بقوله: الحمد حقاً مستحقاً أبداً لله رب العالمين سرمداً إلى أن قال: مصلياً على الرسول الشارع وأهله وصحبه والتابع في البدء والختم، وأما بعد: فهذه منظومة تعد حركني لنظمها الخير الذي قد جاءنا في آخر العصر القذي لما دعا الداعي من المشارق بأمر رب العالمين الخالق وبعث الله لنا مجدداً من أرض نجد عالماً مجتهداً شيخ الهدى محمد المحمدي الحنبلي الأثري الأحمدي فقام والشرك الصريح قد سرى بين الورى وقد طغى واعتكرا لا يعرفون الدين والتهليلا وطرق الإسلام والسبيلا إلا أساميها وباق الرسم والأرض لا تخلو من أهل العلم وكل حزب فلهم وليجة يدعونه في الضيق للتفريجة وملة الإسلام والأحكام في غربة وأهلها أيتام دعا إلى الله وبالتهليلة يصرح بين أظهر القبيلة مستضعفاً وماله من ناصر ولا له مساعد موازر في ذلة وقلة وفي يده مهفة تغنيه عن مهنده كأنها ريح الصبا في الرعب والحق يعلو بجنود الرب قد أذكرتني درة لعمر وضرب موسى بالعصا للحجر

ولم يزل يدعو إلى دين النبي ليس إلى نفس دعا أو مذهب يعلم الناس معاني أشهد أن لا إله غير فرد يعبد محمداً نبيه وعبده رسوله إليكمو وقصده أن تعبدوه وحده لا تشركوا شيئاً به والابتداع فاتركوا ومن دعا دون الإله أحداً أشرك بالله ولو محمداً إن قلتمو نعبدهمو للقربة أو للشفاعة فتلك الكذبة وربنا يقول في كتابه هذا هو الشرك بلا تشابه هذا معاني دعوة الشيخ لمن عاصره فاستكبروا عن السنن رثاء الشيخ العلامة: محمد بن علي الشوكاني، مؤلف "نيل الأوطار"، للشيخ: محمد بن عبد الوهاب، ومثنياً عليه: مصاب دها قلبي فأذكى غلائلي وأصمي بسهم الافتجاع مقاتلي وخطب به إعشار أحشاي صدعت فأمست بفرط الوجد أي تواكلي ورزء تقاضاني، صفاء معيشتي وانهلني قسراً أمر المناهل مصاب به ذابت حشاشة مهجتي وعن حمله قد كل متني وكاهلي مصاب به الدنيا قد اغبر وجهها وقد شمخت أعلام قوم أسافل

به انهدر كن الدين وانبت حبله وشيد بناء الغي مع كل باطل وقام على الإسلام جهراً وأهله نعيق غراب بالمذلة هائل وسيم منار الأتباع لأحمد هوان انهدام جاء من كل جاهل لقد مات طود العلم قطب رحى العلا ومركز أدوار الفحول الأفاضل ماتت علوم الدين طراً بموته وغيب وجه الحق تحت الجنادل إمام الهدى ما حي الردى قامع العدا ومروي الصدى من فيض علم ونائل إمام الورى علامة العصر قدوتي وشيخ الشيوخ الجد فرد الفضائل (محمد) ذو المجد الذي عز دركه وجل مقاماً عن لحوق المطاول إلى عابد الوهاب يعزي وإنه سلالة انجاب زكي الخصائل عليه من الرحمن أعظم رحمة تيل ثراه بالضحى والأصائل لقد أشرقت نجد بنور ضيائة وقام مقامات الهدى بالدلائل ومن شأنه قمع الضلال ونصره لمن كان مظلوما وليس بخاذل وكم كان في الدين الحنيف مجاهدا بماضي سنان دامغ للأباطل وكم ذب عن سامي حماه وذاد من مضل وبدعي ومعفو ونائل ففيم استباح أهل الضلالة لعرضة وكم نكست أعلامة والأرازل فلولاه لم تحرز رحى الدين مركزا ولا اشتد للاسلام ركن المعاقل ولا كان للتوحيد واضح لا حب يقيم أعوجاج السير من كل عاذل فما هو إلا قائم في زمانه مقام النبي في إماته باطل ستبكيه أجفاني حياتي وإن أمت ستبكية عني جفن حقا وأرتحلت بباطل أفق يا معيب الشيخ ماذا تعيبة لقد عبت حقا وأرتحلت بباطل نعم ذنبه التقليد قد جد حبله وبل التعصب بالسيوف الصياقل ولما دعا الله في الخلق صارخاً صرختم له بالقذف مثل الزواجل أفيقوا أفيقوا إنه ليس داعياً لإلي دين آباء له وقبائل دعا لكتاب الله والسنة التي أتانا بها طه النبي، خير قائل

وقال الشيخ: حسين بن غنام الإحسائي، رحمه الله، مؤلف "روضة الأفكار والأفهام"؛ يرثي الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، ويثني عليه بما هو أهله: إلى الله في كشف الشدائد نفزع وليس إلى غير المهيمن مفزع لقد كسفت شمس المعارف والهدى فسالت دماء في الخدود وأدمع إمام أصيب الناس طراً بفقده وطاف بهم خطب من البين موجع وأظلم أرجاء البلاد بموته وحل بهم كرب من الحزن مفظع شهاب هوى من أفقه وسمائه ونجم ثوى في الترب وأراه بلقع وكوكب سعد مستنير سناؤه وبدر له في منزل اليمن مطلع وصبح تبدي للأنام ضياؤه فداج الدياجي بعده متقشع لقد غاض بحر العلم والفهم والندى وقد كان فيه للبرية مرتع فقوم جلاعنهم صدى الرين فاهتدوا فأسماعهم للحق تصغى وستمع وقوم ذووا فقر وجهد وفاقة حووا واقتنوا مافيه للعيش مطمع لقد رفع المولى به رتبة الهدى بوقت به يعلى الضلال ويرفع أبان له من لمعة الحق لمعة أزيل بها عنه حجاب وبرقع سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى وعام بتيار المعارف يقطع فأحيا به التوحيد بعد اندراسه وأقوى به من مظلم الشرك مهيع فأنواعر صبح السحق باد سناؤها ومصابحه عال ورياه طيع سما ذروة المجد التي ما ارتقى لها سواه ولا حاذى سناها سميدع وشمر في منهاج سنة أحمد يشيد ويحي ما تعفى ويرفع وينفي الأعادي عن حماه وسوحه ويدمغ أرباب الضلال ويدفع يناظر بالآيات والسنة التي أمرنا إليها في التنازع نرجع فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها وأمسى محياها يضي ويلمع وعاد به نهج الغواية طامساً وقد كان مسلوكاً به الناس تربع وجرت به نجد ذيول افتخارها وحق بالألمعي ترفع

فآثار فيها سوام سوافر وأنواره فيها تضئ وتسطع لقد وجد الإسلام يوم فراقه مصاباً خشيناص بعده يتصدع وطاشت أولو الأحلام والفضل والنهي وكادت له الأرواح تترى وتتبع وطارت قلوب المسلمين بموته فظنوا به أن القيامة تقرع فضجوا جميعاً بالبكاء تاسفاً وكادت قلوب بعده تتفجع وفاضت عيون واستهلت مدامع يخالطها مزج من الدم يهمع بكته ذووا الحاجات يوم فراقه وأهل الهدى والحق والدين أجمع إلى أن قال: لئن كان في الدنيا له القبر موضع فيوم الجزاء يرجى له الخلد موضع سقى قبره من هاطل العفو ديمة وباكره سحب من البر همع وأسكنه بحبوحة الفوز والرضا ولا زال بالرضوان فيها يمتع وقال الشيخ: عمران بن علي بن رضوان، من سكان لنجه، من البلدان الفارسية؛ رداً على بعض الملحدين، ومثنياً على الشيخ؛ قصيدة أجاد فيها وأفاد. أولها: جاءت قصيدتهم تروح وتغتدي في سب دين الهاشمي محمد قد زخرفوها للطغام بقولهم إن الكتاب هو الهدى فبه اقتد لو أن ناظمها تمسك بالذي قد قال فيها أولاً إذ يبتدي لهدى ووفق ثم جاز سعادة لا شك فيها عند كل موحد لكنه قد زاع عما قاله متأولاً فيه بتأويل ردي فأتت كشهد فيه سم ناقع من ذاق منه ففي الهلاك المبعد الشيخ شاهد بعض أهل جهالة يدعون أصحاب القبور الهمد تاجاً وشمساناً ومن ضاهاهما من قبة أو تربة أو مشهد يرجون منهم قربة وشفاعة ويؤملون كذلك أخذاً باليد ورأى لعباد القبور تقرباً بالنذر والذبح الشنيع المفسد

ما أنكر القراء والأشياخ ما شهدوا من الفعل الذي لم يحمد بل جوزوه وشاركوا في أكله من كان يذبح للقبور ويفتدي فأتاهم الشيخ المشار إليه بالنسح المبين وبالكلام الجيد يدعوهم لله أن لا يعبدوا إلا المهيمن ذا الجلال السرمد لا يشركوا ملكاً ولا من مرسل كلا ولا من صالح أو سيد فتنافروا عنه وقالوا ليس ذا إلا عجيب عندنا لم يعهد ما قاله آباؤنا أيضاً ولا أجدادنا أهل الحجي والسؤدد إنا وجدنا جملة الآبا على هذا فنحن بما وجدنا نفتدي فالشيخ لما أن رأى ذا الشأن من أهل الزمان اشتد غير مقلد ناداهم يا قوم كيف جعلتم لله أنداداً بغير تعدد لو أنصفوا لرأوا له فضلاً على أظهرا ما قد ضيعوه من اليد ودعوا له بالخير بعد مماته ليكافئوه على وفاق المرشد لكنهم قد عاندوا، وتكبروا ومشوا على منهاج قوم حسد ورموه بالبهتان والإفك الذي هم يعملون به ومنهم يبتدي كمقالهم هو للمتابع قاطع بدخول جنات وحور خرد حاشا وكلا ليس هذا شأنه بل إنه يرجو بها لموحد قالوا له يا كافراً يا فاجراً ما ضره قول العداة الحسد قالت قريش قبلهم للمصطفى ذا ساحر، ذا كاهن، ذا معتدي قالوا له غشاش أمة أحمد وهو النصيح بكل وجه يبتدي هل قال إلا وحدوا رب السما وذروا عبادة ما سوى المتفرد وتمسكوا بالسنة البيضا، ولا تتنطعوا بزيادة وتردد هذا الذي جعلوه غشا وهو قد بعثت به الرسل الكرام لمن هدى من عهد آدم ثم نوح هكذا تترى إلى عهد النبي محمد وكذلك الخلفاء بعد نبيهم والتابعون وكل حبر مهتدي من هاجهم هذا عليه تمسكوا من كان مستناً بهم فليقتد

