محبة الرسول بين الاتباع والابتداع

عبد الرءوف محمد عثمان

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. أحمده حمد الشاكرين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. كلمة حق قامت عليها السماوات والأرضين وبها أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين. ولأجلها انقسم الناس إلى مؤمنين وكافرين. فمن سبقت له السعادة بالإيمان كان من الناجين. ومن تنكب عنها واتبع هواه كان من الهالكين. وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، المبعوث بالدين القويم، والصراط المستقيم. أرسله الله رحمة للعالمين، وإماما للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين. فلم يزل صلى الله عليه وسلم يجتهد في تبليغ الدين، وهدى العالمين، وجهاد الكفار والمنافقين. حتى طلعت شمس الإيمان، وأدبر ليل الكفر والبهتان، وعز جند الرحمن، وذل حزب الشيطان، وظهر نور الفرقان، فبلغت دعوته القاصي والداني، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما مقرونا بالرضوان. أما بعد، فإن الله افترض على العباد طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم ومحبته وتوقيره والقيام بحقوقه. وسد الطريق إلى جنته فلن تفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره. فقام المسلمون بأداء ما افترضه الله عليهم من محبة نبيه وتوقيره وإكرامه وبره واتباعه وطاعته حق قيام، وظهر من حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جعلهم يفدونه بكل عزيز وغال، ويؤثرونه على الأهل والأوطان والأموال، حتى باعوا أنفسهم وأموالهم لرب العالمين. نصرة لدينه، ودفاعا عن نبيه صلى الله عليه وسلم، ونشرا لهذا الدين في العالمين، فرضي الله عنهم أجمعين. حتى إذا دب الضعف في هذه الأمة، أدركتها سنة الله في الأمم، فظهر فيها

التفرق والاختلاف، والعداوة والبغضاء، وتفرق أهل القبلة على فرق شتى وطرائق قددا، واتخذ النفاق فرصته السانحة في توسيع شقة الخلاف، ورفعت الزندقة رأسها، ودخلت معترك الفرق بقديم حقدها، وكوامن غيظها. كيدا لهذا الدين الذي قوض أركانها، وأذهب من الأرض سلطانها. استمال هؤلاء الزنادقة الأغرار بالعقائد الباطلة، واستغلوا الفتن التي وقعت بتدبيرهم في تزيين الكفر وإلباسه ثوب الغلو في علي رضي الله عنه وآل البيت من ذريته. حتى خرجوا بأكثر الناس من الإسلام إلى مذاهبهم الباطلة. وتوارث أخلافهم سنتهم في الغلو. فغلوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخرجوه من نطاق البشرية إلى مرتبة الألوهية، ونسبوا إلى الله ورسوله ما لا يليق من صنوف الكفر والبهتان، الهادمة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أصول الإسلام والإيمان. وزعموا أنهم بذلك يريدون إظهار حبه وتعظيمه، وأوهموا المخدوعين بهم أنهم أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم حبا له. وحاولوا إخفاء زندقتهم بدعاوي الزهد والتنسك والتصوف. فمال إليهم الأغرار، وظنوا أنهم من الأبرار الأخيار، وأنهم أحباب النبي المصطفى المختار. ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. فقيض سبحانه من عباده المخلصين، وحزبه المفلحين من أزاح الغشاوة عن الأبصار، وبين للناس زيف الزنادقة الأشرار، وأنهم لا يريدون إلا هدم الدين وتغيير سنة خاتم المرسلين. فتتبعوا أقوالهم وأحوالهم، وكشفوا عن وجوه زندقتهم. حتى غدا أمرهم لأولي الأبصار مكشوفا واضحا، وتبين لأولي النهى من كان لله ورسوله محبا صادقا، ومن كان في دعوى المحبة دجالا كاذبا، ولإفساد دين المسلمين ساعيا. ولما كانت محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي دعوى الفريقين ومتنازع الحزبين. أردت أن أجلي في هذا البحث عن وجه الحقيقة كاشفا عن الصواب، مستعينا بالعزيز الوهاب، ورغبت في تحرير محل النزاع، فأسميته (محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بين الاتباع والابتداع) .

ووقع الاختيار على هذا الموضوع لأسباب منها: - كون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ركنا أصيلا من أركان الإيمان، أصابه ما أصاب الإيمان من ضعف لدى بعض المسلمين، فأردت أن أبين مكانة المحبة من الإيمان. - أن المحبة أمر قد يستتر وراء الدعاوي والمزاعم فأردت أن أبين الشواهد الصادقة لهذه المحبة والأمور الفارقة بين الصادق فيها والكاذب. والتي من أهمها الاتباع. ظن كثير من المسلمين- تأثرا بغلاة الصوفية- أن من لوازم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم الغلو فيه فأردت أن أبين أن المحبة شيء مختلف تماما عن الغلو. فالأول فرض عين، والثاني ضلال ومين. - اتهام كثير من الغلاة عامة المسلمين بالجفاء للرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يوافقوهم في غلوهم الذي يسمونه محبة. فأردت أن أبين وجه الصواب في المسألة. - أن حال كثير من الغلاة مخالف لأصول الشرع، مع ادعائهم أنهم أحب الأمة للرسول صلى الله عليه وسلم، فأردت أن أبين حقيقة أمرهم على ضوء الكتاب والسنة. - ما حدث في الأمة بسبب الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم من صنوف البدع التي شوهت معالم الدين عند أكثر المسلمين، فأردت أن أبين آثار الغلو على الدين اعتقادا، وتعبدا وسلوكا. وقد رسمت خطة بحثي هذا على النحو التالي: التمهيد: ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: وسأتحدث فيه عن معنى النبوة والرسالة بإيجاز. المبحث الثاني: عن بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم وسأبين أن كمال الرسول أن يكون بشرا رسولا.

المبحث الثالث: النبوة اصطفاء إلهي، وسأتحدث فيه عن بعض مظاهر اصطفاء الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بإيجاز. الباب الأول (المحبة والاتباع) الفصل الأول: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم. يحتوي هذا الفصل على أربعة مباحث: المبحث الأول: مفهوم المحبة، وسأتحدث فيه عن معنى المحبة في اللغة عموما ومعناها في الشرع على وجه الخصوص. المبحث الثاني: وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسأتحدث فيه عن حكم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرع، ومكانتها من الإيمان. المبحث الثالث: دواعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسباب زيادتها، وسأتكلم فيه عن الدواعي والدوافع التي تدفع المسلم إلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسباب زيادة هذه المحبة. المبحث الرابع: مظاهر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وسأبين فيه العلامات الواضحة والشواهد الصادقة التي من اتصف بها كان صادقا في حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأتبعه ببيان آثار هذه المحبة على سلوك المسلم وأفعاله. الفصل الثاني: الاتباع: يتكون هذا الفصل من ثلاثة مباحث: المبحث الأول: مفهوم الاتباع وسأبين فيه معنى الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اللغة والشرع. المبحث الثاني: وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، واتباعه، وسيكون الكلام فيه أدلة هذا الوجوب من القرآن والسنة. المبحث الثالث: مظاهر الاتباع، وسأبين فيه العلامات الواضحة التي من اتصف بها كان متبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

الباب الثاني (الغلو والابتداع) يشتمل هذا الباب على فصلين: الفصل الأول: الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم ويحتوي هذا الفصل على ستة مباحث: المبحث الأول: مفهوم الغلو، وسيكون الحديث فيه عن معنى الغلو في اللغة والشرع، وأنواع الغلو والأسباب التي أدت إلى ظهوره عند المسلمين. المبحث الثاني: الغلو عند اليهود والنصارى. على أساس أنهم ابتلوا بداء الغلو في أنبيائهم، وأن من غلا من المسلمين فهو متشبه بهم، آخذ بسنتهم التي حذرنا الله ورسوله من اتباعها. المبحث الثالث: الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند الشيعة باعتبار أنهم أول من فتح باب الغلو في الأشخاص في هذه الأمة بغلوهم في علي رضي الله عنه وآل البيت من ذريته. المبحث الرابع: الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند الصوفية وسيكون الكلام فيه عن مطلبين: المطلب الأول: الغلو عند الحلاج وذلك باعتباره أول صوفي اشتهر عنه الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم كغلو النصارى في عيسى عليه السلام منطلقا من مذهبه في الحلول. المطلب الثاني: الغلو عند ابن عربي باعتباره ممثلا لمذهب وحدة الوجود وسأتحدث في هذا المطلب عن مذهب ابن عربي في الحقيقة المحمدية التي كان لها أكبر الأثر في انحراف الصوفية من بعده في اعتقادهم في الرسول صلى الله عليه وسلم إذ جعلوه مساويا لله عز وجل في ذاته وصفاته تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. البحث الخامس: آثار الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم، على الاعتقاد والأعمال، وسأبين

فيه كيف أن الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم كان سببا في إفساد العقيدة وتشويه معالم الدين. المبحث السادس: حكم الإسلام في الغلو. وسأبين فيه حكم الشرع في الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم، وحكم من اعتقد مقالة الغلاة في الرسول صلى الله عليه وسلم. الفصل الثاني: الابتداع. يتكون هذا الفصل من ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف البدعة وبيان حكمها وسأتعرض فيه بشيء من التفصيل إلى أقوال العلماء في تعريف البدعة، وهل تنقسم إلى حسنة وسيئة أم لا؟ ثم أتبعه بتحرير محل النزاع بين الفريقين في هذا الموضوع. المبحث الثاني: البدع التي ظهرت بدعوى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وسأتحدث فيه عن نماذج من هذه البدع على سبيل المثال لا على سبيل الحصر والإحصاء، فمن هذه البدع اعتقاد الصوفية بحياة النبي صلى الله عليه وسلم حياة تامة لها كل خصائص الأحياء وبنوا على ذلك زعمهم بأنهم يرونه يقظة لا مناما، ويجتمعون به، وسأبين ما انبنى على هذه البدعة من بدع أخرى ومن هذه البدع التوسل غير المشروع بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم البدع المتعلقة بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم، ثم بدعة المولد ثم أعرض نماذج من الصيغ المبتدعة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. المبحث الثالث: آثار الابتداع. وسأتحدث فيه عن آثار البدعة الوخيمة على المبتدع في نفسه، وعلى الدين، وعلى المجتمع المسلم وأتبعه ببيان موجز عن كيفية مقاومة البدع.

الخاتمة: وسأتحدث فيها عن أهم النتائج التي أتوصل إليها من خلال بحثي في هذا الموضوع. وقد رسمت لنفسي منهجا في معالجة هذا الموضوع على النحو التالي: 1 - أن أقوم بجمع مادة هذا البحث من مظانه المعتبرة حسبما يتيسر لي من مراجع ومصادر. 2 - سأقوم بعزو الآيات القرآنية التي ترد في أثناء البحث إلى مواضعها من سور القرآن. 3 - تخريج ما يرد من أحاديث في أثناء البحث. 4 - الرجوع إلى معاجم اللغة في التعريفات اللغوية. 5 - سأترجم لمن يرد ذكره في أثناء البحث من الأعلام غير المشهورين ترجمة موجزة. 6 - سأقوم بعزو الأقوال إلى أصحابها، أو إلى المصدر الذي اقتبسته منه.

المبحث الأول تعريف النبوة والرسالة لغة وشرعا

[المبحث الأول تعريف النبوة والرسالة لغة وشرعا] تمهيد وفيه ثلاثة مباحث المبحث الأول: تعريف النبوة والرسالة. المبحث الثاني: بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم. المبحث الثالث: النبوة اصطفاء إلهي.

المبحث الأول تعريف النبوة والرسالة لغة وشرعا النبوة: النبوة في اللغة: مشتقة من النبأ بمعنى الخبر. قال الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49] (¬1) وقال تعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3] (¬2) . جاء في لسان العرب: (النبأ: الخبر. . . والنبيء المخبر عن الله عز وجل. . . لأنه أنبأ عنه، وهو فعيل بمعنى فاعل. قال ابن بري (¬3) . صوابه أن يقول: فعيل بمعنى مفعل. مثل نذير بمعنى منذر وأليم بمعنى مؤلم. . . . وقال الفراء (¬4) النبي: هو من أنبأ عن الله فترك همزه. ¬

(¬1) سورة الحجر، آية (49) . (¬2) سورة التحريم، آية (3) . (¬3) هو عبد الله بن بري بن عبد الجبار المقدسي المصري (499- 582 هـ) . نحوي لغوي، من مصنفاته: اللباب في الرد على ابن الخشاب، وحواش على الصحاح لم يكملها. انظر: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة. جلال الدين السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، مطبعة عيسى الحلبي. مصر، 1384 هـ- 2 / 34. (¬4) هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله الديلمي المعروف بالفراء (140- 207 هـ) . كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي. له مصنفات عدة منها: معاني القرآن، اللغات والمصادر في القرآن، النوادر. انظر: بغية الرعاة، 2 / 333.

قال: وأن أخذ من النبوة والنباوة وهي الارتفاع عن الأرض- أي أنه شرف على سائر الخلق- فأصله غير الهمز) (¬1) . وعلى ذلك فالنبوة في الأصل مشتقة من النبأ وأصلها الهمز لكن لما كثر استعمالها خفف بإسقاط الهمز، أما اشتقاقه من النبوة والنباوة فهو ضعيف من ناحية اللغة. قال ابن تيمية: (وهو " أي لفظ النبي " من النبأ، وأصله الهمزة وقد قريء به، وهي قراءة نافع يقرأ النبيء، لكن لما كثر استعماله لينت همزته كما فعل مثل ذلك في الذرية، وفي البرية، وقد قيل هو من النبوة، وهي العلو فمعنى النبي المعلى الرفيع المنزلة، والتحقيق أن هذا المعنى داخل في الأول فمن أنبأه الله وجعله منبئا عنه، فلا يكون إلا رفيع القدر عليا، وأما لفظ العلو والرفعة فلا يدل على خصوص النبوة إذ كان هذا يوصف به من ليس بنبي، بل يوصف بأنه الأعلى كما قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران: 139] (¬2) . وقراءة الهمزة قاطعة بأنه مهموز. . . . وأيضا فإن تصريفه أنبأ ونبأ ينبئ وينبئ بالهمزة، ولم يستعمل فيه نبا ينبو، وإنما يقال هذا ينبو عنه، والماء ينبو عن القدم إذا كان يجفو عنها، ويقال النبوة، وفي فلان نبوة عنا أي مجانبة. فيجب القطع بأن النبي مأخوذ من الإنباء لا من النبوة) (¬3) . الرسالة: الرسول في اللغة مأخوذ من الإرسال بمعنى التوجيه، أو من الرسل بمعنى التتابع أخذا من قولهم: رسل اللبن إذا تتابع دره. ¬

(¬1) لسان العرب، جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأنصاري، ط دار صادر بيروت، مادة نبأ، 1 / 162- 163. (¬2) سورة آل عمران، (139) . (¬3) النبوات، لابن تيمية، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، 1985، ص336 - 337.

جاء في لسان العرب: (. . . والإرسال: التوجيه، وقد أرسل إليه، والاسم الرسالة والرسالة والرسول. . . والرسول بمعنى الرسالة يؤنث ويذكر، والرسول المرسل. . . والرسول: معناه في اللغة: هو الذي يتابع أخبار من بعثه، أخذا من قولهم: جاءت الإبل رسلا أي متتابعة. . . . وسمى الرسول رسولا لأنه ذو رسول أي ذو رسالة والرسول اسم من أرسلت وكذلك الرسالة) (¬1) . وعلى ذلك فالرسول في اللغة إما أن يكون مأخوذا من الإرسال بمعنى التوجيه وهو ظاهر من حيث المعنى وإما أن يكون مأخوذا من التتابع فيكون الرسول هو من تتابع عليه الوحي (¬2) . هذا بالنسبة للمعنى اللغوي لمدلول النبي والرسول، أما في الاصطلاح فللعلماء في تحديد الفرق بين النبي والرسول، وتحديد مسمى كل منهما كلام كثير لا يسلم من نقد. لكن الأمر الراجح عند كثير من أهل العلم أن هناك فرقا بين مسمى النبي ومسمى الرسول وإن اختلفوا في تحديد المراد بكل منهما. وأيضا فإن النبوة أعم من الرسالة فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا (¬3) والذي يظهر والله أعلم أن النبي: هو من نبأه الله بشرع سابق ينذر به أهل ذلك الشرع. وقد يؤمر بتبليغ بعض الأوامر في قضية معينة، أو الوصايا والمواعظ وذلك كأنبياء بني إسرائيل إذ كانوا على شريعة التوراة ولم يأت أحد منهم بشرع جديد ناسخ للتوراة، فتكون منزلته حينئذ بمنزلة المجدد لتعاليم الرسل السابقين (¬4) . أما الرسول فهو من بعثه الله بشرع وأمره بتبليغه إلى من خالفوا أوامره. وسواء كان هذا الشرع جديدا في نفسه أو بالنسبة لمن بعث إليهم وربما أتى بنسخ بعض أحكام شريعة من قبله (¬5) . ¬

(¬1) لسان العرب، مادة رسل 11 / 283 - 284. (¬2) انظر أصول الدين لعبد القاهر بن طاهر البغدادي، ط3، دار الكتب العلمية، بيروت، 1401هـ، ص154. (¬3) انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، ط6، المكتب الإسلامي، بيروت، 1400هـ، ص167. (¬4) انظر النبوات، ص225- 257. (¬5) انظر أصول الدين، ص154.

المبحث الثاني بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم

[المبحث الثاني بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم] المبحث الثاني بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم لقد شاء الله العليم الحكيم أن يكون رسله إلى الناس بشرا من جنس المرسل إليهم وبلسانهم ليبينوا لهم شرع ربهم، ولتقوم بهم الحجة على الناس، وتنقطع عنهم المعاذير، ويسهل عليهم اتباع رسلهم، والفهم عنهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] (¬1) وقال تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] (¬2) . ويوضح الله بعض جوانب هذه البشرية فيقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] (¬3) الآية. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل بل كان بشرا كغيره من الأنبياء والرسل السابقين عليه. قال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 9] (¬4) وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110] (¬5) وهذا أبلغ تأكيد من الله على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر مثلنا له كل خصائص البشر وصفاتهم وهو مع ذلك مفضل بالوحي والرسالة. ¬

(¬1) سورة إبراهيم، آية (4) . (¬2) سورة إبراهيم، آية (11) . (¬3) سورة الفرقان، آية (20) . (¬4) سورة الأحقاف، آية (9) . (¬5) سورة الكهف، آية (110) ، وسورة فصلت آية (6) .

والآيات القرآنية تثبت بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة. وتوضح أنه بشر لم يخرج عن نطاق البشرية، وأن ما أتى به من وحي أو جرى على يديه من آيات فإنما هو بقدرة الله وحده، وأن الرسول لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا إلا أن يشاء الله. قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت: 50] (¬1) وقال تعالى {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188] (¬2) . وكما أن الرسول لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فهو من باب أولى لا يملك لغيره الضر والنفع أو الهداية والصلاح، بل كل ذلك بيد الله وحده. قال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ - وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 128 - 129] (¬3) . وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21] (¬4) وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] (¬5) . ولما طالب كفار قريش الرسول صلى الله عليه وسلم بمطالب تعجيزية ذريعة لهم للتكذيب والكفر، كان رد الله تعالى عليهم هو التأكيد على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا - أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا - أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا - أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 90 - 93] (¬6) . ¬

(¬1) سورة العنكبوت، آية (50) . (¬2) سورة الأعراف، آية (188) . (¬3) سورة آل عمران، آية (128-129) . (¬4) سورة الجن، آية (21) . (¬5) سورة القصص، آية (56) . (¬6) سورة الإسراء، آية (90-93) .

وفي قوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93] تأكيد على أن الرسول بشر يقف عند حدود بشريته، ولا يأتي بشيء من عنده. وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته توضح هذا الأمر أتم توضيح فقد عاش صلى الله عليه وسلم بشرا تجري عليه أعراض البشرية طيلة حياته منذ أن ولد إلى أن مات فأكل وشرب، ومشى في الأسواق، وباع واشترى، وتزوج وأنجب، وحارب، وسالم، وغضب، ورضي، وفرح وحزن، وأدركه المرض فمرض، ومات كما يموت سائر البشر. صلى الله عليه وسلم. وكل من عايش رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تتبع سيرته أدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك. والرسول صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله يؤكد هذا الأمر فيقول فيما رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن مسعود وفيه (. . . . «إنما أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون» (¬1) . وقال فيما رواه البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» (¬2) ففي الحديث الأول يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يتذكر وينسى أحيانا؟ هو شأن البشر جميعا، وفي الثاني يؤكد على عدم علمه للغيب بمقتضى طبيعته البشرية إلا أن يطلعه الله على ما شاء من الغيب كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا - إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26 - 27] (¬3) . ¬

(¬1) صحيح مسلم، تحقيق وتصحيح وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت، 1403هـ، 1983م. كتاب المساجد. باب السهو في الصلاة والسجود له، 1 / 402. (¬2) صحيح البخاري، دار إحياء التراث العربي. كتاب الحيل، باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت، 9 / 32. ومسلم كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، 3 / 1337. (¬3) سورة الجن، آية (26-27) .

ومع كون الرسول صلى الله عليه وسلم بشرا، إلا أن الله عز وجل هيأه تهيئة خاصة تتناسب مع هذا الأمر العظيم الذي اصطفى له. فكمله في الخلق والخلق، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل البشر في كافة الجوانب البشرية، كما كان أكملهم عبودية لربه وقياما بحقه. فكمال الرسول صلى الله عليه وسلم في عبوديته التامة لربه سبحانه وتعالى. لأجل هذا وصفه الله بالعبودية في أكمل مقاماته وأرفع درجاته صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] (¬1) وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] (¬2) وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] (¬3) وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] (¬4) . فمنزلة العبودية لله هي أرقى درجات الكمال البشري، لأن الله إنما خلق الخلق لعبادته، وأكمل الخلق قياما بهذا الأمر أتمهم عبودية له، ولا يصدق هذا في المقام الأول إلا على الأنبياء والرسل، وأكملهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أكمل الله له مقام العبودية. فلم يختر عليه ما سواه لعلمه بعظم هذه المنزلة عند ربه. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحق هذه العبودية أتم قيام، فدعا الناس إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وأخرجهم من العبودية لأهوائهم وشهواتهم إلى العبودية لله رب العالمين، كما صان مقام عبوديته لربه من كل ما يفسده أو يضعفه. وأعلم أمته أن منزلته الحقيقية هي العبودية والرسالة فقال فيما رواه الإمام أحمد بسنده عن أنس وفيه (. . . «أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» (¬5) . ¬

(¬1) سورة الإسراء، آية (1) . (¬2) سورة النجم، آية (10) . (¬3) سورة الكهف، آية (1) . (¬4) سورة الجن، آية (19) . (¬5) مسند الإمام أحمد بن حنبل. المكتب الإسلامي ودار صادر، بيروت 1 / 153، 241، والحديث صحح إسناده ابن عبد الهادي. انظر الصارم المنكي في الرد على السبكي. محمد بن أحمد عبد الهادي ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، ص288.

وأخرج البخاري بسنده عن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله» (¬1) . فاستحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون العبد الأول لربه، ولذلك خصه الله من عباده المرسلين بما لم يعطه أحدا غيره، فهو أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع، وأول من تفتح له أبواب الجنة. ومع وضوح بشريته صلى الله عليه وسلم في كافة أحواله، إلا أن طوائف من المنتسبين إلى الإسلام خالفوا إجماع الأمة فخرجوا بالرسول صلى الله عليه وسلم عن نطاق البشرية وغلوا فيه فوصفوه بصفات الله سبحانه وتعالى. وسيتضح لنا ذلك في مباحث الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) صحيح البخاري. كتاب الأنبياء. باب قول الله تعالى: " واذكر في الكتاب مريم " 4 / 204.

المبحث الثالث النبوة اصطفاء إلهي

[المبحث الثالث النبوة اصطفاء إلهي] المبحث الثالث النبوة اصطفاء إلهي لقد جرت سنة الله في خلقه أن يصطفى بعض عباده لمهمة النبوة والرسالة كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] (¬1) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33] (¬2) وقال تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] (¬3) . وهذا الاصطفاء والاختيار منة إلهية امتن الله بها على الأنبياء والمرسلين فلم يصلوا إليها بكسب ولا جهد، ولا كانت ثمرة لعمل أو رياضة للنفس قاموا بها كما يزعم الضلال من الفلاسفة. حيث ذهبوا إلى أن النبوة مكتسبة وأن من هذب نفسه بالخلوة والعبادة وأخلى نفسه عن الشواغل العائقة عن المشاهدة، وراض نفسه، وهذبها، تهيأ للنبوة. وبناء على ذلك قالوا إن النبي هو من اجتمعت فيه ثلاث خصال: - أن يكون له اطلاع على المغيبات لصفاء جوهره وشدة اتصاله بالروحانيات العالية من غير سابقة تعلم ولا تعليم. أن تظهر على يديه خوارق العادات بحيث يؤثر بنفسه في قوى العالم المادي. مشاهدة الملائكة لا أرواحها لما عنده من قوة التخيل، ويسمع كلامهم ووحيهم إليه. ¬

(¬1) سورة الحج، آية (75) . (¬2) سورة آل عمران، آية (33) . (¬3) سورة الأعراف، آية (144) .

وبالتالي فإن مرجع الوحي عندهم إلى قوة الخيال لدى النبي لا أن الوحى ينزل عليه حقيقة، فالقرآن إذا من عند النبي (¬1) . وقد كذبهم الله بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 37 - 39] (¬2) . فالنبوة والرسالة محض فضل من الله يختص به من شاء من عباده، وهو سبحانه أعلم بمواقع فضله، ومحال رضاه، وأعلم بمن يصلح لهذا الشأن، فهو سبحانه صاحب الخلق والتدبير، والاختيار والاصطفاء،؟ قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68] (¬3) وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] (¬4) . ومع كون النبوة منحة إلهية. إلا أن الله لا يختار لها إلا أناسا خصهم وميزهم بخصائص ومميزات ليست موجودة في سائر البشر. فالرسل أكمل البشر خلقا وخلقا، وأرجحهم عقلا، وأوفرهم ذكاء، والله رهم قلبا. وهذا هو شأن الرسل أجمعين. والرسول صلى الله عليه وسلم حينما اصطفاه الله لمهمة الرسالة الخاتمة، خصه بخصائص ليست موجودة في غيره، وهيأه تهيأة خاصة تتناصب مع هذه المهمة الجليلة. وظهرت آثار اصطفاء الله له في جوانب كثيرة منها: ¬

(¬1) انظر لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، للشيخ محمد بن أحمد السفاريني، مطابع الأصفهاني، جدة، 1382هـ، 2 / 268. (¬2) سورة يونس، آية (37-39) . (¬3) سورة القصص، آية (68) . (¬4) سورة الأنعام، آية (124) .

1 - طهارة نسبه: فلم ينل نسبه الطاهر شيء من سفاح الجاهلية. فكان من سلالة آباء كرام ليس فيهم ما يشينهم أو يعيبهم. بل كانوا سادات قومهم في النسب والشرف والمكانة. وفي الحديث الذي أخرجه مسلم بسنده عن واثلة بن الأسقع ما يؤكد ذلك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بنى هاشم» (¬1) . 2 - تعهد الله برعايته وحفظه: وذلك أنه نشأ على الفطرة الزكية فلم يتدنس بشيء من أدران الجاهلية لأن الله حفظه منذ صغره، فحفظ قلبه من تغيير الفطرة ووصول الشيطان إليه أخرج الإمام مسلم بسنده عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة. فقال: هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه ثم أعاده مكانه» (¬2) . فهذا الحديث يبين أن الله طهر قلبه صلى الله عليه وسلم منذ صغره وحفظه من وصول الشيطان إليه وذلك ليعده فيما بعد لمهمة النبوة والرسالة. فنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأخلاق الزاكية والخصال الحميدة، والفطرة النقية السليمة، فبغضت إليه الأوثان فلم يسجد لصنم قط، وحبب إليه الخير ومكارم الأخلاق، فكان في ذلك مضرب الأمثال، وكيف لا؟ وهو الملقب من قبل قومه بالصادق الأمين صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم، 4 / 1782. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، 1 / 147.

3 - عصمته: وكما حفظ الله قلب نبيه صلى الله عليه وسلم وفطرته. فكذلك عصمه من وجوه كثيرة منها: - عصمته من تسلط أعدائه عليه بالقتل أو منعه من تبليغ رسالة ربه، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] (¬1) . وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] (¬2) وأخرج البخاري بسنده «عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة وعلق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: " إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال من يمنعك مني فقلت الله (ثلاثا) ولم يعاقبه وجلس» (¬3) . عصمته صلى الله عليه وسلم من كل ما يقدح في نبوته، أو ينفر الناس عن دعوته فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن الآثم، متنزها من كل ما يعيب أو يشين البشر في سلوكهم، بعيدا عن سفاسف الجاهلية. كما عصمه الله عن وقوع الخطأ والنسيان أو الكذب والكتمان فيما ييلغه عن ربه فقال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى - وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 1 - 4] (¬4) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] (¬5) . ¬

(¬1) سورة الأنفال، آية (30) . (¬2) سورة المائدة، آية (67) . (¬3) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب من علق سيفه بالشجر في السفر 4 / 47 - 48. (¬4) سورة النجم، آية (1-4) . (¬5) سورة المائدة، آية (67) .

4 - تكميل الله له المحاسن خلقا وخلقا: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس خلقا من حيث جمال صورته، وتناسب أعضائه، وطيب ريحه وعرقه، ونظافة جسمه، واكتمال قواه البدنية والعقلية، كما كان أكمل الناس خلقا إذ جمع محاسن الأخلاق وكريم الشمائل، وجميل السجايا والطباع. قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] (¬1) وقد وعت كتب الشمائل والسير شمائله وأخلاقه، وصفاته صلى الله عليه وسلم. 5 - تشريفه بنزول الوحي عليه: قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] (¬2) وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] (¬3) . 6 - كونه خاتم النبيين: قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40] (¬4) . وأخرج البخاري ومسلم واللفظ له عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه. فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة! قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» (¬5) . ¬

(¬1) سورة القلم، آية (4) . (¬2) سورة الشورى، آية (52) . (¬3) سورة يوسف، آية (3) . (¬4) سورة الأحزاب، آية (40) . (¬5) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، 4 / 226، ومسلم، كتاب الفضائل باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، 4 / 1791.

ومظاهر اصطفاء الله لنبيه صلى الله عليه وسلم كثيرة لا تعد ولا تحصى لكثرة فضائله وما خصه الله به من صنوف الخير والفضل ويكفيه شرفا أنه سيد ولد آدم، وأنه صاحب المقام المحمود والحوض المورود ولواء المعقود فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. واصطفاء الله للنبي صلى الله عليه وسلم دليل على حب الله كما أنه يوجب محبة العباد لهذا النبي العظيم.

الباب الأول المحبة والاتباع

[الباب الأول المحبة والاتباع] [الفصل الأول محبة الرسول صلى الله عليه وسلم] [المبحث الأول مفهوم المحبة] الباب الأول المحبة والاتباع (وفيه فصلان) الفصل الأول: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم. الفصل الثاني: الاتباع.

الفصل الأول وفيه أربعة مباحث المبحث الأول - مفهوم المحبة. المبحث الثاني - وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم. المبحث الثالث - دواعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسباب زيادتها. المبحث الرابع - مظاهر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم.

المبحث الأول مفهوم المحبة وأنواعها (أ) الحب في اللغة: الحب كلمة دائرة على ألسنة الناس، رمزا لتعلق القلوب وميلها إلى ما ترضاه وتستحسنه. ويطلق في اللغة على صفاء المودة. جاء في لسان العرب: (الحب: نقيض البغض. والحب: الوداد والمحبة. . . وأحب فهو محب. . . والمحبة أيضا: اسم للحب.: وتحبب إليه تودد. وامرأة محبة لزوجها، ومحب أيضا. . . والحب: الحبيب، مثل خدن وخدين. . . والحب: المحبوب، وكان زيد بن حارثة رضي الله عنه، يدعى حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . . وحببت إليه: صرت حبيبا. . . وهم يتحابون: أي يحب بعضهم بعضا. . . والتحبب: إظهار الحب) (¬1) . وهذا النص كغيره من النصوص في المعاجم قد اقتصر على تعريف الحب بنقيضه أو بمرادفه لكن نرى الراغب الأصفهاني (¬2) يفصل أكثر فيقول: (. . . . حببت فلانا يقال في الأصل بمعنى: أصبت حبة قلبه، نحو: شغفته وكبدته وفأدته (¬3) . ¬

(¬1) لسان العرب. مادة " حبب " 1 / 289. (¬2) هو أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل المعروف بالراغب الأصفهاني (. . - 502 هـ) من تصانيفه: تحقيق البيان في تأويل القرآن، الذريعة إلى مكارم الشريعة، المفردات في غريب القرآن. انظر: الأعلام للزركلي. ط5، دار العلم للملايين، بيروت 1980م، 2 / 355 ومعجم المؤلفين عمر رضا كحالة. نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت 4 / 59. (¬3) بمعنى أصبت شغاف قلبه، وكبده، وفؤاده.

وأحببت فلانا: جعلت قلبي معرضا لحبه، لكن في التعارف وضع محبوب موضع محب، واستعمل حببت أيضا في موضع أحببت) . (ب) تعريف المحبة عند العلماء: ثم يستطرد الراغب فيقول: (والمحبة إرادة ما تراه خيرا أو تظنه خيرا. وهي على ثلاثة أوجه: - محبة للذة، كمحبة الرجل المرأة، ومنه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] (¬1) . - محبة للنفع، كمحبة شيء ينتفع به، ومنه: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13] (¬2) . - ومحبة للفضل، كمحبة أهل العلم بعضهم لبعض من أجل العلم) (¬3) . وإذا كان الراغب هنا قد فسر المحبة بإرادة ما يظنه الإنسان خيرا، فقد كان " القاضي عياض (¬4) أكثر وضوحا حين عرف المحبة: بأنها ميل الإنسان إلى ما يوافقه. يقول القاضي عياض: (وحقيقة المحبة: الميل إلى ما يوافق الإنسان، وتكون موافقته له: ¬

(¬1) سورة الإنسان، آية (8) . (¬2) سورة الصف، آية (13) . (¬3) المفردات في غريب القرآن. لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني. تحقيق. محمد سيد كيلاني. طبع مطبعة مصطفى الحلبي. مصر 1962م، مادة " حب " ص105. (¬4) هو أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي (476هـ - 544) عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته. ولد سبته وولي قضاءها. من تصانيفه: الشفا بتعريف حقوق المصطفى. ومشارق الأنوار. وشرح صحيح مسلم، وغيرها. توفى بمراكش. انظر. وفيات الأعيان 3 / 483 وما بعدها والبداية والنهاية 12 / 255.

1 - إما لأستلذاذه بإدراكه كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له. 2 - أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة كحب الصالحين والعلماء، وأهل المعروف المأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء. 3 - أو يكون حبه إياه لمرافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها) (¬1) . وعلى ذلك فهذا الميل إما أن يكون حسيا أو عقليا أو قلبيا. وعلى هذه الجوانب الثلاثة- منفردة أو مجتمعة- يقوم الحب في القلب، فما وافقها مال إليه القلب وأحبه، وما خالفها نفر عنه وكرهه. وأصل الحب قوة في القلب تحرك إرادة الإنسان لتحصيل المحبوبات أصلا، ودفع المكروهات تبعا، فتميل النفس إلى الشيء إن كان محبوبا وتنفر عنه إن كان مكروها (¬2) . ويتوقف تعلق النفس بالشيء حبا، أو النفور عنه كرها على الإدراك الفطري أو الكسبي. فالحب إذن ثمرة الإدراك والمعرفة، فكلما كانت المعرفة أتم كان الحب أقوى والعكس صحيح. لأجل هذا كان الناس متفاوتين في حبهم للأشياء والأشخاص تفاوتا بينا تبعا لتفاوت إدراكهم ومعرفتهم. وإذا كانت وسائل المعرفة والإدراك لدى المرء سليمة وصحيحة أحب الإنسان ما ينفعه ويصلحه، وإلا أحب الضار يحسبه نافعا والفاسد يحسبه صالحا. ¬

(¬1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى. للقاضي عياض اليحصبي طبع دار الكتب العلمية، بيروت، 1399، هـ - 2 / 29 - 30. (¬2) انظر. رسالة العبودية، ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية، 10 / 192.

وبناء على هذا يمكن أن نعرف الحب بأنه: ميل القلب فطرة أو إدراكا ومعرفة الى ما يوافقه ويستحسنه. (ج) المحبة في النصوص الشريعة: أما في الشرع فقد ورد لفظ الحب في القرآن والسنة بكل جوانبه الطبعية والشرعية. فالجوانب الفطرية أو الطبعية مثل حب الآباء والأبناء والأزواج وحب المال وسائر الشهوات. قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] (¬1) . وقال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20] (¬2) . وقال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] (¬3) . وقال: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة: 20] (¬4) . وفي الحديث الذي أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل» (¬5) وأخرج عن أنس بن مالك أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان حب المال وطول العمر» (¬6) . هذه هي المحبة الفطرية الجبلية كما وردت في النصوص الشرعية، وأما المحبة الشرعية- أعني حب الله ورسوله- فالنصوص الواردة فيها كثيرة وإليك بيانها: ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية (14) . (¬2) سورة الفجر، آية (20) . (¬3) سورة العاديات، آية (8) . (¬4) سورة القيامة، آية (20) . (¬5) صحيح البخاري. كتاب الرقاق. باب من بلغ ستين سنة 8 / 111. (¬6) صحيح البخاري. كتاب الرقاق. باب من بلغ ستين سنة 8 / 111.

(د) حب الله عز وجل: ولنبدأ بحب الله تعالى، أما النصوص الواردة في حب الرسول صلى الله عليه وسلم فسوف تأتي في المبحث القادم. فقد جاء لفظ الحب في القرآن والسنة لبيان حب الله لعباده المؤمنين وذلك في مثل قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] (¬1) . وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] (¬2) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] (¬3) . وفيما أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قال: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه» . . . . . .) الحديث (¬4) . وأخرج البخاري ومسلم بسنديهما عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ " قل هو الله أحد " فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ " فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أخبروه أن الله يحبه» (¬5) . كما ورد ما يثبت حب المؤمنين لربهم عز وجل وذلك كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] (¬6) . ¬

(¬1) سورة المائدة، آية (54) . (¬2) سورة البقرة، آية (222) . (¬3) سورة الصف، آية (4) . (¬4) صحيح البخاري. كتاب الرقاق. باب التواضع، 8 / 131. (¬5) صحيح البخاري. كتاب التوحيد. باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، 9 / 140-141. ومسلم. كتاب صلاة المسافرين. باب فضل قراءة " قل هو الله أحد، 1 / 557. (¬6) سورة البقرة، آية (165) .

وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] (¬1) وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] الآية (¬2) . وأخرج البخاري ومسلم بسنديهما عن أنس بن مالك (أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: «متى الساعة يا رسول الله؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: أنت مع من أحببت» (¬3) . ومن ثم يتبين لنا أن الحب علاقة متبادلة بين الله تعالى وبين عباده المؤمنين. لكن حب الله لعباده صفة من صفاته منزهة عن مشابهة صفات المخلوقين ونصوص الكتاب والسنة تؤكد ذلك أتم تأكيد. وجمهور السلف على إثبات حب الله لعباده كصفة من صفاته كما يليق بذاته سبحانه، بلا كيف ولا تأويل ولا مشاركة للمخلوق في شيء من خصائصها كما أنهم يثبتون محبة العباد لربهم محبة حقيقية قلبية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة، والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشايخ الدين المتبعون وأئمة التصوف أن الله سبحانه محبوب لذاته محبة حقيقية، بل هي أكمل محبة، فإنها كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] (¬4) وكذلك هو سبحانه يحب عباده المؤمنين محبة حقيقية) (¬5) . ¬

(¬1) سورة المائدة، آية (54) . (¬2) سورة آل عمران، آية (31) . (¬3) صحيح البخاري. كتاب الأدب. باب علامة الحب في الله، 8 / 49، وصحيح مسلم كتاب البر والصلة. باب المرء مع من أحب، 4 / 2033. (¬4) سورة البقرة، آية (165) . (¬5) مجموع فتاوى شيح الإسلام أحمد بن تيمية. جمع وترتيب. عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه محمد. طبع مكتبة المعارف. الرباط. المغرب 10 / 66. وانظر تفسير القاسمي. المسمى محاسن التأويل. محمد جمال الدين القاسمي. تحقيق. محمد فؤاد عبد الباقي. ط 2، طبع دار الفكر. بيروت، 1398 هـ- 1978 م، 6 / 253- 255.

ومع وضوح هذا الأمر إلا أن أهل الأهواء والبدع من الجهمية ومن تابعهم من المتكلمين حادوا عن إثبات حب الله لعباده كصفة من صفاته سبحان وتعالى. متأولين محبته سبحانه بإرادة الإحسان، أو بإحسانه وإنعامه على عباده. كما أنهم أولوا محبة العباد لربهم بأنها محبة طاعته، أو محبة إحسانه وثوابه (¬1) . وهذا التأويل- مع بطلانه- يؤدي إلى إنكار المحبة، ومتى بطلت المحبة بطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان، وخلت الأعمال من روحها، إذ هي أصل كما عمل ديني. فإنكارهم للمحبة إنكار لحقيقة الإسلام، فإنه الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله، فمن لا محبة في قلبه لله ورسوله فلا إيمان له ألبتة (¬2) . (هـ) محبة الرسول صلى الله عليه وسلم: وبعد أن تكلمنا عن ورود لفظ الحب في اللغة والشرع نريد أن نخلص إلى تحديد مفهوم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم. فأقول إنه لما كان الحب لغة: ميل القلب فطرة أو إدراكا ومعرفة إلى ما يوافقه ويستحسنه. فكذلك محبة الرسول صلى الله عليه وسلم معناها: أن يميل قلب المسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ميلا يتجلى فيه إيثاره صلى الله عليه وسلم على ¬

(¬1) انظر في بيان ذلك: الكشاف عن حقائق التنزيل في وجوه التأويل. أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري. ط1. طبع دار الفكر. بيروت، 1977، 1 / 621- 622. والتفسير الكبير للفخر الرازي. ط3، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 4 / 205 - 208. (¬2) انظر في الرد على هذا التأويل. مجموع الفتاوى لابن تيمية، 6 / 477 وما بعدها، 10 / 66 وما بعدها والنبوات لابن تيمية، ص 66 وما بعدها. ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين. لابن القيم الجوزي تحقيق. محمد حامد الفقي. طبع دار الكتاب العربي. بيروت، 1392هـ 3 / 18 وما بعدها.

كل محبوب من نفس ووالد وولد والناس أجمعين وذلك لما- خصه الله من كريم الخصال وعظيم الشمائل، وما أجراه على يديه من صنوف الخير والبركات لأمته، وما امتن الله على العباد ببعثته ورسالته إلى غير ذلك من الأسباب الموجبة لمحبته عقلا وشرعا. يقول النووي ملخصا كلام القاضي عياض: (وبالجملة فأصل المحبة: الميل إلى ما يوافق المحب، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان ويستحسنه، كحسن الصورة والصوت والطعام ونحوها، وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة كحب الصالحين والعلماء وأهل الفضل مطلقا، وقد يكون لإحسانه إليه ودفع المضار والمكاره عنه. وهذه المعاني كلها موجودة في النبي صلى الله عليه وسلم لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال خلال الجلال وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم ودوام النعم والأبعاد من الجحيم) (¬1) . وحب المسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمل قلبي من أجل أعمال القلوب، وأمر وجداني يجده المسلم في قلبه، وعاطفة طيبة تجيش بها نفسه، وإن تفاوتت درجة الشعور بهذا الحب تبعا لقوة الإيمان أو ضعفه. وليس هذا الحب أمرا عقليا مجردا عن الميل القلبى كما ذهب إليه البيضاوي (¬2) فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر: عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم: " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما قال: ¬

(¬1) صحيح مسلم بشرح النووي. طبع دار الفكر، بيروت 1401هـ، 2 / 14. (¬2) هو أبو سعيد ناصر الدين عبد الله بن عمر بن محمد البيضاوي (. . . ـ 685) قاض. أصولي. متكلم. مفسر. من تصانيفه: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، طواع الأنوار، منهاج الوصول إلى علم الأصول. انظر طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو. ومحمود الطناحي. ط1، مطبعة عيسى الحلبي، مصر 8 / 157، 158. وبغية الوعاة 2 / 50، 51.

(المراد بالحب هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه، ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله. فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهي إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل- والعقل يقتضي رجحان ذلك- تمرن على الائتمار بأمره حيث يصير هواه تبعا له، ويلتذ به التذاذا عقليا، إذ الالتذاذ العقلي: إدراك مما هو كمال وخير من حيث هو كذلك) (¬1) . وقد تعقبه صاحب كتاب تيسير العزيز الحميد بقوله: (. . . . كلامه على قواعد الجهمية ونحوهم من نفي محبة المؤمنين لربهم ومحبته لهم والحق بخلاف ذلك، بل المراد في الحديث أن يكون الله ورسوله عند العبد أحب إليه مما سواهما حبا قلبيا. . . . . وأما مجرد إيثار ما يقتضي العقل رجحانه وإن كان على خلاف هوى النذر كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه. . . . . فهذا قد يكون في بعض الأمور علامة على الحب ولازما له. لا أنه الحب) (¬2) . ثم إن إدراك العقل للكمال أو الخير أو أي معنى من المعاني الفاضلة لا يكفي حتى نسميه حبا، بل لا بد مع ذلك من الميل القلبي والتعلق النفسي. وتمثيله حال من آثر محبة الله ورسوله- وإن كان على خلاف هوى النفس- بحال المريض مع الدواء المر- الذي تعافه نفسه ويميل عقله إلى تناوله- تمثيل غير مناسب وغير لائق أيضا. لأن من كانت محبته لله ورسوله كمحبة المريض للدواء المر جدير بأن يقال أنه وجد مرارة الإيمان لا حلاوته. ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ط دار المعرفة بيروت 1 / 60- 61. (¬2) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد. للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. ط3، طبع المكتب الإسلامي. بيروت، 1397هـ، ص476، 477.

وإنما يجد حلاوة الإيمان من كان هواه وقلبه في تلك المحبة مناصرا لعقله ومسايرا له جنبا إلى جنب (¬1) . وإذا كان هناك من فسر حب الله ورسوله بأنه حب عقلي، فهناك من يظن أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تعني طاعته، وهذا فهم خاطئ إذ أن محبته هي أساس طاعته، والطاعة شرط للمحبة وثمرتها. فالطاعة أمر زائد على المحبة ومترتب عليها. كما أن هذا الحب أمر زائد على الإعجاب بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وسمو أخلاقه وعظمة تعاليمه. إذ نرى كثيرا ممن لا ينتسبون إلى الإسلام ولا يؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم يبدون إعجابهم وتقديرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويفيضون في بيان جوانب عظمته، ومع ذلك لا يمكن أن نسمي هذا الإعجاب حبا شرعيا حتى يكون هناك إيمان بدين الإسلام. ولقد كان أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه ويحوطه ويصد عنه أذى قريش بما استطاع. ومع هذا فلم يثمر ذلك حبا وإيمانا منه بدين الإسلام لأن حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان حب قرابة وحمية جاهلية. نخلص من هذا إلى أن المحبة الحقيقية لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي المحبة الشرعية الإرادية الاختيارية، وهي عمل قلبي من أجل أعمال القلوب، ورابطة من أوثق روابط النفوس تربط المسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم وتجعل قلبه وهمه وفكره وإرادته متوجهة لتحصيل ما يحبه الله ورسوله من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. (و) الصلة بين محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم: الصلة بين المحبتين هي صلة الفرع بالأصل والتابع بالمتبوع فمحبتنا لرسول ¬

(¬1) انظر. المختار من كنوز السنة. محمد عبد الله دراز. راجعه وأشرف على طبعه الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، ط4، قطر ص440.

الله صلى الله عليه وسلم تابعة لمحبتنا لله عز وجل، إذ هي أساس المحبة الدينية الشرعية ومصدرها، وكل ما سواها من المحاب الشرعية تبع لها. وذلك كمحبة الأنبياء والصالحين، ومحبة كل ما يحبه الله ورسوله. قال ابن تيمية: (وليس للخلق محبة أعظم ولا أتم من محبة المؤمنين لربهم، وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى وكل ما يحب سواه فمحبته تبع لحبه، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما يحب لأجل الله ويطاع لأجل الله ويتبع لأجل الله. كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] (¬1)) (¬2) . وعلى ذلك فلا تنفك إحدى المحبتين عن الأخرى فمن أحب الله أحب رسوله صلى الله عليه وسلم وكذلك سائر رسله ومحبة الرسول تبع لمحبة من أرسله. ولأجل هذا جاء حب الرسول صلى الله عليه وسلم مقترنا بحب الله عز وجل في أكثر النصوص الشرعية. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] (¬3) . وفي الحديث «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (¬4) . وهذا الارتباط بين المحبتين ارتباط شرعي لا ينفك. فمن زعم أنه يحب الله ولم يحب رسوله صلى الله عليه وسلم أو العكس فكلامه باطل واعتقاده فاسد. ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية (31) . (¬2) مجموع الفتاوى، 10 / 649. (¬3) سورة التوبة، آية (24) . (¬4) صحيح البخاري. كتاب الإيمان باب حلاوة الإيمان 1 / 10.

المبحث الثاني وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم

[المبحث الثاني وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم] المبحث الثاني وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم انتهينا مما سبق إلى أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم هي ميل قلب المؤمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ميلا يتجلى فيه إيثار حبه على كل من سواه من البشر وتتشوق النفس إلى معرفة حكم هذه المحبة في الشرع مع بيان أدلتها من الكتاب والسنة. فأقول إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أصل عظيم من أصول الإيمان يتوقف على وجوده وجود الإيمان، فلا يدخل المسلم في عداد المؤمنين الناجين حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه بل ومن الناس أجمعين. وأدلة هذا كثيرة القرآن والسنة. فمن القرآن: (أ) قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] (¬1) . ففي هذه الآية توعد الله من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بقوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] ومعلوم أن الله لا يتوعد أحدا بمثل هذا الوعيد الشديد إلا على ترك واجب، أو فعل محرم. ¬

(¬1) سورة التوبة، آية (24) .

فعلم بذلك أنه يجب على كل مؤمن أن يكون الله ورسوله، والجهاد في سبيله أحب إليه من الأهل والإخوان والأموال والأوطان. يقول القاضي عياض مستدلا بهذه الآية: (فكفى بهذا حضا وتنبها ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها وعظم خطرها واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وتوعدهم بقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] ثم فسقهم بتمام الآية وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله) (¬1) . وقد ذكر الله في هذه الآية ثمانية أصناف وهم الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال المكتسبة والتجارات والمساكن والديار. وهذه الأصناف تمثل بمجموعها كافة الروابط الاجتماعية والاقتصادية وعليها مدار مصالح الحلق ومعايشهم. وهي التي تجذب الإنسان إلى الأرض وتثقله عن الجهاد في، سبيل الله ما لم يكن حب الله ورسوله مستعليا في قلب المسلم على كل هذه الروابط والمصالح. وفي ذكر الله للجهاد مقرونا بحبه سبحانه وتعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه من أظهر العلامات على ذلك الحب لأنه هو المحك الذي يتجلى فيه صدق هذا الحب وإيثاره على غيره من الكتاب التي ذكرها الله في هذه الآية. ومن رحمة الله عز رجل أنه لم يذم حب الأهل والأقارب والأزواج ولا حب المال المتكسب والمساكن ولم ينه عن ذلك. وإنما جعل من مقتضى الإيمان إيثار محبة الله ورسوله على حب هذه الأنواع، وكذلك تقديم الجهاد إذا وجب عليها. وهذا هو حال المؤمنين الصادقين في حبهم لله ورسوله (¬2) . ¬

(¬1) الشفا، 2 / 18. (¬2) انظر تفسير المنار - محمد رشيد رضا - ط2، دار المعرفة، بيروت، 10 / 225 - 242.

(ب) قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] (¬1) . فهذه الآية إخبار عن مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين، كما أنها أيضا إخبار عن الحال التي ينبغي أن يكون فيها المؤمنون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو أولى بهم من أنفسهم ولا يكون كذلك حتى يكون أحب إليهم من أنفسهم. ويبين ابن القيم أن هذه الآية دليل على أن من لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أولى به من نفسه فليس من المؤمنين ثم يوضح أن هذه الأولوية تتضمن أمرين: 1 - (. . . أن يكون أحب إلى العبد من نفسه، لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب إليه من غيره ومع هذا يجب ان يكون الرسول أولى به منها، وأحب إليه منها، فبذلك يحصل له اسم الإيمان. ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه. 2 - ومنها: أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلا، بل الحكم على نفسه للرسول صلى الله عليه وسلم يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها) (¬2) . فتبين من هذا أنه يجب على كل مؤمن أن يكون الرسول أولى به من نفسه في كل شيء، وأن يكون حكمه صلى الله عليه وسلم في أي شيء مقدما على رغبات النفس وتطلعاتها، بل إن الحياة لتعد هينة ورخيصة بجانب تحقيق ما فرضه الله ورسوله ¬

(¬1) سورة الأحزاب، آية (6) . (¬2) الرسالة التبوكية. لابن القيم. مراجعة الشيخ عبد الطاهر أبي السمح، ط1، نشر المطبعة السلفية ومكتبتها مكة المكرمة، 1347 هـ، ص 21- 22.

وإن كان على خلاف هوى النفس. لأن نفوسنا تدعونا إلى الهلاك، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى النجاة فكان أولى بنا من أنفسنا صلى الله عليه وسلم. وحينما أيقن المسلمون الأولون بذلك أعزهم الله ومكن لهم في الأرض. فلما غلبت الأهواء واتبعت الشهوات صار الحال مبدلا معكوسا. ذلة وهوان بعد عزة وضياع وتفرق بعد القوة والتمكين. والسبب هو تقديم الأهواء وشهوات الأنفس عل ما يحبه الله ورسوله. الأدلة من السنة: وقد جاءت الأحاديث لتؤكد مدلول هاتين الآيتين- أبلغ تأكيد وأوضحه ألا وهو وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم. فمنها ما أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده» (¬1) وأخرج البخاري ومسلم بسنديهما عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (¬2) . فهذان الحديثان من أوضح الأدلة على وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن المؤمن لايستحق اسم الإيمان الكامل ولا يدخل في عداد الناجين حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين. والتعبير " بأحب " دليل صريح كل أن المحبة المطلوبة شرعا هي المحبة الراجحة، وأن الإيمان الكامل متوقف على رجحان هذه المحبة في القلب على ما سواها من محبة سائر المخلوقين. وخص الوالد والولد بالذكر لكونهما أعز خلق الله على الإنسان، بل ربما كانا أحب إليه من نفسه، وفي هذا تأكيد على أنه يجب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلى نفس المؤمن من كل حبيب وعزيز عليه من سائر البشر جميعا (¬3) . ¬

(¬1) صحيح البخاري. كتاب الإيمان. باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان 1 / 10. (¬2) صحيح البخاري كتاب الإيمان. باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان 1 / 10. ومسلم. كتاب الإيمان. باب وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 1 / 10. (¬3) انظر فتح الباري، 1 / 59.

ونفى الإيمان في هذا الحديث هو نفى لكمال الإيمان الواجب الذي ينجو به صاحبه من الوعيد ويستحق دخول الجنة بفضل الله. وذلك لأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم من واجبات الإيمان فمن أخل بها فقد أخل بواجب من واجبات الإيمان التي لا يتم الإيمان بدونها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والمقصود هنا أن كل ما نفاه الله ورسوله من مسمى أحماء الأمور الواجبة كاسم الإيمان، والإسلام والدين والصلاة والصيام والطهارة والحج، وغير ذلك فإنما يكون لترك واجب من ذلك المسمى، ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] (¬1) . فلما نفى- الإيمان - حتى توجد هذه الغاية، دل على أن هذه الغاية فرض على الناس، فمن تركها كان من أهل الوعيد، لم يكن قد أتى بالإيمان الواجب الذكي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب، فإن الله إنما وعد بذلك من فعل ما أمر به وأما من فعل بعض الواجبات وترك بعضها فهو معرض للوعيد) (¬2) . فنفي الإيمان عند عدم وجود المحبة الراجحة يدل على أنها واجبة وإن من لم يأت بها فقد تعرض للوعيد، فإن الله ورسوله لا ينفيان اسم مسمى أمر- أمر به الله ورسوله - إلا إذا ترك بعض واجباته، فأما إذا كان الفعل مستحب في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، ولو صح هذا لنفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج وحب الله ورسوله لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا أبو بكر ولا عمر، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفا عنه لجاز أن ينفى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين وهذا لا يقوله عاقل. فإن قال ¬

(¬1) سورة النساء، آية (65) . (¬2) مجموع الفتاوى، 7 / 15 وما بعدها.

إن المنفي هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة، فقد صدق. وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم (¬1) . ومعنى هذا أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم من لوازم الإيمان وواجباته فلا يتحقق الإيمان بدونها، ولا يستحق المؤمن اسم الإيمان بدونها، وأن نفي الإيمان في الحديث إنما هو نفي لكمال الإيمان الواجب إذا لم توجد المحبة الراجحة على ما سواها من سائر المحاب فإذا وجدت هذه المحبة على هذه الصفة فهي دليل على كمال الإيمان بالنسبة لمن اتصف بها في هذا الجانب. وأما إذا لم توجد هذه المحبة على الصفة الراجحة كان من اتصف بها معرضا للوعيد لأنه أخل بواجب من واجبات الإيمان التي لا يتم الإيمان بدونها. ومن الأحاديث الدالة على وجوب المحبة ما أخرجه البخاري بسنده عن عبد الله بن هشام قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. ضال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر» (¬2) . فهذا الحديث يبين أنه لا يبلغ المسلم حقيقة الإيمان حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه. وتلك هي قمة السمو في الحب حين يستعلى المسلم على رغبات النفس وشهواتها، مؤثرا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل ذلك، ويتبين هذا إذا تعارض أي أمر أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم مع رغبة من رغبات النفس فأيهما تقدم كان الحكم له. ¬

(¬1) انظر المصدر نفسه 7 / 37. (¬2) صحيح البخاري. كتاب الإيمان والنذور. باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم 8 / 161.

ونقل ابن حجر في شرح هذا الحديث عن بعض الزهاد أن: (تقدير الكلام لا تصدق في حبي حتى تؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه الهلاك. . . . وقال الخطابي (¬1) حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حب الاختيار إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه) . ثم يستطرد ابن حجر معلقا على كلام الخطابي فيقول: (فعلى هذا فجواب عمر أولا كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والأخرى، فأخبر بما اقتضاه الاختيار ولذلك حصل الجواب بقوله: «الآن يا عمر» أي الآن عرفت فنطقت بما يجب) (¬2) . إذا فلم يكن حصول المحبة عند عمر رضي الله عنه أمرا جديدا على نفسه وإنما كان الجديد لديه هو إدراكه لتلك المحبة والتفاته إليها. وفي هذا الحديث إشارة إلى فضيلة التفكر. فإن عمر رضي الله عنه لما أجاب أول الأمر لم يكن قد تفكر في كون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، فلما استوقفه الرسول صلى الله عليه وسلم وراجعه تفكر وامتحن نفسه فإذا به يصل إلى النتيجة المطلوبة. وهي كون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه. ¬

(¬1) هو أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي. نسبة إلى زيد بن الخطاب (319- 388) إمام. محدث. له في الحديث اليد الطولي. فهو أول من شرح البخاري. فقيه. من تصانيفه: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، ومعالم السنن في شرح سنن أبي داود، وغريب الحديث، ورسالة في العزلة، وشأن الدعاء، والغنية عن الكلام وأهله، وغيرها. انظر البداية والنهاية 11 / 236، وتذكرة الحفاظ للذهبي، 3 / 209. (¬2) فتح الباري، 11 / 528.

لأجل هذا كان التفكر سبيلا من سبل الوصول إلى هذه المحبة. فإذا تفكر المسلم في النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه سبب نجاته في الدنيا والآخرة، وأدرك ذلك بقلبه يقينا عظمت عند ذاك محبة النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه. وبعد أن تبين لنا وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بأدلته من القرآن والسنة. أود أن أشير إلى أن هذه المحبة- كما قال ابن رجب (¬1) - على درجتين: 1 - إحداهما- فرض: وهي المحبة التي تقتضى قبول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله، وتلقيه بالمحبة والرضا والتعظيم والتسليم، وعدم طلب الهدى من غير طريقه بالكلية، ثم حسن الاتباع له فيما بلغه عن ربه، من تصديقه في كل ما أخبر به وطاعته فيما أمر به من الواجبات، والانتهاء عما نهي عنه من المحرمات، ونصرة دينه والجهاد لمن خالفه بحسب القدرة، فهذا القدر لا بد منه، ولا يتم الإيمان بدونه. 2 - والدرجة الثانية: فضل، وهي المحبة التي تقتضى حسن التأسي به، وتحقيق الاقتداء بسنته، في أخلاقه، وآدابه، ونوافله، وتطوعاته، وأكله، وشربه، ولباسه، وحسن محاضرته لأزواجه، وغير ذلك من آدابه الكاملة، وأخلاقه الطاهرة. والاعتناء بمعرفة سيرته وأيامه، واهتزاز القلب من محبته، وتعظيمه، وتوقره ومحبة استماع كلامه، وإيثاره على كلام غيره من المخلوقين. ومن أعظم ذلك الاقتداء به في زهده في الدنيا والاجتزاء باليسير منها، ورغبته في الآخرة (¬2) . ومما سبق يتبين لنا أن المحبة والإيمان أمران متلازمان في قلب المؤمن تلازما مطردا يزيد أحدهما بزيادة الآخر وينقص بنقصانه. ¬

(¬1) هو أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (726 هـ - 795 هـ) محدث. فقيه. من تصانيفه: شرح سنن الترمذي، فتح الباري شرح صحيح البخاري لم يكمله، جامع العلوم والحكم. ذيل طبقات الحنابلة وغيرها. انظر. الأعلام 3 / 295. (¬2) استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس. لأبي الفرج عبد الر حمن بن رجب الحنبلي. طبع مطبعة الإمام. مصر ص34، 35.

كما جاء ذلك مبينا في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده والناس أجمعين» (¬1) . فقد وضح هذا الحديث العلاقة بين الإيمان والمحبة، إذ علق كمال الإيمان الواجب على وجود المحبة الراجحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها شرطا يتوقف عليه الإيمان الذي ينجو به صاحبه من العقاب ويستحق دخول الجنة بفضل الله ورحمته. ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان حب الرسول صلى الله عليه وسلم في قلب المسلم راجحا على حب ما سواه من النفس والمال والولد وسائر البشر أجمعين. فمن كان حبه لنفسه أو لشيء من الأشياء كحبه لله ورسوله أو أشد فهو من أصحاب الوعيد لأن الله تعالى جعل المحبة الراجحة لله ورسوله من لوازم الإيمان وجعل ما دونها من أوصاف المشركين. فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] (¬2) . فإذا قويت المحبة في قلب المؤمن وزادت أثمر ذلك زيادة في الإيمان، وذاق العبد حينئذ حلاوة الإيمان. كما في صحيح البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. . .» الحديث) (¬3) . ولا يصل العبد إلى هذه المنزلة إلا إذا سعى في تحصيل ما يحبه الله ورسوله من الأقوال والأفعال. ¬

(¬1) سبق تخريجه ص49. (¬2) سورة البقرة، آية (165) . (¬3) صحيح البخاري. كتاب الإيمان. باب حلاوة الإبمان 1 / 10. وصحيح مسلم. كتاب الإيمان. باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان 1 / 66.

وكلما كان سعي العبد حثيثا لتحصيل هذه المحبوبات كلما ازداد إيمانه وذاق حلاوته، وإذا قصر العبد في أداء ما كلف به والالتزام بآداب الشرع فإنما يرجع ذلك إلى نقصان في الإيمان الدال على نقصان المحبة. فزيادة المحبة دليل على زيادة الإيمان ونقصانها دليل على نقصان الإيمان. أما أصل الإيمان فلا يوجد بدون وجود المحبة، ولا يوجد مسلم ليس في قلبه محبة ولو كانت ضعيفة - لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فتبين لنا من هذا أن العلاقة بين المحبة والإيمان علاقة وثيقة فوجود أحدهما متوقف على وجود الآخر وزيادة أحدهما تعني زيادة الآخر.

المبحث الثالث دواعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسباب زيادتها

[المبحث الثالث دواعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسباب زيادتها] المبحث الثالث دواعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسباب زيادتها يرتبط الحب في قلب الإنسان بدوافع وبواعث تبعث عليه مهمتها أن تحرك القلب وتدفعه نحو محبوباته. وتتعدد هذه الدوافع وتتنوع بحسب تنوع المحبوبات واختلافها. فمن الحب ما تدفع إليه البواعث الحسية، أو العقلية، أو القلبية. وذلك لوجود صفات قامت بالمحبوب واتصف بها من كمال، أو جمال، أو إحسان، أو غير ذلك من الدواعي والأسباب الباعثة على الحب. وإذا نظرنا إلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فسنجد أن البواعث عليها متنوعة ومتعددة، وذلك لكثرة ما خصه الله به من أنواع الفضائل، وما أجراه على يديه من الخيرات لأمته. إلى غير ذلك من الدواعي التي ترجع إلى مجموع خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته ومنها: أولا: أن حب المسلم للرسول صلى الله عليه وسلم تابع لحبه لله عز وجل: وذلك لأن محبة الله تعالى هي أساس المحبة الشرعية، لأن الله هو المحبوب لذاته، وكل ما سواه مما يحب شرعا فمحبته تابعة لمحبة الله عز وجل. وذلك كمحبة أنبيائه ورسله وملائكته وعباده الصالحين، وكذلك محبة الأعمال والأخلاق التي يحبها الله ويرضاها. فمحبة ذلك كله تبع لمحبة الله عز وجل وهي من لوازم محبته فإن محبة الله توجب محبة ما يحبه الله. وعلى ذلك فمن أحب الله أحب رسوله صلى الله عليه وسلم لأجل حب الله عز وجل، فإن الرسول إنما يحب لأجل الله، ويطاع لأجل الله (¬1) كما قال الله تعالى: ¬

(¬1) انظر. مجموع الفتاوى لابن تيمية، 10 / 649.

