محاضرات في علوم القرآن - غانم قدورى

غانم قدوري الحمد

مقدمة

مقدمة الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: فإن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، أنزله على رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لهداية البشرية إلى الدين القويم، فقرأه على الناس، ودعاهم إليه، وعلّمه لصحابته الذين آمنوا بدعوته، فحفظوه في الصدور، ودوّنوه في السطور، وعاشوا يهتدون بهديه، ويقتبسون من نوره، ويعملون بأحكامه، ويتخلّقون بآدابه، حتى تحقّق فيهم قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) [آل عمران]. ولا شك في أن الوقوف على تأريخ القرآن وعلومه يكشف عن حقيقة هذا الكتاب ومصدره، ويبيّن كيفية كتابته وجمعه، وقراءته، وتفهّم معانيه، ويوضح جهود علماء الأمة من لدن عصر الصحابة في حفظ النص القرآني وصيانته وتيسير تلاوته ومعرفة معانيه، تلك الجهود التي يتبين للمتأمل من خلالها سرّ الخلود لهذا الكتاب العظيم الذي تكفل الله تعالى بحفظه بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر]. وكان علماء الأمة قد كتبوا في علوم القرآن وفي المباحث المتصلة بتأريخه، منذ بدء عصر تدوين العلوم الإسلامية إلى زماننا، مئات الكتب التي يعجز المرء غير المتخصص عن الوقوف على كثير منها، أو الاستفادة منها، لما كانت تتّسم به من التفصيل والشمول الذي لا يحتاج إلى كثير منه القارئ في هذا العصر، كما أن أسلوب كتابتها لم يعد مألوفا لدى كثير من قراء زماننا الذين ضعفت صلتهم بكتب التراث. ومن هنا كانت الحاجة تدعو إلى تقديم خلاصة تلك المباحث إلى القراء

غير المتخصصين عامة، وإلى طلبة الدراسات الإسلامية والعربية الجامعية خاصة، في أسلوب يجمع بين التركيز على الموضوعات الأساسية في تأريخ القرآن وعلومه، وبين السهولة في العرض، والوضوح في التعبير، مع عدم التفريط بمتطلبات البحث العلمي الجاد، من الاعتماد على المصادر الأصلية، والمنهجية الموضوعية التي تقرر الحقائق من خلال الأدلة والنصوص الموثقة. وكانت هذه المحاضرات قد كتبت وصدرت طبعتها الأولى منذ عشرين سنة (¬1)، وهذه إن شاء الله الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة بعد أن أعدت كتابة موضوعاتها، لتحقيق غرضين هما: استدراك ما فاتني في الطبعة الأولى من مصادر ومعلومات، وتيسير كتابة بعض المباحث لتكون أقرب إلى فهم القارئ المبتدئ أو غير المتخصص، مع المحافظة على المنهج الذي ظهرت فيه الطبعة الأولى المستندة إلى دراسة موضوعات علوم القرآن من خلال الأبواب أو الفصول الأربعة الآتية: الأول: نزول القرآن الكريم. الثاني: تدوين القرآن الكريم. الثالث: قراءة القرآن الكريم. الرابع: تفسير القرآن الكريم. وقد حرصت في هذه المحاضرات على الاعتماد على المصادر الأصلية الموثقة من نصوص القرآن الكريم والسنّة المشرفة، والروايات التاريخية الصحيحة، وفهم علماء الأمة العدول لها. مع التركيز على الحقائق الثابتة المتفق عليها، وترك الآراء الشاذة التي لا تقوم على دليل ولا تسندها حجة. والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل. المؤلف 15/ صفر/ 1420 هـ 30/ مايس/ 1999 م ¬

_ (¬1) صدرت الطبعة الأولى في بغداد سنة 1981 م بمساعدة جامعة بغداد.

تمهيد علوم القرآن وتأريخ التأليف فيها

تمهيد علوم القرآن وتأريخ التأليف فيها تعني عبارة (علوم القرآن) المباحث والدراسات التي كتبت حول القرآن الكريم، وهي تتناول أربعة موضوعات أساسية، الأول: مصدر القرآن أو كيفية إنزاله وتلقي النبي صلى الله عليه وسلم له، والثاني: كتابة القرآن وجمعه ونسخه في المصاحف، والثالث: تلاوة القرآن وقراءاته، والرابع: تفسير القرآن وكيفية فهم آياته. ويتألف كل موضوع من هذه الموضوعات من عدد من المباحث التي يتكون من مجموعها ما يعرف بعلوم القرآن، ويتصل بعلوم القرآن أيضا المباحث المتعلقة بفضائل القرآن، والدراسات التي تبحث في وجوه إعجازه. وترتبط نشأة (علوم القرآن) ببدء نزول القرآن الكريم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتلاوته على الناس، وأمره أصحابه بكتابته. وتطورت تلك النشأة مع تطور الحياة العلمية والثقافية للأمة- وانتقلت من مرحلة الملاحظات المتفرقة إلى مرحلة البحث المنهجي المدوّن. ويمكن أن ندرس نشأة (علوم القرآن) وتطورها من خلال المراحل الأربع الآتية: المرحلة الأولى: علوم القرآن قبل عصر تدوين العلوم: يمكن للباحث أن يجد بدايات علوم القرآن في عصر النبوة متمثلة بالملاحظات والأحاديث التي تلقّاها الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتصلة بالقرآن الكريم، فمن سؤال الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية تلقيه القرآن بدأت المباحث المتعلقة بنزول القرآن، ومن قراءته صلى الله عليه وسلم القرآن على أصحابه وحثّهم على تلاوته وحفظه نشأت المباحث الخاصة بالقراءات القرآنية، ومن أمره صلى الله عليه وسلم كتّاب الوحي بكتابة ما ينزل عليه من القرآن تأكدت سنّة كتابة القرآن وجمعه في الصحف،

المرحلة الثانية: علوم القرآن في عصر التدوين

ونشأت من ذلك المباحث المتعلقة بكتابته ورسمه، ومن بيانه صلى الله عليه وسلم لمعنى عدد من الآيات والكلمات القرآنية حين أشكل فهمها على بعض الصحابة نشأت المباحث المتعلقة بفهم القرآن وتفسيره. وتجمعت تلك الملاحظات لدى علماء الصحابة، واختزنتها ذاكرتهم، ونقلوها إلى تلامذتهم من التابعين، لكنهم لم يدوّنوها تدوينا منظما، لأن العلوم لم تكن قد دوّنت في عصرهم، وكان القرآن الكريم أول كتاب مدوّن عرفته الأمة، وحرصوا في الجيل الأول ألّا يظهر بجانبه كتاب آخر، لكن الضرورة أملت على علماء الأمة من التابعين وتابعيهم تدوين العلوم، وكان نصيب علوم القرآن من جهودهم كبيرا. المرحلة الثانية: علوم القرآن في عصر التدوين يمكن القول إن تدوين علوم اللغة العربية وعلوم القرآن وغيرها قد بدأ في أواخر القرن الأول الهجري ومطلع القرن الثاني، وأن القرن الثاني لم ينقض إلا ومعظم العلوم قد دوّنت وظهرت فيها المؤلفات، ومن أوائل الكتب المؤلفة في علوم القرآن كتاب «التفسير» لعبد الله بن عباس (ت 68 هـ) الذي رواه تلميذه مجاهد بن جبر المكي (ت 104 هـ) (¬1)، ومنها كتاب في هجاء (رسم) المصاحف لعبد الله بن عامر اليحصبي الدمشقي (ت 118 هـ) (¬2). وكتاب قراءة أبي عمرو بن العلاء (ت 154 هـ) (¬3)، ثم تتابع التأليف وكثر في علوم القرآن. ويقدّم ابن النديم صورة واضحة في كتابه «الفهرست» عن حركة التأليف في علوم القرآن، حتى سنة 377 هـ وهي سنة تأليفه الكتاب، حيث ذكر أكثر من 250 كتابا في موضوعات متعددة من علوم القرآن، نشير إلى أهمها (¬4): ¬

_ (¬1) ابن النديم: الفهرست ص 36. (¬2) المصدر نفسه ص 39. (¬3) المصدر نفسه ص 31. (¬4) المصدر نفسه ص 36 - 41.

المرحلة الثالثة: مرحلة المؤلفات الجامعة

الكتب المؤلفة في تفسير القرآن: ذكر 14 كتابا. الكتب المؤلفة في معاني القرآن ومشكله ومجازه: ذكر 25 كتابا. الكتب المؤلفة في غريب القرآن: ذكر 14 كتابا. الكتب المؤلفة في القراءات: ذكر 22 كتابا. الكتب المؤلفة في الوقف والابتداء في القرآن: ذكر 12 كتابا. الكتب المؤلفة في متشابه القرآن: ذكر 10 كتب. الكتب المؤلفة في فضائل القرآن: ذكر 12 كتابا. الكتب المؤلفة في عدد آي القرآن: ذكر 19 كتابا. الكتب المؤلفة في ناسخ القرآن ومنسوخه: ذكر 18 كتابا. الكتب المؤلفة في أحكام القرآن: ذكر 11 كتابا. وتتميز هذه المرحلة بأن لكل علم من علوم القرآن كتبا خاصة به، فالكتاب الواحد لا يتناول إلا مباحث علم واحد، فلم تكن المؤلفات الجامعة قد ظهرت بعد. المرحلة الثالثة: مرحلة المؤلفات الجامعة خصص ابن النديم الفن الثالث من المقالة الأولى من كتابه الفهرست، لعلوم القرآن، وقال في مطلعه: «الفن الثالث: في نعت الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأسماء الكتب المصنفة في علومه، وأخبار القراء وأسماء رواتهم» (¬1). وما فعله ابن النديم هنا يمثل بداية اتجاه جديد للتأليف في علوم القرآن يتمثل بجمع خلاصة لعلوم القرآن كافة في مكان واحد، بعد أن كانت كتب علوم القرآن يختص كل كتاب منها بمباحث علم واحد. وأشهر الكتب التي اتبعت هذا المنهج: ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ص 2، ويستغرق ذلك من كتاب الفهرست ص 27 - 42.

المرحلة الرابعة: علوم القرآن في العصر الحديث

1 - كتاب فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن، تأليف ابن الجوزي (أبو الفرج عبد الرحمن بن علي المتوفى سنة 597 هـ) (¬1). 2 - جمال القراء وكمال القراء، تأليف علم الدين السخاوي. (أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد المتوفى سنة 643 هـ) (¬2). 3 - المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، لأبي شامة المقدسي. (أبو القاسم عبد الرحمن بن اسماعيل المتوفى سنة 665 هـ) (¬3). 4 - البرهان في علوم القرآن، تأليف بدر الدين الزركشي. (محمد بن عبد الله المتوفى سنة 794 هـ) (¬4). 5 - الإتقان في علوم القرآن، تأليف جلال الدين السيوطي (عبد الرحمن بن أبي بكر المتوفى سنة 911 هـ) (¬5). وكتاب «الإتقان» هو أكبر كتاب في علوم القرآن، جمع فيه السيوطي خلاصة ثمانين مبحثا من مباحث علوم القرآن، استخلصها من المؤلفات السابقة له، وكان خاتمة للمؤلفات الجامعة في العصور المتقدمة. المرحلة الرابعة: علوم القرآن في العصر الحديث: عاد العلماء إلى التأليف في علوم القرآن في العصر الحديث، وتنوعت اتجاهات التأليف عندهم: ¬

_ (¬1) جزء واحد، حققه د. رشيد العبيدي، وطبع في بغداد سنة 1988 م. وكان قد حققه أحمد الشرقاوي إقبال، وطبع في الدار البيضاء سنة 1980 م. (¬2) يقع في جزءين، حققه د. علي حسين البواب، وطبع في القاهرة سنة 1987 م. (¬3) جزء واحد، حققه طيار آلتي قولاج، وطبع في بيروت سنة 1975 م. (¬4) يقع في أربعة أجزاء، حققه محمد أبو الفضل إبراهيم وطبع في القاهرة ط 2 سنة 1972 م. (¬5) يقع في أربعة أجزاء، حققه محمد أبو الفضل إبراهيم، وطبع في القاهرة سنة 1967 م.

فمنهم من اتبع منهج المؤلفات الجامعة، مثل الشيخ طاهر الجزائري (ت 1920 م) في كتابه «التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن»، الذي اختصر فيه بعض مباحث (الاتقان) للسيوطي. والشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني (ت 1948 م) في كتابه «مناهل العرفان في علوم القرآن». ونحا هذا المنحى الدكتور صبحي الصالح في كتابه «مباحث في علوم القرآن» وغير هؤلاء كثير. ومنهم من ألّف في علم واحد من علوم القرآن أو قضية من قضايا تأريخ القرآن، مثل كتاب «الظاهرة القرآنية» لمالك بن نبي، وكتاب «النبأ العظيم» للدكتور محمد عبد الله دراز، وكتاب «النسخ في القرآن» للدكتور مصطفى زيد، وكتاب «الإعجاز البياني للقرآن» للدكتورة عائشة عبد الرحمن، وكتاب «التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن» للأستاذ حنفي أحمد، وغيرها كثير أيضا. وكان للمستشرقين دور في الدراسات الحديثة عن القرآن وعلومه، لكن أكثر تلك الدراسات كانت تنطلق من نظرة يشوبها التعصب (¬1)، وأشهر ما كتبوه كتاب «تاريخ القرآن» للمستشرق الألماني تيودور نولدكه، الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1860 م، والذي قال عنه المستشرق آثر جفري: «وهو الآن أساس كل بحث في علوم القرآن في أوربا» (¬2)، وكتاب «مذاهب التفسير الإسلامي» للمستشرق المجري الأصل جولد تسهير (ت 1920 م) (¬3)، وكتاب «القرآن: نزوله، تدوينه، ترجمته وتأثيره» للمستشرق الفرنسي بلاشير (¬4). ومن الكتب التي كتبها باحث غربي واتسمت بالموضوعية إلى حد كبير، ¬

_ (¬1) ينظر: مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية ص 56. (¬2) ص 4 من مقدمة تحقيقه كتاب المصاحف لابن أبي داود. (¬3) ترجمه إلى العربية د. عبد الحليم النجار وطبع في مصر سنة 1955 م. (¬4) ترجمه إلى العربية رضا سعادة، وطبع في بيروت سنة 1974 م.