ومن قصيدة: للشيخ أحمد بن مشرف الأحسائي، وفي مدح فيصل بن تركي، وذكر فيها عن الشيخ: وأووا إماماً قام لله داعياً يسمى بشيخ المسلمين محمد لقد أوضح الإسلام عند اغترابه وقد جد في إخفائه كل ملحد وجدد منهاج الشريعة إذ عفت فأكرم به من عالم ومجدد وأحيا بدرس العلم دارس رسمها كما قد أمات الشرك بالقول واليد فكم شبهة للمشركين أزاحها بكل دليل كاشف للتردد وألف في التوحيد أوجز نبذه بها قد هدى الرحمن للحق من هدى نصوصاً من القرآن تشفي من العمى وكل حديث للأئمة مسند فوازروه عبد العزيز ورهطه على قلة منهم وعيش منكد فما خاف في الرحمن لومة لائم ولم يثنه صولات باغ ومعتدي قال علامة العراق، السيد: محمود شكري الألوسي - رحمه الله - في آخر تاريخه لنجد: "كان الشيخ محمد من بيت علم في نواحي نجد، وكان أبوه الشيخ: عبد الوهاب عالماً فقيهاً على مذهب الإمام أحمد، وكان قاضياً في بلد العيينة، ثم في حريملاء، وذلك في أوائل القرن الثاني عشر، وله معرفة تامة بالحديث والفقه، وله أسئلة وأجوبة. وكان والد عبد الوهاب الشيخ: سليمان عالماً، فقيهاً، أعلم علماء نجد في عصره، له اليد الطولى في العلم، وانتهت إليه رياسة العلم في نجد صنف ودرس وأفتى. إلا أن الشيخ محمداً لم يكن على طريقة أبيه وجده، وكان شديد التعصب للسنة، كثير الإنكار على من خالف الحق من العلماء. والحاصل: أنه كان من العلماء الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وكان يعلم الناس الصلاة وأحكامها، وسائر أركان الدين، ويأمر بالجماعات.

وقد جَدَّ في تعليم الناس، وحثهم على الطاعة وأمرهم بتعلم أصول الإسلام، وشرائطه، وسائر أحكام الدين، وأمر جميع أهل البلاد بالمذاكرة في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح، وبين العشائين، بمعرفة الله، ومعرفة دين الإسلام، ومعرفة أركانه، ومعرفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونسبه ومبعثه وهجرته. وأول مادعا إليه كلمة التوحيد، وسائر العبادات التي لا تنبغي إلا لله، كالدعاء، والذبح، والنذر، والخوف، والرجاء، والخشية، والرغبة، والتوكل، والإنابة، وغير ذلك. فلم يبق أحد من عوام أهل نجد، جاهلاً بأحكام دين الإسلام بل كلهم تعلموا ذلك، بعد أن كانوا جاهلين، إلاالخواص منهم. وانتفع الناس به من هذه الجهة الحميدة أي سيرته المرضية وإرشاده النافع" انتهى. الأمير: شكيب أرسلان، في الجزء الرابع من حاضر العالم الإسلامي، تحت عنوان: "تاريخ نجد الحديث". ذكر ولادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ثم قال: "طلب محمد بن عبد الوهاب العلم في دمشق1، ورحل إلى بغداد والبصرة، وتشرّب مبادئ الحافظ حجة الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن عروة الحنبلي، وغيرهم من فحول أئمة الحنابلة، وأخذ يفكر في إعادة الإسلام لنقاوته الأولى، فلذلك، الوهابية يسمون مذهبهم عقيدة السلف2.

_ 1 أراد الذهاب إلى الشام، فقلّت نفقته، فرجع من بغداد. 2 نعم، ولهم الحق، لأنهم لم يخالفوا السلف قيد أنملة، وكتبهم ناطقة بذلك.

ومن هناك أنرك الاعتقاد بالأولياء وزيارة القبور1 والاستغاثة بغير الله، وغير ذلك مما جعله من باب الشرك واستشهد على صحة آرائه بالآيات القرآنية والأحاديث المصطوفية، ولا أظنه أورد ثمة شياً عير ما أورده ابن تيمية"انتهى. الشيخ: محمد حامد الفقي، رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية، من علماء الأزهر الشريف، في كتابه: "أثر الدعوة الوهابية" قال: "الوهابية: نسبة إلى الإمام المصلح شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، مجدد القرن الثاني عشر، وهي نسبة على غير القياس العربي، والصحيح أن يقال: المحمدية، إذ إن اسم صاحب هذه الدعوة والقائم بها هو محمد، لا عبد الوهاب". ثم قال بعد كلام: "وإنهم لحنابلة متعصبون لمذهب الإمام أحمد في فروعه ككل أتباع المذاهب الأخرى، فهم لا يدّعون، لا بالقول، ولا بالكتابة أن الشيخ ابن عبد الوهاب أتى بمذهب جديد، ولا اخترع علماً غير ما كان عند السلف الصالح، وإنما كان عمله وجهاده لإحياء العمل بالدين الصحيح، وإرجاع الناس إلى ما قرره القرآن في توحيد الإلهية والعبادة لله وحده؛ ذلاً، وخضوعاً، ودعاءً، ونذراً وحلفاً، وتوكلاً، وطاعة لشرائعه. وفي توحيد الأسماء والصفات: فيؤمن بآياتها كما وردت، لا يحرف ولا يؤول، ولا يشبه، ولا يمثل، على ما ورد في لفظ القرآن العربي المبين، وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الصحابة وتابعوهم والأئمة المهتدون، من السلف والخلف رضوان الله عليهم، في كل ذلك وأن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لا يتم على وجه الصحيح، إلا بهذا". انتهى بتلخيص.

_ 1 لم ينكر الزيارة المطلوبة شرعاً، المقصود بها: تذكر الإنسان الموت والدار الآخرة، والدعاء للمقبور، وإنما أنكر الزيارة البدعية المشتملة على الاشراك، كالاستغاثة، أو وسائل الشرك كالصلاة لله عند القبور، والدعاء عندها.

كلام: عبد المتعال الصعيدي، في كتابه "المجددون في الإسلام" قال عنه: "هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب". ثم ذكر ولادته ونشأته، ورحلاته لتحصيل العلوم، ثم قال: وقد رجع إلى بلده بعد هذه الرحلة العلمية الطويلة، وقد تهيأ له بها مالم يتهيأ لغيره من علماء نجد، فكان أوسع منهم علماً، وأعرف بالعلماء السابقين الذين كانت لهم جولة في الإصلاح، ولم يقع في ذلك الجمود ولاركود، الذي وقع فيه علماء عصره حتى ألفوا ما فيه من البدع وأخذوها على أنها من أصول الدين وأركانه. فلما عاد الشيخ إلى بلده، لم يرض بما رضي به علماء نجد، من السكوت على تلك البدع، وأراد أن يعيد في محاربتها عهد أسلافه من الحنابلة، ولا سيما الشيخ ابن تيمية رحمه الله. وكان قد درس كتبه ورسائله الإصلاحية، فيما درسه في نشأته. وأخذ يدعو إلى مثل ما دعا إليه ابن تيمية قبله، من التوحيد بالعبادة لله وحده، وإنكار التوجه إلى أصحاب القباب والقبور، وغنكار التوسل بالأولياء والأنبياء إلى الله في قضاء الحاجات. وقد بدأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوته في بلده يلين ورفق ثم أخذ يرسل بها إلى أمراء الحجاز وغيره من الأقطار. ولما رأى أهل بلده مثابرته على ذعوته، قاموا باضطهاده، فتركهم إلى بلدة الدرعية بنجد، وكان أميرها محمد بن سعود، فعرض عليه دعوته فقبلها، وقام بحمايتها ونشرها في بلاد العرب. ولم يزل الشيخ يقوم بدعوته في حماية هذه الإمارة، إلى أن مات رحمه الله سنة 1206 هـ"انتهى ملخصاً.

السيد: محمد رشيد رضا قال في التعريف بكتاب "صيانة الإنسان"، بعد أن ذكر فشو البدع بسبب ضعف العلم والعمل بالكتاب والسنة، ونصر الملوك والحكام لأهلها، وتأييد المعممين لها. قال رحمه الله ما نصه: "الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: لم يخل قرن من القرون التي كثر فيها البدع من علماء ربانيين، يجددون لهذه الأمة أمر دينها بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، كما ورد في الأحاديث. ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي، من هؤلاء العدول المجددين قام يدعو إلى تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده، بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وترك البدع والمعاصي وإقامة شعائر الإسلام المتروكة وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة. فنهدت لمناهضته واضطهاده، القوى الثلاث. قوة الدولة والحكام، ووقوة أنصارها من علماء النفاق، وقوة العوام الغام. وكان أقوى سلاحهم في الرد عليه، أنه خالف جمهور المسلمين. من هؤلاء المسلمون الذين خالفهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دعوته هم أعراب في البوادي، شر من أهل الجاهلية، يعيشون بالسلب والنهب، ويستحلون قتل المسلم وغيره لأجل الكسب، ويتحاكمون إلى طواغيتهم في كل أمر، ويجحدون كثيراً من أمور الإسلام المجمع عليها، التي لا يسع مسلماً جهلها، إلى آخر ما قال، عليه رحمه الله ذي الجلال.