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] (¬1) . ثانيا: أن الله تعالى أحبه واختاره من خلقه فحب ما يحبه الله من لوازم محبته: ذلك أن الله اصطفاه على الناس برسالته، وجعله خاتم النبيين، وأفضل الخلق أجمعين وحبيب رب العالمين، كما روى مسلم بسنده عن واثلة بن الأسقع قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل. واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (¬2) . وأخرج البخاري ومسلم واللفظ له عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله. إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه. فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا " وضعت هذه اللبنة! قال: فأنا اللبنة. وأنا خاتم النبيين» (¬3) وأخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة أيضا قال- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع» (¬4) . وقد ثبت في الحديث أن الله إذا أحب عبدا وضع له المحبة والقبول عند أهل الأرض والسماء. أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية (31) . (¬2) صحيح مسلم كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم 4 / 1782. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب المناقب. باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم 4 / 226، ومسلم - كتاب الفضائل، باب كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، 4 / 1791. (¬4) كتاب الفضائل باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق 4 / 1782.

فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الأرض» (¬1) . قال ابن حجر: (المراد بالقبول في حديث الباب: قبول القلوب له بالمحبة والميل إليه والرضا عنه ويؤخذ منه أن محبة قلوب الناس علامة محبة الله) (¬2) وإذا كان هذا الشأن في عامة عباد الله فأولى بهذه المحبة وذلك القبول أفضل الخلق أجمعين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تحقق هذا وأضعاف أضعافه، إذ لم تعرف الدنيا رجلا فاضت القلوب بحبه وفدته النفوس بكل عزيز وغال مثلما عرف ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أولئك الذين ناصبوه العداء لم يملكوا أنفسهم من سيطرة الإعجاب برسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله. فرسول الله أهل لأن يحب، لحب الله له واختياره لهذا الخير العميم. ومظاهر حب الله لرسوله كثيرة جدا منها: (أ) اختياره واصطفاؤه لمقام النبوة والرسالة، إذ لا يختار الله لهذا الأمر إلا من أحبهم وارتضاهم. كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] (¬3) . وقال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] (¬4) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46] (¬5) ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب المقة من الله 8 / 17. (¬2) فتح الباري، 10 / 462. (¬3) سورة الحج، آية (75) . (¬4) سورة الأنعام، آية (124) . (¬5) سورة الأحزاب، آية (45 -46) .

(ب) تشريفه صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن عليه. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] (¬1) . وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] (¬2) . (ج) إكرامه صلى الله عليه وسلم بشرح صدره ووضع وزره ورفع ذكره وإعلاء قدره قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ - وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ - الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ - وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 1 - 4] (¬3) . (د) تكريمه بصلاة الله وملائكته عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] (¬4) . والصلاة من الله تتضمن الثناء عليه ومن الملائكة الدعاء له صلى الله عليه وسلم. (هـ) تشريفه بمقام الخلة، وهي أرفع درجة من المحبة، ولم ينلها من الأنبياء سوى إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خليل الرحمن كما كان إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن. أخرج مسلم بسنده عن جندب قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. الا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا ¬

(¬1) سورة الشورى، آية (52) . (¬2) سورة الحجر، آية (87) . (¬3) سورةالشرح، آية (1 - 4) . (¬4) سورة الأحزاب، آية (56) .

تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك» (¬1) . (و) إن الله جعله رحمة للعالمين، الإنس والجن، رحمة للمؤمنين منهم، بالعز في الدنيا والنجاة في الآخرة، وللكافرين بإمهالهم وتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة. كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (¬2) . قال ابن القيم: (وأصح القولين في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] إنه باق على عمومه وفيه على هذا التقدير وجهان: أحدهما: أن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته، أما أتباعه فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة، وأما أعداؤه المحاربون له، فالذين عجّل قتلهم وموتهم خير لهم من حياتهم، لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وهم قد كتب عليهم الشقاء فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر، وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته، وهم أقل شرا بذلك العهد من المحاربين له. وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهلهم واحترامها وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيرها. وأما الأمم النائية عنه فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض فأصاب كل العالمين النفع برسالته. الوجه الثاني: أنه رحمة لكل أحد، لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها، فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم لكن لم يقبلوها) (¬3) . ¬

(¬1) صحيح مسلم. كتاب المساجد. باب النهي عن بناء القبور مساجد 1 / 375- 376. (¬2) سورة الأنبياء، آية (107) . (¬3) جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام لابن القيم. تحقيق طه يوسف شاهين، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، ص98 - 99.

وأخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: «قيل لرسول الله: ادع على المشركين، قال: (إني لم أبعث لعَّانا، وإنما بعثت رحمة) » (¬1) . (ز) ما خصه الله به وفضله على سائر الأنبياء، كإحلال الغنائم له، ونصرته بالرعب مسيرة شهر. كما في الحديث الذي أخرجه البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» (¬2) . (ج) تشريفه وتكريمه يوم القيامة بكونه صاحب المقام المحمود وهو الشفاعة العظمى في أن يقضي الله بين الخلائق. وكونه أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع وأول مشفع وصاحب لواء الحمد، وصاحب الحوض المورود، وأول من تفتح له أبواب الجنة. إلى غير ذلك من وجوه التكريم والتشريف لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتي تعد من أقوى الدوافع إلى محبته. ثالثا: كمال رأفته ورحمته بأمته وحرصه على هدايتها وإنقاذها من الهلكة: حتى كادت أن تذهب نفسه أسفا على قومه ألا يكونوا مؤمنين كما قال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] (¬3) . ¬

(¬1) صحيح مسلم. كتاب البر والآداب والصلة. باب النهي عن لعن الدواب وغيرها 4 / 2006- 2007. (¬2) البخاري. كتاب التيمم، باب. قول الله تعالى: " فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا"، 1 / 91- 92. (¬3) سورة الشعراء، آية (3) .

وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] (¬1) . وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] (¬2) . وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] (¬3) . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (¬4) . وقد جاءت أحاديث كثيرة تؤكد هذا المعنى. منها ما أخرجه البخاري ومسلم بسنديهما عن عبد الله بن زيد قال: «لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسَّم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم رسول الله (فقال: يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟ كلما قال شيئاَ قالوا: الله ورسوله أمن. قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن. قال: لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا. ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة، لكنت امرءا من الأنصار ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها. الأنصار شعار، والناس دثار. إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» (¬5) . ¬

(¬1) سورة التوبة، آية (128) . (¬2) سورة آل عمران، آية (103) . (¬3) سورة الأنفال، آية (33) . (¬4) سورة الأنبياء، آية (107) . (¬5) البخاري. كتاب المغازي. باب غزوة الطائف 5 / 200. ومسلم. كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه، 2 / 738.

ومنها ما أخرجه مسلم بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص: «أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] (¬1) الآية. وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] (¬2) فرفع يديه وقال (اللهم! أمتي أمتي) وبكى. فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد - وربك أعلم- فسله، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال. وهو أعلم. فقال الله يا جبريل (اذهب إلى محمد فقل: أنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» (¬3) . ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم - واللفظ له عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته. وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا» (¬4) . إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة التي تبين حدب النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته ورحمته بها. وجدير بمن كان بمثل هذه الشفقة والرحمة أن تتوجه قلوب المسلمين بكليتها إلى محبته وأن تجعل من حبه وسيلة قربى وزلفى إلى الله عز وجل. رابعا: كمال نصحه لأمته وهدايته لها وإحسانه إليها: إذ دل الأمة على كل خير يقربها إلى ربها، وحذرها من كل شر يجلب لها الذل والخزي في الدنيا والعذاب والنكال في الآخرة. فأصبح العز والتمكين في ¬

(¬1) سورة إبراهيم، آية (36) . (¬2) سورة المائدة، آية (118) . (¬3) صحيح مسلم. كتاب الإيمان. باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وبكائه شفقة عليهم، 1 / 191. (¬4) صحيح مسلم. كتاب الإيمان. باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته 1 / 189، والبخاري. كتاب الدعوات. باب لكل نبي دعوة مستجابة. 8 / 82.

الدنيا والسعادة والنعيم في الآخرة متوقفا على اتباع منهجه وسلوك سبيله. كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] (¬1) . وإذا كان الإنسان بفطرته يحب من نصحه أو أحسن إليه مرة أو مرتين فما بالنا بالناصح الأمين البر الشفيق على أمته والذي كانت حياته كلها نصحا لأمته وتعليما لها وتزكية لأرواحها وأبدانها. وهو الذي هدى البشرية- بإذن ربها- إلى الصراط المستقيم بعدما كانت تعيش في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، ولولا رحمة الله للناس ببعثته ورسالته لعاش الناس في بحار الظلمات تتقاذفهم الأمواج فلا يجدون إلى ساحل الهداية سبيلا. يقول الله عز وجل: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] (¬2) . وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ - فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151 - 152] (¬3) . لأجل هذا كانت المنة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم عظيمة، والنعمة بذلك جسيمة. ولا يعرف قدر هذه النعمة إلا من أدرك الفرق بين الهدى والضلال وبين الجاهلية والإسلام وبين رضى الله وسخطه. فمن عرف هذا الفرق وأدركه إدراكا يقينيا علم عظم هذه النعمة التي لا تعادلها نعمة على ظهر الأرض، وأحب الرسول صلى الله عليه وسلم بكل قلبه وآثر حب الله ورسوله على ما سواهما. ¬

(¬1) سورة النحل، آية (97) . (¬2) سورة آل عمران، آية (164) . (¬3) سورة البقرة، آية (151- 152) .

ولأجل هذا كان الصحابة أشد الخلق حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم عاشوا الجاهلية وعاينوها عن قرب فلما جاء الإسلام وأدركوا الفرق بين الظلمات والنور ازداد تمسكهم بالإسلام واشتد حبهم على مر الأيام لهذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم. أما عظيم إحسانه إلى أمته، فلأنه كان سبب انتفاع هذه الأمة بحياتها وأرواحها وأبدانها. بل كان هو السبب- بإذن ربه- في حياة هذه الأمة كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] (¬1) الآية. وإذا كان الإنسان يحب أبويه لكونهما وسيلة وجوده، ولأنهما منحاه الرعاية والعناية حتى استطاع شق طريقه في الحياة. فرسول الله أولى بذلك الحب لأنه كان سبب انتفاع الإنسان بحياته وبدنه وروحه. فلولا الإيمان به واتباع دينه لكان الإنسان في درجة الحيوانات أو أحط كما كانت حال الجاهلية قبل أن تشرق عليهم شمس النبوة وهكذا الشأن في كل جاهلية قديما وحديثا. خامسا: ما خصه الله به من كريم الخصال ورفيع الأخلاق مما ميزه على سائر الخلق أجمعين: ولو لم تكن له معجزة إلا أخلاقه العظيمة لكفت دليلا على صدق نبوته وسمو تعاليم رسالته. والمطالع في سيرته صلى الله عليه وسلم ومواقفه المتعددة يجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حاز من كل خلق أرفعه، وتسنم ذرى الأخلاق حتى سما بها، فكان كما وصفه ربه بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] (¬2) . ¬

(¬1) سورة الأنفال، آية (24) . (¬2) سورة القلم، آية (4) .

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الناس خلقا، وأوسعهم صدرا، وأصدقهم. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الناس خلقا، وأوسعهم صدرا وأصدقهم لهجة، وأكرمهم عشيرة، وأوفاهم عهدا، وأوصلهم للرحم، قريبا من كل بر، بعيدا عن كل إثم، لا يقول إلا حقا، ولا يعد إلا صدقا، جوادا بماله، فما قال لأحد: لا، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، شجاعا يتقي به أصحابه عند شدة البأس، صابرا محتسبا في جنب الله كل مكروه وأذى، يسبق حلمه غضبه ويعفو عند المقدرة، رحيم القلب، طيب النفس، آتاه الله الكمال في الخلق والخلق، والقول والعمل، وجمله بالسكينة والوقار، وكساه حسن القبول، فاستمال القلوب وملك زمامها، فانقادت النفوس لموافقته، وثبتت القلوب على محبته، وفدته النفوس بكل عزيز وغال. فجدير بمن كان بتلك المنزلة أن تتوجه القلوب لمحبته، وكلما اطلع الإنسان على جوانب خلقه الكريم ازداد حبا له. ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم أكمل الأمة حبا له لما شاهدوه وعاينوه من أحواله الشريفة وأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم. هذه هي أهم موجبات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ودواعيها. وهذه المحبة قد تضعف في قلب المسلم بسبب المعاصي والذنوب، أو الإقبال على حطام الدنيا. لأجل هذا يجب على المسلم أن يأخذ بالأسباب التي تزيد من محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أسباب زيادة المحبة: يرتبط الحب في القلب بما يحركه من تذكر وتفكر، ورؤية للآثار وسماع للأخبار. ومع وجود هذه المحركات يزداد الحب في قلب الإنسان وتطلب النفس تحصيل المحبوبات. وحب المسلم للرسول صلى الله عليه وسلم يحركه في قلبه أمور كثيرة منها: 1 - تذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله: إن للمعرفة ارتباطا وثيقا بالحب، وإذا لم يعرف المسلم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم

ويتعرف عليه وعلى عظيم قدره ومكانته في نفسه وعند ربه، فسيكون حبه له ضعيفا منزويا في أعماق الشعور والوجدان. فإذا أراد المسلم أن يزداد حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد له من معرفته ومعرفة جوانب شخصيته وأخلاقه وذلك بمطالعة سيرته وشمائله وأيامه والنظر فيها بتمعن لاستخلاص الدروس والعبر والعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحداث التي واجهته والمواقف التي وقفها والأعمال التي قام بها والنظر إلى حال الصحابة معه وكيف كان عيشهم وجهادهم لأعدائهم وحبهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم. فكلما طالع الإنسان سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدبرها أدرك عظمة رسول الله فازداد حبا له وشوقا إليه. ومما يكمل هذا الجانب التفكر فيما لاقاه الرسول في سبيل تبليغ الدين وعظيم حرصه على هداية الناس جميعا وشفقته على أمته ورحمته بها فإذا أدرك المسلم هذا الأمر ازداد حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 - الوقوف على هديه صلى الله عليه وسلم والاشتغال بالسنة قولا وعملا: الوقوف على هديه صلى الله عليه وسلم وتدبر سنته والاقتداء به في كل أمر من أمور الدين حتى يكون المسلم على بصيرة ويقين من أنه على جادة الاتباع فيجعل الرسول صلى الله عليه وسلم أمامه في كل أمر يقوم به من أمور الدين وكأنه واحد من أصحابه يأتمر بأمره وينتهي بنهيه وكلما استمسك المسلم بهديه وسنته وعاش معها بقلبه ووجدانه كلما كان ذلك ادعى إلى تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه. وإذا كان الحب مرتبطا بالمعرفة والتذكر، فأكثر الناس حبا له أهل سنته المشتغلون بها علما وعملا، رواية ودراية لأنهم أعلم الأمة بأقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأخلاقه وشمائله، ولو لم يكن لهم نصيب من حبه سوى الصلاة والسلام عليه لكفى بهذا شرفا. 3 - معرفة نعمة الله على عباده بهذا النبي صلى الله عليه وسلم: ومن أعظم أسباب هذه المعرفة التفكر في النفع الحاصل لهذه الأمة بسبب

بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فيها ونزول القرآن عليه. وأنه سبب نجاة هذه الأمة في الدنيا والآخرة وأن كل خير وعز وسعادة حصلت لهذه الأمة أو يقدر لها أن تحصل فبسبب اتباعه. وأن كل بلاء حصل لهذه الأمة أو سيحصل فسببه مخالفة ما جاء به من عند ربه. وحتى تكتمل هذه المعرفة يتخيل الإنسان كيف سيكون حال هذه الأمة لو لم يبعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف كان حالها قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم ثم كيف أصبح حالها بعد بعثته ونزول القرآن عليه. وكيف أن الله جمع به بعد فرقة، ورفع به شأن هذه الأمة وأخرجها به من الظلمات إلى النور. قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16] (¬1) . 4 - كثرة الصلاة والسلام عليه: إذ أنها من أعظم ما يربط قلب المسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويجعله متذكرا له دائما، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] (¬2) . وقد ورد الحث عليها والأمر بالإكثار منها في أحاديث كثيرة منها ما أخرجه مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى علي واحدة، صلى الله عليه عشرا» (¬3) . وسيأتي لهذا مزيد بيان في المبحث القادم إن شاء الله. ¬

(¬1) سورة المائدة، آية (15-16) . (¬2) سورة الأحزاب، آية (56) . (¬3) صحيح مسلم. كتاب الصلاة. باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، 1 / 306.

المبحث الرابع مظاهر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم

[المبحث الرابع مظاهر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم] المبحث الرابع مظاهر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم الحب وإن كان من أعمال القلوب إلا أنه لا بد وأن تظهر آثاره على الجوارح قولا وفعلا. ولما كان الحب أمرا يمكن أن يستتر وراء الدعاوى والمزاعم ويقع في الاشتباه، كان لا بد من التمييز بين الصادق فيه وبين الدعي الكاذب وبين من سلك في حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم مسلكا صحيحا وبين من انحرف بمسلك حبه عن الصواب. وقد جرت العادة أن الدعاوي لا تقبل إلا ببينات، فالبينة على من ادعى، ولو يعطى الناس بدعواهم لاختل ميزان الحق والعدل. وطالما استغلت دعوى الحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم أو حب الصالحين لتسويغ ألوان من البدع وضروب من الغلو وجعلها مقبولة طالما كان دافعها هذا الحب المزعوم. لذا أردت في هذا المبحث الكلام على الشواهد الصادقة والمظاهر الواضحة لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعها بآثارها على السلوك والأفعال. وذلك لبيان أن حب الرسول صلى الله عليه وسلم مقيد بضوابط تحكمه، ومحدد بعلامات تؤكد صدقه، وآثار تظهر على من اتصف به. وهذه العلامات والمظاهر كثيرة، لكني سأتكلم عن أظهرها وأبينها. أولا: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه: إن أقوى شاهد على صدق الحب- أيا كان نوعه- هو موافقة المحب لمحبوبه وبدون هذه الموافقة يصير الحب دعوى كاذبة وأكبر دليل على صدق الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو طاعته واتباعه.

فالاتباع هو دليل المحبة الأول وشاهدها الأمثل، وهو شرط صحة هذه المحبة، وبدونه لا تتحقق المحبة الشرعية ولا تتصور بمعناها الصحيح. وإذا كان الله سبحانه قد جعل اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم دليلا على حبه سبحانه، فهو من باب أوفى دليل على حب النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] (¬1) . قال ابن كثير رحمه الله: (هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية بأنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله. كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬2) ولهذا قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء: " ليس الشأن أن تحب إنما الشأن أن تحب ". وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] (¬3) فتبين من هذا أن الاتباع هو أعظم شاهد على صدق المحبة، بل هو من أجل ثمارها. ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية (31) . (¬2) أخرجه البخاري تعليقا في كتاب الاعتصام. باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود، 9 / 123. (¬3) تفسير ابن كثير. لإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي ط. دار الفكر، بيروت، 1 / 358.

فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم هو من أطاعه واقتدى به وآثر ما يحبه الله ورسوله على هوى نفسه، وظهرت أثار ذلك عليه من موافقته في حب ما يحبه وبغض ما يبغضه. ويؤكد القاضي عياض على ارتباط هذه المحبة بالموافقة والاتباع فيقول: (اعلم أن من أحب شيئا آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقا في حبه وكان مدعيا، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها: الاقتداء به واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] (¬1) وإيثار ما شرعه على هوى نفسه وموافقة شهواته، قال الله تعالى {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] (¬2) (¬3) . وقد استفاضت نصوص الكتاب والسنة في تعظيم شأن الاتباع وبيان أهميته، وأن سعادة المسلم في الدارين موقوفة على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن شقاء من شقي وهلاك من هلك إنما كان بسبب مخالفته لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنعرض لهذه النصوص في مبحث وجوب الطاعة. نخلص من هذا إلى أن أقوى مظهر وأوضح شاهد على صدق المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الاتباع وبدونه تصبح المحبة دعوى مجردة عن الدليل وقولا لا يصدقه عمل. وهذا الاتباع محدد أيضا بشواهد وعلامات تؤكده وسنعرض لها فيما بعد. ثانيا: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره والأدب معه: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم هو ما يقتضيه مقام النبوة والرسالة من كمال الأدب وتمام ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية (31) . (¬2) سورة الحشر، آية (9) . (¬3) الشفا، 2 / 24.

التوقير، وهو من أعظم مظاهر حبه، ومن آكد حقوقه صلى الله عليه وسلم على أمته، كما أنه من أهم واجبات الدين. وهذا التعظيم مثل المحبة من حيث كونه تابعا للمعرفة، فعلى قدر المعرفة يكون التعظيم وتكون المحبة. لذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم أكثر الناس حبا وتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمعايشتهم له وقربهم منه. وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم يكون بالقلب، واللسان والجوارح، فالتعظيم بالقلب هو ما يستلزم اعتقاد كونه رسولا اصطفاه الله برسالته، وخصه بنبوته، وأعلى قدره، ورفع ذكره، وفضله على سائر الخلق أجمعين، كما يستلزم تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين. أما التعظيم باللسان فيكون بالثناء عليه بما هو أهله، مما أثنى به على نفسه، أو أثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير، ويدخل في ذلك الصلاة والسلام عليه، كما يشمل الأدب في الخطاب معه والحديث عنه صلى الله عليه وسلم. وأما التعظيم بالجوارح فيشمل العمل بطاعته، وتجديد متابعته، وموافقته في حب ما يحبه، وبغض ما يبغضه والسعي في إظهار دينه، ونصرة شريعته، والذب عنه وصون حرمته (¬1) . وعلى ذلك فاساس التعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم وقاعدته التي ينبني عليها هو تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما عنه نهي وزجر، وعبادة الله بما شرع. فمن فقد هذا الأساس أو أخل به فقد أخل بتعظيمه وتوقيره صلى الله عليه وسلم. وهذا الإخلال يأتي من أمرين كليهما على طرفي نقيض: أولهما: الجفاء والتفريط في حقوقه صلى الله عليه وسلم. وذلك كنسبته إلى ما لا يليق بمقام النبوة كالطعن في صدقه أو أمانته وعدالته وذلك كصنيع ذي الخويصرة التميمي الذي طعن في قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للغنائم كما روي ذلك البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ¬

(¬1) انظر. الصارم المنكي في الرد على السبكي، لابن عبد الهادي، ص341 - 342.

«بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماه أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله اعدل فقال: ويلك. ومن يعدل إذ لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه. فقال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» . . . .) (¬1) الحديث. ويشبه هذا الصنيع صنيع المنافقين ومن انطمست بصائرهم فلم يعرفوا للنبي صلى الله عليه وسلم قدره ولم يحفظوا حرمته. ومما يلحق بالجفاء عدم التأدب في الحديث والكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم كصنيع بعض الشعراء والكتاب في تشبيه بعض الولاة والحكام أو وصفهم بصفات الرسول صلى الله عليه وسلم الخاصة به. كقول المعري مثلا (¬2) . لولا انقطاع الوحي بعد محمد ... قلنا محمد عن أبيه بديل هو مثله في الفضل إلا أنه ... لم يأته برسالة جبريل (¬3) وقد نقل القاضي عياض أمثلة من هذا القبيل من أقوال بعض الجفاة والمنافقين (¬4) . ومما يلحق بالجفاء ترك الصلاة والسلام عليه لفظا وخطا، أو الاستهانة بهديه وسنته وقلة المبالاة بها أو التعظيم لشأن المفكرين والكتاب والقادة بما يغض من ¬

(¬1) صحيح البخاري. كتاب المناقب. باب علامات النبوة في الإسلام (4 / 243 - 244) . (¬2) هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المقلب بالمعري. نسبة لمعرة النعمان بلدته (363- 449هـ) كان من أعلام الشعراء غير أنه كان زائغ الاعتقاد متشككا يميل إلى الزهد الفلسفي ولذلك كان متقلبا فتارة يكون موحدا وأخرى يكون ملحدا. وله عدة دواوين من أشهرها سقط الزند، واللزوميات وغيرها. انظر. البداية والنهاية، 12 / 72 / -76. ولسان الميزان لابن حجر، 1 / 203 - 208. (¬3) هذان البيتان من قصيدة للمعري يمدح بها رجلا من العلويين. انظر: سقط الزند - لأبي العلاء المعري. طبع دار صادر، ص142، 1383، 1963م. (¬4) انظر الشفا، 2 / 238 - 247.

شأنه صلى الله عليه وسلم، مع أن هؤلاء مهما بلغوا لن يصلوا إلى مرتبة واحد من عامة الصحابة. وقد كثر الجفاء في زماننا هذا بكثرة المارقين والمنهزمين من الكتاب والأدباء الذين سودوا الصحائف بالاستهزاء بتعاليم الإسلام وقيمه وربما بالتطاول على مقام النبوة. كما عزف كثير من المسلمين عن مطالعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومذاكرة سنته وكثرة الصلاة والسلام عليه. مما أدى إلى الجفاء للنبي صلى الله عليه وسلم وعدم توقيره. ولقد كان سلفنا الصالح إذا ذكر عندهم النبي صلى الله عليه وسلم أو حديثا من أحاديثه ظهر عليهم من الهيبة والإجلال والتأدب كما لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم حتى إن بعضهم كان يبكي عند ذكره صلى الله عليه وسلم فكان محمد بن المنكدر (¬1) إذا سئل عن حديث بكى حتى يرحمه الجالسون، وكان عبد الرحمن بن مهدي (¬2) إذا قرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحاضرين بالسكوت وقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] (¬3) ويتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب عند سماع قوله صلى الله عليه وسلم (¬4) . هكذا كان أدب سلفنا الصالح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته فأين منا هذا الأدب وذلك التوقير؟ كما نسأل الله العافية. ثانيهما: الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم ورفعه فوق مرتبته التي وضعه الله عليها. ¬

(¬1) هو أبو عبد الله محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير القرشي من أعلام التابعين روى عن جماعة من الصحابة وعمه جمع من الأئمة، كان سيد القراء قال ابن عيينة: كان من معادن الصدق، يجتمع إليه الصالحون. انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي، 1 / 127- 128. (¬2) هو أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي بن حسان البصري- من أعلام المحدثين حدث عن شعبة وسفيان وأمما، وعنه ابن المبارك وأحمد وابن المديني. انظر: تذكرة الحفاظ، 1 / 329- 332. (¬3) استشهد بقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " سورة الحجرات، آية (2) . (¬4) انظر الشفا، 2 / 40- 47.

وذلك كاعتقاد أنه يعلم الغيب مطلقا أو أن وجوده سابق لهذا العالم وأن من نوره خلق الكون كله إلى غير ذلك من الاعتقادات الباطلة التي لم ترد في سنة. وسيأتي لهذا مزيد بيان في فصل الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أوجب الله على الأمة كلها تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره فقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 8 - 9] (¬1) . فالتسبيح لله عز وجل والتعزير والتوقير للنبي صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] (¬2) والتعزير بمعنى التعظيم. قال ابن جرير في تفسير الآية الأولى: (معنى التعزير في هذا الموضع: التقوية والنصرة والمعونة ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال) (¬3) . ويعرف ابن تيمية التعزير بأنه: (اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار) (¬4) . وقد أبان الله في كتابه عن وجوه الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه. وما ينبغي على المسلم أن يتأدب به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في آيات شتى وبأساليب ¬

(¬1) سورة الفتح، آية (9) . (¬2) سورة الأعراف، آية (157) . (¬3) تفسير الطبري المسمى جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري. ط 2، مصطفى الحلبي. القاهرة، 1373 هـ، 26 / 75. (¬4) الصارم المسلول على شاتم الرسول. لابن تيمية. تحقيق. محمد محي الدين عبد الحميد، طبع دار الكتب العلمية، بيروت 1398 هـ، ص 422.

متنوعة. وقد اشتملت سورة الحجرات في صدرها على مجموعة من التوجيهات التربوية للمسلمين في كيفية تعاملهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأدب معه. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ - إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ - إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ - وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 1 - 5] (¬1) فقد أشارت هذه الآيات إلى بعض وجوه الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم منها: - عدم التقدم بين يدي الله ورسوله بقول أو فعل أو إذن أو تصرف كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] (¬2) . قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: " لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي الله لكم فيه، ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله (¬3) . وهذا الأمر فرض باق على الأمة إلى يوم القيامة- مثل طاعته صلى الله عليه وسلم حيا وميتا- فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كالتقدم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند ذوي العقول السليمة، فالأدب كل الأدب معه صلى الله عليه وسلم تقديم سنته وأقواله على كل قول أو رأي (¬4) . - ومنها عدم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم الجهر له بالقول ¬

(¬1) سورة الحجرات، آية (1-5) . (¬2) سورة الحجرات، آية (1) . (¬3) تفسير ابن جرير، 26 / 116. (¬4) انظر. مدارج السالكين لابن القيم، 2 / 389.

مخافة حبوط العمل. فالأدب معه في حياته غض الصوت عنده مع الهيبة والإجلال له، وأن يكون مجلس علم وحلم ووقار وسكينة، وأن يكون الحديث معه بتأدب وتلطف. وإذا كان الله قد حرم رفع الأصوات فوق صوت نبيه، وحرم الجهر له بالقول لما في ذلك من الجفاء والإيذاء لنبيه صلى الله عليه وسلم، فكذلك رفع الأصوات عند قبره صلى الله عليه وسلم في حكم رفع الصوت عنده في حياته من حيث التحريم لأن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا. وقد شدد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه النكير على رجلين رفعا أصواتهما في المسجد النبوي وذلك فيما رواه البخاري بسنده عن السائب بن يزيد قال: (كنت قائما في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فاتني بهذين، فجئته بهما. قال: من أنتما- أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما. ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم!) (¬1) . فإذا تقرر هذا علمنا أن ما يحدث من كثير من الناس عند قبره صلى الله عليه وسلم من رفع الأصوات واختلاطها، وصنيع من يسمون " بالمزورين " من رفع الأصوات عند القبر والتشويش في المسجد النبوي، كل هذا من الأمور المحرمة لما فيها من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وانتهاك حرمة المسجد. ومن مخالفة الأدب في هذا الباب رفع أراء بعض البشر وأقوالهم ومذاهبهم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاولة إسكات صوت السنة والداعين إليها وفي هذا من الإيذاء والجفاء ما هو أكبر بكثير من مجرد رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم (¬2) . ¬

(¬1) صحيح البخاري. كتاب الصلاة. باب رفع الصوت في المساجد 1 / 127. (¬2) انظر. مدارج السالكين، 2 / 389.

قال أبو بكر بن العربي (¬1) . (حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر أن لا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] (¬2) . وكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي، وله من الحرمة مثل ما للقرآن إلا معاني مستثناه (¬3) بيانها في كتب الفقه والله أعلم) (¬4) . ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم عدم جعل دعائه كدعاء الناس بعضهم بعضا، كما قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] (¬5) وللمفسرين في معنى هذه الآية قولان: - أحدهما: معناه أن لا تجعلوا دعاءكم ونداءكم للرسول صلى الله عليه وسلم كما ينادي بعضكم بعضا باسمه المجرد فنهاهم الله أن ينادوا رسوله صلى الله عليه وسلم بيا محمد. بل الأدب معه صلى الله عليه وسلم أن ينادوه: بيا رسول الله، ويا نبي الله، مع خفض الصوت احتراما ¬

(¬1) هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الأشبيلي المالكي المعروف بابن العربي، (468هـ 543 هـ) . محدث. ففيه - قاض، بلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، وله مصنفات كثيرة منها: عارضة الأحوذي في شرح الترمذي. وأحكام القرآن، والعواصم من القواصم وغيرها انظر وفيات الأعيان (4 / 296 - 297) ونفح الطيب من غض الأندلس الرطيب للشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني. تحقيق د. إحسان عباس، 2 / 25 وما بعدها. (¬2) سورة الأعراف، آية (204) . (¬3) ذكر العلماء فروقا بين الحديث والقرآن منها: إن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ليس معجزا كالقرآن. إننا متعبدون بالقرآن وتلاوته في الصلاة وخارجها وليس الحديث كذلك. - إن القرآن لا يقرأه القارئ إلا وهو طاهر على خلاف في ذلك وليس الحديث كذلك. (¬4) أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، تحقيق على محمد البجاوي، 4 / 1702 - 1703. (¬5) سورة النور، آية (63) .

وتوقيرا له (¬1) . الثاني: أن لا تجعلوا دعاء الرسول لكم من جنس دعاء بعضكم بعضا إذا شاء أجاب وإن لم يشأ لم يجب. بل الأدب معه أنه إذا دعاكم لم يسعكم إلا إجابته والسمع والطاعة له (¬2) . ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أن أصحابه إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه. كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62] (¬3) . قال ابن القيم: (ومن الأدب معه: أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع- من خطة أو جهاد أو رباط- لم يذهب أحدهم مذهبا في حاجته حتى يستأذنه. . . فإذا كان هذا مذهبا مقيدا بحاجة عارضة، لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله، وفروعه، دقيقة، وجليله؟ هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] (¬4) ومن الأدب معه. أن لا يستشكل قوله. بل تستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا، نعم هو مجهول وعن الصواب معزول. ¬

(¬1) انظر تفسير ابن كثير، 3 / 306 - 307، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، طبع مطبعة المدني، مصر، 6 / 251 - 252. (¬2) انظر مدارج السالكين، 2 / 389 - 390. (¬3) سورة النور، آية (62) . (¬4) سورة النحل، آية (43) ، وسورة الأنبياء، آية (7) .

ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم وهو عين الجرأة) (¬1) . ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه: التأدب في الحديث معه والحديث عنه. وذلك باختيار أحسن الألفاظ وأعذبها، وأرق المعالي وألطفها، وتجنب كل ما فيه جفاء أو إساءة أدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتنزيه مقام النبوة والرسالة من كل عيب أو نقص ينافي عصمته صلى الله عليه وسلم. لأجل هذا نهى الله المؤمنين عن الجهر بالقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نهاهم عن مخاطبته كما يخاطب بعضهم بعضا كما سبق آنفا. لما فيه من الجفاء والإيذاء له. ومن هذا الباب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104] (¬2) . فنهى الله المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم (راعنا) لما فيها من احتمال معنى: ارعنا نرعاك على سبيل المقابلة كما يقال حادثنا وجالسنا، نحادثك ونجالسك. فكأنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم. بل حقه صلى الله عليه وسلم أن يرعى على كل حال، أو يكون معناها: ارعنا معك حتى نفهمك وتفهم عنا (¬3) وكلا المعنيين فيه جفاء لا يليق بمقام النبوة. وقيل نهوا عن ذلك لما فيه من التشبه باليهود لأنهم كانوا يورون بهذه الكلمة عن الرعونة فنهي المسلمون عن قولها قطعا للذريعة، ومنعا للتشبه بهم في قولهم (¬4) . وعلى ذلك فكل كلام يشعر بالجفاء وإن لم يقصده المتكلم- لا يجوز أن يخاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم أو يتحدث به عنه لما في ذلك من إيذائه صلى الله عليه وسلم وإذهاب هيبته من النفوس. ¬

(¬1) مدارج السالكين، 2 / 390. (¬2) سورة البقرة، آية (104) . (¬3) انظر. تفسير الطبري، تحقيق محمود وأحمد محمد شاكر، طبع دار المعارف مصر، 2 / 463 - 466. (¬4) انظر. الشفا للقاضي عياض، 2 / 37. وتفسير ابن كثير، 1 / 148- 149.

ومن تعظيمه صلى الله عليه وسلم الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه، أو أثنى به عليه ربه سبحانه وتعالى من غير غلو ولا تقصير، ومن أعظم الثناء عليه: الصلاة والسلام عليه في مواطنها، وعند ورود ذكره الشريف على المسامع واللسان وعند الخط بالبنان. ويتضمن معنى الصلاة عليه: ثناء الله عليه والإشارة برفع ذكره، والطلب من الله أن يعلى ذكره، ويزيده تعظيما وتشريفا، والمراد بالطلب هنا هو طلب الزكاة- زيادة الثناء والتشريف- لا طلب أصل الصلاة. أما السلام فيتضمن سلامته أي من كل آفة وعيب (¬1) . أورد البخاري تعليقا عن أبي العالية قال: " صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء ". قال ابن عباس: يصلون: يبركون (¬2) . وقد أخبر الله أنه وملائكته يصلون على النبي وأمر المؤمنين بالصلاة والسلام عليه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] (¬3) . قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: والمقصود من هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي ¬

(¬1) انظر. جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام. لابن القيم ص84، وما بعدها، وفتح الباري 11 / 152 - 153، 169. (¬2) صحيح البخاري، كتاب التفسير. باب " إن الله وملائكته يصلون على النبي " 6 / 151. (¬3) سورة الأحزاب، آية (56) .

عليه ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والسلام عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا " (¬1) . كما رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة والسلام عليه في أحاديث عدة: منها ما أخرجه مسلم بسنده عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى علي واحدة، صلى الله عليه عشرا» (¬2) . وأخرج أبو داود بسنده عن أوس بن أوس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي قالوا يا رسول الله: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ ! يقولون: بليت. قال: إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» (¬3) . وأخرج الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي» الحديث (¬4) . وأخرج الترمذي أيضا بسنده عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي» (¬5) . ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، 3 / 507. (¬2) صحيح مسلم. كتاب الصلاة. باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، 1 / 306. (¬3) سنن أبي داود. كتاب الصلاة. باب فضل الجمعة وليلة الجمعة، 1 / 635، ورواه أحمد في المسمد 8 / 4، والنسائي في كتاب الصلاة. باب إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة 3 / 91 - 92. وإسناده صحيح صححه الحاكم 1 / 278. ووافقه الذهبي. وصححه النووي في الأذكار، ط4، مصطفى الحلبي، مصر ص106. (¬4) سنن الترمذي كتاب الدعوات. باب ما جاء في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده 5 / 210، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، نشر محمد عبد المحسن الكتبي، المدينة المنورة. وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1 / 549. (¬5) المصدر نفسه، 5 / 211، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1 / 549.

وأخرج أبو داود بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» (¬1) . وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته كيف يصلون عليه في الصلاة وغيرها وذلك فيما أخرجه البخاري ومسلم بسنديهما عند عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية، إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا، فقال يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك فقال: قولوا اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) (¬2) . وأخرجا أيضا بسنديهما عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: «يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: (اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما، صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» (¬3) . إلى غير ذلك من الصيغ التي علمهم النبي صلى الله عليه وسلم إياها وأرشدهم إليها. وهذه الصيغ التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته من بعدهم هي أفضل كيفيات الصلاة والسلام عليه لأنها صادرة من مشكاة النبوة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يختار لهم ولنفسه إلا الأشرف والأفضل والأكمل من الأعمال والكيفيات. فإذا تبين هذا علمنا أن ما ابتدعه كثير من مشايخ الصوفية من صيغ في الصلاة ¬

(¬1) سنن أبي داود. كتاب المناسك. باب زيارة القبور 2 / 534. ورواه أحمد في المسند 2 / 367. والحديث سنده حسن على شرط مسلم، وهو صحيح بما له من طرق وشواهد. انظر أحكام الجنائز وبدعها للشيخ الألباني، ط4، طبع المكتب الإسلامي، 219 - 220. (¬2) البخاري. كتاب الدعوات. باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 8 / 95. ومسلم. كتاب الصلاة. باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد 1 / 305. (¬3) البخاري، السابق نفسه، 8 / 95-96. ومسلم، السابق نفسه، 1 / 306.

على النبي صلى الله عليه وسلم زاعمين لها من الفضل والثواب الشيء الكثير، هذه الصلوات لا ترتقي إلى مرتبة الصيغ التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته في كيفية الصلاة والسلام عليه. هذا إن سلمت تلك الصلوات من الغلو وضروب البدع. كما يلاحظ أنه لم يرد في شيء من صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لفظ السيادة (سيدنا) . فدل عدم ورودها على أنها ليست مشروعة أو خلاف الأولى. وقد سئل الحافظ ابن حجر عن صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة أو خارج الصلاة سواء قيل بوجوبها أو ندبيتها، هل يشترط فيها أن يصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة. كأن يقول مثلا. اللهم صل على سيدنا محمد أو على سيد الخلق، وعلى سيد ولد آدم؟ أو يقتصر على قوله: اللهم صل على محمد؟ وأيهما أفضل، الإتيان بلفظ السيادة لكونها صفة ثابتة له صلى الله عليه وسلم، أو عدم الإتيان بها لعدم ورود ذلك في الآثار؟ . فأجاب رحمه الله: (نعم، اتباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعا منه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول عند ذكره صلى الله عليه وسلم: صلى الله عليه وسلم وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك كلما ذكر. لأنا نقول: لو كان ذلك راجحا لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين. ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم قال: ذلك مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك) (¬1) . وللصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مواطن يتأكد وجوبها أو استحبابها فيها: منها: التشهد الأخير في الصلاة، واختلف في وجوبه واستحبابه على قولين (¬2) . ومنها عند دخول المساجد والخروج منها، وبين يدي الدعاء. ¬

(¬1) أوردها بتمامها: الألباني نقلا عن الحافظ محمد بن محمد الغرابيلي تلميد الحافظ ابن حجر. انظر. صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، تأليف محمد نصر الدين الألباني، ط11، المكتب الإسلامي 1403 هـ، ص 153- 155. (¬2) انظر: جلاء الأفهام، ص193- 216. وصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ص 162.

وعند ذكره صلى الله عليه وسلم، وروود اسمه الشريف وكتابته وفي الخطب وعند رواية الحديث وتعليم الناس العلم إلى غير ذلك من المواطن (¬1) . ومن تعظيمه صلى الله عليه وسلم نصرته والذب عنه، وقد أوجب الله على الأمة تعزير نبيه صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وسبق أن بينا أن تعزيره صلى الله عليه وسلم يتضمن معنى النصرة والتعظيم. فواجب على الأمة أن تنصر الله ورسوله، وأن تنتصر لله ورسوله، وإذا كان نصر آحاد المسلمين واجبا، لقوله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» (¬2) . وقوله عليه الصلاة والسلام: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» (¬3) . فكيف لا يكون نصر الرسول صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات، بل حقه أن يفدى بالأنفس والأموال وأن يؤثر بكل عزيز وغال. قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120] (¬4) الآية. فحرم الله على المؤمنين التخلف عن نصرة نبيه والرغبة بالأنفس عنه، وأوجب على المؤمنين نصرته، وذلك في آيات عدة من القرآن منها: قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] (¬5) . وقال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40] (¬6) الآية. ¬

(¬1) للوقوف على هذه المواطن وغيرها. انظر الشفا، 2 / 64 - 68. وجلاء الأفهام، 193 - 261، وفتح الباري، 11 / 169. (¬2) أخرجه البحاري في كتاب المظالم. باب: أعن أخاك ظالما أو مظلوما 3 / 168. والإمام أحمد في المسند، 3 / 99. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب المظالم. باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه 3 / 186. (¬4) سورة التوبة، آية (120) . (¬5) سورة الأعراف، آية (157) . (¬6) سورة التوبة، آية (40) .

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف: 14] (¬1) . وامتدح الله المهاجرين بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] (¬2) . كما أثنى على الأنصار بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74] ونصر الرسول صلى الله عليه وسلم يشمل نصره باللسان والسنان والبنان، بالقول والفعل. نصرا له في ذات نفسه حماية لعرضه، وصونا لحرمته، وإرغاما لأعدائه ومبغضيه، وانتصارا له من كل من يؤذيه، وإجلالا لمقام النبوة من أي قدح أو عيب. وقد أجمع أهل العلم على وجوب قتل من سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصا في نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله، أو عرض به أو شبهه بشيء على طريق السب له والإزراء عليه أو التحقير لشأنه. فحكم من أتى بذلك أن يقتل بلا استتابة لأنه آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يستوجب إهدار دمه إن كان مسلما، ونقض عهده وقتله إن كان ذميا (¬3) كل ذلك حماية لعرضه صلى الله عليه وسلم وصونا لمكانته ومنزلته. ومن نصر الرسول صلى الله عليه وسلم نصر سنته والذب عن شريعته ودفع كيد الكائدين وطعن الطاعنين في سنته وسيرته، برد شبههم ودحض مفترياتهم وإظهار ما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق. ¬

(¬1) سورة الصف، آية (14) . (¬2) سورة الحشر، آية (8) . (¬3) انظر في بيان ذلك. الشفا 2 / 214 وما بعدها. والصارم المسلول ص 3 وما بعدها، ص 418 - 419.

ويدخل في نصر الله ورسوله نصر الشريعة وأهلها والداعين إليها وتكثير سوادهم وإعانتهم على أمورهم، وقمع أعدائهم. ولا يتأتى هذا النصر ولا يتحقق إلا برفع علم الجهاد في سبيل الله جهادا للكفار والمنافقين، وتتبع الزنادقة والملحدين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة حدود الله في أرضه. وتطيق شرعه. وترك النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه والتخاذل عنها تمكين لأعداء الإسلام من الطعن فيه وتشويهه وإضعاف شوكته وانتهاك حرماته وإذهاب هيبة النبي صلى الله عليه وسلم من النفوس. ولا يكون ذلك إلا إذا ترك الجهاد في سبيل الله، وذهبت الغيرة على محارم الله من القلوب، حينما يكون الرضى بالذل والهوان حبا للدنيا وكراهية للموت، وهذا هو حال المسلمين اليوم. فالانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق على كل من آمن بالله واتبعه وزعم أنه يحبه، فمن ادعى حبه ولم ينصره وينتصر له فهو كاذب في دعواه. فمقتضى الحب الصحيح أن تنصره وتفديه بالنفس والمال وأن تغار على حرمات الله أن تنتهك، تلك هي أهم جوانب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقيره. لكن بقي أن أنبه إلى أمرين مهمين في هذا الباب: الأمر الأول: أنه يجب على المسلم المعظم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته وألوهيته، والتي لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، وبين حقوق النبي صلى الله عليه وسلم ليضع كل شيء في موضعه حتى يكون على الصراط المستقيم. فالتجاء المضطر- مثلا- الذي أحاطت به الكروب، ونزلت به الشدائد التي لا يقدر على كشفها إلا الله وحده، حق ممن حقوق الله تعالى لا يجوز صرفه

لغير الله بحال من الأحوال، لأن كشف الضر، وإجابة المضطر بيد الله وحده. فصرف هذا الحق لله وإخلاصه له، هو عين طاعته سبحانه ومرضاته، وهو طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع له في تجريد التوحيد من كل شوائب الشرك. أما صرف هذا الحق- أو غيره من الحقوق الخاصة بالله- لغير الله ولو لرسوله صلى الله عليه وسلم بدعوى أنه تعظيم له - فهذا عين المحاده والمشاقة لله ورسوله " وهو من الشرك الذي نهى الله عنه فإذا تبين ذلك علمنا أن ما يفعله بعض المنتسبين إلى الإسلام من التجائهم وقت الشدائد إلى غير الله طالبين منه كشف الضر ورفع الشدة، وما يفعل من هذا القبيل عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، بدعوى أنه تعظيم له كل هذا من قبيل الشرك الذي حرمه الله ورسوله. الأمر الثاني: الفرق بين التعظيم المشروع وغير المشروع، ينبغي على المسلم أن يعلم أن التعظيم الذي أوجبه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم هو التعظيم المشروع اللائق بمقام النبوة والرسالة. ومدار هذا التعظيم وأساسه هو الاتباع والاقتداء به صلى الله عليه وسلم فمن كان اتباعا واقتداء كان أكثر محبة وتعظيما، وأبعد عن الغلو والبدع. وليس كل ما يظن أنه من باب التعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو في الحقيقة تعظيما مشروعا في حقه. قال ابن عبد الهادي (¬1) . فالتعظيم نوعان: أحدهما: ما يحبه المعظم ويرضاه ويأمر به ويثنى على فاعله، فهذا هو التعظيم في الحقيقة. ¬

(¬1) هو أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي (705- 744هـ) شارك في كثير من العلوم وحصل منها مالا يبلغه الشيوخ الكبار، وترك تصانيف كثيرة منها: الأحكام في فقه الحنابلة. وتراجم الحفاظ وفضائل الشام. والمحرر في الحديث. والعقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية. والصارم المنكي في الرد المنكي في الرد على السبكي وغيرها. انظر البداية والنهاية (14 / 210) والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق، محمد سيد جاد الحق، نشر دار الكتب الحديثة. عابدين، مصر (3 / 421، 422) .

والثاني: ما يكرهه ويبغضه ويذم فاعله، فهذا ليس بتعظيم، بل هو غلو مناف للتعظيم، ولهذا لم يكن الرافضة معظمين لعلي بدعواهم الإلهية والنبوة أو العصمة ونحو ذلك، ولم يكن النصارى معظمين للمسيح بدعواهم فيه ما ادعوا، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه، فأنكر على معاذ سجوده له، وهو محض التعظيم. وفي المسند بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك: «أن رجلا قال: (يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا، وابن خيرنا) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله» (¬2) . وكان يكره من أصحابه أن يقوموا له إذا رأوه، ونهاهم أن يصلوا خلفه قياما. وقال: «إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم» (¬3) وكل هذا من التعظيم الذي يبغضه ويكرهه (¬4) . وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من قال له: ما شاء الله وشئت أخرج الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال أجعلتني والله عدلا. بل ما شاء الله وحده» (¬5) . وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى أن يقولوا- إذا أرادوا- ما شاء الله ثم شاء ¬

(¬1) المسند، 3 / 153، 241. (¬2) سبق تخريجه، ص24. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة. باب ائتمام المأموم بالإمام، 1 / 309، والنسائي في كتاب السهو. باب الرخصة في الالتفات في الصلاة يمينا وشمالا 3 / 9. (¬4) الصارم المنكي في الرد على السبكي، 288. (¬5) المسند، 1 / 214، والحديث إسناده حسن. انظر السلسة الصحيحة 1 / 56- 57.

محمد. كما في سنن الدارمي وابن ماجه بسنديهما عن الطفيل بن سخبرة أخى عائشة لأمها قال: «قال رجل من المشركين لرجل من المسلمين نعم القوم أنتم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد» (¬1) . فيجب على المسلم أن يفرق بين المشروع وبين غيره في هذا الجانب وعدم التفرقة بينهما هو الذي أوقع المبتدعة في الغلو الذي ذمه الله ورسوله وذلك كالاستغاثة به وطلب الحاجات منه ودعائه من دون الله واعتقاد أنه خلق من نور وأن الكون كله قد خلق من نوره، وأنه يتصرف في الأكون، ويعلم الغيب مطلقا إلى غير ذلك من العقائد الباطلة، وابتداع أنواع كثيرة من الصلوات عليه. فكل هذا من الغلو والشرك الذي نهى الله عنه، وفاعل هذا مضاد لتعظيمه صلى الله عليه وسلم. ثالثا: ومن مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم: كثرة تذكره وتمني رؤيته والشوق إلى لقائه، ذلك أن من أحب شيئا أكثر من ذكره، ولا يكون ذلك إلا إذا شغلت المحبة قلب المحب وفكره، وسبب ذلك استحضار الأسباب والدواعي الباعثة على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة قدر النعمة التي أنعم الله بها على الناس إذ بعث فيهم رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ - فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151 - 152] (¬2) . ويتبع ذلك تمني رؤيته صلى الله عليه وسلم والشوق إلى لقائه وسؤال الله اللحاق به على الإيمان وأن يجمع بينه وبين حبيبه ونبيه صلى الله عليه وسلم في مستقر رحمته. وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيوجد في هذه الأمة أناس يودون رؤيته بكل ما يملكون. ¬

(¬1) سنن الدارمي. كتاب الاستئذان. باب في النهي عن أن يقول ما شاء الله وشاء فلان 2 / 295. . وابن ماجه. كتاب الكفارات. باب النهي عن أن يقال ما شاء الله وشئت 1 / 684. والحديث صحيح بشواهده. انظر السلسلة الصحيحة 1 / 54- 56. (¬2) سورة البقرة، آية (151-152) .

فأخرج مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أشد أمتي لي حبا، ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني، بأهله وماله» (¬1) . ويدخل في هذا الشوق إلى لقائه صلى الله عليه وسلم إذ كل حبيب يحب لقاء حبيبه وحينما قدم الأشعريون المدينة كانوا يرتجزون (غدا نلقى الأحبة، محمدا وصحبه) (¬2) . ولما احتضر بلال نادت امرأته، واويلاه. وهو يقول وافرحاه (غدا نلقى الأحبة. محمدا وحزبه) (¬3) . فمزج مرارة الموت بحلاوة الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تقدمه من الصحابة رضوان الله عليهم. وكان خالد بن معدان الكلاعي (¬4) وهو من أعلام التابعين - لا يأوى إلى فراشه مقيله إلا وهو يذكر فيه شوقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار ثم يسميهم ويقول: (هم أصلي وفصلي، وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم فعجل ربي قبضي إليك) . حتى يغلبه النوم (¬5) . ¬

(¬1) صحيح مسلم. كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها. باب فيمن يود رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بأهله وماله 4 / 2178. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في المسند، 4 / 105، 155، 183. قال الشيخ الألباني (إسناده صحيح على شرط مسلم) . انظر. السلسلة الصحيحة 2 / 50- 51. (¬3) أورد هذه الحكاية ابن عساكر في ترجمة بلال بن رباح رضي الله عنه- انظر. تهذيب تاريخ دمشق. الشيخ عبد القادر بدران، ط 2، دار المسيرة بيروت، 1399، 3 / 317. (¬4) هو أبو عبد الله خالد بن معدان بن أبي كريب الكلاعي الشامي الحمصي، تابعي ثقة من الطبقة الثالثة، أدرك سبعين صحابيا، وروي عن بعضهم وكان من خيار عباد الله، توفى سنة ثلاثة أو أربع بعد المائة. انظر. تهذيب تاريخ دمشق، 5 / 89- 91. وتهذيب التهذيب لابن حجر " 118- 125. (¬5) روى ذلك الخبر القاضي عياض في الشفا، 2 / 21. وابن عساكر، تهذب تاريخ دمشق، 5 / 90، عن عبدة بنت خالد بن معدان.

وهكذا شأن المحب دائما أن يشتاق إلى لقاء حبيبه ويتمنى رؤيته بكل ما يستطيع ويملك. فأين شوق المسلمين اليوم إلى نبيهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم أين هو؟ لقد غاب عند أكثر العالمين إلا من رحم الله. نعم. لقد غاب. لأن الفكر والقلب قد شغل بالتنافس في حطام الدنيا حتى قل تذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فضلا عن الشوق إلى لقائه. فنسأل الله أن يوقظنا من رقدة الغافلين وأن يرزقنا الشوق إلى لقائه ولقاء حبيبه صلى الله عليه وسلم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة. رابعا: ومن مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم محبة قرابته وآل بيته وأزواجه وصحابته: ويتمثل هذا في توقيرهم ومعرفة فضلهم وحفظ حرمتهم ومكانتهم وبغض من أبغضهم أو آذاهم. وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بآل بيته خيرا فقال: «أذكركم الله في أهل بيتي» . أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن زبد بن أرقم رضي الله عنه قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا. بماء يدعى " خما " بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر. ثم قال: أما بعد. ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب. وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله. واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال: (وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي) فقال له حصين (¬1) ومن أهل بيته؟ يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته. ولكن أهل بيته. من حرم الصدقه بعده. قال ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال كل هؤلاء حرم الصدقة بعده؟ قال: نعم» (¬2) . ¬

(¬1) حصين هو ابن سبرة راوي الحديث عن زيد بن أرقم. (¬2) صحيح مسلم. كتاب فضائل الصحابة. باب فضائل علي رضي الله عنه، 4 / 1873.

وأخرج البخاري عن ابن عمر أن أبا بكر الصديق قال: (ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته) (¬1) . ومن مظاهر حبه صلى الله عليه وسلم حب أصحابه ومعرفة فضلهم وقدرهم والثناء عليهم بما هم أهله، والانتصار لهم ممن يؤذيهم وبغير الخير يذكرهم، فهم خير هذه الأمة بعد نبيها، ويكفى أنهم فازوا بشرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله قد خصهم بهذا الشرف دون غيرهم من العالمين فكانت لهم منزلة الصحبة التي لا تعادلها أي منزلة سواها في هذه الأمة. وقد أثنى الله عليهم في كتابه في مواضع كثيرة منها: قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] (¬2) . وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] (¬3) الآية. وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ - وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 8 - 10] (¬4) . ¬

(¬1) صحيح البخاري. كتاب فضائل الصحابة، 5 / 26. (¬2) سورة التوبة، آية (100) . (¬3) سورة الفتح، آية (18) . (¬4) سورة الحشر، آية (8 -10) .

فهذه الآيات وغيرها تتضمن الثناء على الصحابة وتذكرهم بالخير وسابق الفضل وعلو المنزلة. كما تبين حال من أتى بعدهم من المؤمنين بأنهم يستغفرون لهم ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم، وهذا هو شأن المؤمنين مع صحابة رسول صلى الله عليه وسلم ومن أتى بعدهم من صالح المؤمنين. وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه خيرا فقال كما في الصحيحين عن عمران بن حصين وغيره: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» قال عمران: فلا أدري. أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا) الحديث (¬1) . وقال فيما أخرجه الشيخان بسنديهما عن أبي سعيد الخدري: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» (¬2) . ولقد صدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في وصفهم حيث قال: (إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجلعهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ) (¬3) . فصار من لوازم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة صحابته وقرابته وأهل بيته ومعرفة فضلهم والثناء عليهم بما هم أهله والدفاع عنهم وصون حرمتهم. ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 5 / 2 -3. وصحيح مسلم. كتاب فضائل الصحابة. فضل الصحابة. 4 / 1964. (¬2) صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب فضائل قول النبي صلى الله عليه وسلم، لو كنت متخذا خليلا 5 / 10. وصحيح مسلم. كتاب فضائل الصحابة. باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم، 4 / 1967. (¬3) أخرجه أحمد في الحسد، 11 / 379. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، 3 / 78 - 79.

خامسا: ومن مظاهر محبة النبي صلى الله عليه وسلم محبة سنته والداعين إليها: والمتمسكين بها وأهل العلم الذين لهم في هذه الأمة قدم صدق وهم السلف الصالح ومن أتى بعدهم على منهاجهم حتى يومنا هذا وتوليهم والدفاع عنهم ومعرفة قدرهم وحفظ حرمتهم والتأدب معهم والاعتذار لمن أخطأ منهم بأحسن المعاذير، وحمل أقوالهم وأحوالهم على أحسن المحامل والوجوه، لأن قصدهم إنما هو نصرة الدين، ولا يعني ذلك عدم تبيين الحق فيما اختلفوا فيه أو الصواب فيما أخطأوا فيه فذلك هو واجب العلماء إلى يوم القيامة. وإنما المقصود هو إحسان الظن وإنصافهم والتأدب معهم، لأنهم حملة الشريعة، ولولا أن الله هيأهم لهذا الأمر لما كان لنا عن هذا الدين خبر، فهم سلفنا الصالح فلنكن لهم خير خلف، لا أن نفيد من تراثهم ونجحد فضلهم أو نتلمس معايبهم ومطاعنهم دون النظر إلى فضائلهم، فهذا هو سبب ذهاب بركة العلم. ولن نرزق بركة العلم والدين إذا لم نعترف لهم بسابق الفضل والمنزلة وتسلم صدورنا لهم ونترحم عليهم ونسأل الله لهم المغفرة، وهذا هو شأن المؤمن في كل زمان. قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] (¬1) . قال شارح العقيدة الطحاوية (¬2) . (فيجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمن، كما نطق ¬

(¬1) سورة الحشر، آية (10) . (¬2) هو علي بن أبي العز الحنفي، (731 - 792) فقيه ولي منصب قاضي القضاة بدمشق بالديار المصرية. من تصانيفه: التنبيه على مشكلات الهداية. في الفقه الحنفي. وشرح العقيدة الطحاوية وغيرها. انظر الدرر الكامنة لابن حجر، 3 / 159 - 160، والإعلام للزركلي، 4 / 313.

به القرآن خصوصا (العلماء) الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يهتدي بهم في ظلمات البر والبحر. وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها، إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول في أمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له في تركه من عذر (¬1) فلهم الفضل علينا والمنة بالسبق، وتبليغ ما أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا، فرضي الله عنهم وأرضاهم) (¬2) . وكما أن من لوازم المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبة سنته والداعين إليها فإن من لوزامها بغض من أبغض السنة وأهلها والدعاة إليها من علماء هذه الأمة وسلفها، كما هو صنيع أهل البدع قديما وحديثا من الطعن في السنة وأهلها والوقيعة فيهم وتشويه صورتهم وتاريخهم. فيجب على المسلم معرفة هؤلاء المبتدعة وبغضهم في الله، كما ينبغي التنبه للمارقين والمنافقين والمنهزمين من حملة الأقلام المسمومة من الكتاب والأدباء والمؤرخين، الذين راحوا يشوهون التاريخ ويقلبون الحقائق ويطعنون في خيار هذه الأمة من الصحابة ومن بعدهم من علماء هذه الأمة ويختلقون الأكاذيب أو ينقلونها على هوى وعدم بصيرة فيجب على أهل الاختصاص من المسلمين الكشف عن مخططاتهم وتعريف الأمة بهم والرد عليهم وتبيين الحقائق. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] (¬3) . ¬

(¬1) بين الشيخ بعد ذلك الأعذار التي اعتذر بها أهل العلم للأئمة. وقد بسط شيح الإسلام ابن تيمية القول في بيانها في رسالته القيمة (ردع الملام عر الأئمة الأعلام) فلتراجع ضمن مجموع الفتاوى، 20 / 231 وما بعدها. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية، ط 6، المكتب الإسلامي، بيروت، 1400 هـ، ص 555. (¬3) سورة الأنفال، آية (42) .

تلك هي أهم مظاهر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ولوازمها في صورتها العامة والتي يجب أن يتحلى بها المسلم في سلوكه وفعله وتظهر آثار ذلك عليه. آثار المحبة على السلوك والأفعال: المقصود بهذه الآثار هو ما يظهر على سلوك المؤمن المحب لله ورسوله وفعله. لأن هذه الآثار هي التي تبين صدق هذه المحبة، وهي عنوان انتفاع المسلم بهذه المحبة، وإذا كان الحب يحرك إرادة القلب نحو تحصيل المحبوبات ودفع المكروهات، فإن محبة المؤمن لله ورسوله تحمله على تحصيل ما يحبه الله من أعمال القلوب والجوارح، واجتناب ما يبغضه الله ورسوله من الأقوال والأفعال فلا بد لكل محبة في القلب من آثار تظهر على الجوارح. وآثار محبة الرسول صلى الله عليه وسلم منها ما هو ظاهر يقع عليه الحكم وينطق فيه الوصف، ومنها ما هو باطن بمنزلة الثمرة الإيمانية. فأما الظاهرة منها: فهي أن يكون المسلم محبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤثرا حبه على كل محبوب وغال، وأن يكون مكثرا لذكره وتذكره والصلاة عليه متشوقا لرؤيته، سائلا الله اللحاق به والاجتماع به في الجنة، والورود على حوضه والشرب منه. ومنها: أن يكون معظما لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيما شرعيا يليق به، موقرا له، ومتأدبا معه وحافظا لحرمته، ومعظما لدينه وسنته، متجافيا عن البدع والغلو وضروب المعاصي. ومنها: أن يكون متبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في منشطه ومكرهه، في سره وعلانيته، باذلا كل ما في وسعه للوقوف على هديه واتباع سنته، متحريا في كل أقواله وأفعاله موافقة سنته، وأن يكون حريصا على الاقتداء به في الواجبات والمستحبات، في الفرائض والنوافل، مكثرا من ذكر الله والدار الآخرة مجاهدا في سبيل الله بكل ما يستطيع. ومنها: أن يكون متأدبا بآدابه متأسيا بأخلاقه صلى الله عليه وسلم من سعة الصدر ولين

الجانب وسماحة الخلق، وبذل الندى وكف الأذى، وبسط الوجه، وأن يكون صبورا حليما، قريبا من البر، بعيدا عن الإثم، ودودا لإخوانه، منصفا لهم، ينزل الناس منازلهم، ويعرف لأهل الفضل فضلهم. ويمتليء قلبه حبا لإخوانه المسلمين، غير عياب ولا متفحش ولا ملتمس للبرآء المعايب زاهدا في حطام الدنيا وزخارفها، راغبا فيما عند الله من الأجر والمثوبة. تلك هي بعض أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، والتي يجب على من أحبه أن يتأسى به فيها، لا أن يدعي حبه، وخلقه وسمته مباين لخلق الصالحين والأبرار. وإن حسن الخلق هو عنوان استفادة المسلم من هذا الدين وهديه، وهو الركيزة الأساسية في النجاة من النار وسلوك مسلك الأبرار بعد تقوى الله عز وجل. ومنها: أن يكون محبا لأصحابه وقرابته وآل بيته والصالحين والعلماء وكل ما يحبه الله ورسوله، وأن يبغض كل من أبغض الله ورسوله أو الصحابة أو آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، أو أبغض دينه وكره ظهوره من الكفرة والمنافقين. ثمرات المحبة: أما الآثار الباطنة فمن أعظمها أن يجد المؤمن في قلبه حلاوة الإيمان كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم بسنديها عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود قي الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (¬1) . فهذا الحديث يبين أثر محبة الله ورسوله في قلب المؤمن وهو أن يجد حلاوة الإيمان في قلبه إذا اتصف بهذه الصفات الثلاث. يقول ابن تيميه: (أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، لأن ¬

(¬1) سبق تخريجه ص 54.