كتاب «التوراة والإنجيل والقرآن والعلم» للكاتب الفرنسي موريس بوكاي (¬1)، الذي أراد في هذا الكتاب (اختبار الكتب المقدسة في ضوء المعارف العلمية الحديثة) (¬2)، والذي ختمه بقوله: «وبالنظر إلى حال المعارف في عصر محمد، لا نستطيع أن نفهم بأن كثيرا من الأخبار القرآنية التي لها سمة علمية يمكن أن تكون عمل إنسان، ولذلك فإن المشروع ليس بأن يعتبر القرآن تعبيرا لوحي فقط، بل بأن يعطى مركزا ممتازا لما يتمتع به من الأصالة الفريدة ولوجود أخبار علمية لديه ظهرت كتحد للتفسير الإنساني» (¬3). إن التأليف في علوم القرآن في اتجاهيه العام والخاص لم ينقطع منذ بدئه إلى زماننا، وهو يعكس مقدار عناية الأمة بالقرآن الكريم، والحاجة الدائمة إلى مؤلفات توضح تأريخ النص القرآني، وتكشف عن وجوه إعجازه، وتبين ما يتضمنه من الحكمة ومعالم الهداية التي تتطلع إليها البشرية أفرادا وجماعات في جميع العصور. ¬

_ (¬1) ترجمه إلى العربية جماعة من الدعاة، ونشر في بيروت سنة 1978 م. (¬2) ص 10 من الكتاب. (¬3) ص 217 من الكتاب.

الفصل الأول نزول القرآن الكريم

الفصل الأول نزول القرآن الكريم المبحث الأول: مصدر القرآن لقد علم الناس أجمعون علما لا يخالطه شك أن القرآن الكريم جاء على لسان رجل عربي أميّ ولد بمكة في القرن السادس الميلادي، اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم وأن البشرية لم تعرف هذا الكتاب إلا عن طريقه، لا خلاف في ذلك بين مؤمن وملحد، لأن شهادة التاريخ المتواترة لا يماثلها ولا يداخلها شهادته لكتاب غيره، ولا لحادث غيره ظهر على وجه الأرض. ولكن من أين جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أمن عند نفسه ومن وحي ضميره، أم من عند معلّم؟ ومن هو ذلك المعلم (¬1)؟ إن الناس في الإجابة عن هذا السؤال ينقسمون إلى قسمين، قسم يعتقدون أن هذا الكتاب كلام الله تعالى أوحاه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقسم ينكرون ذلك ولكنهم كانوا متحيرين في نسبته إلى مصدر معين، وقد حكى القرآن الكريم أقاويل كفار مكة بشأن القرآن وردّ عليها ردا ساحقا، مؤكدا مصدره الإلهي. قال الله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) [سبأ]. ¬

_ (¬1) ينظر: محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم ص 20.

وقال تعالى: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) [الأنبياء]. وقال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) [الفرقان]. وفي القرآن آيات أخرى حكت أقوال المشركين وبينت موقفهم من القرآن والدعوة الجديدة (¬1)، لكن القرآن بيّن في مقابل ذلك بيانا واضحا أن هذا القرآن من عند الله، وأنه وحي أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أوحى إلى النبيين من قبله، قال تعالى: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) [الأحقاف]. وقال تعالى:* إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) [النساء]. وبيّن القرآن أيضا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له في القرآن من عمل إلا الحفظ ¬

_ (¬1) ينظر: سورة الطور الآيات: 30 - 34، وسورة الحاقة الآيات: 39 - 52.

والتبليغ، قال الله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) [يونس]. وقد أكدت آيات القرآن الكريم على أن الله تعالى هو الذي أنزل القرآن على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ونكتفي بإيراد أمثلة منها تذكّر القارئ بهذه الحقيقة الأساسية في العقيدة الإسلامية، فمنها: قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) [آل عمران]. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ... (48) [المائدة]. إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) [يوسف]. لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) [الأنبياء]. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) [الإنسان]. وإذا كانت الآيات الكريمة قد أكّدت على هذا المعنى فإن الأحاديث النبوية الشريفة قد أكدت عليه أيضا، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن أن هذا القرآن الذي يتلوه على الناس ليس من تأليفه، وإنما هو وحي أوحاه الله عليه ليبلغه للناس، وأنه المعجزة الخالدة التي أيده الله تعالى بها، فمن ذلك قوله: «ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (¬1). قال ابن حجر في شرحه: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (فتح الباري 9/ 3)، وصحيح مسلم بشرح النووي 2/ 186.

المبحث الثاني بدء نزول القرآن

«أي أن معجزتي التي تحدّيت بها هي الوحي الذي أنزل عليّ، وهو القرآن، لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح ... » (¬1). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ... » (¬2). يعني بالكتاب القرآن، ومثله يعني السنة. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة تؤكد على أن القرآن لم يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء، وإنما أنزل عليه، وأنه كلام الله تعالى. وقد آمن بهذه الحقيقة أجيال المسلمين من لدن عصر الصحابة، ولا تزال هذه الحقيقة هي الركيزة الأساسية لإيمان المؤمنين، لا يحيد عنها إلا هالك. المبحث الثاني بدء نزول القرآن إن من يريد أن يتعرف على بدء الظاهرة القرآنية فعليه أن يدرس البيئة التي ظهرت فيها، فإن القرآن وإن لم يكن من صنع تلك البيئة فإن كثيرا من معانيه لا تفهم إلا بمعرفتها، كما أن دراسة سيرة الرجل الذي نزل عليه القرآن ضرورة لتفهم كيفية نزول القرآن وإدراك حقيقة الدعوة التي تضمنها. ولا يتسع المكان لعرض تلك التفاصيل هنا، ونفترض أن القارئ على معرفة مناسبة لها. ونكتفي بنقل قول محمد بن سعد الذي يلخص فيه معالم شخصية النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، حيث قال: «شبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب، يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أمور الجاهلية ومعايبها، لما يريد به من كرامته، وهو على دين قومه، حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما وأمانة، وأصدقهم حديثا، وأبعدهم من الفحش والأذى، ¬

_ (¬1) فتح الباري 9/ 6. (¬2) رواه أبو داود في سننه 4/ 200.

وما رئي ملاحيا ولا مماريا أحدا، حتى سماه قومه الأمين، لما جمع الله له من الأمور الصالحة، فقد كان الغالب عليه بمكة الأمين» (¬1). وفي السنة التي بلغ فيها النبي صلى الله عليه وسلم الأربعين من عمره بدأ تحول كبير في حياته لم يكن قد تهيأ له من قبل، لكن العناية الإلهية كانت ترعى ذلك التحول وتوجهه نحو النبوة الكاملة التي تنكشف فيها حجب الغيب، ويتنزل الوحي بالقرآن عليه. وكانت أولى مظاهر ذلك التحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة، رضي الله عنها: «إني أرى ضوءا وأسمع صوتا» (¬2). وتتابعت إرهاصات النبوة التي انتهت باللقاء الأول بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والملك جبريل عليه السّلام الذي حمل الرسالة إليه. وتقدّم الروايات التاريخية والأحاديث الصحيحة وصفا لبدء نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقل البخاري في كتابه الجامع الصحيح، كما جاء في غيره من المصادر المعتمدة تفاصيل ذلك الحدث العظيم عن عائشة، رضي الله عنها، حيث قالت (¬3): «كان أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة (أو الصالحة) في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. قالت: فمكث على ذلك ما شاء الله، وحبّب إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحبّ إليه منها، وكان يخلو بغار حراء (¬4) فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء. ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى 1/ 121. (¬2) رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 312) عن ابن عباس، وينظر: الهيثمي: مجمع الزوائد 8/ 255. (¬3) البخاري: الجامع الصحيح 1/ 5. وينظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 194، وابن هشام: السيرة النبوية 1/ 234، وعبد الرزاق: المصنف 5/ 321، وصحيح مسلم بشرح النووي 2/ 197. (¬4) حراء: بالمد وكسر الحاء، جبل من جبال مكة على ثلاثة أميال منها، في أعلاه قمة شامخة، وفيه الغار الذي كان يأوي إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني (¬1) حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: أقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق]. فرجع بها الرسول صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، فقال: زمّلوني (¬2)، حتى ذهب عنه الرّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، كان امرأ تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء أن يكتب (¬3). وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس (¬4) الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب (¬5) ورقة أن توفي، وفتر الوحي». ¬

_ (¬1) الغط: العصر الشديد (ينظر: ابن الأثير: النهاية 3/ 373). (¬2) زملوني: دثّروني وغطّوني (ابن الأثير: النهاية 2/ 313). (¬3) كان ورقة يكتب بالعربية كما كان يكتب بالعبرانية (ابن حجر: فتح الباري 1/ 25). (¬4) الناموس: صاحب سر الوحي، والمراد به جبريل، عليه السّلام. (ابن منظور: لسان العرب 8/ 130 نمس). (¬5) لم ينشب: لم يلبث (ابن الأثير: النهاية 5/ 52).

المبحث الثالث فتور الوحي

قال ابن سعد: «نزل الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء، يوم الاثنين، لسبع عشرة خلت من شهر رمضان (¬1)، ورسول الله يومئذ ابن أربعين سنة، وجبريل الذي كان ينزل عليه بالوحي» (¬2). وقد قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ (185) [البقرة]. المبحث الثالث فتور (¬3) الوحي إن الارتقاء إلى مقام النبوة الذي تنكشف معه حجب الغيب، ويتصل الإنسان فيه بعالم الروح- أمر يستدعي كثيرا من الإعداد النفسي الذي ينقل الإنسان إلى ذلك المقام من غير أن يصاب بانهيار نفسي أو اضطراب عقلي. ويلمس المتأمل جوانب ذلك الإعداد الإلهي في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم متمثلة بأمور عدة منها: 1 - ما رآه وسمعه من الضوء والصوت غير المألوف له من قبل. 2 - الرؤيا الصادقة التي صارت تتكرر وتتحقق مما يخرج عن العادة. 3 - الميل نحو الخلوة، وتفرغه لها في أعلى جبل حراء، وما توحيه تلك الخلوة في ليلها الساجي الساكن ونهارها الضاحي الطويل من شعور. 4 - ما لقيه صلى الله عليه وسلم من الضم الشديد من الملك في اللقاء الأول، لإعداده لتحمل الثقل المصاحب لإيحاء القرآن إليه. ¬

_ (¬1) يقابل ذلك شهر شباط من سنة 610 من التقويم الميلادي (ينظر: محمد عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص 28). (¬2) الطبقات الكبرى: 1/ 194. (¬3) فتور الوحي: انقطاع نزول جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم مدة بعد نزوله عليه في غار حراء.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك اللقاء المبارك في غار حراء في حاجة إلى وقت للراحة والتأمل في حقيقة هذا الأمر الجديد في حياته، وتحقق ذلك بانقطاع نزول جبريل عليه مدة من الوقت جعلته يتشوق إلى لقائه مرة أخرى، بعد أن زال عنه الرّوع، وأخذ يتفكر في كلمات ورقة بن نوفل الذي لم يلبث أن توفي بعد أن سمع منه تفسيره لما وقع له في غار حراء، فروى ابن سعد عن عبد الله بن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا نزل عليه الوحي بحراء مكث أياما لا يرى جبريل، فحزن حزنا شديدا، حتى كان يغدو إلى ثبير (¬1) مرة وإلى حراء مرة، يريد أن يلقي نفسه منه، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عامدا لبعض تلك الجبال إذ سمع صوتا من السماء. فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم صعقا للصوت، ثم رفع رأسه، فإذا جبريل يقول: يا محمد أنت رسول الله حقا، وأنا جبريل، قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقرّ الله عينه، وربط جأشه، ثم تتابع الوحي بعد وحمي» (¬2). ونقل البخاري الرواية بتفصيل آخر عن جابر بن عبد الله الأنصاري «قال وهو يحدّث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زمّلوني، فدثّروه، فأنزل الله يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) [المدثر]، ثم تتابع الوحي» (¬3). وهكذا ذهب في هذه الفترة ما وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرّوع في لقاء غار حراء، وكذلك تشوّق، بعد ذهاب الرّوع عنه، إلى رؤية الملك مرة أخرى (¬4). ¬

_ (¬1) ثبير: جبل من جبال مكة. (ينظر: صفي الدين البغدادي: مراصد الاطلاع 1/ 292). (¬2) الطبقات الكبرى 1/ 196. (¬3) صحيح البخاري 1/ 6 و 6/ 215، وصحيح مسلم بشرح النووي 2/ 206. (¬4) ينظر: العيني: عمدة القارى 1/ 62.

قال الحافظ ابن حجر: «وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده من الرّوع، وليحصل له التشوّف إلى العود ... » (¬1). وقد أيقن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا كله أن الله تعالى قد اختاره رسولا، وصار يتلقى القرآن عن طريق جبريل فحمل أعباء الرسالة وأخذ يدعو إليها واستمر جهاده ثلاثا وعشرين سنة اكتمل خلالها نزول القرآن، وترسخت الدعوة والعقيدة في أرجاء الجزيرة العربية، قبل وفاته صلى الله عليه وسلم (¬2). ¬

_ (¬1) فتح الباري 1/ 27. (¬2) ذهب عدد من المؤلفين في علوم القرآن في عصرنا إلى أن مدة فتور الوحي كانت ثلاث سنين، معتمدين في ذلك على رواية عن عامر الشعبي أحد علماء التابعين (ت 103 هـ) (ينظر: محمد رشيد رضا: الوحي المحمدي ص 125، ومحمد عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص 30، وصبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن ص 36، ومالك بن نبي: الظاهرة القرآنية ص 185). والذي يبدو راجحا هو أن فتور الوحي لم يمتد ثلاث سنوات للأسباب الآتية: 1 - إن الرواية المنقولة عن عامر الشعبي لا تتحدث عن فتور الوحي أولا، وهي رواية غير موثوقة عند أهل العلم ثانيا، وجاء فيها «بعث لأربعين، ووكّل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وكّل به جبريل» (ينظر: ابن حجر: فتح الباري 1/ 27). وقال ابن سعد في شأن هذه الرواية: «فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر (يعني الواقدي شيخه) فقال: ليس يعرف أهل العلم ببلدنا أن إسرافيل قرن بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنّ علماءهم وأهل السيرة منهم يقولون: لم يقرن به غير جبريل من حين أنزل عليه الوحي إلى أن قبض صلى الله عليه وسلم» (الطبقات الكبرى 1/ 191). 2 - إن ما ورد في روايات فتور الوحي لا يحدد المدة التي كانت بين نزول أول سورة العلق ونزول أول سورة المدثر، ويبدو أنها لم تطل كثيرا، ففي رواية البخاري «وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم» (صحيح البخاري 6/ 215)، وفي طبقات ابن سعد «لما نزل الوحي بحراء مكث أياما لا يرى جبريل، فحزن حزنا شديدا» (الطبقات الكبرى 1/ 196)، وفي السيرة النبوية لابن هشام «قال ابن إسحاق: ثم فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة من ذلك، حتى شق ذلك عليه فأحزنه» (السيرة النبوية 1/ 241).