كلام: أحمد بن عبد الغفور الحجازي، في كتابه "محمد بن عبد الوهاب": "كان محمد بن عبد الوهاب الشاب الناهض من أكبر أنصار الحرية الفكرية، المتمشي على نهج الإسلام، يدعوا إليها في إخلاص وحماس، واستطاع أن يتحرر من قيود البيئة، ويخرج على تقاليد قومه البالية. فثار ثورته المشهورة على الجمود والتأخر وحاربهما حرباً ضروساً قاسية، سائراً في كل شؤونه على الطريقة العلمية والنقد العليم النزيه"انتهى. الدكتور طه حسين قال: "إن الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب، لا يستطيع أن يهمل حركة عنيفة نشأت فيها أثناء القرن الثامن عشر، فلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب، واضطرته أن يهتم بأمرها، وأحدثت فيها آثاراً خطيرة، هان شأنها بعض الشئ ولكنها عادت فاشتدت في هذه الأيام وأخذت تؤثر لا في الجزيرة وحدها، بل في علاقاتها بالأمم الأوربية. هذه الحركة هي: حركة الوهابيين، التي أحدثها محمد بن عبد الوهاب، شيخ من شيوخ نجد". ثم ذكر نزراً يسيراً عن نشأة الشيخ، ورحلاته العلمية ودعوته إلى أن قال: "قلت: إن هذا المذهب الجديد قديم معنى، والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين، ولكنه قديم في حقيقة الأمر، لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص، النقي المطهر من شوائب الشرك والوثنية. هو الدعوة إلى الإسلام، كما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم خالصاً لله، ملغياً كل واسطة بين الله وبين الناس. هو إحياء للإسلام العربي وتطهير له، مما أصابه من نتائج الجهل، ومن نتائج الاختلاط بغير العرب

فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد، ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة والسيرة، إلى أن قال: ولولا أن الترك والمصريين، اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها، لكان من المرجو جداً أن يوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر، والثالث عشر الهجري، كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول. ولكن الذي يعنينا من هذا المذهب أثره في الحياة العقلية والأدبية عند العرب، فقد كان هذا الأثر عظيماً خطيراً من نواحٍ مختلفة. فهو قد أيقظ النفس العربية، فوضع أمامها مثلاً أعلى أحيته، وجاهدت في سبيله بالسيف والقلم والسنان. وهو لفت المسلمين جميعاً، وأهل العراق والشام ومصر بنوع خاص، إلى جزيرة العرب". انتهى من كتاب "محمد بن عبد الوهاب"، لأحمد عبد الغفور. حافظ وهبه، في كتابه: "جزيرة العرب" بعد أن ذكر نبذة يسيرة من تاريخ الشيخ، قال: "لم يكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب نبياً، كما ادعى نيبهر الدانمركي، ولكنه مصلح مجدد، داع إلى الرجوع إلى الدين الحق، فليس للشيخ محمد تعاليم خاصة، ولا آراء خاصة، وكل ما يطبق في نجد، هو طبق مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. وأما في العقائد فهم يتبعون السلف الصالح، ويخالفون من عداهم. وتكاد تكون تعاليمهم مطابقة تمام المطابقة لما كتبه ابن تيمية وتلاميذه في كتبهم، وإن كانوا يخالفونهم في مسائل معدودة في فروع الدين"انتهى.

محمد بن قاسم، في كتابه "تاريخ أوربا": "كان الوهابيون في عقيدتهم ومذهبهم على طريق أهل السنة والجماعة، والأساس الأصلي لمذهبهم، هو توحيد الله" اهـ. الأستاذ: منح هارون، في الرد على الكاتب الإنجليزي (كونت ويلز) ، قال ما يأتي: "ولما اتسعت حركة السعوديين في ذلك الحين، وأخذت تهدد العراق والشام والحجاز واليمن، لم تر السلطة العثمانية أو السياسة الغاشمة بداً من أن تعمل لصرف قلوب العرب عن هذا الأمير، يعني: عبد العزيز بن محمد بن سعود، الطامح لاسترداد مجد العرب، فأوعزت إلى بعض عمالها من المشايخ، فأخذوا يدسون على الشيخ ابن عبد الوهاب أقوالاً، ما أنزل الله بها من سلطان، ويتخذون من المسائل الخلافية بين مذهب الإمام أحمد، وبين المذاهب الإسلامية الأخرى وسيلة للطعن على الوهابيين، الذين ألصقوا بهم هذا الاسم؛ تضليلاً للرأي العام الإسلامي، وإيهاماً بأنهم ذوو مذهب جديد، غير معترف به، مع أنهم لم يخرجوا في شيء من مذهب الإمام أحمد، الذي هو مذهب السلف الصالح، ولم يقولوا شيئاً مبتدعاً في الدين، وكل ما قاله الشيخ ابن عبد الوهاب قال به غيره ممن سبقه من الأئمة الأعلام، ومن الصحابة الكرام، ولم يخرج في شيء عما قاله الإمام أحمد، وابن تيمية، رحمهما الله". عمر أبو النصر في كتاب: "ابن سعود" قال عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما يلي: "والواقع أن دعوة ابن عبد الوهاب ليست غير دعاية صالحة موفّقة لنبذ

البدع والمفاسد، التي نهكت دين الإسلام، والتي عمل بعض المشايخ على الترويج لها وذيوعها وانتشارها بين الناس. وإذا ذهبنا نبحث الدعوة في مصادرها، ونتولاها بالنقد والبحث والتحقيق وجدنا أنها لا تختلف عن مذهب الإمام أحمد ابن حنبل إلا في بعض التبسيط والتطويل: وليس للوهابيين مذهب خاص بدعى باسمهم، كما يقول بعض الحاملين عليهم، وإنما مذهبهم الإمام أحمد، وليس فيما يطلبونه ويدعونه غليه ما ينافي السنة ولا يتفق مع القرآن الكريم. وهم ينكرون هذا التضليل، الذي يحاوله بعض الشيوخ وغير الشيوخ، وهذا الإغراق في إقامة القباب حول الأضرحة والقبور والصلاة فيها، وإقامة المباخر وطلب الشفاعة من أصحابها. والإسلام ينهي عن هذا. وليس في الإسلام وسيط، وليس هناك من يشفع عنده إلا بإذنه: انتهى باختصار وحذف، من كتاب أحمد عبد الغفور". محمد كرد على، في "القديم والحديث" بعد أن ذكر فصلاً ممتعاً عن أصل الوهابية. قال: "وما ابن عبد الوهاب إلا داعية، هداهم من الضلال، وساقهم إلى الدين السمح وإذا بدت شدة من بعضهم، فهي ناشئة من نشأة البادية، وقلما رأينا شعباً من أهل الإسلام يغلب عليه التدين والصدق والإخلاص، مثل هؤلاء القوم. وقد اختبرنا عامتهم وخاصتهم، سنين طويلة، فلم نرهم حادوا عن الإسلام قيد غلوة، وما يتهمهم به أعداؤهم، فزور لا أصل له".

أحمد بن سعيد البغدادي، في كتابه "نديم الأديب" عن كتاب محمد بن عبد الوهاب، لأحمد عبد الغفور1. "وجميع ما ذكره المؤرخون عنها من جهة الاعتقاد محرف". عن كتاب محمد بن عبد الوهاب لأحمد عبد الغفور.

_ 1 إليك أيها القارئ نص كلام أحمد سعيد منقولاً بتمامه من كتاب "نديم الأديب" ص: 11: "وأما حقيقة هذه الطائفة: فإنها حنبلية المذهب، وجميع ما ذكر المؤرخون عنها من جهة الاعتقاد محرف، وفيه تناقض كلي لمن اطلع عليه بتأمّل، لأن غالب مؤرخي الشرقيين ينقلون عن الكتب الأفرنجية، فإن كان المؤرخ المنقول عنه صاحب دراية وصادق الرواية؛ تجد أن من يترجم كتابه يجعل الترجمة على قدر اللفظ، فيضيع مزية الأصل، وإن كان المؤرخ غير صادق الرواية فمن باب أولى. ومنهم من يقول: إن هذه الطائفة تنتهى عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأوصاف المدح والتعظيم، ويقول: إنها تؤمن بقدم القرآن. وبهذا يظهر بداهية التناقض، لأن من يؤمن بقدم القرآن يؤمن بما فيه، وفي القرآن الشريف مدح النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ، وآيات غير هذه كثيرة. أما ما نهى عنه محمد بن عبد الوهاب إنما هو الوصف بأوصاف الألوهية، كالقدرة، والإرادة، وعلم الغيب، كما وصف النصارى عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد". ومن أراد أن يعرف جلياً اعتقاد هذه الطائفة فليطالع صاحب مصر لهذه الطائفة، فقد ذكره المؤرخ الشهير الموسيو (سيديو) الفرنساوي، وكلامه هذا محذوف من ترجمة كتابه التي أمر بها المرحوم علي باشا مبارك، وخلاصة معناه هي: أن انكلترا وفرنسا حين علمتا بقيام محمد بن عبد الوهاب وابن سعود، وبانضمام جميع العرب إليهما، لأن قيامهما كان لإحياء كلمة الدين؛ خافتا أن ينتبه المسلمون فينضمون إليهما، وتذهب عنهم غفلتهم، ويعود الإسلام كما كان في أيام عمر رضي الله عنه فيترتب على ذلك حروب دينية، وفتوحات إسلامية، ترجع أوروبا منها في خسران عظيم، فحرضتا الدولة العلية على حربهم، وهي فوضت ذلك إلى محمد علي باشا، وحصل ما حصل، ولكل أجل كتاب، وهذه الطائفة بريئة مما ينسب إليها الجاهلون، ومن سبها يأثم. والله أعلم بغيبه وأحكم". انتهى ما كتبه المذكور في كتابه "نديم الأديب" بكماله. عبد العزيز بن عبد الله بن باز