وجد الحلاوة بالشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئا أو اشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك. . . فحلاوة الإيمان المتضمنة من اللذة به والفرح بما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الإيمان تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور. تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها. (" تكميلها " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه سواهما كما تقدم. " وتفريعها " أن يحب المرء لا يحبه إلا لله. " ودفع ضدها " أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار) (¬1) وكلما ازداد المؤمن محبة لله ورسوله كلما ازداد ذوقه لحلاوة الإيمان فإن للإيمان من الحلاوة في القلب واللذة والبهجة والسرور ما لا يمكن التعبير عنه إلا لمن ذاقه، والناس متفاوتون في ذوق الإيمان واللذة به تفاوتا عظيما لا يعلمه إلا الله. والمقصود أن أهل الإيمان يجدون بسبب محبتهم لله ورسوله من حلاوة الإيمان ما يناسب هذه المحبة (¬2) . وأما عاقبة هذه المحبة فهي أن يكون المرء مع من أحب كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم فمن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه في الجنة بإذن الله، ولو لم يكن لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم ثواب سوى مرافقته في الجنة والتنعم برؤيته لكفى. أخرج البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه: «أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة يا رسول الله؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال ما أعددت لها ¬

(¬1) مجموع الفتاوى، 10 / 205- 206. (¬2) انظر: مجموع الفتاوى، 10 / 648 - 650.

من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكنى أحب الله ورسوله، قال أنت مع من أحببت» (¬1) . وفي رواية: «قال: وماذا أعددت لها كما قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت مع من أحببت» . قال أنس فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت. قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم) (¬2) . وأخرج البخاري بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب» (¬3) . فهذه الأحاديث تبين أن المرء مع من أحب طالما كان هذا الحب سببه محبة الأعمال الصالحة وأهلها. فالمحبة الصحيحة تقتضي مشاركتهم في أصل عملهم وهو فعل الواجبات وترك المنكرات، وإن لم يبلغ درجتهم في التقرب إلى الله عز وجل، وعلى ذلك دل قول السائل: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ويقصد بذلك ما زاد على الواجبات من النوافل التي تقبل الكثرة والزيادة، أو أن حظه منها قليل جدا بالمقارنة مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأكابر أصحابه ورضي الله عنهم (¬4) . ويؤكد هذا قول أنس رضي الله عنه: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم. ¬

(¬1) صحيح البخاري. كتاب الأدب، باب علامة حب الله عز وجل، 8 / 49. (¬2) صحيح البخاري. كتاب فضائل الصحابة. باب مناقب عمر بن الخطاب 5 / 14- 15. وأخرجه مسلم في البر والصلة. باب المرء مع من أحب، 4 / 2032. (¬3) صحيح البخاري. كتاب الأدب، باب علامة حب الله عز وجل، 8 / 48- 49. ومسلم. كتاب البر والصلة. باب المرء مع من أحب، 4 / 2032. (¬4) ويدل على هذأ إحدى روايات مسلم وفيها: ما أعددت لها من كثير أحمد عليه نفسي) . صحيح مسلم 4 / 2032.

قال ابن حجر: (. . ودل الخبر على أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان الأصل أنه لا يحصل إلا بامتثال جميع ما أمر به، أنه يحصل من طريق التفضل باعتقاد ذلك وإن لم يحصل استيفاء العمل بمقتضاه بل محبة من يعمل ذلك كافية في حصول أصل النجاة والكون مع العاملين بذلك، لأن محبتهم إنما هي لأجل طاعتهم، والمحبة من أعمال القلوب، فأثاب الله محبهم على معتقده، إذ النية هي الأصل والعمل تابع لها، وليس من لازم المحبة الاستواء في الدرجات) (¬1) . نخلص من هذا إلى أن من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا صحيحا يصدقه الاتباع كان معه في الجنة بإذن الله فضلا وتكرما منه سبحانه، أما مجرد ادعاء الحب بدون تحقيق الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلن يصل صاحبه إلى هذه المعية ما لم يحقق الاتباع. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: (ابن آدم لا تغتر بقول من يقول: المرء مع من أحب، أنه من أحب قوما اتبع آثارهم، ولن تلحق بالأبرار حتى تتبع آثارهم، وتأخذ بهديهم، وتقتدي بسنتهم وتصبح وتمسي وأنت على منهجهم، حريصا على أن تكون منهم، فتسلك سبيلهم، وتأخذ طريقهم وإن كنت مقصرا في العمل، فإنما ملاك الأمر أن تكون على استقامة، أما رأيت اليهود، والنصارى، وأهل الأهواء المردية يحبون أنبياءهم وليسوا معهم، لأنهم خالفوهم في القول والعمل، وسلكوا غير طريقهم فصار موردهم النار، نعوذ بالله من ذلك) (¬2) . ¬

(¬1) فتح الباري، 10 / 558. (¬2) استنشاق نسيم الأنس، لابن رجب، ص87.

الفصل الثاني الاتباع

[الفصل الثاني الاتباع] [المبحث الأول مفهوم الاتباع] الفصل الثاني الاتباع وفيه ثلاثة مباحث المبحث الأول - مفهوم الاتباع. المبحث الثاني - وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. المبحث الثالث - مظاهر الاتباع.

المبحث الأول مفهوم الاتباع الاتباع في اللغة: مصدر اتبع الشيء وتبعه إذا سار في أثره. جاء في معجم مقاييس اللغة: (" تبع " التاء والباء والعين أصل واحد لا يشذ عنه من الباب شيء، وهو التلو والقفو. يقال تبعت فلانا إذا تلوته واتبعته. وأتبعته إذا لحقته والأصل واحد غير أنهم فرقوا بين القفو واللحوق فغيروا البناء أدنى تغيير، قال تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85] (¬1) {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 89] (¬2) فهذا معناه على هذه القراءة اللحوق ومن أهل العربية من يجعل المعنى فيهما واحدا) . . والتبع. . . . هو الظل، وهو تابع أبدا للشخص. . . والتبيع ولد البقرة إذا تبع أمه. . والتبع قوائم الدابة وسميت بذلك لأنه يتبع بعضها بعضا. والتبع النصير، لأنه يتبعه نصره. والتبيع الذي لك عليه مال، فأنت تتبعه. وفي الحديث: «مطل الغنى ظلم، وإذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبع» (¬3) يقول: إذا أحيل عليه فليحتل " (¬4) . جاء في لسان العرب: (. . . وتبعت الشيء وأتبعته ردفته وأردفته ومنه قوله تعالى: ¬

(¬1) سورة الكهف، آية (85) . (¬2) سورة الكهف، آية (89) . (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الحوالات، باب في الحوالة، 3 / 123. (¬4) معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس تحقيق هارون ط2، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، 1369هـ 1 / 362 - 363.

{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] (¬1) قال أبو عبيد. أتبعت القوم مثل أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم، قال. . واتبعتهم مثل: افتعلت إذا مروا بك فمضيت. . . . واتبع فلان فلانا إذا اتبعه يريد به شرا. كما اتبع الشيطان الذي انسلخ من آيات الله فكان من الغاوين، وكما أتبع فرعون موسى. . . . . . . . وتبع القرآن: ائتم به وعمل بما فيه. . . . . وتابع بين الأمور متابعة: واتر ووالي. . . . . والتبعة والتباعة: ما فيه إثم يتبع به. وتابع عمله وكلامه: أتقنه وأحكمه) (¬2) وعلى ذلك فالكلمة تدور حول معاني اللحاق والاقتفاء والاقتداء. ومما يقترب من هذا المعنى التأسي والأسوة. يقال تأسى به إذا اتبع فعله واقتدى به، وائتس به أي اقتد به وكن مثله (¬3) قال الراغب في المفردات: (الأسوة والأسوة كالقدوة والقدوة. وهي الحالة التي يكون الإنسان فيها في اتباع غيره إن حسنا أو قبيحا، وإن سارا وإن ضارا ولهذا قال تعال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] (¬4) فوصفها بالحسنة) (¬5) فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو الاقتداء به واقتفاء آثاره والتأسي به. وقد بحث الأصوليون في باب أفعاله صلى الله عليه وسلم عن هذه المعاني وذلك لأننا متعبدون باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به في أفعاله. لأجل هذا نراهم يتحدثون عن معاني الاتباع والمتابعة والتأسي والموافقة والمخالفة. ¬

(¬1) سورة الصافات، آية (10) . (¬2) لسان العرب، (تبع) .، 8 / 27 - 32. (¬3) انظر: لسان العرب مادة (أسا) ، 4 / 34 - 36. (¬4) سورة الأحزاب، آية (21) . (¬5) المفردات، ص18.

وسأتعرض لبيان هذه المعاني حتى يتضح لنا مفهوم الاتباع والمقصود به. قال أبو الحسين البصري: (¬1) . (أما التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد يكون في فعله وفي تركه أما التأسي به في الفعل، فهو أن نفعل صورة ما فعل على الوجه الذي فعل لأجل أنه فعل. والتأسي كما في الترك. هو أن نترك مثل ما ترك على الوجه الذي ترك، لأجل أنه ترك. وإنما شرطنا أن تكون صورة الفعل واحدة، لأنه صلى الله عليه وسلم لو صام وصلينا لم نكن متأسين به، وأما الوجه الذي وقع عليه الفعل، فهو الأغراض والنيات. فكل ما عرفناه أنه غرض في الفعل اعتبرناه، ويدخل في ذلك نية الوجوب والنفل، ألا ترى أنه لو صام واجبا فتطوعنا بالصوم لم نكن متأسين به، وكذلك لو تطوع بالصوم فافترضنا به. وإنما شرطنا أن نفعل الفعل (لأجل أنه فعله) (¬2) لأنه صلى الله عليه وسلم لو صلى، فصلى مثل صلاته رجلان من أمته لأجل أنه صلى، لوصف كل واحد منهما بأنه متأس به صلى الله عليه وسلم ولا يوصف كل واحد منهما بأنه متأس بالآخر، وإنما قلنا إن التأسي يكون في الترك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو ترك الصلاة عند طلوع الشمس فتركناها في هذا الوقت لأجل تركه كنا متأسين به. . . . . فأما اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يكون في القول، وقد يكون في الفعل، وقد يكون في الترك، فالاتباع في القول هو المصير إلى مقتضاه من وجوب، أو ندب، أو حظر لأجله، والاتباع في الفعل أو في الترك هو إيقاع مثله في صورته على وجهه، لأجل أنه أوقعه. ¬

(¬1) أبو الحسين محمد بن علي الطيب البصري (. . . - 436 هـ) . . أصولي متكلم. كان من أئمة المعتزلة. له تصانيف عديدة منها: غرر الأدلة. شرح الأصول الخمسة. كتاب في الإمامة والمعتمد في أصول الفقه. انظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 3 / 100، الفتح المبين في طبقات الأصوليين. الشيخ عبد الله مصطفى المراغي، ط 2، طبعة محمد أمين دمج، بيروت، 1 / 237. (¬2) ما بين القوسين ليس في الأصل المحقق ولكن في نسخة أخرى أثبتها المحقق في الحاشية فرأيت إثباتها في الأصل تحقيقا للفائدة.

. . . وإنما شرطنا في الاتباع ما شرطنا في التأسي، لأنه صلى الله عليه وسلم، لو صام فصلينا، أو صام واجبا فتنفلنا بالصوم، أو صمنا لا لأنه صام، لم نكن متبعين له في هذه الأحوال كلها) (¬1) . وعلى هذا يكون الاتباع في الفعل هو التأسي بعينه، أما الاتباع في القول فهو امتثاله على الوجه الذي اقتضاه ذلك القول من وجوب أو ندب أو غير ذلك. وأما الموافقة- فهي كما يرى الآمدي (¬2) (مشاركة أحد الشخصين للآخر في صورة قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد أو غير ذلك. وسواء كان ذلك من أجل ذلك الآخر، أو لا من أجله) (¬3) . ومعنى هذا أنه لا يشترط في الموافقة أن يكون فعل أحد الشخصين من أجل فعل الآخر، لأن الموافقة المقصودة هنا هي ما كانت بمعنى المصادفة والمشاركة. أما الموافقة المقصودة شرعا فهي الاتباع بعينه. وأما المخالفة فقد تكون في القول وقد تكون في الفعل أو الترك، فالمخالفة في القول: ترك امتثال ما اقتضاه القول من أمر أو نهي، والمخالفة في الفعل: هي العدول عن إيقاع الفعل مع كونه واجبا، فأما إذا كان الفعل واجبا فلا يسمى تاركه مخالفا. والمخالفة في الترك هي أن نفعل فعلا على وجه العبادة مما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم لعدم مشروعيته (¬4) . وبعد بيان هذه المصطلحات نريد أن نعرف مدى علاقة الزمان والمكان بالتأسي والمتابعة. ¬

(¬1) المعتمد: أبو الحسن البصري، تحقيق محمد حميد وآخرون، نشر المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية. دمشق، 1384هـ، 1 / 372 - 374. (¬2) هو أبو الحسن سيف الدين علي بن محمد سالم التغلبي الآمدي (551- 631هـ) . أصولي متكلم من تصانيفه. الإحكام في أصول الأحكام. ومختصره منتهى السول وأبكار الأفكار في علم الكلام. انظر: طبقات الشافعية للسبكي، 5 / 129. ولسان الميزان لابن حجر، 3 / 134. (¬3) الإحكام في أصول الأحكام. أبو الحسن الآمدي، تحقيق الشيخ عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1402هـ 1 / 172. (¬4) انظر المعتمد، 1 / 375.

يقول الآمدي: (. . . فلو وقع فعله في مكان وزمان مخصوص فلا مدخل له في المتابعة والتأسي وسواء تكرر أو لم يتكرر، إلا أن يدل الدليل على اختصاص العبادة به كاختصاص الحج بعرفات، واختصاص الصلوات بأوقاتها، وصوم رمضان (¬1) . وتأتي أهمية هذا الأمر لأن ارتباط الزمان أو المكان له أهمية في تحديد صحة الفعل من خطئه، وكون الفعل الواقع في الزمان أو المكان سنة أو بدعة وكون فاعله متبعا أو مبتدعا. فإذا علمنا تخصيص الشارع أزمنة معينة أو أمكنة بنوع من العبادة وقصدنا نحن تخصيص هذه الأزمنة والأمكنة بهذا النوع من العبادة كنا متبعين. أما إذا قصدنا زمانا أو مكانا بنوع من العبادة لم يخصصه به الشارع فسنكون حينئذ مبتدعين " يقول ابن تيميه موضحا أهمية هذا الأمر: (وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا فعل فعلا على وجه العبادة شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان خصصناه بذلك. كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة، وأن يستلم الحجر الأسود، وأن يصلي خلف المقام، وكان يتحرى الصلاة خلف أسطوانة مسجد المدينة، وقصد الصعود على الصفا والمروة، والدعاء والذكر هناك، وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما. وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده- مثل أن ينزل بمكان ويصلى فيه لكونه نزله لا قصدا لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه- فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول لم نكن متبعين، بل هذا هو من البدع التي كان ¬

(¬1) الأحكام، 1 / 172.

ينهى عنها عمر بن الخطاب كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة عن سليمان التيمي عن المعرور بن سويد، قال: كان عمر بن الخطاب في سفر فصلى الغداة ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه فيقولون صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر: " إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعا. فمن عرضت له الصلاة فليصل وإلا فليمض " (¬1) . فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه بل صلى فيه لأنه موضع نزوله رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصورة ومتشبه باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب. وهذا هو الأصل، فإن المتابعة في السنة (¬2) أبلغ من المتابعة في صورة الفعل) (¬3) . وعلى ذلك يتبين لنا أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو الاقتداء به في أقواله وأفعاله على الوجه الذي جاء به من وجوب أو ندب مع توفر القصد والنية في متابعته والتأسي به. ولما كنا في باب الاتباع متعبدين بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم لأنها مناط الاتباع وكانت أفعاله صلى الله عليه وسلم متفاوتة الرتبة وليست على درجة واحدة من الوجوب أو الندب أو الإباحة. فهي تشمل كل هذا، كما أن من أفعاله ما كان عاديا ومنها ما قصد به التشريع إلى غير ذلك مما فصلته كتب الأصول. لما كان الأمر كذلك أجبت أن أشير إشارة سريعة إلى أفعاله ¬

(¬1) هذا الأثر عزاه ابن تيمية إلى سنن سعيد بن منصور في اقتفاء الصراط المستقيم، 2 / 744، وقد صححه هاهنا في القاعدة الجليلة. (¬2) لعل الصواب: النية. (¬3) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط1، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1399 هـ. ص 105- 106.

أفعال النبي صلى الله عليه وسلم: (¬1) . 8 - تنقسم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم عند الأصوليين إلى ثلاثة أقسام رئيسية: أولا: الأفعال الجبلية (العادية) كالقيام والقعود والأكل والشرب وغيرها فهذه الأفعال محمولة على الإباحة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم وإلى أمته، ولا يجب علينا التأسي والاقتداء به في هذا النوع من الأفعال، وهذا هو مذهب الجمهور (¬2) . إلا إن ورد في السنة ما يرشد إلى بعض الهيئات بالنسبة لهذه الأفعال الجبلية فينتقل حكمها من الإباحة إلى الوجوب أو الندب على ما هو مقرر عند الفقهاء. مثال ذلك: الأكل باليمين، والشرب قاعدا، والنوم على الجانب الأيمن. وقال قوم: إن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا النوع مندوب. وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يتتبع مثل هذا النوع من الأفعال ويحرص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما صدر عنه من مثل ذلك وإن كان قد فعله الرسول صلى الله عليه وسلم اتفاقا ولم يقصده. وجمهور الصحابة كانوا على خلاف ذلك، كما قرره شيخ الإسلام ابن تيميه مبينا أن الأصل في المتابعة هو أن نفعل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم قاصدين لفعله على الوجه الذي فعله من إباحة أو وجوب أو ندب، ما لم يكن داخلا في باب الخصائص انظر (¬3) ¬

(¬1) انظر في بيان ذلك: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، 1 / 173، وما بعدها. والعدة في أصول الفقه، للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي، تحقيق د. أحمد بن علي المباركي، ط 1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1400هـ، 3 / 734 وما بعدها. وإرشاد الفحول، لمحمد بن المباركي، ط 1، مطبعة مصطفى الحلبي، مصر، 1356 هـ، ص 35 وما بعدها. وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام، د. محمد العروسي عبد القادر، دار المجتمع، جدة، 1404هـ. (¬2) انظر: إرشاد الفحول، ص35. (¬3) القاعدة الجليلة، ص 105- 106.

ثانيا: الأفعال التي علم أنها من خصائصه صلى الله عليه وسلم: لقد ذكر الأصوليون في باب خصائصه صلى الله عليه وسلم أمورا من المباحات والواجبات والمحرمات. بعضها متفق عليه والبعض الآخر متنازع فيه. فمن المباحات في حقه صلى الله عليه وسلم الزيادة على أربع نسوة، والنكاح بلا مهر كنكاح الموهوبة، ومن الواجبات وجوب التهجد وقيام الليل، ومن المحرمات الأكل من الصدقة، وأكل ذي الرائحة الكريهة كالثوم والبصل. فهذه الخصائص خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها غيره ولا يقتدى به فيها. قال الشوكاني (¬1) . (والحق أنه لا يقتدى به صلى الله عليه وسلم فيما صرح لنا بأنه خاص به كائنا ما كان إلا بشرع يخصنا (¬2) . ، فإذا قال مثلا: هذا واجب علي مندوب لكم. كان فعلنا لذلك الفعل لكونه أرشدنا إلى كونه مندوبا لنا لا لكونه واجبا عليه، وإن قال: هذا مباح لي أو حلال ولم يزد على ذلك، لم يكن لنا أن نقول هو مباح لنا أو حلال لنا. . . وأما لو قال: هذا حرام علي وحدي ولم يقل حلال لكم فلا بأس بالتنزه عن فعل ذلك الشيء، أما لو قال: حرام علي حلال لكم فلا يشرع التنزه عن فعل ذلك الشيء. فليس في ترك الحلال ورع) (¬3) . ثالثا: الأفعال المجردة عما سبق وإنما المقصود بها التشريع، فهذه نطالب بالتأسي فيها، إلا أن صفتها الشرعية تختلف بحسب الوجوب أو الندب أو الإباحة- وتتنوع هذه الأفعال إلى عدة أنواع بحسب القرائن: ¬

(¬1) هو محمد بن علي بن محمد الشوكاني (1173- 1255 هـ) . مفسر. محدث أصولي فقيه، مجتهد، كان من كبار علماء اليمن في عصره، انظر: الأعلام، 6 / 298، ومعجم المؤلفين، 11 / 53- 54. (¬2) يقصد الشوكاني من وراء كلامه هذا الرد على من ذهب إلى أن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في خصائصه مستحب في الواجبات والمحرمات دون المباحات. (¬3) إرشاد الفحول، 35 - 36.

(أ) فإما أن تكون بيانا لمجمل ورد في القرآن أو تقييدا لمطلق أو تخصيصا لعام أو امتثالا لأمر فحكم هذه الأفعال هو حكم ما بينته من وجوب أو ندب وإباحة، ويعرف ذلك إما بصريح القول، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬1) وقوله في الحج: «خذوا عني مناسككم» (¬2) . وإما بقرائن الأحوال، كقيامه صلى الله عليه وسلم بفعل صالح للبيان عند الحاجة إلى ذلك، كقطعه يد السارق من الرسغ، فإنه بيان لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (¬3) ففي هذه الأحوال يكون البيان تابعا للمبين في الحكم من حيث الوجوب أو الندب أو الإباحة. (ب) فإن لم يكن الفعل بيانا لأمر بل ورد ابتداء منه صلى الله عليه وسلم فإما أن تعرف صفته الشرعية أو لا. فإن عرفت صفته من وجوب أو ندب أو إباحة فإن أمته في ذلك مثله وهذا هو الرأي الحق كما قال الشوكاني (¬4) . ودليل ذلك القرآن وفعل الصحابة رضوان الله عليهم. أما القرآن فمثل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] (¬5) . وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] (¬6) . وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] (¬7) وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] (¬8) وأما الصحابة فقد كانوا يرجعون إلى فعله صلى الله عليه وسلم احتجاجا واقتداء به في مواضع كثيرة، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تقبيل الحجر الأسود، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان. باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة 1 / 162- 163. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الحج. باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا 2 / 493، والنسائي. كتاب المناسك. باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم 5 / 269- 270. (¬3) سورة المائدة، آية (38) . (¬4) انظر: إرشاد الفحول، ص26. (¬5) سورة الحشر، آية (7) . (¬6) سورة آل عمران، آية (31) . (¬7) سورة النور، آية (63) . (¬8) سورة الأحزاب، آية (21) .

وقال: «لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك» (¬1) . فإن جهلت صفة الفعل الشرعية فإما أن يظهر قصد القربة أولا فإن ظهر فيه قصد القربة بأن كان مما يتقرب به إلى الله عز وجل كصلاة ركعتين من غير مواظبة عليهما، فيدل على الندب لأنه أقل ما يفيده جانب الرجحان وقال قوم بأنه واجب (¬2) . وإن لم يظهر فيه قصد القربة بل كان مجردا مطلقا فإنه يدل على الندب، لأن الفعل وإن لم يظهر فيه قصد القربة فلا بد أن يكون لقربة. وأقل ما يتقرب به المندوب، وقال قوم بأنه يدل على الإباحة، وقال آخرون بالتوقف حتى يقو دليل على الوجوب أو الندب (¬3) . ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود، 2 / 183. ومسلم. كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف، 2 / 295. (¬2) انظر: إرشاد الفحول، ص 38. (¬3) انظر: المصدر نفسه، ص 38.

المبحث الثاني وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه

[المبحث الثاني وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه] المبحث الثاني وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه لقد اصطفى الله محمدا صلى الله عليه وسلم بنبوته ورسالته وأنزل عليه الكتاب والحكمة، وأمره باتباع ما أوحي إليه وتبليغ ما أنزل إليه، فقام صلوات الله وسلامه عليه بتبليغ الرسالة، وأداء الأمانة. وقد شهد الله له بالصدق والعصمة واستمساكه بما أمره به كما شهد له بالهدى في نفسه، وأنه هاد لمن اتبعه، فقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52 - 53] (¬1) وهذه منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين فهو المبلغ عن الله دينه ووحيه وهو الآمر بإذن مولاه والهادي إلى الصراط المستقيم. فمن آمن به فبالله آمن، ومن أطاعه فقد أطاع الله، ومن قبل عنه فعن الله قبل. لأجل هذا أمر الله العباد بطاعته وأوجب عليهم اتباع أمره وتصديق خبره، وحذرهم من مخالفته وعصيانه، وجعل طاعته فرضا لازما لكل من آمن بالله، ولم يجعل لمؤمن اختيارا في أي أمر بعد قضاء الله ورسوله فيه. وقد استفاضت آيات الكتاب العزيز في بيان أهمية هذا الأمر والتأكيد على وجوبه وفرضيته، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20] (¬2) ¬

(¬1) سورة الشورى، آيات (52-53) . (¬2) سورة الأنفال، آية (20) .

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] (¬1) وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] (¬2) وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] (¬3) فبين الله بعد الأمر بطاعة رسوله أن طاعته سبب للهدى والرحمة، كما بين سبحانه أنه لا سعادة للعباد ولا نجاة لهم في المعاد إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته، فقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] (¬4) وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13] (¬5) وقد أوجب الله على المؤمنين رد قضاياهم وما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله وجعل سبحانه ذلك من مقتضيات الإيمان ولوازمه، وأخبرهم أن ذلك خير لهم في العاقبة والمال، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (¬6) قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: (. . . ولهذا قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ} [النساء: 59] أي اتبعوا كتابه، {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] أي خذوا بسنته، {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] أي فيما أمروا به من طاعة الله لا في معصية الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله. ¬

(¬1) سورة محمد، آية (33) . (¬2) سورة آل عمران، آية (132) . (¬3) سورة النور، آية (54) . (¬4) سورة الأحزاب، آية (71) . (¬5) سورة النساء، آية (13) . (¬6) سورة النساء، آية (59) .

. . . وقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي إلى كتاب الله وسنة رسوله. وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] (¬1) فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق. وماذا بعد الحق إلا الضلال. ولهذا قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر. وقوله {ذَلِكَ خَيْرٌ} [النساء: 59] أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله والرجوع إليهما في فصل النزاع خير {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] أي وأحسن عاقبة ومآلا (¬2) وكما أوجب الله على المؤمنين الرد إلى كتابه وسنة رسوله فقد أوجب عليهم تحكيم نبيه صلى الله عليه وسلم والتحاكم إليه والتسليم لحكمه وجعل ذلك من مستلزمات الإيمان فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] (¬3) قال ابن القيم: (. . . أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل، ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه ولم يكتف منهم أيضا بذلك حتى يسلموا تسليما، وينقادوا انقيادا، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] (¬4) ¬

(¬1) سورة الشورى، آية (10) . (¬2) تفسير ابن كثير، 1 / 518. (¬3) سورة النساء، آية (65) . (¬4) سورة الأحزاب، آية (36) .

فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله، ومن تخير بعد ذلك فقد ضل ضلالا مبينا) (¬1) . وقد أمرنا الله بأن نتبع رسوله صلى الله عليه وسلم ونمتثل أمره ونهيه في كل ما جاءنا به، فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] (¬2) قال ابن كثير: (أي: " مهما أمركم به فافعلوه ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه فإنه إنما يأمر بخير، وإنما ينهي عن شر ") (¬3) وهذا الأمر من الله عام شامل لكل ما جاءنا به الرسول صلى الله عليه وسلم سواء أكان منصوبا بعينه في القرآن أو لا؟ ذلك لأن النصوص الواردة في هذا الشأن كلها توجب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم نجد ما قاله منصوصا بعينه في القرآن، ولأن الله لم يفرق بين طاعته سبحانه وبين طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل جعل طاعة نبيه طاعة له سبحانه فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] (¬4) وغالب الآيات قرنت بين طاعته سبحانه وطاعة نبيه، ولأن ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه نص كتاب فإنما سنه بأمر الله ووحيه. قال الإمام الشافعي: (وما سن رسول الله فيما ليس لله فيه حكم- فبحكم الله سنه، وكذلك أخبرنا الله في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52 - 53] (¬5) ¬

(¬1) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، 1 / 51. (¬2) سورة الحشر، آية (7) . (¬3) تفسير ابن كثير، 4 / 336. (¬4) سورة النساء، آية (80) . (¬5) سورة الشورى، آية (52-53) .

وقد سن رسول الله مع كتاب الله، وسن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب. وكل ما سن فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العنود (¬1) عن اتباعها معصيته التي لم يعذر بها خلقا، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مخرجا) (¬2) . وقد جاءت الأحاديث الكثرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدلالة على وجوب طاعته واتباع سنته منها ما أخرجه البخاري بسنده عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم، فنجوا، وكذبت طائفة منم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق» (¬3) قال الطيبي (¬4) . : فيما نقله عنه الحافظ بن حجر: (شبه صلى الله عليه وسلم نفسه بالرجل، وإنذاره بالعذاب القريب بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبح، وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه، بمن كذب الرجل في إنذاره ومن صدقه) (¬5) . ¬

(¬1) العنود: العتو والطغيان، أو الميل والانحراف. انظر لسان العرب 3 / 307 وما بعدها. (¬2) الرسالة. للإمام محمد بن إدريس الشافعي. تحقيق أحمد محمد شاكر، ط 1، مطبعة مصطفى الحلبي، مصر، 1358 هـ، ص 88- 89. (¬3) البخاري، كتاب الاعتصام، باب الاقتداء سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم 9 / 115، ومسلم، كتاب الفضائل، باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته 14 / 788- 1789. (¬4) هو الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي (. . . - 743 هـ) ، مفسر محدث، كان شديد الرد على الفلاسفة والمبتدعة. من تصانيفه شرح المشكاة وشرح الكشاف للزمخرشي، شرحه شرحا حسنا، ورد عليه فيما خالف فيه مذهب أهل السنة والجماعة. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر، 2 / 156 -157. (¬5) فتح الباري، 11 / 317.

وأخرج البخاري أيضا بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» (¬1) والمراد بالإباء هنا هو الامتناع عن التزام سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصيان أمره. والموصوف بالإباء إن كان كافرا فلا يدخل الجنة أبدا وإن كان مسلما منع من دخولها مع أول داخل إلا من شاء الله تعالى (¬2) وأخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني» (¬3) . فهذا الحديث يؤكد أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] (¬4) وفي الحديث وجوب طاعة ولاة الأمر - وهم العلماء والأمراء - ما لم يأمروا بمعصية فإن أمروا بمعصية فلا سمع ولا طاعة. وأخرج الترمذي وأبو داود وأحمد - واللفظ له - عن العرباض بن سارية قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا، فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم 9 / 114. (¬2) انظر: فتح الباري، 13 / 254. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب قوله تعالى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول 9 / 77. (¬4) سورة النساء، آية (80) .

بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» (¬1) ففي هذا الحديث يوصي الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ومن يأتي بعدهم بالتمسك بالسنة ولزومها والاعتصام بها. قال ابن رجب: (وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بما وقع في أمته بعده من كثرة الاختلاف في أصول الدين وفروعه، وفي الأعمال والأقوال والاعتقادات، وهذا موافق لما روي عنه من افتراق أمته على بضع وسبعين فرقة وأنها كلها في النار إلا واحدة وهي ما كان عليه وأصحابه (¬2) ولذلك في هذا الحديث أمر عند الافتراق والاختلاف بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، والسنة هي الطريق المسلوك، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة. . . . . والخلفاء الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم هم أبو بكر وعمر وعمان وعلي رضي الله عنهم) (¬3) وكما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بطاعته، حذرهم من الخروج عن سنته ورهبهم من تركها والإعراض عنها، فقال فيما أخرجه البخاري عن أبي هريرة ¬

(¬1) المسند 4 / 127، وأبو داود. في السنة، باب لزوم السنة 5 / 13- 15، والترمذي في الحلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، 4 / 149- 155، وقال: حسن صحيح، وقال الحافظ أبو نعيم، هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين. انظر - جامع العلوم والحكم، لابن رجب، طبع دار الفكر، بيروت، ص 243. (¬2) يشير إلى حديث افتراق الأمة ولفظه " ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة، أخرجه أبو داود في كتاب السنة باب شرح السنة 5 / 5- 6، وأحمد في المسند 4 / 105، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1 / 128. انظر: السلسلة الصحيحة للألباني، 1 / 358 وما بعدها. (¬3) جامع العلوم والحكم، ص 248- 249.

ومسلم عن أنس رضي الله عنهما: «فمن - من - رغب عن سنتي فليس مني» (¬1) وقال فيما أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬2) وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم على من يحاول رد السنة ورفضها بدعوى الاكتفاء بالقرآن. وذلك فيما أخرجه أحمد وأبو داود - واللفظ له - والترمذي - وصححه وحسنه - عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» (¬3) . وأخرج أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شعبان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه، فله أن يعقبهم بمثل قراه» (¬4) . قال الخاطبي: " هذا الحديث يحتمل وجهين: أحدهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - أوتي من الوحي الباطن غير المتلو مثل ما أوتي من الظاهر المتلو. ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، 7 / 2. (¬2) سبق تخريجه. ص70. (¬3) سنن أبي داود. كتاب السنة، باب في لزوم السنة، 5 / 12. والترمذي، كتاب العلم، باب ما نهى أن يقال عند حيث النبي صلى الله عليه وسلم 4 / 144، والمسند 6 / 8. (¬4) سنن أبي داود، كتاب باب لزوم السنة، 5 / 10- 12، الحديث إسناده صحيح. انظر: المشكاة، 1 / 57 - 58.

والثاني: أن معناه أنه أوتي الكتاب وحيا يتلى، وأوتي مثله من البيان، أي أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخص وأن يزيد عليه في الشرع ما ليس في الكتاب له ذكر فيكون ذلك في وجوب الحكم ولزوم العمل به كالظاهر المتلو من القرآن (¬1) وقد تضمن هذا الحديث تحذيرا شديدا من مخالفة السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم استغناء عنها بالقرآن. يقول الخطابي: " يحذر بذلك من مخالفة السنة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس له ذكر في القرآن على ما ذهب إليه الخوارج والروافض فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي تضمنت بيانا للكتاب فتحيروا وضلوا (¬2) ثم أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التحذير ببيان أحكام ثبتت شرعيتها بالسنة ولم يرد لها ذكر في القرآن وذلك كتحريم لحم الحمار الأهلي وكل ذي ناب من السباع. وهذا تأكيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن السنة - متى ثبتت - حجة بنفسها وإن تضمنت أحكامها زائدة على ما في القرآن. قال الخطابي: " في الحديث دليل على أن لا حاجة بالحديث أن يعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حجة بنفسه ". فأما ما رواه بعضهم أنه قال: " إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه " فإنه حديث باطل لا أصل له، وقد حكى زكريا الساجي عن يحيى بن معين أنه قال: " هذا حديث وضعته الزنادقة " (¬3) ¬

(¬1) معالم السنن للخاطبي بهامش سنن أبي داود، 5 / 10. (¬2) معالم السنن، 5 / 10. (¬3) معالم السنن، 5 / 11.

هذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، إذ ظهرت في الأمة طوائف تنكر السنة كلها أو بعضها بدعوى الاستغناء عنها بالقرآن وكان من أوائلهم الخوارج والروافض والمعتزلة حيث أثر عن هذه الطوائف إنكار لبعض الأحكام التي وردت في السنة. وقد وجدت منهم عناصر في زمن الإمام الشافعي وناظر بعضهم (¬1) وتوالى ظهور من يدعو إلى مثل هذه الأفكار على مر التاريخ حتى عصرنا الحاضر، إذ وجدت فرقة تسمت باسم (القرآنيين) ، قد ظهرت في الهند والباكتسان، وسرت عدواها إلى مصر وغيرها من البلاد العربية. وتذهب هذه الفرقة إلى إنكار السنة وحجيتها بدعوى الاكتفاء بالقرآن، واخترعوا دينا جديدا لا مرجع فيه إلى السنة. وإنما اعتمدوا على القرآن بزعمهم، مدعين أن القرآن وحده كاف لإقامة الحياة الإسلامية وليست هناك حاجة إلى السنة. وبناء عل ذلك تأولوا- بأهوائهم- آيات القرآن بما يجعله شاملا للأحكام بتفاصيلها، وراحوا يلتمسون من الشبهات ما يقوي بنيانهم، ولو أننا استغنينا عن السنة لانهدم الدين من أساسه ولانفتح باب الزندقة على مصراعيه. وليس المقام هنا مقام الرد على هؤلاء الزنادقة ودحض شبهاتهم فقد اكتفيت فيه برد غيري (¬2) . وقد جاءت الآثار عن الصحابة والتابعين بالتحذير منهم، فأخرج الدارمي بسنده عن عمر رضي الله عنه قال: «إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله» (¬3) ¬

(¬1) انظر: كتاب جماع العلم ضمن كتاب الأم للإمام الشافعي، ط2، نشر دار المعرفة، بيروت، 1393هـ، 7 / 271 وما بعدها. (¬2) انظر في عرض آراء هذه الفرقة وشبهاتها والرد عليها. رسالة: فرقة أهل القرآن بباكستان وموقف الإسلام منها. رسالة ماجستير مقدمة من الباحث خادم إلهي حسين بخش إلى جامعة أم القرى، 1401 هـ. (¬3) سنن الدارمي، 1 / 49.

وأخرج الآجري بسنده عن سعيد بن جبير أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فقال رجل: (إن الله قال في كتابه كذا وكذا، فقال: لا أراك تعارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الله عز وجل، رسول الله أعلم بكتاب الله عز وجل سبحانه وتعالى) (¬1) . وأخرج ابن عبد البر بسنده عن أيوب السختياني أن رجلا قال لمطرف ابن عبد الله بن الشخير: (لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال له مطرف: والله ما نريد بالقرآن بدلا ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا) يريد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2) . بقي أن أنبه إلى أمر مهم جدا تغافل عنه أكثر المسلمين اليوم ألا وهو مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته من الدين، فأكثر المسلمين اليوم على أن اتباع السنة وتطبيقها أمر اختياري من باب المستحبات لا الواجبات، والسبب الأكبر في ذلك غلبة الجهل بالسنة ومكانتها من الدين، وسكوت العلماء والدعاة- إلا من رحم الله- عن نشر السنة وتقريبها إلى الناس، هذا مع غلبة التعصب المذهبي على أكثرهم مما حال بينهم وبين البحث عن الهدي النبوي الشريف. لأجل هذا صارت السنة في أكثر البقاع مهجورة وغريبة وأغرب منها من يستمسك بها ويدعو إليها. هذا مع ادعاء الأكثرية أنهم مازالوا على الصراط المستقيم، وأنهم مطيعون متبعون، وكأن الاتباع يثبت بمجرد الدعوى دون أدلة وشواهد حقيقية وواقعية. ورغم كل هذا فلا تزال طائفة من هذه الأمة في كل بلد قائمة بالسنة داعية إليها صابرة على ما تلاقي من ألوان الأذى والصد عن سبيل الله. ¬

(¬1) كتاب الشريعة للإمام أبي بكر محمد بن الحسين الآجري، تحقيق محمد حامد الفقي، نشر. حديث أكاديمي، فيصل آباد، باكستان، ص51. (¬2) جامع بيان الحلم وفضله وما يبغي في روايته وحمله للإمام أبي عمر يوسف بن عبد البر. المكتبة العلمية، المدينة المنورة، 2 / 191.

كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (¬1) . لذا كان لأبد من تحديد آثار الاتباع ومظاهره حتى يتبين المتبع حقا من غيره، وهذا ما سأبينه في المبحث القادم إن شاء الله. ¬

(¬1) صحيح مسلم. كتاب الإمارة. باب قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين 3 / 1523.

المبحث الثالث مظاهر الاتباع

[المبحث الثالث مظاهر الاتباع] المبحث الثالث مظاهر الاتباع اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أمر واجب وفرض عين على الأمة كلها في عسرها ويسرها ومنشطها ومكرهها. ولا يصير المسلم مسلما حتى يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله وأفعاله حسب علمه واستطاعته، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم مثل محبته من حيث كونه مقترنا بشواهد تؤكده ومظاهر عملية تحدده وبدونها يصير الاتباع دعوى مجردة عن الدليل. وأود في هذا المبحث أن أبين بعض مظاهر الاتباع التي إذا تحققت تحقق الاتباع وصدقت المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن هذه المظاهر: أولا: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به: قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] (¬1) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: " هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل. صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين. ¬

(¬1) سورة الأحزاب، آية (21) .

ولهذا قال تعالى للذين تضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] أي هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صلى الله عليه وسلم (¬1) والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم هو: أن نفعل مثلما فعل على الوجه الذي فعله، من وجوب أو ندب، وأن نترك ما تركه، أو نهى عنه من محرم أو مكروه، كما يشمل التأسي به التأدب بآدابه والتخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك فالتأسي والاقتداء شامل لكافة أمور الدين. فإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم قولا قلنا مثل قوله، وإذا فعل فعلا فعلنا مثله، وإذا ترك شيئا تركناه فيما لم يكن خاصا به، وإذا عظم شيئا عظمناه، وإذا حقر شيئا حقرناه، وإذا رضي لنا أمرا رضينا به، وإذا وقف بنا عند حد وقفنا عنده ولم يكن لنا أن نتقدم عليه أو نتأخر عنه. وبالجملة فإن الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم هو تجريد متابعته والتلقي عنه وحده فكما أن الرب سبحانه واحد فالرسول الذي أمرنا باتباعه واحد فهما توحيدان: توحيد المرسل وهو الله سبحانه وتعالى، وتوحيد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وبدون هذا لا يصير المسلم مسلما. ذلك هو الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو المعيار الذي ينبغي أن توزن به أفعال الناس وأقوالهم وعقائدهم وسائر أمورهم. وطريق التأسي به مبنى على العلم بهديه صلى الله عليه وسلم في كافة أمور الدين والعمل به. وقد وعت دواوين السنة وكتب السير والشمائل كافة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وسجاياه وأخلاقه وكل ما يتصل به من قريب أو بعيد وحفظت ذلك أتم حفظ. وقام أولو العلم في كل عصر بتقريب الناس من هذا الهدى النبوي الشريف ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، 3 / 475.

قياما بواجبهم في تبليغ هذا الدين ونصحا للمسلمين، فما تركوا شيئا من هديه صلى الله عليه وسلم إلا وبينوه أتم بيان، فأبان الله بهم السبيل وقطع بهم المعاذير، فالسعيد من اتبع خطاهم والشقي من تنكب طريقهم وجفاهم. فعلى كل مسلم يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتعلم من سننه وهديه ما يدخل به في عداد المقتدين المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم. قال ابن القيم: " وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسه، وأحب نجاتها وسعادتها، أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه مما يخرج به عن الجاهلين به، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " (¬1) . والسبيل العملي للتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم هو تطبيق السنة في حياة الفرد والجماعة. وهذا التطبيق يشمل كافه جوانب الدين من اعتقادات وعبادات ومعاملات وأخلاق وآداب ونظم اجتماعية وإدارية وسياسية شرعية. ومما يعين على تطبيق السنة، إحياؤها بنشر العلم الشرعي الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا واجب على كل من علم من الدين شيئا أن يبلغه، ويتعين هذا ويتأكد وجوبه في حق أهل العلم وحملة الشريعة، أخذا من قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] (¬2) فهذه الآية وإن نزلت في حق أهل الكتاب توبيخا لهم لكتمانهم أمر رسول ¬

(¬1) زاد المعاد من هدى خير العباد لابن القيم، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرنؤوط ط 8، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405 هـ، 1 / 69- 70. (¬2) سورة آل عمران، آية (187) .

الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به مع علمهم بأنه هو النبي الخاتم والمبشر به من قبل أنبيائهم، إلا أن فيها تحذيرا لعلماء هذه الأمة من أن يسلكوا مسلك أهل الكتاب في كتمان العلم فيصيبهم ما أصابهم. فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح ولا يكتموا منه شيئا (¬1) . كما ورد في السنة الحث على تبليغ العلم في أحاديث كثيرة منها ما أخرجه البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (¬2) وأخرج الترمذي بسنده عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع» (¬3) وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم (¬4) " انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا (¬5) والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة وكلها تؤكد وجوب تبليغ السنة ونشرها في كل عصر ومصر. ويتحتم هذا الأمر في حالة الجهل بالسنة ¬

(¬1) انظر، تفسير ابن كثير، 1 / 437. (¬2) البخاري. كتاب أحاديث الأنبياء. باب ما ذكر عن بني إسرائيل 4 / 207. (¬3) سنن الترمذي. كتاب الحلم، باب في الحث على تبليغ السماع 4 / 142، وأخرجه أحمد في مسنده 1 / 437، وابن ماجه في المقدمة، باب من بلغ علما 1 / 85. والحديث متواترا رواه أربعة وعشرون صحابيا. انظر: دراسة حديث " نضر الله امرأ سمع مقالتي) رواية ودراية. تأليف عبد المحسن العباد، ط1، المدينة المنورة، 1401 هـ. (¬4) هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. تابعي فقيه، استحمله عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة وقضائها، ولهذا كتب إليه. انظر فتح الباري، 1 / 194. (¬5) ورده البخاري في كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، 1 / 35.

أو الإعراض عنها وهجرانها كما هو الحال في هذا الزمان الذي عم فيه الهجران للسنة وتعاليم الدين كافة بلاد المسلمين إلا قليلا ممن هداهم الله ووفقهم للتمسك بالسنة والصبر عليها. والسبب في ذلك قلة الاهتمام بالعلم الشرعي، وتقصير أهل العلم في القيام بواجبهم في تبليغ هذا الدين على الوجه المطلوب، هذا مع غلبة التعصب المذهبي والتقليد الأعمى على أكثر الناس، مما جعل بين المسلمين وبين هدى نبيهم جفاء وبعدا- إلا من رحم الله. فيجب على كل مسلم يحب الله ورسوله أن يقوم بواجبه في تبليغ هذا الدين حسب علمه واستطاعته، صابرا في سبيل ذلك على ما يلاقي في جنب الله من أذى. متأسيا في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الذين وقفوا حياتهم لتبليغ هذا الدين، باذلين في سبيل ذلك النفس والنفيس. فرضي الله عنهم وعمن سار على نهجهم إلى يوم الدين. وهذا هو مظهر الاتباع والحب الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: " وإذا لزم اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سن، وكان لزوم فرضا باقيا، ولا سبيل إلى اتباع سنته إلا بعد معرفتها، ولا سبيل لنا إلى معرفتها إلا بقبول خبر الصادق عنه لزم قبوله صلى الله عليه وسلم متابعته، ولذلك أمر بتعليمها والدعاء إليها، وبالله التوفيق " (¬1) . ثانيا: تحكيم السنة والتحاكم إليها: إن مما يؤكد صدق الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحكيم سنته والتحاكم إليها وجعلها الميزان الذي توزن به الأقوال والأفعال والأحكام فما وافقها قبل وما خالفها رد وإن قاله من قاله. وقد وردت آيات كثيرة تؤكد هذا الأمر منها قوله تعالى: ¬

(¬1) الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد للإمام أبي بكر البيهقي، تصحيح كمال يوسف الحوت، ط 1، عالم الكتب، بيروت، 1403 هـ، ص 154.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (¬1) . فأمر الله المؤمنين برد قضاياهم وما تنازعوا فيه إلي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأعلمهم أن ذلك خير لهم في الدنيا وأحسن عاقبة في الأخرى، وفي الأمر بالرد إلى كتاب الله وسنة رسوله دلالة صريحة على أنهما كافيان لفصل النزاع وتقديم الحل لكل مشكلة تقع بين المسلمين. وإن إيمان المؤمن ليحمله على الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله آنا بعد آن لمعرفة حكم الشرع في كل ما يجد له من أمور الحياة. وفائدة هذا الأمر عظيمة جدا، إذ يظل المسلم على جادة الاتباع لا يحيد عن الصراط المستقيم طالما أحسن الرجوع إلى الكتاب والسنة، وقد أمر الله بتحكيم نبيه- في حياته وسنته بعد مماته- في كالله أنواع النزاع للفصل فيها فقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] (¬2) . فأقسم سبحانه بذاته على أنه لا يثبت للمؤمنين الإيمان حتى يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع في كافة الأمور وأن هذا التحكيم غير كاف حتى يجتمع إليه الرضى بحكمه والتسليم لأمره مع انشراح صدورهم وطيب نفوسهم بقضائه وحكمه. وأصل ذلك أن المسلم متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كافة أحواله فإذا عرض له أمر أو تنازع مع أخيه المسلم في أي شأن من شئون الدين أو الدنيا فزع عند ذلك إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يجد فيها جوابا شافيا كما كان حال الصحابة معه صلى الله عليه وسلم في حياته، يفزعون إليه يسألونه في كافة أمورهم، ويحتكمون إليه في كل شئونهم، فإذا حكم بشيء قبلوا حكمه وسلموا به عن طيب نفس ورضى. ¬

(¬1) سورة النساء، آية (59) . (¬2) سورة النساء، آية (65) .

وبعد موته عليه الصلاة والسلام كان الصحابة إذا اختلفوا في أمر أو خفي عليهم حكمه تحاكموا إلى من يعلم بالسنة فيما اختلفوا فيه، فإذا ثبتت عندهم السنة لم يتجاوزوها إلى غيرها. فها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «أذكر الله امرأ سمع من النبي في الجنين شيئا؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين جاريتين لي، يعني ضرتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح (¬1) فألقت جنينا ميتا، فقضى فيه رسول الله بغرة (¬2) فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره.» (¬3) . وأخرج الشافعي بسنده عن سعيد بن المسيب: «أن عمر بن الخطاب كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا. حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله كتب إليه: أن يورث امرأة أشيم الضبابي (¬4) من ديته. فرجع إليه عمر» (¬5) . وقد جمع الإمام الشافعي جملة من الآثار عن الصحابة ومن بعدهم تؤكد ¬

(¬1) المسطح: هو عود من أعواد الخباء أو الفسطاط " الخيمة ". انظر: النهاية في غريب الحديث. لابن الأثير، تحقيق محمود الطناحي مطبعة عيسى الحلبى، مصر، 4 / 330. (¬2) الغرة: العبد أو الأمة، والغرة هي ما بلغ ثمنه نصف عشر الدية من العبيد أو الإماء، قال ابن الأثير: (وإنما تجب الغرة في الجنين إذا سقط ميتا، فإن سقط حيا ثم مات ففيه الدية كاملة. انظر- النهاية في غريب الحديث، 3 / 353. (¬3) أخرجه الشافعي في الرسالة 427. وأصل الحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة في كتاب الديات. باب جنين المرأة وأد العقل على الولد، 14 / 9- 15. وانظر فتح الباري، 12 / 164- 252. (¬4) أشيم الضبابي صحابي قتل خطأ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني، طبع دار الكتاب العربي، بيروت، 1 / 67. (¬5) رواه الشافعي في الرسالة 426، وأحمد في المسند، 3 / 452، والترمذي في أبواب الفرائض، باب ما جاء في توريث المرأة من دية زوجها وقال حديث حسن صحح، 3 / 288، والحديث صححه الهيثمي من رواية الطبراني. انظر مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي، ط3، 4 / 230 - 231، دار الكتاب العربي بيروت.

أخذهم بالسنة متى ثبتت واطراح كل رأى يخالفها وإن كان قد جرى عليه العمل (¬1) ولنا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة أعظم الأسوة في التمسك بالسنة وتحكيمها في كافة أمورنا. وتحكيم السنة والتحاكم إليها هو الفارق بين المسلم الحريص على اتباع السنة وبين من يتبع هواه بغير هدى من الله. فمن تحاكم إلى غير الوحي فقد تحاكم إلى الطاغوت، وذلك كحال من يتحاكم إلى أدلة العقول المبنية على المنطق اليوناني وهذا هو شأن الفلاسفة وأهل الكلام، ومثل ذلك من يتحاكم إلى الذوق والوجد أو مشايخ الطريق وهذا هو حال الصوفية. أو كالشيعة الذين يتحاكمون إلى الأئمة المعصومين بزعمهم، ويلتحق بأولئك من يتحاكمون إلى القوانين الوضعية، أو أي مبدأ من المبادئ الهدامة أو عرف من الأعراف البشرية السائدة أو غير ذلك مما تحتكم إليه الجاهلية قديما وحديثا معرضين بذلك عن الحكم بكتاب الله وسنة رسوله والتحاكم إليهما. وهذا الإعراض والصدود هو حال المنافقين في كل زمان ومكان وإن زعموا أنهم يريدون بذلك إحسانا وتوفيقا، أو أنهم يعملون لمصلحة الأمة وقد نبه الله على صنيعهم وأبان عن سوء حالهم فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا - فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 60 - 63] (¬2) ¬

(¬1) انظر الرسالة، ص422، وما بعدها. (¬2) سورة النساء، آيات (60-63) .

قال ابن القيم: (. . . . إن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته (¬1) ثالثا: الرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه: من مظاهر طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم الرضى بحكمه وشرعه وهذا الأمر تابع للرضا بالله ربا وإلها، فمن رضي بالله ربا، رضى بالرسول الذي أرسله والدين الذي أنزله. فمن حصل له ذلك فهو السعيد حقا. أخرج مسلم بسنده عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا» (¬2) فإذا رضي المسلم بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا لم يلتفت إلى غير هديه، ولم يعول في سلوكه على غير سنته وحكمه وحاكم إليه وقبل حكمه وانقاد له وتابعه واتبعه، ورضي بكل ما جاء به من عند ربه، فسكن قلبه لذلك واطمأنت نفسه وانشرح صدره، ورأى نعمة الله عليه وعلى الخلق- بهذا النبي صلى الله عليه وسلم وبدينه- أعظم من ¬

(¬1) إعلام الموقعين، 1 / 50. (¬2) صحيح مسلم. كتاب الإيمان. باب الدليل على أن من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا فهو مؤمن وإن ارتكب المعاصي الكبار، 1 / 62.

أي نعمة. ففرح بفضل ربه عليه ورحمته به أن جعله من أتباع خير المرسلين وحزبه المفلحين. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ - قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57 - 58] (¬1) والرضى كلمة تجمع القبول والانقياد، فلا يكون الرضى إلا حيث يكون التسليم المطلق والانقياد ظاهرا وباطنا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه. وكل التفات أو عدول عن الوحي إلى غيره أو اعتراض عليه فهو مناقض للرضى ودليل على النفاق ومؤد إلى الكفر والمروق من الدين. وقد وقعت طوائف من الأمة فيما يعارض الرضى ويناقضه من الاعتراض على ما جاء به الرسول من ربه، واتخذ ذلك أشكالا متعددة: - فمنهم من اعترض على توحيد الألوهية بجنس ما اعترض به المشركون الأولون من محبة الأنبياء والصالحين والتقرب بهم إلى الله زلفى. فلم يرضوا بالتوحيد الخالص حتى شابوه ودنسوه بدنس الشرك. - ومنهم من اعترض على أسماء الله وصفاته بالشبه الباطلة، والظنون الحائرة فنفوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وأثبتوا ما نفاه الله ورسوله عنه فتاهوا في الضلال والعمى. ولو أنهم رضوا بما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم ووقفوا عنده لاهتدوا من الضلالة ولأبصروا بعد العمى ولسعدوا بالهدى. - ومنهم المعترض على الشرع: إما بالآراء والأقيسة الفاسدة المتضمنة تحليل ما حرمه الله، وتحريم ما أحله، وإسقاط ما أوجبه، وإيجاب ما أسقطه. وإما بالاعتراض على حقائق الإيمان والشرع بالذوق والوجد والكشف ومشايخ الطريق. فحادوا لأجل ذلك عن الصراط المستقيم، وعولوا على أهوائهم وما ألقته ¬

(¬1) سورة يونس، آية (57-58) .

إليهم شياطينهم من زخارف القول. فهم على هذا عاكفون، وعن طريق الحق والهدى معرضون وصادون. - ومنهم من اعترض على الشريعة بالسياسات الجائرة والقوانين الوضعية الخاسرة وألزموا الناس بها كأنها شرع منزل، وتركوا شرع رب العالمين وعطلوا حدوده وأهملوا شعائره، وانتهكوا محارمه. زاعمين مع ذلك أنهم يريدون إحسانا وتوفيقا فوقعوا في الضلال والحيرة وكساهم الله ثوب الصغار والذلة وأذاقهم الله لباس الجوع والخوف والقلة. ولو رضوا بشرع رب العالمين لحصل لهم العز والتمكين. - ومنم من اعترض على أفعال الله وقضائه وقدره وحكمته بأنواع من الشبه الإبليسية التي تطعن في عدل الله وحكمته وعلمه وهذا اعتراض الجهال والسبب الذي أخرجهم من الرضا إلى الاعتراض هو تلقيهم واستمدادهم من غير الوحي والتزامهم أصولا تخالف شرع رب العالمين ولا نجاة من هذا الداء- أعني داء الاعتراض- إلا بالتسليم المطلق للوحي والإقبال عليه مع اليقين التام بأن فيه الهداية والشفاء (¬1) رابعا: الوقوف عند حدود الشريعة: - هذا الأمر ثمرة للرضا، فمن رضي بحكم رسول الله ودينه وشرعه وقف عند حدود شريعته ولم يتجاوزها إلى غيرها، ولا يكون ذلك إلا إذا أيقن المسلم أن الدين قد كمل فليس بحاجة إلى زيادة ولا نقصان، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين فلم يترك من أمر الدين شيئا إلا وبلغه. فإذا علم المسلم ذلك وأيقن به وقف عند حد الشريعة ولم يتعدها. والحدود التي أمرنا بالوقوف عندها وعدم تعديها: هي جملة ما أذن الله في فعله سواء كان على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة، واعتداؤها: هو تجاوز ذلك إلى ارتكاب ما نهى عنه (¬2) ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين، 2 / 69- 71. (¬2) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، ص246.

وتعدي الحدود يشمل الإفراط والتفريط، لكن أكثر ما يطلق على الإفراط ومجاوزة الحد، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] (¬1) وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] (¬2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] (¬3) وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، «سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء» (¬4) . أي أنهم يتجاوزون حدود الطهور بالزيادة فيه والدعاء بالإخلال بشروطه، فمن تجاوز حدود الشريعة فقد خرج عنها إلى غيرها مما زينه له الشيطان كما قال بعض السلف: " ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة- وهي الإفراط- ولا يبالي بأيهما ظفر زيادة أو نقصان (¬5) ولأجل هذا أمرنا الله بلزوم الصراط المستقيم، وأن نسأله كل صلاة أن يهدينا إليه. في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] (¬6) وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] (¬7) ونهي الله عن تعد الحدود ومجاوزتها، والتقدم بين يدي الله ورسوله حتى لا يزاد في دين الله بالأهواء. وعدم الوقوف عند حدود الشريعة أنتج في الأمة صنوفا من البدع وضروبا من الغلو وألوانا من الخروج على الدين ما كان لها أن توجد لولا مجاوزة هذه الحدود. فأصاب الدين وأهله من المبتدعة والغلاة شر كثير. ¬

(¬1) سورة البقرة، آية (229) . (¬2) سورة الأعراف، آية (55) . (¬3) سورة المائدة، آية (87) . (¬4) أخرجه أحمد في مسنده. من حديث عبد الله بن مغفل، 4 / 86، 87، والحاكم في المستدرك، 1 / 540، وصححه ووافقه الذهبي. (¬5) انظر: مدارج السالكين 2 / 108. (¬6) سورة الفاتحة، آية (5) . (¬7) سورة الأنعام، آية (153) .

نخلص من هذا إلى أن الاتباع مرتبط بمظاهر عملية من حققها فقد حقق الاتباع، وصدقت محبته لله ورسوله ومن أخل بها فقد أخل بالاتباع وكان ذلك دليلا على نقصان المحبة عنده.

الباب الثاني الغلو والابتداع

[الباب الثاني الغلو والابتداع] [الفصل الأول الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم] [المبحث الأول مفهوم الغلو] الباب الثاني الغلو والإبتداع (وفيه فصلان) الفصل الأول: الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم. الفصل الثاني: الابتداع.

الفصل الأول الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه ستة مباحث المبحث الأول: مفهوم الغلو. المبحث الثاني: الغلو في الرسل عند اليهود والنصارى. المبحث الثالث: الغلو في ذات الرسول صلى الله عليه وسلم عند الشيعة. المبحث الرابع: الغلو في ذات الرسول صلى الله عليه وسلم عند الصوفية. وفيه مطلبان: المطلب الأول: الغلو عند الحلاج. المطلب الثاني: الغلو عند ابن عربي. المبحث الخامس: أثر الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم على الاعتقاد والأعمال. المبحث السادس حكم الإسلام في الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم.

المبحث الأول مفهوم الغلو أصل الغلو في اللغة يطلق على مجاوزة الشيء حده الذي وضع له، سواء كان هذا الحد شرعيا أو عرفيا. قال الراغب: (الغلو تجاوز الحد، يقال ذلك إذا كان في السعر غلاء، وإذا كان في القدر " والمنزلة غلو، وفي السهم غلو، وأفعالها جميعا غلا يغلو. قال تعالى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] (¬1) والغلي والغليان يقال في القدر إذا طفحت، ومنه استعير قوله: {طَعَامُ الْأَثِيمِ - كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ - كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 44 - 46] (¬2) وبه شبه غليان الغضب والحرب، وتغالي النبت يصح أن يكون من الغلي، وأن يكون من الغلو. غلواء: تجاوز الحد في الجماح، وبه شبه غلواء الشباب) (¬3) وجاء في اللسان: (. . . وغلا في الدين والأمر يغلو غلوا: جاوز حده، وفي التنزيل ¬

(¬1) سورة النساء، آية (171) ، والمائدة، آية (77) . (¬2) سورة الدخان، آية (44-46) . (¬3) المفردات، ص364 - 365، مادة: غلا.

{لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] (¬1) وفي الحديث: «إياكم والغلو في الدين» (¬2) أي التشدد فيه ومجاوزة الحد. . . . ومنه الحديث: «وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه» (¬3) إنما قال ذلك لأن من آدابه وأخلاقه التي أمر بها القصد في الأمور، «وخير الأمور أوساطها» (¬4) وعلى ذلك فالمادة تدور في اللغة حول مجاوزة الحد أيا كان نوعه. فإذا نظرنا إلى معنى الغلو في الشرع فسنجده موافقا للمعنى اللغوي إذ يطلق الغلو في الشرع على مجاوزة حدود الشريعة عملا أو اعتقادا. وقد وردت مادة الغلو والنهي عنه مرتين في القرآن الكريم، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] (¬5) وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] (¬6) قال القرطبي في تفسير الآية الأولى: ¬

(¬1) سورة النساء، آية (171) ، والمائدة، آية (77) . (¬2) أخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب قدر حص الرمي 2 / 1008 وسيأتي تخريجه. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب. باب في تنزيل الناس منازلهم، 5 / 174، والحديث حسن. انظر صحيح الترغيب والترهيب للألباني، ط 2، المكتب الإسلامي، بيروت) 1460 هـ 1 / 660. (¬4) لسان العرب، 5 / 132، مادة غلا. وانظر: مقاييس اللغة 4 / 387- 388. (¬5) سورة النساء، آية (171) . (¬6) سورة المائدة، آية (77) .

" قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة: 77] نهي عن الغلو، والغلو التجاوز في الحد، ومنه: غلا السعر يغلو غلاء، وغلا الرجل في الأمر غلوا، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها (¬1) ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربا، فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر (¬2) . كما ورد لفظ الغلو والنهي عنه في السنة موافقا معناه لما في القرآن ففي الحديث الذي أخرجه ابن ماجه بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «قال لي رسول صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: " القط لي حصى " فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف. فجعل ينفضهن في كفه ويقول " أمثال هؤلاء فارموا، ثم قال: " يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (¬3) . قال ابن تيمية في شرح هذا الحديث: (وقوله: «إياكم والغلو في الدين» عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، والغلو: مجاوزة الحد، بأن يزاد في حمد الشيء أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك) (¬4) ¬

(¬1) لداتها: أي أترابها ومثيلاتها. (¬2) الجامع لأحكام القرآن لابن عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ط 2- دار الكتب المصرية، 1357 هـ، 6 / 21. (¬3) سنن ابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر الحصى، 2 / 1008، ورواه النسائي في السنن. ص ب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، 5 / 268، والإمام أحمد ني المسند، 1 / 215 " 347. والحديث صحيح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: هدا إسناد صحح على شرط مسلم. انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية، تحقيق د. ناصر بن عبد الكريم العقل. ط 1، مطابع العبيكان، الرياض، 1404هـ، 1 / 2988-. 289. (¬4) المصدر نفسه، 1 / 289.