المبحث الرابع كيف تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن

المبحث الرابع كيف تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ليس من شأن البشر التلقي عن الله تعالى مباشرة، وقد أكد القرآن ذلك، وبيّن السّبل التي يبلّغ الله بها كلماته إلى المصطفين من عباده، قال الله تعالى: * وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) [الشورى]. فهذه الآيات تبيّن أنّ هناك ثلاث طرق لتبليغ المعرفة الإلهية هي: 1 - الوحي: ومعناه في اللغة الإعلام الخفي (¬1)، وقد يكون بالرؤيا الصادقة أو بالإلهام، وهو أن يلقي الله في النفس أمرا يبعث على الفعل أو الترك (¬2). 2 - من وراء حجاب، كما كلّم الله تعالى موسى، عليه السّلام (سورة النساء 164 وسورة طه 11). 3 - الرسول، وهو الملك الذي ينزل إلى الانبياء والرسل (¬3). ¬

_ 3 - إن انقطاع الوحي ثلاث سنوات لا يتناسب مع ما وجد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه من التطلع إلى لقاء جبريل وما أصابه من الحزن بسبب تأخر ذلك بعض الوقت، فلو كانت مدة انقطاع الوحي ثلاث سنوات لأدى ذلك فيما أحسب إلى أحد أمرين: إما نسيان القضية كلها، وإما أن يؤدي ذلك الحزن بحياته صلى الله عليه وسلم ومن ثم فإن الراجح أن مدة فتور الوحي كانت أياما أو أسابيع معدودة (ينظر: ابن حجر: فتح الباري 1/ 27 و 8/ 710 و 12/ 360). (¬1) ابن منظور: لسان العرب 20/ 257 وحي. (¬2) المصدر نفسه 16/ 28 لهم. (¬3) ينظر: الطبري: جامع البيان 25/ 45.

وقد أشارت الآية السابقة إلى أن ما أوحاه الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو من جنس ما أوحاه إلى الأنبياء السابقين وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً (52) [الشورى]، وقد أكدت هذا المعنى آيات أخرى، منها قوله تعالى:* إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ... (163) [النساء]. وقد سمّي نزول جبريل عليه السّلام بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيا لأنه أسرّه على الخلق، وخصّ به النبيّ المبعوث إليه (¬1). فلم يكن الصحابة يرون الملك وقت نزوله بالقرآن، مع أنهم شاهدوا آثار نزوله. ولا شك في أن الوحي من الغيب الذي لا يعرف بالحواس ولا يدرك بالعقل المجرد، ومن ثم فإن القول في حقيقته وكيفيته يتوقف على ما ورد عنه في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، وقد جاء في عدد من الأحاديث والآثار وصف لحالة النبي صلى الله عليه وسلم وقت نزول جبريل 5 بالقرآن، منها ما يتعلق بالجانب الخفي من الوحي، ومنها ما يتعلق بآثاره الظاهرة التي لاحظها الصحابة، رضي الله عنهم. أما الجانب الخفي من الوحي فقد سأل الصحابة عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن عمرو: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله: هل تحسّ بالوحي؟ قال: نعم، أسمع صلصلة، ثم أسكت عند ذلك» (¬2). وروى البخاري «عن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، أن الحارث بن هشام، رضي الله عنه، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» (¬3). ¬

_ (¬1) ابن منظور: لسان العرب 20/ 258 وحي. (¬2) قال الهيثمي (مجمع الزوائد 8/ 256): رواه أحمد والطبراني، وإسناده حسن. (¬3) صحيح البخاري 1/ 4، والترمذي: كتاب السنن 5/ 558.

ويؤكد هذا الحديث أن للوحي صورتين، لكن يجب ملاحظة تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على وعيه لما يلقيه إليه الملك في كلتا الصورتين، فهو يتلقاه بقلبه وينطبع في عقله، وقد قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء]. وأما الجانب الظاهر المتعلق بآثار الوحي المحسوسة فقد تحدث عنها الصحابة، رضوان الله عليهم، ونقلوها إلى أجيال الأمة، وأول ما لاحظوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعاني من التنزيل شدّة، فقد نقل مسلم بن الحجاج في صحيحه عن عبادة بن الصامت أنه قال: «كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذ أنزل عليه كرب لذلك» (¬1). وأنه إذا أنزل عليه الوحي أخذته البرحاء- كما روى البخاري (¬2) - والبرحاء شدّة الحمّى، وهي هنا شدّة الكرب من ثقل الوحي (¬3). وقد لاحظ الصحابة تصبب العرق من جبينه، قالت السيدة عائشة، رضي الله عنها: «ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عرقا» (¬4). وكانت تلك الشّدّة المصاحبة للوحي التي تغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتد تأثيرها إلى ما يتصل به أو يلامسه، فها هم الصحابة يشهدون رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه وهو على ناقته، فتغشى الناقة تلك الشدة، كما روى ابن سعد عن أبي أروى الدّوسي، قال: «رأيت الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم وإنه على راحلته، فترغو وتفتل يديها، حتى أظن أن ذراعها ينقصم، فربما بركت، وربما قامت موتّدة يديها، حتى يسرّى عنه من ثقل الوحي، وأنه ليتحدّر منه مثل الجمان» (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح النووي 11/ 190، والبيهقي: دلائل النبوة 7/ 54. (¬2) ينظر: ابن حجر: فتح الباري 5/ 272. (¬3) ابن الأثير: النهاية 1/ 113، وابن منظور: لسان العرب 3/ 233 (برح). (¬4) صحيح البخاري 1/ 4. (¬5) الطبقات الكبرى 1/ 197، وينظر: البيهقي: دلائل النبوة 7/ 53. وقال الصحابي عبد الله.

وها هو زيد بن ثابت كاتب الوحي يقول: «إني لقاعد إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم إذ أوحي إليه، وغشيته السكينة، فوضع فخذه على فخذي، قال زيد، فلا والله ما وجدت شيئا قطّ أثقل منها» وفي رواية: «فثقلت عليّ حتى خفت أن ترضّ فخذي» (¬1). وكان مما لاحظه الصحابة عند نزول الوحي ما رواه عدد من المحدّثين عن عمر بن الخطاب أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل» (¬2). إن المتأمل لحالة نزول الوحي في جانبيها الغيبي الذي وضّحه النبي صلى الله عليه وسلم والمحسوس الذي وصفه الصحابة، رضي الله عنهم، يدرك أنها أبعد ما تكون عن حالة السبات الطبيعي الذي يعتري المرء في وقت حاجته إلى النوم، فإنها كانت تعرو النبي صلى الله عليه وسلم قائما أو قاعدا أو سائرا أو راكبا، بكرة أو عشيا، وكانت تعروه فجأة وتنقضي في لحظات يسيرة، لا بالتدريج الذي يعرض للوسنان الذي يغفو ويغرق في النوم، كما أنها حالة تباين كليا تلك الأعراض المرضية والنوبات العصبية التي تصفرّ فيها الوجوه، وتبرد الأطراف، وتصطكّ الأسنان، وتتكشف العورات، ويحتجب نور العقل، لأنها حالة تتسم بالجلال والوقار، وهي مبعث نور لا ظلمة، ومصدر علم لا جهالة (¬3). ¬

_ ابن عمرو: «أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة، وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها» قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 13): «رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، والأكثر على ضعفه، وقد يحسّن حديثه وبقية رجاله ثقات» وينظر: الساعاتي: الفتح الرباني 18/ 125. (¬1) ابن حجر: فتح الباري 8/ 259 - 260. (¬2) عبد الرزاق: المصنف 3/ 383، والترمذي: كتاب السنن 5/ 305، والبيهقي: دلائل النبوة 7/ 55. (¬3) ينظر: محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم ص 70 وما بعدها.

المبحث الخامس حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن

إن حالة الوحي تكررت مرات كثيرة، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثته، وكانت تلك الحالة معروفة للصحابة، وكانت تتسم لحظاتها بالسكينة والوقار، وكان الصحابة يطرقون خلالها بانتظار سماع الوحي الجديد، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه قال: «وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي» (¬1). إن التلقي عن الله تعالى، حتى وإن كان عن طريق الملك، أمر خارج عن معهود الناس، إنه أمر عجيب، لكنه حدث مرات كثيرة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحس بحدوثه كثيرون، ورأوا مظاهره رأي العين، وتلقّوا ثمرته، وهي هذا القرآن العظيم الذي تلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، وحفظه عنه صحابته، وكتبوه، وعلّموه من جاء بعدهم، وتناقلته الأمة خلال العصور. المبحث الخامس حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة دوره الجديد بعد ما نزل عليه قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ (1) [العلق]، ونداء جبريل له: يا محمد أنت رسول الله حقا، ثم نزول قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) [المدثر]. وأن عليه أن يحمل الرسالة الإلهية ويدعو إليها الناس من حوله، وكانت طريقة تلقيه القرآن من جبريل عليه السّلام لا تعطيه الفرصة للمراجعة والحفظ في لحظة التلقي، فكانت هذه الحالة تثير قلقه وخوفه من فقدان شيء من ألفاظ القرآن في وقت تلقيه من الملك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعجّل في بادئ الأمر في حفظ القرآن، فيسابق جبريل، وهو يلقي إليه القرآن ساعة الوحي، فيردد الآيات قبل أن ينتهي الملك، مخافة أن ينسى منها شيئا، وكان ذلك مما يشق عليه، فجاء القرآن يطمئنه في أول ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 128، والبيهقي: دلائل النبوة 7/ 54.

الطريق، ويتكفل له بالحفظ المطلق للقرآن، وينهاه عن تلك العجلة، قال الله تعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) [طه]. وجاءت آيات أخرى تؤكد أن حفظ القرآن مكفول للنبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) [القيامة]. وقد روى البخاري في صحيحه تفسيرا لهذه الآيات عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، جاء فيه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعالج من التنزيل شدّة، وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه، يخشى أن ينفلت منه، فأنزل الله لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) جمعه: أن نجمعه في صدرك (أي أن تحفظه) وقرآنه: أن تقرأه. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18): فإذا أنزلناه فاستمع وأنصت. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19): ثم إن علينا أن نبيّنه بلسانك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه جبريل (¬1). وهذه الآيات الكريمة تؤكد أمرا هامّا، هو تكفّل الله المطلق بشأن القرآن، وحيا وحفظا وجمعا وبيانا، وإسناده إليه- سبحانه- بكليته، فليس للرسول صلى الله عليه وسلم من أمره إلا وعيه وحفظه وتبليغه، بعد أن أعطاه الله ملكة تامة للحفظ، فصار إذا أتاه جبريل استمع، فإذا ذهب جبريل قرأه كما قرأه عليه جبريل، يحفظ السورة الطويلة كما يحفظ السورة القصيرة، وليس هناك فرصة لنسيان شيء منه أو ضياعه. وإلى جانب هذا الاستعداد الدائم الذي خص الله به النبي صلى الله عليه وسلم لحفظ القرآن، فإن جبريل عليه السّلام كان يدارسه ما نزل عليه من القرآن في كل مرة، كما في الحديث ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1/ 6 و 6/ 202، وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 198.

المبحث السادس تنجيم القرآن والحكمة منه

الذي رواه البخاري عن ابن عباس، حيث قال: «كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة» (¬1). وكانت ثمرة ذلك التمكين لحفظ القرآن، وهذه المدارسة له بين رسول الله وجبريل أن حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن حفظا لا حظّ للنسيان فيه، قال مجاهد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذكر القرآن في نفسه، مخافة أن ينسى، فقال الله عز وجل: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) [الأعلى]» (¬2). فقرأه على الصحابة، فكان بعضهم يكتبه، وكان آخرون يحفظونه، وأدّوه إلى من جاء بعدهم من أجيال المسلمين، وظل القرآن محفوظا كما تلقاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا. المبحث السادس تنجيم القرآن والحكمة منه أولا- نزول القرآن منجّما: لم ينزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، وإنما نزل مفرّقا، وظل جبريل ينزل عليه بالقرآن مدة ثلاث وعشرين سنة، في الرأي الراجح، فقد روى البخاري عن عبد الله بن عباس أنه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة، فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين» (¬3). ونزول القرآن مفرقا يسميه العلماء تنجيم القرآن، ويسمّون الشيء النازل منه في المرة الواحدة نجما، لأن من معاني النجم في اللغة «الوقت المضروب» وقد ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1/ 6. وينظر: البيهقي: دلائل النبوة 7/ 146. (¬2) تفسير مجاهد ص 752. وينظر: الطبري: جامع البيان 30/ 154. (¬3) ابن حجر: فتح الباري 7/ 227، وينظر: الترمذي: كتاب السنن 5/ 552.

قالت العرب: «نجّمت المال، إذا أدّيته نجوما ... وقد جعل فلان ماله على فلان نجوما معدودة يؤدي عند انقضاء كل شهر منها نجما، وقد نجّمها عليه تنجيما» (¬1). قال أبو شامة المقدسي: «فلما قطّع الله سبحانه القرآن وأنزله مفرقا قيل لتفاريقه نجوم» (¬2). وأثار المشركون مسألة نزول القرآن منجما في سلسلة معارضتهم الباطلة للنبي صلى الله عليه وسلم وتمنوا نزول القرآن جملة واحدة، على نحو ما حكى القرآن في قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) [الفرقان]. وللعلماء والمفسرين تحقيقات في الجهة التي ينزل منها جبريل عليه السّلام بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وهذه قضية تستند أساسا إلى ما ورد عنها في القرآن الكريم، ويعتقد العلماء أن القرآن مثبت عند الله تعالى في أم الكتاب، في اللوح المحفوظ، مستندين في ذلك إلى قوله تعالى: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) [الزخرف]، وقوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) [البروج]. قال المفسرون: إن القرآن مثبت عند الله سبحانه في اللوح المحفوظ، وسمّي أمّ الكتاب لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب السماوية (¬3). وقد حمل بعض المفسرين قوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) [الواقعة] على اللوح المحفوظ، والمطهرون الملائكة (¬4). ¬

_ (¬1) ابن منظور: لسان العرب 16/ 47 نجم. (¬2) المرشد الوجيز ص 18. (¬3) ينظر: الطبري: جامع البيان 25/ 48 و 30/ 140، والنسفي: مدرك التنزيل 4/ 113، والبيضاوي: أنوار التنزيل 2/ 368. (¬4) ينظر: الطبري: جامع البيان 27/ 203.