الزركلي في "الأعلام" (الجزء السابع) قال: "محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي: زعيم النهضة الدينية الإصلاحية الحديثة في جزيرة العرب. ولد ونشأ في العيينة بنجد، ورحل مرتين إلى الحجاز، ثم ذهب إلى المدينة، ورحل إلى البصرة، وعاد إلى نجد، وسكن حريملا، ثم انتقل إلى العيينة، ناهجاً منهج السلف الصالح، وداعياً إلى التوحيد الخالص ونبذ البدع، وتحطيم ما علق بالإسلام من الأوهام. وكانت دعوته، الشعلة الأولى لليقظة الحديثة في العالم افسلامي كله، تأثر بها رجال الإصلاح، في الهند، ومصر، والعراق، والشام، وغيرها. فظهر الألوسي الكبير في بغداد، وجمال الدين الأفغاني بأفغانستان، ومحمد عبده بمصر، وجمال الدين القاسمي بالشام، وخير الدين التونسي بتونس، وصديق حسن خان في بهوبال، وأمير علي في كلكته. وعرف من ولاه، وشد أزره في قلب الجزيرة بأهل التوحيد (إخوان من أطاع الله) ، وسماهم خصومهم بالوهابية، نسبة إليه"انتهى بحذف واختصار. الدكتور: محمد عبد الله ماضي، في كتابه "حاضر العالم الإسلامي"، تحت عنوان: النهضة العربية السعودية، بعد كلام سابق، قال ما نصه: "كما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بين العرب، وهم في فوضى شاملة، وانحطاط عام، وتفكك وانحلال، ليس لهم وحدة تربطهم، ولا فكرة صالحة تجمعهم، فنشر مبادئ الإسلام، بينهم، وجمعهم على التوحيد، فوحّد بينهم في العقيدة، فأصبحوا يدينون بمبدأ واحد، ويعبدون الله وحده، فوحّد

بينهم في المظهر، وجعل منهم أمة واحدة عربية مسلمة، قوية عزيزة الجانب، وأقام لهم دولة على أساس من الدين الحنيف. فكذلك أخذ المصلح الديني، والزعيم الإسلامي: محمد بن عبد الوهاب في منتصف القرن الثاني عشر الهجري، يدعو إلى تصحيح العقيدة، والرجوع إلى مبادئ الإسلام الصحيحة، واعتناقها من جديد بين النجديين. وكانوا قد فسدت عقيدتهم، وضلت سيرتهم. وأخذ الزعيم السياسي النجدي محمد بن سعود، يناصر ابن عبد الوهاب في دعوته الدينية الإصلاحية، ويعمل على نشرها واعتناق الناس لها"انتهى. محمد ضياء الدين الريس، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة فؤاد الأول نشر في مجلة "الإرشاد" الكويتية التي كانت تصدر سابقاً، في العدد السادس من شهر رجب، سنة 1373 هجري بعنوان:" الحركة الوهابية"، قال بعد كلام: "مؤسس الدعوة هو: محمد بن عبد الوهاب، ولد في بلدة العيينة بإقليم العارض بنجد، عام 1703م، فتلقى العلم في موطنه، ثم رحل في سبيل الدراسة والمعرفة إلى المدينة ومكة، والإحساء، والبصرة، وبغداد، ودمشق، وقيل فارس أيضاً. فاكتسب من سياحته العديدة علماً غزيراً، وخبرة واسعة، ووقف على أحوال العالم الإسلامي، ثم قارن بين ما آلت إليه حاله وما كونه في ذهنه من أفكار عن المثل الدينية الصحيحة. فكانت نتيجة ذلك، هذا المذهب الجديد الذي عرف به، وحمل اسمه، وكان سبباً في خلق هذه الحركة الإصلاحية الخطيرة. والمذهب الوهابي، ليس مذهباً بالمعنى الصحيح، وهو لا يعدو أن يكون تفسيراً، أو وجهة نظر معينة، في فهم بعض نواحي الدين الإسلامي، وهو لا يخرج ـ في مجموعة ـ عن حدود المذاهب السنية المعترف بها.

والوهابيون يتبعون في فروع الأحكام حيث الفقه، مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وفي العقائد مذهب أهل السنة، وبخاصة كما قرروها وفسرها الإمام السني، العلامة ابن تيمية. وابن تيمية هو الأستاذ المباشر لابن عبد الوهاب، وإن فصل بينهما أربعة قرون. فقد قرأ كتبه وتأثر كل التأثر، بتعاليمه. والمبادئ الأساسية للدعوة الوهابية، هي تنقية معنى التوحيد من شوائب الشرك، ظاهرة وخفية، وإخلاص الدين لله، وعدم الالتجاء إلى غير الله، وعدم الغلو في تمجيد الرسول بما يخرجه عن حدود الطبيعة البشرية، وتحديد معنى الرسالة التي كلف بإبلاغها،. ومصادر العقيدة، هو الرجوع إلى مذهب السلف في فهم الدين، وتفسير آيات القرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وتكره الوهابية التعقيدات التي أدخلها المكلمون والفلاسفة والصوفية، ولا مانع من الاجتهاد، كما يرون ضرورة القيام بواجب الجهاد. وهذه الحركة كانت نهضة أخلاقية شاملة، ووثبة روحية جريئة ودعوة إلى دين الحق والإصلاح. فقد أيقظت العقول الراقدة، وحركت المشاعر الخامدة، ودعت إلى إعادة النظر في الدين، لتصفية العقيدة، وتطهير العقول من الخرافات والأوهام. فقد احتوت على مبدأين، كان لهما أكبر الأثر في تطور العالم الإسلامي وتقدمه، وهما: دعوة إلى الرجوع إلى مذهب السلف، مع الاعتماد على الكتاب والسنة وتقرير مبدأ الاجتهاد. فكان هذان المبدآن أساساً لنهضة فلسفية روحية.

والواقع: أن كل حركات الإصلاح التي ظهرت في الشرق، في القرن التاسع عشر، كانت مدنية للدعوة الوهابية، لتقرير هذه الأصول. ويمكن تحديد الصلة بينهما وبين كل من هذه الحركات، إما عن طريق الاقتباس أو المحاكات، أو مجرد التأثر". انتهى ملخصاً. عبد الكريم الخطيب، في كتابه "محمد بن عبد الوهاب.. العقل الحر" في الفصل الخامس: "الكلمة الطيبة كلمة مباركة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، لأنها كلمة الحق، والحق في ظل الله، يباركه وينتصر له. ودعوة محمد بن عبد الوهاب من الكلم الطيب، لأنها تستند إلى الحق، وتدعو له، وتعمل في سبيله، لهذا كانت دعوة مباركة، وفيرة الثمر، كثيرة الخير. لقد قام صاحبها يدعو إلى الله، لا يبغي بهذا جاهاً، ولا بطلب سلطاناً، وإنما يضيء للناس معالم الطريق، ويكشف لهم المعاثر والمزالق التي أقامها الشيطان وأعوان الشيطان". إلى أن قال: "والذي لا شك فيه أن الدعوة الوهابية، كانت أشبع بالقذيفة الصارخة، تنفجر في جوف الليل والناس نيام. كانت صوتاً راعاداً أيقظ المجتمع الإسلامي كله، وأزعج طائر النوم المحوم على أوطانهم منذ أمد بعيدا "هـ. الشيخ: محمد بشير السهسواني الهندي، مؤلف "صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان" قال عن الشيخ محمد: "إنه من المعلوم عند كل عاقل خَبَر الناس، وعرف أحوالهم، وسمع شيئاً من أخبارهم وتواريخهم؛ أن أهل نجد وغيرهم ممن تبع دعوة الشيخ واستجاب

لدعوته من سكان جزيرة العرب؛ كانوا على غاية من الجهالة والضلالة، والفقر، والعالة، لا يستريب في ذلك عاقل، ولا يجادل فيه عارف". إلى أن قال: "فمحا الله بدعوته شعار الشرك ومشاهده، وهدم به بيوت الكفر والشرك ومعابده، وكبت الطواغيت والملحدين، وألزم من ظهر عليه من البوادي وسكان القرى بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد والهدى، وكفر من أنكر البعث، واستراب فيه من أهل الجهالة والجفا. وأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وترك المنكرات والمسكرات، ونهى عن الابتداع في الدين، وأمر بمتابعة السلف الماضين في الأصول والفروع من مسائل الدين، حتى ظهر دين الله واستعلى واستبان بدعوته منهاج الشريعة والسنن، وقام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحدت الحدود الشرعية، وعزرت التعازير الدينية، وانتصب علم الجهاد، وقاتل لإعلاء كلمة الله أهل الشرك والفساد، حتى سارت دعوته، وثبت نصحه لله ولكتابه، ولرسوله ولعامة المسلمين وأئمتهم. وجمع الله به القلوب بعد شتاتها، وتألّفت بعد عداوتها، وصاروا بنعمة الله إخواناً. فأعطاهم الله بذلك من النصر والعز والظهور، ما لا يعرف مثله بسكان تلك الفيافي والصخور، وفتح عليهم الأحساء والقطيف، وقهروا سائر العرب من عمان إلى عقبة مصر، من اليمن إلى العراق والشام، دانت لهم عربها، فأصبحت نجد تضرب إليها أكباد الإبل في طلب الدين والدنيا، وتفتخر بما نالها من العز والنصر، والإقبال والسنا"اهـ. قلت في منظومتي اللآلي السنية بعد الثناء على الشيخ ابن تيمية، وعلى الشيخ ابن القيم رحمهما الله: وعلى الشيخ الجليل المعتبر من بشرع الله كان أظهرا ذلك الحبر الإمام المرتضى أيد الحق الذي قد غمرا