أنواع الغلو

فهذه النصوص بينت أن الغلو- يراد به شرعا مجاوزة الحد بالزيادة على المشروع قدرا ووصفا، اعتقادا وعملا. وقد وردت في الشرع ألفاظ تقارب الغلو في معناه. مثل التشدد والتشديد، والتعمق والتنطع والتكلف، وكلها مرادفة للغلو وتجتمع معه في كونها مجاوزة الحد بالزيادة على المشروع، كما يلاحظ في الغلو أنه تجاوز من مشروع إلى غير مشروع فمثلا تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم والإشادة بذكره، هذا أمر مشروع طالما كان ذلك في حدود بشريته. فإذا تجاوزنا بتعظيمه حدود بشريته صار هذا غلوا. [أنواع الغلو] أنواع الغلو تتعدد أشكال الغلو وصوره، فمنه ما يكون في الاعتقاد ومنه ما يكون في العمل: (أ) الغلو في الاعتقاد: ويتمثل في مجاوزة حدود الاعتقاد الصحيح إلى غيره من ضروب الانحراف، والمتأمل في آراء الفرق الكلامية التي فارقت أهل السنة والجماعة بنوع اعتقاد يجدها قد غلت في ناحية من نواحي الاعتقاد حتى خرجت عن الصراط المستقيم. ففي صفات الله تعالى نجد النفاة والمؤولة غلوا في تنزيه الله حتى عطلوه عن صفات الكمال ووصفوه بصفات المعدوم، وفي المقابل نرى المجسمة والمشبهة غلوا في الإثبات حتى وقعوا في التجسيم والتشبيه، والحق وسط بين الفريقين تنزيه بلا تعطيل، وإثبات بلا تجسيم ولا تمثيل. وعلى هذا النهج سارت طوائف المتكلمين، فطائفة تثبت شيئا وتغالي فيه وأخرى تثبت نقيضه وتغلو فيه.

ومن الغلو في الاعتقاد غلو النصارى في عيسى عليه السلام حتى أخرجوه من حيز البشرية إلى مرتبة الألوهية. - ومنه غلو الشيعة في علي رضي الله عنه، فطائفة ادعت أنه إله، وطوائف على أنه معصوم (¬1) . - ومنه غلو بعض المتصوفة في الرسول صلى الله عليه وسلم حيث ادعوا أنه مخلوق من نور وأن الكون خلق من نوره، وأنه يتصرف في الأكوان. إلى غير ذلك من العقائد الباطلة. ومنه الغلو في الصالحين ومشايخ الصوفية، بادعاء العصمة لهم، واتباعهم في كل ما يقولونه بلا دليل، والاستغاثة بهم وندائهم فيما لا يقدر عليه إلا الله، إلى غير ذلك من العقائد الشركية. (ب) الغلو في العمل: ويقصد به ما كان واقعا في دائرة الأحكام الشرعية الخمسة وهي الوجوب، والندب، والكراهة، والتحريم، والإباحة. فمن جعل المندوب بمنزلة الواجب، أو المكروه بمنزلة المحرم، أو جعل المباح مكروها أو محرما فقد غلا في الدين وجانب الصراط المستقيم، فمن أوجب على نفسه قيام الليل كله- مثلا- فقد غلا لأنه جعل المندوب بمنزلة الواجب، ولأنه جاوز حدود السنة في هذا الجانب. ومثل هذا من حرم ما أحل الله من النكاح وأكل الطيبات زهدا وتعبدا. ويدخل في هذا الباب كل من زاد على المشروع قدرا أو وصفا، وذلك كالزيادة على الثلاث في الوضوء مثلا. ¬

(¬1) انظر: اعتقادات فرق الشيعة في: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين لأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري. تحقيق. هلموت ريتر، ط 3، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص 5- 85. والفرق بين الفرق. عبد القاهر بن طاهر البغدادي. تحقيق. محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة دار التراث، القاهرة، ص 29- 72.

يقول ابن تيمية: (والتشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات، وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات) (¬1) وقال ابن القيم: (والغلو نوعان: - نوع يخرجه عن كونه مطيعا، كمن زاد في الصلاة ركعة، أو صام الدهر مع أيام النهي، أو رمى الجمرات بالصخرات الكبار التي يرمى بها في المنجنيق، أو سعى بين الصفا والمروة عشرا، أو نحو ذلك عمدا. - وغلو يخاف منه الانقطاع والاستحسار كقيام الليل كله وسرد الصيام الدهر أجمع بدون صوم أيام النهي، والجور على النفوس في العبادات والأوراد، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا ويسروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» (¬2) وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثا!) (¬3) وهم المتعمقون المتشددون) (¬4) ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم، 1 / 2831. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، 1 / 16. (¬3) صحيح مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، 4 / 2055. (¬4) مدارج السالكين، 2 / 496- 497.

أسباب الغلو

[أسباب الغلو] أسباب الغلو يمثل الغلو ظاهرة انحراف خطيرة في تاريخ الأديان السماوية، إذ يعد من أكبر أسباب الانحراف بالدين عن الصراط المستقيم. ويبدأ هذا الانحراف يسيرا ثم يتعاظم على مر الأيام حتى يصبح كأنه الأصل. وها هي النصرانية! كيف كانت على عهد المسيح عليه السلام عقيدة خالصة من شوائب الشرك ودينا قويما، ثم أصابها الغلو فانحرف بها عن التوحيد الخالص إلى الشرك المحض ومن دين سماوي إلى دين وضعي ممزوج بوثينات الهند وترهات اليونان وأباطيل اليهود. وهذا الغلو لا ينشأ فجأة من فراغ، ولكنه مرتبط بعدة عوامل وأسباب تؤدي إليه، وتظهره. وهذه الأسباب كثيرة ومتنوعة لكننا نريد أن نقف علي أهم الأسباب التي أدت إلى وجود الغلو لدى طوائف من المسلمين. وأول هذه الأسباب: 1 - الجهل بالدين ويتمثل هذا في جوانب متعددة منها: - القصور في فهم مقاصد الشريعة من التيسير ورفع الحرج عن المكلفين. ويتجلى هذا في صنيع المتشددين على أنفسهم في العبادات. - ومنها الجهل بحدود الشريعة التي يجب على المكلف أن يقف عندها ولا يتعداها ويتمثل هذا في كل أنواع الغلو المجاوزة لحدود الشريعة وذلك كتحريم المباح أو إيجاب ما ليس بواجب ويدخل فيه الخروج ببعض الأنبياء أو الصالحين عن حد البشرية بوصفهم بصفات الألوهية. - ومنها القصور في فهم نصوص الشريعة، ويتجلى هذا الأمر في النظرة الجزئية القاصرة لنصوص الشريعة.

فمثلا. وردت النصوص الشرعية في الوعد والوعيد. فنصوص الوعد تبعث في قلوب الخائفين والمذنبين الرجاء والأمل في التوبة والوعد بالمغفرة والرحمة لكل من أقبل على الله تائبا من ذنبه. وفي المقابل نرى نصوص الوعيد تتوعد الكفار والمشركين وأهل الكبائر المصرين على ذنوبهم بأليم العذاب وشديد العقاب إذا لم يتوبوا ويؤمنوا. فإن تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات تاب الله عليهم. فهذه هي النظرة المتكاملة في باب الوعد والوعيد ولكن قصور الفهم يأتي من النظرة الجزئية إلى أحد الجانبين وإهمال الجانب الآخر والإعراض عنه، ومحاولة التأويل المتعسف للنصوص الشرعية. كما وقع ذلك من الخوارج والمرجئة. فالخوارج غلبوا نصوص الوعيد وأهملوا نصوص الوعد، فحكموا بكفر مرتكب الكبيرة وتخليده في النار. وأما المرجئة فغلبوا نصوص الوعد وأهملوا نصوص الوعيد للعصاة فزعموا أنه لا تضر مع الإيمان معصية وعطلوا بذلك جزءا كبيرا من نصوص الشرع. ومثلهم غلاة المتصوفة في الرسول صلى الله عليه وسلم حين غلوا فيه حيث نظروا إلى جانب التعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم وأهملوا جانب التوحيد وسد الذريعة إلى الشرك، والسبب الذي أوقعهم في ذلك هو النظرة الجزئية القاصرة لنصوص الشرع، دون جمع النصوص بعضها إلى بعض حتى تكتمل النظرة ويصح الحكم عليها. لكن الجهل بمقاصد الشريعة مع غلبة الهوى وعدم البصيرة هو الذي أوقع المبتدعة فيما وقعوا فيه. يقول الشاطبي (¬1) . ¬

(¬1) هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي (. . . - 790 هـ) فقيه. أصولي. لغوي. مفسر. . من تصانيفه عنوان التعريف بأسرار التكليف، والموافقات في أصول الأحكام، وعنوان الاتفاق في علم الاشتقاق وغيرها. انظر: معجم المؤلفين، 1 / 118- 119، والأعلام، 1 / 75.

(ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد. وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض. فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المترتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر بينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها. . . . فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضا كأعضاء الإنسان. . وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما، أي دليل كان، عفوا وأخذا أوليا، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي. فكان العضو الواحد لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكما حقيقيا. فمتبعه متبع متشابه، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ كما شهد الله به {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122] (¬1)) (¬2) . ثانيا- اتباع الهوى: يطلق الهوى على ميل النفس وانحرافها نحو الشيء. وهو غالبا ما يطلق على الزيغ والضلال. واتباع الهوى هو الانحراف عن الحق إلى الباطل لزيغ في القلب وفساد في العقل. وهو طريق كل حائد عن الصراط المستقيم من الضالين، كما أن اتباع الحق والهدى سبيل المؤمنين. وقد ورد في القرآن ذم الهوى واتباعه والتحذير منه في آيات كثيرة منها: قوله تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم: 29] (¬3) وقوله تعالى: ¬

(¬1) سورة النساء، آية (122) . (¬2) الاعتصام. لأبي إسحاق إبراهيم بن مومى اللخمي الشاطبي، طبع دار الفكر بيروت، 1 / 244 - 245. (¬3) سورة الروم، آية (29) .

{وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام: 119] (¬1) وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] (¬2) واتباع الهوى من أكبر أسباب الغلو في الدين. ويتمثل هذا في تحسين الظن بالعقل وجعله حاكما على الشرع كما وقع هذا بين طوائف المتكلمين والصوفية، حيث ابتدعت كل طائفة أصولا وقواعد حكمت بها على النصوص، فما وافقهم قبلوه، وما خالفهم ردوه بنوع تأويل أو تحريف أو قدح في رواته أو نفيه إن كان خبر آحاد. إلى غير ذلك من الشبه الباطلة. فلما لم يضعوا الشرع في مكانه، وغلوا في تقديس عقولهم وقعوا في المهالك. ثالثا- الاعتماد على الأحاديث الواهية والموضوعة: إن حدوث الوضع في الحديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن شيئا عفويا بل كان تيارا منظما أحدثته الزنادقة كيدا للإسلام، وتنفيسا لكوامن حقدهم عليه. وتجلى ذلك في محاولة تشويه الإسلام بإدخال رواسب أفكارهم ومعتقداتهم التي عمها الإسلام، فأخرجوها في قالب الأحاديث حتى تروج على العامة. وتعتبر الشيعة أوضح مثال على ذلك، حيث وضعوا الأحاديث في فضائل علي ومناقب آل البيت، والإمامة وسائر عقائدهم، ففتحوا بذلك باب الغلو في الأشخاص في هذه الأمة. يقول ابن أبي الحديد الشيعي المعتزلي (¬3) . ¬

(¬1) سورة الأنعام، آية (119) . (¬2) سورة المائدة، آية (77) . (¬3) هو عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن الحسين أبو حامد بن أبي الحديد المدائني (586- 655هـ) كاتب، شاعر، أديب شيعي غال، ومن أعيان المعتزلة أيضا، نشأ بالمدائن ثم سار إلى بغداد فكان أحد الكتاب والشعراء بديوان الخليفة، وكانت له حظوة عند الوزير ابن العلقمي الرافضي لما بينهما من المناسبة والمشابهة في التشيع والأدب. انظر ترجمته في: البداية والنهاية، 13 / 199- 200، ووفيات الأعيان 2 / 158.

" واعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلقة في صاحبهم. حملهم على وضعها عداوة خصومهم (¬1) . ويهمنا في هذا النص اعتراف أحد كتابهم بذلك، وكما قيل: الاعتراف سيد الأدلة. كما قام بعض ضلال الفرق بوضع الحديث تأييدا لمذهبه وردا على خصومه. وقد كان للزنادقة خاصة في العصر العباسي الأول دور في وضع الحديث في كافة جوانب الدين وأهمها الاعتقاد. وكان قصدهم من وراء ذلك تشويه الإسلام، وتنفير الناس منه فكانت هذه الأحاديث رصيدا لمن أتى بعدهم من الغلاة يعتمد عليها ويستدل بها. وقل أن يوجد فكر منحرف أو عقيدة غالية إلا ووراءها أحاديث موضوعة وواهية. رابعا- رواسب الديانات القديمة: مع اتساع موجة المد الإسلامي بكثرة فتوح البلدان، دخل في الإسلام أجناس شتى طائعين ومكرهين. ولم يكن انتشار الإسلام بهذه السرعة يوافق رضا كثير من أعدائه بل كان شجى في حلوقهم وغيظا في قلوبهم وقذى في أعينهم لما رأوا أن الدولة للإسلام، وأن مقاومته وحربه بالسيف غير ممكنة ولا مجدية، دخلوا في الإسلام متظاهرين ليكيدوا له من الداخل، فراحوا يشوهون صورته ويمزقون وحدته، وراموا أحياء وثنياتهم من خلاله، وإفساد صفاء العقيدة الإسلامية. وساعدهم على ذلك الفتن التي حدثت بعد مقتل عثمان رضي الله عنه والتي كانت سببا في تفرق الأمة إلى شيع وأحزاب. ثم أعقب ذلك ظهور الفرق الكلامية بآرائها ومعتقداتها. والمتأمل في تاريخ الفرق الكلامية وآرائها المخالفة ¬

(¬1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع مطبعة عيسى الحلبي، مصر، 1381هـ 11 / 48 - 49.

لمعتقد أهل السنة والجماعة يرى تأثر الأفكار الدخيلة، من يهودية ونصرانية ومجوسية وفلسفات وثنية، يونانية وهندية ومصرية. وقد حاول أعداء الإسلام جهدهم والتوفيق بين هذه الأفكار وبين الإسلام وإلباسها ثوب الإسلام، فظهر ما يسمى بالفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، والتصوف الإسلامي، والفرق الإسلامية، على اختلاف آرائها ومقالاتها والتي بدا تأثير هذه الأفكار واضحا عليها. كما كان وراء نشأة كل فرقة أناس أسلموا ظاهرا مع كفرهم باطنا، كان هؤلاء رواد هذه الفرق ومؤسسيها. فمنهم عبد الله بن سبأ رأس الشيعة ومؤسسها والذي وضع لهم أساس العقائد الباطلة الموروثة إلى يومنا هذا، وذلك كالرجعة أي رجعة علي رضي الله عنه بعد موته إلى الدنيا قبل يوم القيامة وأنه سينزل إلى الأرض فيملؤها عدلا كما ملئت جورا. وكان يقول: " العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمدا يرجع وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] (¬1) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى فوضع لهم أساس رجعة الأئمة بذلك وهو الذي وضع لهم أساس الوصية. وأن عليا خاتم الأوصياء كما أن محمدا خاتم الأنبياء وكان يقول: " أنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي. وكان علي وصي محمد صلى الله عليه وسلم فمحمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء ". ثم قال بعد ذلك: " ومن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكان يقول وهو في يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى، مثلما قال في علي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أنه أول من أظهر الطعن في الصحابة والتبرؤ منهم إلى غير ذلك من السموم التي نفثها في الشيعة فاتخذوها عقائد يعتقدونها، ودينا يتعبدون به (¬2) وقد كانت الشيعة مرتعا خصبا لتقبل ¬

(¬1) سورة القصص، آية (85) . (¬2) انظر: تفصيل عقائد السبئية في: الملل والنحل. لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني. تحقيق. محمد سيد كيلاني دار الصرفة بيروت 1404 هـ، 17311 وما بعدها. وانظر عبد الله بن سبأ في أحداث الفتنة في صدر الإسلام. تأليف سليمان بن حمد العودة ط 1، دار طيبة. الرياض 1405 هـ، ص 199- 241.

هذه الأفكار وغيرها وذلك لقلة عقولهم وضعف تمييزهم. وهكذا كان وراء كل فرقة عناصر أجنبية أتت بأفكارها وعقائدها المأخوذة من الديانات القديمة. فقد كان وراء بدعة القدر رجل يقال له (سوسن) كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد بدعته في القدر (¬1) وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن أصل بدعة جهم بن صفوان في التعطل ونفي الصفات مأخوذ عن المشركين والصابئة من البراهمة والمتفلسفة ومبتدعة أهل الكتاب الذين يزعمون أن الرب ليس له صفة ثبوتية أصلا (¬2) وإذا كان هذا التأثير قد تم بواسطة أشخاص امتلأت قلوبهم حقدا على الإسلام فلا ينبغي أن نغفل الدور المنظم الذي قام به اليهود والنصارى والمجوس ومن مالأهم من الزنادقة الذي سعوا بكل جهدهم في محاولة تشويه الإسلام بإدخال العقائد الباطلة والأفكار الهدامة إلى ساحة الإسلام. ¬

(¬1) انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم هبة الله بن الحسن اللالكاني. تحقيق د. أحمد محمد حمدان. نشر دار طيبة. الرياض 4 / 749- 750. (¬2) انظر: مجموع الفتاوى، 1 / 660- 67.

المبحث الثاني الغلو في الرسل عند اليهود والنصارى

[المبحث الثاني الغلو في الرسل عند اليهود والنصارى] المبحث الثاني الغلو في الرسل عند اليهود والنصارى ينطلق الغلو في الأنبياء من رفعهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إياها ويحدث هذا الغلو حينما يوصف بعض الأنبياء بصفات الألوهية أو يوصف النبي بأنه ابن الله. ولقد حدث في تاريخ بني إسرائيل أن ادعى اليهود أن عزيرا ابن الله كما ادعت النصارى أن المسيح ابن الله. قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] (¬1) أما اليهود فقد كان سبب غلوهم في عزير هو ما وقع على يديه من معجزات مثل كتابة التوراة من حفظه بعد أن نسخها الله من صدور اليهود وما وقع له من إحيائه بعد موته مائة عام. فلما ضاقت عقولهم عن التمييز بين فعل الله وقدرته وبين قدرة البشر المحدودة نسبوا ذلك إلى عزير وقالوا عنه إنه ابن الله. قال ابن عباس رضي الله عنه معللا قول اليهود أن عزيرا ابن الله: " إنما قالوا ذلك لأنهم لما عملوا بغير الحق أنساهم الله التوراة ونسخها من صدورهم، فدعا عزير الله تعالى، فعاد إليه الذي نسخ من صدورهم ونزل نور من السماء فدخل جوفه، فأذن في قومه فقال: قد آتاني الله التوراة، فقالوا: ما أوتيها إلا لأنه ابن الله ". ¬

(¬1) سورة التوبة، آية (30) .

وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنه قال: " إن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل، وهدم بيت المقدس وقتل من قرأ التوراة كان عزير غلاما فتركه. فلما توفي عزير ببابل، ومكث مائة عام، ثم بعثه الله تعالى إلى بني إسرائيل، وقال أنا عزير فكذبوه وقالوا: قد حدثنا آباؤنا أن عزيرا مات ببابل، فإن كنت عزيرا فاملل علينا التوراة، فكتبها لهم، فقالوا هذا ابن الله " (¬1) . فهذه الرواية الثانية بينت أن عزيرا كان نبيا من أنبياء بني إسرائيل وأنه مات ثم بعثه الله بعد مائة عام. كما ذكر الله ذلك في سورة البقرة في قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] (¬2) فلما بعثه الله إلى بني إسرائيل كتب لهم التوراة من حفظه بعد أن مات الحفاظ في غزو بختنصر لبيت المقدس. فلما ضاقت عقول اليهود عن استيعاب هذه المعجزة والإيمان بالله الذي أجراها على يد عبده ونبيه عزير قالوا إنه ابن الله. وأما النصارى فقالوا عن المسيح عيسى ابن مريم أنه ابن الله إما لأنه ولد من غير أب أو لأنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله فلأجل هذا ادعوا أنه ابن الله. والقائل لهذا ليس هم أصحاب عيسى وإنما قال ذلك بولس ومن أغواهم من النصارى بعد موت عيسى بوقت طويل ولبس عليهم بهذه الشبه فآل أمر النصارى إلى أن أصبحوا مشركين بسبب قولهم إن عيسى هو الله أو ابن الله وقد رد الله عليهم في القرآن في أكثر من موضع وبين أن دعواهم مجرد ¬

(¬1) زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي، ط1، طبع المكتب الإسلامي، دمشق، بيروت، 3 / 423- 424. (¬2) سورة البقرة، آية (259) .

قول عار عن الدليل والبرهان، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ - لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ - قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 72 - 77] (¬1) وقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] (¬2) وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا - لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 171 - 172] (¬3) وعلى هذا فمبدأ الانحراف والغلو يكون في عدم التمييز بين قدرة الله العظيمة وقدرة العبد ولو كان نبيا، وبين المعجزة التي هي بقدرة الله وبين فعل النبي ثم يتطور الانحراف حتى يظن أن هذه الأفعال صادرة من النبي بقدرته إما لأنه إله أو لأنه ابن الله. ¬

(¬1) سورة المائدة، آيات (72-77) . (¬2) سورة آل عمران، آية (59) . (¬3) سورة النساء، آيات (171-172) .

وقد كان النصارى أكثر غلوا من اليهود، ذلك أن الذين قالوا أن عزيرا ابن الله هم قلة من اليهود على خلاف بين المفسرين في ذلك (¬1) . بينما كان غالبية النصارى يعتقدون أن المسيح ابن الله أو أنه الله على اختلاف مذاهبهم في هذا الاعتقاد وقد رد القرآن عليهم وفند شبههم ثم نهاهم عن الغلو في عيسى عليه السلام. وفي نهي الله في القرآن لأهل الكتاب عن الغلو تحذير لنا نحن المسلمين عن أن نسلك مسالكهم في الغلو في الأنبياء والصالحين فيصيبنا ما أصابهم وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم حين نهى أمته عن إطرائه والمبالغة في مدحه بأن هذا شبيه لفعل النصارى في غلوهم في عيسى عليه السلام. فقال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري بسنده عن عمر رضي الله عنه قال: «لا تطروني، كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله» (¬2) ومع وضوح هذا التحذير إلا أن طوائف من هذه الأمة وقعت في الإطراء والغلو الذي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه فصاروا بذلك مشابهين للنصارى ومتبعين سننهم. وهذا ما سيتضح لنا في المباحث القادمة. إن شاء الله. ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن جرير. تحقيق محمود محمد شاكر، 14 / 201- 202. (¬2) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: واذكر في الكتاب مريم 4 / 204.

المبحث الثالث الغلو في ذات الرسول صلى الله عليه وسلم عند الشيعة

[المبحث الثالث الغلو في ذات الرسول صلى الله عليه وسلم عند الشيعة] المبحث الثالث الغلو في ذات الرسول صلى الله عليه وسلم عند الشيعة إن من العقائد الثابتة التي أكدتها نصوص الشرع وأجمعت عليها الأمة أن رسل الله أجمعين بشر من جنس المرسل إليهم. كما جرت بذلك سنة الله في المرسلين. {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الأحزاب: 62] (¬1) وإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعا من الرسل بل كان بشرا مثلهم يوحى إليه. وبشرية الرسول صلى الله عليه وسلم أمر واضح لكل من قرأ القرآن أو تصفح السنة أو قلب نظره في سيرته وأحواله. ومع وضوح هذا الأمر لعامة المسلمين وخاصتهم إلا أننا نرى بعض الطوائف المنتسبة إلى الإسلام غلت في الرسول صلى الله عليه وسلم بما يخرجه عن حد البشرية، ولقد كان الشيعة أول من فتح باب الغلو في الأشخاص وذلك بغلوهم في علي رضي الله عنه وذريته حتى ذهبوا في ذلك مذاهب شتى فمنهم من ادعى أن عليا وذريته معصومون ومنهم من ادعى أن عليا كان نبيا، ومنهم من غلا فيه حتى ادعى أنه إله وأن روح الإله حلت فيه وفي الأئمة من ذريته (¬2) ولما كان علي رضي الله عنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته، ووصيه وخليفته من بعده- على مذهبهم- كان طبعيا أن يبتدأ غلوهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذ دور التسلسل إلى علي رضي الله عنه والأئمة من ذريته، لذلك نجد لدى غلاة الشيعة عقائد باطلة تدور حول أزلية وجود الرسول صلى الله عليه وسلم وأسبقيته على الكون وأنه ليس كسائر البشر، بل هو مخلوق من نور. ¬

(¬1) سورة الأحزاب، آية (62) . (¬2) انظر: عقائد الشيعة في مقالات الإسلاميين للأشعري، ص5 وما بعدها والفرق بين الفرق للبغدادي، ص 29 وما بعدها.

وقد روى الكليني (¬1) نصا منسوبا زورا وبهتانا إلى جعفر الصادق يدور حول أزلية وجود النبي صلى الله عليه وسلم أو ما يطلق عليه الصوفية الحقيقة المحمدية أو النور المحمدي. يقول النص على لسان جعفر الصادق: (كنا عند الله وليس عنده أحد سوانا لا ملك ولا غيره ثم بدا له فخلق السماوات والأرض فخلق ونحن معه. . . . . ونصب الخلق في صورة كالهباء قبل دخول الأرض ورفع السماء، وهو في انفراد ملكوته، وتوحيد جبروته، وأتاح نورا من نوره فلمع، ونزع قبسا من قبسه فسطع، ثم اجتمع النور في وسط تلك الصورة الخفية فوافق ذلك صورة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله عز من قائل أنت المختار والمنتخب وعندك مستودع نوري وكنوز هدايتي، من أجلك أسطح البطحاء، وأموج الماء، وأرفع السماء، وأجعل الثواب والعقاب والجنة والنار، وأنصب أهل بيتك للهداية، وأوتيهم من مكنون علمي ما لا يشكل به عليهم دقيق، ولا يغيب عنهم به خفي، وأجعلهم حجتي على بريتي والمنبهين على قدرتي ووحدانيتي. . . . . ولم يزل الله تعالى يخبئ النور تحت الزمان إلى أن وصل محمدا في ظاهر الفترات، فدعا الناس ظاهرا وباطنا. . . ثم انتقل النور إلى غرائزنا، ولمع في أئمتنا فنحن أنوار السماء وأنوار الأرض، فبنا النجاة، ومنا مكنون العلم، وإلينا مصير الأمور وبمهدينا تنقطع الحجج، خاتم الأئمة، منقذ الأمة، وغاية النور ومصدر الأمور) (¬2) . ¬

(¬1) هو أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني (. . . - 328 هـ) من كبار فقهاء الشيعة الإمامية وله كتاب الكافي جمع فيه أحاديث الشيعة وهو عندهم بمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة. وقد جمع فيه من الشناعات والطامات والافتراءات على أهل البيت ما لا يعلمه إلا الله. انظر: لسان الميزان لابن حجر، 5 / 433، والأعلام 7 / 145. (¬2) الفلسفة الصوفية في الإسلام. د. عبد القادر محمود، ط 1، دار الفكر العربي، مصر 1967م، ص 579- 580 نقلا عن الكافي، ص 276.

وقد ذكر الأشعري في مقالات الإسلاميين أن الصنف الخامس عشر من أصناف غلاة الشيعة، يزعمون أن الله عز وجل وكل الأمور وفوضها إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أقدره على خلق الدنيا فخلقها ودبرها وأن الله سبحانه لم يخلق من ذلك شيئا ويقول ذلك كثير منهم في علي (¬1) وجاء في المسائل المجموعة من الحقائق العالية والدقائق من كتب الإسماعيلية ما نصه: (ليس بين المبدع الأول ومبدعه تعالى شيء من نور ولا غيره، والذي سمعت من ذلك هو أن السابق لما سبق أبناء جنسه إلى توحيد مبدعه. طرقه من مبدعه مادة إلهية اطلع بها على علم ما كان وما يكون وأن تلك المادة شائعة في ذات المبدع الحاملة لها فلا فرق بينه وبينها بل هو هي وهي هو. كما أن العلم المتصل بكل متعلم إذا وصل النفس الحاملة له لم يبق فرق بين العلم والنفس الحاملة له وصارت تلك المادة إلهية سارية من المبدع الأول إلى من دونه من عقول عالم الإبداع وعقول عالم الطبيعة فهي عمود النور الساري فيما بين العقول وبين المبدع الأول) (¬2) . ونجد في هذا النص تشابها بين المبدع الأول الذي فاضت عليه مادة إلهية فصار ممدا لغيره بذلك الفيض الإلهي، وبين الحقيقة المحمدية أو الروح المحمدي الذي أمد جميع الأنبياء والأولياء بالوحي والعلم الباطني كما ذهب إلى ذلك ابن عربي ومن تابعه على ما سيأتي بيانه. ¬

(¬1) مقالات الإسلاميين، ص16. (¬2) المسائل المجموعة من الحقائق العالية والدقائق، ضمن مجموعة رسائل إسماعيلية، طبع مكتبة المثنى، بغداد، ص 59.

المبحث الرابع الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند الصوفية

[المبحث الرابع الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند الصوفية] المبحث الرابع الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند الصوفية إذا كان الشيعة أول من فتح باب الغلو في هذه الأمة بغلوهم في علي رضي الله عنه والأئمة من ذريته حسب زعمهم فإن الصوفية قد انتقلت إليها عدوى الغلو من الشيعة في المقام الأول. وهناك تشابه كبير في كثير من الجوانب بينهما. فإذا كان المذهب الشيعي قد دار فيه الغلو حول علي رضي الله عنه والأئمة من ذريته فإن الغلو عند الصوفية قد دار حول الرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء من بعده أو بالأصح حول الحقيقة المحمدية- حسب تعبيرهم والأولياء من بعد. وإذا وجد في غلاة الشيعة من قال إن روح الإله قد حلت في النبي صلى الله عليه وسلم ثم في علي رضي الله عنه وأولاده من بعده، فقد وجد في الصوفية من يقول بالحلول كالحلاج مثلا. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. فكانت الشيعة المتأثرة بالتراث المجوسي اليهودي لدى السبئية وفرق الغلاة ثم التراث الفلسفي اليوناني والمصري لدى الإسماعيلية القرامطة أصحاب رسائل إخوان الصفاء كان هؤلاء هم المعبر الرئيسي لانتقال العقائد الباطلة إلى الصوفية (¬1) . وقد أكد ابن خلدون هذه الصلة بين التصوف والتشيع في حديثه عن مذهب وحدة الوجود وتوابعه فقال: (وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين ¬

(¬1) انظر الفلسفة الصوفية في الإسلام ص 577 وما بعدها.

مذهب الآخر فاختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم، وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان. وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فصول التصوف منها فقال: جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد. وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي وإنما هو من أنواع الخطابة وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به. ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال (¬1) بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء (¬2) . حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم وتخليهم رفعوه إلى علي رضي الله عنه وهو من هذا المعنى أيضا وإلا فعلي رضي الله عنه، لم يختص من بين الصحابة بتخلية، ولا طريقة في لباس ولا حال، بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة) (¬3) . ¬

(¬1) الأبدال جمع بدل واختلف في عدتهم فقيل سبعة وقيل ثلاثون وقيل أربعون كلما مات منهم رجل أبدل الله مكانه رجلا. وقد ورد فيهم حديث ضعيف منقطع الإسناد عن علي رضي الله عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم " الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلا كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا يسقي بهم الغيث وينتصر بهم على الأعداء ويصرف بهم من أهل الشام العذاب " (المسند، 1 / 112) . وأخرج الإمام أحمد بسنده عن عبادة بن الصامت مرفوعا: " الأبدال في هذه الأمة ثلاثون مثل إبراهيم خليل الرحمن عز وجل كلما مات رجل أبدل الله تبارك وتعالى مكانه رجلا، قال الإمام أحمد عقبه: حديث منكر (المسند، 5 / 322) وأحاديث الأبدال كلها موضوعة أو واهية منكرة لا تثبت بمثلها حجة. انظر: السلسلة الضعيفة للألباني، 2 / 339- 341. وانظر لنقد فكرة الأبدال. مجموع فتاوى ابن تيمية، 11 / 433 وما بعدها. (¬2) النقباء جمع نقيب وهو السيد المطاع في قومه وقد كانوا في بني إسرائيل اثنا عشر نقيبا على عدد الأسباط، لقوله تعالى: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا المائدة، آية (12) وحينما بايع الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة جعل عليهم اثني عشر نقيبا يتولون أمر الدعوة بين أهليهم وعشيرتهم. والشيعة الإمامية الاثنا عشرية قالوا بإمامة اثني عشر من آل البيت عدتهم كعدة نقباء بني إسرائيل. فمن هنا شاع على الأئمة لفظ النقباء. (¬3) مقدمة ابن خلدون، طبع المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، ص 473.

ويؤكد المعاصرون من الشيعة والصوفية على حد سواء هذه الصلة بينهما. يقول سيد حسين نصر: ". . . . فقد كانت هناك بعض الصلات بين التصوف والتشيع - وعلى الأخص بطابعه الإسماعيلي - كما يبدو مما ذكره إخوان الصفا عن التصوف في سائلهم وهم إن لم يكونوا حتما من أصل إسماعيلي، فهم بلا ريب قد نشئوا في وسط شيعي، واقترن ذكرهم فيما بعد بالحركة الإسماعيلية (¬1) ولم تكن هذه الصلة بين التصوف والتشيع صلة عفوية من قبيل التأثير والتأثر المجرد بل كانت تيارا منظما هدفه تقويض دعائم الإسلام، تأثرا بالغوصية الفارسية، وتحويل الدين إلى خليط عجيب من الفلسفة والوثنية والدين وذلك تحقيقا لآمال الفرس وغيرهم من أصحاب المبادئ الشعوبية الناقمين من انتشار الإسلام ولعل في توافق الشيعة والصوفية في أكثر البلاد وإفساح كل واحدة المجال لصاحبتها قديما وحديثا ما يؤكد ذلك الهدف المشبوه. على أن التشيع لم يكن هو الرافد الوحيد الذي أمد الصوفية بهذه العقائد والأفكار فقد كانت هناك روافد أخرى متمثلة في التراث الهندي الذي اقتبس منه الصوفية كثيرا من نظرياتهم في المجاهدة والسلوك والزهد. كما أخذوا من النصارى الرهبنة والخلوات والخوانق التي تشبه الأديرة كما أخذوا عنهم مذهب الغنوصية (¬2) . وعن الفلسفة اليونانية والأفلاطونية الحديثة أخذوا فكرة العقول العشرة ووحدة الوجود (¬3) وقد استمد الصوفية عقائدهم وأفكارهم من كل مصدر وسعهم أن يستمدوا ¬

(¬1) الكشف عن حقيقة الصوفية: محمود عبد الرؤوف القاسم، ط 1، دار الصحابة بيروت 1408 هـ، ص 784، نقلا عن الصوفية بين الأمس اليوم، ص 134. (¬2) الغنوصية: كلمة يونانية معناها المعرفة ولكنها تطورت حتى صارت تعي التوصل بنوع من الكشف إلى المعارف العليا أو تذوق المعارف تذوقا مباشرا بطريقة الكشف وهذا هو معنى الذوق عند الصوفية. انظر: الفلسفة الصوفية في الإسلام، ص 4 وما بعدها. (¬3) انظر: تفصيل ذلك في الفلسفة الصوفية في الإسلام، ص3 وما بعدها والكشف عن حقيقة الصوفية، ص 747 وما بعدها.

منه وحاولوا أن يصوغوها في قالب إسلامي حتى يقبلها العامة. لكن الذي يهمنا في هذا المجال هو غلو الصوفية في الرسول صلى الله عليه وسلم وسآخذ مثالين من الصوفية: أولهما: الحلاج باعتباره أول صوفي ادعى الألوهية بحلول الله فيه كما أنه أول من غلا في الرسول صلى الله عليه وسلم بادعائه أن الله حل فيه وقوله بقدم النور المحمدي. ثانيهما: ابن عربي باعتباره صاحب مذهب وحدة الوجود في المحيط الصوفي ولأنه أشهر من قال بالحقيقة المحمدية التي هي أعظم مظهر تجلى فيه الحق بزعمه. كما كان لآراء ومعتقدات ابن عربي أكبر الأثر في انحراف أكثر الصوفية إلى مذهب وحدة الوجود. وسأتحدث في المطلبين القادمين عن الحلاج، ثم عن ابن عربي.

المطلب الأول الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم لدى الحلاج

[المطلب الأول الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم لدى الحلاج] المطلب الأول الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم لدى الحلاج يعتبر الحلاج (¬1) أول صوفي جاهر بعقيدة الحلول في أوساط الصوفية إذ كان يرى أن من هذب نفسه بالطاعة، وصبر على اللذات والشهوات ارتقى إلى ¬

(¬1) هو الحسين بن منصور، ويكنى أبا مغيث، كان جده مجوسيا اسمه محمي من أهل البيضاء بفارس، وفيها ولد الحلاج سنة 244هـ. وكانت نشأته بواسط وقيل بتستر وتتلمذ على سهل بن عبد الله التستري ثم قدم بغداد وخالط الصوفية، وتعرف على عمرو بن عثمان المكي. ولبس خرقة الصوفية على يديه، ثم ترك بغداد وتجول في البلاد فذهب إلى مكة مرارا وجاور فيها، وذهب إلى الصين وتركستان، ودخل الهند وتعلم فيها السحر، وقال أدعو به إلى الله!! وكان الحلاج متلونا في ملابسه وأحواله فتارة يلبس ملابس الصوفية، وتارة يتجرد في ملابس رزية، وتارة يلبس لبس الأجناد ويعاشر أبناء الأغنياء والملوك. وكان مع كل قوم على مذهبهم سواء أكانوا أهل سنة أم رافضة أم معتزلة أو صوفية أو فساقا. وكان دجالا ساحرا صاحب مخاريق وأحوال شيطانية. كما كان صاحب دعوة باطنية تستر بالزهد وتضمر الزندقة والإلحاد واتخذ دعاة له بثهم في البلدان يدعون الناس إلى الزندقة. ولأجل تلونه وتقلبه اختلف الناس في أمره، فقد حكي عن غير واحد من العلماء والأئمة إجماعهم على قتله وأنه قتل على كفره وزندقته وبهذا قال أكثر الصوفية في عصره، ومنهم طائفة غرهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه فأجملوا القول فيه وبعض هؤلاء كان متابعا له في الباطن غير أنه لم يجرؤ على المجاهرة بذلك. أما معظم الصوفية بعده إلى يومنا هذا فيعتقدون ولايته وأنه مات شهيدا!! وهذا من جهلهم بالشرع وقلة مبالاتهم بإجماع الفقهاء، وإلا فقد كان الحلاج زنديقا كافرا حلوليا يدعي الألوهية. وقد اتفق علماء بغداد على كفره وزندقته، وأجمعوا على قتله وصلبه، وكان علماء بغداد إذ ذاك هم الدنيا. ولما ورد الحلاج آخر مرة إلى بغداد جعل يدعو إلى مذهبه الفاسد ويظهر أشياء من المخاريق والحيل الشيطانية، واستغوى أناسا خدعهم حتى صاروا يتابعونه ويعتقدون ألوهيته وشاع خبره فأحضر وحضر معه جماعة من أصحابه وأقروا بأنه يدعى الألوهية وأنه يحيي الموتى. فأنكر ذلك منهم. وفي آخر مجلس من مجالس محاكمته جيء به وقد أحضر له كتاب من دور بعض أصحابه، وفيه يقول: " من أراد الحج ولم يتيسر له فليبن في داره بيتا لا يناله شيء من النجاسة ولا يمكن أحدا من دخوله، فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام وليطف به كما يطاف بالكعبة ثم يفعل في داره ما يفعله الحجيج بمكة ثم يستدعي ثلاثين يتيما فيطعمهم من طعامه، ويتولى خدمتهم بنفسه، ثم يكسوهم قميصا قميصا، ويعطي كل واحد منهم سبعة أو ثلاثة دراهم، فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج. وأن من صام ثلاثة أيام لا يفطر إلا في اليوم الرابع على ورقات هندباء أجزأه ذلك عن صيام رمضان، ومن صلى في ليلة ركعتين عن الصلاة بعد ذلك. وأن من جاور الشعير والملح الجريش أغناه ذلك عن العبادة في بقية عمره ". فقال له القاضي من أين لك هذا؟ فقال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري. فقال كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن بمكة ليس فيه شيء من هذا. فكتب القاضي بإهدار دمه وقتله وتبعه الفقهاء على ذلك فأخذ وضرب ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه وحز رأسه وأحرقت جثته وألقي رماده في نهر دجلة سنة 309هـ. انظر ترجمته في: - تاريخ الأمم والملوك للطبري، 11 / 79 وما بعدها. - تاريخ بغداد، 8 / 112 وما بعدها. - المنتظم لابن الجوزي، 6 / 160 وما بعدها. - البداية والنهاية، 11 / 132 وما بعدها. - سير أعلام النبلاء، 14 / 313 وما بعدها.

مقام المقربين، ثم لا يزال يصفو ويرتقي في درجات المصافاة حتى يصفو عن البشرية، فإذا لم يبق فيه حظ من البشرية حل فيه الإله الذي حل في عيسى ابن مريم، ولم يرد حينئذ شيئا إلا كانا كما أراد، وكان جميع فعله فعل الله (¬1) وقد ادعى الحلاج أن روح الله حلت فيه كما حلت في الأنبياء من قبل- حسب زعمه - وكلامه في ذلك واضح في أشعاره، وكتبه التي خلفها. وفي ذلك يقول: أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا ويقول: مزجت روحك في روحي كما ... تمزج الخمرة في الماء الزلال فإذا مسك شيء مسني ... فإذا أنت أنا في كل حال ¬

(¬1) الفرق بين الفرق، ص263.

وهو القائل: سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لاهوته الثاقب ثم بدا في خلقه ظاهرا ... في صورة الآكل والشارب حتى لقد عاينه خلقه ... كلمحة الحاجب بالحاجب ويقول: أنا أنت بلا شك ... فسبحانك سبحاني فتوحيدك توحيدي ... وعصيانك عصياني ويتمادى الحلاج في كفره حين يقول: كفرت بدين الله والكفر واجب ... لدي وعند المسلمين قبيح ويقول: إذا بلغ الصب الكمال من الهوى ... وغاب عن المذكور في سطوة الذكر فيشهد صدقا حيث أشهده الهوى ... بأن صلاة العاشقين من الكفر ويقول: ألا أبلغ أحبائي بأني ... ركبت البحر وانكسر السفينة على دين الصليب يكون موتي ... فلا البطحا أريد ولا المدينة هذه نبذ من شعره توضح اعتقاده بالحلول وتصرح بكفره الذي أقر به على نفسه، بل اعتقد أن الكفر بدين الإسلام واجب عليه. فلا عجب بعد ذلك إذا ادعى الألوهية قائلا: أنا الحق والحق للحق ... لابس ذاته فما ثم فرق (¬1) وكان يكتب إلى أتباعه واصفا نفسه بالألوهية، ويستتر بين العامة بالتصوف. ومع ادعائه للألوهية كان يتكلم على طريقة فلاسفة الصوفية عن بدء العالم وكيف خلقه الله فيقول: ¬

(¬1) هذه النصوص نقلتها من كتاب الصوفية في الإسلام، ص362 وما بعدها.

(تجلى الحق لنفسه في الأزل قبل أن يخلق الخلق، وقبل أن يعلم الخلق وجرى له في حضرة أحديته مع نفسه حديث لا كلام فيه ولا حروف، وشاهد سبحات ذاته في ذاته، في الأزل حيث كان الحق ولا شيء معه، نظر إلى ذاته فأحبها، وأثنى على نفسه فكان هذا تجليا لذاته في ذاته في صورة المحبة المنزهة عن كل وصف وكل حد، وكانت هذه المحبة علة الوجود والسبب في الكثرة الوجودية ثم شاء الحق سبحانه أن يرى ذلك الحب الذاتي ماثلا في صورة خارجية يشاهدها ويخاطبها فنظر في الأزل، وأخرج من العدم صورة من نفسه لها كل صفاته وأسمائه وهي آدم الذي جعله الله صورته أبد الدهر، ولما خلق آدم على هذا النحو عظمه ومجده فاختاره لنفسه، وكان من حيث ظهور الحق بصورته فيه وبه، هو هو) (¬1) فالحلاج في هذا النص يؤكد على مذهبه في الحلول، وأن الإله قد حل في آدم، فصار بذلك الإنسان الإلهي، أي الذي حلت روح الإله فيه. والمقصود بآدم عند الحلاج ومن- سلك مسلكه من فلاسفة الصوفية- هو النوع الإنساني ابتداء بآدم واستمرارا في الأنبياء حتى محمد صلى الله عليه وسلم والأولياء من بعده. وكلام الحلاج في هذا النص كله من قبيل التصوف الفلسفي الوثني عن بداية الخلق متأثرا في ذلك بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة وقد كذبهم الله تعالى بقوله {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51] (¬2) لكن يهمنا في هذا المجال موقف الحلاج من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يدور حول النور المحمدي! . إذ يرى الحلاج أن للنبي صلى الله عليه وسلم صورتين مختلفتين: (أ) صورته نورا أزليا قديما كان قبل أن يوجد العالم ومنه استمد كل علم وعرفان حيث أمد الأنبياء السابقين عليه والأولياء اللاحقين به. ¬

(¬1) المصدر نفسه، ص 361، نقلا عن الطواسين للحلاج، ص 129- 130. (¬2) سورة الكهف، آية (51) .

(ب) ثم صورته نبيا مرسلا وكائنا محدثا تعين وجوده في مكان وزمان محدودين والنبي المرسل صلى الله عليه وسلم إنما صدر في رسالته عن ذاك النور الأزلي القديم (¬1) يقول الحلاج: (" طس " سراج من نور الغيب بدأ وعاد، وجاوز السراج وساد. قمر تجلى بين الأقمار. برجه في فلك الأسرار. . . ما أخبر إلا عن بصيرته، ولا أمر بسنته إلا عن حق سيرته، حضر فأحضر، وأبصر فخبر. . . أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر وأقدم سوى نور صاحب الكرم. . . همته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم لأنه كان قبل الأمم، ما كان في الآفاق وراء الآفاق ودون الآفاق. أظرف وأشرف وأعرف وأنصف وأرأف وأخوف وأعطف من صاحب هذه القضية وهو سيد البرية، الذي اسمه أحمد، ونعته أوحد، وأمره أوكد، وذاته أوجد، وصفته أمجد، وهمته أفرد، يا عجبا ما أظهره وأنظره وأكبره وأشهره وأقدره وأبصره، لم يزل، كان مشهورا قبل الحوادث والكوائن والأكوان، ولم يزل، كان مذكورا قبل القبل وبعد البعد. . هو الدليل وهو المدلول. . . بالحق موصول غير مفصول، ولا خارج عن المعقول. . . العلوم كلها قطرة من بحره. . . والأزمان كلها ساعة من دهره، الحق وبه الحقيقة، هو الأول في الوصلة، وهو الآخر في النبوة، والباطن بالحقيقة، والظاهر بالمعرفة. . . الحق ما أسلمه إلى خلقه، لأنه هو وإني هو، وهو هو) (¬2) فهذا النص يدور حول النور المحمدي وأنه هو المصدر الذي استمد منه الأنبياء والرسل قبله، والأولياء من بعده هذا النور. ويؤكد الحلاج في هذا النص على قدم وجود النبي صلى الله عليه وسلم وأسبقيته على وجود الكون. فيقول: " همته سبقت ¬

(¬1) انظر: الفلسفة الصوفية، ص 379- 0 38. (¬2) الكشف عن حقيقة الصوفية، ص 263- 264، نقلا عن أخبار الحلاج ص 82 وما بعدها.

الهمم ووجوده سبق العدم واسمه سبق القلم لأنه كان قبل الأمم ". وبناء على ذلك نراه ينكر الوحي ويزعم أن الرسول جاء بالرسالة من ذاته وأخبر بها عن بصيرته. ويتمشى هذا منطقيا مع قوله بقدم النور المحمدي وأنه هو مصدر الوحي والإله أم لجميع الأنبياء والأولياء، ثم مع مذهبه في الحلول الذي يرى بأن الإله حل في آدم ثم الأنبياء من بعده. فلا حاجة مع ذلك إلى الوحي. وبذلك يكون الحلاج بمذهبه هذا قد حاول أن يصل بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق الغلو إلى ما وصلت إليه النصرانية بالغلو في عيسى إذ جعلوه الكلمة الإلهية الأزلية الحالة في الناسوت فقالوا عنه إنه ابن الله. أما الحلاج ومن تابعه من الحلوليين فيرون أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو المظهر الذي حل فيه الإله أو الناسوت الذي حل فيه اللاهوت. ولم يكن هذا الحلول خاصا بالرسول بل تعدى إلى الأولياء من بعده، وهذا كفر أشنع من كفر النصارى لأن النصارى خصوا الحلول بعيسى، أما الحلاج فقد عممه في الأنبياء والأولياء على السواء. على أنه ينبغي أن نلاحظ أن غلو الحلاج في الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن نابعا من حبه له. وإنما كان هدفه من وراء ذلك الغلو هو ادعاؤه للألوهية وتصريحه بحلول الله فيه، ودعوة أتباعه إلى عبادته، طالما أن حلول الإله مستمر في الأولياء بعد الأنبياء بزعمه. ولذلك حكم عليه فقهاء عصره بردته وإهدار دمه وقتله جزاء وفاقا لكفره وزندقته. وقد كان مقتل الحلاج بسيف الشرع سببا مهما في استتار ملاحدة الصوفية بدعوتهم الباطنية الرامية إلى إخراج المسلمين من دينهم إلى الزندقة والكفر حتى لا يحصل لهم ما حصل للحلاج. فكانوا على حذر تام من الوقوع تحت سيف الشرع، فإذا وجدوا فرصة ضعف في المسلمين جاهروا بآرائهم، كما كان مقتل الحلاج سببا لإظهار عداوة ملاحدة الصوفية للفقهاء وتنفير أتباعهم منهم.

ولم تمت أفكار الحلاج بموته، بل امتد أثرها فيمن أتى بعده من الصوفية ويدل على ذلك ثناؤهم عليه وتصويبهم لمسلكه، وتأويلهم لعباراته وكفرياته وأنه مات شهيدا إلى غير ذلك من وجوه الدفاع الصادرة إما عن جاهل بحقيقة مذهب الحلاج، أو معتقد لمذهبه مدافع عنه. قال الذهبي في معرض ترجمته للحلاج: (فتدبر- يا عبد الله- نحلة الحلاج، الذي هو من رؤوس القرامطة، ودعاة الزندقة، وأنصف وتورع واتق الله في ذلك، وحاسب نفسك فإن تبرهن لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدو للإسلام، محب للرئاسة، حريص على الظهور بباطل وبحق، فتبرأ من نحلته، وأن تبرهن لك والعياذ بالله، أنه كان- والحالة هذه- محقا هاديا مهديا، فجدد إسلامك واستغث بربك أن يوفقك للحق وأن يثبت قلبك على دينه، فإنما الهدى نور يقذفه الله في قلب عبده المسلم، ولا قوة إلا بالله، وإن شككت ولم تعرف حقيقته، وتبرأت مما رمي به، أرحت نفسك، ولم يسألك الله عنه أصلا) (¬1) ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء، 14 / 354.

المطلب الثاني الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند ابن عربي

[المطلب الثاني الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند ابن عربي] المطلب الثاني الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند ابن عربي انتهينا فيما سبق إلى أن الحلاج كان أول صوفي غلا في الرسول صلى الله عليه وسلم بما يخرجه عن حد البشرية منطلقا من مذهبه في الحلول. وجاء ابن عربي (¬1) . الذي بدأ من حيث انتهى الحلاج ليقيم مذهبا فلسفيا صوفيا مبنيا على وحدة الوجود، وتفرع عن مذهبه في الوجود مذهبه في الحقيقة ¬

(¬1) هو محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي الطائي الأندلسي ثم الدمشقي، المعروف بابن عربي بالتنكير تمييزا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي، وينتهي نسب ابن عربي إلى عبد الله بن حاتم أخي عدي بن حاتم الطائي. ولد ابن عربي في رمضان سنة 560 هـ بمرسية في بلاد الأندلس ثم ارتحل إلى أشبيلية بعد بلوغه ثماني سنوات وفيها حفظ القرآن وتعلم القراءات واشتغل بتحصيل الحديث وسماعه من أهل الحديث في بلاده ثم مال بعد ذلك إلى الأدب ونظم الشعر فحصل له توسع فيه وكتب الإنشاء لبعض الأمراء بالمغرب ثم بعد ذلك كله سلك طريق التصوف فتزهد وتعبد وأقبل على الخلوات وانقطع للتنسك إلى أن أصبح رأسا في التصوف الفلسفي. وكان ابن عربي بحكم نشأته في الأندلس التي كانت بمنزلة الباب العربي للمسلمين على أوربا قد اطلع على ثقافات عصره والفلسفات السائدة في ذلك الوقت. ثم خرج ابن عربي بعد ذلك من الأندلس لطلب العلم ولقاء الصوفية في البلدان والاجتماع بهم فزار معظم مدن المغرب مثل سبته وفاس وتونس وتلمسان وغيرها، ثم اتجه في رحلاته إلى المشرق راغبا في الحج، وبعد الحج اتجه صوب العراق فدخل بغداد والموصل ثم رحل إلى مصر سنة 603 هـ. واتصل ببعض أشباهه من الصوفية وأخذ بتأليف الرسائل والكتب وهناك ظهر منه ما يستوجب النقد والإنكار، فأنكر عليه علماء مصر ما صدر منه وحكموا بكفره وإراقة دمه كما حكم على الحلاج وأمثاله، وكاد أن يقتل لولا أن خلصه وشفع له الشيخ أبو الحسن علي بن فتح بن عبد الله البجائي الذي سعى في أمره وأظهر وجوه تأويل كلامه إلى أن عفي عنه. ثم رحل إلى مكة فجاور بها إلى سنة 607 هـ وفيها ابتدأ تأليف كتابه الفتوحات المكية الذي يعتبر أكبر موسوعة صوفية شملت كثيرا من علوم الصوفية وأحوالهم غير أنه مزجه بمذهب وحدة الوجود. ثم توجه ابن عربي بعد ذلك إلى بلاد الأناضول فوصل إلى (قونيه) وكانت آنذاك عاصمة القسم الإسلامي من بلاد الروم، وفيها صنف بعض كتبه كما تزوج فيها بأم صدر الدين القونوي فأصبح القونوي ربيبه ومن أخص تلامذته فيما بعد، ثم رحل ابن عربي بعد ذلك إلى بغداد حيث التقى بشهاب الدين السهروردي صاحب كتاب عوارف المعارف، ومن بغداد توجه إلى مكة ومنها إلى قونيه مرة أخرى، ثم رجع إلى الشام ليتنقل بين قرى الشام ومدنه واستقر به الأمر آخرا في دمشق حيث أتم كتاب الفتوحات المكية وصنف فصوص الحكم، والتفصيل في معاني التنزيل، وغيرها من الكتب، كما أخذ ينشر علومه ومعارفه وظل في دمشق إلى أن توفي فيها سنة 638 هـ. ويعتبر ابن عربي من أكثر الصوفية تصنيفا إذ جاوزت تصانيفه ما يربو على المائتين، ومن أشهر تصانيفه الفتوحات المكية، وفصوص الحكم، وعنقاء مغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب، وإنشاء الدوائر، والفناء في المشاهدة، وكتاب الإسراء إلى مقام الإسرى، ومحاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار وغيرها. ويعد ابن عربي رأسا في تصوف أهل وحدة الوجود كما كان أهل الصوفية ضلالا وزيغا ومروقا من الدين. ولكنه لم يجاهر بآرائه وزنقدته وكفره إلا لخواص أصحابه وتلامذته خوفا من الوقوع تحت سيف الشرع متظاهرا بين عامة أهل العلم بالتنسك والعبادة والزهد. فلما مات وانتشرت كتبه عرف الناس حقيقة أمره وحقيقة مذهبه فحكم أكثر العلماء بكفره وزندقته وكذبه على الله ورسوله وانتصب كثير منهم للرد عليه وبيان كفره وتحذير الناس منه. وقد جمع تقي الدين الفاسي في العقد الثمين جملة من ردود العلماء وفتواهم بكفره وزندقته، كذلك فعل برهان الدين البقاعي في تنبيه الغبي إلى تكفر ابن عربي، ومثل ذلك فعل السخاوي في القول المبني في ترجمة ابن عربي. وبعض العلماء أثنى على ابن عربي لما رأوا من زهده وإيثاره واجتهاده في العبادة فأثنوا عليه بهذا الاعتبار ولم يعرفوا ما في كلامه من الكفر، وبعض من أثنى عليه يعرفون ما في كلامه من الباطل ولكنهم يزعمون أن له تأويلا، وحملهم على ذلك متابعتهم له في معتقده، فثناؤهم عليه مردود لتزكيتهم معتقدهم. وأما الصوفية فأكثرهم - إلا من رحم الله - يعدون ابن عربي الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر وكثير منهم اليوم على مذهبهم بفهم لحقيقته وبغير فهم. انظر: - سير أعلام النبلاء للذهبي، 23 / 48 وما بعدها. - البداية والنهاية لابن كثير، 13 / 156. - لسان الميزان لابن حجر، 5 / 311 وما بعدها. - العقد الثمين لتقي الدين الفاسي، 2 / 160 وما بعدها. - شذرات الذهب لابن العماد، 5 / 190 وما بعدها. - نفح الطيب للمقري 2 / 161، وما بعدها.

المحمدية التي دان بها أكثر الصوفية وآمنوا بها إيمانا عميقا. ويتمثل غلو ابن عربي في الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله بالحقيقة المحمدية، ولكي نفهم مقصوده بالحقيقة المحمدية لا بد أن نعرف بإيجاز مذهبه في وحدة الوجود. مذهب ابن عربي في وحدة الوجود: إن القول بوحدة الوجود كمذهب فلسفي يحاول تفسير الوجود ومدى

علاقته بخالقه سبحانه وتعالى قول قديم جدا عرفه الفكر الفلسفي الوثني، وعن طريقه انتقل إلى أهل الأديان من يهود ونصارى، ثم انتقل إلى المتصوفة عن طريق ابن عربي الذي حاول جهده أن يصبغه بصبغة إسلامية (¬1) . ولم يكن هذا المذهب قد أخذ صورته الكاملة في المحيط الصوفي قبل ابن عربي الذي قرر مذهب وحدة الوجود في صورته النهائية ووضع له مصطلحا صوفيا كاملا استمده من كل مصدر وسعه أن يستمد منه، كعلم الكلام والفلسفة اليونانية والأفلاطونية الحديثة والغنوصية المسيحية وغيرها من الفلسفات، كما أنه استفاد من تراث متصوفة الإسلام المتقدمين عليه سواء منهم من كان في الأندلس أو في المشرق، كما اعتمد على الأحاديث الموضوعة وتأويلات الشيعة الباطنية للشريعة ونصوصها. ولكنه صبغ هذه المصطلحات والفلسفات بصبغته الخاصة وأعطى لكل منها معنى جديدا يتفق مع روح مذهبه العام في وحدة الوجود (¬2) . ويقوم مذهب ابن عربي في وحدة الوجود على أساس أن الوجود كله- بما فيه ومن فيه- واحد هو الله، وأن ما يوجد في الكون من مخلوقات فوجودها خيال أو وهم أو ظل بالنسبة لوجود الله (¬3) . فالوجود عند ابن عربي كله واحد هو الله، والكثرة التي تشهدها الحواس إنما هي مجرد صور ومظاهر ومجال تتجلى فيها الصفات الإلهية. وليس هناك فرق حقيقي بين الوحدة والكثرة، أو بين الحق والخلق إلا من حيث الاعتبار والجهة أو النسب والإضافات أو الأسماء والصفات. فالحقيقة الوجودية واحدة في ذاتها متكثرة بصفاتها وأسمائها، فالله حق في ذاته، خلق من حيث صفاته، وصفاته عين ذات، فالخلق عين الحق، والحق هو الخلق (¬4) . فالله- تعالى وتقدس- عند ¬

(¬1) انظر: الفلسفة الصوفية في الإسلام، ص497 وما بعدها. (¬2) انظر: مقدمة فصوص الحكم لابن عربي. تقديم وتعليق أبو العلا عفيفي نشر دار الكتاب العربي بيروت، ص7. (¬3) انظر: فصوص الحكم، ص 101 وما بعدها. (¬4) انظر: مقدمة النصوص، ص 29.

ابن عربي هو الواحد والكثرة، وهو القديم والحديث: وهو الباطن والظاهر، وهو العبد وهو الرب. يقول ابن عربي عن آله وحدة الوجود: (فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن) (¬1) . فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من يبطن عنه، فهر ظاهر لنفسه، باطن عنه، وهو المسمى أبا سعيد الخراز، وغير ذلك من أسماء المحدثات. فيقول الباطن: لا إذا قال الظاهر أنا، ويقول الظاهر: لا إذا قال الباطن أنا، وهذا في كل ضد، والمتكلم واحد وهو عين السامع) (¬2) . ويقول: يا خالق الأشياء في نفسه ... أنت لما تخلقه جامع تخلق ما لا ينتهي كونه في ... ك فأنت الضيق الواسع (¬3) ويقول: فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا ... وليس خلقا بذاك الوجه فادكروا من يدر ما قلت لم تخذل بصيرته ... وليس يدريه إلا من له بصر جمع وفرق فإن العين واحدة ... وهي الكثيرة لا تبقي ولا تذر (¬4) . وحتى لا يظن ظان أن ابن عربي يفرق بين ذات الله وبين الخلق يقول: (. . . . وبالإخبار الصحيح أنه عين الأشياء، والأشياء محدودة، وإن اختلفت حدودها، فهو محدود بحد كل محدود فما يحد شيء إلا وهو حد الحق، ¬

(¬1) لا يريد ابن عربي بالأول والآخر والظاهر والباطن المعنى الإسلامي الصحيح الذي يليق بأسماء الله وصفاته. وإنما يريد معنى إلحاديا ينبني على أن الله هو الكون والكون هو الله. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. (¬2) الفصوص، ص 77. (¬3) المصدر نفسه ص88. (¬4) المصدر نفسه ص79.

فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات، ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود، فهو عين الوجود، (فهو على كل شيء حفيظ " بذاته " ولا يؤوده " حفظ شيء فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشيء غير صورته. ولا يصح إلا هذا فهو الشاهد من الشاهد، والمشهود من المشهود، فالعالم صورته وهو روح العالم المدبر له فهو الإنسان الكبير. فهو الكون كله ... وهو الواحد الذي قام كوني بكونه ... ولذا قلت يغتذي فوجودي غذؤه ... وبه نحن نحتذي فبه منه أن نظرت ... بوجه تعوذي (¬1) . وعلى ذلك فلا فرق بين الله والعالم عند ابن عربي، فالعالم بما فيه من مخلوقات هو الله، وليس ثم شيء آخر وراء هذا العالم عنده. وبهذا يكون ابن عربي بمذهبه في وحدة الوجود قد وصل إلى نهاية الكفر التي ليس وراءها شيء. وبناء على ذلك فهذا المذهب لا يؤمن بالخلق والإيجاد من العدم، وإنما الخلق عند ابن عربي هو عبارة عن التجلي الإلهي الدائم الذي لم يزل ولا يزال بظهور الحق في كل آن فيما لا يحصى عدده من صور الموجودات. فأصل كل وجود وسبب كل موجود عنده هو الفيض الإلهي المتصل الدائم (¬2) . يقول ابن عربي: (لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها، وإن شئت قلت أن يرى عينه، في كون جامع يحصر الأمر كله، لكونه متصفا بالوجود، ويجهر به سره إليه، فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته بنفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل ولا تجليه ¬

(¬1) المصدر نفسه، ص11. (¬2) انظر: الفلسفة الصوفية في الإسلام ص 507 وما بعدها.

له. وقد كان الحق سبحانه أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه فكان كمرآة غير مجلوة. ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا ويقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه، وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول فيض التجلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال وما بقي إلا قابل، والقابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس. فالأمر كله منه، ابتداؤه وانتهاؤه {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] (¬1) كما ابتدأ منه. فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة، وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم ((بالإنسان الكبير)) (¬2) . هذا هو مذهب ابن عربي في وحدة الوجود ولسنا بصدد مناقشته وبيان مخالفته للإسلام (¬3) . لكن يهمنا هنا موقفه من الحقيقة المحمدية، وما هي علاقتها بمذهبه في وحدة الوجود؟ الحقيقة المحمدية عند ابن عربي: لما كان الله تنزه وتقدس- عند ابن عربي - يتجلى في صور المخلوقات باعتباره روح هذا العالم وكان الإنسان أعظم هذه المخلوقات، كان تجلي الحق فيه أعظم وأكمل. فالإنسان - في نظر ابن عربي - أكمل مجالي الحق باعتباره أرقى الموجودات. حيث جمع الصفات الحقيقة والخلقية، فصار صورة للعالم الأكبر، ولذلك يسميه ابن عربي بالمختصر الشريف، والكون الجامع لجميع حقائق الوجود ¬

(¬1) سورة هود، آية (123) . (¬2) الفصوص، ص 48- 49. (¬3) انظر: في الرد على مذهب وحدة الوجود. - رسالة حقيقية مذهب الاتحاديين ووحدة الوجود لابن تيمية. مجموع الفتاوي 2 / 134- 285. - وتنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي، وتحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد. برهان الذين البقاعي. تحقيق عبد الرحمن الوكيل. - والعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، تقي الدين القاصى المكي 20 / 160- 199. وقد ترجم فيه التقى القاضي لابن عربي وذكر طائفة من ردود العلماء عليه وتكفيرهم له.