ويعتقد كثير من العلماء والمفسرين أن القرآن أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وكان جبريل عليه السّلام ينزل بالقرآن بعد ذلك مفرقا على النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا في ذلك يستندون إلى تفسير عدد من الآيات الكريمة التي تتحدث عن إنزال القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (185) [البقرة]. حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ (3) [الدخان]. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) [القدر]. وهذه الآيات الكريمة تتحدث عن وقت نزول القرآن، ولا تشير إلى الكيفية إلا إشارة عامة، كما أشارت آيات أخرى إلى هذا المعنى أيضا، لكن المفسرين ينقلون عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، أنه فسّر هذه الآيات بقوله: «أنزل الله تعالى القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر، وهي الليلة المباركة، في شهر رمضان إلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السّلام مفرقا على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة، حتى أتمّه (¬1). ونقل المفسرون قولا آخر في تفسير هذه الآيات عن أحد كبار التابعين هو عامر بن شراحيل الشعبي (ت 103 هـ على خلاف) الذي قال: نزل أول القرآن في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة (¬2). وقد قال ابن حجر: إن القول المعتمد الصحيح هو أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم أنزل بعد ذلك مفرقا (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر: الطبري: جامع البيان 2/ 144 و 25/ 107 و 30/ 258. وأبو شامة: المرشد الوجيز ص 17، والسيوطي: الإتقان 1/ 116. (¬2) ينظر: الطبري: جامع البيان 30/ 258، والسيوطي: الإتقان 1/ 118. (¬3) فتح الباري: 9/ 4.

وقال أبو شامة المقدسي: إنه لا منافاة بين الآيات الثلاث، فليلة القدر هي الليلة المباركة، وهي في شهر رمضان (¬1). ثم قال: «إن أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) وذلك بحراء عند ابتداء نبوته، ويجوز أن يكون قوله أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (185) [البقرة] إشارة إلى كل ذلك، وهو كونه أنزل جملة إلى السماء الدنيا، وأول نزوله إلى الأرض، وعرضه وإحكامه، في شهر رمضان، فقويت ملابسة شهر رمضان للقرآن إنزالا جملة وتفصيلا وعرضا وإحكاما، فلم يكن شيء من الأزمان تحقق له من الظرفية للقرآن ما تحقق لشهر رمضان، فلمجموع هذه المعاني قيل أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» (¬2). ولا شك في أن نزول القرآن جملة إلى السماء الدنيا هو من أمر الغيب الذي تتوقف معرفته على ورود نص في القرآن أو الحديث يبينه، ولكن قول الصحابي في الأمور التي ليست موضع اجتهاد، إذا ثبت، حكمه حكم الحديث المرفوع، وهو ما ينطبق على تفسير ابن عباس هنا، فقد نص السيوطي على صحة أسانيد الأحاديث التي نقلت ذلك التفسير عن ابن عباس (¬3). فمن المرجح أن يكون ابن عباس قد فهم التفسير من النبي صلى الله عليه وسلم. على أن مما يجب الالتفات إليه في موضوع نزول القرآن هو أن هذا الاختلاف في تفسير هذه الآيات لا يؤثر في شيء على نص القرآن الكريم، فسواء ثبت ما نقل عن ابن عباس أو ما روي عن عامر الشعبي فنص القرآن واحد في كلا القولين، وهما يؤولان إلى نتيجة واحدة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن مفرقا في ثلاث وعشرين سنة، لكن العلماء قالوا إن في إنزاله جملة إلى السماء الدنيا «تفخيم لأمره وأمر من أنزل عليه، وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا ¬

_ (¬1) المرشد الوجيز ص 9. (¬2) المصدر نفسه ص 24. (¬3) الاتقان 1/ 117.

ثانيا - حكمة نزول القرآن منجما

آخر الكتب، المنزل على خاتم الرسل، لأشرف الأمم، قد قربناه إليهم لننزله عليهم، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجما بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله تعالى باين بينه وبينها، فجمع له الأمرين: إنزاله جملة ثم إنزاله مفرقا» (¬1)». ثانيا- حكمة نزول القرآن منجما: استغرق نزول القرآن الكريم ثلاثا وعشرين سنة، فهو لا يشكل ظاهرة مؤقتة أو خاطفة، ولقد نزلت الآيات منجمة، قد تنزل السورة الكاملة أو الآيات، أو الآية الواحدة، وبين كل وحي وما يليه مدة انقطاع قد تطول وقد تقصر، بحسب التقدير الإلهي، لا برغبة النبي صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يملك من أمر الوحي غير التلقي الواعي، ثم الحفظ والتبليغ. فالله سبحانه هو الذي اختار هذا الطريق لتنزيل القرآن. وقد تمنى الكفار نزول القرآن جملة واحدة، ولكن الله تعالى بيّن أن وراء نزوله مفرقا حكمة يتعلق بها استمرار الدعوة ونجاحها، فقال سبحانه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) [الفرقان]. ويقدم المفسرون لقوله تعالى: ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ (120) [هود] تفسيرين، هما: (¬2) 1 - لنقوّي به قلبك، فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب، وأشد عناية بالمرسل إليه. 2 - لتحفظه، فيكون فؤادك ثابتا به غير مضطرب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أميا لا يكتب ولا يقرأ، ففرّق عليه القرآن ليتيسر عليه حفظه. ¬

_ (¬1) أبو شامة: المرشد الوجيز ص 24، وينظر: السيوطي: الاتقان 1/ 119. (¬2) ينظر: الطبري: جامع البيان 19/ 10، وأبو شامة: المرشد الوجيز ص 28، والسيوطي: الاتقان 1/ 121.

ولا شك أن تفريق النص الذي يراد حفظه ييسر الأمر على من يريد أن يحفظه، لكن ذلك قد لا ينطبق على الواقع، فقد صرح القرآن أن حفظ الوحي مكفول للنبي صلى الله عليه وسلم كما مر ذلك، والله تعالى يقول: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) [الأعلى] و (لا) هنا نافية، والآية تعني أنك تحفظه ولن تنساه، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ (188) [الأعراف]. والدارس اليوم والمتأمل لتاريخ الدعوة تتجلى أمامه حكمة نزول القرآن مفرقا، بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالنسبة إلى المؤمنين، فالدعوة الإسلامية جاءت لتصلح أوضاع البشرية الفاسدة في العقيدة والسلوك والتشريع، ولا يناسب تحقيق ذلك إلا الدعوة المتأنية، قال الله تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) [الإسراء] أي لتقرأه على الناس على تؤدة، فترتله وتبينه ولا تعجل في تلاوته (¬1). وتلك في الواقع هي الطريقة التربوية الوحيدة الممكنة في حقبة تتسم بميلاد دين وبزوغ حضارة، فكان الوحي خلال ثلاثة وعشرين عاما يهدي سير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه خطوة خطوة نحو هذا الهدف، وهو يحوطهم كل لحظة بالعناية الإلهية المناسبة، فهو يعزز جهودهم، ويقوي إرادتهم، حتى تكلل ذلك الكفاح بالنصر المبين، فالحركة التاريخية والاجتماعية والروحية التي نهض بأعبائها الإسلام لا سر لها إلا في هذا التنجيم (¬2). جاء هذا القرآن ليربي أمة، ويقيم لها نظاما، وجاء ليكون منهج تربية ومنهاج حياة، لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد الاستمتاع العقلي ولا لمجرد المعرفة، ومن ثم جاء هذا القرآن وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة، وهي في طريق نشأتها ونموها، ووفق استعدادها الذي كان ينمو يوما بعد يوم في ظل ذلك المنهج التربوي الإلهي الدقيق. ¬

_ (¬1) ينظر: الطبري: جامع البيان 15/ 179. (¬2) مالك بن نبي: الظاهرة القرآنية ص 221 - 222.

وقد أدرك الصحابة تلك الحكمة التربوية من نزول القرآن الكريم مفرقا، وهم الذين عاشوا تجربة تلقي القرآن على ذلك النحو، فلمسوا ثمار ذلك المنهج عمليا في حياتهم، قالت السيدة عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، كما جاء في صحيح البخاري: « ... إنما نزل أوّل ما نزل منه (أي من القرآن) سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) [القمر] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده ... (¬1). قال ابن حجر في شرحه للحديث: «أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة، وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام ... » (¬2). لم يكن نزول القرآن الكريم مفرقا مصادفة إذن، ولم تكن تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن على الناس على مكث وأناة دون حكمة، فقد ظل القرآن ينزل في مكة مدة ثلاث عشرة سنة وهو يعالج أسس العقيدة وأصول الدين، حتى إذا استوفت هذه القضية ما تستحقه من البيان واستقرت في قلوب الجماعة المؤمنة استقرارا مكينا ثابتا، نزلت الآيات تفصّل ما يتعلق بنظام الإسلام في الحياة، فكانت النفوس المؤمنة تتلقى التشريعات بالرضا والقبول، فأبطلت الخمر وأبطل الربا وأبطل الميسر، وأبطلت العادات الجاهلية كلها، أبطلت بآيات من القرآن، أو كلمات من الرسول صلى الله عليه وسلم بفضل ذلك المنهج التربوي الرباني العظيم. ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري 9/ 39. (¬2) فتح الباري 9/ 40.

المبحث السابع أسباب النزول

المبحث السابع أسباب النّزول أولا- معنى أسباب النزول: لم يرتبط نزول جبريل عليه السّلام بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بأمر معين، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يملك اختيار الوقت الذي ينزل فيه القرآن عليه، فذلك أمر مرتبط بمشيئة الله تعالى، وما على الرسول إلا البلاغ المبين، فكان القرآن يتنزل عليه في الليل أو النهار، في السفر أو في الحضر، قائما أو قاعدا، ماشيا أو راكبا، من غير أن يكون له في ذلك رأي أو اختيار. وكان نزول القرآن- مع ذلك- يواكب سير الدعوة، ويربّي المؤمنين ويسدد خطواتهم، ومن ثمّ فإن نزول عدد من الآيات والسور ارتبط بأحداث معينة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل من أصحابه أو من غيرهم. فربما أجاب من فوره، وربما انتظر نزول القرآن مبيّنا الجواب، أو موضحا الحكم، فإذا تأملت هذه الآيات الكريمة: * يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (189) [البقرة]. يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ ... (215) [البقرة]. يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي (187) [الأعراف]. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (85) [الإسراء]. إذا تأملت هذه الآيات أحسست أن نزولها ارتبط بسؤال، ومن الآيات ما ارتبط نزوله بحادثة وقعت أو مشكلة ظهرت في المجتمع الإسلامي وقت التنزيل. وقد عبّر السلف من الصحابة والتابعين، ومن جاء بعدهم من العلماء والدارسين، عن ذلك السؤال وتلك الواقعة أو المشكلة التي تنزل عقبها الآية أو الآيات بعبارة (سبب النزول) فيقولون: نزلت هذه الآية بسبب كذا، وهذه

ثانيا - الطريق إلى معرفة أسباب النزول

الأسباب في الواقع «ما هي إلا مناسبات لا أسباب حقيقية، وإن سمّيت أسبابا على طريق التسامح والتجوز» (¬1). وقد قسم العلماء آيات القرآن بالنسبة إلى ارتباط نزولها بسؤال أو حادثة على قسمين: 1 - قسم نزل ابتداء. 2 - قسم نزل عقب حادثة أو سؤال (¬2). ويلاحظ أن القسم الأول الذي نزل ابتداء تتحدث أكثر آياته عن أمور العقيدة ووصف مشاهد القيامة، ووصف الجنة ونعيمها والنار وأهوالها، وكذلك تتحدث عن أخبار الأمم الغابرة وما حلّ بأهلها. أما القسم الثاني، وهو ما نزل مرتبطا بأسباب ووقائع، فمعظم آياته مما يتعلق بالتشريع والأحكام والآداب. وفي ارتباط نزول الآيات بمناسبة معينة، وهو ما يسمّى بأسباب النزول- حكمة تشريعية وتربوية عظيمة، تجعل من الحكم الذي تتضمنه تلك الآيات تجربة واقعية، وتطبيقا عمليا في المجتمع، يتم تحت نظر النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهه، ويدرك حكمة التشريع الذي تتضمنه تلك الآيات كل من كان شاهدا وقت نزولها، وكل من وقف على تلك المناسبة وعرف قصتها، فنزول الحكم وقت الحاجة إليه يكون أبعد أثرا في نفوس المخاطبين، ويكونون أكثر استجابة له (¬3). ثانيا- الطريق إلى معرفة أسباب النزول: اعتنى المفسرون والمؤلفون في علوم القرآن ببيان أسباب النزول كثيرا، لكن تحديد سبب النزول ليس فيه مجال للرأي والاجتهاد، وإنما سبيله سبيل الأحداث ¬

_ (¬1) محمد الفاضل بن عاشور: التفسير ورجاله ص 20. (¬2) السيوطي: الاتقان 1/ 82. (¬3) ينظر: مناع القطان: مباحث في علوم القرآن ص 95.

التأريخية، ومن ثم فإن لمعرفة سبب النزول طريق واحد هو النقل الصحيح عن الصحابة الذين عاصروا تنزيل القرآن وشاهدوا الأحداث التي وقعت حينذاك، يقول الواحدي: «ولا يحلّ القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب، وبحثوا في علمها، وجدّوا في الطلاب» (¬1). وقد جعل العلماء قول الصحابي في سبب النزول حجة ثابتة بمنزلة الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الحاكم النيسابوري: «فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا فإنه حديث مسند» (¬2). وكان الصحابة، رضي الله عنهم، يذكرون أسباب النزول وينقلونها إلى التابعين، كما روى البخاري عن نافع مولى عبد الله بن عمر أنه قال: «كان ابن عمر، رضي الله عنهما، إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه، فأخذت عليه يوما (أي: أمسكت المصحف، وهو يقرأ عن ظهر قلب) فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان قال: تدري فيم أنزلت؟ قلت: لا. قال: أنزلت في كذا وكذا، ثم مضى» (¬3). والروايات المنقولة في سبب النزول بعضها يصرّح بأن الآية نزلت بسبب كذا، وبعضها يأتي بصيغة أن هذه الآية نزلت في كذا، أي يراد بها كذا. فمن الأول ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال: «بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث، وهو متّكئ على عسيب، إذ مرّ اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فسألوه، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يردّ عليهم شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: ¬

_ (¬1) أسباب نزول القرآن ص 5. (¬2) معرفة علوم الحديث ص 20. (¬3) ابن حجر: فتح الباري 8/ 189.

وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) [الإسراء]» فهذا بيان صريح لسبب النزول. ومن الثاني قول مجاهد في الآيات التي في أول سورة البقرة: «أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين، وآيتان بعدها نزلت في الكافرين، وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين، فهذا ليس بيانا لسبب النزول، وإنما هو توضيح للمعنى. فهو يريد أنها نزلت في نعت المؤمنين والكافرين والمنافقين (¬1). ومن ذلك أيضا قول الواحدي في حديثه عن سورة الفيل: «نزلت في قصة أصحاب الفيل، وقصدهم تخريب الكعبة، وما فعل الله بهم من إهلاكهم وصرفهم عن البيت، وهي معروفة» (¬2). فهذا ليس بيانا لسبب النزول، وقد علّق السيوطي على قول الواحدي هذا بقوله: «والذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه، ليخرج ما ذكره الواحدي في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية» (¬3). وقد جمع العلماء الروايات المنقولة في أسباب النزول من كتب التفسير وكتب الحديث في مؤلفات مستقلة، وأول من صنّف في هذا الموضوع علي بن عبد الله بن المديني المتوفى سنة 234 هـ، وأشهرها كتاب (أسباب نزول القرآن) لعلي بن أحمد الواحدي المتوفى سنة 468 هـ، وأجمعها كتاب (لباب النقول في أسباب النزول) لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر: سفيان الثوري: تفسير القرآن العظيم ص 1. (¬2) أسباب نزول القرآن ص 19. (¬3) الاتقان 1/ 90، ولباب النقول ص 14. (¬4) ينظر: السيوطي: الاتقان 1/ 82.

ثالثا - أهمية معرفة أسباب النزول

ثالثا- أهمية معرفة أسباب النزول: لهذا النوع من البحث التأريخي في الآيات الكريمة أهمية كبيرة في تيسير فهم معناها واستنباط الحكم الشرعي منها «لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قضيتها وبيان سبب نزولها» (¬1)، فإن بعض من تلا هذه الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) [المائدة] ظن أنّ من كان كذلك جاز له أن يأكل ما يشاء، ويشرب ما يشاء، حتى ولو كان ذلك محرما (¬2). لكن الوقوف على مناسبة نزول هذه الآية يوضّح حقيقة معناها، ومن يشملهم حكمها، فقد روى البخاريّ ومسلم وغيرهما أنه لما نزل تحريم الخمر قال بعض الصحابة: كيف لأصحابنا الذين ماتوا وكانوا يشربونها؟ قبل نزول التحريم طبعا، فنزلت هذه الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ... (93) (¬3). وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن حكم الآية التي تنزل بسبب سؤال من شخص معين، أو عقب حادثة تتعلق بشخص معين، يشمل الحالات التي تشبه حالة من نزلت الآية بسببه، وهو ما يعبرون عنه بعبارة (الأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب) (¬4). فمن ذلك قول الطبري، بعد أن تحدث عن سبب نزول قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ ... (7) [آل عمران]، وهو: «وهذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرناه أنها نزلت فيه من أهل الشرك، فإنه معنيّ بها كل مبتدع في دين الله بدعة، فمال قلبه إليها، تأويلا منه لبعض متشابه آي القرآن» (¬5). ¬

_ (¬1) الواحدي: أسباب نزول القرآن ص 5. (¬2) الزركشي: البرهان 1/ 28، والسيوطي: الاتقان 1/ 83. (¬3) ابن حجر: فتح الباري 8/ 278. (¬4) الزركشي: البرهان 1/ 32، والسيوطي: الاتقان 1/ 85. (¬5) جامع البيان 3/ 181.

المبحث الثامن عربية القرآن وعالمية رسالته

وورد هذا المعنى في حديث النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أن رجلا اقترف إثما، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك كله، فأنزلت عليه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) [هود]، فقال الرجل: ألي هذه؟ قال: لمن عمل بها من أمّتي (¬1). ومن ثمّ قال العلماء: «وقد تنزل الآية في معنى، ثم يكون داخلا في حكمها كل ما كان في معنى ما نزلت فيه» (¬2). المبحث الثامن عربيّة القرآن وعالمية رسالته أولا- عربيّة القرآن: لا بد أن تكون لغة الرسالة التي يحملها الرسول هي لغة قومه الذين يدعوهم إليها، حتى تحقق الغاية منها، وقد أكد القرآن الكريم هذه القاعدة في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) [إبراهيم]، ومعنى (بلسان قومه) أي بلغتهم (¬3). وقد جاء القرآن عربيا لأن الله تعالى أنزله على النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم وأمره أن ينذر عشيرته الأقربين أولا، في مكة، فقال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) [الشورى]، وأم القرى هي مكة (¬4). وبلغ عدد الآيات الكريمة التي تؤكد نزول القرآن باللغة العربية أكثر من عشر ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري 8/ 355. (¬2) الطبري: جامع البيان ج 24 تفسير الآية 31 من سورة الزمر. (¬3) الطبري: جامع البيان 13/ 181، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن 9/ 340. (¬4) الطبري: جامع البيان 25/ 8.

آيات، وهذه حقيقة واضحة لمن قرأ القرآن أو سمعه، لكن تأكيد القرآن عليها لا بد أن يكون لمعنى مقصود، ومن ثم أجمع العلماء على عدم جواز قراءة القرآن بغير العربية، في الصلاة وخارجها (¬1)، ولا تسمى ترجمة معاني القرآن قرآنا، كما لا يسمى التفسير في العربية قرآنا، لأن إعجاز القرآن في لفظه ومعناه، وليس في معناه فقط. ولا شك في أن عرض تلك الآيات أمام نظر القارئ سوف يوضح المعنى الذي يريد أن يثبته القرآن في نفس القارئ، مع نقل شيء مما قاله المفسرون في بيان معناها، قال الله تعالى: 1 - الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) [يوسف]. 2 - وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) [الرعد]. 3 - وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) [طه]. 4 - وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) [الزمر]. 5 - حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) [فصلت]. 6 - وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها (7) [الشورى]. 7 - حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) [الزخرف]. ¬

_ (¬1) الزرقاني: مناهل العرفان 2/ 56.

8 - وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) [الأحقاف]. 9 - وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) [النحل] 10 - وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء]. 11 - وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) [فصلت]. فالله تعالى جعل القرآن عربيا، وأنزله عربيا لأن المخاطبين من قوم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا عربا، ليعقلوا معانيه، وما فيه من مواعظ، ولم ينزله بلسان العجم فيقولوا: نحن عرب، وهذا كلام أعجمي لا نفقه معانيه، فأنزله بلسانهم، حتى يفقهوا ما فيه، فيتقوا ما حذّرهم الله منه، وينيبوا إلى عبادته وطاعته (¬1). ومما يلفت النظر في الآيات السابقة قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا (37) [الرعد]، قال الطبري: «كذلك أنزلنا الحكم والدين حكما عربيا، وجعل ذلك عربيا ووصفه به لأنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو عربي فنسب الدين إليه» (¬2). ولا شك في أن لغة العرب في أنحاء الجزيرة العربية لم تكن موحدة حين ¬

_ (¬1) ينظر: الطبري: جامع البيان 12/ 149، و 23/ 213 و 25/ 47. (¬2) جامع البيان: 13/ 165.

بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فكان لكل قبيلة أو مدينة لهجة تميزت بها (¬1)، لكن التباين بين تلك اللهجات لم يكن يحول بينهم وبين التواصل والتفاهم، وقد وردت نصوص تؤكد أن القرآن الكريم نزل بلغة قريش خاصة، وهم قوم النبي صلى الله عليه وسلم، وسكان مكة وما حولها. منها ما رواه البخاري أن عثمان بن عفان قال لكتّاب المصاحف: «إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم» (¬2). ومنها رسالة عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن مسعود حين بلغه أنه يعلّم الناس القرآن في الكوفة بلغة هذيل وهي: «أما بعد، فإن الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش، فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل» (¬3). وقد قال مجاهد بن جبر المكي المفسر المشهور، وأشهر تلامذة ابن عباس، في تفسير قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ (4) [إبراهيم]: نزل القرآن بلسان قريش (¬4). وقد حاز القرآن الكريم أعلى درجات البلاغة وأصفى صور الفصاحة، فأعجز البلغاء وبهر الفصحاء، فهو وإن كان بلغة العرب فإنه كلام رب العالمين، وهو معجزة خاتم الأنبياء والمرسلين، وهو مع ذلك ميسّر، قال الله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) [القمر]، وأكدت هذا المعنى آيتان أخريان هما قوله تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) [مريم]، وقوله: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) [الدخان]. قال الطبري في تفسير قوله يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ: «فإنما سهّلنا قراءة هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد بلسانك ليتذكر هؤلاء المشركون الذين أرسلناك إليهم بعبره ¬

_ (¬1) ينظر: أبو شامة: المرشد الوجيز ص 128. (¬2) البخاري: الجامع الصحيح 6/ 224، وينظر: ابن النديم: الفهرست ص 27. (¬3) ينظر: أبو شامة: المرشد الوجيز ص 101، وابن حجر: فتح الباري 9/ 27. (¬4) السيوطي: الدر المنثور 5/ 5.

ثانيا - عالمية رسالة القرآن

وحججه، ويتعظوا بعظاته، ويتفكروا في آياته» (¬1). ومن المفسرين من قال إن معنى يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ: أنزلناه بلغتك، وكلا التفسيرين يؤولان إلى التيسير الذي خص الله به كتابه الكريم (¬2). ثانيا- عالمية رسالة القرآن: ليس جديدا القول إن رسالة القرآن ودعوة الإسلام جاءت للناس عامة، ولا يتناقض ذلك مع كون القرآن أنزل باللغة العربية على النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم وسط بلاد العرب، لأن البشرية لا تملك لغة عالمية يفهمها الجميع، فكان لا بد من أن تكون الرسالة الخاتمة بإحدى اللغات البشرية، ثم على المؤمنين من أبناء اللغات الأخرى أن يتعلموا من تلك اللغة ما يعرّفهم بمضمون تلك الرسالة. وقد بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بالرسالة، واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (124) [الأنعام] ومن ثمّ أنزل القرآن بالعربية، وكان العرب أول من تلقى الدعوة الجديدة، ثم حملوها إلى الناس أجمعين، قال ابن بطال القرطبي (علي بن خلف ت 449 هـ): «إن الوحي كله إنما نزل بلسان العرب، ولا يرد على هذا كونه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة عربا وعجما وغيرهم لأن اللسان الذي نزل عليه به الوحي عربي، وهو يبلغه إلى طوائف العرب، وهم يترجمونه إلى غير العرب بألسنتهم» (¬3). وجاءت آيات القرآن الكريم تؤكد هذا المعنى وتوضحه، قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء]. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) [سبأ]. ¬

_ (¬1) جامع البيان: 16/ 133 و 25/ 138. (¬2) البيضاوي: أنوار التنزيل 2/ 41 و 2/ 385. (¬3) نقلا عن ابن حجر: فتح الباري 9/ 10.

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ (158) [الأعراف]. قال أهل التفسير: «يقول تعالى ذكره: وما أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين من قومك خاصة، ولكنا أرسلناك كافة للناس أجمعين، العرب منهم والعجم، والأحمر والأسود ... » (¬1). وقد بيّن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا المعنى أيضا، فجاء في حديث جابر بن عبد الله، الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلي» وذكر منهن: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة» (¬2). وقد ختمت الرسالات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) [الأحزاب] «فلا تفتح النبوة لأحد من بعده إلى قيام الساعة» (¬3). وقد قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ (19) [آل عمران] وقال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) [آل عمران]، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (¬4). قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: «فيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ... وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته» (¬5). ¬

_ (¬1) الطبري: جامع البيان 22/ 96. (¬2) ابن حجر: فتح الباري 1/ 435 و 533. (¬3) الطبري: جامع البيان 22/ 16. (¬4) صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 186. (¬5) المصدر نفسه 2/ 188.

ومع أن رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة للرسالات السابقة فإنها جاءت امتدادا لها، ومكملة لأحكامها، وقد مثل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الذي رواه البخاري: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلّا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللّبنة، وأنا خاتم النبيين» (¬1). وقد أمر الله تعالى المؤمنين بأن يقولوا: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) [البقرة]. إن عربية القرآن لا تلغي موقع العرب المتميز في حملها، فقد اختار الله تعالى العرب للإسلام لخصائص طبعيّة ومزايا خلقية ينفردون بها، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، وقد أثبت العرب الأولون حكمة هذا الاختيار بفهمهم العميق لطبيعة الإسلام، وإساغتهم الكاملة لتعاليمه، وتجردهم النادر عن كل ما ينافيها، وحماستهم المنقطعة النظير في نشر الإسلام، وتفانيهم الغريب في إعلاء كلمته، ورفع شأنه، وأمانتهم الدقيقة في حفظ روحه ونفسيته، ونجاحهم المدهش في تسخير القلوب والعقول لقبول عقيدته وثقافته. لقد ربط الله بين العرب والإسلام إلى الأبد، وربط مصير أحدهما بالآخر، فلا عز للعرب إلا بالإسلام، ولا يظهر الإسلام في مظهره الصحيح إلا إذا قاد العرب ركبه وحملوا مشعله (¬2)، كما أن الله تعالى ربط بين القرآن والعربية، فالقرآن أكبر عوامل حياة هذه اللغة واستمرارها وانتشارها ووحدتها، وتظل اللغة العربية أساسا لتلاوة القرآن وفهمه وتفسير آياته، ومن ثمّ فإن ما لا يحصى من المسلمين من غير العرب يحبون هذه اللغة الكريمة ويحرصون على تعلمها ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري 6/ 588. (¬2) ينظر: أبو الحسن الندوي: العرب والإسلام ص 3 - 4.

وإتقانها في القديم وفي الحديث، لأنها لغة القرآن، ولغة العبادة والدين. وقد أحسن أبو منصور الثعالبي (ت 430 هـ) التعبير عن العلاقة الخالدة بين العربية والقرآن بقوله: «من أحبّ الله تعالى أحبّ رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ومن أحبّ الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية، التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحب العربية عني بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام، وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه، اعتقد أن محمدا صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد ... » (¬1). ¬

_ (¬1) فقه اللغة ص 1.

الفصل الثاني تدوين القرآن الكريم

الفصل الثاني تدوين القرآن الكريم المبحث الأول كتابة القرآن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أولا- القرآن يمحو أميّة العرب: نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعرب تغلب عليهم الأمية، قال البلاذري وهو يتحدث عن الكتابة في مكة: «دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب». وقال عن الكتابة في يثرب: إن الإسلام جاء وفيهم عدّة يكتبون، وذكر منهم أحد عشر رجلا (¬1). ومن ثم قال ابن قتيبة: «وكانت الكتابة في العرب قليلا» (¬2). وقد وصف الله تعالى العرب في القرآن بالأميين، ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بالنبي الأمي، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) [الجمعة]. وقال سبحانه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ... (157) ... فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) [الأعراف]، والتفسير الذي يذهب إليه أكثر المفسرين لكلمة الأمي هو أنه الذي لا يكتب ولا يقرأ، ومعنى كلمة الأميين هم الذين لا يكتبون ولا يقرءون، وقد وصف القرآن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمي لأنه لم يقرأ ¬

_ (¬1) فتوح البلدان ص 477 و 479. (¬2) المعارف ص 130.