صاحب الدعوة في نجدهم مظهر الحق الذي قد أنكرا عم ذا الشرك القبيح نجدهم ضم الأمصار الكبار والقرى جاءهم يدعو إلى الله العلي أتركوا القبر وخلوا الشجرا اعبدوا الله الذي يرزقكم من لهذا الخلق أيضاً قد برى جاهد الشرك بسيف قاطع ولسان مظهر ما استترا بث دين الله جهراً ما ونى مزق الإلحاد فيما حررا ولصرح السنة في نجد بنى وقصور الشرك فيها دمرا فاستنارت نجدهم وافتخرت حق لنجدي أن يفتخرا محمد جميل بيهم، في كتابه: "الحلقة المفقودة في تاريخ العرب" تحت عنوان: "آل سعود في حكم آل عثمان". "الوهابية، وأمارة السعوديين الأولى: أصاب تركيا أواخر القرن السابع عشر في أثناء حروبها مع روسيا وفارس خذلان إثر خذلان. خدم العرب وغيرهم في جهادهم القومي، ثم تعاقب على عرش السلطنة منذ مفتتح القرن التالي، خمسة عواهل، كانوا غير أكفاء. فاهتز البعث القومي خلال حكمهم وربل، وانفسح المجال في جملة ذلك إلى حركات كانت قومية في العاطفة، ودينية في الغاية. حدثت في نجد وكادت تجمع شتات جزيرة العرب وتحررها، وتنهض بها نهضة الإسلام الأولى، وأعني بها "الوهابية". واضع هذا المذهب رجل تميمي، اسمه: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله طلب العلم في بغداد والبصرة.

ولما عاد إلى نجد في منتصف القرن الثامن عشر، كبر عليه أن يرى وطنه وسائر الجزيرة يهيمان في جهالة لا حد لها. 8464086 - 19883211 فود النهوض بها، فدعا إلى الاعتماد على القرآن، وإلى شريعة بيضاء نقية، كما تركها محمد صلى الله عليه وسلم، ونهى عن الغلو في تقديس الأنبياء والأولياء. وكان خلال ذلك ينكر على الترك تحكمهم، ويؤاخذهم على الأخلاق التي تعتبر في الشرع إفساداً. وكانت قبائل نجد وغيرها لا تعرف من الدين إلا أنها مسلمة، فأقبلت على دعوته، واستمسكت بالآداب التي بشربها. وكان زعيم مريديه "محمد بن سعود" يجمع بين الشجاعة والحكمة، فعقد له محمد بن عبد الوهاب راية القيادة، واستطاع بعقله الكبير أن يؤلف بين القبائل، وأن يوجهها إلى أطراف الجزيرة لتنشر الوهابية، وكان الأمراء البارزون في جزيرة العرب وقتئذ هم أشراف الحجاز، وبنو خالد في الأحساء، وآل معمر في العيينة، وآل السعدون في العراق، والإمام المتوكلي في صنعاء، والسادة في نجران؛ فأعلنت نجد عليهم حروباً دامية كان هدفها الإصلاح على أساس المذهب الوهابي. ستودارد الأمريكي، مؤلف "حاضر العالم الإسلامي"، الذي علق عليه الأمير شكيب أرسلان قال في الفصل الأول من الكتاب في اليقظة الإسلامية في القرن الثامن عشر. "كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدلي والانحطاط أعمق درك، فاربد جوه، وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه، ورجاً من أرجائه، وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب". إلى أن قال: "وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس سخفاً من الخرافات، وقشور الصوفية، وخلت المساجد من

أرباب الصلوات، وكثر عديد الأدعياء الجهلاء وطوائف الفقراء والمساكين، يخرجون من مكان إلى مكان، يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور. وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يشرب الخمر والأفيون في كل مكان، وانتشرت الرذائل، وهتكت ستر الحرمات على غير خشية ولا استحياء ونال مكة المكرمة والمدينة المنورة ما نال غيرهما من سائر مدن الإسلام. وعلى الجملة؛ فقد بدل المسلمون غير المسلمين، وهبطوا مهبطاً بعيد القرار. فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر، ورأى ما كان يدعي الإسلام، لغضب وأطلق على من استحقها1 من المسلمين، كما يعلن المرتدون، وعبدة الأوثان. وفيما العالم الإسلامي مستغرق في هجعته، ومدلج في ظلمته، إذا بصوت يدوي من قلب صحراء شبه الجزيرة مَهَّد الإسلام، يوقظ المؤمنين، ويدعوهم إلى الإصلاح، والرجوع إلى سواء السبيل والصراط المستقيم. فكان الصارخ هذا الصوت إنما هو المصلح المشهور الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، الذي أشعل نار الوهابية، فاشتعلت واتقدت، واندلعت ألسنتها، إلى كل زاوية من زوايا العالم الإسلامي. ثم أخذ هذا الداعي يحض المسلمين على إصلاح النفوس، واستعادة المجد الإسلامي القديم، والعز التليد. تبدت تباشير صبح الإصلاح، ثم بدأ ت اليقظة الكبرى في عالم الإسلام" انتهى.

_ 1 لو أن فيلسوفاً نقريثياً من فلاسفة الإسلام، أو مؤرخاً عبقرياً بصيراً بجميع أمراضه الاجتماعية؛ أراد تشخيص حالته في هذه القرون الأخيرة ما أمكنه أن يصيب المحز،، وأن يطبق المفصل تطبيق هذا الكاتب الأمريكي (شكيب) .

كلام بروكلمان في "تاريخ الشعوب الإسلامية"، ج/ 4، "الإسلام في القرن التاسع عشر" بترجمة الدكتور: نبيه أمين فارس، ومنير البعلبكي. قال تحت عنوان "الحركة الوهابية في بلاد العرب": "ولم يحالف التوفيق محمد علي في شبه الجزيرة العربية بقد ما حالفه في مصر وسوريا. وتفصيل ذلك أنه ولد في نجد المرتفعة في قلب الجزيرة محمد بن عبد الوهاب، من قبيلة تميم ما بين أواخر القرن السابع عشر، وأوائل القرن الثامن عشر. فنشأ محمد محباً للعلم، واقفاً نفسه على دراسة الفقه والشريعة، وقصد وفقاً ـ للعادة القديمة ـ إلى عواصم الشرق الإسلامي طلباً للعلم في مدارسها. وفي بغداد درس محمد فقه أحمد بن حنبل، مؤسس آخر المذاهب السنية الأربعة. ثم إنه درس مؤلفات أحمد بن تيمية، الذي كان قد أحيا - في القرآن الرابع عشر - تعاليم ابن حنبل. والواقع أن دراسته لآراء هذين الإمامين انتهت به إلى الإيقان من أن الإسلام في شكله السائد في عصره، وبخاصة بين الأتراك، مشرب بالمساوي التي لا تمت إلى الدين الصحيح بنسب. فلما آب إلى بلده الأول سعى أول ما سعى إلى أن يعيد إلى العقيدة والحياة الإسلاميتين صفائهما الأصلي في محيطه الضيق". ثم ذكر التجاءه إلى محمد بن سعود. "وهناك لقي محمد حفاوة وترحيباً، حتى إذا انقضت فترة قصيرة، اكتسبت تعالميه أنصاراً ومريدين. ولقد شجب تقديس الرسول والأولياء على اختلاف صوره، وكان ذاك قد شاع بين المسلمين منذ قرون؛ تقليداً للنصرانية، وبعض الطقوس الدينية الأكثر

بدائية، رامياً بالشرك أولئك الذين يشاركون في هذا التقديس، والذي يقضي القرآن بحربهم، حتى يرجعوا عن غيهم، أو يبادوا1. وأخذ محمد أتباعه بأداء صلاة الجمعة في صرامة لا تعرف الرحمة، ونهى عن كل زينة في اللباس2، وعن لبس الحرير خاصة "قلت: أي: بالنسبة للرجال فقط". وحرم أيما تزيين أو زخرفة للمساجد والأضرحة، ليس هذا فحسب، بل لقد توسّع في فهم التحريم الإسلامي لمختلف ضروب المسكر، فحرم تدخين التبع الذي أعلن جميع الفقهاء تقريباً من الحنابلة وغير الحنابلة معارضتهم له أول دخوله إلى بلاد الشرق.

_ والواقع أن هذا المصلح، لم يكن يتمتع من خصب الأفكار، أو الابتكار بأثر مما يتمتع به الرسول) اهـ. 1 هذا فيه إجمال، والمراد: أنه منع صرف العبادة للرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء، وطلبهم المدد، ونحو ذلك مما يسميه العامة تقديساً للرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء، وإنما هو الشرك الأكبر والوثنية بأوضح معانيها، فتدبّر. وليس هذا الشرك تقديساً للرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء، وإنما هو تنقص في الحقيقة له وللأولياء، لأنه والأولياء لا يرضون بذلك، ومن ظن أنهم يرضون بذلك فقد تنقّصهم، وأساء بهم الظن، وإنما تقديس الرسول صلى الله عليه وسلم باتباعه وتعظيم شرعه، ومحبته المحبة الصادقة فوق محبة النفس والأهل والمال والناس أجمعين، من غير غلو فيه بصرف شيء من حق الله له. وهكذا تقديس الأولياء، يكون بمحبتهم واتباع سبيلهم القيم، والترحّم عليهم، لا بالغلو فيهم وعبادتهم مع الله سبحانه. والله ولي التوفيق. عبد العزيز بن عبد الله بن باز 2 هذا فيه إجمال، وليس الأمر على إطلاقه، لأن الزينة المباحة لم ينه عنها الشيخ رحمه الله، ولا غيره من أهل العلم، بل هي مأمور بها، كما في قوله سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، ويمكن حمل الزينة المذكورة هنا على الزينة التي حرمها الله لكونها مشتملة على مشابهة الكفار والنساء، أو فيها إسبال. والله أعلم. عبد العزيز بن عبد الله بن باز