ومراتبه، فهو العالم الأصغر الذي انعكست في مرآة وجوده كل كمالات العالم الأكبر (الله) . أو كمالات الحضرة الإلهية الأسمائية والصفاتية. فأكمل الموجودات على الإطلاق هو الحق، وأكمل مظهر للحق هو الإنسان الكامل (¬1) . والإنسان الكامل عند ابن عربي هو الإنسان الذي تجلى فيه الحق، أكمل تجل وأعظمه، ولا يصدق هذا إلا على الأنبياء والأولياء. وأكمل هؤلاء جميعا هو محمد صلى الله عليه وسلم. ولا يقصد ابن عربي بذلك شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بل يقصد به الحقيقة المحمدية الأزلية القديمة التي تعتبر. الروح التي ظهرت في الأنبياء والأولياء، أو التي كان الأنبياء والأولياء صورا لها ولذلك يسميها بالروح المحمدي أو روح الخاتم (خاتم الرسل) (¬2) . فالحقيقة المحمدية- في نظر ابن عربي - هي أكمل مجلى خلقي ظهر فيه الحق، بل يعتبرها الإنسان الكامل والخليفة الكامل بأخص معانيه. وكمال الشيء عنده متوقف على عدد الأسماء والصفات الإلهية المتجلية فيه، فإذا كان كل واحد من الموجودات يعتبر مجلى خاصا لبعض الأسماء الإلهية التي هي أرباب له، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم - عند ابن عربي - قد انفرد بأنه مجلى للاسم الأعظم الجامع لجميع تلك الأسماء، وهو الله. ولهذا كانت له مرتبة الجمعية المطلقة (جمع كمالات الأسماء والصفات) ومرتبة التعين (التجلي) الأول الذي تعينت به الذات الأحدية. ومعنى ذلك أن الحقيقة المحمدية هي أول شيء تجلى فيه الحق وظهر، وإن شئت قلت إنها هي الحق ذاته ظاهرا لنفسه في أول تعين من تعيناته في صورة العقل الحاوي لكل شيء، المتجلي في كل كائن عاقل (¬3) . ولذلك يعرف غلاة الصوفية الحقيقة المحمدية بأنها (هي الذات مع التعين الأول، وهو الاسم الأعظم) (¬4) . ¬

(¬1) انظر: الفصوص، ص 54- 55. (¬2) انظر: نظريات الإسلاميين في الكلمة. لأبي العلاء عفيفي، مقال بمجلة كلية الآداب. جامعة الملك فؤاد (القاهرة) سنة 1934م، ج1، المجلد الثاني، ص33 - 75. (¬3) انظر: التعليقات على فصوص الحكم لأبي العلاء عفيفي، 2 / 320- 1 32. (¬4) انظر: التعريفات للشريف الجرجاني، ص90، ط دار الكتب العلمية، بيروت.

هذا هو مقصود ابن عربي ومن أتى بعده بالحقيقة المحمدية أو الروح المحمدي وهي شيء مختلف عندهم تماما عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم بل ليس بينهما من الصلة على كما بين الحقيقة المحمدية وأي نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل أو ولي من الأولياء (¬1) . يقول ابن عربي في إحدى صلواته: (اللهم أفض صلة صلواتك وسلامة تسليماتك على أول التعينات المفاضة من العماء الرباني وآخر التنزلات المضافة إلى النوع الإنساني، المهاجر من مكة " كان الله ولم يكن مع شيء ثان " إلى مدينة " وهو الآن على ما عليه كان " محصي عوالم الحضرات الإلهية الخمس في وجوده، {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] (¬2) نقطة البسملة الجامعة لما يكون ولما كان، ونقطة الأمر الجوالة بدوائر الأكوان، سر الهوية التي في كل شيء سارية، وعن كل شيء مجردة وعارية. . كلمة الاسم الأعظم، وفاتحة الكنز المطلسم، المظهر الاسم الجامع بين العبودية والربوبية. . . والنفس الرحماني الساري بمواد الكلمات التامات، الفيض الأقدس الذاتي الذي تعينت به الأعيان واستعداداتها، والفيض المقدس الصفاتي الذي تكونت به الأكوان واستمداداتها، مطلع شمس الذات في سماء الأسماء والصفات ومنبع الإفاضات في رياض النسب والإضافات، خط الوحدة بين قوسي الأحدية والواحدية. . . ومركز إحاطة الباطن والظاهر. . . . اللهم يا رب يا من ليس حجابه إلا النور، ولا خفاؤه إلا شدة الظهور، أسألك بك. . . أن تصلي على سيدنا. محمد صلاة تكحل بها بصيرتي بالنور المرشوش في الأزل لأشهد فناء ما لم يكن وبقاء ما لم يزل، وأرى الأشياء كما هي في أصلها معدومة مفقودة، وكونها لم تشم رائحة الوجود فضلا عن كونها موجودة) (¬3) . ويتضح من هذا النص كفر ¬

(¬1) التعليقات على الفصوص، 2 / 321. (¬2) سورة يس، آية (12) . (¬3) أفضل الصلوات على سيد السادات، ليوسف بن إسماعيل النبهاني، طبع المطبعة الأدبية، بيروت، 1309هـ، ص88 وما بعدها.

ابن عربي وغلوه في الحقيقة المحمدية حتى جعلها مساوية للحقيقة الإلهية. ويبدو هذا واضحا في عباراته السابقة التي منها: - المهاجر من مكة كان الله ولم يكن معه شيء ثان. أي أن المهاجر من مكة وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، كان الله. - كلمة الاسم الأعظم (الله.) . - الفيض الأقدس الذاتي الذي تعينت به الأعيان واستعداداتها ومعنى ذلك أن الموجودات تعينت وتحددت بفيضه عليها. - ثم يتجلى لنا مدى خبثه في لي النصوص وتأويلها لخدمة مذهبه الزائغ. ويقول ابن عربي في رسالة شجرة الكون: " لما قبض الله آدم من قبضة تراب (كن) مس على- ظهره حتى يميز الخبيث من الطيب فاستخرج من ظهره من كان من أصحاب اليمين ومن كان من أصحاب الشمال. ثم اعتصر من شجرة (كن) صفوة عنصرها، ومخضها حتى بدت زبدتها، ثم صفاها وألقى عليها من نور هدايته، حتى ظهر جوهرها ثم غمسها في بحر الرحمة، ثم خلق منها نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم زينه بنور الملأ الأعلى حتى أضاء وعلا، ثم جعل ذلك النور أصلا لكل نور، فهو أولهم في السطور وآخرهم في الظهور " (¬1) . وواضح أن ابن عربي هنا قد صاغ هذه الفكرة بأسلوب صوفي بعيد عن التركيب الفلسفي الذي نراه في كتبه وبالأخص فصوص الحكم والفتوحات المكية، وهو في هذا متأثر بسلفه الحلاج حيث قال: " أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار ¬

(¬1) نشأة الفلسفة الصوفية، وتطورها. عرفان عبد الحميد فتاح، طبع المكتب الإسلامي، بيروت، 1394 هـ، ص 100.

نور أنور وأظهر وأقدم من القدم سوى نور صاحب الكرم، همته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم واسمه سبق القلم لأنه كان قبل الأمم " (¬1) . هذا هو مفهوم الحقيقة المحمدية عند ابن عربي فما هي خصائصها وما علاقتها بالعالم المادي والروحي كما للحقيقة المحمدية- عند ابن عربي - عدة وظائف في العالم المادي والروحي فمن ناحية صلتها بالعالم المادي تعتبر مبدأ خلق العالم إذ هي النور الذي خلقه الله قبل كل شيء وخلق منه كل شيء، كما يقول ابن عربي (بدء الخلق الهباء وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية) (¬2) . ، ويقول (أنه سبحانه تجلى بنوره إلى " ذلك الهباء. . . فقبل منه تعالى كل شيء في ذلك الهباء وعلى حسب قوته واستعداده كما تقبل زوايا البيت نور السراج، وعلى قدر قربه من ذلك النور يشتد ضوؤه وقبوله. قال تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] (¬3) فشبه نوره بالمصباح فلم يكن أقرب إليه قبولا في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم المسماة بالعقل فكان سيد العالم بأسره، وأول ظاهر في الوجود، فكان وجوده من ذلك النور الأزلي ومن الهباء ومن الحقيقة الكلية وفي الهباء وجد عينه، وعين العالم من تجليه وأقرب الناس إليه علي بن أبي طالب (¬4) . وأسرار الأنبياء أجمعين (¬5) ومن ناحية صلتها بالإنسان يعتبرها ابن عربي صورة كاملة للإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه جميع حقائق الوجود ولذلك يسميها آدم الحقيقي والحقيقة الإنسانية (¬6) . أما من ناحية صلتها بالعالم الروحي فيعتبرها مصدر كل وحي وإلهام وكشف للأنبياء والأولياء على السواء فهي منبع الوحي والعلم الباطني، والأصل الذي يأخذ عنه الأنبياء والأولياء. ¬

(¬1) الكشف عن حقيقة الصوفية، ص 263، نقلا عن أخبار الحلاج ص11. (¬2) الفتوحات المكية، 1 / 118. (¬3) سورة النور، آية (35) . (¬4) تفوح من هذا النص رائحة التشيع عند ابن عربي بالإضافة إلى الغلو. (¬5) الفتوحات المكية، 1 / 119. (¬6) انظر: التعليقات على الفصوص، ص 320.

يقول ابن عربي: " فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم من أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين! (¬1) . وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث " (¬2) . وبذلك تكون الحقيقة المحمدية مشابهة للقطب أو الإمام المعصوم لدى الشيعة الإسماعيلية الذي يتجلى في كل زمان في صورة قطب ذلك الزمان (¬3) . هذا هو مقصود ابن عربي ومن أتى بعده بالحقيقة المحمدية. وقد تأثر ابن عربي بمن سبقه من المتصوفة لاسيما الحلاج في قوله بقدم النور المحمدي، كما أنه استفاد من كل ما سبقه من فلسفات يونانية وهندية، ومصرية وعقائد يهودية ونصرانية. كما كان لعقائد الشيعة والباطنية وتأويلاتهم لنصوص الشرع، وآرائهم الهدامة نصيب كبير في فكر ابن عربي. كما سبق أن بينا ذلك ولكن ابن عربي حاول أن يصبغ مذهبه في الحقيقة المحمدية بصبغة إسلامية باحثا له عن أسس يعتمد عليها. من تأويل لآيات القرآن ونصوص الحديث، ومن أكثر ما يستدل به الأحاديث الواردة في قدم ذات النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث: مثل حديث: " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " ويروى: " كنت نبيا ولا آدم ولا ماء ولا طين " (¬4) ومنها حديث كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث فبدأ بي قبلهم " (¬5) . ومنها حديث النور المنسوب إلى مصنف عبد الرزاق عن جابر بن ¬

(¬1) هذا حديث باطل لا أصل له وسيأتي مزيد كلام عليه. (¬2) الفصوص، 63 - 64. (¬3) انظر: نظريات الإسلاميين في الكلمة، ص 58. (¬4) هذا حديث لا أصل له كما بينه ابن تيمية. انظر: الرد على البكري، ص 9، ومجموع الفتاوى 2 / 238. (¬5) هذا الحديث منكر الإسناد والمتن معا. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني، 2 / 115. ورسالة النور المحمدي، تأليف عداب محمود الحمش، 23- 26.

عبد الله - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء؟ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور في القدر حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم، ولا جنة ولا نار، ولا ملك، ولا سماء، ولا أرض، ولا شمس، ولا قمر، ولا جني، ولا إنسي، فلما أراد أن يخلق الخلق، قسم ذلك النور أربعة أجزاء: 1 - فخلق من الجزء الأول: القلم. 2 - ومن الثاني: اللوح. 3 - ومن الثالث: الجنة والنار. 4 - ثم قسم الرابع أربعة أجزاء: (أ) فخلق من الأول: نور أبصار المؤمنين. (ب) ومن الثاني: نور قلوبهم - وهو المعرفة بالله. (ب) ومن الثالث: نور أنسهم - وهو التوحيد - لا إله إلا الله، محمد رسول الله. . . الحديث " (¬1) . . ومما يسوقه الصوفية في هذا الباب ويعدونه حديثا قولهم: " إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل خلق آدم بألفي عام وجعله في عمود أمام عرشه يسبح الله ويقدسه ثم خلق آدم - عليه الصلاة والسلام - من نور محمد - صلى الله عليه وسلم - وخلق نور النبيين - عليهم الصلاة والسلام - من نور آدم - عليه الصلاة والسلام - " (¬2) . . وما ذكروه ليس حديثا إنما هو مجرد قول توارثوه وليس هناك ما يدل على ثبوته فلا أصل له. ¬

(¬1) كشف الخفاء ومزيل الألباس فيما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للشيح إسماعيل العجلوني، تصحيح أحمد القلاش، ط3، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1403 هـ، 1 / 113. وهذا الحديث مكذوب لا أصل له ومنسوبا زورا إلى مصنف عبد الرزاق وليس فيه، ولا رواه عنه أحد من العلماء المعتد بهم كما أنه ليس موجودا في أي من كتب السنة المعتمدة. انظر: رسالة النور المحمدي، ص 46 - 53. (¬2) نقله ابن الحاج في المدخل عن كتاب الدلالات لأبي عبد الرحمن الصقلي. انظر: المدخل للابن الحاج، دار الفكر، بيروت، 1401 هـ، 2 / 30.

مناقشة ابن عربي في الحقيقة المحمدية: يريد ابن عربي من وراء استدلاله بالأحاديث السابقة أن يقرر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان موجودا بحقيقته قبل الخلق وأن نوره هو مبدأ الخلق ومادته ليقوى بذلك نظريته في الحقيقة المحمدية. يقول ابن عربي: " فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته فإنه بحقيقته موجود وهو قوله - صلى الله عليه وسلم: " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث " (¬1) . . وهذا كلام باطل فإن الأنبياء لا يأخذ أحد منهم عن آخر إلا من كان مأمورا باتباع شريعته كأنبياء بني إسرائيل الذين أمروا باتباع التوراة كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 44] ) (¬2) . الآية. وأما إبراهيم وموسى وعيسى فلم يأخذ أحدهم عن الآخر كما لم يأخذوا عن محمد، صلى الله عليه وسلم، وإن بشروا به وآمنوا به. كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] ) (¬3) . الآية. قال على بن أبي طالب وابن عباس - رضي الله عنهما: (ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه) (¬4) . . ¬

(¬1) فصوص الحكم، ص 63 - 64. (¬2) سورة المائدة، آية: 44. (¬3) سورة آل عمران، آية: 81. (¬4) تفسير ابن كثير، 1 / 378.

واعتقاد ابن عربي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بحقيقته موجودا استنادا إلى حديث " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " اعتقاد باطل لبطلان هذا الحديث وعدم صحته وثبوته وعلى فرض صحته فإنه لا يؤدى إلى نفس المعنى لأن الأشياء لا تكون موجودة بحقائقها إلا حين توجد، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم ولم تكن حقيقته - صلى الله عليه وسلم - موجودة قبل أن يخلق إلا ما كانت حقيقة غيره بمعنى أن الله علمها وقدرها. لكن كان ظهور خبره واسمه مشهورا أعظم من غيره، فإنه كان مكتوبا في التوراة والإنجيل وقبل ذلك (¬1) كما روى الإمام أحمد في مسنده عن العرباض ابن سارية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وكذلك ترى أمهات النبيين صلوات الله عليهم» (¬2) . . وحديث ميسرة الفجر: «قلت يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ وفي لفظ متى كتبت نبيا؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد» (¬3) . . قال ابن تيمية: (ولهذا يغلط كثير من الناس في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه ميسرة قال: «قلت يا رسول الله متى كنت نبيا؟ وفي رواية - متى كتبت نبيا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد» . فيظنون أن ذاته ونبوته وجدت حينئذ، وهذا جهل فإن الله إنما نبأه على رأس أربعين من عمره وقد قال له: (. . {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] (¬4) . ¬

(¬1) انظر مجموع الفتاوى، 2 / 236 - 239. (¬2) المسند، 4 / 127، 128، وأخرجه الحاكم في المستدرك، 2 / 600، وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. (¬3) أخرجه أحمد في المسند 5 / 59، والحاكم في المستدرك، 2 / 608 - 609، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح، 8 / 223. (¬4) سورة يوسف، آية: 3.

. . ومن قال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان نبيا قبل أن يوحى إليه فهو كافر باتفاق المسلمين، وإنما المعنى أن الله كتب نبوته فأظهرها وأعلنها بعد خلق جسد آدم وقبل نفخ الروح فيه، كما أخبر أنه يكتب رزق المولود وأجله وعمله وشقاوته وسعادته بعد خلق جسده، وقبل نفخ الروح فيه. . . . وكثير من الجهال المصنفين وغيرهم يرويه " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " " وآدم لا ماء ولا طين " ويجعلون ذلك وجوده بعينه وآدم لم يكن بين الماء والطين بل الماء بعض الطين لا مقابله " (¬1) . . وإذا ثبت بطلان كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - موجودا بحقيقته قبل خلق السماوات والأرض فقد انهدم أكبر أساس بنى عليه ابن عربي نظريته في الحقيقة المحمدية. ثم إن قوله إن الحقيقة المحمدية هي أكبر مظهر تجلى فيه الإله أو أنها هي الله متعينا في أول تعيناته قول لا دليل عليه - فوق أنه كفر - بل الدليل قائم على بطلانه عقلا وشرعا لأن الخالق غير المخلوق، ولو قلنا بأن الخالق هو المخلوق لما كان هناك خلق أصلا. وهو الذي يؤمن به ابن عربي إذ حاصل كلامه إنكار الخلق والقول بقدم العالم، وقوله عن الحقيقة المحمدية بأنها مبدأ خلق العالم وسبب وجوده. قول مصادم للنصوص الشرعية التي بينت أن مبدأ خلق العالم هو الماء والعرش كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] (¬2) . الآية. وقوله - صلى الله عليه وسلم: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء» . . . " (¬3) . الحديث (¬4) . . الحديث. ¬

(¬1) الفتاوى، 8 / 282 - 283. (¬2) سورة هود، آية (7) . (¬3) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد. باب وكان عرشه على الماء، 9 / 152. (¬4) وأما حديث: أول ما خلق الله القلم، ثم قال اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة. المسند، 5 / 317. فالأولية في هذا الحديث مقيدة بالنسبة لما عدا العرش والماء. أو بالنسبة لما صدر منه من الكتابة، أي قيل له أول ما خلق: اكتب. انظر: فتح الباري 6 / 289. وشرح العقيدة الطحاوية، ص294 - 296.

كما بين القرآن أن الغاية من الخلق هي أن يعبد الله بما شرع، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] (¬1) . وقول ابن عربي بأن الحقيقة المحمدية هي التي أمدت الأنبياء والأولياء بالعلم الباطن قول ينفي الوحي والنبوة والرسالة، إذ النبوة والرسالة متوقفة على الوحي الذي نزل به الملك على كل نبي. والنتيجة التي يريد ابن عربي أن يصل إليها هي الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. واتخذ ابن عربي في سبيل تحقيق ذلك. الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدرجة مساواته بالله عز وجل، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وقد يتوهم بعض الناس حين يظن أن معنى هذا الكلام أننا ننفى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نور كما وصفه القرآن بذلك. والحق أنه ليس معنى وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه نور. أنه مخلوق من نور كما يزعم الصوفية، وإنما معناه أنه - صلى الله عليه وسلم - هاد لمن اتبعه، منير له طريق الهدى وسبيل الرشاد بإذن ربه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46] (¬2) . وقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] (¬3) . قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: (يقول جل شأنه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب: قد جاءكم يا أهل التوراة والإنجيل من الله نور. يعنى بالنور محمدا - صلى الله عليه وسلم - الذي أنار الله به الحق وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك فهو نور لمن استنار به يبين الحق) (¬4) . ¬

(¬1) سورة الذاريات، آية (56) . (¬2) سورة الأحزاب، آية (45-46) . (¬3) سورة المائدة، آية (15) . (¬4) تفسير الطبري، 4 / 104.

ولو كان المراد من ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخلوق من نور لصرح القرآن بذلك أتم تصريح ووضحه أوضح بيان، ولما كان هناك داع لوصفه بالبشرية. ولكننا نجد نصوص الشرع تؤكد على بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110] (¬1) . وأخرج البخاري بسنده عن أم سلمة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» (¬2) . وأخرج مسلم بسنده عن عبد الله بن مسعود قال. «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسا فقلنا يا رسول الله أزيد في الصلاة؟ قال وما ذاك؟ قالوا صليت خمسا. قال " إنما أنا بشر مثلكم. أذكركما تذكرون. وأنسى كما تنسون " ثم سجد سجدتي السهو» (¬3) . . فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نور بالمعنى القرآني - لا كما يزعم الصوفية - وهو بشر كغيره من الأنبياء السابقين. وصلته بربه صلة العبد المخلوق بمولاه كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] (¬4) . وقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] (¬5) . فوصفه الله بالعبودية في أشرف مقاماته - صلى الله عليه وسلم - وهو مقام القرب من ربه. ¬

(¬1) سورة الكهف، آية (110) . وسورة فصلت، آية (6) . (¬2) سبق تخريجه، ص 22. (¬3) سبق تخريجه، ص 22. (¬4) سورة الإسراء، آية (1) . (¬5) سورة النجم، آية (10) .

ما هو مقصد ابن عربي من الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ لا شك أن ابن عربي قد خرج من الإسلام إلى كفر أشنع من كفر اليهود والنصارى وسائر الكفرة والمشركين بآرائه في وحدة الوجود وما تفرع عنها كالحقيقة المحمدية وغيرها من توابع مذهبه. ولما كان ابن عربي قد جمع فنونا كثيرة من العلوم والمعارف والفلسفات والأديان الموجودة في عصره، مع خبث ودهاء وزندقة، أراد أن يتخذ من الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذريعة لادعائه النبوة وأنه هو خاتم الأولياء الذي هو في نظره أفضل من خاتم الأنبياء. يقول ابن عربي عن نبوة الأولياء: (اعلم أيدك الله أن النبي هو الذي يأتيه الوحي من عند الله، يتضمن ذلك الوحي شريعة يتعبد بها في نفسه. فإن بعث إلى غيره كان رسولا. . . وهذا باب قد أغلق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا سبيل أن يتعبد الله أحدا بشريعة ناسخة لهذه الشريعة المحمدية. وأما حالة أنبياء الأولياء في هذه الأمة فهو كل شخص أقامه الحق في تجل من تجلياته، وأقام له مظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - ومظهر جبريل - عليه السلام. فأسمعه ذلك المظهر الروحاني خطاب الأحكام المشروعة لمظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا فرغ من خطابه وفزع عن قلب هذا الولي عقل صاحب هذا المشهد جميع ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام المشروعة الظاهرة في هذه الأمة المحمدية، فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي) (¬1) . . وأما عن ادعائه بأنه خاتم الأولياء الذي هو في نظره أفضل من خاتم الأنبياء فيقول: فأتى به ختم الولاية مثل ما ... ختم النبوة بالنبي المرسل ولنا من الختمين حظ وافر ... ورثا أتانا في الكتاب المنزل (¬2) ¬

(¬1) الفتوحات المكية، 1 / 150. (¬2) المصدر نفسه، 3 / 84.

وقال: أنا خاتم للأولياء كما أتى ... بأن ختام الأنبياء محمدا ختام خصوص لا ختام ولاية ... تعم فإن الختم عيسى المؤيدا (¬1) وعلاقة عيسى عليه السلام بموضوع خاتم الأولياء لأن ابن عربي يرى أن ختم الولاية نوعان عام وخاص. فختم الولاية العامة لعيسى - عليه السلام - الذي ينزل آخر الزمان نبيا وليا يحكم بشريعة محمد - عليه الصلاة والسلام. أما ختم الولاية الخاص فهي المرتبة التي ادعاها ابن عربي لنفسه وأضفى عليها عدة صفات وخصائص من أهمها: القول بقدم خاتم الأولياء: كما هو الحال بالنسبة لخاتم الأنبياء عنده فكذلك خاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية (¬2) . أن خاتم الأولياء مصدر علوم الأولياء والأنبياء: فكما أن خاتم الأنبياء عند ابن عربي هو مصدر كل علم ومشكاته، فكذلك خاتم الأولياء هو المشكاة التي يأخذ منها كل ولي علمه الباطن. يقول ابن عربي: (وليس هذا العلم (أي العلم بوحدة الوجود) إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم) (¬3) . . ¬

(¬1) ديوان ابن عربي، ص 293. (¬2) انظر: فصوص الحكم، ص 64. (¬3) المصدر نفسه، ص 62.

ولكن ابن عربي لم يكتف بهذا الادعاء حتى زعم أن الأنبياء والمرسلين من حيث كونهم أولياء يأخذون من مشكاة خاتم الأولياء الذي هو ابن عربي نفسه. أما من حيث كونهم أنبياء ومرسلين فيأخذون من مشكاة خاتم المرسلين. ومعنى هذا أن لعلوم الأنبياء والمرسلين اعتبارين: أحدهما: علوم النبوة والرسالة والتي هي الشريعة والأحكام الظاهرة وهذه يستمدها كل نبي من مشكاة خاتم الأنبياء. الثاني: علوم الولاية. التي هي الحقائق والعلوم الباطنة فهذه يستمدها الأنبياء والأولياء من مشكاة خاتم الأولياء (¬1) . وبذلك يكون ابن عربي قد فضل نفسه على جمع الأنبياء والمرسلين بهذا الكلام الذي هو من وحي الشيطان، وفيه من الكفر والتنقيص للرسل والاستخفاف بهم والكفر بما جاءوا به ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة. وليس هناك اسم شرعي لما يسمى بخاتم الأولياء، وإنما هو منصب صوفي مبتدع لا دليل عليه من الشرع. نخلص من هذا إلى أن ابن عربي ومن قبله الحلاج، ومن تبعهم من ملاحدة الصوفية لم يصدروا في غلوهم في الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن محبته وتعظيمه واتباع شريعته. وإنما كان مقصدهم من هذا الغلو تعظيم ذواتهم ودعوة المخدوعين من أتباعهم إلى عبادتهم. وهدم الدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإذهاب هيبته من النفوس. فضررهم على دين الإسلام أشد من ضرر اليهود والنصارى وملل الكفر مجتمعة فيجب على كل من له بصيرة وكل طالب للحق محب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) انظر: كتاب رد الفصوص المسمى مرتبة الوجود ومنزلة الشهود، الملا علي بن سلطان القاري. دراسة وتحقيق. الطالب / عبد الله علي الملا رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة أم القرى، 1409 هـ، 1 / 534. وانظر: التعليقات على فصوص الحكم، ص 24.

أن يعرف حقيقة مذهب هؤلاء وضلالهم وكفرهم حتى لا يخدع بهم وبباطلهم. كما يجب على أهل العلم والدعاة أن يبينوا للناس حقيقة كفر ابن عربي وأمثاله وضلال مذهبه لإنقاذ عامة الصوفية من افتتانهم بهؤلاء الملاحدة. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] (¬1) . ¬

(¬1) سورة الأنفال، آية (42) .

المبحث الخامس آثار الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم على الاعتقاد والأعمال

[المبحث الخامس آثار الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم على الاعتقاد والأعمال] المبحث الخامس آثار الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الاعتقاد والأعمال لا شك أن الغلو من أكبر أسباب الانحراف بالدين عن الصراط المستقيم. وقد كان للغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكبر الأثر في إفساد حقائق الدين وتشويه معالمه، ولم ينحصر هذا الإفساد على جانب دون آخر بل عم الدين كله اعتقادا وعملا وسلوكا، وسأتحدث في هذا المبحث بإيجاز عن دور غلاة الصوفية في إفساد العقيدة والعبادة بسبب غلوهم في الرسول - صلى الله عليه وسلم -. أولا - في الاعتقاد: (أ) في جانب الألوهية: يؤمن المسلمون بأن الله متفرد بالخلق والتدبير والألوهية والربوبية، وأن الله واحد لا شريك له في ذاته وصفاته وأفعاله، فجاء ملاحدة الصوفية وزعموا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - شريك مع الله في الخلق والتدبير وكشف الضر وجلب النفع إلى غير ذلك من صنوف الشرك، وكتب الصوفية وصلواتهم مشحونة بذلك. يقول البوصيرى (¬1) في البردة التي يترنم بها ملايين الصوفية: ¬

(¬1) شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري (608 - 696 هـ) نسبة إلى بوصير من قرى بني سويف بمصر، شاعر. أغلب شعره في مديح النبي - صلى الله عليه وسلم - على طريقة الصوفية. من أشهر قصائده البردة والهمزية والرائية. انظر: فوات الوفيات. محمد بن شاكر الكتبي. تحقيق د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 3: 362. والدليل الشافي على المنهل الصافي، جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي، تحقيق. فهيم محمد شلتوت. من مطبوعات جامعة أم القرى. مركز البحث العلمي، مكة المكرمة، 2 / 622.

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حدوث الحادث العمم ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذا الكريم تجلى باسم منتقم فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم (¬1) فهذا الشاعر خلع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أوصاف الربوبية والألوهية ما لا يليق وصف أحد به إلا الله وحده، فجعل الرسول وحده ملاذه ومعاذه عند حلول الخطوب ونزول الشدائد ثم نسب إلى الرسول الشفاعة مطلقا كما يعتقده المشركون في الشفاعة الشركية التي تكون بدون إذن ولا رضى من المشفوع عنده وإنما تكون بجاه الشافع ومكانته فقط. ثم نراه يجعل الدنيا والآخرة من جوده، وأن علم اللوح والقلم من بعض علومه وهذا مع ما فيه من الشرك كفر بالله عز وجل. لأن كل ما ذكره من أوصاف الربوبية والألوهية لا يجوز بأي حال من الأحوال وصف أي مخلوق بها وإنما أي من صفات الخالق وحده. قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] (¬2) وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] (¬3) . وقال تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] ) (¬4) الآية. وقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] (¬5) . ويقول البكري (¬6) في قصيدة له: ¬

(¬1) ديوان البوصيري. تحقيق محمد سيد كيلاني طبع مصطفى الحلبي مصر 1374هـ، ص200. (¬2) سورة النمل، آية (62) . (¬3) سورة طه، آية (109) . (¬4) سورة هود، آية (123) . (¬5) سورة طه، آية (110) . (¬6) هو محمد بن أبي الحسن البكري الصديقي الشافعي (930 - 994 هـ) ، محدث، إخباري، من تصانيفه. الجوهر الثمين من كلام سيد المرسلين، تأبيد المنة بتأييد أهل السنة وغيرها. انظر: معجم المؤلفين، 9 / 185 والأعلام، 7 / 60.

ولذ به في كل ما ترتجي ... فإنه المأمن والمعقل وناده إن أزمة أنشبت ... أظفارها واستحكم المعضل يا أكرم الخلق على ربه ... وخير من فيهم به يسئل قد مسني الكرب وكم مرة ... فرجت كربا بعضه يعضل فبالذي خصك بين الورى ... برتبة عنها العلا تنزل عجل بإذهاب الذي اشتكى ... فإن توقفت فمن أسأل (¬1) وهذا مع ما فيه من شرك قدح في الألوهية وتفرد الله بتدبير الكون وحده، ولم يتوقف شركهم وكفرهم عند هذا الحد حتى زعموا أن محمدا عين ذات الله وهو من الحق بمنزلة إنسان العين من العين وأنه روح الله المنفوخ في آدم. يقول أحمد بن إدريس (¬2) في إحدى صلواته: " اللهم صل على الكنه الذاتي والقدس الصفاتي، نور الأسماء، ورداء الكبرياء، أزار العظمة الإلهية، عين الإحاطة الذاتية، تجليات الغيب والشهادة، روح حياة الماء، الروح الإلهي، والنور البهاء، رحمة الوجود وعلم الشهادة صلاة ذاتية أزلية أبدية. اللهم وسلم عليه مثل ذلك " (¬3) . ويقول صاحب دلائل الخيرات: " اللهم صل على سيدنا محمد بحر أنوارك ومعدن أسرارك، ولسان حجتك وعروس مملكتك، وإمام حضرتك، وطراز ملكك، وخزائن رحمتك، وطريق ¬

(¬1) أورد هذه القصيدة محمد بن علوي المالكي في كتابه الذخائر المحمدية، القسم الأول، ص 158، مطبعة حسان، القاهرة، وقال إنها مجربة لقضاء الحوائج وتقرأ في آخر الليل بعد ما تيسر من الصلاة، ويكرر بيت: عجل بإذهاب الذي اشتكى ثلاثا وسبعين مرة. (¬2) هو أحمد بن إدريس الحسني صاحب الطريقة الأحمدية الإدريسية المنتشرة في المغرب والسودان وغيرهما. ولد بفاس وانتقل إلى مكة ثم رحل إلى اليمن فسكن صبيا إلى أن مات. وهو جد الأدراسة الذين كانت لهم إمارة عسير ونواحيها وكان صوفيا على دين ابن عربي. له عدة كتب منها العقد النفيس، والسلوك وروح السنة توفي سنة 1253 هـ. (¬3) مجموعة أحزاب وأوراد ورسائل. تأليف أحمد بن إدريس، ص 62.

شريعتك المتلذذ بتوحيدك إنسان عين الوجود والسبب في كل موجود عين أعيان خلقك المتقدم من نور ضيائك صلاة تدوم بدوامك وتبقى ببقائك لا منتهي لها دون علمك صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا يا رب العالمين " (¬1) . ويقول صاحب كتاب النفحات الأقدسية في خطبة كتابه: (نحمدك اللهم يا من صلى على محمد بفيض ذاته فكان مجلى له في جميع تجلياته فهو روح الله المنفوخ في صورة آدم. وطامة الحقائق الكبرى لسائر العالم فلا يصل واصل إلا إليه ولا يهتدي حائر إلا به فيه عليه. وأشهد أن لا إله إلا الله ولا موجود في هذا الوجود إلا إياه وأشهد أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - إنسان عين ذاته وسر إمداداته) (¬2) . ويقول عبد الكريم الجيلي (¬3) (اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم له تنوع في ملابس، ويظهر في كنائس، فيسمى به باعتبار لباس، ولا يسمى به باعتبار لباس آخر، فاسمه الأصلي الذي هو له محمد، وكنيته أبو القاسم، ووصفه عبد الله، ولقبه شمس الدين. . . واعلم أن الإنسان الكامل مقابل لجميع الحقائق الوجودية بنفسه، فيقابل الحقائق العلوية بلطافته، ويقابل الحقائق السفلية بكثافته. . ثم اعلم أن الإنسان الكامل هو الذي يستحق الأسماء الذاتية والصفات ¬

(¬1) دلائل الخيرات. محمد بن سليمان الجزولي، ص72. (¬2) النفحات الأقدسية في شرح الصلوات الأحمدية الإدريسية، محمد بهاء الدين البيطار. طبع دار الجليل، بيروت، ص3. (¬3) عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي، ابن سبط الشيخ عبد القادر الكيلاني، (767 - 820 أو 832هـ) كان صوفيا على دين ابن عربي. من مؤلفاته: الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل. شرح مشكلات الفتوحات المكية. وحقيقة الحقائق التي في هي للحق من وجه ومن وجه للخلائق. والكمالات الإلهية في الصفات المحمدية. انظر: معجم المؤلفين، 5 / 313، الأعلام 4 / 50 - 51.

الإلهية استحقاق الأصالة والملك بحكم المقتضى الذاتي فإنه المعبر عن حقيقته بتلك العبارات، والمشار إلى لطيفته بتلك الإشارات ليس لها مستند في الوجود إلا الإنسان الكامل، فمثاله للحق مثال المرآة التي لا يرى الشخص صورته إلا فيها، وإلا فلا يمكنه أن يرى نفسه إلا بمرآة الاسم " الله " فهو مرآته، والإنسان الكامل أيضا مرآة الحق. فإن الحق تعالى أوجب على نفسه ألا ترى أسماؤه ولا صفاته إلى في الإنسان الكامل) (¬1) وتصور كلامهم في هذا الباب كاف لإثبات بطلانه (¬2) . (ب) أما اعتقادهم في الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيخالف اعتقاد عامة المسلمين في جوانب كثيرة: فإذا كان المسلمون يعتقدون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - وجميع الأنبياء والرسل من قبله بشر مثل بقية البشر في كل شيء غير أنهم مفضلون بالوحي وبخصائص تناسب نبوتهم ورسالتهم. وهذا هو الاعتقاد الصحيح الذي نطق به القرآن والسنة وأجمع عليه المسلمون على مر العصور. حتى جاء ملاحدة الصوفية وحولوا أتباعهم عن هذا الاعتقاد الصحيح إلى عقيدة وثنية تجعل من محمد - صلى الله عليه وسلم - المجلي الأعظم للذات الإلهية وأنه الواسطة بين الوجود المطلق وهو الله وبين عالم الطبيعة وبالتنزل صار محمدا هو الإله عندهم وقد سبق في النصوص ما يؤيد ذلك، ويؤمن المسلمون بأن أول ما خلق الله هو الماء والعرش ثم القلم ثم خلق السماوات والأرض كما بين ذلك الله ورسوله (¬3) . ولكن الصوفية تعتقد بأن أول ما خلق الله هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ومنه خلق كل شيء ولما كانت نصوص الشرع على خلاف ذلك والآيات والأحاديث تبين أن أول ما خلق الله هو الماء والعرش ثم القلم، حاولوا التوفيق بين ضلاهم وبين ¬

(¬1) الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر. عبد الكريم الجيلي، ط3، مصطفى الحلبي، مصر، 1390هـ، 2 / 73 - 77. (¬2) انظر مناقشة الحقيقة المحمدية وبيان بطلانها في المبحث السابق، ص187 وما بعدها. (¬3) انظر مناقشة الحقيقة المحمدية وبيان بطلانها في المبحث السابق، ص187 وما بعدها.

هذه النصوص فأطلقوا على الحقيقة المحمدية أسماء مثل عرش التجلي الذاتي، والقلم الأعلى، وأم الكتاب، إلى غير ذلك من الألقاب الكثيرة التي خلعوها على الحقيقة المحمدية. يقول أحمد بن إدريس في إحدى صلواته: (اللهم صل على مولانا محمد نورك اللامع ومظهر سرك الهامع الذي طرزت بجماله الأكوان وزينت ببهجة جلاله الأوان، الذي فتحت ظهور العالم من نور حقيقته وختمت كماله بأسرار نبوته فظهرت صور الحسن من فيضه في أحسن تقويم ولولا هو ما ظهرت لصورة عين من العدم الرميم) (¬1) . ويقول في صلاة أخرى: (اللهم صل على أم كتاب كمالات الذات، عين الوجود المطلق الجامع لسائر التقييدات. صورة ناسوت الخلق، معاني لاهوت الحق، الغيب الذات، والشهادة الأسماء، والصفات الناظر بالكل في الكل من الكل للكليات الجزئيات 00) (¬2) . ويعتقد المسلمون بأن الله خلق هذا الكون من العدم وأوجده على غير مثال سابق. لكن الصوفية تؤمن بأن الله خلق هذا الكون من نور محمد - صلى الله عليه وسلم - ويستشهدون بحديث النور المنسوب إلى جابر بن عبد الله وقد سبق ذكره وبيان بطلانه (¬3) . يقول الدباغ (¬4) (اعلم أن أنوار المكونات كلها من عرش وفرش وسموات وأرضين وجنات ¬

(¬1) مجموعة أحزاب وأوراد ورسائل، 55. (¬2) المصدر نفسه، 56 - 57. (¬3) انظر ص 164 - 165 من هذا البحث. (¬4) هو عبد العزيز بن مسعود المعروف بالدباغ، (1095 - 1132هـ) ، صوفي، من أهل فاس بالمغرب، كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولأتباعه مبالغة في الثناء عليه ونسبة الخوارق إليه. من آثار الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز جمعه أحمد بن مبارك السجلماسي. انظر: الأعلام، 4 / 28. ومعجم المؤلفين، 5 / 262 - 263.

وحجب، وما فوقها، وما تحتها، إذا جمعت كلها، وجدت بعضا من نور محمد، وأن مجموع نوره لو وضع على العرش لذاب، ولو وضع على الحجب السبعين التي فوق العرش لتهافتت، ولو جمعت المخلوقات كلها ووضع ذلك النور العظيم عليها لتهافتت وتساقطت) (¬1) . وإذا كان المسلمون يؤمنون بأن القرآن نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يدري عن القرآن شيئا قبل نزوله عليه كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] (¬2) {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] (¬3) ولكن ملاحدة الصوفية تأبى هذه الحقيقة وتعدل عنها إلى الإفك والبهتان فتزعم أن جبريل عجب حين رأى محمدا - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن قبل أن يعلمه إياه فسأله جبريل فأجابه قائلا: ارفع الستر مرة حين يلقى إليك الوحي، ففعل جبريل ذلك فرأى محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يوحي إليه، فصاح سبحان الله: منك وإليك يا محمد. وهذا دليل واضح على تلاعب الشيطان بعقولهم وأحلامهم، إذ لا يصدق بهذه الخراقة إلا من ليس له أدنى تمييز، وقد أسس لهم هذه الأسطورة ابن عربي شيخ الصوفية الأكبر إذ يفسر قول الله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] (¬4) . يقول: (اعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى القرآن مجملا قبل جبريل من غير تفصيل ¬

(¬1) هذه هي الصوفية. تأليف عبد الرحمن الوكيل، ط4، دار الكتب العلمية، بيروت 404 1 هـ، ص 87، نقلا عن الإبريز للدباغ، 2 / 84. (¬2) سورة الشورى آية (52) . (¬3) سورة العنكبوت، آية (48) . (¬4) سورة طه، آية (114) .

الآيات والسور فقيل له ولا تعجل بالقرآن الذي عندك قبل جبريل فتلقيه على الأمة مجملا فلا يفهمه أحد منك لعدم تفصيله) (¬1) . وهذه فرية واضحة البطلان يكذبها القرآن وحال الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي كان ينتظر نزول الوحي عليه ليعرف حكم الله فيما يجد من الحوادث والنوازل. وإذا كان المسلمون يؤمنون بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل في زمان ومكان معينين وأن الرسل السابقين عليه أرسل كل واحد منهم إلى قوم معينين في زمان معين. إلا أن غلاة الصوفية تعتقد بأن الرسول في كل العصور واحد هو محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن الرسل السابقين ليسوا إلا صورا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويروون في هذا شعرا: كل النبيين والرسل الكرام أتوا ... نيابة عنه في تبليغ دعواه فهو الرسول إلى كل الخلائق في ... كل العصور ونابت عنه أفواه (¬2) . وإذا كان المسلمون يعتقدون بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات كما يموت سائر البشر بعد أن بلغ رسالة كما قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] (¬3) وإذا بمتأخري الصوفية يعتقدون بأن الرسول حي وأنه يرى يقظة لا مناما، وأن مشايخ الصوفية يتلقون عنه مباشرة ويجتمعون به. وهذا من أظهر البطلان الذي يكذب التاريخ والواقع ويستحيل أن تقبله الفطر والعقول (¬4) . فساد مفهوم محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: بعد أن كانت محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعنى إيثاره على كل مخلوق سواه، وطاعته واتباعه. صار معناها عند غلاة الصوفية عبادته ودعاؤه والسؤال به ¬

(¬1) الكبريت الأحمر في علوم الشيخ الأكبر للشعراني بهامش اليواقيت والجواهر، طبع مصطفى، الحلبي، 13789هـ، ص6. وانظر: هذه هي الصوفية، ص89 - 92. (¬2) انظر النفحات الأقدسية، ص17. (¬3) سورة الزمر، آية (30) . (¬4) سيأتي مزيد بيان في الرد على هذه الخرافة في مبحث البدع التي ظهرت بدعوى محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

وتأليف الصلوات المبتدعة وعمل الموالد وإنشاء القصائد الشركية في الاستغاثة به وصرف وجوه العبادة إليه - صلى الله عليه وسلم - وبعد أن كان تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباعه والأدب معه وتوقيره، صار التعظيم عندهم هو الغلو فيه - صلى الله عليه وسلم - بإخراجه عن حد البشرية ورفعه إلى مرتبة الألوهية. هذا عن دور الغلاة في إفساد عقيدة المسلمين في الله ورسوله وتحويلهم عن الإسلام والتوحيد الخالص على عقائد وثنية مخالفة للإسلام جملة وتفصيلا. ثانيا: آثار الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - على العبادات الشرعية: أدى الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الانحراف بالعبادات عن وضعها الشرعي، وتأويلها، وابتداع عبادات ما أنزل الله بها من سلطان فبعد أن كان المسلمون يرون أن أعظم أعمالهم بعد الإيمان بالله هو الصلاة وبقية أركان الإسلام. جاء غلاة الصوفية فزعموا أن أجل الأعمال هو الإيمان بوحدة الوجود والتحقق بها (أي الفناء في ذات الله) ، والإيمان بالحقيقة المحمدية، والصلاة عليها بأكثر الصلوات شركا وكفرا، وقضاء الأعمار في الخلوات والأذكار المبتدعة، وسيأتي لهذا مزيد بيان (¬1) . ويؤمن المسلمون بأن أجل ما ورثوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو هديه وسنته، فجاءت الصوفية لتزعم بأن أجل ما ورثوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الطريقة، والحقيقة، والتصوف الفلسفي بمقاماته واصطلاحاته، وهلم جرا. أما هديه - صلى الله عليه وسلم - وسنته فلا يعرفونها ولا يرفعون لها رأسا بل يرون أن المشتغلين بالسنة. الداعين إليها هم من ألد خصومهم. لأن مهمتهم نشر الهدي ودين الحق الذي فيه إبطال كل خرفات وأباطيل الملاحدة والزنادقة قديما وحديثا. ¬

(¬1) انظر: مبحث البدع التي ظهرت بدعوى المحبة.

المبحث السادس حكم الإسلام في الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم

[المبحث السادس حكم الإسلام في الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم] المبحث السادس حكم الإسلام في الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد جاءت نصوص الشرع بإثبات بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنه بشر محكوم بقوانين البشرية غير أنه مفضل بخصائص تناسب نبوته ورسالته ويأتي التأكيد على هذا الأمر لئلا يتطرق الغلو إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلما وقع لليهود مع عزير وللنصارى مع عيسى ابن مريم عليه السلام. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ أَهْلَ الْكِتَابِ - خَاصَةً النَّصَارَى - عَنِ الْغُلُوِّ وحذرهم من سوء عاقبته فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] (¬1) وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] (¬2) الآية. وفي نهي الله لهم تَحْذِيرٌ لهذه الأمة حتى لا تقع فيما وقعت فيه النصارى من الغلو في عيسى ورفعهم له فوق مرتبته ووصفه بصفات الألوهية، فوقعوا بسبب ذلك في الشرك والكفر المخرج عن الملة. لأجل هذا نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الغلو في الدين عامة وفيه خاصة وذلك في أحاديث كثيرة. منها ما أخرجه النسائي وابن ماجه واللفظ له بسنده «عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (قال لي رسول - صلى الله عليه وسلم - غداة العقبة وهو على ¬

(¬1) سورة المائدة، آية (77) . (¬2) سورة النساء، آية (171) .

ناقته: " ألقط لي حصى " فلقطت له سبع حصيات، هن حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: " أمثال هؤلاء فارموا " ثم قال: " يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (¬1) . قال ابن تيمية في شرح هذا الحديث: (وقوله: «إياكم والغلو في الدين» عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال. والغلو: مجاوزة الحد بأن يزاد في حمد الشيء أو ذمه على ما يستحق، ونحو ذلك، والنصارى أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف. وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] (¬2) . وسبب هذا اللفظ عام: رمي الجمار. وهو داخل فيه، فالغلو فيه مثل الرمي بالحجارة الكبار، ونحو ذلك. بناء على أنه أبلغ من الحصى الصغار ثم علل ذلك: بأن ما أهلك من قبلنا إلا الغلو في الدين كما نراه في النصارى. وذلك يقتضي: أن مجانبة هديهم مطلقا أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه أن يكون هالكا) (¬3) . ومنها ما أخرجه البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم. فإنما أنا عبده. فقولوا عبد الله ورسوله» (¬4) . ففي هذا الحديث تحذير واضح لهذه الأمة من الإطراء في مدحه - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يفضي ذلك إلى الغلو فيه كما غلت النصارى من قبل في عيسى بن مريم عليه السلام. والنهي عن الإطراء في هذا الحديث يحتمل أمرين: ¬

(¬1) سبق تخريجه، ص 147. (¬2) سورة النساء، آية (171) . (¬3) اقتضاء الصراط المستقيم، 1 / 289 - 290. (¬4) سبق تخريجه، ص 24.

- إما النهي عن مطلق المدح والاقتصار على وصفه بأنه عبد الله ورسوله. - وإما النهي عن المبالغة في المدح لئلا يؤدى ذلك إلى وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصفات الألوهية. ولكلا الأمرين ما يؤيده من الأحاديث (¬1) . وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث منزلته التي أنزله الله إياها، وهي مرتبة العبودية لله، عز وجل، ثم مرتبة الرسالة التي اصطفاه الله لها. فأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمته أن تصفه بالعبودية والرسالة ولا تتجاوز ذلك إلى غيره من الأوصاف التي تتضمن الإطراء المنهي عنه. ومع أن هذا الحديث حجة قاطعة في النهي عن الإطراء وسد باب الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا أن الغلاة حاولوا تأويل هذا الحديث بما يبطل معناه ويؤدى إلى نقيضه، فزعموا أن الإطراء المنهي عنه في هذا الحديث هو إطراء مشابه لإطراء النصارى لعيسى، ووصفهم له بصفات الألوهية والربوبية وقولهم عنه أنه الله أو ابن الله. وما سوى ذلك من أنواع الإطراء فليس بمذموم بل هو مستحب (¬2) . فأجازوا إطراء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما دون وصفه بصفات الألوهية والربوبية. وظنوا أن هذا من قبيل التعظيم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كما قال البوصيري في البردة: دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم فانسب إلى ذاته ما شئت من شرف ... وأنسب إلى قدره ما شئت من عظم فإن فضل رسول الله ليس له ... حد فيعرب عنه ناطق بفم (¬3) وهذا جهل واضح بمعنى الحديث ومقصود الرسول - صلى الله عليه وسلم - به لأن معناه النهي عن المدح أصلا، أو النهي عن المبالغة فيه. ثم إن تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يكون إلا بما شرعه، ووصفه ومدحه بدون قيد قد يدخل في أنواع من الشرك ¬

(¬1) انظر: التوسل. أنواعه وأحكامه. للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط5، المكتب الإسلامي، بيروت، 1404 هـ، ص 88 - 89. (¬2) انظر الجوهر المنظم في زيارة القبر النبوي لابن حجر الهيتمي ص 61. (¬3) ديوان البصيري ص193.

كالاستغاثة به - صلى الله عليه وسلم - عند الشدائد وطلب الحاجات منه إلى غير ذلك من أنواع الغلو المفضي إلى الشرك، الذي نهى الله ورسوله عنه. وليت هؤلاء الغلاة وقفوا في إطرائه - صلى الله عليه وسلم - عند هذا الحد فلم يصفوه بصفات الألوهية والربوبية كما فعلت النصارى، بل إنه قد وصل بهم الغلو إلى مساواة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالله. يقول صاحب كتاب النفحات الأقدسية: (فشأن محمد في جميع تصرفاته هو شأن الله، تعالى، فليس لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من محمد شيء ولذلك كان نورا ذاتيا من عين ذات الله) (¬1) وفي هذا الكلام من الكفر الصريح ما فيه والذي يناقض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تحقيق التوحيد وسد الذرائع إلى الشرك. ومن الأحاديث التي وردت في النهي عن الإطراء في المدح ما أخرجه الإمام أحمد بسنده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - «أن رجلا قال: يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا، وابن خيرنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان. أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» (¬2) . وأخرج أبو داود بسنده «عن عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - قال: (انطلقت في وفد بنى عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: أنت سيدنا فقال: السيد الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا. فقال: " قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان» (¬3) . ¬

(¬1) النفحات الأقدسية، ص 9. (¬2) سبق تخريجه، ص 89. (¬3) سنن أبي داود. كتاب الأدب، باب كراهية المدح، 5 / 154 - 155، والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 3 / 226.

قال الخطابي: (وإنما منعهم - فيما نرى - أن يدعوه سيدا، مع قوله «أنا سيد ولد آدم» ، وقوله للخرزج «قوموا إلى سيدكم» - يريد سعد بن معاذ - من أجل أنهم قوم حديثو عهد بالإسلام، وكانوا يحسبون أن السيادة بالنبوة كما هي بأسباب الدنيا، وكان لهم رؤساء يعظمونهم، وينقادون لأمرهم، ويسمونهم السادات، فعلمهم الثناء عليه وأرشدهم إلى الأدب في ذلك، فقال: «قولوا بقولكم» يريد قولوا بقول أهل دينكم وملتكم، وادعوني نبيا ورسولا، كما سماني الله - عز وجل - في كتابه، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: 64] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 41] ولا تسموني سيدا كما تسمون رؤساءكم وعظماءكم ولا تجعلوني مثلهم، فإني لست كأحدهم، إذ كانوا يسودونكم بأسباب الدنيا وأنا أسودكم بالنبوة والرسالة، فسموني نبيا ورسولا (¬1) . فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه أن يواجهوه بالمدح لئلا يفضي ذلك إلى الغلو، وأخبر أن مواجهة المادح للممدوح بمدحه - ولو بما فيه - من عمل الشيطان لما يقتضيه المدح والإطراء من تعاظم الممدوح في نفسه وهذا ينافي التوحيد، لأنه يدخل في النفس الكبر والعجب المفسد للاعتقاد والعمل. كما في الحديث القدسي «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني شيئا منهما قذفته في النار» (¬2) . وفي الحديث «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» (¬3) . وهذه الآفات سببها محبة المدح، لأجل هذا كره الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه أن يواجهوه بالمدح والإطراء حتى لا ينافي هذا عبوديته الخالصة لربه، فمقام العبودية يقتضي كراهية المدح أصلا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح صيانة لهذا المقام، وأرشد الأمة إلى ترك ¬

(¬1) معالم السنن للخطابي، 5 / 155. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس، باب ما جاء في الكبر، 4 / 350 - 351. وبنحوه أخرجه مسلم مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاب البر. باب تحريم الكبر، 4 / 2023. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر، 1 / 93.

ذلك نصحا لهم، وحماية لمقام التوحيد من أن يدخل عليه ما يفسده من الشرك ووسائله {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59] (¬1) . ورأوا أن فعل ما نهاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن فعله قربة من أفضل القربات، وحسنة من أعظم الحسنات (¬2) . وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» دليل قاطع على كراهية الرسول للمدح بما سوى العبودية والرسالة وأخبر أن هذه هي منزلته الحقيقية التي أنزله الله إياها، وهذا مما يبين أن الغلاة قد سلكوا في غلوهم مسلكا لا يحبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يرضاه بل نهي عنه في مواقف كثيرة. وقد أنكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على من قال له ما شاء الله وشئت فقال له: «أجعلتني والله عدلا بل ما شاء الله وحده» (¬3) كما أنكر على معاذ - رضي الله عنه - حينما هم أن يسجد له (¬4) ومعاذ إنما قصد بذلك تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن النبي أنكر عليه ذلك لأنه لا ينبغي السجود إلا لله وحده، فكل من عظم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بما لم يشرعه فقد غلا فيه وإن ظن أنه بذلك معظما. ومن هذا الباب نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ قبره عيدا ومسجدا حتى لا تقع الأمة في الشرك. فحقق الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته التوحيد وسد كل الذرائع إلى الشرك وقطع أسبابه والتي من أعظمها الغلو فيه، لأجل هذا كان الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - محرما لأنه يفضي إلى الشرك والكفر، ولما يتضمنه هذا الغلو من القدح في مقام الألوهية وتفرد الله بصفات الربوبية. ولأن فيه تنقيصا للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن كماله في عبوديته لربه كما يتضمن الكذب عليه لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما دعا الخلق إلا إلى إفراد الخالق بالعبادة، ولم يدعهم ¬

(¬1) سورة البقرة، آية (59) . (¬2) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص731 - 733. (¬3) سبق تخريجه، ص 89. (¬4) انظر المسند، 4 / 381، 5 / 227 - 228.

إلى عبادة نفسه ووصفه بصفات الرب كما أنه لم يدع أنه من نور، أو أن له في الكون شيئا من التدبير، أو أنه يعلم الغيب إلى غير ذلك مما يعتقده الغلاة فيه. بل عد ذلك مما يناقض الدين الذي جاء به، قال تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] (¬1) الآية. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا - قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا - قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 20 - 22] (¬2) وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ - وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79 - 80] (¬3) . ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم - وهم أعلم خلق الله بعد رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالدين وأشدهم حبا وتعظيما لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة لحقوقه - لم يتعاملوا معه - صلى الله عليه وسلم - إلا على أنه بشر مثلهم رسول، لا على أنه إنسان حل فيه الإله، أو أنه روح الله أو أنه مخلوق من نور إلى آخر ما يعتقده الغلاة. ولا دعوا الناس إلى ذلك، وإنما دعوهم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله اصطفاه الله لرسالته وعلى هذا جرى سلف هذه الأمة. إلى أن رفعت الزندقة رأسها فوجد في الأمة من أنواع الغلو ما يناقض شرع الله. وما علمت هذه المقالات ولا ابتدعت إلا من أناس زنادقة منافقين كالحلاج ¬

(¬1) سورة الأنعام، آية (50) . (¬2) سورة الجن، آية (20-22) . (¬3) سورة آل عمران، آية (79-80) .

وابن عربي والجيلي وابن الفارض (¬1) وغيرهم من الغلاة الذين سار على نهجهم أكثر الصوفية حتى زماننا هذا. وهذه المقالات التي ابتدعوها هي كفر وزندقة متسترة بدعوى حبهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه. فهي في ميزان الشرع كفر صريح أو مؤدية للكفر ومن اعتقد فيها وقال بها عن علم فقد كفر. وذلك كالقول بقدم النور المحمدي وأنه مادة العالم وأن الرسول كان بحقيقته موجودا قبل أن يخلق آدم وأنه إنسان عين الله، وأنه هو الحقيقة الإلهية السارية في الوجود بأسره وأن الحقيقة المحمدية هي العقل الكلي الذي يصل ما بين الوجود المطلق وهو الله وما بين عالم الطبيعة (الخلق) . وأن الحقيقة المحمدية هي روح الله المنفوخ في آدم وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان خلقا في ظاهره خالقا في باطنه وأن الأنبياء كانوا صورا للحقيقة المحمدية وأن الحقيقة المحمدية ليست إلا الله متعينا في أول تعيناته وهي اسم الله الأعظم إلى غير ذلك من العقائد الباطلة. فهذه الأمور من اعتقدها فلا شك في كفره وزندفته، كما حكم جمع من العلماء بكفر ابن عربي ومن تابعه على معتقده (¬2) ومع كون هذه الأمور كفرا بواحا، إلا أن هؤلاء الزنادقة الضلال موهوه وخرفوه وأخرجوه في قالب محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحجبوا الناس عن تلقي حقائق الشرع، والعلم بالدين حتى لا ينكشف للناس زيغهم وضلالهم. وشجعهم على ذلك انتشار الجهل بين غالبية المسلمين حتى عد هؤلاء ¬

(¬1) عمر بن علي بن مرشد المعروف بابن الفارض حموي الأصل، مصري المولد والدار والوفاة. اشتغل بالفقه والحديث أول أمره ثم انتقل إلى التصوف فكان أكثر الصوفية شعرا، ومن أشهر شعره تائية السلوك التي جمع فيها فنون الالحاد والاتحاد والكفر برب العالمين. توفي (632 هـ) . قال عنه الذهبي " ينعق بالاتحاد الصريح في شعره وهذه بلية عظيمة فتدبر نظمه ولا تستعجل ولكنك حسن الظن بالصوفية، وما ثم إلا زي الصوفية وإشارات مجملة وتحت الزي والعبارة فلسفة وآفاعي فقد نصحتك والله الموعد ". ميزان الاعتدال، 3 / 214 - 215. وانظر لسان الميزان، 3 / 317 -319. وشذرات الذهب، 5 / 149- 153. (¬2) انظر: العقد الثمين، 2 / 160 وما بعدها. وتنيه الغبي إلى كفر ابن عربي، ص 150 وما بعدها.

الضلال من علماء الدين وأولياء الله الصالحين. فراجت في سوق الجهل بضاعتهم وأقبل عليها الجهال يحسبونها دينا يتقربون به إلى الله فإذا بهم قد وقعوا في الشرك الأكبر وصاروا عبيدا لهؤلاء الضلال يتلاعبون بعقولهم كما يتلاعب الصبيان بالكرة. والمحفوظ من حفظه الله فأنار بصيرته وفتح للحق قلبه وعقله.

الفصل الثاني الابتداع

[الفصل الثاني الابتداع] [المبحث الأول تعريف البدعة وبيان حكمها] الفصل الثاني الابتداع وفيه ثلاثة مباحث المبحث الأول - تعريف البدعة وبيان حكمها. المبحث الثاني - البدع التي ظهرت بدعوى محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. المبحث الثالث - آثار الابتداع.

المبحث الأول تعريف البدعة وبيان حكمها البدعة في اللغة: اسم هيئة من الابتداع كالرفعة من الارتفاع وهي: كل شيء أحدث على غير مثال سابق. سواء أكان محمودا أم مذموما. وهي مأخوذة من بدع الشيء يبدعه بدعا إذا أنشأه واخترعه. قال ابن فارس: (" بدع ". الباء والدال والعين أصلان: أحدهما ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال والآخر الانقطاع والكلال) (¬1) وجاء في لسان العرب: (بدع الشيء يبدعه بدعا وابتدعه: أنشأه وبدأه. . . والبديع والبدع: الشيء يكون أولا. وفي التنزيل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] (¬2) أي ما كنت أول من أرسل، قد أرسل قبلي رسل كثير. والبدعة: الحدث وما ابتدع في الدين بعد الإكمال. . . . وأبدع وابتدع وتبدع: أتى ببدعة. قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27] (¬3) وبدعه: نسبه إلى البدعة. . . والبديع: المحدث العجيب. . . . وأبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال. والبديع من أسماء الله - تعالى - لإبداعه الأشياء وإحداثه إياه. وهو البديع الأول قبل كل شيء. ورجل ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة، 1 / 209. (¬2) سورة الأحقاف، آية (9) . (¬3) سورة الحديد، آية (27) .

بدع وامرأة بدعة: إذا كان غاية في كل شيء، كان عالما أو شريفا أو شجاعا) (¬1) . هذا ما يختص بالأصل الأول من معاني الكلمة، وهو الاختراع والإحداث وأما ما يختص بالأصل الثاني: وهو الانقطاع والكلال، فمنه قولهم - كما جاء في لسان العرب: (. . . أبدعت الإبل: بركت في الطريق من هزال أو داء أو كلال، وفي الحديث: «إني أبدع (¬2) فأحملني» (¬3) . . . كأنه جعل انقطاعها عما كانت مستمرة عليه من عادة السير إبداعا أي إنشاء أمر خارج عما اعتيد منها) (¬4) . وهذا راجع إلى المعنى الأول. لأن انقطاع الدابة عن السير طارئ على عادتها وأمر حادث لم يكن من قبل. ومن هذا المعنى الثاني أخذت البدعة أيضا، لأنها وإن كانت شيئا مخترعا لم يسبق له مثيل إلا أن فيها معنى الانقطاع، لأنها تنقطع بصاحبها عن سلوك الصراط المستقيم. وعلى هذا فالكلمة تدور على معنى الإحداث والاختراع والخروج عن حد المألوف والمعهود. قال الشاطبي: (ومن هذا المعنى - أي الإحداث والاختراع - سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع، وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة. فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه في اللغة) (¬5) . ¬

(¬1) لسان العرب، مادة بدع، 8 / 6 - 7. (¬2) أبدع: انقطع إذا هلكت دابته ولم يجد ما يركبه. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة. باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، 3 / 1596. وأبو داود في كتاب الأدب، باب في الدال على الخير، 5 / 346. (¬4) لسان العرب. مادة بدع، 8 / 9. (¬5) الاعتصام للشاطبي، 1 / 36.

تعريف البدعة اصطلاحا: بعد بيان المعنى اللغوي للبدعة أنتقل لبيان معناها الاصطلاحي لنرى العلاقة بين المعنيين. وأول ما يقابلنا في البحث عن تعريف العلماء للبدعة هو أنه ليس هناك تعريف موحد متفق عليه بين العلماء، إذ انقسم العلماء في تعريف البدعة إلى فريقين: - الفريق الأول وسع مدلول البدعة لتشمل كل ما حدث بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء كان مذموما أو محمودا. - والفريق الثاني قصر مدلول البدعة على الحادث المذموم الذي لم يرد به الشرع ولم يندرج تحت أصل يعمل به. مما يدخل في العبادة أو قصد به التعبد من العادات وبالجملة فهي تطلق عند هذا الفريق في مقابلة السنة. وتبعا لذلك انقسم تعريف البدعة بسبب هذين الاتجاهين، فالاتجاه الأول يرى أن البدعة تنقسم إلى محمودة ومذمومة، والاتجاه الثاني يرى أن البدعة لا تكون إلا مذمومة. وسنعرض لتعريف البدعة لدى كل فريق بشيء من التفصيل، ونتبع ذلك بتحديد معنى البدعة الشرعية وبيان حكمها. أولا - القائلون بالتقسيم: يرى هذا الفريق أن البدعة: هي كل ما أحدث في الدين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء أكان محمودا أم مذموما، وعلى ذلك فالبدعة عندهم تنقسم إلى محمودة ومذمومة، لكن منهم من اكتفى بذلك، ومنهم من قال بجريان الأحكام الخمسة عليها. فممن ذهب إلى أنها تنقسم إلى محمودة ومذمومة الإمام الشافعي - رحمه الله - حيث قال: (البدعة بدعتان، بدعة محمودة وبدعة مذمومة، فما وافق السنة

فهو محمود وما خالف السنة فهو مذموم) (¬1) . واحتج بقول عمر - رضي الله عنه - في قيام رمضان (نعمت البدعة هي) (¬2) . وروى عن الشافعي قول آخر يفسر ما سبق. فأخرج البيهقي في مناقب الشافعي بسنده عنه قال: (المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهي البدعة الضلالة. والثانية ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا (¬3) فهي محدثة غير مذمومة) (¬4) . وقال ابن الجوزي: (البدعة عبارة - عن فعل لم يكن فابتدع، والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة وتوجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان. فإن ابتدع شيء لا يخالف الشريعة ولا يوجب التعاطي عليها فقد كان جمهور السلف يكرهونه وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزا حفظا للأصل وهو الاتباع. . . وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا يتعاطى عليها فلم يروا بفعلها بأسا) (¬5) واستشهد بقول عمر: " نعمت البدعة هذه ". ثم قال: (ومتى أسند المحدث إلى أصل مشروع لم يذم، فأما إذا كانت البدعة كالمتمم فقد اعتقد نقص الشريعة، وإن كانت مضادة فهي أعظم) (¬6) . وإذا كان الشافعي ومن تابعه قد اكتفى بتقسيم البدعة إلى قسمين: بدعة ¬

(¬1) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ط 3، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، 1400هـ 9 / 113. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب التراويح. باب فضل من قام رمضان، 3 / 58. (¬3) أي لا يخالف هذا الحادث الكتاب أو السنة أو الأثر أو الإجماع. (¬4) مناقب الشافعي للبيهقي، تحقيق السيد أحمد صقر، ط1، دار التراث، القاهرة، 1 / 468 - 469. (¬5) تلبيس إبليس لابن الجوزي، طبع المطبعة المنيرية، نشر دار الندوة الجديدة، بيروت، ص16 - 17. (¬6) تلبيس إبليس لابن الجوزي، طبع المطبعة المنيرية، نشر دار الندوة الجديدة، بيروت، ص16 - 17.