كتابا، ولا تعلم الكتابة، ووصف العرب بالأميين لأن أكثرهم كانوا لا يكتبون ولا يقرءون (¬1). وكان بزوغ شمس الإسلام في بلاد العرب إيذانا بنهضة شاملة، كان أحد مظاهرها انتشار الكتابة واستخدامها في أغراض الحياة المتعددة على الرغم من قلة الكاتبين في بدء الدعوة، وصعوبة وسائل الكتابة، ولا يخفى على القارئ أن الأمر بالقراءة وذكر التعليم بالقلم في أول آيات أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ذو دلالة أكيدة على عناية الدعوة الجديدة بالكتابة والعلم، كما أن تسمية القرآن بالكتاب في آيات كثيرة أمر يدل على استشرافها لآفاق المستقبل الذي يجمع فيه القرآن في كتاب. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميّا، وكانت الأميّة في حقه فضيلة (¬2)، لأنها أدلّ على صدق ما جاء به، قال الله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) [العنكبوت]، لكنه مع ذلك اعتنى بموضوع الكتابة كثيرا، واتخذ له كتّابا يكتبون له الوحي، ويكتبون رسائله وعهوده وما كان يأمر به، حتى بلغ عدد كتّابه من صحابته أكثر من أربعين كاتبا (¬3). وشجّع على تعلم الكتابة، حتى إنه جعل فداء أسرى بدر ممن لم يكن له مال أن يعلّم صبيان الأنصار الكتابة (¬4)، فيعلّم كلّ واحد عشرة من المسلمين الكتابة (¬5)، فقلّت الأمية بين العرب بعد انتشار الإسلام بينهم، وقد فسر ابن عباس كلمة (الكتاب) الواردة ¬

_ (¬1) الطبري: جامع البيان 9/ 83 و 28/ 94، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن 7/ 298 و 18/ 91، والبيضاوي: أنوار التنزيل 1/ 362 و 2/ 492. (¬2) ينظر: ابن عبد ربه: العقد الفريد 4/ 160. (¬3) ينظر: ابن عبد البر: الاستيعاب 1/ 69، والهوريني: المطالع النصرية ص 13. (¬4) ينظر: أبو عبيد: كتاب الأموال ص 128، ومسند الإمام أحمد 1/ 247. (¬5) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 22.

ثانيا - النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة القرآن

في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ (2) [الجمعة] فسرها بالخط والقلم، وكلمة (الكتاب) مصدر للفعل (كتب) مثل الكتابة (¬1)، فقال: «الكتاب: الخط بالقلم، لأن الخط فشا في العرب بالشرع، لما أمروا بتقييده بالخط» (¬2). ثانيا- النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة القرآن: نزل القرآن مفرقا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يسر الله له حفظ القرآن، فلم تكن به حاجة إلى مصحف يقرأ فيه، وكان يتلوه على صحابته، ويأمرهم بتعهده خشية نسيانه، وآفة الحفظ النسيان، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن، ونقل عنه أنه قال: «قيّدوا العلم بالكتاب» (¬3). وهذا القول من جوامع الكلم، فقد جعل صلى الله عليه وسلم الكتابة كالقيد للعلم، فلا يذهب ولا ينسى. وكان القرآن الكريم أولى بالتقييد من غيره، حتى لقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور الذي رواه أبو سعيد الخدري: «لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن، ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه» (¬4). وكان ذلك خشية أن تختلط ألفاظ الوحي بحديثه صلى الله عليه وسلم، وقد أذن لبعض الصحابة بكتابة الحديث بعد ذلك (¬5). ونقل الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان كلما نزل عليه الوحي دعا بعض من يكتب له، فيقول له: ضع هذه الآية أو الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا (¬6)، يعني اسم السورة. وكان كثيرا ما يقول: «ادع لي زيدا، وليجئ باللّوح ¬

_ (¬1) ابن منظور: لسان العرب 2/ 192 كتب. (¬2) ينظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 18/ 92. (¬3) الخطيب: تقييد العلم ص 69، وروى الدارمي هذه الكلمة عن عمر بن الخطاب (سنن الدارمي 1/ 127)، وقد يكون عمر اقتبسها عن النبي واستشهد بها. (¬4) صحيح مسلم بشرح النووي 18/ 129، والدارمي: كتاب السنن 1/ 119. (¬5) ينظر: سنن الدارمي 1/ 125. (¬6) أبو داود: كتاب السنن 1/ 209، وأبو شامة: المرشد الوجيز ص 233، والزركشي:

والدّواة» (¬1)، فيكتب له الوحي. وكان زيد بن ثابت ألزم الصحابة لكتابة الوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما أنه كان جار رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فقد روى ابن أبي داود عن خارجة بن زيد قال: «دخل نفر على زيد بن ثابت، فقالوا: حدّثنا بعض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ماذا أحدّثكم! كنت جار رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا نزل الوحي أرسل إليّ فكتبت الوحي، ... » (¬2). ولا ريب في أن كتابة القرآن في المدينة كانت أيسر منها في مكة، لما كان يعانيه المسلمون من القلة والأذى من المشركين، ومع ذلك جاءت روايات تؤكد أن القرآن كان يكتب في مكة- قبل الهجرة- وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته (¬3). وقد ورد في قصة إسلام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن أوائل سورة طه كانت مكتوبة في رقعة في بيت أخته فاطمة، يتعلمون منها القرآن (¬4). ولم تكن هذه الصحيفة إلا واحدة من صحف كثيرة كانت متداولة بين المسلمين في مكة يقرءون فيها القرآن (¬5). ويبدو أن عددا غير قليل من الصحابة كانوا يكتبون القرآن، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: «لا تكتبوا القرآن إلا في شيء طاهر» (¬6). وذلك لحاجتهم إلى الكتابة على الأكتاف والجلود ونحوها، ومن ثم كثرت الصحف التي كتب عليها القرآن في أيدي الصحابة حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن أو المصاحف إلى أرض العدو خشية أن ينالوها (¬7). ¬

_ البرهان 1/ 234. (¬1) البخاري: الجامع الصحيح 6/ 227، والذهبي: سير أعلام النبلاء 2/ 308. (¬2) كتاب المصاحف ص 3، وينظر: أبو الشيخ: أخلاق النبي وآدابه ص 19. (¬3) ينظر: ابن عبد البر: الاستيعاب 1/ 68. (¬4) ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/ 267، وابن هشام: السيرة النبوية 1/ 344. (¬5) محمد حسين هيكل: الصديق أبو بكر ص 309. (¬6) أبو عبيد: فضائل القرآن 17 و. (¬7) ينظر: ابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 179 - 185.

ثالثا - مراجعة كتابة القرآن

ثالثا- مراجعة كتابة القرآن: لم تتوقف كتابة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى اكتملت كتابته كله، لكنه لم يكن قد جمع في مكان واحد، وإنما كان مفرقا في الرقاع والألواح والعسب (¬1). وقد نقل الطبري عن الزهري أنه قال: «قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء، وإنما كان في الكرانيف والعسب» (¬2). وكانت كتابة القرآن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تخضع للمراجعة والتدقيق، في مرحلتين، الأولى عند كتابة الآيات التي ينزل بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية مراجعة القطع التي كتب عليها القرآن وترتيبها. روى سليمان بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد أنه قال: «كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يملي عليّ، فإذا فرغت قال: اقرأه، فأقرؤه، فإن كان فيه سقط أقامه، ثم أخرج به إلى الناس» (¬3). ومعنى قوله: (فإن كان فيه سقط أقامه) إن وجد في الكتابة نقصا أصلحه. وروى المحدّثون عن زيد بن ثابت أنه قال: «كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلّف القرآن من الرّقاع» (¬4)، ومعنى التأليف: الترتيب، لأنه يقال في اللغة: ألّفت الشيء تأليفا، إذا وصلت بعضه ببعض، وجمعت بعضه إلى بعض (¬5). والرقاع ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري 9/ 12، والقسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 51. (¬2) جامع البيان 1/ 28. (¬3) الفسوي: المعرفة والتاريخ 1/ 377، والطبراني: المعجم الكبير 5/ 142، والصولي: أدب الكتاب ص 165، والسمعاني: أدب الإملاء ص 77، والهيثمي: مجمع الزوائد 8/ 257. (¬4) الترمذي: كتاب السنن 5/ 690، والحاكم: المستدرك 2/ 229، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، والبيهقي: دلائل النبوة 7/ 147، وأبو شامة: المرشد الوجيز ص 44. (¬5) ابن منظور: لسان العرب 10/ 352 ألف.

جمع رقعة، وهي تطلق على ما كان يكتب عليه القرآن آنذاك (¬1). وقد قال البيهقي معلقا على هذا الحديث: «وهذا يشبه أن يكون أراد به تأليف ما نزل من الكتاب: الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم» (¬2). وبناء على ذلك نصّ العلماء على أن كتابة القرآن سنّة نبوية ثابتة حفظ الله تعالى بها القرآن من الزيادة أو النقصان أو التحريف، فقال الحارث المحاسبي (ت 243 هـ): «كتابة القرآن ليست بمحدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرّقا في الرقاع والأكتاف والعسب» (¬3). وقال أبو عمر الداني (ت 444 هـ): «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنّ جمع القرآن وكتابته وأمر بذلك وأملاه على كتبته، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى حفظ القرآن جماعة من أصحابه» (¬4). وإنما لم يجمع القرآن في صحف منظمة أو مصحف واحد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأن القرآن كان ينزل مفرقا، فربما نزل بعض السورة وتأخر نزول تتمتها، فكانت الآيات تكتب على الرقاع وتراجع بين آونة وأخرى لترتيبها في سورها بتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم «فلما ختم الله، عز وجل، دينه بوفاة نبيه صلى الله عليه وسلم وكان قد وعد له حفظه بقوله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر]، وفّق الله خلفاءه لجمعه عند الحاجة إليه بين الدّفتين، وحفظه كما وعده» (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر نفسه 9/ 491 رقع. وينظر: السيوطي: الاتقان 1/ 168، حيث ذكر أن القرآن كتب آنذاك على قطع الأديم، والأكتاف، والأقتاب، والقتب خشب الرّحل، واللّخاف، وهي الحجارة الدقاق، والعسب، وهو كرب النخيل، والرقاع، وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد. (¬2) دلائل النبوة 7/ 147. (¬3) نقلا عن السيوطي: الاتقان 1/ 168. (¬4) جامع البيان 10 و. (¬5) البيهقي: دلائل النبوة 7/ 154، وينظر: ابن حجر: فتح الباري 9/ 12، والسيوطي: الاتقان 1/ 164.

المبحث الثاني جمع القرآن في الصحف

إن الأحداث الجسام، والظروف الصعبة، والكفاح المستمر الذي صاحب حياة النبي صلى الله عليه وسلم- وإن وسائل الكتابة الخشنة البدائية الصعبة الاستخدام، مع قلة الكتبة وضعف خبراتهم الكتابية- كل ذلك لم يحل دون كتابة القرآن، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو كتّاب الوحي ويأمرهم بكتابة ما ينزل عليه من القرآن، ويراجعه معهم. المبحث الثاني جمع القرآن في الصحف أولا- أسباب جمع القرآن: كان القرآن الكريم قد كتب مفرقا في الرقاع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن لم يجمع في صحف منظمة، وحين تولى أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، الخلافة في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة سعى إلى تثبيت أسس الدولة التي بناها رسول صلى الله عليه وسلم وكان أول ما واجهه- في خلافته- ارتداد قبائل من العرب وامتناعهم عن أداء بعض حقوق الإسلام، ووقف الصديق من هؤلاء موقفا حازما، وقال كلمته المشهورة: «والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه» (¬1). وانضم بعض المرتدين إلى مدّعي النبوات الكاذبة، فجهّز الصديق الجيوش التي كان في طليعتها كبار الصحابة، لقتال هؤلاء الخارجين، ولم تمض إلا مدة يسيرة حتى عادت الجزيرة العربية كلها إلى حظيرة الإسلام، واندفعت جيوش الصحابة نحو الشام والعراق. وقد استشهد في تلك الحروب عدد من الصحابة، رضوان الله عليهم، كان من بينهم عدد من حفاظ القرآن. وكانت معركة اليمامة، التي أذلّ الله فيها مسيلمة الكذاب وجمعه، من أعظم الغزوات في حروب الردة، وأبعدها أثرا، وقد استشهد ¬

_ (¬1) تاريخ خليفة 1/ 79.

ثانيا - كيفية جمع القرآن

فيها عدد من كبار الصحابة المهاجرين والأنصار، كان من بينهم نحو خمسين من حملة القرآن (¬1). وكانت هذه الأحداث، وما رافقها من مقتل عدد كبير من الصحابة من حفاظ القرآن، من أهم العوامل التي جعلت عددا من الصحابة يفكرون في ضرورة جمع القرآن في صحائف موحدة، بدل تلك القطع المتفرقة، خشية أن يقتل عدد آخر من حفاظ القرآن من الصحابة، أو أن تذهب تلك القطع التي كتب عليها، فيتعرض القرآن إلى ضياع شيء منه أو نسيانه، وكانت حرب اليمامة ونتائجها السبب المباشر الذي وضع تلك الفكرة موضع التنفيذ. وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قد أحزنه مقتل الصحابة في اليمامة، لا سيما أخوه زيد بن الخطاب، وأقلقه مقتل الحفاظ منهم، مثل سالم بن معقل مولى أبي حذيفة، وهو من أشهر حفاظ القرآن، فجاء إلى الخليفة الصديق وقال له: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تهافتوا يوم اليمامة تهافت الفراش في النار، وإن القتل استحرّ بأهل اليمامة من قراء المسلمين، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القراء، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن (¬2). ولم تلق الفكرة في بدء الأمر موافقة الخليفة الصديق، الذي كان شديد الحرص ألّا يعمل عملا لم يعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن المراجعة التي حصلت بعد عرض الفكرة أدت إلى اقتناع الخليفة بها وتكليف زيد بن ثابت بالقيام بأعبائها. ثانيا- كيفية جمع القرآن: نقلت كتب الحديث والتاريخ تفاصيل عملية جمع القرآن في الصحف، من القطع التي كتبت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري وغيره، عن محمد ¬

_ (¬1) المصدر نفسه 1/ 90. (¬2) ينظر: الطبري: جامع البيان 1/ 26، والطبراني: المعجم الكبير 5/ 130.