معنى قوله لم يكن يتمتع ... إلخ، أن الشيخ كان يمشي ويدعو الناس إلى اتباع سنة الرسول، غير مبيح لهم الزيادات المحدثة، التي أحدثها الخلوف، لأمور لا تخفي، كما فعلت الأمم السالفة. ولم يكن مبتكراً ولا مبتدعاً للمبادئ التي دعا الناس إليها، بل كان تابعاً للرسول". مصطفى الحفناوي وليمز، في كتابه "ابن سعود: سياسته، حروبه، مطامعه". قال لما ذكر بعض ثورات الغربيين لإصلاح مجتمعهم الفاسد: "كذلك لما شاع الفساد في بلاد المسلمين قام في جزيرة العرب محمد بن عبد الوهاب يحارب البدع، ويدعو إلى جمع الصفوف، لإعادة مجد الإسلام، وعبادة الله بقلب سليم. ولكنه - كغيره من المصلحين - اضطهد، واتهم بالإلحاد والزندقة، وطورد حتى التجأ إلى محمد بن سعود. ثم ذكر ولادته، ورحلته لطلب العلم، وأنه لما عاد إلى بلاده صمّم على نشر الدين الصحيح. وقال: "لما اتصل ببيت سعود، وتزوج محمد بن سعود بابنة الشيخ، عندئذ تشيع السعوديون للمذهب الجديد"1. فغضب عليهم الأتراك، ولم يكن غضبهم صادراً عن عقيدة، وعن فكرة

_ 1 قوله عندئذ: "تشيّع السعوديون" يوهم كلامه هذا أن آل سعود تشيعوا لدعوة الشيخ محمد رحمه الله بسبب المصاهرة، وليس الأمر كذلك، وإنما قام الإمام محمد بن سعود رحمه الله وأولاده وأحفاده بمناصرة دعوة الشيخ من أجل أنها دعوة إلى الحق والدين الصحيح، لا من أجل المصاهرة إن ثبت وجودها ذلك الوقت. عبد العزيز بن عبد الله بن باز

وصلوا إليها، بعد دراسة المذهب الجديد، الذي أكروه رجماص بالغيب، ظناً منهم أنه يقفعقبة في سبيل مطامعهم ببلاد العرب. كان شريف مكة، قد احتكم إلى العلماء ليقولوا رأيهم في مذهب ابن عبد الوهاب، فقرروا صلاحية هذا المذهب. كما أن "محمد علي باشا" جمع علماء مكة في سنة 1215هـ لنفس الغرض، فجاءت قراراتهم في صالح هذا المذهب. ولكن الأتراك أصروا على العدوان، ولم يكن محمد بن عبد الوهاب إلا رسول سلام) اهـ. ص/ 21 - 22 بتلخيص واختصار. ثم قال: في ص 74 - 75، ويكفي هذا الصدد أن نشير إلى بعض أوجه الخلاف بين مذهب الوهابيين، وبين غيرهم. 1- يرى الوهابيون، أن لا معبود إلا الله، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام بشر، فوق مستوى البشر. 2- أعلن الوهابيون كراهيتهم لعبادة الأولياء، وهي متفشية بين المسلمين، حتى اضطر ابن سعود لتمير قباب الأولياء". ثم ذكر الحفناوي قائلاً: "وأنا من أنصار هذا الرأي. فإنك لا تكاد تذهب إلى ضريح في مصر، إلا وترى الجهال يقبّلون الأعتاب، ويستغيثون بالأولياء، غير ذاكرين الله، ولا معتمدين إلا على العظام المدفونة في تلك القبور. 3- يحتفل المسلمون سبع حفلات دينية. ولكن الوهابيين، لا يحتفلون إلا بعيد الفطر، وعيد الأضحى". ثم قال: "ومهما يكن الخلاف المذهبي بين الوهابيين وغيرهم من المسلمين؛

_ (1) قوله فيحرمون على أنفسهم لبس الحرير والتحلي بالذهب لعل مراده أنهم يحرمون ذلك على الذكور خاصة أما النساء فإن الوهابيين وغيرهم لا يحرمون عليهن لبس الحرير والتحلي بالذهب لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورهم ". عبد العزيز بن عبد الله بن باز

فإننا نجل الوهابيين، فإنهم يدققون في عبادتهم، فيحفظون القرآن والحديث، ويأتمرون بما جاء في الشريعة الغراء، وينهون عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم1، فيحرمون على أنفسهم لبس الحرير، والتحلي بالذهب، وشرب الخمر، وتدين التبغ، ويحاربون السحر والميسر، وغيرهما من الأرجاس"اهـ ملخصاً. المستشرق سيديو، في: "تاريخ العرب العام"، الذي نقله إلى العربية عادل زعيتر قال في أثناء كلامه على ثورات العرب لتحرر من سيطرة الترك وسيطرة البرتغال في عمان بعد كلام: "ومن ثم نرى أن جزيرة العرب استردت استقلالها التام تقريباً، منذ أوائل القرن الثامن عشر بفضل جدها، وضعف أعدائها، ولم يبق لها إلا أن تؤيد نصرها بمركز يلتف حوله جميع النفوس. وهذا ما حاولت صنعه قبيلة ظهرت في نجد حوالي سنة 1749م. وهذا ما حوله الوهابيون النافذون حتى الآن، والذي سيكون لهم تأثير دائم في مصير جزيرة العرب لا ريب. واسم واضع هذه السيطرة هو: عبد الوهاب التميمي، الذي أكب على دراسة آداب العرب وعلومهم منذ صباه، والفقه أكثر ما عنى به. واطلع على آراء رجال المذهب، وقصد بغداد، والبصرة، وفارس سائحاً، فنمت مداركه، فأنعم النظر في حال بني قومه وميولهم وغرائزهم، وطبيعة قواهم، فرأى أنه إذا ما حمل المسلمين على مراعاة أحكام القرآن، رجعت إليهم تلك الحماسة التي تعودتها عظمة الماضين.

_ 1 قوله: "فيحرّمون على أنفسهم لبس الحرير، والتحلي بالذهب" لعل مراده: أنهم يحرمون ذلك على الذكور خاصة، أما النساء فإن الوهابيين وغيرهم لا يحرّمون عليهن لبس الحرير والتحلي بالذهب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وأحل الذهب والحرير لأناث أمتي، وحرم على ذكورهم". 2 خطأ من المؤرخ بل هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب عبد العزيز عبد الله بن باز

ولم يكن للإصلاح الذي بدا زعيماً له هدف، سوى إعادة شريعة الرسول الخالصة إلى سابق عهدها. وحارب ابن عبد الوهاب فعالات1 المسلمين في إحاطة محمد صلى الله عليه وسلم بتعظيم حرمه الله في كتير من كلامه. وحارب تقديس قبور الأولياء، فحمل أنصاره على هدمها. وحارب ابن عبد الوهاب ما كان يعيبه على الترك من فساد الأخلاق. وحارب تعاطي المسكرات. ومما ذكر الناس به، هو أن الشريعة تأمر المسلمين بأن يؤتوا الزكاة2، وتحرم عليهم الزينة3، وتلزم القضاة بالنزاهة التامة. ومما عني به على الخصوص إبقاء روح الجهاد في قومه لما أدى إليه الجهاد من نصر عجيب منذ قرون. ولا يمكن أن تنعت أقواله بالإلحاد على العموم لما بدع تكراراً لسور القرآن، وهو لموافقته تعاليم الإسلام الصحيحة كان بالغ الأثر لمبادئه، فصار صناديد قبائل نجد ينضمون إلى لوائه، أفراداً وأرسالاً، فيؤلفون جيشاً صغيراً بقيادة محمد بن سعود من عشيرة المساليخ، وكان محمد قد اعتنق المذهب الجديد في الدرعية، فأبصر ابن عبد الوهاب فيه من المواهب الحربية ما لم يجده في الغير، فزوجه بابنته، مفوضاً إليه أمر حكومة الوهابيين السياسية". واستمر الكاتب في كتابته حتى قال:

_ 1 تأمّل كيف عرف هذا المؤرخ الأجنبي عن ديننا تعاليم هذا المصلح الكبير الصحيحة، وأنه قصد إرجاع الناس إلى الدين الصحيح، وتنقيته من شوائب البدع والوثنية، وكيف أنصف هذا الأجنبي، وعرف دين الرسول الصحيح، وما طرأ عليه مما لا يتفق وتعاليم الرسول، ولم يعرفه الكثيرون من المنتسبين إلى الإسلام. 2 أي: وسائر أركان الإسلام. 3 كلبس الحرير والذهب للرجال، لا مطلق الزينة.

"فخلع على دين محمد رونقاً جديداً، وبدد الخرافات التي1 زالت مع الزمن، فأظهر القرآن خالياً من جميع ما عزى إليه من الشوائب2. وما لبثت النفوس التي أرهقتها شروح أئمة المسلمين المطولة الغامضة أن رجعت إلى بضعة مبادئ عامة بسيطة واضحة، فتقبلت خطط ابن عبد الوهاب الإصلاحية بقبول حسن. ودعا الوهابيون إلى الفضيلة، خلافاً للقرامطة الذين تذرعوا بسيء المناخي، فلم يبالوا بغير قضاء المآرب"اهـ. علي الطنطاوي، في كتابه: "محمد بن عبد الوهاب". ذكر: فشو البدع قبل ولادة الشيخ "محمد" كما قال، واعتقد الناس النفع والضرر بالرسول والصالحين، وبالقبور والأشجار، والقباب والمزارات، فيطلبون منهم الحاجات، ويرجعون في الشدائد إليهم، وينذرون لهم، ويذبحون لهم، واشتد تعظيم الأموات. وكان حظ نجد في هذه الجاهلية الجديدة أكبر الحظوظ. فقد اجتمع على أهله الجهل والبداوة، والفقر، والانقصام في كل ناحية من نواحي نجد، من الأمراء، بمقدار ما كان فيها من القرى، ففي كل قرية أمير، وفي كل ناحية جمعية أمم، وكان في كل إمارة قبر، عليه بناء، أو شجرة لها أسطورة، يقوم عليها سادن من شياطين الإنسن، يزين للناس الكفر، ويدعوهم إلى الاعتقاد بالقبر، والذبح له، والتبرك به، والدعاء عنده.