محمودة أو مستحسنة، وبدعة مذمومة. فإن العز بن عبد السلام (¬1) ومن حذا حذوه مالوا إلى التفصيل. فالبدعة عندهم تجرى عليها الأحكام الخمسة. قال العز بن عبد السلام: (البدعة: فعل ما لم يعهد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي منقسمة إلى: بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة) (¬2) . وبمثل هذا قسمهما القرافي (¬3) (¬4) . والنووي (¬5) وابن حجر (¬6) في أحد المواضع في الفتح. ¬

(¬1) هو عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي الدمشقي المقلب بسلطان العلماء (577 - 660هـ) . فقيه. شافعي. بلغ رتبة الاجتهاد. من تصانيفه: الإلمام في أدلة الأحكام، قواعد الشريعة، بداية السول في تفصيل الرسول. وغيرها. انظر: طبقات الشافعية الكبرى، 8 / 209 - 277. (¬2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز بن عبد السلام، طبع مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، 2 / 204. (¬3) هو أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس عبد الرحمن الصنهاجي (. . . - 674 هـ) أصله من صنهاجة بالمغرب وهو مصري المولد والمنشأ والوفاة. فقيه مالكي. أصولي له مؤلفات كثيرة منها: أنوار البروق في أنواء الفروق، والذخيرة في فقه المالكية، وشرح تنقيح الفصول في الأصول، والأجوبة الفاخرة في الرد على الأسئلة الفاجرة. انظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب. برهان الدين إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون اليعمري المالكي. طبع دار الكتب العلمية، بيروت، ص62 وما بعدها. (¬4) انظر: الفروق للقرافي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 4 / 202 وما بعدها. (¬5) تهذيب الأسماء واللغات للنووي، طبع المطبعة المنيرية، مصر، القسم الثاني، 1 / 22 - 23. (¬6) فتح الباري، 4 / 253.

ثانيا - القائلون بذم البدعة مطلقا: يرى هذا الفريق أن البدعة تطلق على كل ما أحدث في الدين مما لا أصل له في الشرع وأن البدعة مذمومة مطلقا. وقد ذهب إلى هذا جمع من الأئمة، والعلماء منهم الإمام مالك - رحمه الله - حيث قال: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] (¬1) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا) (¬2) وقال الإمام أحمد - رحمه الله: (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة ضلالة) (¬3) وممن سار على هذا النهج ابن وضاح (¬4) في كتابه البدع والنهي عنها حيث عقد بابا بعنوان كل محدثة بدعة وساق الآثار التي تؤكد ذلك وتؤيده (¬5) . ويعرف ابن تيميه البدعة بقوله: (إن البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب) (¬6) . ¬

(¬1) سورة المائدة، آية (3) . (¬2) الاعتصام، 1 / 49. (¬3) طبقات الحنابلة لأبي يعلى الفراء. نشر دار المعرفة بيروت، 1 / 241. (¬4) هو أبو عبد الله محمد بن وضاح بن بزيغ القرطبي، (199 - 286هـ) ، عالم محدث. فقيه. رحل إلى المشرق فحصل علما كثيرا ثم رجع إلى الأندلس فنشره فانتفع به خلق كثير. من تصانيفه. مكنون السر ومستخرج العلم في الفقه، القطعان في الحديث. انظر: سير أعلام النبلاء، 13 / 445 - 446، ولسان الميزان، 5 / 416. (¬5) انظر: البدع والنهي عنها لمحمد بن وضاح القرطبي، تحقيق محمد أحمد دهمان، ط 2، دار البصائر، دمشق، 1400هـ ص23 وما بعدها. (¬6) مجموع الفتاوى، 4 / 107 - 108.

ويقول ابن رجب: (والمراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة لغة) (¬1) . وإلى هذا ذهب الحافظ ابن حجر عند شرحه لقول ابن مسعود - رضي الله عنه: «وشر الأمور محدثاتها» (¬2) حيث قال: (والمراد بقوله: كل بدعة ضلالة: ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام) (¬3) . ولعل أحسن من فصل القول في هذا المجال الإمام الشاطبي - رحمه الله - حيث عرف البدعة بتعريفين: أولهما: أنها (طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى. وهذا التعريف على رأى من لا يدخل العادات في معنى البدعة وإنما يخصها بالعبادات. ثانيهما: البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية) وهذا على رأى من أدخل العادات في مسمى البدع. وليس هذا التعريف داخلا معنا لأن الصحيح أن البدعة لا تدخل العادات إلا ما قصد به التعبد منها. ثم أخذ الشاطبي يشرح ألفاظ التعريف، ويتلخص ما قاله فيما يأتي: الطريقة والطريق: ما رسم للسلوك عليه. في الدين: قيد يخرج الاختراع في أمور الدنيا. ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم، ص 233. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 9 / 114. (¬3) فتح الباري، 13 / 253، 254.

وإنما قيدت بالدين لأنها فيه تخترع، وإليه يضيفها صاحبها، ولو كانت الطريقة مخترعة في الدنيا لم تسم بدعة، وذلك كإنشاء المدن الحديثة واختراع الآلات التي لم تكن موجودة من قبل. مخترعة: أي لا أصل لها في الشريعة، ولا تعلق لها بها. لأن البدعة تتميز بأنها خارجة عما رسمه الشرع. وهذا القيد يخرج ما حدث وله أصل في الشرع كتصنيف العلوم الشرعية مثلا، فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول، فأصولها موجودة في الشرع، وهي مستمدة من قاعدة المصالح المرسلة، ولا ينبغي أن تسمى بدعة أصلا، ومن سمى مثل ذلك بدعة فإما أن يريد المفهوم اللغوي لها، - كما سمى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جمع الناس على قيام رمضان بدعة - وإما من جهله بمواقع السنة والبدعة. تضاهي الشرعية: أي أن البدعة تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون كذلك بل هي مضادة لها من أوجه متعددة منها: - وضع الحدود، وذلك كالناذر للصيام قائما لا يقصد، ضاحيا لا يستظل، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف. - ومنها التزام الكيفيات والهيئات المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدا، وما أشبه ذلك. - ومنها التزام العبادات المعينة في أوقات معينة، لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، وذلك كالتزام صيام يوم النصف من شعبان، وقيام ليلته، وكون البدعة تضاهي الأمور المشروعة وصف لازم لها، وإلا لكانت من باب الأفعال العادية. ويبين ذلك، أن صاحب البدعة يخترعها ليضاهي بها السنة، سواء لبس بها صاحبها على الناس، أو كانت مما التبست عليه - هو - بالسنة ويؤكد هذا

انتصار المبتدع لبدعته بأمور تخيل أنها مشروعة، ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في أهل الخير. - يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله، تعالى، هذا القصد. قيد لإخراج العادات التي لا يقصد بها التعبد من البدع، وبيان أن ما ابتدع من الأمور الزائدة على المشروع، والمنسوبة للشرع، مقصود بها المبالغة في التعبد، أو تجديد النشاط إلى العبادة (¬1) . وعرفها الشمني بأنها (¬2) (ما أحدث على خلاف الحق المتلقي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من علم أو عمل أو حال بنوع شبهة أو استحسان، وجعل دينا قويما وصراطا مستقيما) (¬3) والمراد بالعلم: الاعتقاد، وبالحال: هيئة العمل (¬4) . أدلة القائلين بالتقسيم: وبعد أن استعرضنا تعريف كل من الفريقين للبدعة أنتقل إلى عرض أدلة كل فريق ومناقشتها حتى يتسنى لنا تحديد معنى البدعة في الشرع. وسأبدأ بالفريق الأول: وهم القائلون بالتقسيم: إن مراد هذا الفريق باستدلالهم بهذه الأدلة هو بيان أنها تخصص العموم الوارد ¬

(¬1) انظر: الاعتصام، 1 / 37 - 42. (¬2) هو أحمد بن محمد بن محمد الشمني، نسبة لمزرعة في بلاد المغرب. المصري (801 - 872 هـ) . فقيه. محدث. لغوى. من تصانيفه: المنصف من الكلام على مغني ابن هشام في النحو، ومزيل الخفا عن ألفاظ الشفا، تعليقا على الشفا للقاضي عياض، كمال الدراية في شرح النقاية في الفقه الحنفي. انظر: شذرت الذهب، 7 / 313، والأعلام، 1 / 231. (¬3) حكاه الشيخ على محفوظ في كتابه: الإبداع في مضار الابتداع، ط 7، دار الاعتصام، القاهرة، ص 26. (¬4) المصدر نفسه، ص 26.

في ذم البدعة، وأنها ليست كلها ضلالة، بل منها المحمود والمذموم، وقد استدلوا بعدة أدلة منها: - قول عمر رضي الله عنه - عن جمع الناس على قيام رمضان -: «نعمت البدعة هذه» (¬1) ووجه الاستدلال بهذا القول: أن عمر قد سمى ذلك الفعل بدعة، ووصفها بما يفيد حسنها فدل ذلك على أن هناك بدعة حسنة في الشرع. - ومنها ما أخرجه مسلم بسنده عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيء» (¬2) . قال النووي: (. . . . وفي هذا الحديث تخصيص قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» (¬3) وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة) (¬4) . ويشرح الشاطبي وجه استدلالهم بهذا الحديث: بأنه صريح في أن من سن سنة خير فذلك خير، وأن سن هنا بمعنى اخترع وابتدع لكون الاستنان قد نسب إلى المكلف دون الشارع، ولو كان المراد من عمل سنة ثابتة في الشرع لما قال: «من سن» . ويدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن ¬

(¬1) سبق تخريجه ص 220. (¬2) صحيح مسلم. كتاب الزكاة. باب الحث على الصدقة، 2 / 704 - 705. (¬3) سبق تخريجه ص 121. (¬4) صحيح مسلم بشرح النووي، 7 / 104.

آدم الأول كفل منها - من دمها - لأنه أول من سن القتل» (¬1) فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «سن» بمعنى اخترع. لأنه أول من اخترع القتل بين الناس ولم يكن موجودا. ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - «من سن في الإسلام سنة حسنة» . أي اخترعها من نفسه وأحدثها. لكن بشرط أن تكون حسنة حتى يكون له الأجر. إذا فليس المراد: من عمل سنة ثابتة، ولو كان المراد كذلك لقال من عمل بسنتي، أو بسنة من سنتي، أو من أحيا سنة من سنتي (¬2) . ومن الأدلة ما أخرجه الترمذي بسنده عن بلال بن الحارث: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال بن الحارث: (اعلم: قلت: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل أثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا) » (¬3) . قال الشاطبي: فقوله «من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدى» ، واضح في العمل بما ثبت أنه سنة. . . بخلاف قوله: من سن كذا، فإنه ظاهر في الاختراع أولا من غير أن يكون ثابتا في السنة. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - لبلال بن الحارث «ومن ابتدع بدعة ضلالة» فظاهر أن البدعة لا تذم بإطلاق. بل بشرط أن تكون ضلالة، وأن تكون لا يرضاها الله ورسوله، فاقتضى هذا كله أن البدعة إذا لم تكن كذلك لم يلحقها ذم، ولا تبع صاحبها وزر، فعادت إلى أنها سنة حسنة، ودخلت تحت الوعد بالأجر) (¬4) . ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام. باب إثم من دعا إلى ضلالة أو سن سنة سيئة، 9 / 127. (¬2) انظر: الاعتصام، 1 / 178 - 179. (¬3) سنن الترمذي، كتاب العلم. باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتاب البدعة 4 / 150 - 151، وسيأتي الكلام عليه. (¬4) الاعتصام، 1 / 179.

ومما استدلوا به أيضا: أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قد استحسنوا أشياء لم يرد بها نص معين في كتاب ولا سنة مما رأوه حسنا وأجمعوا عليه، ولا تجتمع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، وإنما يجتمعون على هدى وعلى ما هو حسن. مثال ذلك. أنهم أجمعوا على جمع القرآن وكتابته في المصحف وعلى جمع الناس على المصاحف العثمانية واطراح ما سواها. ثم اقتفى الناس أثرهم في ذلك الرأي الحسن، فجمعوا العلم ودونوه وكتبوه. ومثل ذلك قتل عمر الجماعة بالواحد، وتضمين الصناع، وكل هذه محدثات لم تكن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد استحسنها الصحابة ومن بعدهم. فدل ذلك على أن البدع تنقسم إلى حسنة وقبيحة (¬1) وربما استدلوا (¬2) بالحديث الموقوف على ابن مسعود - رضي الله عنه - وهو قوله: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» (¬3) . قال الشيخ علي محفوظ: (ووجه الشبهة فيه ظاهر وهو أنه قال: " ما رآه المسلمون والظاهر ما رأوه بعقولهم فرجع التحسين إليهم فهم المخترعون، ولو كان التحسين بالدليل لما نسب الرؤية إلى المسلمين، فدل على أن البدعة فيها الحسن والقبيح ") (¬4) . وبناء على ما تقدم فإن هذا الفريق يرى: - أن البدعة تطلق على كل ما أحدث في الدين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء كان محمودا أو مذموما. ¬

(¬1) انظر: الاعتصام، 1 / 179 - 181. (¬2) انظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ملا على القاري. بمباي الهند، أبناء غلام رسول السرتي، 1 / 179. (¬3) سبق تخريجه، ص94. (¬4) الإبداع في مضار الابتداع، ص128.

- أن كل ما ورد في ذم البدع. مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - «كل بدعة ضلالة» عام مخصوص. - أن البدعة تدور عليها الأحكام الخمسة. أدلة القائلين بذم البدعة: تتركز أدلة هذا الفريق حول إثبات أن البدعة سيئة ومذمومة مطلقا، وقد استدلوا على ذلك بأدلة من القرآن والسنة، فمن القرآن قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] (¬1) فهذه الآية تدل على أن الشريعة قد جاءت كاملة فلا تحتاج إلى زيادة ولا نقصان. وحاصل كلام المبتدع وحاله، أن الشريعة لم تتم وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها في زعمه، ولو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولم يستدرك عليها، ولاشك أن من اعتقد هذا فهو ضال عن الصراط المستقيم (¬2) . قال الإمام مالك: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة، لأن الله يقول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] (¬3) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا) (¬4) . ومن الأدلة قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] (¬5) . فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة، والسبل هي ¬

(¬1) سورة المائدة، آية (3) . (¬2) الاعتصام، 1 / 48-49. (¬3) سورة المائدة، آية (3) . (¬4) المصدر نفسه، ص49. (¬5) سورة الأنعام، آية (153) .

سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم، وهم أهل البدع. وليس المراد بالسبل: المعاصي، لأن المعاصي - من حيث هي - لم يضعها أحد طريقا تسلك دائما للتعبد. وإنما هذا الوصف خاص بالبدع والمحدثات. فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: « (خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا بيده ثم قال هذا سبيل الله مستقيما قال ثم خط عن يمينه وشماله ثم قال هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153] » (¬1) . قال مجاهد في قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153] قال: البدع والشبهات (¬2) ومن الآيات التي استدلوا بها قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9] (¬3) فالسبيل القصد هو طريق الحق، وما سواه جائر عن الحق، أي منحرف عنه إلى طرق البدع والضلالات والمعاصي. وعن مجاهد: {قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9] أي المقتصد منها بين الغلو والتقصير وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر، وكلاهما من أوصاف البدع. ومن الأدلة الواردة في القرآن مما يدل على ذم المبتدعين قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] (¬4) فهذه الآية تبين حال الزائغين عن اتباع الحق، وذلك باتباعهم لما تشابه من الكتاب. بقصد الفتنة في الدين وما ذاك إلا بسبب زيغ في قلوبهم وفساد في أفهامهم. وهذا صنيع أهل البدع لأنهم يتركون محكم الكتاب ويتمسكون بمتشابهه، ¬

(¬1) المسند، 1 / 465، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 2 / 239. (¬2) تفسير الطبري، 12 / 229. (¬3) سورة النحل، آية (9) . (¬4) سورة آل عمران، آية (7) .

وقد ورد في الحديث ما يفسر الآية ويحذر من المبتدعة وأشباههم فقد أخرج البخاري بسنده «عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] إلى قوله: {أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) » (¬1) . وأخرج الآجري بسنده عن طاووس قال: (ذكر لابن عباس - رضي الله عنهما الخوارج - وما يصيبهم عند قراءة القرآن؟ (¬2) فقال - رضي الله تعالى عنه: " يؤمنون بمحكمه ويضلون عن متشابهه. وما يعلم تأويله إلا الله. والراسخون في العلم يقولون: آمنا به ") (¬3) ولا شك أن الخوارج كانوا أوائل المبتدعة، وكانت تلك سمتهم وسمة من أتى بعدهم من أهل البدع على اختلاف بدعهم (¬4) وهي التمسك بالمتشابه وترك المحكم لزيغ في القلب. وهذه الآيات قد تضمنت ذم الابتداع وأهله بطريق الإجمال ولم تخصص نوعا من البدع أو المحدثات دون نوع أو قسما دون قسم بل هي عامة، يستفاد منها ذم البدع مطلقا. وبعد أن استعرضنا بعض الآيات التي تشير إلى ذم البدعة وأهلها ننتقل إلى السنة لاستعراض الأحاديث التي استدل بها القائلون بذم البدع مطلقا. فمن ذلك ما أخرجه أحمد وغيره عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. فقال: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا، فإنه ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) 6 / 42. (¬2) أي ما يعتريهم من غلبة البكاء عند قراءة القرآن. والله أعلم. (¬3) الشريعة ص27. (¬4) انظر الاعتصام، 1 / 56 - 57.

من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» (¬1) فهذا الحديث نص في أن البدع كلها ضلالة بلا استثناء في ذلك ولا يحتمل تخصيصا يخرج بعض البدع عن هذا الوصف، وذلك لورود التعميم في أحاديث أخرى، ولم يرد في حديث منها ما يخصص ذلك العموم. ومن الأدلة ما أخرجه مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم. ويقول: " بعثت أنا والساعة كهاتين " ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد. فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» (¬2) . قال الحافظ ابن حجر: (قوله: «كل بدعة ضلالة» قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها، أما منطوقها، فكأن يقال: حكم كذا بدعة، وكل بدعة ضلالة، فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدى. فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة، صحت المقدمتان وأنتجتا المطلوب) (¬3) . ومن الأدلة أيضا ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله تعالى عنها: قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» . وفي رواية لمسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬4) فهذا الحديث يدل على أن من أحدث في الدين شيئا وليس أصل في الشرع يدل عليه فهو باطل ومردود على صاحبه. ¬

(¬1) سبق تخريجه، ص 121. (¬2) صحيح مسلم. كتاب الجمعة. باب تخفيف الصلاة والخطبة 2 / 592. (¬3) فتح الباري، 13 / 267 - 268. (¬4) سبق تخريجه، ص 70.

قال النووي عند شرحه لهذا الحديث بروايتيه: (. . . وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات. وفي الرواية الثانية زيادة، وهي أنه قد يعاند بعض الفاعلين في بدعة سبق إليها فإذا احتج عليه بالرواية الأولى يقول: أنا ما أحدثت شيئا فيحتج عليه بالثانية التي فيها التصريح برد كل المحدثات، سواء أحدثها الفاعل أو سبق بإحداثها. . وهذا الحديث مما ينبغي حفظه، واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به) (¬1) . ومع ما سبق. فالحديث يعتبر ميزانا توزن به الأعمال هل هي موافقة للشرع أم لا؟ قال الحافظ ابن رجب: (وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، كما أن حديث: «إنما الأعمال بالنيات» ميزان للأعمال في باطنها، فهذا ميزان للأعمال في ظاهرها فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله - تعالى -فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء، ثم قال: " فهذا الحديث بمنطوقه يدل على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود، والمراد بأمره هاهنا: دينه وشرعه كالمراد بقوله في الرواية الأخرى «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» . فالمعنى إذا أن كل من كان عمله خارجا عن الشرع، ليس متقيدا بالشرع فهو مردود. وقوله: «ليس عليه أمرنا» إشارة إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة فتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشريعة موافقا لها فهو مقبول، ¬

(¬1) صحيح مسلم بشرح النووي، 12 / 16.

ومن كان خارجا عن ذلك فهو مردود ") (¬1) . ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - (. . . . «فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬2) فهذا الحديث فيه تحذير ووعيد شديد لمن رغب عن السنة وعدل عنها إلى غيرها من الأهواء والبدع. وبناء على ما سبق فإن هذا الفريق من العلماء يرى: - أن جميع ما ورد في ذم البدع من نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - «كل بدعة ضلالة» عام باق على عمومه. - أن البدعة لا تكون إلا مذمومة، وإن استحسنها صاحبها. - إن البدعة تطلق على ما أحدث في الدين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما لا دليل عليه في الشرع بطريق خاص ولا عام. - أن البدعة المقصودة بالذم شرعا لا تقبل التقسيم. أما التي قسمها العلماء فهي البدعة اللغوية وهي أعم وأشمل من البدعة الشرعية. وبناء على ذلك فقد ناقشوا القائلين بالتقسيم في دعواهم. مناقشة القائلين بالتقسيم: سبق أن ذكرنا أن أصحاب هذا الاتجاه قد انقسموا إلى فريقين: - ففريق يرى أن البدعة تنقسم إلى محمودة ومذمومة واكتفى بذلك. ويمثله الإمام الشافعي ومن تابعه. - والفريق الثاني زاد على ذلك بالقول بتقسيمها إلى خمسة أقسام وكان ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم، ص52. (¬2) سبق تخريجه، ص 122.

هذا الفريق أكثر تفصيلا وتوضيحا. ويمثله العز بن عبد السلام وتلميذه القرافي ومن تابعهما. أما الإمام الشافعي فقد ورد عنه قولان يفسر أحدهما الآخر. وحاصلهما أنه يرى أن البدعة المذمومة ما ليس لها أصل في الشريعة، وأن البدعة المحمودة ما أحدثت ولها أصل في الشريعة. وقد نبه الحافظ ابن رجب على ذلك فقال: (وقد روى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن إبراهيم بن الجنيد قال: سمعت الشافعي يقول: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم. واحتج بقول عمر - رضي الله عنه: " نعمت البدعة هي ". ومراد الشافعي - رحمه الله - ما ذكرناه من قبل أن أصل البدعة المذمومة ما ليس لها أصل في الشريعة ترجع إليه وهي البدعة في إطلاق الشرع. وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة: يعني ما كان لها أصل من السنة ترجع إليه، وإنما هي بدعة لغة لا شرعا لموافقتها السنة. وقد روى عن الشافعي كلام آخر يفسر هذا، أنه قال: المحدثات ضربان: ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة، وما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا (¬1) فهذه محدثة غير مذمومة) (¬2) . أما القائلون بالتقسيم فقد سبق إيراد أدلتهم والآن أبدأ بمناقشتها. - أولا: استدلالهم بقول عمر رضي الله عنه: " نعمت البدعة هذه " وأن عمر قد سمى جمع الناس على قيام رمضان بدعة واستحسنها. ليس فيه دليل على ما ذهبوا إليه من وجود البدعة الحسنة شرعا. ذلك أن عمر - رضي الله عنه - لم يرد ذلك وإنما أراد المفهوم اللغوي لها وهو أوسع من المفهوم ¬

(¬1) مقصوده والله أعلم: ألا يخالف ذلك المحدث الكتاب أو السنة والأثر أو الإجماع. (¬2) جامع العلوم والحكم، ص 234 - 235.

الشرعي. لأنها تطلق في اللغة على الحادث محمودا كان أو مذموما بخلاف الشرع فلا تطلق إلا على الحادث المذموم. أما ما فعله عمر - رضي الله عنه - فقد كان سنة من كل وجه، ويوضح ذلك: أن قيام رمضان سنة وأنه - صلى الله عليه وسلم - قد حث عليه ورغب فيه فقال: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» (¬1) ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - صلى القيام في المسجد جماعة بأصحابه عدة ليال فلما كثر الناس في المسجد امتنع من الخروج إليهم خشية أن تفرض عليهم. فظل الأمر على ذلك حتى توفاه الله. ويبين ذلك الحديث الذي أخرجه البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم، فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكن خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها. فتوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر ذلك» (¬2) . وعلى ذلك فالجماعة في القيام سنة وليست بدعة، فلما توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزال المانع بانقطاع الوحي بقيت على سنيتها وظل الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - وصدرا من خلافة عمر، رضي الله عنه، حتى رأى عمر أن يجمع الناس على القيام وراء إمام واحد بدلا من صلاتهم في المسجد أوزاعا متفرقين. فعن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: (خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلى ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب صلاة التراويح. باب فضل من قام رمضان، 3 / 58. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب صلاة التراويح. باب فضل من قام رمضان، 3 / 58 - 59. ومسلم في كتاب صلاة المسافرين. باب الترغيب في قيام رمضان، 1 / 524.

الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلى بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون - يريد آخر الليل - وكان الناس يقومون أوله) (¬1) . ثم أجمع الصحابة على صحة ما فعله عمر وأقروه فصار إجماعهم حجة. هذا بالإضافة إلى أنه سنة خليفة راشد أمرنا باتباعها لما روى الترمذي بسنده عن العرباض بن سارية أنه قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة. الحديث، وفيه: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (¬2) . وعلى ذلك فالجماعة في قيام رمضان سنة وليست بدعة، وإنما سماها عمر - رضي الله عنه - بذلك إرادة منه للمفهوم اللغوي، لا الشرعي. ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تركها لمانع - وهو خوف الافتراض - قد زال بوفاته واتفق أنها لم تصل جماعة في زمان أبي بكر، رضي الله عنه، إما لأنه رأى أن قيام الناس آخر الليل أفضل من جمعهم على إمام أول الليل، وإما لضيق زمانه عن النظر في هذه الفروع لاشتغاله بحروب الردة وغير ذلك (¬3) . فلما تمهد الإسلام في زمان عمر - رضي الله عنه - رأى جمعهم على إمام واحد وكان له الفضل في إحياء هذه السنة. وعلى ذلك فاستدلال القائلين بالتقسيم بهذا القول لا يؤدى إلى ما ذهبوا إليه من وجود البدعة الحسنة شرعا. ولو افترضنا صحة استدلالهم بهذا فليس قول الصحابي حجة إذا خالف الحديث. كيف وقد أتت الأحاديث تشهد بالضلالة لكل بدعة. ¬

(¬1) سبق تخريجه، ص 220. (¬2) سبق تخريجه، ص 121. (¬3) انظر: كتاب الحوادث والبدع. لأبي بكر محمد بن الوليد الطرطوشي تحقيق محمد الطالبي، تونس، 1959 م.

يقول ابن تيمية: (وأما قول عمر: " نعمت البدعة هذه " فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكما بقول عمر الذي لم يخالف فيه، لقالوا: " قول الصاحب ليس بحجة " فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة فلا يعتقده إذا خالف الحديث فعلى التقديرين: لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب. . . . . ثم نقول: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق، وأما البدعة الشرعية فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي) (¬1) وأما استدلالهم بحديث: «من سن في الإسلام سنة حسنة» - وأن سن بمعنى اخترع وابتدع - على وجود البدعة الحسنة شرعا. فالجواب: أنه ليس المراد بالاستنان هنا الاختراع، وإنما المراد به العمل بما ثبت في السنة النبوية، أو إحياء أمر مشروع غفل عنه الناس أو تركوه، وبيان ذلك من وجهين: - الأول: أن سبب ورود الحديث يفسر المراد بذلك. ففي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: «كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر النهار. قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار (¬2) أو العباء، متقلدي السيوف عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج. فأمر بلال فأذن وأقام. فصلى ثم خطب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] إلى ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم، 2 / 589 - 590. (¬2) النمار: جمع نمرة: وهي كساء من صوف مخطط، ومعنى (مجتابيها) أي لابسيها قد خرقوها في رؤوسهم. والجواب: القطع تمعر: أي تغير. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 7 / 102.

آخر الآية: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] (¬1) والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18] (¬2) تصدق رجل من ديناره من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة، قال فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس. حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل كأنه مذهبة (¬3) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده. من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده. من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (¬4) . فهذا الحديث يدل على أن المراد بالسنة الحسنة هو مثل ما فعله ذلك الصحابي، حيث أتى بتلك الصرة فانفتح بسببه باب الصدقة وتتابع الناس بعده فكان فاتحة الخير في هذا الإحسان. وإذا نظرنا إلى ما فعله هذا الصحابي نجد أن هذه الصدقة أمر مشروع وأنه لم يخترع شيئا جديدا. غاية الأمر أنه كان له الفضل في تنبيه الصحابة وتشجيعهم - بفعله - على الصدقة وعلى ذلك فالمراد بالسنة الحسنة في الحديث: هو العمل بالسنة، خاصة إذا غفل عنها الناس أو تركوها. ويتسع معنى السنة الحسنة ليشمل كل ما كان من أبواب الخير مما نبه إليه الشرع وحث عليه بشرط أن يكون على مقصود الشرع من الاتباع. - الوجه الثاني: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سن في الإسلام سنة حسنة» لا يمكن حمله على ¬

(¬1) سورة النساء، آية (1) . (¬2) سورة الحشر، آية (18) . (¬3) مذهبة: أي فضة مذهبة، والمراد به الصفاء والاستنارة. انظر: المصدر نفسه، 7 / 103. (¬4) رواه مسلم. كتاب الزكاة. باب الحث على الصدقة، 2 / 705.

الاختراع، لأن كون السنة حسنة أو سيئة لا يعرف إلا بموافقة الشرع أو بمخالفته فما وافق الشرع وأوامره فهو من السنة الحسنة، ويدل على ذلك معنى الحديث. وتطلق السنة السيئة على أمرين: - أحدهما: إحداث المعاصي واختراع الفجور كما في حديث ابن آدم الأول ولفظه: «ليس من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها - وربما قال سفيان: من دمها - لأنه سن القتل أولا» (¬1) . - والثاني: هو الإحداث في الدين والابتداع فيه. وأيضا لو صح حمل هذا الحديث على وجود البدعة الحسنة شرعا لكان معارضا بالأحاديث الدالة على عموم ذم البدعة، وإذا تعارضت أدلة العموم والتخصيص، لم يقبل ذلك التخصيص (¬2) . وأما حديث بلال بن الحارث: وفيه «ومن ابتدع بدعة ضلالة» . . . .) فهذا الحديث لا يحتج به ولا يصلح للاستدلال لأنه ضعيف. وسبب ضعفه أنه من رواية كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، وهو أحد المتروكين المجروحين ممن لا يعتد بحديثه (¬3) . وأما استدلالهم بقول ابن مسعود: (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن) فقد اعتاد كثير من الناس - المنتسبين للعلم منهم والجهال - الاحتجاج بهذا الأثر على أن في الدين بدعة حسنة، وأن الدليل على حسنها اعتياد الناس ¬

(¬1) سبق تخريجه ص 227. (¬2) انظر الاعتصام، 1 / 181 وما بعدها. (¬3) قال عنه أحمد بن حنبل: منكر الحديث ليس بشيء، وقال الآجري: سئل عنه أبو داود فقال: كان أحد الكذابين، ومثل ذاك قال الشافعي: وقال ابن حبان: روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا في الرواية عنه إلا على جهة التعجب، وقال ابن عبد البر: مجمع على ضعفه. قال الحافظ الذهبي: وأما الترمذي فقد صحح له بعض الأحاديث ولذلك لا يعتمد العلماء على تصحيحه. انظر الضعفاء والمجروحين لابن حبان، 2 / 221 - 222، وميزان الاعتدال للذهبي، 3 / 406 - 408، وتهذيب التهذيب، 8 / 421 - 423.

عليها - ويروون هذا الأثر على أنه مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا مع أن الحديث موقوف على ابن مسعود لا يصح رفعه بحال من الأحوال. وقبل الجواب أورده بنصه. عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجلعهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ) (¬1) . وهذا الحديث ليس فيه دليل على ما ذهبوا إليه وذلك: - لأن الحديث موقوف فلا يجوز أن يحتج به في معارضة النصوص القاطعة في أن: «كل بدعة ضلالة» كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من حديث. - وعلى التسليم بأنه حجة، فإنه لا يعارض تلك النصوص القاطعة في ذم البدعة لأمور: 1 - أن المراد بهذا الأثر إجماع الصحابة وعلى ذلك فاللام في " المسلمون " ليست للاستغراق، بل هي للعهد لأن سياق الأثر يدل على ذلك. كما وضحته زيادة الحاكم على هذا الأثر (¬2) . 2 - وعلى التسليم بأن المراد به غير الصحابة فلا يعني أن المقصود به عموم المسلمين عالمهم وجاهلهم بل المقصود به أهل الإجماع. ولو كان المقصود به عموم المسلمين عالمهم وجاهلهم لاستلزم الباطل لأمرين: - أحدهما: أنه سيناقض قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة» (¬3) . ¬

(¬1) سبق تخريجه، ص 94. (¬2) ونص هذه الزيادة: " وقد رأى الصحابة أن يستحلفوا أبا بكر رضي الله عنه ". (¬3) سبق تخريجه، ص121.

ووجه التناقض - أن الحديث الأول يفيد - في نظر المستدلين به - أن كل مسلم مصيب لأن الحديث قد حكم بالحسن على مذهبه. - الثاني: أنه يقتضي أن يكون العمل حسنا عند بعض الناس قبيحا عند البعض الآخر وهذا باطل (¬1) ولو كان المراد منه استحسان عامة المسلمين لكان هذا فتحا لباب الابتداع في الدين. وبعد هذا أرى أنه لا يمكن الاحتجاج بقول ابن مسعود على وجود البدعة الحسنة أو جوازها، وأما الاحتجاج به من المبتدعة وأشباههم إنما يكون لهوى في نفوسهم، وإلا فابن مسعود - رضي الله عنه - كان من أشد الصحابة تحذيرا من الابتداع ومقاومة للبدع. وأما استدلالهم بما فعله السلف وعملوا به مما لم يرد فيه نص صريح أو خاص من كتاب أو سنة ومثلوا لذلك بجمع القرآن وتصنيف العلوم وغير ذلك - على وجود البدعة الحسنة. والجواب عن ذلك: أن ما ذكروه واستدلوا به من فعل الصحابة ليس دليلا على ما ذهبوا إليه. لأن ما فعله الصحابة كان من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب أو من قبيل المصلحة المرسلة عند من يأخذ بها. وأما جمع أبي بكر - رضي الله عنه - للقرآن وجمع عثمان - رضي الله عنه - الناس على مصحف واحد فقد كان سببه الخوف من تفلت القرآن من الصدور وضياعه، فقام أبو بكر - رضي الله عنه - بجمعه بين الدفتين، ثم جاء عثمان - رضي الله عنه - فجمع الناس على مصحف واحد، وأمر بإحراق ما عداه من المصاحف خشية الاختلاف في القرآن ووقوع الفتنة بسبب ذلك. فهذا الأمر - أعني جمع القرآن - لم يرد فيه نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله على وجه الخصوص. لكن نصوص الشرع العامة تؤيده. ¬

(¬1) انظر: الإبداع، ص 143 - 144.

فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بكتابة القرآن، ولا فرق بين أن يكتب مفرقا أو مجموعا بل صار جمعه أصلح (¬1) وأيضا فجمع القرآن راجع إلى حفظ الشريعة، والأمر بحفظها معلوم، وراجع إلى سد الذريعة إلى وقوع الاختلاف في القرآن، وقد علم النهي عن الاختلاف في القرآن، بنصوص الشرع المستفيضة (¬2) . ويرى ابن تيمية أن جمع القرآن لم يخرج عن كونه سنة، لأن السنة - بمعناها الواسع - هي ما قام الدليل الشرعي على أنه طاعة لله ورسوله، سواء فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو فعل في زمانه أو لم يفعله في زمانه لعدم المقتضى حينئذ لفعله، أو وجود المانع منه، وإذا ثبت أنه أمر به أو استحبه فهو سنة، كما أمر بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وكما جمع الصحابة القرآن في المصحف، وداوموا على قيام رمضان في المسجد جماعة. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه» (¬3) فشرع كتابة القرآن، وعلى ذلك فكتابة القرآن مشروعة لكن لم يجمعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مصحف واحد لاحتمال نزول آيات أو سور أو احتمال نسخ لبعض آياته. فلأجل هذا الاحتمال لم يمكن جمعه في مصحف واحد حتى مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) فقام أبو بكر - رضي الله عنه - بجمعه وقام عثمان - رضي الله عنه - بجمع الناس على مصحف واحد، وأجمع الصحابة على ذلك فصار إجماعهم دليلا شرعيا. وأما تدوين السنة والعلوم الشرعية فهو من باب تبليغ الشريعة. وقد ورد الأمر بذلك والحث عليه. فقال - صلى الله عليه وسلم - «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» (¬5) وقال: «بلغوا عني ولو آية» (¬6) . ¬

(¬1) انظر: جامع العلوم والحكم، ص 234. (¬2) انظر: الاعتصام، 2 / 117. (¬3) صحيح مسلم. كتاب الزهد. باب التثبت في الحديث، وحكم كتابة العلم 4 / 2298 - 2299. (¬4) انظر مجموع الفتاوى، 21 / 317 - 318. (¬5) صحيح البخاري. كتاب العلم. باب ليبلغ الشاهد الغائب، 1 / 37. (¬6) سبق تخريجه، ص 130.

وثبت في السنة الأمر بكتابة العلم كقوله عليه الصلاة والسلام «اكتبوا لأبي شاة» (¬1) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه أنه - قال: «ليس أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر حديثا مني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب» (¬2) . فهذه الأحاديث تدل على أن كتابة العلم وتدوينه أمر مشروع. ويتأكد هذا إذا خيف عليه الضياع والدروس. وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: " أن انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاكتبه فإني خفت دروس العلم. وذهاب العلماء، ولا يقبل إلا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وليفشوا العلم، وليجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا " (¬3) . أما قتل عمر - رضي الله عنه - الجماعة بالواحد حينما اشتركوا في قتله، فإنه وإن لم يرد في الشرع دليل على خصوصه إلا أنه مستند إلى المصلحة التي أيدتها نصوص الشرع الدالة على وجوب حفظ الدماء والنفوس. ويبين وجه المصلحة في ذلك، أن القتيل معصوم الدم، وقد قتل عمدا، فإهدار دمه داع إلى هدم أصل القصاص، واتخاذ الاستعانة والاشتراك ذريعة إلى السعي بالقتل إذا علم أنه لا قصاص فيه، فإيقاع القصاص عليهم أمر تدعو إليه المصلحة الشرعية المعتبرة على وجه العموم وهي حفظ الدماء والنفوس، فلا يعد ذلك من قبيل الابتداع لموافقته مقاصد الشرع وأصوله المعتبرة (¬4) . ثم هو بعد ذلك فعل خليفة راشد أجمع عليه الصحابة. أما تضمين الصناع فقد قضى الخلفاء الراشدون بتضمينهم، وقال علي رضي الله عنه: (لا يصلح الناس إلا ذاك) . ووجه المصلحة في ذلك: أن الناس لهم حاجة إلى الصناع والغالب عليهم ¬

(¬1) صحيح البخاري. كتاب العلم. باب كتابة العلم، 1 / 39. (¬2) صحيح البخاري. كتاب العلم. باب كتابة العلم، 1 / 39. (¬3) سبق تخريجه، ص 130. (¬4) انظر الاعتصام، 2 / 125 - 126.

التفريط في عين الأمتعة، فلو لم يضمنوا مع شدة الحاجة إليهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: - إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق. - وإما أن يعملوا ولا يضمنوا بدعواهم الهلاك، فتضيع الأموال، وتتطرق الخيانة، فكانت المصلحة في التضمين، وهذا معنى قول علي: " لا يصلح الناس إلا ذاك " (¬1) . وبعد عرض أدلة الفريقين ومناقشة القائلين بالتقسيم تبين أن أدلة القائلين بذم البدع مطلقا أقوى وأسلم من المعارضة لأنه لم يرد في نصوص الشرع ما يعارضها وينقلها من العموم إلى الخصوص، ومن الإطلاق إلى التقييد، وأما ما ذكره الفريق الأول من أدلة فلا يتعارض مع أحاديث العموم الواردة في ذم البدعة. وذلك لأن البدعة هي ما أحدث في الدين وليس عليه دليل صحيح من الشرع لا خاص ولا عام. وما ذكروه من أمثلة فإما أن يكون داخلا في السنة بمعناها العام. وإما أن يكون وسيلة لتحقيق أمر مشروع كبناء المدارس لنشر العلم الشرعي، وتصنيف العلوم النافعة واستخدام وسائل العصر النافعة في نشر الدين والعلم وهذا كله يندرج تحت معنى السنة الحسنة. ثم إنه لا خلاف بين الفريقين في ذم البدع المذمومة وإنما الخلاف في تسمية السنة الحسنة بالبدعة الحسنة والاستدلال بما لا ينهض من الأدلة على وجود البدعة الحسنة. ولهذا الأمر خطورته لأن المبتدعة وأهل الأهواء يتذرعون بالخلاف في هذه المسألة ويعدون بدعهم المذمومة من قبيل البدعة الحسنة ويحاولون تخريجها على أصول الشرع. لأجل هذا كان تحرير محل النزاع في هذه المسألة مهما جدا. فالجميع متفقون على أن البدع المذمومة ضلالة. ¬

(¬1) انظر الاعتصام 2 / 119.

ومتفقون أيضا على أنه قد أحدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشياء حسنة، ولكنهم اختلفوا في تسميتها. فالفريق الأول سماها بدعة حسنة وحاول أن يثبت بالأدلة وجود البدعة الحسنة شرعا ليندرج تحتها كل ما أحدث من أمور الخير. وليس مقصدهم إلا ذلك. والفريق الثاني: قال بأنها ليست من البدع في شيء - لأن البدع كلها ضلالة لا حسن فيها - وإنما هي من قبيل السنة الحسنة. طالما أنها مندرجة تحت نصوص الشرع وقواعده العامة. فالخلاف لفظي، ومآل القولين واحد بين أهل العلم في هذه المسألة وإن كان الصحيح الذي لا مرية فيه هو أن البدعة كلها ضلالة، وأن ما سمي بدعة مما ثبت حسنه فاطلاق اسم البدعة عليه شرعا لا ينطبق ولا يسوغ، أما الخلاف الحقيقي فهو بين أهل العلم وأهل الأهواء حينما يريد المبتدعة تسويغ بدعهم المذمومة ونشرها استنادا إلى أنها بدعة حسنة، وأن فريقا من العلماء قالوا بوجود البدعة الحسنة فهنا يكون الخلاف الحقيقي، وتظهر خطورته في انتشار البدع الكثيرة بسبب الاعتماد على وجود مسمى البدعة الحسنة شرعا. فيجب المحافظة - والحالة هذه - على عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - «كل بدعة ضلالة» . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (. . . . إن المحافظة على عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» متعين، وأنه يجب العمل بعمومه، وأن من أخذ يصنف " البدع " إلى حسن وقبيح، ويجعل ذلك ذريعة إلى أن لا يحتج بالبدعة إلا على النهي فقد أخطأ، كما يفعل طائفة من المتفقهة، والمتكلمة والمتصوفة. والمتعبدة إذا نهوا عن " العبادات المبتدعة " " والكلام في التدين المبتدع "، ادعوا أن لا بدعة مكروهة إلا ما نهي، عنه، فيعود الحديث إلى أن يقال: " كل ما نهي عنه " أو " كل ما حرم "

أو " كل ما خالف نص النبوة فهو ضلالة " وهذا أوضح من أن يحتاج (في رده) إلى بيان، بل كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة) (¬1) . وقال أيضا: (. . . ومعلوم أن كل ما لم يسنه ولا استحبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من هؤلاء الذين يقتدي بهم المسلمون في دينهم، فإنه يكون من البدع المنكرات ولا يقول أحد في مثل هذا إنه بدعة حسنة. إذ البدعة الحسنة - عند من يقسم البدع إلى حسنة وسيئة - لا بد أن يستحبها أحد من أهل العلم الذين يقتدي بهم، ويقوم عليها دليل شرعي على استحبابها، وكذلك من يقول البدعة الشرعية كلها مذمومة لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث «كل بدعة ضلالة» ويقول: قول عمر في التراويح إن أسماها بدعة: باعتبار وضع اللغة. فالبدعة في الشرع عند هؤلاء ما لم يقم دليل شرعي على استحبابه. ومآل القولين واحد، إذ هم متفقون على أن ما لم يستحب أو يجب من الشرع فليس بواجب ولا مستحب، فمن اتخذ عملا من الأعمال عبادة ودينا وليس ذلك في الشريعة واجبا ولا مستحبا فهو ضال باتفاق المسلمين) (¬2) . وعلى ذلك فالبدعة المنصوص على ضلالتها في الشرع هي: - كل ما عارض السنة من الأقوال أو الأفعال أو العقائد. - كل أمر يتقرب به إلى الله، وقد نهى عنه الشرع. - كل أمر لا دليل عليه من الشرع، مما يلحق بالعبادات أو العقائد. - كل عبادة لم تأت كيفيتها إلا في حديث ضعيف أو موضوع. - كل عبادة أطلقها الشارع وقيدها الناس ببعض القيود مثل المكان والزمان أو الهيئة أو العدد. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى ابن تيمية، 10 / 370 - 371. (¬2) المصدر نفسه، 27 / 152.

- كل أمر لا يمكن أن يشرع إلا بنص أو توقيف ولا نص عليه فهو بدعة، إلا ما كان عن صحابي. - ما نص على استحبابه بعض العلماء سيما المتأخرين منهم ولا دليل عليه. - الغلو في العبادة (¬1) . ¬

(¬1) انظر أحكام الجنائز للشيخ الألباني، ص 242.

المبحث الثاني البدع التي ظهرت بدعوى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم

[المبحث الثاني البدع التي ظهرت بدعوى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم] [أولا ادعاء الصوفية أنهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة] المبحث الثاني البدع التي ظهرت بدعوى محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقد كان من أكبر آثار الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظهور البدع في العقائد والعبادات والتي أظهرها المبتدعة بدعوى حبهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - فجعلوا المحبة مبررا لهم في صنيعهم، كما حاولوا أن يلتمسوا لها من الشبه الباطلة ما يقوي بنيانها. وتنوعت ضروب البدع وتعددت، وكلما مضى الزمان ازدادت البدع حتى أصبحت عقيدة راسخة في النفوس. وسأتحدث في هذا المبحث عن نماذج من هذه البدع: أولا - ادعاء الصوفية أنهم يرون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقظة: أشرت في مبحث آثار الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض البدع الاعتقادية في الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك كالاعتقاد بالحقيقة المحمدية وتوابعها، وبينت بطلانها. ومما يعتقده الصوفية في هذا الباب إيمانهم بحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته حياة تامة لها كل خصائص الأحياء، ولذلك قالوا بأنهم يرونه يقظة ويجتمعون به فيرشدهم في طريقتهم، وأنه يحضر حضراتهم التي يقيمونها والموالد التي يعملونها. وقد أشار الغزالي إلى هذه الخرافة وجعلها من فضائل الصوفية وإن لم يصرح بها تصريحا واضحا فقال عنهم: (. . . . حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتهم ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة والأمثال

إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق) (¬1) . ولكن هذه الخرافة لم يصرح بها إلا المتأخرون استغلالا منهم لظروف الجهل التي ضربت عقول المسلمين فصاروا أسرى الخرافات والأساطير. وقد ذكر عمر بن سعيد (¬2) الفوتي في كتاب الرماح: (أن الأولياء يرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقظة، وأنه يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء، وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد الله أن يراه عبد رفع عنه الحجاب فيراه على هيئته التي كان هو عليها) (¬3) . وعلى هذه البدعة أسست طرق صوفية كثيرة سميت بالطرق المحمدية لأنها كما يزعمون أخذت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة في اليقظة وذلك كالطريقة التيجانية (¬4) والطريقة الأحمدية الإدريسية (¬5) وغيرها من الطرق. كما بنوا عليها حضراتهم وموالدهم. إذ تزعم الصوفية أن الحضرة التي يقيمونها سميت بذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحضرها إما بروحه وإما يقظة بجسده وروحه. ¬

(¬1) المنقذ من الضلال لأبي حامد الغزالي، مع أبحاث في التصوف للدكتور عبد الحليم محمود، ط 8، طبع دار الكتب الحديثة، مصر، 1394 هـ، ص 143. (¬2) عمر بن سعيد بن عثمان الفوتي السنغالي الأزهري التيجاني، ولد 1797 م، في بلاد (ديمار) الواقعة في السنغال. درس في الأزهر، وعاد إلى أفريقيا ليجاهد الوثنيين وينشر الإسلام، وتوفي 1864 م. من تصانيفه: كتاب رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم، وكتاب سيوف السعادة وغيرها. انظر التيجانبة، على بن محمد الدخيل الله، ط 1، دار طيبة، الرياض، ص 69 - 71. (¬3) مجلة البحوث الإسلامية، العدد 14، بحث التيجانية، ص 69 - 97 نقلا عن رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم لعمر بن سعيد الفوتي، 1 / 198 - 199. (¬4) التيجانية: نسبة إلى أبي العباس أحمد بن محمد بن المختار التيجاني المغربي، (1150 - 1230هـ) ، شيخ الطريقة التيجانية. كان فقيها مالكيا عالما بالأصول والفروع، ملما بالأدب، صوفيا. طريقته منتشرة في المغرب، والسودان، ومصر، وغيرها. انظر: الأعلام، 1 / 245. (¬5) نسبة إلى أحمد بن إدريس، وقد مرت ترجمته.

وكذلك المولد الذي يقرأونه يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحضره. خاصة عند ذكر ولادته - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك يقومون لمجيئه. ويقول قائلهم: جاء الرسول. حضر الرسول. وحتى يمعنوا في تضليل الناس بهذه البدعة يقولون بأن الرسول لا يراه إلا الكمل من العباد، أما القاصرون والمنكرون فهم محجوبون عن رؤيته - صلى الله عليه وسلم - واعتقادهم في هذا يشبه اعتقادهم في القطب الصوفي المغيب عن الأبصار الذي لا يجتمع به إلا كبار الأولياء على زعمهم، مثلما يعتقد الشيعة في الإمام الغائب المنتظر. يقول صاحب جواهر المعاني عن شيخه أحمد التيجاني: (قال رضي الله عنه: أخبرني سيد الوجود يقظة لا مناما. قال لي أنت من الآمنين، ومن رآك من الآمنين إن مات على الإيمان) (¬1) . وقال عنه أيضا: (. . . ثم أمرني بالرجوع - صلى الله عليه وسلم - إلى صلاة الفاتح لما أغلق، فلما أمرني بالرجوع إليها، سألته - صلى الله عليه وسلم - عن فضلها فأخبرني أولا بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانيا أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون، ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير، ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الأذكار) (¬2) . ويقول أحمد بن إدريس في إحدى صلواته: (. . . واجمع بيني وبينه، كما جمعت بين الروح والجسد ظاهرا وباطنا يقظة ومناما، واجعله يا رب روحا لذاتي من جميع الوجوه في الدنيا قبل الآخرة) (¬3) . ¬

(¬1) التيجانية، ص 127، نقلا عن جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التيجاني، لعلي بن حرازم الفاسي، 1 / 129. (¬2) المصدر نفسه، ص 116، نقلا عن أحزاب وأوراد التيجاني، ص12. (¬3) مجموعة أحزاب وأوراد ورسائل. لأحمد بن إدريس، ص187.

ويستدلون على ادعائهم رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة بالحديث الذي رواه البخاري ومسلم بسنديهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي» (¬1) . قالوا فالحديث صريح في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة بعد موته في الدنيا قبل الآخرة. قال ابن أبي جمرة (¬2) (اللفظ - أي لفظ الحديث - يعطي العموم، ومن يدعي الخصوص بغير مخصص منه - صلى الله عليه وسلم - فمتعسف) . وقال السيوطي بعد أن ذكر هذا الحديث وأيده ببعض النقول عن بعض العلماء: (فحصل من مجموع هذه النقول والأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حي بجسده وروحه وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض. . . . فإذا أراد الله رفع الحجاب عمن أراد إكراما برؤيته رآه على هيئته التي هو عليها لا مانع من ذلك ولا داعي للتخصيص برؤية المثال) (¬3) . وهذا الحديث لا يدل على ما ذهبوا إليه لأن الحديث يحتمل عدة معان ولذلك اختلف العلماء في معناه وحملوه على عدة محامل منها: - أن المراد به من آمن به في حياته ولم يره - لكونه حينئذ غائبا عنه ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب التعبير. باب من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، 9 / 42. (¬2) هو أبو محمد عبد الله بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي المالكي، (. . . - 699 هـ) مقريء - محدث. من تصانيفه: بهجة النفوس وتحليها بذكر مالها وما عليها، ومختصر صحيح البخاري. انظر: نيل الابتهاج بتطريز الديياج. لأبي العباس أحمد بن أحمد بن عمر المعروف ببابا التنبكتي. مطبوع بهامش الديباج المذهب لابن فرحون المالكي، طبع دار الكتب العلمية بيروت، 1979، 4 / 237. (¬3) الحاوي للفتاوي للسيوطي. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ط 3، مطبعة السعادة، مصر، 1959 م، 2 / 453.

فيكون بهذا مبشرا لكل من آمن به ولم يره. أنه لا بد أن يراه في اليقظة قبل موته - صلى الله عليه وسلم -. - أو أن معناه أنه سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها وخروجها على الوجه الحق. - وقيل أنه على التشبيه والتمثيل ويدل على ذلك الرواية الأخرى ولفظها: «فكأنما رآني في اليقظة» . - وقيل معناه أن يراه يقظة في الآخرة، وهذا بشارة لرائيه في النوم بأنه سيموت مسلما، لأنه لا يراه تلك الرؤيا الخاصة باعتبار القرب إلا من تحقق موته على الإسلام. ومعنى ذلك أنها رؤية خاصة في الآخرة على سبيل القرب منه - صلى الله عليه وسلم - وهذا الوجه والذي قبله أقرب الوجوه إلى الصواب. - وقيل معناه أنه يراه في المرآة التي كانت له - صلى الله عليه وسلم - إن أمكنه ذلك، وهو قول ابن أبي جمرة (¬1) قال ابن حجر في الفتح (¬2) (وهذا من أبعد المحامل) . - وقيل معناه أنه يراه حقيقة في الدنيا ويخاطبه (¬3) . وهذا الاحتمال الأخير باطل من وجهين: 1 - أنه مستحيل شرعا لمعارضته النصوص. كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] (¬4) وهو أيضا مخالف لإجماع الأمة التي أجمعت على وفاته - صلى الله عليه وسلم -. ولا يرد على ذلك أن الأنبياء أحياء في قبورهم، وما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - من أنه ترد عليه روحه حتى يرد السلام على من سلم عليه. فإن هذه الحياة حياة برزخية تختلف عن الحياة الدنيا في خصائصها وصفاتها ولذلك يقتصر في شأنها على ما ورد في النصوص، ولا تقاس على الحياة الدنيا بأي حال من الأحوال. ¬

(¬1) انظر بهجة النفوس، 4 / 238. (¬2) انظر فتح الباري، 12 / 385. (¬3) انظر فتح الباري، 12 / 385. (¬4) سورة الزمر، آية (30) .

ثم إن حمل هذا الحديث على رؤيته يقظة في الدنيا بعد وفاته يلزم منه ادعاء الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا مستحيل لأنه معصوم عن الكذب. وبيان ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة» فعلق الجواب على الشرط، ومن المعلوم أن جمعا كثيرا من سلف الأمة وخلفها قد رأوه في المنام ولم يذكر أحد منهم أنه رآه في اليقظة. وخبر الصادق - صلى الله عليه وسلم - لا يتخلف (¬1) . 2 - أنه مستحيل عقلا لأنه يلزم منه لوازم باطلة مثل أن يخرج ويراه الناس وأن يقود أمته في كل المواطن كما كان في حياته - صلى الله عليه وسلم - وأن يجاهد في سبيل الله وأن يفصل بين الأمة في المسائل المتنازع عليها والحوادث التي وقعت لأمته من بعده طالما أنه حي حياة تامة. إذ لو صح ذلك لكان حل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمشاكل أمته التي حدثت من بعده وجمع كلمتهم أولى من أن يظهر لأناس في مجالس بدعية جمعوا فيها من فنون الشرك والبدع ما نهي عنه وحذر منه. فكيف يحضر مجالسهم التي بهذه الصفة ويترك الصحابة والأمة من بعدهم يواجهون الفتن بأنفسهم وهم أحوج ما يكونون إليه لو كان حيا. قال القرطبي (¬2) فيما نقله الحافظ ابن حجر: (وهذا القول يدرك فساده بأوائل العقول ويلزم عليه ألا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين وأن يحيا الآن، ويخرج من قبره ويمشى في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى في قبره منه شيء فيزار مجرد القبر ويسلم ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، 12 / 385، والتيجانية، ص 130 وما بعدها. (¬2) هو أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم الأنصاري القرطبي المالكي ويعرف بابن المزين (578 - 656 هـ) . فقيه. محدث لغوي. وهو شيخ القرطبي المفسر. من تصانيفه: المفهم لما أشكل من شرح صحيح مسلم، واختصار صحيح البخاري، وغيرها. انظر: نفح الطيب 2 / 615، والديباج المذهب، - ص 68 - 70.

على غائب، لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره، وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل) (¬1) . ثم إن هذا الحديث لو صح دليلا على دعواهم لتطرقت إليه الاحتمالات السابقة والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، وأيضا فإن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته في اليقظة هي من الأمور الاعتقادية التي لا تثبت إلا بدليل صحيح سالم من المعارضة. وهذا الدليل محتمل لوجوه متعددة ومعارض بنصوص صريحة قطعية من القرآن والسنة تثبت موته - صلى الله عليه وسلم - (¬2) . قال ابن تيمية: (والضلال من أهل القبلة يرون من يعظمونه: " إما النبي - صلى الله عليه وسلم - وإما غيره من الأنبياء يقظة، ويخاطبهم ويخاطبونه. وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم. ومنهم من يخيل إليه أن الحجرة قد انشقت وخرج منها النبي - صلى الله عليه وسلم - وعانقه وصاحباه. ومنهم من يخيل إليه أنه رفع صوته بالسلام حتى وصل مسيرة أيام وإلى مكان بعيد. . . . وهذا موجود عند خلق كثير كما هو موجود عند النصارى والمشركين، لكن كثير من الناس يكذب بهذا، وكثير منهم إذا صدق به يظنه أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأى ذلك رآه لصلاحه ودينه. ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله الشيطان. ومن كان أقل علما قال له ما يعلم أنه مخالف للشريعة خلافا ظاهرا. ومن عنده علم منها لا يقول له ما يعلم أنه مخالف للشريعة ولا مفيدا فائدة في دينه، بل يضله عن بعض ما كان يعرفه، فإن هذا فعل الشياطين، وهو إن ظن أنه قد استفاد شيئا فالذي خسره من دينه أكثر. ولهذا لم يقل قط أحد من الصحابة: إن الخضر أتاه، ولا موسى ولا عيسى، ولا أنه سمع رد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وابن عمر ¬

(¬1) فتح الباري، 12 / 384. (¬2) انظر: التيجانية، ص131.

كان يسلم إذا قدم من سفر ولم يقل قط أنه يسمع الرد. وكذلك التابعون وتابعوهم، وإنما حدث هذا من بعض المتأخرين. . . ممن قل علمه بالتوحيد والسنة، فأضله الشيطان كما أضل النصارى في أمور لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) (¬1) . إذا تبين لنا هذا علمنا أن ما يدعيه الصوفية من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورؤيتهم له يقظة هو محض خرافة، يكذبها العقل والواقع والتاريخ وأن ما بنوه على أساس هذه الخرافة باطل، وأن هذا من تلاعب الشياطين بهم لأنهم ليسوا على الطريقة الشرعية في عقائدهم وعبادتهم، وإلا لو كان هذا صحيحا لحصل لأفضل الخلق بعده - صلى الله عليه وسلم - وهم صحابته، لكنهم لما كانوا على الصراط المستقيم لم تطمع الشياطين في إضلالهم بمثل هذه الخرافات والبدع (¬2) . وكما لبس الشيطان عليهم في ادعائهم لرؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة، فقد لبس على كثير منهم في الرؤيا المنامية مع تعمد كثير منهم الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام. فها هو ابن عربي إمام ملاحدة الصوفية المسمى عندهم بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر يزعم بأنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام وقد أعطاه كتاب فصوص الحكم ليخرج به على الناس، وهو كتاب مشحون بالكفر والكذب على الله ورسوله من أوله إلى آخره. فلم يكتف بالكذب في يقظته حتى كذب في منامه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغالب الصوفية يعتمدون على الرؤيا المنامية في إثبات بدعهم وخرافاتهم، فالصادق منهم لبس عليه الشيطان بأنه رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في الحقيقة لم يره، وأما الكذوب فأمره بين. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 27 / 391 - 393. (¬2) انظر في الرد على هذه الخرافة فتاوى الإمام محمد رشيد رضا، المجلد الخامس ص 1845، وما بعدها، جمع وتحقيق د. صلاح الدين المنجد. ويوسف خوري ط 1، دار الكتاب الجديد، ببيروت، 1971م.

ثانيا التوسل غير المشروع بالنبي صلى الله عليه وسلم

وقد ذكر العلماء أن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام لا يثبت بها حكم شرعي أو يُنْفَى، لأن الشريعة ثابتة بالأدلة الشرعية المعروفة الظاهرة، وليست الرؤيا دليلا من هذه الأدلة. ثم قالوا إن من رأى رؤيا فليعرض رؤياه على الشرع، فإن وافقت مقتضى الشرع فالحكم به، وتكون الرؤيا من قبيل الاستئناس. وإن كانت مخالفة لأمر شرعي فمحال وباطلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته، لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي المنامية، فمن رأى شيئا من ذلك فرؤياه غير صحيحة، إذ لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حقا لم يخبره بما يخالف الشرع، فمن أخبر بما يخالف الشرع واستند إلى رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وإجازته له فهو أحد رجلين: إما كذوب دجال كابن عربي وأمثاله، وإما صادق ولكن لبّس الشيطان عليه لقلة علمه فأوهمه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره (¬1) . [ثانيا التوسل غير المشروع بالنبي صلى الله عليه وسلم] [التوسل المشروع] ثانيا: - التوسل غير المشروع بالنبي صلى الله عليه وسلم: ومن البدع التي أحدثها الصوفية التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بذاته وبجاهه أو الإقسام على الله به. ويدخلون في هذا التوسل الاستغاثة به وطلب الحاجات منه. وهذه البدعة أخذت شكلًا علميًّا لدى الصوفية لكثرة ما كتب فيها من مؤلفات ورسائل. لكن جوهر الحقيقة هو أنهم يريدون أن يظهروا أمام الناس بمظهر المتمسك بأدلة الشرع، لذا نراهم يحرصون على جلب الأدلة وسوقها حتى يتسنى لهم إثبات مشروعية هذا النوع من التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن ثم يدخلون فيه كل ألوان الشرك كالاستغاثات والتضرع وطلب الحاجات وغير ذلك. ثم إن لهم من وراء ذلك مقصدا آخر وهو أنهم يجوزون الشرك بالأولياء والصالحين تحت اسم التوسل بهم، طالما ثبت التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا مانع أن يتعدى ذلك إلى الأولياء من بعده. وإذا سألتهم عن الدافع إلى ذلك قالوا ما هو إلا محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأولياء الله الصالحين وتعظيمهم ومعرفة حقوقهم إلخ. ¬

(¬1) انظر: المدخل لابن الحاج 4 / 286 وما بعدها.