ابن شهاب الزهري، عن عبيد بن السبّاق، عن زيد بن ثابت أنه قال (¬1): «أرسل إليّ أبو بكر الصديق مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر، رضي الله عنه، إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ (¬2) يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بقراء القرآن في المواطن كلها، فيذهب كثير من القرآن، إلّا أن تجمعوه، وإني أرى أن تأمر من يجمع القرآن. قال أبو بكر: قلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شابّ، عاقل، لا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبّع القرآن فاجمعه. قال زيد: فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر: هو والله خير. فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما. قال زيد: فقمت فتتبعت القرآن، أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور (¬3) الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ (128) [التوبة] حتى خاتمة براءة، مع خزيمة بن ثابت الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره (¬4)، فألحقتها في سورتها. ¬

_ (¬1) البخاري: الجامع الصحيح 6/ 89 و 6/ 225 و 9/ 92، والترمذي: كتاب السنن 5/ 264، وابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 6 - 8، والطبراني: المعجم الكبير 5/ 146 - 148، وابن النديم: الفهرست ص 27. (¬2) استحرّ معناه: اشتد وكثر. (¬3) ذكر ابن حجر (فتح الباري 9/ 15): أن الواو في (وصدور الرجال) بمعنى (مع) أي: أكتبه من المكتوب الموافق للمحفوظ في الصدور. (¬4) أي لم أجدها مكتوبة مع غيره، لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة (ينظر: السيوطي: الاتقان 1/ 167).

وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر». وتبيّن هذه الرواية المفصلة أن القرآن لم يجمع في صحف منظمة قبل هذا الجمع، وهو ما دلت عليه الروايات التي عرضناها عند الحديث عن كتابة القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسمية ما جمع فيه زيد القرآن بالصحف لا يعني أن تلك الصحف لم تكن على شكل منظم، فقد جاء في بعض الروايات أن تلك الصحف كانت محفوظة بين لوحين، كما روي عن علي، رضي الله عنه، أنه قال: «رحمة الله على أبي بكر، كان أول من جمع القرآن بين اللوحين» (¬1). وجاء في بعض الروايات تسمية تلك الصحف بالمصحف، كما نقل الطبري «أن أبا بكر أول من ورّث الكلالة، وجمع المصحف» (¬2). ولعل التسمية بالصحف كانت قد ظهرت أولا، أخذا من قوله تعالى: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) [البينة]، لا سيما أن القرآن كان أول كتاب عرفه المسلمون في تلك الفترة. ثم ظهرت كلمة (المصحف) بعد ذلك، وهو في اللغة: الجامع للصحف المكتوبة بين الدفتين (¬3). ولا شك في أن تلك الصحف كانت من مادة تشبه الورق، ويمكن أن يعمل منها قطع متساوية، يسهل ضمها بين دفتين، على خلاف القطع التي كتب عليها القرآن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنها كانت غير متجانسة ولا يمكن أن يضم بعضها إلى بعض فتشكل ما يشبه الكتاب. ولا يتبين من الروايات نوع المادة التي كانت منها تلك الصحف، فجاء في رواية أنها من القرطاس، وهو الورق الذي يعمل من ¬

_ (¬1) ابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 5. (¬2) جامع البيان 1/ 28. (¬3) ابن منظور: لسان العرب 11/ 88 صحف.

ثالثا - التدقيق في جمع القرآن

البردي في مصر قديما (¬1). وفي رواية أنها من الورق (¬2)، وقيل إن زيدا كتبه في قطع الأدم (¬3). ثالثا- التدقيق في جمع القرآن: إن ما بأيدي الدارسين اليوم من روايات تتعلق بجمع القرآن الكريم في المصحف تشير إلى أن زيد بن ثابت لم يعمل منفردا، وإن كان قد تحمل العبء الأكبر من العمل، لما توفر له من الصفات التي جعلت الخليفة يختاره لهذه المهمة، فقد روي أن أبا بكر الصديق طلب من عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت أن يقعدا على باب المسجد، ويناديا: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكانا لا يقبلان من أحد شيئا، حتى يشهد شهيدان (¬4). وقد قيل إن المراد بالشهيدين أن يشهدا على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، (¬5) قال أبو شامة: «إنما كان قصدهم أن ينقلوا من عين المكتوب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتبوا من حفظهم ... » (¬6). ويتبين من ذلك أن زيد بن ثابت اتبع في جمع القرآن طريقة التحقيق العلمي التي تنأى عن الخطأ، وقد اتبع الطريقة بدقة دونها كل دقة، فقد طلب أبو بكر إلى كل من عنده من القرآن شيء مكتوب أن يجيء به إلى زيد، واجتمع لزيد من الرقاع والأكتاف وجريد النخل ورقيق الحجارة، ومن كل ما كتب أصحاب رسول ¬

_ (¬1) ابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 9، وابن حجر: فتح الباري 9/ 16. (¬2) أبو شامة: المرشد الوجيز ص 64، والسيوطي: الاتقان 1/ 169. (¬3) الطبري: جامع البيان 1/ 26. (¬4) ابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 6، والسيوطي: الاتقان 1/ 166. (¬5) أبو شامة: المرشد الوجيز ص 55، وابن حجر: فتح الباري 9/ 15. (¬6) المرشد الوجيز ص 57.

الله صلى الله عليه وسلم القرآن عليه، الشيء الكثير، عند ذلك جعل يرتبه ويوازنه ويستشهد عليه، ولا يثبت آية إلا إذا اطمأن إلى إثباتها كما أوحيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬1) ويتحصل من ذلك حقيقتان اثنتان هما (¬2): الأولى: إن عمل زيد، رضي الله عنه، في جمع القرآن لم يكن كتابة مبتدأة، ولكنه إعادة لمكتوب، فقد كتب كله في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمل زيد هو البحث عن الرقاع التي كان قد كتب عليها والتأكد من سلامتها. الثانية: إن عمل زيد لم يكن عملا فرديا، بل كان عملا جماعيا شارك فيه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان معهم من القرآن الذي كتبوه من قبل. واستغرقت عملية جمع القرآن ما يقرب من سنة، فقد تم ذلك بعد معركة اليمامة، التي وقعت في الأشهر الأخيرة من السنة الحادية عشرة، وقبل وفاة الصديق، رضي الله عنه، التي كانت في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة (¬3). ولا شك في أن جمع القرآن تم قبل وفاة الصديق بمدة، إذ إن الرواية تشير إلى أن الصحف التي جمع فيها القرآن أودعت عنده حتى توفاه الله. لقد كان جمع القرآن من جلائل الأعمال التي ازدان بها عهد الصديق، إن لم يكن أجلها (¬4)، لأنه جاء في وقته المناسب، واعتمد على أوثق ما هو متاح من الوثائق. وقد قال الإمام علي، رضي الله عنه: «أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر، فإنه أول من جمع القرآن بين اللوحين»، وروي أنه قال: «رحم الله أبا بكر، كان أول من جمع القرآن بين اللوحين» (¬5). ¬

_ (¬1) محمد حسين هيكل: الصديق أبو بكر ص 322. (¬2) ينظر: محمد أبو زهرة: المعجزة الكبرى ص 33. (¬3) تاريخ خليفة 1/ 105. (¬4) محمد حسين هيكل: الصديق أبو بكر ص 16. (¬5) ابن أبي داود كتاب المصاحف ص 5.

المبحث الثالث توحيد المصاحف

المبحث الثالث توحيد المصاحف أولا- تعدد المصاحف واختلاف القراءات: امتدت رقعة الدولة الإسلامية في خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، (من سنة 13 - 23 هـ) وواكب ذلك الامتداد جهود كبيرة لتعليم الناس القرآن والفقه في الدين، وكان يشرف على تلك الجهود ويوجهها الخليفة نفسه، فقد أرسل عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، إلى الكوفة، ليعلم أهلها القرآن والفقه (¬1). وأرسل عبد الله بن قيس المشهور بأبي موسى الأشعري إلى البصرة ليعلم الناس فيها قراءة القرآن (¬2). وبعد فتح الشام كتب واليها يزيد بن أبي سفيان إلى الخليفة عمر بن الخطاب: أن أهل الشام قد كثروا وملئوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن، ويفقههم، فأعنّي يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم، فأرسل إليه عمر كلا من أبي الدرداء ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت، وهم من علماء الصحابة بالقرآن والفقه (¬3). وكان علماء الصحابة الذين نزلوا في الأمصار الإسلامية يعلّمون الناس أمور الدين، ويقرءونهم القرآن، على ما كانوا يقرءون في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رخّص لهم بقراءة القرآن بالنطق الذي يستطيعونه، نظرا لاختلاف لهجاتهم، وتقدّم أعمارهم، ولم يحملهم النبي صلى الله عليه وسلم على تعلم نطق معين، وقد عبّر عن تلك الرخصة قوله المشهور: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسّر منه». وسيأتي تفصيل ذلك في موضوع قراءة القرآن، إن شاء الله. ¬

_ (¬1) ابن سعد: الطبقات الكبرى 6/ 7، وابن مجاهد: كتاب السبعة ص 66. (¬2) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 345. (¬3) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 357.

وقد أتاحت حركة الفتوح أن يلتقي المسلمون من التابعين تلامذة الصحابة، رضي الله عنهم، وكانوا من قبائل شتى وفيهم العربي وغير العربي، وكانوا يتدارسون القرآن، وكان كل واحد يقرؤه على نحو ما تعلمه من الصحابي، فتراجعوا في بعض وجوه القراءات، وادّعى بعضهم أن قراءته أصح من قراءة غيره. وكانت مظاهر تلك الحالة أشد وضوحا في خلافة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وتنقل الروايات التاريخية صورا متعددة لذلك الاختلاف في القراءة، فمن ميادين القتال إلى ميادين التعليم (¬1). وتكاثرت أخبار ذلك الاختلاف ووصلت إلى مسامع الخليفة في المدينة، ومعه كبار الصحابة، مما جعلهم يفكرون في الوسائل التي يمكن أن تحافظ على النص القرآني وتمنع وقوع الاختلاف فيه. وكانت كتابة القرآن في الأمصار تعتمد على قراءات الصحابة الذين نزلوا فيها، فكان أهل الكوفة يكتبون مصاحفهم على قراءة عبد الله بن مسعود (¬2)، وكان أهل دمشق قد كتبوا مصحفهم على قراءة أبي الدرداء (¬3)، وهكذا في بقية الأمصار، وكانت تلك المصاحف تعكس الاختلاف الذي ظهر في القراءة، وكانت تعتمد على الجهد الفردي في الغالب، ولم يتوافر لشيء منها ما كان قد توافر للصحف التي جمع فيها زيد بن ثابت القرآن في خلافة أبي بكر الصديق. قال ابن عطية: «وانتشرت في خلال ذلك صحف في الآفاق كتبت عن الصحابة، كمصحف ابن مسعود، وما كتب عن الصحابة بالشام، ومصحف أبيّ، وغير ذلك، وكان في ذلك اختلاف حسب الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها» (¬4). برزت إذن بشكل واضح مشكلة اختلاف المسلمين في قراءة القرآن ووجود ¬

_ (¬1) ينظر الطبري: جامع البيان 1/ 27، وابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 12 - 14. (¬2) ابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 137. (¬3) المصدر نفسه ص 155. (¬4) المحرر الوجيز 1/ 65.

ثانيا - نسخ الصحف في المصاحف

مصاحف متعددة غير موحدة بسبب اختلاف القراءات، وربما بسبب تفاوت الحفظ وتباين الدقة في الكتابة. وكانت هذه المشكلة موضع اهتمام الخليفة الثالث عثمان، وألهمه الله تعالى القيام بعمل عظيم جمع الأمة على المصحف الذي كتبه زيد بن ثابت من الرقاع التي كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثانيا- نسخ الصحف في المصاحف: قرر عثمان بن عفان، رضي الله عنه، جمع المسلمين على مصحف موحد في رسمه وترتيبه، يعتمد على قراءة واحدة، وهي القراءة العامة التي كان الصحابة يقرءون بها في المدينة، والتي كتب زيد بن ثابت القرآن بها زمن النبي صلى الله عليه وسلم وجمعه في الصحف في خلافة الصديق. وكان أول ما بدأ به الخليفة الثالث لتحقيق ذلك العمل العظيم هو استشارة الصحابة الذين في المدينة، في جمع الناس على مصحف واحد، فقالوا: نعم ما رأيت (¬1). والرواية المشهورة التي تحكي خطوات ذلك العمل الكبير هي التي رواها كثير من المحدّثين والمؤرخين (¬2)، ونص هذه الرواية كما نقلها البخاري عن أنس ابن مالك هو: «إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف، ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان. فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن ¬

_ (¬1) ابن أبي داود: المصاحف ص 22. (¬2) الترمذي: كتاب السنن 5/ 265، وابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 18، وابن النديم: الفهرست ص 27، والداني: المقنع، وابن الأثير: الكامل 3/ 55، والزركشي: البرهان 1/ 236، والسيوطي: الإتقان 1/ 169.

ابن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل القرآن بلسانهم. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق» (¬1). والناظر في هذه الرواية يجد أنها بينت جملة أمور هي: أ- السبب الذي حمل عثمان على القيام بنسخ الصحف في المصاحف، وهو الاختلاف الذي حصل في قراءة القرآن، وعدم وجود المصاحف الموحدة بأيدي الناس لكي يرجعوا إليها في ضبط قراءتهم. ب- المصدر الذي اعتمد عليه في كتابة المصاحف، وهو الصحف التي جمع فيها زيد بن ثابت القرآن في خلافة أبي بكر الصديق، معتمدا على القطع التي كتب عليها القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبذلك تكون المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان تمثل نسخة مرتبة للقرآن الذي كتب بإملاء النبي صلى الله عليه وسلم. ج- وسائل حسم الخلاف بين المسلمين وهي: 1 - نشر المصاحف الموحدة في الأمصار الإسلامية. 2 - وكتابة المصاحف على لغة من نزل القرآن بلسانهم، وهي لغة قريش، ليكون موافقا في رسمه لنطق النبي صلى الله عليه وسلم. 3 - إحراق ما سوى المصاحف التي كتبها الصحابة في المدينة من الصحف، سواء كانت صحفا أو مصاحف كاملة، مهما كانت، ولولا هذه الخطوة لما أعطى ذلك العمل ثماره ولا حقق أهدافه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 6/ 226.