_ 1 تأمل كيف يصف زمان الشيخ بالخرافات، ويصف مقاومة الشيخ وإصلاحه مما لم يعرفه كثير من المسلمين، وعموا ـ بتعصبهم ـ عن محاسنه وخدماته، فرحمه الله. وقد أحسن من أنصف وعرف الحق لأهله، ولو كان كافراً. 2 كأنه يريد من التفاسير الباطلة، والتأويلات المخالفة.

ثم ذكر شجرة تسمى شجرة الذئب، وقبر "زيد بن الخطاب" وذلك على سبيل المثال. قال: "وكان العلماء قلة، والحكام عتاه ظلمة، والناس فوضى يغزو بعضهم بعضاً، ويعدو قويهم على ضعيفهم. في تلك البيئة نشأ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فرأى شمس الإسلام إلى أفول، ورأى ظلمة الكفر إلى امتداد وشمول. وأراد الله له الخير، فقدر له أن يكون أحد الذين أخبر الرسول أنهم يبعثون ليجددوا لهذه الأمة دينها، بل لقد كان أحق بهذا الوصف من كل من وصف به في تاريخنا. فقد حقق الله على يديه عودة نجد إلى التوحيد الصحيح، والدين الحق والألفة بعد الاختلاف، والوحدة بعد الانقسام. ولا أقول: إن الرجل كامل، فالكمال لله، ولا أقول إنه معصوم فالعصمة للأنبياء، ولا أقول: إنه عار عن العيوب والأخطاء. ولكن أقول: إن هذه اليقظة التي عمت نجداً، ثم امتدت حتى جاوزته إلى أطراف الجزيرة، ثم إلى ما حولها، ثم امتدت حتى وصلت إلى آخر بلاد الإسلام؛ ليست إلا حسنة من حسناته عند الله إن شاء الله"اهـ. أبو السمح عبد الظاهر المصري، الذي كان إماماً بالمسجد الحرام رحمه الله، قال في "نونيته" التي تأسف فيها على الإسلام وأهله، مما عراهم: ابتدأها - رحمه الله - بقوله: أسفي على الإسلام ومضى فيها حتى ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب قائلاً: أسفي على الإسلام والإيمان أسفي علي نور الهدى القرآن أسفي علي الدين القديم وأهله أسفا يذيب القلب بالأحزان

ومضى فيها حتى ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب قائلاً: أسفي على الشيخ الإمام محمد حبر الأنام العالم الرباني علم الهدى بحر الندى مفني العدا من شن غارته علىالأوثان من قام في نجد مقام نبوة يدعو إلى الإسلام والإيمان حتى غدت نجد كروض مزهر يختال في ظلل من العرفان أحيا لنا الدين الحنيف كما أتى وأقامه بالسيف والبرهان برهانه القرآن والسنن التي تروي لنا عن سيد الأكوان كم حارب الشرك الخبيث وأهله وأذاقهم في الحرب كل هوان وأبان توحيد العبادة بعدما درست معالمه من الأذهان كم أبطل البدع التي قد عكرت صفو الشريعة مورد الظمآن وأضاء نوراً لم يزل متألقاً يهدي به الرحمن كل أوان يارب دعوة مؤمن متضرع أغدق عليه سحائب الرضوان رأي عالم فرنسي: 1- قال برنادلوس في كتاب: "العرب في التاريخ" ما يلي: "وباسم الإسلام الخالي من الشوائب الذي ساد في القرن الأول؛ نادى محمد بن عبد الوهاب بالابتعاد عن جميع ما أضيف للعقيدة والعبادات من زيادات، باعتبارها بدع خرافية غريبة عن الإسلام الصحيح". رأي مستشرق نمساوي: 2- قال شيخ المستشرقين: جولد سيهر، في كتابه: "العقيدة والشريعة"، ما يلي: "وإذا أردنا البحث في علاقة الإسلام السني بالحركة الوهابية نجد أنه مما يسترعي انتباهنا خاصة من وجهة النظر الخاصة بالتاريخ الديني الحقيقية

التالية: يجب على من ينصّب نفسه للحكم عن الحوادث الإسلامية أن يعتبر الوهابيين أنصاراً للديانة الإسلامية على الصورة التي وضعها النبي والصحابة، فغاية الوهابية هي إعادة الإسلام كما كان". رأي المستشرق: "جب الإنجليزي". 3- قال في كتابه: "المحمدية": "وفي جزيرة العرب قام حوالي 1744م 1157هـ محمد بن عبد الوهاب مع أمراء الدرعية آل سعود بتحقيق الدعوة إلى المدرسة "المذهب" الحنبلية، التي دعا إليها ابن تيمية في القرن الرابع عشر". وقال أيضاً في كتابه: "الاتجاهات المدينة في الإسلام": "أما مجال الفكر فإن الوهابية بما قامت به من الفتن ضد التدخلات العدوانية، وضد الأصول القائلة بوحدة الوجود، التي تريد تدنيس التوحيد في الإسلام؛ فقد كانت عاملاً مفيداً للخلاص الأبدي، وحركة تجديد أخذت تنجح في العالم الإسلامي شيئاً فشيئا". دائرة المعارف البريطانية. 4- جاء في دائرة المعارف البريطانية، وهي تتكلم عن الوهابية ما يلي: "الوهابية: اسم لحركة التطهير في الإسلام. والوهابيون: يتبعون تعاليم الرسول وحده، ويهملون كل ما سواها، وأعداء الوهابية هم أعداء الإسلام الصحيح". رأي جماعة من المستشرقين: 5- قال الأستاذ: ويلفد، في كتاب "الإسلام في نظر الغرب"، ألّفه جماعة من المستشرقين:

"كان محمد بن عبد الوهاب يقول قبل كل شيء: يجب أن تعيشوا حسب الشرع الإسلامي. وهذا هو معنى أن تكونوا مسلمين، ولا ذاك الرغاء العاطفي، والتقي والحرارة التي يقدمها لكم الصوفيون، فأساس الإسلام هو الشرع، وإذا كنتم تريدون أن تكونوا مسلمين فيجب أن تعيشوا حسب أوامر الشرع ". رأي مؤرخ ألماني: 6- قال الدكتور: داكبرت، المؤرخ الألماني في كتابه "عبد العزيز"، وقد صدر في ألمانيا سنة 1953م، ونقله إلى العربية الدكتور: أمين رويحة، عن الحركة والهابية: "وكان لآل سعود إلى جانب سيفهم الذي يستخدمونه في الفتح سلاح معنوي آخر، يدينون له بأعظم قسط من نجاحهم، ذلك السلاح من صنع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أحد رجال الدين المطاردين في سبيل عقيدتهم. والذي لجأ إلى الدرعية عاصمة آل سعود في ذلك الحين، فلقي لديهم الحماية والأمان، وكانت تملأ قلب محمد بن عبد الوهاب فكرة جديدة القوى العربية على أساس دين، ن ناسباً إلى ابتعادهم عن سيرة السلف الصالح وانقسامهم إلى شيع، وإلى ابتعادهم عن خلقهم العربي الأصيل؛ سبب تلاشيهم الذي جعلهم في متناول النفوذ الأجنبي". إلى أن قال: "ورأى الشيخ أن سبب الإنقاذ هو الرجوع إلى تعاليم الدين المشروعة، إلى تعاليم الرسول الصحيحة، فراح يبشر بوحي من ضميره وعقيدته بمحاربة البدع التي أدخلت على الإسلام عبر العصور الغابرة، والضال المضل من تقارير علماء الدين، غير مقيم وزناً إلا لما نص عليه القرآن صراحة، أو لما يمكن نسبته بصورة قاطعة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وراح يحارب بكل قواه المستمدة من عقيدته الصلبة تقديس الأولياء، وجعلهم واسطة بين الله وبين الناس، وينادى بهدم الأضرحة، ومزارات الأولياء، وإزالة معالمها؛ اقتداء بالنبي الكريم، الذي حارب بدعة تقديس الهياكل، وعبادة الأصنام الموروثة من الجاهلية" انتهى ملخصاً.

رأي الأستاذ فيليب حتى: 7- قال الأستاذ فيليب، وهو مؤرخ لبناني، في كتابه "تاريخ العرب": "ولقد تاثر محمد بن عبد الوهاب بفكرة هي: أن الإسلام كما يمارسه معاصروه قد انحرف كثيراً عملياً ونظرياً عن طريق السنة التي استنها القرآن، وقرر أن ينقيها هو بنفسه". رأي الأستاذ أحمد حسين - مؤسس حزب مصر الفتاة -: 8- قال في كتابه "مشاهداتي في جزيرة العرب" بعد أن وصف ما كان في جزيرة العرب من جهالة قبل ظهور الدعوة ما يلي: "وفي وسط هذا الجو ولد محمد بن عبد والهاب، وكان أبوه الشيخ عبد الوهاب قاضي بلدة العيينة، وكان شيخاً عالماً جليلاً، فقرأ على أبيه الفقه، وسرعان ما ظهرت عليه علائم النجابة، وبدأ يدرك على الفور ما تردت به البادية من همجية وردة عن دين الإسلام، وبدأت تجيش نفسه بما تجيش به نفس كل مصلح؛ من عزم على تغيير هذه الحال. فلما بلغ من العمر عشرين ربيعاً، بدأ يستخدم فصاحته وعلمه في مناقشة أنداده وأضرابه، بل ومن هم أكبر منه سناً في فساد الحال، فلم يجد منهم أذناً صاغية". وبعد أن ذكر سفر الشيخ إلى الحجاز والبصرة، ورجوعه ثانية إلى نجد، واستقرارة في الدرعية، واتفاقه مع محمد بن سعود، ختم هذا البحث بقوله: "تلك هي قصة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما بدأت، والتي لم تكمل حتى الآن، فلا يزال أحفاد محمد بن سعود، وأحفاد الشيخ محمد يحملون لواء التوحيد، وينافحون عنه. وإذا كان العالم الإسلامي كله اليوم تحت تأثير النور والعرفان، قد بدأ يدرك بفطرته هذا الذي دعا إليه محمد بن عبد الوهاب ويتعشقه، فسيظل التاريخ يسجل لآل سعود الذين كانوا أول من نصره واستجاب له"اهـ.