وقبل الكلام على التوسل المبتدع بالرسول صلى الله عليه وسلم، أود أن أبين أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين: 1 - توسل مشروع. 2 - توسل غير مشروع. أما التوسل المشروع فينقسم إلى نوعين: - أحدهما التوسل بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته. وهذا فرض عين على كل مسلم في كل حال، ولا يسقط عن أحد من الخلق بعد قيام الحجة عليه، ولا يعذر فيه بأي عذر. وقد جعل الله الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته وسيلة إلى كل خير ورحمة في الدنيا والآخرة. ويقع التوسل بهذا النوع على وجهين: - فتارة يتوسل المسلم بالإيمان بالرسول وطاعته ومحبته إلى ثواب الله وجنته. - وتارة يتوسل بذلك في الدعاء فيقول مثلا: اللهم بإيماني بنبيك وطاعتي له وحبي إياه اغفر لي. - ثانيهما: التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وذلك في حياته. كما كان الصحابة يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم من طلب الدعاء منه، والاستغفار لهم، وطلب السقيا لهم. كما يكون في الآخرة بطلب الخلق منه أن يشفع لهم عند ربهم للقضاء بين العباد وهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون. وعليه فهذا النوع من التوسل إما أن يكون في حياته صلى الله عليه وسلم، وهو نافع لمن دعا له الرسول أو شفع له. وإما أن يكون في يوم القيامة حيث يتوسل الناس به ليشفع لهم عند ربهم. أما بعد مماته فلم يكن أحد يطلب منه الدعاء لا عند قبره، ولا في أي مكان آخر. ولم يفعل ذلك الصحابة والتابعون ولا من بعدهم. ولم ينقل عنهم بوجه صحيح أن ذلك جائز. وهذا النوع من التوسل يقع على وجهين أيضا:

التوسل غير المشروع

الأول: أن يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء والشفاعة فيدعو ويشفع كما كان الصحابة يطلبون منه فيدعو لهم. وكما يطلب الخلق منه ذلك في يوم القيامة. وأحاديث الاستسقاء وغيرها توضح ذلك أتم توضيح. - الثاني: أن يضيف إلى ذلك سؤال الله تعالى بشفاعة نبيه ودعائه وذلك كما في حديث الأعمى فإنه طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء والشفاعة، فدعا له الرسول وشفع فيه وأمره أن يدعو الله فيقول: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليه بنبيك محمد نبي الرحمة» الحديث. وفيه: «اللهم فشفعه في» فأمره أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه. وسيأتي مزيد شرح لهذا الحديث. وهذا النوع من التوسل لا يجوز إلا في حياته صلى الله عليه وسلم أما بعد وفاته فلا يجوز بحال من الأحوال. إذ ليس على ذلك دليل صحيح كما سيأتي بيانه. [التوسل غير المشروع] 2 - التوسل غير المشروع: ويقصد به التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، وسؤال الله بجاه نبيه، والإقسام على الله به. وهذا النوع غير مشروع لفقدان الدليل على مشروعيته، فلم ترد به سنة صحيحة ولم يكن الصحابة يفعلونه لا في حياته صلى الله عليه وسلم ولا بعد موته، لا عند قبره ولا في أي مكان آخر. ولم ينقل ذلك عنهم بوجه صحيح يعتمد عليه عند أهل العلم. بل الثابت عنهم أنهم عدلوا عنه إلى غيره، كما فعل عمر مع العباس رضي الله عنهما. وهذا التوسل غير المشروع هو مقصود غالب المتأخرين بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويعتقدون أنه من أفضل القربات، وأنه دليل على حب النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين. وهو أول ما يعولون على إثباته والمنافحة عنه، والرد على ما نعيه، والتشنيع عليهم، حتى يسلم لهم ما أرادوا من تعميم التوسل بالأنبياء والصالحين. وهذا النوع هو ما سأتناوله بشيء من العرض والتفصيل.

يقول السبكي (¬1) . (إن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم جائز في كل حال. قبل خلقه وبعد خلقه في مدة حياته في الدنيا، وبعد موته في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة والجنة) (¬2) ويقسمه إلى ثلاثة أنواع: - النوع الأول: أن يتوسل به بمعنى أن طالب الحاجة يسأل الله تعالى به أو بجاهه أو ببركته. فيجوز ذلك في الأحوال الثلاثة وقد ورد في كل منها خبر صحيح. وساق تحت هذا النوع حديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم (¬3) وغيره من الأحاديث. - النوع الثاني: التوسل به بمعنى طلب الدعاء منه. وقال: إن ذلك كما كان في حياته يجوز بعد موته. ثم ساق حديثا بسنده عن مالك الدار قال: (أصاب الناس قحط في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا. فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: ائت عمر فأقرئه السلام وأخبره أنهم مسقون وقل له: عليك الكيس الكيس. فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر رضي الله عنه ثم قال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه) . ¬

(¬1) هو تقي الدين علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي (683- 756 هـ) ، فقيه. أصولي. محدث. مفسر. لغوي. من تصانيفه: الدر النظيم في تفسير القرآن العظيم. تكملة المجموع للنووي في خمسة مجلدات، شفاء السقام في زيارة خير الأنام، عارض به شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة شد الرحال إلى زيارة القبر النبوي الشريف. وغيرها. انظر. طبقات الشافعية الكبرى، 10 / 139 - 338. والدرر الكامنة 3 / 134، وما بعدها. (¬2) شفاء السقام في زيارة خير الأنام، تقي الدين السبكي. طبع مجلس دائرة المعارف العثمانية. حيدر آباد الدكن، 1315 هـ، ص 160. (¬3) انظر: ص 273، من هذا البحث.

قال. ومحل الاستشهاد من هذا الأثر طلبه الاستسقاء من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته في مدة البرزخ. ولا مانع من ذلك فإن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لربه تعالى في هذه الحالة غير ممتنع. - النوع الثالث: أن يطلب منه ذلك الأمر المقصود. بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم قادر على التسبب فيه بسؤاله ربه وشفاعته إليه. فيعود إلى المعنى الثاني وإن كانت العبارة مختلفة (¬1) . وبعبارة أصرح من ذلك أن يطلب منه الحاجات رأسا فيقول السائل يا رسول الله فرج كربتي أو أغثني. . . إلخ. ولم يجد السبكي ما يستدل به على هذا النوع الثالث سوى أنه عائد إلى النوع الثاني. لكن غيره وجدوا ما يستدلون به على مثل هذا النوع، وهي الحكايات والمنامات وعليها غالب اعتمادهم. شبهات المجيزين لهذا النوع من التوسل: يورد الصوفية شبهات كثيرة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم توسلا بدعيا وشركيا ليوهموا أتباعهم أنهم بذلك على الحق وأنهم أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرب من غيرهم. وشبههم متنوعة لكني سأقتصر على أقواها في نظرهم. أولا- من القرآن: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] (¬2) . وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] (¬3) . ¬

(¬1) انظر: المصدر السابق، ص 161، وما بعدها. (¬2) سورة المائدة، آية (35) . (¬3) سورة الإسراء، آية (57) .

قال صاحب كتاب حقيقة التوسل والوسيلة: (ولفظ الوسيلة عام في الآيتين فهو شامل للتوسل بالذوات الفاضلة من الأنبياء والصالحين في الحياة وبعد الممات، وبإتيان الأعمال الصالحة على الوجه المأمور به، وللتوسل بها بعد وقوعها) (¬1) . واستدلالهم بهاتين الآيتين باطل لأنه مخالف لتفسير الصحابة والتابعين وما عليه أئمة التفسير من أن المراد بالوسيلة في الآيتين التقرب إلى الله بصالح الأعمال ولم يؤثر عن واحد من هؤلاء أنه فسرها بجواز التوسل بذوات الأنبياء والصالحين كما فسره هؤلاء. ثم إن الاستدلال بالآية الثانية بالذات على مدعاهم من أبطل الباطل وأكذب الكذب لأنها تدل على نقيض ما ادعوه وترد عليهم دعواهم، ويبين هذا سبب نزولها كما قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما رواه البخاري عنه: (كان ناس من الأنس يعبدون ناسا من الجن، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم) (¬2) . ومعنى ذلك أن الله يرد على هؤلاء الذين عبدوا الجن ودعوهم من دون الله بأن الذين تدعونهم قد أسلموا فصاروا يتقربون إلى الله بصالح الأعمال، وفي هذا تحريض لهؤلاء المشركين على الإيمان بالله وحده وسلوك مسلك الجن الذين آمنوا، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56 - 57] (¬3) . ¬

(¬1) حقيقة التوسل والوسيلة على ضوء الكتاب والسنة، موسى محمد علي، طبع دار التراث، القاهرة، 1981م، ص29. (¬2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قول الله تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه، 6 / 107. (¬3) سورة الإسراء، آية (56 - 57) .

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (¬1) . عند تفسير قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] (¬2) (اعلم أن جمهور العلماء على أن المراد بالوسيلة هنا هو القربة إلى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه على وفق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بإخلاص في ذلك لله تعالى، لأن هذا وحده هو الطريق الموصلة إلى رضى الله تعالى ونيل ما عنده من خير الدنيا والآخرة. . . . . وبهذا التحقيق تعلم أن ما يزعمه كثير من ملاحدة أتباع الجهال المدعين للتصوف من أن المراد بالوسيلة في الآية الشيخ الذي يكون واسطة بينه وبين ربه، أنه تخبط في الجهل والعمى وضلال مبين وتلاعب بكتاب الله تعالى، واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكفار، كما صرح به تعالى في قوله عنهم: {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] (¬3) وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] (¬4) فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريق الموصلة إلى رضى الله وجنته ورحمته هي اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حاد عن ذلك فقد ضل سواء السبيل) (¬5) . ¬

(¬1) هو الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي ثم المدني. (1305- 1393هـ) درس القرآن وعلومه، والعربية وفنونها، والفقه ومسائله في بلاده مورتانيا، ثم قدم إلى الحج فكتب الله له المقام بالمدينة فسكنها فدرس في المسجد النبوي وأفاد. من تصانيفه: أضواء البيان في تفسير القرآن. ومذكرة في أصول الفقه، آداب البحث والمناظرة وغيرها. انظر: ترجمته في نهاية تفسير أضواء البيان لتلميذه الشيخ عطية سالم، الجزء التاسع. وانظر: الأعلام، 6 / 45. (¬2) سورة المائدة، آية (35) . (¬3) سورة الزمر، آية (3) . (¬4) سورة يونس، آية (18) . (¬5) أصول البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 2 / 97-98.

ومما استدلوا به من الأحاديث ما أخرجه البخاري بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون) (¬1) . ويستدلون بهذا الحديث على جواز التوسل بذوات المخلوقين وجاههم فقالوا إن توسل عمر إنما كان بجاه العباس ومكانته عند الله سبحانه وتعالى، وإن توسله إنما كان مجرد ذكر منه للعباس في دعائه وطلب من الله أن يسقيه من أجله وقد أقره الصحابة على ذلك فدل هذا بزعمهم على جواز التوسل بذات المخلوق وجاهه. ولكن ما سبب عدول عمر عن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم طالما أن ذلك جائز في نظرهم. أجابوا عن ذلك بأن عدوله كان لبيان جواز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم وأن ذلك مما لا حرج فيه. يقول الشيخ أحمد زيني دحلان (¬2) . (وإنما استسقى عمر رضي الله عنه بالعباس رضي الله عنه ولم يستسق بالنبي صلى الله عليه وسلم ليبين للناس جواز الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم وأن ذلك لا حرج فيه، وأما الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم فكان معلوما عندهم فلربما أن بعض الناس يتوهم أنه لا يجوز الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم فبين لهم عمر باستسقائه بالعباس الجواز) (¬3) . واستدلالهم بهذا الحديث على ما يدّعونه استدلال باطل لأمور: أولا: أن الحديث قد ذكر أن الصحابة كانوا يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) صحيح البخاري كتاب الاستسقاء. باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، 2 / 34. (¬2) هو أحمد بن زيني دحلان المكي (1232 - 1304هـ) . فقيه. مؤرخ. من تصانيفه. الفتوحات الإسلامية، والسيرة النبوية، والدرر السنية في الرد على الوهابية، رد فيه على الشيخ محمد بن عبد الوهاب متعصبا للصوفية، وقد رد عليه الشيخ محمد بشير السهسواني في كتاب سماه " صيانة الإنسان من وسوسة الشيخ دحلان ". انظر: الأعلام، 12 / 129 - 130. (¬3) الدرر السنية في الدر على الوهابية، أحمد زيني دحلان، ص 8 - 9.

في حال حياته للسقيا فيستسقي لهم، وقد بينت الأحاديث الواردة في الاستسقاء ذلك، وليس هناك حديث صحيح يؤيد ما ذهبوا إليه من أن الصحابة كانوا يتوسلون بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه. بل الأحاديث الواردة تؤكد أن التوسل إنما كان بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج الشيخان بسنديهما عن أنس رضي الله عنه: «أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما، فقال يا رسول الله هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع الله أن يغثنا، قال، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، فقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا قال أنس ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قَزَعَة، ولا شيئا، وما بيننا وبين سَلْع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل التُّرس، فلما توسطت السماء، انتشرت ثم أمطرت، قال: والله ما رأينا الشمس ستا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال والظراب والأودية ومنابت الشجر. قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس» (¬1) . وأخرج البخاري بسنده عن عباد بن تميم عن عمه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي لهم، فقام فدعا الله قائما ثم توجه قِبَل القبلة وحوّل رداءه فسقوا» (¬2) . فهذان الحديثان وأمثالهما كثير في كتب السنة، وكلها تؤكد أن الصحابة كانوا إذا انقطع عنهم المطر ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يدعو الله لهم ¬

(¬1) صحيح البخاري. كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في المسجد الجامع 2 / 34 - 35، وصحيح مسلم كتاب صلاة الاستسقاء. باب الدعاء في الاستسقاء، 2 / 612، وما بعدها. (¬2) صحيح البخاري، كتاب الاستقساء، باب الدعاء في الاستسقاء قائما، 2 / 38.

ليسقيهم، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخرج بهم فيصلي صلاة الاستسقاء ويدعو الله لهم كما هي السنة في هذا الأمر. وهذا هو الذي قصده عمر بقوله " اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ". ثانيا: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم توسل عمر بدعاء العباس رضي الله عنهما، وذلك لعلمه بأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته غير ممكن ولا جائز. وتكرر هذا منه بحضور الصحابة رضي الله عنهم. فلو كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته جائزا لما عدل عنه عمر رضى الله عنه، ولما أقره الصحابة على ذلك، فلما تكرر ذلك منه دل على عدم جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. ثالثا: إن تكرر هذا الفعل من عمر رضى الله عنه يدحض شبهة الذين قالوا بأنه قد فعل ذلك لبيان جواز التوسل بغير النبي وأن التوسل بالنبي بعد وفاته أمرا معلوما لدى الصحابة. وهذا ليس بصحيح، إذ لو كان كذلك لما تكرر ذلك الفعل من عمر رضي الله عنه ولبين أن مقصده من ذلك هو بيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل كما يزعمون. ثم إن فيه كذبا على عمر وجمهور الصحابة رضي الله عنهم. لأن المجيزين ادعوا أن التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم كان أمرا معلوما لدى الصحابة. مع أنه لم ينقل عنهم بوجه صحيح ما يؤيد دعواهم. بل المنقول عنهم خلاف ذلك. رابعا: أن عمر قد صرح بأنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وأنه بعد وفاته توسل بعمه العباس. ومما لا شك فيه أن التوسلين من نوع واحد، وهو التوسل بدعاء الصالحين ورسول الله صلى الله عليه وسلم إمامهم (¬1) . خامسًا: أن بعض روايات الحديث الصحيحة قد فسرت كلام عمر المذكور وقصده إذ نقلت دعاء العباس رضي الله عنه استجابة لطلب عمر رضي ¬

(¬1) انظر التوسل أنواعه وأحكامه للشيخ الألباني، ص60-69.

الله عنه. فمن ذلك ما نقله الحافظ ابن حجر في الفتح حيث قال: (وقد بين الزبير بن بكار (¬1) في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال " اللهم أنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث " قال فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس) (¬2) فهذا الحديث قد بين أن التوسل إنما كان بدعاء العباس رضي الله عنه لا بذاته أو شيبته كما يزعمون، وإلا فما الداعي إلى أن يقوم العباس فيدعو دعاء جديدا؟ وما فائدة مجيء العباس إلى مكان الاستسقاء للدعاء؟ ! ولم يكن عمر رضي الله عنه وحده هو الذي عدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته إلى التوسل بغيره من الأحياء، بل تابعه على ذلك معاوية بن أبي سفيان والضحاك بن قيس رضي الله عنهما إذ توسلا بدعاء يزيد بن الأسود (¬3) الجرشي (¬4) وعلى هذا جرى عمل الصحابة والتابعين (¬5) . فتبين من هذا أن حديث عمر بن الخطاب في توسله بالعباس رضي الله عنهما ليس فيه دليل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته بل هو دليل على عدم جوازه. ومن الأحاديث التي استدلوا بها ما أخرجه أحمد وغيره بسنده عن عثمان بن ¬

(¬1) هو أبو عبد الله الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب من ولد الزبير بن العوام رضي الله عنه (172- 256 هـ) . كان ثقة ثبتا عالما بالأنساب. شاعرا ولي قضاء مكة. من تصانيفه: جمهرة نسب قريش وأخبارها، أخبار العرب وأيامها، مزاح النبي صلى الله عليه وسلم، انظر: تاريخ بغداد، 8 / 467، وسير أعلام النبلاء، 12 / 311. (¬2) فتح الباري، 3 / 150. (¬3) أخرج هذا الأثر ابن سعد في الطبقات، دار صادر، بيروت، 7 / 444. (¬4) هو يزيد بن الأسود الجرشي من سادات التابعين بالشام، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره. انظر سير أعلام النبلاء، 4 / 136 - 137. (¬5) انظر: التوسل، ص 70.

حينف: «أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: " إن شئت دعوت لك وإن شئت أخرت ذلك فهو خير " فقال: ادعه. فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه فيصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: " اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى لي، اللهم فشفعه في وشفعني فيه، قال: ففعل الرجل فبرأ» (¬1) . ووجه استدلالهم بهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الأعمى أن يتوسل به في دعائه، وأن الأعمى فعل ذلك فعاد بصيرا، وأن توسله إنما كان بذات النبي صلى الله عليه وسلم لا بدعائه، وإذا كان كذلك فمن الجائز لكل أحد أن يدعو بهذا الدعاء الوارد في هذا الحديث. قال ابن حجر الهيتمي (¬2) . (وإنما علمه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يدع له، لأنه أراد أن يحصل منه التوجه وبذل الافتقار والانكسار والاضطرار مستغيثا به صلى الله عليه وسلم ليحصل له كمال مقصوده. وهذا المعنى حاصل في حياته وبعد وفاته ومن ثم استعمل السلف هذا الدعاء في حاجاتهم بعد موته) (¬3) . واستدل بقصة الرجل مع عثمان بن حنيف رضي الله عنه وسيأتي ذكرها. وعلى ذلك فهم يرون أن الحديث حجة لهم في جواز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم. وأن هذا الحديث ليس خاصا بالأعمى، بل هو جائز لكل أحد أن يدعو به. لكن هذا الحديث لا يدل على ما ذهبوا إليه. بل هو دليل على نوع من ¬

(¬1) المسند، 4 / 138، وسنن ابن ماجه، 1 / 481، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1 / 519. (¬2) شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي المكي (909-974هـ) . فقيه. باحث. من تصانيفه: مبلغ الأرب في فضائل العرب. الصواعق المحرقة على أهل البدعة والضلال والزندقة وغيرها. انظر الأعلام 1 / 234. (¬3) الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم، ص 76- 77.

أنواع التوسل المشروع، لأن الأعمى إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر مشروع كما سبقت الإشارة إليه، ويوضح هذا من الحديث عدة أمور (¬1) . أولا: أن الأعمى إنما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعو له، وهذا معنى قوله: " ادع الله أن يعافيني " فهو قد توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم لما يعلمه من استجابة دعائه دون غيره، ولذلك طلب من الدعاء ولو كان مقصوده التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه كما يزعمون، لما كانت هناك حاجة في أن يأتي إلى النبي ويسأله الدعاء له، بل كان يكفيه أن يجلس في بيته ويدعو ربه متوسلا بذات النبي أو جاهه ولكنه لم يفعل ذلك لأنه كان يفهم جيدا معنى التوسل، وأنه لا بد أن يذهب إلى المتوسل به ليطلب منه ما يريد. ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده بالدعاء بعد أن خيره بين الدعاء وبين الصبر إذا شاء. ثالثا: إصرار الأعمى على الدعاء وهذا يقتضي أن الرسول قد دعا له لأنه وعده بالدعاء إذا أراد، وقد أراد ذلك وأكده بقوله: " ادعه " ومع ذلك لم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء له بل وجهه إلى عمل صالح حتى يجمع له أطراف الخير، وهو أمره له بالصلاة وتعليمه الدعاء الذي يدعو به في صلاته. رابعا: أن قول الأعمى في آخر هذا الدعاء: «اللهم فشفعه في» يستحيل حمله على التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، أو بجاهه كما يزعمون، لأن معناه: اللهم اقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم فيّ، أي اقبل دعاءه في أن ترد علي بصري. وهذا معنى الشفاعة. ولا تتم الشفاعة إلا إذا كان اثنان يطلبان أمرا يكون أحدهما شفيعا للآخر والشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا بدعاء الرسول للمشفوع له. خامسا: أن مما علمه النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى أن يقوله في دعائه: «وشفعني فيه» أي اقبل دعائي في قبول شفاعته ودعائه لي. وهذه الجملة وحدها كافية ¬

(¬1) انظر في بيان هذه الأمور. القاعدة الجليلة، ص95 - 109، 135 - 136. والتوسل، ص76 - 83.

في الرد على من يزعمون أن توصل الأعمى كان بذاته صلى الله عليه وسلم أو بجاهه، إذ كيف تكون شفاعة الأعمى في الرسول. إلا إذا دعا له الرسول فدعا الأعمى ربه في أن يستجيب دعاء نبيه له. سادسا: إن هذا الحديث قد ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، وما أظهره الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره. ولذلك ذكره المصنفون في دلائل النبوة كالبيهقي وغيره (¬1) . وهذا يدل على أن السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له (¬2) . سابعا: أن هذا الدعاء خاص بالأعمى لأنه متضمن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته له وليس من لم يدع له الرسول ويشفع له بمنزلة ذلك الضرير الذي دعا له الرسول وشفع له. ولو كان هذا عاما كما يفهمه المجيزون لكان لعميان الصحابة أو بعضهم أن يدعوا بهذا الدعاء فيحصل لهم الشفاء، فعدولهم عن هذا الدعاء إلى غيره دليل على أنه خاص بذلك الأعمى، كما أنه لو كان السبب في شفاء الأعمى هر توسله بذات النبي صلى الله عليه وسلم وجاهه كما يفهم عامة المتأخرين لكان من الممكن أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذي يتوسلون بجاهه صلى الله عليه وسلم ويضمون إلى ذلك جاه جميع الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين!! وبعد بيان هذه الوجوه تأكد لنا أن هذا الحديث يدور حول التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم، وأنه لا علاقة له بالتوسل بذاته أو بجاهه، ومما تجدر الإشارة إليه أنه قد نقل عن العز بن عبد السلام القول بجواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته خاصة استنادا إلى حديث الأعمى (¬3) . وقد تبين لنا معنى الحديث وما يدل عليه وأنه لا حجة فيه لمن ذهب إلى ¬

(¬1) انظر. دلائل النبوة للبيهقي، تحقيق د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، 6 / 166. (¬2) انظر: قاعدة جليلة، ص 95. (¬3) انظر: القاعدة الجليلة، ص 151.

جواز التوسل بالذات وإن كان العز بن عبد السلام قد ذهب إلى جواز ذلك فقد خالفه في ذلك جمع كثير من أهل العلم. وعلى فرض صحة ما ذهب إليه العز بن عبد السلام فينبغي أن يكون هذا حكما خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد غيره من الأنبياء والصالحين ويكون هذا من باب الخصوصيات التي لا يدخلها القياس (¬1) . تنبيه: وقع في بعض طرق حديث الأعمى زيادتان استدل بهما المجيزون للتوسل غير المشروع: - الزيادة الأولى: زيادة حماد بن سلمة إذ زاد في آخر الحديث (. . . وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك) . أي معناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له إذا عرضت لك حاجة فافعل مثل ذلك الدعاء دون أن تأتيني. وعلى ذلك فيمكن للإنسان أن يقول هذا الدعاء دون أن يكون قد أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ودعا له. وقد أعل ابن تيمية هذه الزيادة بالشذوذ لتفرد حماد بن سلمة بها ومخالفته من هو أوثق منه (¬2) . - الزيادة الثانية: وهي قصة الرجل مع عثمان بن عفان رضي الله عنه وتوسله به صلى الله عليه وسلم حتى قضيت حاجته من عثمان بن عفان. وقد أخرج هذه القصة الطبراني في معجميه الصغير والكبير، من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف: أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه. فقال له: ائت الميضأة، فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ¬

(¬1) انظر: التوسل، ص 83. (¬2) انظر: القاعدة الجليلة، ص 102، والتوسل، ص 90- 92.

فيه ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك عز وجل، فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح إلي حتى أروح معك، فانطلق الرجل، فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه، فجاء البواب حتى أخذ بيده، فأدخله عليه، فأجلسه معه على الطنفسة، وقال حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا. ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته في، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فتصبر، فقال: يا رسول الله: إنه ليس لي قائد، وقد شق علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ائت الميضأة، فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات» . قال عثمان بن حنيف، فوالله ما تفرقنا، وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط) (¬1) . هذه القصة ضعيفة الإسناد منكرة لا يجوز الاحتجاج بها (¬2) أما من ناحية المتن فليس فيه حجة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته لأن عثمان بن حنيف - لو صحت هذه القصة عنه - لم يعلم ذلك الرجل دعاء الضرير بتمامه، فإنه أسقط منه جملة: «اللهم فشفعه في، وشفعني فيه» ، لأنه يعلم أن ذلك القول يستلزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم داعيا لذلك الرجل، كما كان داعيا للأعمى، ولما كان هذا غير ممكن شرعا ولا قدرا لم يذكر هذه الجملة. وأيضا لو قدر ثبوت هذه القصة عن عثمان بن حنيف لكان هذا مما تفرد ¬

(¬1) المعجم الكبير للطبراني، 9 / 17- 18. حققه وخرج أحاديثه حمدي عبد المجيد السلفي، ط1، مطبعة الوطن العربي، بغداد، 1400 هـ. وانظر دلائل النبوة للبيهقي، 16 / 167- 168. (¬2) لضعف حفظ راويها، وتفرده بها، ومخالفته للثقات الذين رووا الحديث بدون ذكر هذه القصة. انظر: القاعدة الجليلة، ص 97- 103، والتوسل، ص 92- 94.

به ذلك الصحابي عن غيره، إذ لم يوافقه غيره من الصحابة على ذلك، ومثل هذا لا تثبت به سنة يمكن العمل بها. والثابت عن أكابر الصحابة عدولهم عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى التوسل بدعاء غيره. كما قد صح ذلك من فعل عمر ومعاوية وغيرهما (¬1) . وفي هذه القصة جملة إذا تأملها العارف بفضائل الصحابة وأحوالهم وجدها دليلا على نكارتها وضعفها، وهي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان لا ينظر في حاجة ذلك الرجل ولا يلتفت إليه! فهذه الجملة منافية لما عرف من خلق عثمان رضي الله عنه الذي كانت تستحي منه الملائكة لشدة حيائه، هذا مع ما عرف عنه من رفق ولين وتواضع رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين (¬2) وبهذا يتبين لنا أن الاستدلال بهذه القصة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته استدلال باطل. وإذا كان الحديثان السابقان صحيحين من حيث الإسناد. لكنهما لا يدلان على ما ذهبوا إليه من جواز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، فإنهم قد استدلوا بأحاديث وآثار واهية لا تصلح للاحتجاج بها منها على سبيل المثال: حديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الحاكم بسنده عن عمر بن الخطاب مرفوعا «لما اقترف آدم الخطيئة، قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال يا رب لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك، رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوبا، لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم. إنه لأحب الخلق إلي. ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك» (¬3) . ¬

(¬1) انظر: قاعدة جليلة، ص104 - 108. (¬2) انظر: التوسل، ص 99. (¬3) المستدرك على الصحيحين، وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي بقوله: بل موضوع، 2 / 615.

هذا الحديث مما يستدل به المخالفون على إثبات التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل خلقه. قال صاحب كتاب وفاء الوفا: (اعلم أن الاستغاثة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم وبجاهه وبركته إلى ربه تعالى من فعل الأنبياء والمرسلين وسير السلف الصالحين، واقع في كل حال، قبل خلقه صلى الله عليه وسلم وبعد خلقه في حياته الدنيوية، ومدة البرزخ وعرصات القيامة) (¬1) ثم ساق حديث توسل آدم السابق مستدلا به، وكذا استدل به السبكي وغيره (¬2) . ولكن هذا الحديث موضوع لا يجوز الاستدلال به، لوجود عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في سنده وهو متهم بالوضع. لذا فقد حكم ببطلان هذا الحديث ابن تيمية (¬3) والذهبيُّ (¬4) وابنُ عبد الهادي (¬5) وابن حجر (¬6) . فلا يجوز لأحد أن يستدل بهذا الحديث لأجل تصحيح الحاكم له. هذا وقد استدلوا بأحاديث وآثار كلها واهية وموضوعة ومثلها الحكايات. لكن بقي أن أنبه إلى أثر مالك الدار الذي استدل به السبكي على جواز طلب الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته (¬7) . ¬

(¬1) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى. نور الدين علي بن أحمد السمهودي تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 1، مطبعة السعادة، مصر، 1374 هـ، 4 / 1371. (¬2) انظر شفاء السقام، ص 61، وما بعدها. (¬3) انظر: القاعدة الجليلة، ص 86- 90. (¬4) انظر: ميزان الاعتدال، 2 / 504. (¬5) انظر: الصارم المنكي، ص 37. (¬6) انظر: لسان الميزان، 3 / 359 - 360. (¬7) انظر: ص260، من هذا البحث.

أقسام التوسل غير المشروع من حيث الحكم عليه

فهذا الأثر لا يجوز الاستدلال به لعدم صحته (¬1) ثم إنه مخالف لما ثبت شرعا من استحباب صلاة الاستسقاء ودعاء الله تعالى والتضرع إليه حتى يغيث العباد بإنزال الغيث عليهم. كما جرت بذلك السنة وعمل بها جماهير الأئمة ولم ينقل عن أحد من سلف الأمة أنه التجأ إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه الدعاء للسقيا أو لغير ذلك، ولو كان هذا مشروعا لفعلوه ولنقل عنهم بوجه صحيح يعتمد عليه. فلما لم يحدث ذلك دل على عدم مشروعيته وعلى بطلان هذا الأثر، وأيضا فهذا الأثر ليس فيه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لا بذاته ولا بجاهه ولا بالإقسام به على الله والتي وقع فيها النزاع. وإنما فيه طلب الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته، وهذه مسألة خارجة عن محل النزاع ولم يقل بجوازها أحد من علماء السلف بل هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، ولأجل هذا توسع الصوفية في معنى التوسل فأدخلوا فيه كثيرا من ألوان الشرك كالاستغاثة والاستجارة وبث الشكوى وطلب الدعاء والشفاعة والمغفرة وكافة الحاجات وإنزال الرغبات وسموا كل هذا توسلًا فإذا ثبت لهم التوسل المبتدع أدخلوا فيه التوسل الشركي، وسموا الجميع توسلًا بالنبي صلى الله عليه وسلم وإظهارا لحبه. وبعد بيان بطلان الشبه التي استدل بها المجيزون للتوسل غير المشروع نريد أن نعرف حكم هذا النوع من التوسل. [أقسام التوسل غير المشروع من حيث الحكم عليه] إن هذا التوسل ينقسم من حيث الحكم عليه إلى قسمين: القسم الأول: توسل بدعي: وذلك كالتوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، وبجاهه، أو الإقسام على الله به: ¬

(¬1) لأن مداره على مالك الدار وهو مجهول الحال غير معروف العدالة والضبط وهما شرطان أساسيان لصحة السند. انظر التوسل، ص130 - 134.

وذلك كأن يقول القائل مثلا: اللهم أتوسل إليك بنبيك، أو اللهم بجاه نبيك اغفر لي. وأما القسم فمثل قول القائل: اللهم بنبيك أو بحق نبيك اشفني أو اقض حوائجي. ووجه كونه بدعة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر به، ولم يدع الناس إليه، ولم يعده من القربات، كما جعله المتأخرون من الصوفية ومن تابعهم من أعظم القربات. كما أن الصحابة لم يتوسلوا إلى الله بهذا النوع من التوسل ولا التابعين ولا تابعيهم. . . بل الثابت عنهم هو عدولهم عنه إلى التوسل المشروع، فلما لم يرد له ذكر في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عمل الصحابة والتابعون به. دل على عدم مشروعيته وابتداعه. هذا من حيث الإجمال. أما من حيث التفصيل، فإن السؤال بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوسل بذاته وجاهه غير جائز. لأنه وإن كان مبنيا على أن للأنبياء جاها ومكانة عند الله- وهذا صحيح- إلا أن الله لم يجعل ذلك الجاه سببا مناسبًا لإجابة دعاء من توسل به. وإنما جعل الله الإيمان بهم وحبهم واتباعهم سببا لإجابة الدعاء، بخلاف السؤال والتوسل بذواتهم وجاههم. وأما القسم على الله بالرسول صلى الله عليه وسلم أو بحقه فهذا مما لا يجوز شرعا. لأنه قسم بالمخلوق على الخالق سبحانه وتعالى. والقسم على المخلوق بمخلوق مثله لا يجوز. فكيف يجوز ذلك في حق الخالق سبحانه (¬1) . وإذا تبين هذا فلا يجوز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو بجاهه أو الإقسام على الله به لما يفضي القول بجوازه إلى الغلو الذي نهي الله ورسوله عنه، وسدًّا لذريعة الشرك المترتب عليه. ذلك أن عامة من جوزوه لم يقفوا عند التوسل به صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) انظر القاعدة الجليلة، ص 109- 110.

بل تعدوا ذلك إلى الاستغاثة به وطلبوا منه ما لا يجوز طلبه إلا من الله إلى غير ذلك من الأمور التي تؤدي إلى الشرك. ويسمون كل هذا توسلا!! ومما ينبغي التنبيه إليه أننا حين نوضح بطلان هذا النوع من التوسل لا يعني أننا ننفي الجاه والمكانة السامية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. كلا. إن جاهه عليه الصلاة والسلام أعظم من جاه الأنبياء والمرسلين، وحديث الشفاعة يبين هذا ويوضحه (¬1) . القسم الثاني: التوسل الشركي: وذلك كطلب الحاجات منه صلى الله عليه وسلم ودعائه لكشف الضر أو رفع الشدة وبث الشكوى إليه، إلى غير ذلك من ألوان الشرك الذي حرمه الله ورسوله. وكون هذا النوع شركا أمر واضح، فإنه لو طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ما لا يقدر عليه إلا الله لكان هذا شركا، فكيف وهم يطلبون منه ذلك بعد موته، وينشدون في ذلك الأشعار ويسوقون الحكايات والأخبار، وينعتون كل موحد بالجفاء للنبي صلى الله عليه وسلم وآله الأخيار. وتسمية هذا النوع بالتوسل هو من باب الإيهام والخداع فإنه لا يسمى إلا شركا أكبر. يقول البرعي (¬2) مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم: يا صاحب القبر المنير بيثرب ... يا منتهى أملي وغاية مطلبي يا من به النائبات توسلي ... وإليه من كل الحوادث مهربي يا من نرجّيه لكشف عظيمة ... ولحل عقد ملتو متعصب ¬

(¬1) انظر حديث الشفاعة في: صحيح البخاري. كتاب التوحيد. باب قول الله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) ، 9 / 160- 161. ومسلم. كتاب الأيمان. باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، 1 / 180 - 181. (¬2) هو عبد الرحيم بن أحمد بن عبد الرحيم البرعي (. . . - 830 هـ) ، شاعر متصوف. انظر ترجمته في الأعلام 3 / 343.

ثالثا البدع المتعلقة بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم

يا من يجود على الوجود بأنعم ... خضر تعم عموم صوب الصيّب يا غوث من في الخافقين وغيثهم ... وربيعهم في كل عام مجدب يا من نناديه فيسمعنا على ... بعد المسافة سمع أقرب أقرب (¬1) ويقول أيضًا: مولاي مولاي فرج كل معضلة ... عني فقد أثقلت ظهري الخطيئات وعد عليّ بما عودتني كرما ... فكم جرت لي بخير منك عادات وامنع حماي وهب لي منك مكرمة ... يا من مواهبه خير وخيرات واعطف عليّ وخذ يا سيدي بيدي ... إذا دهتني الملمات المهمات فقد وقفت بباب الجود معتذرا ... والعفو متسع والعذر أبيات وقل غدا أنت من أهل اليمين إذا ... ما زخرفت لدخول الخلد جنات وإن مدحتك بالتقصير معترفا ... فمدحك الوحي والسبع القراءات (¬2) [ثالثا البدع المتعلقة بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم] ثالثا- البدع المتعلقة بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم: المشروع في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم هو أن يأتي المسلم إلى المسجد النبوي فيقول دعاء دخول المسجد، ثم يقصد الروضة الشريفة فيصلي بها ركعتين تحية المسجد إن تحن في الروضة وإلا ففي أي موضع من المسجد ثم يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما قائلا: السلام عليك يا رسول الله. السلام عليك يا أبا بكر. السلام عليك يا عمر. كما كان يفعل ذلك ابن عمر رضي الله عنهما إذا قدم من سفر (¬3) ¬

(¬1) شرح ديوان البرعي في المدائح الربانية والنبوية والصوفية للشاعر الشيخ عبد الرحيم البرعي، ط 1، مكتبة المعارف، محمد سعيد كمال، الطائف، 1404، ص88. (¬2) المصدر نفسه، ص192. (¬3) أخرج ذلك الأثر. البيهقي في السنن الكبرى. كتاب الحج. باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ط1، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن الهند، 1352هـ. وأخرجه مالك بنحو من هذا في الموطأ. رواية محمد بن الحسن الشيباني تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف. طبع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ص334.

والزيارة بهذه الكيفية مستحبة لمن قدم إلى المدينة قاصدا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لمن كان يريد السفر من أهل المدينة وهذا الاستحباب مأخوذ من الأحاديث العامة الواردة في فضل زيارة القبور ولم يثبت بخصوص زيارة قبره صلى الله عليه وسلم حديث يحتج به عند أهل العلم (¬1) ولكن الناس ابتدعوا في باب زيارته صلى الله عليه وسلم بدعا كثيرة خرجت بالزيارة عن أصلها المشروع. فمن هذه البدع: 1 - اعتقاد أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم واجبة: سرى في أذهان كثير من الناس أن زيارة القبر النبوي واجبة، ويعتقد كثير منهم أنها مكملة لمناسك الحج، لا يتم الحج بدونها، والذي دفعهم إلى ذلك أمور منها: - الجهل بأحكام الذين ومراتب العبادات حتى اختلط على كثير من الناس الواجب بالمندوب، والحرام بالمكروه، فاختل فهمهم للشرع بسبب الابتعاد عن علمه وفقهه. - الاستدلال بعدة أحاديث ضعيفة وموضوعة في فضل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها بعض الفقهاء والمؤلفين في المناسك واشتهر ذكرها بين الناس دون تمييز بين الصحيح والضعيف، فكان لهذه الأحاديث أثرها في اعتقاد كثير من الناس وجوب الزيارة فمن هذه الأحاديث: (أ) «من زار قبري وجبت له شفاعتي» (¬2) هذا حديث منكر لا يصح الاحتجاج به. ¬

(¬1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 27 / 383. (¬2) رواه الدارقطني من طريق موسى بن هلال العبدي عن عبد الله أو عبيد الله العمري، وهذا الحديث ضعيف لضعف موسى بن هلال وجهالته واضطرابه. فمرة يرويه عن عبيد الله ومرة عن عبد الله، وسواء هذا أو ذاك فهو منكر الحديث لا يحتج به. انظر: سنن الدارقطني، 2 / 278، والصارم المنكي، ص18 - 23.

(ب) «من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» (¬1) وهذا حديث منكر المتن ساقط الإسناد. ومما يدل على ضعفه ونكارته أن من زار قبره صلى الله عليه وسلم بعد موته ليس كمن زاره في حياته فإن من زاره في حياته وكان مؤمنا كان من أصحابه المشهود لهم بالدرجة العالية في هذه الأمة، وأما من بعدهم فلن يبلغ رتبتهم ولو شاركهم في فعل الواجبات، فكيف يستوي معهم بفعل ما ليس واجبا كزيارة القبر النبوي مثلا (¬2) (ج) «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني» ، وهذا حديث موضوع (¬3) ومما يدل على وضعه أن جفاء النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر إن لم يكن كفرا، وهذا الحديث يدل على أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم واجبة، مع أن الزيارة المشروعة لا تتجاوز عند العلماء حدود المستحبات. فكيف يكون تاركها مجافيا للنبي صلى الله عليه وسلم ومعرضا عنه (¬4) . فاعتقاد وجوب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم اعتقاد باطل ليس له ما يؤيده من السنة الصحيحة، ولا من أقوال أهل العلم الذين يقتدى بهم. فمن اعتقد أن الزيارة واجبة، ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني والبيهقي وغيرهما من طريق حفص بن سليمان عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر مرفوعا. وهذا الحديث ضعيف لتفرد حفص بن سليمان به. وهو متروك الحديث وشيخه ليث بن أبي سليم ضعيف لاختلاطه. انظر سنن الدارقطني، 2 / 278، والسنن الكبرى للبيهقي، 5 / 246. وانظر في بيان ضعف الحديث الصارم المنكي، ص 55 وما بعدها، والسلسلة الضعيفة للألباني، 1 / 62 - 63. (¬2) انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، ص 57. (¬3) أخرجه ابن عدي في الكامل من طريق علي بن إسحاق عن محمد بن محمد بن النعمان عن جده النعمان بن شبل عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا. وهذا الحديث آفته النعمان بن شبل البصري لأنه متهم بالوضع. لأجل هذا حكم الذهبي على هذا الحديث بالوضع وكذا الزركشي وابن الجوزي كما في الفوائد المجموعة للشوكاني. انظر: الكامل في أسماء الرجال لابن عدي، 7 / 2480. وانظر في بيان ضعف الحديث لسان الميزان، 6 / 167، والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني، ص 118، والصارم المنكي، ص 78، وما بعدها. (¬4) انظر: السلسلة الضعيفة، 1 / 61.

أو متممة للحج، أو أنها المقصود الأكبر من الحج فاعتقاده باطل. على أنه لا يعني القول بعدم وجوب الزيارة أنها ليست مستحبة كلا بل هي مستحبة لمن قدم المدينة من سفر أو خرج منها قاصدا سفرا. كما دل على ذلك فعل ابن عمر رضي الله عنهما. 2 - الدخول إلى المسجد النبوي كهيئة المستأذن من الرسول صلى الله عليه وسلم للدخول عليه: جاء في كتاب أبي الحسن الشاذلي (¬1) أنه (لما قدم المدينة زادها الله تشريفا وتعظيما وقف على باب الحرم من أول النهار إلى نصفه عريان الرأس حافي القدمين، يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما. فسئل عن ذلك فقال حتى يؤذن لي، فإن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] (¬2) فسمع النداء من داخل الروضة الشريفة على ساكنه أفضل الصلاة والسلام يا علي ادخل) (¬3) . وهذه بدعة منكرة لم يقل بها أحد من أهل العلم سلفا وخلفا، وقياس الدخول عليه صلى الله عليه وسلم بعد موته بدخول بيته في حياته قياس باطل، فإن الداخل إنما يدخل المسجد أصلا سواء في حياته أو بعد موته، ودخول المسجد لا يحتاج إلى استئذان. ولو كان مشروعا لفعله الصحابة رضي الله عنهم. 3 - التزام كيفية معينة في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم من حيث الوقوف والسلام والدعاء: فبعض الناس يقف أمام القبر الشريف كهيئة المصلي واضعا يده اليمنى على اليسرى وهذا أمر تعبدي لا يجوز فعله إلا في الصلاة. ¬

(¬1) هو أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي المغربي، رأس الطريقة الشاذلية وإليه تنتسب. انظر: ترجمته في معجم المؤلفين، 7 / 137. (¬2) سورة الأحزاب، (53) . (¬3) أبو الحسن الشاذلي - الصوفي المجاهد والعارف بالله، بقلم عبد الحليم محمود، ص 79- 80، ط دار الكتاب العربي مصر، 1967 م.

وأما السلام فكثير من الناس يتجاوز السلام إلى الدعاء مستقبلا القبر وهذا أمر غير جائز شرعا، فإذا أراد الإنسان الدعاء فليستقبل القبلة. وقد اعتاد (المزوّرون) أن يلقنوا الناس صيغا من السلام والدعاء يرددونها بصوت مرتفع. وفي هذا من الإيذاء والجفاء ما لا يجوز أن يحدث في أي مسجد فضلا عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الدعاء فكثير من الناس تجاوز حد الشرع في الدعاء فيطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يطلب إلا من الله وفي هذا من الشرك ما فيه وذلك كقولهم: (يا رسول الله نحن وفدك جئناك من بلاد بعيدة، قاصدين قضاء حقك، والنظر إلى مآثرك، وأن نستشفع بك إلى ربنا، فإن الخطايا قد قصمت ظهورنا، والأوزار قد أثقلت كواهلنا، أنت الشافع المشفع، الموعود بالشفاعة والمقام المحمود، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] (¬1) وقد جئناك مستغفرين لذنوبنا فاشفع لنا إلى ربك، واسأله أن يميتنا على سنتك، وأن يحشرنا في زمرتك، وأن يوردنا حوضك، وأن يسقينا بكأسك غير خزايا ولا نادمين، الشفاعة، الشفاعة يا رسول الله) (¬2) . وهذا من البدع المفضية إلى الشرك لأن طلب الشفاعة، والموت على السنة، وغير ذلك من الحوائج، لا يجوز طلبها إلا من الله وحده، فلا يجوز سؤالها وطلبها من النبي صلى الله عليه وسلم، بعد موته. وأما طلب الدعاء فإنما يكون في حياته لا بعد مماته. 4 - التمسح بالحجرة وتقبيل شباكها واستلامه والطواف بها: وهذه أمور من العبادة لا تجوز إلا في الكعبة. ففعلها في المسجد النبوي محرم شرعا. ¬

(¬1) سورة النساء، آية (64) . (¬2) الحج والعمرة في الفقه الإسلامي، د. نور الدين عتر، ط2، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص260.

5 - اعتقاد الزائر أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم خواطره ونياته: قال ابن الحاج (¬1) (وقد قال علماؤنا رحمة الله عليهم أن الزائر يشعر نفسه بأنه واقف بين يديه عليه الصلاة والسلام كما هو في حياته. إذ لا فرق بين موته وحياته، أعني في مشاهدته لأمته ومعرفته بأحوالهم ونياتهم وعزائمهم وخواطرهم. وهذا عنده جلي لا خفاء فيه) (¬2) . وقال: (وقد لا يحتاج الزائر في طلب حوائجه ومغفرة ذنوبه أن يذكرها بلسانه بل يحضر ذلك في قلبه وهو حاضر بين يديه صلى الله عليه وسلم، لأنه عليه الصلاة والسلام أعلم منه بحوائجه ومصالحه وأرحم به منه لنفسه، وأشفق عليه من أقاربه) (¬3) . وهذا الأمر لا يجوز أن يوصف به الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فكيف يوصف به بعد مماته، لأن علم الغيب ومكنونات الصدور خاص بالله عز وجل لا يطلع عليه أحد غيره ولا يليق وصف أحد به سوى الله عز وجل، قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] (¬4) وقال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188] (¬5) . فمن اعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، وما تكّنه الصدور في حياته أو بعد مماته فقد أشرك. إلا أن يطلع الله نبيه على بعض أمور الغيب فذلك من خصوصيات النبوة. لا أنه يعلم الغيب مطلقا. ¬

(¬1) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن الحاج العبدري المالكي الفاسي (. . . - 737هـ) . فقيه مالكي، من تصانيفه: مدخل الشرع الشريف، شموس الأنوار وكنوز الأسرار. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر، 4 / 355 - 356. (¬2) المدخل، 1 / 258 - 259. (¬3) المصدر نفسه، 1 / 264. (¬4) سورة النمل، آية (65) . (¬5) سورة الأعراف، آية (188) .

6 - اتخاذ قبره صلى الله عليه وسلم عيدا: ومعنى اتخاذه عيدا، أن يعتاد التردد عليه والازدحام عنده كما يحصل في أمكنة الأعياد وأزمنتها. أو أن يجعل لها وقت معين سواء كان كل أسبوع أو شهر أو سنة. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: فيما أخرجه أحمد وأبو داود واللفظ له بسنديهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبرى عيدا، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» (¬1) ولأجل هذا كره الإمام مالك رحمه الله التردد على القبر فقال فيما نقله عنه القاضي عياض: (. . . . وليس يلزم من دخل المسجد أو خرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر وإنما ذلك للغرباء. . . ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقدم على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو لأبي بكر وعمر. فقيل له: إن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر فيسلمون ويدعون ساعة. فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل العلم ببلدنا وتركه واسع. ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك) (¬2) . 7 - التزام الزائر الإقامة بالمدينة ثمانية أيام والصلاة في المسجد النبوي أربعين صلاة حتى تكتب له البراءة من النار: وذلك استنادا إلى الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد بسنده عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى في مسجدي هذا أربعين صلاة كتبت له براءة من ¬

(¬1) سبق تخريجه، ص83. (¬2) الشفا، 2 / 88.

النار، ونجاة من العذاب، وبرئ من النفاق» (¬1) وهذا الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج به. ووجه البدعة في هذا أنه تخصيص لعدد من الأيام أو الصلوات بثواب معين ومثل هذا لا يثبت إلا بدليل صحيح وهذا الدليل ضعيف. فيكون هذا التخصيص من قبيل البدعة. أما مجرد الصلاة في المسجد النبوي- بدون تحديد وقت معين- فهو أمر مرغب فيه شرعا، لما أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (¬2) . 8 - ومنها ما قاله صاحب وفاء الوفا: (أن يقدم " أي الزائر " صدقة بين يدي نجواه للرسول صلى الله عليه وسلم) (¬3) أخذا من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] (¬4) وهذه الآية منسوخة عند جماهير العلماء بالآية التي تليها (¬5) وهي قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة: 13] (¬6) ثم إن قياس زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بنجواه في حياته قياس باطل لأن المقصود من الزيارة هو السلام عليه صلى الله عليه وسلم وليس هذا من قبيل النجوى لأنه يسمعه كل أحد، ثم إن النجوى إن كانت مشروعة فللرسول في حياته فكيف وهي منسوخة؟ ¬

(¬1) المسند، 3 / 155، وهذا الحديث ضعيف لأن في سنده مجهولا، وهو نبيط بن عمرو الذي روى هذا الحديث عن أنس، ولم يعرف عند المحدثين إلا بهذا الحديث. انظر: السلسلة الضعيفة، 1 / 366. (¬2) صحيح البخاري. كتاب المساجد، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، 2 / 76. (¬3) وفاء الوفا، 4 / 1393. (¬4) سورة المجادلة، آية (12) . (¬5) انظر تفسير الطبري، 28 / 20 - 22، وتفسير القرطبي، 17 / 301 - 303. (¬6) سورة المجادلة، آية (13) .

9 - ومنها ما قاله أيضا: (إدامة النظر إلى الحجرة الشريفة فإنه عبادة قياسا على الكعبة المعظمة) (¬1) وهذا باطل لأنه لم يثبت بدليل صحيح أن النظر إلى الكعبة عبادة. ولو سلم هذا فالعبادات لا تثبت بالقياس وإنما بالنص والتوقيف. ثم إن قياس الحجرة الشريفة بالكعبة قياس باطل. لأن البيت الحرام يختص بأنواع من العبادات لا يجوز فعلها في غيره. 10 - الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وبث الشكوى إليه: ولهم في ذلك حكايات وأشعار يطول ذكرها، وقد أورد صاحب وفاء الوفا عدة حكايات فيمن استغاث به صلى الله عليه وسلم (¬2) منها أن رجلا من أهل غرناطة نزلت به علة عجز الأطباء عنها وأيسوا من برئه، فكتب عنه أحد الشعراء كتابا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فيه الشفاء لدائه والبرء مما نزل به وضمنه شعرا قال فيه: كتاب وقيذ من زمانه مستشف ... بقبر رسول الله أحمد يستشفي له قدم قد قيد الدهر خطوها ... فلم يستطع إلا الإشارة بالكف ولما رأى الزوار يبتدرونه ... وقد عاقه عن ظعنه عائق الضعف بكى أسفا واستودع الركب إذ غدا ... تحية صدق تفعم الركب بالعرف فيا خاتم الرسل الشفيع لربه ... دعاء مهيض خاشع القلب والطرف عتيقك عبد الله ناداك ضارعا ... وقد أخلص النجوى وأيقن بالعطف رجاك لضر أعجز الناس كشفه ... ليصدر داعيه بما جاء من كشف لرجل رمى فيها الزمان فقصرت ... خطاه عن الصف المقدم في الزحف وإني لأرجو أن تعود سوية ... بقدرة من يحيي العظام ومن يشفي ¬

(¬1) وفاء الوفا، 4 / 1410. (¬2) المصدر نفسه، 4 / 1379 - 1387.

رابعا بدعة المولد

فأنت الذي نرجوه حيا وميتا ... لصرف خطوب لا تريم إلى صرف عليك سلام الله عدة خلقة ... وما يقتضيه من مزيد ومن ضعف (¬1) [رابعا بدعة المولد] رابعا - بدعة المولد: مولد النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يقيمه الصوفية في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام إظهارا للسرور بمولده، وتوسع بعضهم فأجازه في أي وقت من أوقات السنة طالما أنه مظهر سرور بالنبي صلى الله عليه وسلم. ويرجع تاريخ ظهور هذه البدعة إلى الدولة العبيدية التي تسمت بالدولة الفاطمية. حيث أحدثت هذه البدعة لجذب قلوب الناس إليها، والظهور بمظهر من يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. مع أنها من أكثر الدول التي فشا فيها الإلحاد والزندقة تحت شعار التشيع وحب آل البيت. فأحدثوا ستة موالد: المولد النبوي، مولد علي رضي الله عنه، ومولد فاطمة رضي الله عنها، ومولد الحسن والحسين رضي الله عنهما، ومولد الخليفة الحاضر في ذاك الزمان. وعن طريقهم انتشرت الموالد وراجت رواجا كثيرا لدى الصوفية (¬2) فصارت كل طريقة تعمل لشيخها مولدا يتناسب ومقام الطريقة وشيخها!! هذا مع حرصهم على مولد النبي صلى الله عليه وسلم في كل عام وتسيير المواكب في الطرقات، وإنشاد القصائد، وإقامة الحفلات إلى غير ذلك من مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي. ولا نزاع في أن الاحتفال بالمولد النبوي هو من البدع الحادثة بين المسلمين حتى باعتراف الذين يفعلونه. ولكنهم قالوا: إن خلا عمل المولد من المفاسد فهو بدعة حسنة لما فيه من إطعام الطعام وقراءة شيء من السيرة وإظهار السرور بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم (¬3) . ¬

(¬1) المصدر نفسه، 4 / 1387. (¬2) انظر: الإبداع في مضار الابتداع، ص250 وما بعدها. (¬3) انظر: الحاوي للفتاوي للسيوطي، 1 / 292 - 305.

ولكن هذا لا يخرج عن كونه بدعة مذمومة شرعا لأمور: - اتخاذه عيدا شرعيا، والأعياد الشرعية يومان الفطر والأضحى كما جاء بذلك النص. - جعله عبادة شرعية وقربة إلى الله. حتى إنهم في بعض البلدان يتهمون من لم يحضر المولد بالجفاء والمروق من الدين أحيانا (¬1) . - عدم فعل السلف له مع أنهم أشد الناس حبا له صلوات الله وسلامه عليه، وهم أعرف الناس بحقوقه، ولو كان خيرا لسبقونا إليه. - إن عمل المولد يتضمن أمورا منهيا عنها شرعا كإنشاء القصائد الشركية والغلو فيه صلى الله عليه وسلم وتشويه صورة الدين بأعمال الخرافيين والمشعوذين والدجالين على ما يجري عمله في أكثر البلاد. هذا وقد استغلت الصوفية وسائل الدعاية لترويج هذه البدعة بدعوى أنها من أكبر مظاهر حبه صلى الله عليه وسلم فألفوا فيها الرسائل والكتب وسودوا بها صحائف كانت بيضاء، ونعتوا كل ناقد وموجه بعدم الحب والولاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولنا أن نقول إن الاحتفال بالمولد بدعة فيها مشابهة للنصارى في احتفالهم بمولد المسيح عليه السلام لأن دينهم المحرف قام على الغلو في الأشخاص، وديننا ينهانا عن الغلو. ثم إن فرح المسلم ينبغي أن يكون ببعثته ونزول الوحي عليه، وتلك هي المنة الحقيقية التي امتن الله بها على عباده فلولا الوحي والبعثة ما كانت لنبينا هذه المنزلة العظمى بين رسل الله أجمعين. كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] (¬2) وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] (¬3) . ¬

(¬1) انظر مجموعة رسائل الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، 1 / 493. (¬2) سورة يونس، آية (16) . (¬3) سورة العنكبوت، آية (48) .

خامسا الصلوات المبتدعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

فهذا هو السرور الحقيقي الذي لا يحتاج من المسلم إلى تحديد وقت له طالما أنه يتلو آيات القرآن صباحا ومساء فينشرح صدره وتطمئن نفسه، وطالما كان متذكرا للنبي صلى الله عليه وسلم عند كل عمل يقتدي به فيه، مكثرا من ذكره وتذكره مصليا عليه. [خامسا الصلوات المبتدعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم] خامسا- الصلوات المبتدعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد ابتدع الصوفية فيما ابتدعوا صيغا للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم زاعمين لها من الفضل والثواب وتكفير الذنوب والسيئات شيئا كثيرا ويتعاظم إفكهم حينما يقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمها لشيخ الطريقة يقظة أو مناما وأمره أن يعلمها أصحابه. مثل صلاة الفاتح (اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، الهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم) (¬1) . يزعم التيجانيون إفكا وبهتانا أن هذه الصلاة أفضل من القرآن ومن كل ذكر وقع في الكون ستة آلاف مرة. يقول التيجاني: (. . . . ثم أمرني بالرجوع صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفاتح لما أغلق. فلما أمرني بالرجوع إليها سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها، فأخبرني أولا بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانيا بأن المرة الواحدة منها تعدل من في تسبيح وقع في الكون، ومن كل ذكر، ومن كل دعاء كبير وصغير، ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الأذكار) (¬2) . وهذا كفر صريح لأنه تفضيل لكلام البشر على كلام الله رب العالمين وتحقير من شأن القرآن وصد الناس عنه كما كان يفعل كفار قريش قائلين فيما حكاه الله عنهم. ¬

(¬1) انظر: التيجانية، ص116. (¬2) المصدر نفسه، ص116، نقلا عن أحزاب وأوراد التيجاني، ص 12.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] (¬1) . ومن هذه الصيغ تلك الصلوات التي تصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأوصاف الألوهية، وذلك مثل قولهم: (اللهم صل على الكمال المطلق والجمال المحقق عين أعيان الخلق ونور تجليات الحق. فصل اللهم بك منك فيه عليه وسلم) (¬2) ومنها قولهم: (اللهم صل على محمد نور الذات وسر الساري في جميع الأسماء والصفات صلى الله عليه وسلم) (¬3) ومنها الصلاة المنسوبة لعبد السلام بن مشيش (¬4) ولفظها (اللهم صل على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق، وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق فتضاءلت الفهوم، فلم يدركه منا سابق ولا لاحق، فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة، وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة، ولا شيء إلا وهو به منوط، إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط، صلاة تليق بك منك عليه، كما هو أهله. اللهم إنه سرك الجامع الدال عليك، وحجابك الأعظم، القائم لك بين يديك. اللهم ألحقني بنسبه، وحققني بحسبه، وعرفني إياه معرفة أسلم بها من موارد الجهل وأكرع بها من موارد الفضل واحملني على سبيله إلى حضرتك، حملا محفوفا بنصرتك، واقذف بي في بحار الأحدية، وانشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحار الوحدة، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد، ولا أحس، إلا بها، واجعل الحجاب الأعظم حياة روحي. . . . إلخ) (¬5) . وواضح من هذه الصلاة غلو قائلها في الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم كفره بدين الإسلام وعقيدته وهي التوحيد، حيث وصفها بالأوحال!! لماذا؟ لأنها تفرق بين الخالق ¬

(¬1) سورة فصلت، آية (26) . (¬2) مجموعة أحزاب وأوراد أحمد بن إدريس، ص63. (¬3) دلائل الخيرات ص63. (¬4) انظر ترجمته في معجم المؤلفين، 5 / 232. (¬5) أفضل الصلوات ص111- 112.

والمخلوق، وبين الرب والعبد. لكنه لا يريد ذلك يريد أن يكون ربا وعبدا، حقا وخلقا!! ومن العجيب أن يقول النبهاني (¬1) عقب هذه الصلاة إنها: (من أفضل الصيغ المشهورة ذات الفضل العظيم) ثم نقل أقوال من استحسنوها من سلفه الصرفية ومنها: (. . . وفي قراءتها من الأسرار ومن الأنوار ما لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى، وبقراءتها (ينزل) المدد الإلهي والفتح الرباني. .) (¬2) إلخ. ومنها صيغ كثيرة تضمنت أنواعا من الغلو المذموم الذي نهى الله ورسوله عنه مثله: (اللهم جدد وجرد في هذا الوقت وفي هذه الساعة من صلواتك التامة وتحياتك الزاكيات ورضوانك الأكبر الأتم على أكمل عبد لك في هذا العالم من بني آدم، الذي أقمته لك ظلا، وجعلته لحوائج خلقك قبلة ومحلا واصطفيته لنفسك وأقمته بحجتك وأظهرته بصورتك، واخترته مستوى لتجلياتك ومنزلا لتنفيذ أوامرك ونواهيك في أرضك وسماواتك وواسطة بينك وبين مكوناتك. . .) (¬3) . ومنها: (اللهم صلي على الذات المحمدية، واللطيفة الأحمدية شمس سماء الأسرار ومظهر الأنوار، ومركز مدار الجلال، وقطب فلك الجمال) . . . إلخ (¬4) . ومنها صيغ كثيرة زعموا لها ثوابا وفضلا كثيرا من عند أنفسهم. منها صلاة السعادة ولفظها: (اللهم صل على سيدنا محمد عدد ما في علم الله صلاة دائمة بدوام ملك الله) . قال النبهاني بعد إيرادها نقلا عن الشيخ أحمد دحلان: (أن ثوابها بستمائة ألف صلاة، ومن داوم على قرائتها كل جمعة ألف مرة. كان من سعداء ¬

(¬1) يوسف بن إسماعيل بن يوسف النبهاني، (1265- 1350هـ) . انظر: ترجمته في الأعلام، 8 / 218. (¬2) انظر: أفضل الصلوات، ص112 - 113. (¬3) دلائل الخيرات، ص28. (¬4) المصدر السابق، ص88.

الدارين) (¬1) ومنها صلاة الإنعام ولفظها: (اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله عدد إنعام الله وإفضاله) (¬2) . قال النبهاني نقلا عن الشيخ أحمد الصاوي (¬3) (هذه صلاة الإنعام وهي من أبواب نعيم الدنيا والآخرة لتاليها، وثوابها لا يحصى) (¬4) . وهذه الصيغ كثيرة لدى الصوفية. بل إنها مجال تنافس بين الطرق الصوفية، إذ كل طريقة تدعي أن لديها من الأوراد (الأدعية، والأذكار والصلوات) ما يقدر بكذا وكذا من الثواب، وإن فيها من الفضل لقارئيها ما يجعلهم من الأولياء الواصلين بسرعة أو إن من فضيلة هذه الأوراد أن شيخ الطريقة قد أخذها من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة يقظة أو مناما وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وعد من يقرؤها بالقرب منه، ودخول الجنة، وغير ذلك من الدعاوى العريضة التي لا تساوي في ميزان الشرع- المأخوذ من الكتاب والسنة- شيئا، لأن الشرع لا يؤخذ من الرؤى والمنامات. ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرنا بذلك في حياته، فلو علم فيه خيرا لنا لدعانا إليه. فكيف وهو مضاد لما جاء به؟ صاد عن دينه وسنته، ويبين هذا أن هذه الأوراد المبتدعة قد حرمت كثيرا من المسلمين من التقرب إلى الله بالعبادات الشرعية التي جعلها الله سبيلا للتقرب إليه والفوز بمرضاته. فكم صدت هذه الأوراد المبتدعة أناسا عن قراءة القرآن وتدبره، وكم شغلت كثيرين عن قيام الليل بالسهر على قراءة الأوراد ثم النوم عن صلاة الفجر، وكم صرفت كثيرا من الناس عن التعبد بالعبادات الشرعية، وكم شغلت كثيرا عن معرفة الواجبات الشرعية، والعمل بها، فصار أكثر الناس جهلة بسبب اشتغالهم بهذه الأوراد. فأي حرمان أكبر من هذا؟ وما ذلك إلا بسبب انصرافهم عن الشرع إلى الهوى، وعن السنة إلى البدعة، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ¬

(¬1) المصدر نفسه، ص 149- 150. (¬2) المصدر نفسه، ص 151. (¬3) أحمد بن محمد الخلوتي، الشهير بالصاوي (1175- 1241 هـ) . فقيه مالكي. مصري. انظر ترجمته في الأعلام، 1 / 246. (¬4) أفضل الصلوات، ص151.

المبحث الثالث آثار الابتداع

[المبحث الثالث آثار الابتداع] المبحث الثالث آثار الابتداع المقصود بآثار الابتداع هو بيان المفاسد والمضار الناتجة عن البدعة بوجه عام وفي هذا المبحث سنتكلم عن أهم المفاسد والمضار المترتبة على البدعة وكيفية مقاومتها. ومما يسترعي الانتباه أن آثار الابتداع غير مقتصرة على شخص المبتدع أو من يتعبد بالبدعة بل أن لها آثارا تتعدى ذلك إلى الدين نفسه بالزيادة أو النقصان أو التغيير، وإلى المجتمع المسلم بالتفرق والاختلاف. ومن المؤسف حقا أن نرى كثيرا من المنتسبين إلى العلم فضلا عن عامة الناس يهونون من أخطار البدعة وربما رأوا أن الاشتغال بذلك غير مجد أو أنه يؤدي إلى تفرقة الأمة. وهذا مما يقلل من خطورة البدعة ويعطي المبتدعة ذريعة للبقاء على بدعهم ونشرها وما علم هؤلاء أن المسلمين ما وصلوا إلى هذا الحد من الانحلال والهزيمة، إلا بسبب انحرافهم عن فهم الإسلام وتطبيقه، وأن الابتداع كان له أكبر الأثر في هذا الانحراف بالإضافة إلى عوامل أخرى ولنأخذ على سبيل المثال الصوفية وهي من أكبر طوائف المبتدعة على نطاق العالم الإسلامي. - ماذا كان أثرها على المسلمين؟ باختصار شديد. قتلت فيهم روح الجهاد، بدعوى التفرغ لجهاد النفس وعطلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدعوى الانشغال بعيوب النفس عن عيوب الآخرين، وأظهرت في الناس الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم والصالحين بدعوى حبهم والقيام بحقوقهم إلى غير ذلك من المفاسد. ولنعد إلى بيان آثار الابتداع فنقول: إن آثار الابتداع كثيرة وذلك لكثرة البدع وشيوعها ولكنني سأقتصر هنا على بيان الأمور المهمة في هذا الجانب.