رأي الأستاذ الإمام: محمد عبده. 9- يقول الشيخ حافظ وهبه في كتابه "50 عاماً في جزيرة العرب"، وهو يتحدث عن طلبة العلم في الأزهر: "أنه سمع الأستاذ الإمام محمد عبده مفتي مصر، يثني في دروسه بالأزهر على الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، ويلقبّه بالمصلح العظيم، ويلقي تبعة وقف دعوته الإصلاحية على الأتراك، وعلى محمد علي الألباني، لجهلهم ومسايرتهم لعلماء عصرهم؛ ممن ساروا على سنة من سبقهم من مؤيدي البدع والخرافات، ومجافاة حقائق الإسلام". رأي الأستاذ أحمد أمين، العالم المصري. 10- تناول الأستاذ أحمد أمين، العالم المصري الشهير في كتابه "زعماء الإصلاح الإسلامي" نهضة الإصلاح الديني في نجد، وهذا ما قاله عنها: "ورأى الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أثناء إقامته في الحجاز ورحلاته إلى كثير من بلاد العلام الإسلامي: أن هذا التوحيد الذي هو مزية الإسلام الكبرى، قد ضاع ودخله الكثير من الفساد. فالتوحيد أساسه الاعتقاد بأن الله وحده، هو خالق هذا العالم، والمسيطر عليه، وواضع قوانينه التي يسير عليها، والشرع له، وليس في الخلق من يشاركه في خلقه، ولا في حكمه، ولا من يعينه على تصريف أموره، لأنه تعالى ليس في حاجة إلى عون أحد مهما كان من المقربين إليه، هو الذي بيده الحكم وحده، وهو الذي بيده النفع والضر وحده لا شريك له. فمعنى: لا إله إلا الله: ليس في الوجود ذو سلطة حقيقية تسير العالم وفقاً لما وضع من قوانين إلا هو، وليس في الوجود من يستحق العبادة والتعظيم إلا هو. وهذا هو محور القرآن: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ

وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . إذن، فما بال العالم الإسلامي اليوم يعدل عن هذا التوحيد المطلق الخالص من كل شائبة، إلى أن يشرك مع الله كثيراً من خلقه؟. فهذه الأولياء يحج إليها، وتقدم لها النذور، ويعتقد أنها قادرة على النفع والضر. وهذه الأضرحة التي لا عداد لها تقاوم في جميع أقطاره، يشد الناس إليها رحالهم، ويتمسحون بها، ويتذللون لها، ويطلبون جلب الخير لهم ودفع الشر عنهم، ففي كل بلدة ولي أو أولياء، وفي كل بلدة ضريح أو أضرحة، تشترك مع الله تعالى في تصريف الأمور، ودفع الأذى وجلب الخير، وكأن الله سلطان من سلاطين الدنيا يتقرب إليه بذوي الجاه، وأهل الزلفى لديه، ويرجحون في تغيير القوانين وقضاء الحاجات. أليس هذا كما كان يقول مشركو العرب: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ؟، وقولهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ؟. بل وا أسفاه، لم يكتف المسلمون بذلك، بل أشركوا مع الله حتى النبات والجماد، فهؤلاء أهل بلدة منفوحة باليمامة يعتقدون في نخلة هناك أن لها قدرة عجيبة، من قصدها من العرائس تزوجت لعامها. وهذا الغار في الدرعية يحج إليه الناس للتبرك. وفي كل بلدة من البلاد الإسلامية مثل هذا، ففي مصر شجرة الحنفي، ونعل الكلشني، وبوابة المتولي1. وفي كل قطر حجر وشجر، فكيف يخلص التوحيد من كل هذه العقائد؟. إنها تصد الناس عن الله الواحد، وتشرك معه غيره، وتسيء إلى النفوس، وتجعلها ذليلة وضيعة مخرفة، وتجردها من فكرة التوحيد، وتفقدها التسامي.

_ 1 شجرة الحنفي: شجرة كانت في جامع الحنفي بالقاهرة يتبرك بها، ونعل الكلشني نعل قديمة في تكية الكلشني، يزعمون أن الماء إذا شرب منها ينفع للتداوي من العشق، وبوابة المتولي بالقاهرة أيضاً مملوءة بالمسامير، بها تعلق الشعور والخيوط لقضاء حاجة من علّقها. عبد العزيز بن عبد الله بن باز

هكذا شغلت ذهنه فكرة التوحيد في العقيدة مجردة من كل شريك، وفكرة التوحيد في التشريع، فلا مصدر له إلا الكتاب والسنة". 11- قال أمين سعيد، في كتابه "سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب": "سيرة الإمام الشيخ: محمد بن عبد الوهاب التميمي من أحفل السير بالعظات، وأغناها بالفضائل، وأحقها بالبحث والفصل، والتفسير والتعليل، وهي سيرة مصلح من كرام المصلحين، ومجاهد من كبار المجاهدين، وعالم من خيرة العلماء، أنار الله بصيرته، وهداه سبله، وألهمه التقوى، فدعا أمته للرجوع إلى الله، والعمل بكتابه وسنة رسوله، ونبذ الشرك وعبادة القبور. انقادت إليه، واقتدت به، واشتجايت به، فأخرجها به من الظلمات إلى النور، فنجت وفازت، وجنت أطيب الثمار، وسمت إلى مرتبة الأخيار". ثم ذكر ولادة الشيخ، وما كانت حالة الضعف والانحطاط التي سرت في جسم الدولة العثمانية، وذكر أحوال الجزيرة العربية، وما فيها من ظلمات الجهل، ومزيد الفقر، وتفشي الفوضاء: "وفي وسط ذلك الجو القائم المربد؛ جو الجهل والجمود، جو ضعف الوازع الديني، وتسلط الحكام، واستبداد الطغام؛ أشرقت من جانب نجد أنوار الدعوة الوهابية، التي حمل مشعلها الإمام الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، فأنارت للأمة السبيل، وألهمتها رشدها، فشقت طريقها، واهتدت بهديها، وحققت الدعوة لنجد آمالها. وقد بدأت في محيطها، أو لما بدأت فأنشأت لها مجتمعاً إسلامياً سليماً، يؤمن بالتوحيد، ويعظم شأنه، ويسير على هداه، ولا يدعو مع الله أحداً. ولا يزال هذا حاله، لم يتبدل ولم يتغير منذ عهد الشيخ حتى يومنا هذا، فهو يصدع بالحق ويؤمن به. وانبثقت عن هذا المجتمع دولة عربية كريمة، نشأت في ظل الدعوة، وآمنت بها، فكانت أول دولة عربية كبرى يؤسسها العرب داخل جزيرتهم بعد دولة الخلفاء الراشدين، فاتبعت طريقهم، وترسمت خطاهم، فسادت وشادت، ووسعت حدودها، وانتشرت الدعوة في بلاد العرب، وبلاد الإسلام، وسرى نورها في أرجائها،

وأقل عليها الكثيرون، وأخذوا بها وتفاعلوا معها، واستجابوا لها، فكانت الأمة الكبرى لهذه النهضات التي تعم بلاد العرب وبلاد المسلمين، فأحيت ميت الهمم، وأيقظت خامد النفوس. وضرب الشيخ الأمثال على تجرده ونزاهته، وعلى أنه لم يرد من دعوته سوى وجه الله وحده، وإصلاح حال أمته، وإنقاذها من ظلمات الجهالة التي كانت تغمرها. ولقي في بدء الدعوة من الأذى والعدوان والمقاومة ما يلقاه الدعاة والمصلحون من قومهم، فما تردد وما توقف، بل صابر وثابر، لم يخفه تهديد، وما ثناه وعيد، ولا أثرت في نفسه مغريات. فشرّقت الدعوة وغرّبت، وكثر عدد المؤمنين بها، وازداد أنصارها، واستقام أمرها، فأزعج ذلك خصومها، وأقلق أعداءها، فتألبوا عليها، وجاءوا صفوفاً صفوفاً لقتالها، وإطفاء أنوارها، فحملت السيف للدفاع عن نفسها، وحماية كيانا، والدفاع عن النفس حق مشروع، أقرته جميع الأديان، وجاءت به جميع الشرائع. وهذه الحقيقة تنقض قول خصومها، وتلقف ما افتروا وما زيّفوا، فالدعوة لم تعتمد على السيف، ولم تشتهر في وجه الذين لم يدخلوا فيها، بل اعتمدت عليه في الدفاع عن نفسها، ومقاومة أعدائها الذين تجمعوا لقتالها، وتنادوا لمقاومتها، والإجهاز عليها. فما أغنت عنهم جهودهم، فارتدوا منهزمين، وتواروا خاسرين، وانتصرت. تغلبت لأنها نور وحق، وطبيعة النور أن يسري ويعم وينتشر مهما حاولوا ستره وإخفاءه، ومهما أقاموا من الحواجز في طريقه. ومن شأن الحق أن يعلو ولا يعلى عليه"انتهى. وهذا آخر ما تيسَّر جمعه. والحمد لله الذي قد مَنَّ بإتمام ما أراد تسطيره وتحريره من ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، وأجزل لنا وله الثواب. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وجميع الأصحاب، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

§1/1