آثار البدع على المبتدع

[آثار البدع على المبتدع] آثار البدع على المبتدع: - أما آثارها على المبتدع فهو وقوعه تحت طائلة الوعيد ووصف مسلكه بالضلال، ورد عمله الذي ابتدعه عليه، وبقاء إثمها وإثم من عمل بها عليه إلى غير ذلك من الآثار. يقول الشاطبي رحمه الله عارضا لآثار الابتداع: (فاعلموا أن البدعة لا يقبل معها عبادة من صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا غيرها من القربات ومجالس صاحبها ينزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه، والماشي إليه وموقره معين على هدم الإسلام، فما الظن بصاحبها! وهو ملعون على لسان الشريعة، ويزداد من الله بعبادته بعدا، وهي مظنة إلقاء العداوة ومانعة من الشفاعة المحمدية، ورافعة للسنن التي تقابلها، وعلى مبتدعها إثم من عمل بها، وليس له من توبة، وتلقي عليه الذلة والغضب من الله، ويبعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخاف عليه أن يكون معدودا في الكفار الخارجين عن الملة (¬1) وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا ويسود وجهه في الآخرة، ويعذب بنار جهنم، وقد تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ منه المسلمون، ويخاف عليه الفتنة في الدنيا زيادة إلى عذاب الآخرة) (¬2) وسأعرض لبعض هذه الآثار بشيء من التفصيل. [عدم قبول عمل المبتدع] 1 - عدم قبول عمل المبتدع: لما كان المبتدع قد تعبد الله بما لم يشرعه من الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات وكان قبول الأعمال متوقفا على شرطين الإخلاص لله رب العالمين والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمبتدع قد أخل بشرط الاتباع فحرم بسبب بدعته قبول عمله، ويراد بعدم القبول أمران: - إما أن يراد به عدم قبول أعمال المبتدع مطلقا سواء منها ما خالف السنة أو وافقها. ¬

(¬1) بحسب بدعته. (¬2) الاعتصام، 1 / 106 - 107.

- إما أن يراد به عدم قبول ما ابتدعه خاصة دون غيره. - أما الأول: فيدل عليه ما ورد في السنة من أحاديث في هذا الباب منها: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوارج وقد روي بروايات متعددة منها ما رواه مسلم بسنده عن زيد بن وهب الجهني، (أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي رضي الله عنه. الذين ساروا إلى الخوارج فقال علي رضي الله عنه: " أيها الناس: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن. ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم. يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية» (¬1) . فهذا الحديث يدل على عدم قبول أعمالهم مع اجتهادهم في العبادة وما ذاك إلا بسبب اعتقادهم الفاسد وبدعتهم الضالة. ومنها حديث ابن عمر في القدرية: حيث قال لمن سأله عنهم: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني. والذي يحلف به عبد الله بن عمر، لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) ثم استشهد بحديث جبريل (¬2) . ومنها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المدينة حرم فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف» (¬3) والإحداث المذكور في الحديث يشمل الابتداع وغيره. وقد اختلف في معنى الصرف والعدل فعند الجمهور الصرف: الفريضة والعدل: النافلة وعن الأصمعي. الصرف التوبة والعدل: الفدية (¬4) . ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج، 2 / 748. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، 1 / 36- 38. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة، 2 / 999. (¬4) انظر: فتح الباري، 4 / 86.

فهذه الأحاديث وإن وردت في أصناف من المبتدعة بأوصافهم إلا أنه يخشى أن تشمل بقية أهل البدع. ومما يوضح هذا أنه إذا كانت البدعة أصلا يتفرع عنه سائر الأعمال فكل ما يبنى على هذا الأصل فهو بدعة مردودة على صاحبها. مثال ذلك: إنكار العمل بخبر الآحاد بإطلاق وجعل العقل حاكما والشرع تابعا إلى غير ذلك من البدع. فهذه البدع لا تختص بجانب واحد بل تتعداه إلى غيره فكل ما انبنى على هذه البدع- التي جعلها المبتدعة أصولا- فهو بدعة مردودة على صاحبها. ويتعمق الشاطبي في التحليل فيرى أن من أسباب عدم قبول أعمال المبتدع هو ضعف اعتماده على الشرع، واعتقاده أنه بدون بدعته لا يتم له التقرب إلى الله. فلا يكون لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] (¬1) معنى يعتبر به عند هؤلاء. وإنما جرهم إلى ذلك هو أن أهل البدع سلكوا مع نصوص الشرع مسلك التأويل زعما منهم بأن هذه النصوص لا تفيد اليقين وأن أمر دينهم لا يستقيم إلا بتأويلهم فلأجل هذا ضعف اعتمادهم ويقينهم في الشرع في الوقت الذي حسنوا فيه الظن بآرائهم وعقولهم وأذواقهم (¬2) . قال ابن تيمية: (والمقصود هنا أن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف، صار أهل التفرق والاختلاف، عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه، فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ¬

(¬1) سورة المائدة، آية (3) . (¬2) انظر: الاعتصام، 1 / 111 - 112.

خذلان المبتدع

ما في القرآن من ذلك المعنى، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذلك، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيفما أمكن، ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول، بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج بها) (¬1) . والذي يظهر لي والله أعلم أن المقصودين بذلك هم أهل الأهواء والفرق ممن كانت بدعهم أصولا تفرعت عنها غيرها. بخلاف أصحاب البدع الجزئية. - الأمر الثاني: أن يكون المراد بعدم القبول لأعمالهم. ما ابتدعوه خاصة دون غيره، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬2) . فهذا الحديث يبين أن العمل المخالف للشرع مردود لكونه مخالفا، أما سائر الأعمال إن جاءت موافقة للشرع كانت أقرب إلى القبول. ولا يلزم من رد هذا العمل المبتدع رد سائر الأعمال التي تكون موافقة للشرع ما لم تكن البدعة بدعة شركية. [خذلان المبتدع] 2 - خذلان المبتدع: ويقصد بذلك: أن المبتدع تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه، ويوضح هذا أن الله قد جعل فيما أنزله على نبيه من القرآن والسنة العصمة والنجاة، فقال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] (¬3) . وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] (¬4) وحبل الله هو القرآن والسنة والجماعة فأوجب الله في هذه الآية التمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) الفتاوى، 13 / 58- 59. (¬2) سبق تخريجه ص 70. (¬3) سورة آل عمران، آية (101) . (¬4) سورة آل عمران، آية (103) .

والرجوع إليهما عند الاختلاف ولزوم جماعة المسلمين، فمن تمسك بذلك واعتصم به نجا ومن أعرض عنه هلك. ولما كان المبتدع قد قدم هواه وبدعته على الشرع الذي ضمن الله العصمة في اتباعه كان جزاؤه أن تنزع العصمة منه ويوكل إلى نفسه (¬1) وهذا غاية الخذلان وسلم الحرمان إلا من يتداركه الله برحمته، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (¬2) . فهذه الفتنة في الدنيا وذلك العذاب الأليم في الآخرة جزاء لكل مخالف لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه. والمبتدع قد خالف السنة برأيه وهواه، فكان جزاؤه جزاء المخالفين إلا أن يتوب. ولا تزال البدع والأهواء بأصحابها حتى توقعهم في المهالك وتوردهم المعاطب وتلقي بهم في أودية الشبهات والشهوات، وذلك جزاء وفاقا لهم لأنهم التمسوا الهدى في غير ما أنزله الله ولم يسلموا لله في خبره وأمره ونهيه. فأهل الكلام منهم أكثر الناس شبها. ما فروا من شيء إلا وقعوا فيما هو أسوأ منه. وأهل الزهد والتصوف منهم أكثر الناس جهلا بمقاصد الشرع وأكثرهم اتباعا للهوى. وأهل التشيع والرفض من أقل الناس عقلا وأكذبهم في النقل. فعامتهم في خلط وتلبيس، ولأجل هذا نهى السلف أتباعهم عن الجلوس إلى المبتدعة أو مصاحبتهم حتى لا يفتتن بهم الناس ويكون في ذلك ردعا لأصحاب الأهواء والبدع. فعن سفيان الثوري قال: (من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع بقلبه شيء يزل به فيدخله النار، وإما أن يقول: والله لا أبالي ما تكلموا به، وإني واثق بنفسي. فمن يأمن بغير الله طرفة عين على دينه سلبه إياه) (¬3) . ¬

(¬1) انظر: الاعتصام، 1 / 112 - 113. (¬2) سورة النور، آية (63) . (¬3) رواه عنه صاحب الاعتصام، 1 / 130.

البعد عن الله

[البعد عن الله] 3 - البعد عن الله: ومن آثار الابتداع: أن المبتدع كلما ازداد اجتهادا في بدعته ازداد من الله بعدا. ويبين هذا أن الله قد جعل ما شرعه من الواجبات والمستحبات وسيلة للتقرب إليه، وعلى قدر اجتهاد العبد في فعل الطاعات واجتناب المنهيات على قدر ما يكون قربه من ربه. والمبتدع قد تعبد الله بما لم يشرعه من أنواع البدع التي نهى عنها الشرع، وهو يعتقد أنه يتقرب إلى الله بهذه البدع فكلما ازداد اجتهادا في بدعته كلما ازداد بعدا من الله. وذلك كمن يريد الذهاب إلى مكة فسلك في طريق معاكس. فكلما اجتهد في السير كلما ازداد بعدا عن مكة حتى ولو ظن أنه قد اقترب منها. قال أيوب السختياني (¬1) . (ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا) (¬2) وفي الأحاديث الصحيحة عن الخوارج ما يؤيد ذلك، إذ كانوا أهل اجتهاد وعبادة وصلاة وصيام ومع ذلك مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية (¬3) وما ذلك إلا بسبب بدعتهم. [أن المبتدع يلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من الله في الآخرة] 4 - أن المبتدع يلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من الله في الآخرة: ذلك أن الله قد جعل العزة له ولرسوله وللمؤمنين فقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] (¬4) وعلى قدر تمسك المسلم بدينه وعدم تعديه حدود الشريعة على قدر ما تكون له العزة. والمبتدع قد زاد في دينه أو نقص منه فتعدى ¬

(¬1) هو أبو بكر أيوب بن أبي تميمة السختياني من أعلام التابعين رأى أنس بن مالك وروى عن عمرو بن سلمة الجرمي. قال عنه مالك كان من العاملين الخاشعين وقال: كتبت عنه لما رأيت من إجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم. انظر: تهذيب التهذيب، 1 / 397. (¬2) رواه ابن وضاح في كتاب البدع والنهي عنها، ص 27. (¬3) سبق تخريجه، ص 295. (¬4) سورة المنافقون، آية (8) .

تبرؤ الرسول صلى الله عليه وسلم من المبتدعة

حدود ما شرعه الله، وهذا يوجب له الذل والغضب من الله تعالى، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] (¬1) . وكل من ابتدع في دين الله فهو ذليل بحسب بدعته، وإن أظهر للناس خلاف ذلك. ويتأكد هذا حينما تكون السنة معلنة، وأهلها مستمسكين بها، داعين إليها، ذائدين عن حياضها. صابرين على الأذى في سبيلها. ومن تأمل أحوال المبتدعة في الزمان الأول تحقق له ما كانوا عليه من ذلة وصغار حتى لجئوا إلى السلطان، ولاذوا بأهل الدنيا، ومن لم يستطع ذلك هرب واستخفى. أما في زماننا هذا فقد استأسد أهل البدع بسبب قلة العلم، وتشجيع الاستعمار لهم في حالة ضعف البلاد الإسلامية. وعدم مبالاة حكام المسلمين بإقامة شرع الله والذود عنه والدعوة إليه والالتزام به قولا وعملا إلا من رحم الله. لأجل هذا استعلن المبتدعة ببدعهم ولبّسوا على الناس دينهم وادعوا أنهم على الحق والحقيقة حتى إذا رفعت راية السنة وسرت في المسلمين روح الصحوة الإسلامية عادوا إلى التخفي والاستتار. فبحسب ظهور الحق يكون خفاؤهم، والعكس صحيح. [تبرؤ الرسول صلى الله عليه وسلم من المبتدعة] 5 - تبرؤ الرسول صلى الله عليه وسلم من المبتدعة: ومن آثار الابتداع وشؤمه على المبتدع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبرأ من الراغب عن سنته الحائد عن هديه، فقال: «ومن رغب عن سنتي فليس مني» (¬2) . والمبتدع قد رغب عن السنة ومال عنها إلى ما زينه له هواه وشيطانه من البدع. فهو داخل تحت هذا الوعيد. وقد تبرأ ابن عمر من القدرية حيث قال ¬

(¬1) سورة النساء، آية (115) . (¬2) سبق تخريجه، ص122.

أن من ابتدع بدعة كان عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة

لمن سأله عنهم: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني) (¬1) . [أن من ابتدع بدعة كان عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة] 6 - أن من ابتدع بدعة كان عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة: قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] (¬2) الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:. . «ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (¬3) . وقال: «ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل» (¬4) وقال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» (¬5) . [عدم توفيق المبتدع للتوبة] 7 - عدم توفيق المبتدع للتوبة: إن من شؤم البدعة على صاحبها أنه ليس له توبة بمعنى أنه قلما يتوب لأن الشيطان زين له بدعته فنظر إليها على أنها طاعة وقربة، ولم ينظر إليها على أنها معصية. ومن كانت هذه حاله فقل أن يتوب إلا من يتداركه الله برحمته. وعلى هذا المعنى تحمل الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب. من ذلك ما أخرجه ¬

(¬1) سبق تخريجه، ص295. (¬2) سورة النحل، آية (25) . (¬3) سبق تخريجه، ص 266. (¬4) سبق تخريجه، ص 227. (¬5) صحيح مسلم. كتاب العلم. باب من سن سنة حسنة أو سيئة، 4 / 2060.

ابن أبي عاصم بسنده عن أنس رضي الله عنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حجز- أو قال حجب- التوبة عن كل صاحب بدعة» (¬1) . وأخرج أبو داود بسنده عن معاوية بن أبي سفيان قال: «ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: " ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وأن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة» . زاد ابن يحيى وعمرو في حديثهما: «وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجاري بهم الأهواء كما يتجارى الكَلب لصاحبه» ، وقال عمرو: «الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» (¬2) . ففي هذا الحديث تشبيه الأهواء بداء الكلب الذي يصيب المريض فلا يترك فيه عرقا ولا مفصلا إلا ودخله ومن كان هذا حاله فقلما يبرأ من هذا المرض. وهكذا الأهواء إذا أشربها قلب صاحبها صارت كالداء المهلك الذي لا ينجو منه إلا القليل. ومن كانت هذه حاله فقل أن ينزع أو يتوب. ولهذا قال سفيان الثوري: (إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها) (¬3) . ويفصل ابن تيمية هذا الكلام فيقول: (ومعنى قوله إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينا لم يشرعه الله ولا رسوله، قد زُيِّن له سوء عمله فرآه حسنا فهو لا يتوب مادام يراه حسنا، لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنا مأمورا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسنا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب) (¬4) . وقد روي عن بعض السلف آثار بهذا المعنى ولكنها محمولة على ما سبق ¬

(¬1) كتاب السنة للحافظ أبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة. محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1 / 12. قال الشيخ الألباني: حديث صحيح بشواهده. (¬2) سبق تخريجه ص121. (¬3) الفتاوى، 10 / 9. (¬4) الفتاوى، 10 / 9.

بيانه. أما توبة المبتدع فهي جائزة الوقوع وممكنة، وذلك بأن يهديه الله ويرشده إلى الحق فإن تاب تاب الله عليه، لأن باب التوبة مفتوح لكل مذنب وعاص أو ضال. قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] (¬1) وقال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] (¬2) فهاتان الآيتان وغيرهما من آيات التوبة في القرآن تدلان دلالة واضحة على أن باب التوبة مفتوح لكل من أسرف على نفسه أو ظلم، إذا عاد وتاب واتبع الحق. ولا شك أن المبتدع داخل ضمن المسرفين على أنفسهم والظالمين لها. فتشمله آيات التوبة، وقد ورد في السنة ما يؤكد ذلك وهو شمول التوبة. فقد أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه» (¬3) إلى غير ذلك من الأحاديث، ومن هنا يتبين لنا أن توبة المبتدع جائزة وممكنة وأن باب التوبة مفتوح. وقد رجع كثير من المبتدعة عن بدعهم واتبعوا السنة فهداهم الله، وناقش ابن عباس الخوارج فرجع منهم عدد كبير. على أنه ينبغي لنا أن نلاحظ أن هناك فرقا بين الرءوس والأتباع، وبين الداعي إلى البدعة والمقلد فليسوا في تيسير التوبة سواء. وذلك بحسب تمكن البدعة من القلب. ومع ذلك فمن تاب منهم تاب الله عليه. ولكن كيف تكون توبة المبتدع؟ إنما تتحقق توبة المبتدع باتباع السنة علما وعملا واعتقادا والوقوف عندها، ولا يكتفي منه بذلك حتى يبين فساد ما كان عليه من البدعة بحاله ومقاله، إذ ¬

(¬1) سورة الزمر، آية (53) . (¬2) سورة الرعد، آية (6) . (¬3) صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، 4 / 2076.

التوبة من ذنب تكون بفعل ضده. . وقد شرط الله تعالى في توبة الكاتمين لما أنزله من البينات والهدى- بيان ما كتموه وإصلاح ما أفسدوه لأن ذنبهم لما كان بالكتمان، كانت توبتهم منه بالبيان. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159 - 160] (¬1) . وذنب المبتدع غير ذنب الكاتم لأن هذا كتم الحق، وذاك كتمه ودعا إلى خلافه، إذا فلا بد للمبتدع أولا أن يعلم أن ما يفعله بدعة، وأن عليه أن يعلم المسنة ويعمل بها، ثم عليه أن يبين للناس فساد ما كان عليه من بدعة حسب الاستطاعة. وأن يستقيم على ملازمة السنة ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه حتى تزول عنه حجب البدعة وتشرق عليه شمس السنة (¬2) . يقول ابن القيم: (فإن السنة -بالذات- تمحق البدعة ولا تقوم لها وإذا طلعت شمسها في قلب العبد قطعت من قلبه ضباب كل بدعة، وأزالت ظلمة كل ضلالة إذ لا سلطان للظلمة مع سلطان الشمس. ولا يرى العبد الفرق بين السنة والبدعة، ويعينه على الخروج من ظلمتها إلى نور السنة، إلا المتابعة، والهجرة بقلبه كل وقت إلى الله، بالاستعانة والإخلاص، وصدق اللجأ إلى الله. والهجرة إلى رسوله بالحرص على الوصول إلى أقواله وأعماله وهديه وسنته، «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» ومن هاجر إلى غير ذلك فهو حظه ونصيبه في الدنيا والآخرة والله المستعان) (¬3) . ¬

(¬1) سورة البقرة، آية (159 - 160) . (¬2) انظر: مدارج السالكين، 1 / 363. (¬3) مدارج السالكين، 1 / 374.

الخوف على المبتدع من سوء الخاتمة

[الخوف على المبتدع من سوء الخاتمة] 8 - الخوف على المبتدع من سوء الخاتمة: إن من شؤم البدعة أنه يخاف على صاحبها من سوء الخاتمة، وسوء الخاتمة- والعياذ بالله- هو أن يعتري الإنسان عند الموت شك أو جحود أو اعتراض على الله. فيسخط العبد حينئذ لقاء الله فيسخط الله لقاءه، ويختم للعبد حينئذ بما يوجب له دخول النار إما فترة وإما خلودا فيها. وسبب ذلك مرض في قلبه وخلل في أمره وإن بدا للناس غير ذلك. وفي البخاري بسنده عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه ما يوضح ذلك حيث قال: «التقى النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون في بعض مغازيه فاقتتلوا، فمال كل قوم إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجلا لا يدع شاذة، ولا فاذة إلا أتبعها فضربها بسيفه، فقيل يا رسول الله، ما أجزأ أحد ما أجزأ فلان فقال إنه من أهل النار. فقالوا. أيّنا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟ فقال رجل من القوم لأتبعنه، فإذا أسرع وأبطأ كنت معه حتى جرح فاستعجل الموت، فوضع نصاب السيف بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله. فقال: وما ذاك؟ فأخبره. فقال: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وأنه من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» (¬1) . وروى الإمام أحمد بسنده عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عليكم أن تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له فإن العامل يعمل زمانا من دهره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملا سيئا، وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملا صالحا، وإذا أراد الله بعبد خيرا استعمله قبل موته، قالوا: يا رسول الله. وكيف يستعمله؟ قال يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه» (¬2) . ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5 / 170. (¬2) رواه أحمد في المسند، 3 / 120، وصححه الألباني وقال: إسناد صحيح على شرط الشيخين. انظر: السلسلة الصحيحة، 3 / 323.

فهذان الحديثان- وما في معناهما- يدلان على أن أمر العبد موقوف على خاتمته والتي لا يعلمها إلا الله. لأجل هذا عظم خوف الصالحين من سوء الخاتمة، وجرت دموعهم مغزارة، خوفا من أن تزل قلوبهم ساعة الاحتضار فيختم لهم بسوء أو أن تنقلب أحوالهم بعد الطاعة عصيانا فيموتون على ذلك إن لم يتداركهم الله بتثبيته. فهذا الذي جعلهم يخافون لعلمهم أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن فمن شاء أقامه ومن شاء أزاغه. فكانوا في كل وقت وحين يسألون الله التثبيت والثبات على الإيمان وحسن الخاتمة. ونسأل الله ذلك بمنه وكرمه. وبعد. . فإن لسوء الخاتمة أسبابا تتقدم عليها منها الشرك أو النفاق أو التعلق بغير الله أو الكبر وما شاكله من الصفات المذمومة، أو البدعة وهي المقصودة بالذكر وصاحبها على خطر، وقل أن يختم لمبتدع بالسلامة إلا أن يتداركه الله برحمته (¬1) وإنما خيف على المبتدع سوء الخاتمة، لأن حال الموت حال انكشاف للحقائق فربما انكشف له حينئذ عوار بدعته وضلال ما كان عليه فيخيل له الشيطان حينئذ أن دينه كله ضلال. فيعتريه الشك حينئذ أو الجحود بالدين الحق فيختم له بما سبق عليه الكتاب. ولهذا نجد رءوس أهل الأهواء والبدع يصرحون عند الموت بضلال ما كانوا فيه. . وتتقطع قلوبهم أسى وحسرة على ضياع أعمارهم فيما ظهر لهم ضلاله (¬2) . وحينئذ لا ينجي إلا التثبيت من الله ولا نجاة بدونه. فنسألك اللهم الثبات على الإيمان حتى نلقاك عليه. ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين. الغزالي، 4 / 214 - 224، ط مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر. (¬2) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص 227- 230.

الطرد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم

قال أبو محمد عبد الحق الإشبيلي (¬1) . (واعلم أن سوء الخاتمة- أعاذنا الله منها- لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، وإنما تكون لمن كان له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم. فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة ويثبت قبل الإنابة، فيصطلمه (¬2) الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله ثم العياذ بالله، أو يكون ممن كان مستقيما، ثم يتغير عن حاله ويخرج عن سننه، ويأخذ في طريقه، فيكون ذلك سببا لسوء خاتمته وشؤم عاقبته والعياذ بالله {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11] (¬3)) (¬4) . [الطرد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم] 9 - الطرد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم: إن من شؤم البدعة على صاحبها أنه يطرد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أن الورود على الحوض إنما هو كرامة من الله لكل مسلم اتبع السنة ولقي الله عليها. والمبتدع لما خالف السنة بهواه وأحدث في الدين ما ليس منه كان من المحجوبين المطرودين عن الحوض، كما أن صاحب البدعة على إطلاقه ممن يخاف عليه ذلك. فقد أخرج مسلم بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليردن على الحوض رجال ممن صاحبني. حتى إذا رأيتهم ورفعوا إليّ، ¬

(¬1) هو أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي الأشبيلي المالكي (510- 581هـ) . فقيه. لغوى. محدث. من تصانيفه: الأحكام الشرعية الكبرى والوسطى والصغرى، الجمع بين الصحيحين، الوافي في اللغة. الزهد. انظر: سير أعلام النبلاء، 21 / 198 - 202. معجم المؤلفين، 4 / 92. (¬2) الاصطلام- بمعنى - الاختطاف والانتزاع. (¬3) سورة الرعد، آية (11) . (¬4) العاقبة في ذكر الموت والآخرة. لأبي محمد عبد الحق الأشبيلي، تحقيق الشيخ خضر محمد خضر، ط 1، مكتبة دار الأقصى الكويت، 1406 هـ، ص 180- 181.

اختلجوا (¬1) دوني. فلأقولن: أي رب أصيحابي. أصيحابي. فليقالنّ لي إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك» (¬2) وأخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين. وإنا إن شاء الله، بكم لاحقون. وددت أنا قد رأينا إخواننا. قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال " أنتم أصحابي. وإخواننا الذين لم يأتوا بعد " فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال " أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة. بين ظهري خيل دهم بهم (¬3) ألا يعرف خيله؟ قالوا بلى يا رسول الله! قال " فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء. وأنا فرطهم (¬4) على الحوض. ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال. أناديهم ألا هلم! فيقال " إنهم قد بدلوا بعدك. فأقول: سحقا (¬5) سحقا» (¬6) . قال النووي: (هذا مما اختلف العلماء في المراد به على أقوال: - أحدها: أن المراد به المنافقون والمرتدون، فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم للسيماء التي عليهم، فيقال: ليس هؤلاء ما وعدت بهم، إن هؤلاء بدلوا بعدك، أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم. - والثاني: أن المراد من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد بعده فيناديهم ¬

(¬1) اختلجوا: اقتطعوا وانتزعوا. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفات، 4 / 1800. . (¬3) دهم بهم: أي سود لم يخالط لونها لون آخر. (¬4) الفرط: هو الذي يتقدم القوم وبسبقهم ليرتاد لهم الماء ويهيئ لهم الدلاء والأرشية. (¬5) سحقا سحقا: أي بعدا بعدا. وهذا دعاء عليم بالطرد والإبعاد. (¬6) صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل، 1 / 218. ورواه مالك بنحوه، كتاب الطهارة، باب جامع الوضوء، 1 / 28.

آثار البدع على الدين

النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء، لما كان يعرفه صلى الله عليه وسلم في حياته من إسلامهم، فيقال: ارتدوا بعدك. - والثالث: أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام. وعلى هذا القول لا يقطع لهؤلاء الذين يذادون بالنار، بل يجوز أن يذادوا عقوبة لهم، ثم يرحمهم الله سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة بغير عذاب. قال أصحاب هذا القول: (ولا يمتنع أن يكون لهم غرة وتحجيل، ويحتمل أن يكون كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده لكن عرفهم بالسيما) (¬1) . . وقال ابن عبد البر (¬2) . : (كل من أحدث في الدين ما لا يرضاه الله فهو من المطرودين عن الحوض وأشدهم من خالف جماعة المسلمين كالخوارج والروافض وأصحاب الأهواء، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق، والمعلنون بالكبائر، فكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر) (¬3) . [آثار البدع على الدين] [إماتة السنن] آثار البدع على الدين: كما أن للبدعة آثارًا سيئة على المبتدع، فإن لها آثارا سيئة على الدين نفسه. وكيف لا؟ والمبتدع إنما أضافها إلى الدين ونسبها إليه فزاد في دينه أو نقص منه بسبب بدعته، وهذه الآثار كثيرة منها: ¬

(¬1) صحيح مسلم بشرح النووي، 3 / 136 - 137. (¬2) هو أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي، (368 - 464هـ) . إمام الأندلس وعالمها - من كبار حفاظ الحديث. فقيه. أديب. من تصانيفه: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، الكافي في الفقه المالكي، شرح مذاهب علماء الأمصار، جامع بيان العلم وفضله وغيرها. انظر: نفح الطيب، 4 / 29 - 31، والأعلام، 8 / 240. (¬3) شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، المكتبة التجارة الكبري - مصر، 1959م، 1 / 65.

1 - إماتة السنن: إن من أعظم آثار البدعة على الدين هو إماتة السنة وذلك لأن البدع رافعة لما يقابلها من السنن، وما قامت بدعة إلا على نقض سنة وتركها فتحيا- بسبب ذلك- البدعة وتموت السنة. ويصير المعروف منكرا والمنكر معروفا. حتى إذا عمت البدع وانتشرت صارت السنة وأهلها غرباء لا تجد منهم إلا الأفراد. ولأجل هذا اشتد تحذير الصحابة والتابعين لهم بإحسان من البدع لعظم خطرها وكثرة شرورها. فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: (ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن) (¬1) . وعن حسان بن عطية المحاربي (¬2) . قال: (ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة) (¬3) . وقد حاصر السلف أهل الأهواء والبدع، وقعدوا لهم كل مرصد وكشفوا أسرارهم، وهتكوا أستارهم، ونهوا الناس عن مجالستهم أو توقيرهم، واستعانوا عليهم بإظهار السنة والصبر عليها مهما كان إيذاء أهل البدع لهم. فرحم الله بهم الأمة وكشف بهم الغمة وأعلى بهم منار الدين، فكانوا هم الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة. ثم دار الزمان دورته فصار أهل السنة غرباء بين أهل البدع، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء» (¬4) . ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، 10 / 319. قال الهيثمي: رجاله موثوقون. مجمع الزوائد، 1 / 188. (¬2) هو أبو بكر حسان بن عطية المحاربي مولاهم الدمشقي. من التابعين حدث عن أبي أمامة الباهلي وسعيد بن المسيب وغيرهما، وعنه الأوزاعي وحفص بن غيلان وغيرهما. انظر: سير أعلام النبلاء، 5 / 466، وتهذيب التهذيب، 2 / 251. (¬3) أخرجه الدارمي في المقدمة، باب اتباع السنة، 1 / 45، وسنده صحيح. انظر: مشكاة المصابيح، 1 / 66. (¬4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة من بعض القلوب، 1 / 130.

هجران الدين

على أن الأمر لم يقف عند إحياء البدعة وإماتة السنة بل تعدى ذلك إلى بغض السنة وأهلها والوقيعة فيهم. يقول ابن تيمية: (ومن المعلوم أنك لا تجد أحدًا ممن يرد نصوص الكتاب والسنة بقوله إلا وهو يبغض ما خالف قوله، ويود أن تلك الآية لم تكن نزلت، وأن ذلك الحديث لم يرد، لو أمكنه كشط ذلك من المصحف لفعله) (¬1) . ولا تقف خطورة البدع عن حد. إذ ينتهي الأمر بالمبتدعة إلى تغيير معالم الدين بوضع الرسوم، وحد الحدود، وتقعيد الأصول على الرأي والهوى. حتى تغدو وكأنها دين آخر مخترع. ويتأكد هذا في طوائف المبتدعة إذ لكل طائفة نهجها في الأخذ والتلقي، والقبول والرد، والولاء والبراء، ولها موازينها واصطلاحاتها، وكأنما هي شريعة مستقلة. [هجران الدين] 2 - هجران الدين: وأعني به هجر الكتاب والسنة وما يتبعهما من العلم النافع والعمل الصالح، ويبين هذا أن كل طائفة هجرت من النصوص ما يخالفها وسلكت لذلك مسلك التأويل والرد وربما تعدى ذلك إلى التكذيب بما جاءت به النصوص. فغدت بذلك نصوص الشرع معطلة مهجورة من جوانب عديدة: - عدم التماس الهدى والعلم واليقين منها. - عدم التحاكم إليها عند النزاع وتحكيمها والتسليم لها. - عدم الاستشفاء بما فيها من الشفاء لأمراض القلوب وجماعها الشبهات والشهوات. ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، من مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض 1403 هـ، 5 / 217.

آثارها على المجتمع

ثم إن انتشار البدع بين صفوف المسلمين سبب لحرمان أكثرهم من معرفة الحق والهدى، وحرمانهم من التعبد لله بالعبادات الشرعية التي علق الله على وقوعها الثواب والسعادة في الدنيا والآخرة. فنقل المبتدعة أتباعهم من الهدى إلى الضلال ومن الحق إلى الباطل، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. [آثارها على المجتمع] [التفرق والاختلاف] آثارها على المجتمع: 1 - التفرق والاختلاف: كما أن للبدع آثارا سيئة على الدين فإن لها آثارا على المجتمع المسلم، وذلك يتمثل في أمور منها: الاختلاف والفرقة وما ينتج عنهما من العداوة والبغضاء. وقد نهى الله عن التفرق والاختلاف في آيات كثيرة من كتابه العزيز فقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] (¬1) . وقال: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] (¬2) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] (¬3) . وقال: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31 - 32] (¬4) . . ويوضح ذلك أن كل مبتدع يريد أن ينصر بدعته وأن يدعو لها وأن يكثر سواد أهلها، ولا يتم له ذلك إلا بمخالفة السنة وأهلها والوقيعة فيهم والعداوة والبغض لهم، وكما قيل: علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر. وباستعراض تاريخ الإسلام نجد أن أهل الأهواء والبدع كانوا من أكبر أسباب تفرق المسلمين إلى شيع وأحزاب. فأول من فارق جماعة المسلمين أهل البدع من الخوارج ثم تبعهم المبتدعة على ذلك، وليس الأمر قاصرا على ذلك بل ربما تعداه إلى حمل السيف على أهل السنة كما فعل الخوارج وغيرهم. ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية (105) . (¬2) سورة الأنعام، آية (153) . (¬3) سورة الأنعام، آية (159) . (¬4) سورة الروم، آية (31، 32) .

الفتن والمحن

فإن لم يستطيعوا ذلك تقربوا إلى الملوك واستعملوا حيلهم في الوقيعة بأهل السنة وإلحاق الأذى بهم، وها هم المعتزلة ومن لف لفهم يسلكون هذا الطريق ولكن هيهات " فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (¬1) . ولا يزال أهل الإسلام من المبتدعة في شر. فكم حاولوا تشويه الحقائق وتلبيس الدين على الناس وكم تحالفوا مع أعداء الله من شياطين الإنس والجن حتى ينشروا بدعهم ولو على حساب السنة. وفي التاريخ الحديث رأينا كيف شجع الاستعمار الصوفية حتى أماتت لدى المسلمين روح العزة والجهاد. [الفتن والمحن] 2 - الفتن والمحن: ومن عواقب الابتداع الوخيمة أنه ما ترك الناس السنة وأقبلوا على البدع إلا وضربهم الله بالبلاء والفتن وجعل بأسهم بينهم شديدا وسلط عليهم أعداءهم جزاء لتركهم سنة نبيهم وإعراضهم عن هديه والتمسك به. قال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] (¬2) ويكفي بلاء أن أعداء الإسلام استغلوا أهل البدع في تعويق الدعوة إلى الإسلام، والصحوة الإسلامية، بضرب المسلمين بعضهم ببعض. كيفية مقاومة البدع: لا شك أن البدع، مرض خطير يهدد الأمة الإسلامية منذ قرون. وقد ذاقت الأمة بسببه أنواعا من البلاء والفتن. وبقدر انتشار البدع بقدر ما يكون العناء والنصب. فلا بد إذا- والحالة هذه- من مقاومة البدع ما أمكن لإنقاذ من أراد الله هدايته من السقوط في مهاوي البدع والضلالات. ويتأتى ذلك بعدة أمور: ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين، 3 / 1523. (¬2) سورة الأنعام، آية (65) .

معرفة حقيقة البدعة وخطرها حتى نحدد أبعادها. معرفة واقع البدعة وتاريخها في كل مجتمع إسلامي وعلى ذلك تتم الدعوة إلى السنة. نشر السنة علما وتعلما وتطبيقا وسلوكا. فإن البدع ما ظهرت إلا بخفاء السنة على الناس وغياب نورها عنهم، وجهل الناس بآثار النبوة. وعلاج ذلك هو إظهارها تعليما وتطبيقا. الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وهذا الأمر سبب مهم في انفتاح قلوب الناس للنور والهدى. فالداعية الحكيم هو الذي يستطيع- بتوفيق الله عز وجل- امتلاك زمام القلوب. بحسن بيانه، وجميل تصرفه، وكريم سجاياه. فكم اهتدى فئام من الناس على يد دعاة موفقين. وكم صد عن الحق كثير ممن يدعو إليه إذا لم يرزق التوفيق والحكمة، فالأمر يحتاج إلى معالجة حكيمة أشبه ما تكون بمعالجة الطبيب الناصح للمريض وقد أعضله الداء. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا الأمر تابع لما قبله إلا أنه يتميز بالحسم في أكثر الأحيان ممن بيده سلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم أولو الأمر. العلماء والأمراء. فإذا كانوا على غيرة لهذا الدين دفاعًا عنه من تحريف الغالين وتأويل المبطلين وانتحال الجاهلين قلّت البدع. وإذا أداروا ظهورهم للإسلام وكأن الأمر لا يعنيهم انتشرت البدع، والمستقرئ للتاريخ الإسلامي يرى أن البدع يكثر انتشارها والمجاهرة بها حينما ينفصل السلطان عن القرآن. وينشغل أولو الأمر بالصراع على حطام الدنيا، فيجد أهل البدع فرصتهم السانحة في نشر بدعهم. وهذا يفسر لنا سر انتشار البدع كلما امتد الزمان بهذه الأمة. فما لم يقم المسلمون عامة وأولو الأمر خاصة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسوف تنتشر البدع بآثارها الوبيلة. ويدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور منها:

تتبع الملاحدة والمرتدين ومحاولة معرفة تحركاتهم. إقامة حد الردة على من ثبت بالدليل كفره، ومروقه، وزندقته. منع وصول كتب الزنادقة والغلاة كابن عربي وأمثاله إلى الناس حتى لا يضل بها من لا يعرف حقيقة مذهبهم. أمر الدعاة بتبيين أوجه ضلال هؤلاء الضالين وتحذير الناس من بدعهم. إتاحة الفرصة لدعاة الخير لتوجيه الناس وإرشادهم وإعانتهم على أمورهم. توجيه مناهج التعليم إلى ضرورة معرفة طلبة العلم بهذه البدع وأخطارها. هذه بعض وسائل مقاومة البدع حسب رأيي والله أعلم.

الخاتمة

[الخاتمة] الخاتمة بعد معالجتي لهذا الموضوع توصلت إلى النتائج التالية: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم هي ميل قلب المسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ميلا يتحقق فيه إيثاره على كل من سواه من البشر. أن المحبة أمر زائد على الاتباع، إذ هي بمنزلة الباعث والدافع إلى هذا الاتباع. أن المحبة ركن أساسي من أركان الإيمان لا يصح الإيمان بدونه. أن التعبير الحقيقي عن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم يتمثل في صدق الاتباع له، والاقتداء به وتعظيمه وتوقيره والقيام بحقوقه ومحبة ما يحبه وبغض ما يبغضه. أن بين المحبة والاتباع علاقة مطردة إذا لا يوجد أحدهما بدون وجود الآخر فمن حقق الاتباع وبذل الوسع في معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم فقد صدق في المحبة. أن بين المحبة والغلو بونا شاسعا. فالمحبة أمر شرعي والغلو مذموم ومنهي عنه شرعا، ولا يمكن اتفاقهما. أن من غلا في الرسول صلى الله عليه وسلم فهو متشبه بالنصارى في غلوهم في عيسى عليه السلام. أن بداية الغلو في هذه الأمة كانت لدى الشيعة وعنهم انتقل إلى الصوفية. كان الحلاج أول صوفي اشتهر عنه الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم منطلقا من مذهبه في حلول الإله في الإنسان. وهو في هذا يشبه النصارى في غلوهم في عيسى عليه السلام. كان مقتل الحلاج تحولا كبيرا في من أتى بعده من الصوفية عامة وغلاتهم خاصة، وتمثل ذلك في: - استتارهم بمذهبهم، ومحاولة إخفاء حقيقته عن عامة المسلمين.

- اتخاذ الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم ذريعة إلى نشر العقائد الهدامة في صفوف الأمة بدعوى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم. كان ابن عربي من أكبر السائرين على درب الحلاج في محاولة الخروج على الإسلام. يعد ابن عربي صاحب مذهب وحدة الوجود في المحيط الصوفي، إذ بذل في سبيل نشره ودعوة الناس إليه كل ما في وسعه. أن ابن عربي قد غلا في الرسول صلى الله عليه وسلم ورفعه إلى مرتبة الألوهية بمذهبه في الحقيقة المحمدية المساوية للحقيقة الإلهية. إن غلو ابن عربي ومثله الحلاج وغيرهما من غلاة الصوفية لم يكن نتيجة حب للرسول صلى الله عليه وسلم، بل كان زندقة وإلحادا وكيدا لهذا الدين. كان للغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم أكبر الأثر في إفساد العقيدة والعبادة لدى أكثر الصوفية، وتمثل ذلك في ضلال معتقدهم في الله ورسوله. إن الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم محرم شرعا لما يفضي بصاحبه إلى الخروج من الدين. من اعتقد مقالة غلاة الصوفية كالقول بالحقيقة المحمدية، وأن الرسول مخلوق من نور، وأنه كان موجودا بحقيقته قبل خلق السماوات والأرض. وأن الكون خلق من نوره، أو أنه روح الله المنفوخ في آدم إلى غير ذلك من مقالات الغلاة. من اعتقد بمثل هذا فقد كفر بعد قيام الحجة عليه. إن من آثار الغلو ظهور البدع الاعتقادية والعملية. إن البدعة أمر مذموم شرعا بلا استثناء إذ كلها ضلالة. إن القول بتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة قول غير مستقيم شرعا. اتخذ كثير من الصوفية اختلاف العلماء في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة ذريعة إلى ترويج بدعهم تحت ستار اسم البدعة الحسنة. إن الصوفية وبالأخص غلاتهم من أكثر الناس ابتداعا وخروجا على السنة. استغل كثير من الصوفية دعوى المحبة في إظهار كثير من البدع. مثل الحضرات والموالد والتوسل البدعي والشركي وصيغ الصلوات المبتدعة.

إن للابتداع آثارا سيئة على المبتدعة، وتمثل ذلك في حرمانهم من الهدى وقضاء أعمارهم في التيه والضلال ثم ما ينتظرهم من أليم العقاب، إذا لم يتوبوا ويرجعوا إلى حظيرة السنة والجماعة. كما كان الغلو سببا من أسباب الانحراف بالمحبة عن وضعها الشرعي. فإن الجفاء والتقصير في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر مرضا خطيرًا يجب معالجته عند بعض المسلمين. إن التوسط في أمر المحبة لن يكون إلا بصدق الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا تأدبا بآدابه وتخلقا بأخلاقه صلى الله عليه وسلم.

قائمة المراجع

[قائمة المراجع] قائمة المراجع أولا: القرآن الكريم: ثانيا: المراجع والمصادر: (1) الإبداع في مضار الابتداع. تأليف الشيخ علي محفوظ. ط 7. دار الاعتصام القاهرة. (2) أبو الحسن الشاذلي الصوفي المجاهد والعارف بالله. تأليف د. محمد عبد الحليم محمود. ط. دار الكتاب العربي مصر 1967. (3) أحكام الجنائز وبدعها. للشيخ محمد ناصر الدين الألباني. ط4 طبع المكتب الإسلامي. بيروت 1406 هـ. (4) الإحكام في أصول الأحكام لأبي الحسن الآمدي. تحقيق الشيخ عبد الرزاق عفيفي طبع المكتب الإسلامي بيروت 1402 هـ. (5) أحكام القرآن. لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي - تحقيق علي محمد البجاوي. ط 1. عيسى الحلبي. مصر 1378 هـ. (6) إحياء علوم الدين. لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي. طبع مؤسسة الحلبي - القاهرة. (7) الأذكار لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي. ط 4. مطبعة مصطفى الحلبي - مصر. (8) إرشاد الفحول. لمحمد بن علي الشوكاني. ط 1 مطبعة مصطفى الحلبي - مصر 1356هـ. (9) استنشاق نسيم الإنس من نفحات رياض القدس. لأبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي - طبع مطبعة الإمام مصر. (10) الإصابة في تمييز الصحابة. للحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني. نشر دار الكتاب العربي - بيروت. (11) أصول الدين لعبد القاهر بن طاهر البغدادي ط 3 دار الكتب العلمية- بيروت 1401هـ. (12) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. للشيخ محمد الأمين الشنقيطي. مطبعة المدني. مصر. (13) الاعتصام. للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي تحقيق محمد رشيد رضا. ط. دار الفكر العربي - بيروت.

(14) الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي. تصحيح كمال يوسف الحوت. ط 1 عالم الكتب بيروت 1403 هـ. (15) الأعلام. تأليف خير الدين الزركلي. ط 5 دار العلم للملايين بيروت 1980م. (16) إعلام الموقعين عن رب العالمين. لابن قيم الجوزية. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. ط. دار الفكر بيروت. (17) أفضل الصلوات على سيد السادات. ليوسف بن إسماعيل النبهاني. ط المكتبة الأدبية. بيروت 1309هـ. (18) أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام. تأليف د. محمد العروسي عبد القادر. ط دار المجتمع. جدة 1404هـ. (19) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم. لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية. تحقيق دكتور ناصر بن عبد الكريم العقل ط 1 مطابع العبيكان الرياض 1404 هـ. (20) الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل. لعبد الكريم بن إبراهيم الجيلي ط 3 مصطفى الحلبي مصر 1390 هـ. (21) البداية والنهاية. لأبي الفداء إسماعيل بن كثير. ط2 مكتبة المعارف بيروت 1977م. (22) البدع والنهي عنها لمحمد بن وضاح القرطبي. تحقيق محمد أحمد دهمان. ط 2 دار البصائر دمشق 1400 هـ. (23) بغبة الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة. لجلال الدين السيوطي. تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم ط1 عيسى الحلبي. مصر 1384 هـ. (24) بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها. لأبي محمد عبد الله بن أبي جمرة الأندلسي ط 3 دار الجيل بيروت 1979 م. (25) تاريخ الأمم والملوك. لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري. تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم. دار سويدان. بيروت. (26) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي. نشر دار الكتاب العربي- بيروت. (27) تذكرة الحفاظ. للحافظ شمس الدين الذهبي. نشر دار إحياء التراث العربي بيروت. (28) التعريفات. للشريف علي بن محمد الجرجاني. دار الكتب العلمية. بيروت.

(29) تفسير الطبري المسمى جامع البيان عن تأويل آي القرآن. لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري. ط 2 مصطفى الحلبي القاهرة. 1373 هـ. وتحقيق. محمود وأحمد محمد شاكر. ط دار العارف مصر. (30) تفسير القاسمي. المسمى محاسن التأويل. لمحمد جمال الدين القاسمي - تحقيق وتخريج محمد فؤاد عبد الباقي. ط 2 دار الفكر- بيروت 1398 هـ. (31) تفسير القرآن العظيم. لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي - دار الفكر بيروت. (32) التفسير الكبير المسمى بمفاتيح الغيب للفخر الرازي ط 3 نشر دار إحياء التراث العربي - بيروت. (33) تفسير المنار. لمحمد رشيد رضا. ط 2 دار المعرفة بيروت. (34) تلبيس إبليس. لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. طبع المطبعة المنيرية- نشر دار الندوة الجديدة بيروت. (35) تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي. (مصرع التصوف) . لبرهان الدين البقاعي. تحقيق عبد الرحمن الوكيل. ط 1 القاهرة. 1372 هـ. (36) تهذيب الأسماء واللغات لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي - طبع المطبعة المنيرية - مصر. (37) تهذيب تاريخ دمشق. للشيخ عبد القادر بدران ط 2 دار المسيرة بيروت- 1399 هـ. (38) تهذيب التهذيب. للحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني ط1 مجلس دائرة المعارف النظامية حيدر آباد الدكن الهند- 1327 هـ. (39) التوسل. أنواعه وأحكامه. للشيخ محمد ناصر الدين الألباني. ط 5- المكتب الإسلامي. بيروت 1404 هـ. (40) التيجانية. دراسة لأهم عقائد التيجانية على ضوء الكتاب والسنة. تأليف علي محمد الدخيل الله. ط1 نشر دار طيبة الرياض. (41) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد - للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. ط3، المكتب الإسلامي بيروت 1397 هـ. (42) جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر. المكتبة العلمية. المدينة المنورة. (43) جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي. ط دار الفكر بيروت.

(44) الجامع لأحكام القرآن. لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. ط 2 دار الكتب المصرية- 1357 هـ. (45) جلاء الأفهام في الصلاة والسلام عل خير الأنام. لابن قيم الجوزية تحقيق طه يوسف شاهين، طبع دار الكتب العلمية. بيروت. (46) الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم لابن حجر الهيتمي المكي - طبع المطبعة الميمنية بمصر 1309هـ. (47) الحاوي للفتاوي لجلال الدين السيوطي تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ط 2. مطبعة السعادة بمصر 1959 م. (48) الحج والعمرة في الفقه الإسلامي. تأليف د. نور الدين عتر ط 2 مؤسسة الرسالة. بيروت. (49) حقيقة التوسل والوسيلة على ضوء الكتاب والسنة. تأليف موسى محمد علي. طبع دار التراث. القاهرة. 1981م. (50) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني ط 3 نشر دار الكتاب العربي. بيروت 1400 هـ. (51) الحوادث والبدع. لأبي بكر محمد بن الوليد الطرطوشي. تحقيق محمد الطالبي تونس- 1959م. (52) درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية. تحقيق د. محمد رشاد سالم ط 1 من مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض- 1403 هـ. (53) دراسة حديث: (نضر الله امرءا سمع مقالتي) رواية ودراية للشيخ عبد المحسن العباد - ط1 المدينة المنورة- 1401 هـ. (54) الدرر السنية في الرد على الوهابية لأحمد زيني دحلان. (55) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لشهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني تحقيق محمد سيد جاد الحق - نشر دار الكتب الحديثة - عابدين - مصر. (56) دلائل الخيرات. لأبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي - طبع تركيا. (57) دلائل النبوة. للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي تحقيق د. عبد المعطي قلعجي. ط 1 دار الكتب العلمية. بيروت. (58) الدليل الشافي على المنهل الصافي لجمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي. تحقيق فهيم محمد شلتوت. من مطبوعات مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي. جامعة أم القرى مكة المكرمة.

(59) الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب. لبرهان الدين إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون اليعمري المالكي - ط دار الكتب العلمية بيروت. (60) ديوان البوصيري لأبي عبد الله محمد بن سعيد بن حماد البوصيري تحقيق محمد سيد كيلاني. طبع مصطفى الحلبي مصر 1374 هـ. (61) ديوان ابن عربي لمحيي الدين بن عربي. نشر مكتبة المثنى- بغداد. (62) الرد على البكري (تخليص كتاب الاستغاثة) لتقي الدين بن تيمية - ط المطبعة السلفية مصر- 1346 هـ. (63) رد الفصوص المسمى (مرتبة الوجود ومنزلة الشهود) للملا علي بن سلطان القاري - دراسة وتحقيق الطالب عبد الله علي الملا - رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة أم القرى- 1409 هـ. (64) الرسالة. للإمام محمد بن إدريس الشافعي تحقيق أحمد محمد شاكر ط1 مطبعة مصطفى الحلبي - مصر 1358 هـ. (65) الرسالة التبوكية. لابن قيم الجوزية مراجعة الشيخ عبد الظاهر أبي السمح ط1 نشر المطبعة السلفية ومكتبتها مكة المكرمة- ط 1347 هـ. (66) زاد المسير في علم التفسير. لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ط1 طبع المكتب الإسلامي بيروت. (67) زاد المعاد من هدي خير العباد. لابن قيم الجوزية تحقيق شعيب وعبد القادر الأرنؤوط ط 8. مؤسسة الرسالة بيروت- 1405 هـ. (68) سقط الزند. لأبي العلاء المعري - طبع دار صادر. بيروت. (69) السلسلة الصحيحة. للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ط 3 المكتب الإسلامي- بيروت 1403هـ. (70) السلسلة الضعيفة. للشيخ محمد ناصر الدين الألباني. ط 5 المكتب الإسلامي بيروت 1405- 1985 م. (71) سنن الترمذي. للإمام محمد بن عيسى بن سورة الترمذي. تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان - نشر محمد عبد المحسن الكتبي - المدينة المنورة. (72) سنن الدارقطني. للإمام علي بن عمر الدارقطني وبهامشه التعليق على الدارقطني للمحدث العلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي. نشر السنة. ملتان. باكستان. (73) سنن الدارمي للإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي - نشر دار إحياء السنة النبوية- بعناية محمد أحمد دهمان - دار الكتب العلمية بيروت.

(74) سنن أبي داود. للحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ومعه معالم السنن للخطابي. إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس. ط1 دار الحديث. حمص سورية 1389 هـ. (75) السنن الكبرى. للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسن البيهقي ط1 مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن الهند 1352 نشر محمد أمين دمج بيروت. (76) سنن ابن ماجه. لأبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني تحقيق وتعليق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي مطبعة عيسى الحلبي - مصر. (77) سنن النسائي للحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي ط1 إحياء التراث العربي - بيروت- 1348 هـ. (78) السنة للحافظ أبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ط1 المكتب الإسلامي بيروت. (79) سير أعلام النبلاء. للإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي قام على تحقيقه جماعة بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، ط1- مؤسسة الرسالة- بيروت- 1405 هـ. (80) شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي نشر المكتب التجاري للطباعة والنشر بيروت. (81) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم هبة الله بن الحسن اللالكائي - تحقيق د. أحمد سعد حمدان - نشر دار طيبة- الرياض. (82) شرح ديوان البرعي في المدائح الربانية والنبوية والصوفية للشيخ عبد الرحيم البرعي ط1 مكتبة المعارف محمد سعيد كمال الطائف 1404هـ. (83) شرح الزرقاني على موطأ مالك لأبي عبد الله محمد عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المكتبة التجارية الكبرى. مصر 1959 م. (84) شرح العقيدة الطحاوية. لعلي بن أبي العز الحنفي ط6 المكتب الإسلامي بيروت - 1400 هـ. (85) شرح نهج البلاغة. لابن أبي الحديد. تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم طبع عيسى الحلبي - مصر 1381هـ. (86) الشريعة. لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري - تحقيق محمد حامد الفقي - نشر حديث أكاديمي باكستان 1403هـ 1983م.

(87) الشفا بتعريف حقوق المصطفى - للقاضي عياض بن موسى اليحصبي طبع دار الكتب العلمية بيروت 1399هـ. (88) شفاء السقام في زيارة خير الأنام. لتقي الدين السبكي طبع مجلس دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن الهند. (89) الصارم المسلول على شاتم الرسول. لابن تيمية. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. طبع دار الكتب العلمية بيروت 1398هـ. (90) الصارم المنكي في الرد على السبكي للحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي - ط1. دار الكتب العلمية- بيروت 1405 هـ. (91) صحيح البخاري. للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري - نشر دار إحياء التراث العربي، مصور عن طبعة السلطان عبد الحميد. (92) صحيح الترغيب والترهيب - للشيخ محمد ناصر الدين الألباني - ط 2- المكتب الإسلامي- بيروت- 1406 هـ. (93) صحيح الجامع الصغير وزيادته للشيخ محمد ناصر الدين الألباني. ط3 المكتب الإسلامي 1402 هـ. (94) صحيح مسلم للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري تحقيق وتصحيح وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. طبع دار الفكر بيروت- 1403 هـ. (95) صحيح مسلم بشرح النووي. لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي. دار الفكر بيروت. (96) صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ط 11 المكتب الإسلامي 1403 هـ. (97) طبقات الحنابلة. للقاضي محمد بن محمد بن أبي يعلى الفراء - تحقيق محمد حامد الفقي. نشر دار المعرفة بيروت. (98) طبقات الشافعية الكبرى. لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي - تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو ومحمود الطناحي ط 1 مطبعة عيسى الحلبي. مصر. (99) الطبقات الكبرى. لابن سعد. دار صادر. بيروت. (100) العاقبة في ذكر الموت والآخرة. لأبي محمد عبد الحق الأشبيلي - تحقيق الشيخ خضر محمد خضر - ط1 مكتبة دار الأقصى 1406 هـ. (101) عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام. تأليف سليمان بن حمد العودة - ط 1- دار طيبة- الرياض- 1405 هـ. (102) العدة في أصول الفقه. لأبي يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي - تحقيق د. أحمد بن علي المباركي - ط 1- مؤسسة الرسالة- بيروت- 1400 هـ.

(103) العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين. لتقي الدين محمد بن أحمد الفاسي المكي، تحقيق. فؤاد سيد - ط القاهرة - 1381هـ. (104) فتاوي محمد رشيد رضا. جمع وتحقيق صلاح الدين المنجد - ويوسف خوري - ط 1- طبع دار الكتاب الجديد- بيروت- 1971 م. (105) فتح الباري، شرح صحيح البخاري، للحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني دار المعرفة - بيروت. (106) الفتح المبين في طبقات الأصوليين. للشيخ عبد الله مصطفى المراغي - ط 2- مطبعة محمد أمين دمج - بيروت- 1394 هـ. (107) الفتوحات المكية. لمحيي الدين محمد بن علي بن عربي الطائي - طبع دار صادر بيروت. (108) الفرق بين الفرق. لعبد القاهر بن طاهر البغدادي - تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد - ط دار التراث- القاهرة. (109) فرقة أهل القرآن بباكستان وموقف الإسلام منها. رسالة ماجستير مقدمة من الباحث خادم إلهي حسين بخش - إلى جامعة أم القرى- 1401 هـ. (110) الفروق. لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي - نشر دار المعرفة- بيروت. (111) فصوص الحكم. لمحيي الدين بن عربي - تقديم وتعليق أبو العلا عفيفي نشر دار الكتاب العربي - بيروت. (112) الفلسفة الصوفية في الإسلام. تأليف د. عبد القادر محمود - ط 1 دار الفكر العربي مصر- 1967 م. (113) فوات الوفيات. لمحمد بن شاكر الكتبي - تحقيق د. إحسان عباس - نشر دار بيروت. (114) الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة. للشيخ محمد بن علي الشوكاني تحقيق عبد الرحمن بن يحيي المعلمي - مطبعة السنة المحمدية- مصر. (115) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية. ط1 طبع دار الآفاق الجديدة بيروت 1399هـ. (116) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام. تحقيق طه عبد الرؤوف سعد طبع مكتبة الكليات الأزهرية - مصر - 1388هـ. (117) الكامل في ضعفاء الرجال للحافظ أبي أحمد عبد الله بن عدي - ط1 نشر دار الفكر بيروت - 1404 هـ.

(118) الكبريت الأحمر في علوم الشيخ الأكبر. بهامش اليواقيت والجواهر. للشيخ عبد الوهاب الشعراني - طبع مصطفى الحلبي - مصر- 1378 هـ. (119) كتاب جماع العلم ضمن كتاب الأم. للإمام محمد بن إدريس الشافعي ط 2 طبع دار المعرفة- بيروت 1393 هـ. (120) كتاب المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين للإمام محمد بن حبان بن أحمد بن أبي حاتم التميمي البستي تحقيق محمود إبراهيم زايد، ط 2- نشر دار الوعي- حلب 1402 هـ. (121) الكشاف عن حقائق التنزيل في وجوه التأويل - لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخرشي - ط1 طبع دار الفكر بيروت - 1977م. (122) كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني تصحيح وتعليق أحمد القلاش - ط3 مؤسسة الرسالة بيروت - 1403هـ. (123) الكشف عن حقيقة الصوفية. تأليف محمود عبد الرؤوف القاسم ط1 دار الصحابة بيروت- 1408 هـ. (124) لسان العرب. لجمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأنصاري - طبع دار صادر بيروت. (125) لسان الميزان. للحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني. ط1 مجلس دائرة المعارف النظامية- حيدر آباد الدكن- 1329 هـ. (126) لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية للشيخ محمد بن أحمد السفاريني. مطابع الأصفهاني- جدة 1380هـ. (127) مجلة البحوث الإسلامية. مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد- الرياض- العدد 14- 1406 هـ. (128) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ نور الدين الهيثمي ط 3- دار الكتاب العربي بيروت. (129) مجموع فتاوى شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه محمد. طبع مكتبة المعارف الرباط- المغرب. (130) مجموعة أحزاب وأوراد ورسائل. لأحمد بن إدريس الحسنى مطبعة مصطفى الحلبي 1940 م 1359 هـ.

(131) مجموعة رسائل الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود طبع المكتب الإسلامي. دمشق. (132) المختار من كنوز السنة. تأليف الشيخ محمد عبد الله دراز - راجعه وأشرف على طبعه الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري. ط 4. قطر. (133) مدارج السالكين بين منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ابن قيم الجوزية تحقيق محمد حامد الفقي. طبع دار الكتاب العربي- بيروت 1392 هـ. (134) المدخل لأبي عبد الله محمد بن الحاج. طبع دار الفكر بيروت 1401 هـ. (135) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ملا علي القاري. بمباي الهند. (136) المسائل المجموعة من الحقائق العالية والدقائق ضمن مجموعة رسائل إسماعيلية. طبع مكتبة المثنى بغداد. (137) المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري وبذيله تلخيص المستدرك للذهبي. نشر دار الكتاب العربي بيروت 1398 هـ. (138) المسند للإمام أحمد بن حنبل الشيباني نشر المكتب الإسلامي ودار صادر. بيروت. (139) مشكاة المصابيح. لمحمد بن عبد الله التبريزي تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - ط 2 المكتب الإسلامي 1399 هـ. (140) معالم السنن للخطابي بهامش سنن أبي داود - طبع دار الحديث حمص- سوريا 1389 هـ. (141) المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري تحقيق محمد حميد الله وآخرون نشر المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية- دمشق- 1384 هـ. (142) المعجم الكبير للحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي ط 1 مطبعة الوطن العربي بغداد 1400 هـ. (143) معجم مقاييس اللغة. لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا تحقيق عبد السلام هارون ط 2 مطبعة مصطفى الحلبي القاهرة 1369 هـ. (144) معجم المؤلفين. تأليف عمر رضا كحالة - نشر دار إحياء التراث العربي بيروت. (145) المفردات في غريب القرآن. للراغب الأصفهاني تحقيق محمد سيد كيلاني طبع مطبعة مصطفى الحلبي - مصر 1962م. (146) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين لأبي الحسن الأشعري. تحقيق هلموت ريتر - ط 3، دار إحياء التراث العربي. بيروت.

(147) مقدمة ابن خلدون. للعلامة عبد الرحمن بن خلدون طبع المكتبة التجارية الكبرى مصر. (148) الملل والنحل. لمحمد بن عبد الكريم الشهرستاني تحقيق محمد سيد كيلاني طبع دار المعرفة بيروت 1404 هـ- 1984 م. (149) مناقب الشافعي. للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي تحقيق السيد أحمد صقر ط1 دار التراث القاهرة. (150) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ط1 دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن 1358 هـ. (151) المنقذ من الضلال. لأبي حامد الغزالي - مع أبحاث في التصوف للشيخ عبد الحليم محمود. ط8 دار الكتب الحديثة. مصر. 1394 هـ. (152) الموطأ للإمام مالك بن أنس الأصبحي ترقيم وتخريج. محمد فؤاد عبد الباقي طبع مطبعة عيسى الحلبي - القاهرة. (153) ميزان الاعتدال في نقد الرجال للحافظ شمس الدين الذهبي تحقيق علي محمد البجاوي - نشر دار المعرفة- بيروت. (154) النبوات. لابن تيمية طبع دار الكتب بيروت- 1405 هـ. (155) نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها تأليف عرفان عبد الحميد. طبع المكتب الإسلامي بيروت 1394 هـ. (156) نظريات الإسلاميين في الكلمة. لأبي العلا عفيفي مقال بمجلة كلية الآداب- جامعة الملك (القاهرة 1934 م جـ1 المجلد الثاني ص 33- 75) . (157) نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب. للشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني تحقيق. د. إحسان عباس طبع دار صادر بيروت. (158) النفحات الأقدسية في شرح الصلوات الأحمدية الإدريسية لمحمد بهاء الدين البيطار ط1 دار الجيل بيروت. (159) النهاية في غريب الحديث. لمجد الدين المبارك بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير تحقيق محمود الطناحي مطبعة عيسى الحلبي مصر. (160) النور المحمدي بين هدى الكتاب وغلو الغالين. تأليف عداب محمود الحمش ط1 دار الأماني للنشر - الرياض - 1407هـ. (161) نيل الابتهاج بتطريز الديباج مطبوع بهامش الديباج المذهب لابن فرحون أبي العباس أحمد بن أحمد بن عمر المعروف ببابا التنبكتي طبع دار الكتب العلمية بيروت.

(162) هذه هي الصوفية. تأليف عبد الرحمن الوكيل. ط 3 دار الكتب العلمية بيروت 1399 هـ. (163) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى. تأليف نور الدين علي بن أحمد السمهودي تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ط1 مطبعة السعادة مصر 1374 هـ. (164) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان (608- 568) تحقيق د. إحسان عباس طبع دار صادر بيروت.

§1/1