د- وذكرت الرواية أسماء الذين قاموا بالعمل وهم أربعة من شباب الصحابة، زيد بن ثابت الأنصاري، كاتب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان عمره عند وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا إحدى عشرة سنة (¬1). وكان معه ثلاثة من قريش هم: عبد الله بن الزبير، الذي ولد في السنة الأولى من الهجرة (¬2)، وسعيد بن العاص الذي ولد عام الهجرة أيضا (¬3)، وعبد الرحمن بن الحارث الذي كان عمره عشر سنين حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم. (¬4) فكان هؤلاء الأربعة في سن يتمتعون فيها بالقوة البدنية والنضج العقلي الذي يتطلبه عمل كبير مثل انتساخ المصاحف. وروى ابن سعد، وابن أبي داود، أن محمد بن سيرين قال: جمع عثمان- لمّا أراد أن يكتب المصاحف- اثني عشر رجلا من قريش والأنصار، فيهم أبي ابن كعب وزيد بن ثابت (¬5)، وكأن ابتداء الأمر كان للجماعة الأربعة الذين انتدبهم عثمان أولا، ثم احتاجوا إلى من يساعدهم في الكتابة (¬6)، نظرا لكثرة المصاحف التي كان عليهم كتابتها. هـ- لم تحدد الرواية عدد المصاحف التي كتبت، لكنها أشارت إليها بهذه العبارة «حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف أرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا» وهي عبارة تدل على أن عدد المصاحف لم يكن قليلا. وجاء في بعض الروايات أن عدد المصاحف أربعة، وفي رواية أخرى أنها سبعة، ¬

_ (¬1) ابن عبد البر: الاستيعاب 2/ 537. (¬2) المصدر نفسه 3/ 905. (¬3) المصدر نفسه 2/ 621. (¬4) المصدر نفسه 2/ 857. (¬5) الطبقات الكبرى 3/ 502، وكتاب المصاحف ص 25. (¬6) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 63.

ثالثا - عرض المصاحف

أرسلت إلى مكة، والشام، واليمن، والبحرين، والبصرة، والكوفة وبقي واحد في المدينة (¬1). ومهما يكن عدد المصاحف التي كتبت أولا في المدينة فإن المسلمين في الأمصار أقبلوا ينتسخون منها نسخا جديدة تخرج عن العد والحصر، كلها موحدة في الرسم والترتيب. ولم تحدد الرواية السّنة التي نسخت فيها المصاحف، لكن من العلماء من حدد ذلك بسنة خمس وعشرين من الهجرة، وهو الوقت الذي ذكر أهل التأريخ أن أرمينية فتحت فيه، وقال ابن حجر: «وغفل بعض من أدركناه فزعم أن ذلك كان في حدود سنة ثلاثين. ولم يذكر لذلك مستندا» (¬2). ثالثا- عرض المصاحف: كان الصحابة وهم ينسخون المصاحف يدركون قيمة العمل الذين يقومون به وما يتطلب من الأناة والدقة، وكانوا يعملون على أساس القاعدة التي حددها لهم الخليفة عثمان، رضي الله عنه، وهي «إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش»، وذلك أن زيد بن ثابت كان من أهل المدينة، فربما تأثر رسمه للقرآن ببعض خصائص لهجته، وقال الزهري: «فاختلفوا يومئذ في (التابوت) و (التابوة)، فقال القرشيون (التابوت)، وقال زيد: (التابوة) فرفع اختلافهم إلى عثمان، فقال اكتبوه (التابوت)، فإنه نزل بلسان قريش» (¬3). وجاء في بعض الروايات أن الذين كانوا يكتبون المصاحف ربما اختلفوا في الكلمة، فيتركون مكانها فارغا، ولا يثبتونها حتى يسألوا عنها، وربما يذكرون ¬

_ (¬1) ابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 34، والداني: المقنع ص 9. (¬2) فتح الباري 9/ 17. وقد حدد ابن الأثير في الكامل (3/ 55) تاريخ نسخ المصاحف بسنة ثلاثين، وتابعه في ذلك ابن خلدون في كتابه العبر 2/ 1018. (¬3) الترمذي: كتاب السنن 5/ 266، وينظر الطبري: جامع البيان 1/ 26.

الرجل قد تلقاها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعله أن يكون غائبا أو في بعض البوادي فيرسل إليه أو يجيء، حرصا منهم على الدقة في كتابة كلمات القرآن الكريم (¬1). وكان الصحابة يدققون في كتابة المصاحف في أثناء العمل (¬2)، وبعد إنجازه، فإن المصاحف لم ترسل إلى الأمصار إلا بعد عرضها ومراجعتها، وجاء في بعض الروايات أمثلة للكلمات التي توقف عندها الصحابة ودققوا رسمها، وهي مروية عن هانئ البربري الدمشقي مولى عثمان بن عفان (¬3)، ولدينا روايتان في ذلك هما: الرواية الأولى: قال هانئ: «كنت الرسول بين عثمان وزيد بن ثابت، فقال زيد: سله عن قوله (لم يتسن)، أو لَمْ يَتَسَنَّهْ (259) [البقرة]، فقال عثمان: اجعلوا فيها هاء» (¬4). الرواية الثانية: قال هانئ: «كنت عند عثمان، وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب، فيها (لم يتسن) و (فأمهل الكافرين) و (لا تبديل للخلق). قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين وكتب لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ (30) [الروم]، ¬

_ (¬1) الطبري: جامع البيان 1/ 27، وابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 23، وأبو شامة: المرشد الوجيز ص 60، والسيوطي: الاتقان 1/ 170. (¬2) جاء في رواية جمع القرآن في الصحف فقدان زيد لآيتين من آخر سورة التوبة لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... (128)، وجاء في رواية أخرى عن زيد بن ثابت أنه قال: فقدنا آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (23)، فألحقناها في سورتها في المصحف. وذهب بعض العلماء إلى أن ذلك حدث في نسخ المصاحف، لكن آخرين رجحوا أن ذلك كان في جمع القرآن في الصحف أيضا. (ينظر البخاري: الجامع الصحيح 6/ 226، وابن كثير: فضائل القرآن ص 46، وابن حجر: فتح الباري 9/ 21). (¬3) ابن حجر: تهذيب التهذيب 11/ 23. (¬4) الطبري: جامع البيان 3/ 37.

المبحث الرابع تأليف القرآن

ومحا (فأمهل) وكتب فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ (17) [الطارق]، وكتب لَمْ يَتَسَنَّهْ (259) [البقرة] ألحق فيها الهاء» (¬1). وهذا الحرص والتدقيق في رسم كلمات القرآن يدل على نحو لا يقبل الشك أن القرآن الكريم قد حفظ نصه كما تلقاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه حظي في جميع مراحل كتابته بالمراجعة التي لا تدع مكانا للنسيان والوهم في عمل يتعلق بالقرآن الكريم. وكان أبو بكر الصديق قصد جمعه في مكان واحد، ذخرا للإسلام يرجع إليه إن ذهب قراؤه، وعثمان قصد أن يقتصر الناس على تلاوته على اللفظ الذي كتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتعدوه إلى غيره من القراءات التي كانت مباحة لهم (¬2). قال القاضي أبو بكر الباقلاني: «وجميع القرآن الذي أنزله الله تعالى، وأمر بإثباته ولم ينسخه، ولا رفع تلاوته، هو الذي بين اللوحين، الذي حواه مصحف عثمان، رضي الله عنه، لم ينقص منه شيء، ولا زيد فيه شيء، نقله الخلف عن السلف» (¬3). المبحث الرابع تأليف القرآن كلمة (تأليف) مصدر للفعل ألّف، يقال في اللغة: ألّفت بينهم، إذا جمعت بينهم بعد تفرق، وألّفت الشيء تأليفا، إذا وصلت بعضه ببعض، ومنه تأليف الكتب (¬4). وقد استخدمت عبارة (تأليف القرآن) في المصادر القديمة، ويراد بها ¬

_ (¬1) المصدر نفسه 3/ 38. (¬2) أبو شامة: المرشد الوجيز ص 71. (¬3) نكت الانتصار ص 59. (¬4) ابن منظور: لسان العرب 10/ 352 ألّف.

أولا - ترتيب الآيات في السور

جمع وترتيب آيات السورة والواحدة، وطريقة ترتيب السور في المصحف (¬1). وهذا الموضوع من الموضوعات التي درسها المؤلفون في علوم القرآن، لأن ترتيب الآيات والسور في المصحف لم يجر على ترتيب نزولها، ومن ثمّ بحث العلماء الأسس التي بني عليها هذا الترتيب، وتتناول دراسة الموضوع ثلاثة أمور: ترتيب الآيات في السور، وترتيب السور في المصحف، وترتيب القرآن حسب النزول. أولا- ترتيب الآيات في السور: قال السيوطي في كتابه (الإتقان في علوم القرآن): «الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفيّ، لا شبهة في ذلك، وأما الإجماع فنقله غير واحد، منهم الزركشي في البرهان (¬2)، وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته (¬3)، وعبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره، من غير خلاف في هذا بين المسلمين ... » (¬4). وذكر السيوطي عددا من النصوص التي بنى عليها علماء الأمة إجماعهم على أن ترتيب الآيات توقيفي أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وقّف الصحابة عليه، وبيّنه لهم، ولم يكن باجتهادهم أو رأيهم، ننقل منها ما يوضح ذلك للقارئ: فمنها الحديث الذي نقلناه سابقا المروي عن زيد بن ثابت، وقال فيه: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلّف القرآن من الرقاع» وقال البيهقيّ معلقا عليه: «وهذا يشبه ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري 9/ 39. (¬2) البرهان 1/ 256. (¬3) هو كتاب (البرهان في تناسب سور القرآن) لأبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي المتوفى سنة 708 هـ. (¬4) الاتقان 1/ 172.

أن يكون أراد به تأليف ما نزل من الكتاب، الآيات المتفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم» (¬1). ومن النصوص الدالة على ذلك ما رواه عبد الله بن عباس، عن عثمان بن عفان، أنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان ينزّل عليه من السور ذوات العدد، وكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده، يقول: ضعوا هذا في السور التي يذكر فيها كذا وكذا (¬2)، وينزّل عليه الآيات، فيقول ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وينزل عليه الآية، فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر كذا وكذا ... » (¬3). ومن الأمور الدالة على ذلك أيضا ما ثبت من قراءته صلى الله عليه وسلم لسور عديدة من القرآن من طوال السور وغيرها، في الصلاة وخارجها، وكانت قراءته لها بمشهد من الصحابة تدل على أن ترتيب آياتها توقيفي، وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيبا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على خلافه (¬4). فكان ترتيب الآيات في سورها معروفا للصحابة ببيان النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه ذلك لهم، وقراءته للقرآن عليهم، وبذلك لم يعرف عن الصحابة أنهم اختلفوا في موضع آية من القرآن، بل كل آية قد عرف موضعها، وسبق في أخبار جمع القرآن أن زيد بن ثابت افتقد آيتين من آخر سورة التوبة، وآية من سورة الأحزاب، ¬

_ (¬1) دلائل النبوة 7/ 147. (¬2) قوله: (السورة التي يذكر فيها كذا وكذا) يريد اسم السورة، فقد كان يقال: السورة التي يذكر فيها آل عمران، او تذكر فيها البقرة (السيوطي: الاتقان 1/ 151). (¬3) قال السيوطي (الاتقان 1/ 172) عن هذا الحديث: أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم». وقال الحاكم في المستدرك (2/ 221): «حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه». (¬4) السيوطي: الاتقان 1/ 173 - 174.

فلم يجدها مكتوبة في أول الأمر، وقد قال زيد في آيتي التوبة: «فألحقتها في سورتها»، وقال في آية الأحزاب: «فألحقناها في سورتها في المصحف». ومن النصوص الثابتة التي تؤكد أن إثبات ما أثبت في المصحف وطريقة ترتيبه إنما كان بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهه، ولم يملك الصحابة إلا الأخذ به والمحافظة عليه، هذه الرواية التي نقلها البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: «قلت لعثمان بن عفان: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً (240) [البقرة] قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها؟ قال: يا ابن أخي، لا أغيّر شيئا منه من مكانه» (¬1). فكل شيء من القرآن قد عرف مكانه، ولا يملك أحد من الصحابة، الخليفة فمن دونه، أن يغيّر شيئا منه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن خلط آيات السورة بغيرها، ويأمر بقراءة آيات كل سورة على نحو ما قرأها وعلّمها للصحابة، ومن ذلك ما روي عن بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مررت بك وأنت تقرأ من هذه السورة ومن هذه السورة، فقال بلال: أخلط الطيب بالطيب، فقال: اقرأ السورة على وجهها، أو قال: على نحوها (¬2). إن قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم للقرآن على مسمع من أصحابه، في الصلاة وخارجها، وحثه لهم على تلاوته، وما عرف عنهم من كثرة قراءتهم للقرآن، فكان بعضهم يختمه في ثلاثة أيام، وأكثرهم يختمه في سبعة أيام (¬3)، واشتهار أسماء سور القرآن بينهم، واتفاقهم على ما تتضمنه من آيات دليل أكيد على أن ترتيب الآيات ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري 8/ 193، وينظر عن موضوع النسخ في الآية المذكورة: النحاس: الناسخ والمنسوخ ص 72 - 77، ومصطفى زيد: النسخ في القرآن 2/ 776. (¬2) السيوطي: الاتقان 1/ 308. (¬3) ينظر: الداني: البيان ص 321 وما بعدها.

ثانيا - ترتيب السور في المصحف

في سورها كان بأمره صلى الله عليه وسلم وتعليمه للصحابة، «فالأمر الذي لا ريبة فيه أن الآيات قد جمعت سورا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبتوقيفه» (¬1). ثانيا- ترتيب السور في المصحف: لا يشك الدارس في أن الصحف التي جمع فيه القرآن في خلافة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، كانت منظمة، وأن الآيات مرتبة في سورها كاملة، وأن السور فيها مرتبة على نحو ما جاء في المصاحف المنتسخة منها في خلافة عثمان، وأن المصاحف الموجودة اليوم كلها، المخطوطة والمطبوعة، الصغيرة والكبيرة، القديمة والحديثة، ترجع إلى تلك الصحف وتطابقها كل المطابقة، لأن الروايات الصحيحة في موضوع نسخ المصاحف تؤكد على أن الصحابة اعتمدوا على تلك الصحف في نسخها. ولم يرد في الروايات أن الصحابة اختلفوا في موضع آية من سورة، أو اختلفوا في تقديم سورة أو تأخيرها في المصحف، فإن ذلك كان واضحا لديهم، ومعلوما عندهم، وكل ما ورد من ذلك هو سؤال عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، للخليفة الراشد عثمان، رضي الله عنه، عن سبب عدم وضع البسملة في أول سورة التوبة، فبين له أن ذلك جاء متابعة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2). وذهب كثير من العلماء إلى أن ترتيب السور في المصحف توقيفي، وأن هذا الترتيب محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن في زمنه مصحف مكتوب، وأن زيد بن ثابت حين جمع القرآن في الصحف رتبه على ذلك الترتيب باجتهاد لكن عددا من العلماء ذهب إلى جواز أن يكون ذلك الترتيب باجتهاد من الصحابة محتجا بوجود روايت تشير إلى أن بعض مصاحف الصحابة القديمة كانت السور فيها مرتبة على نحو مغاير (¬3). ¬

_ (¬1) محمد حسين هيكل: الصديق أبو بكر ص 308. (¬2) ينظر: ابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 31، والحاكم: المستدرك 2/ 221. (¬3) ينظر: الباقلاني: نكت الانتصار ص 81 - 82، والسيوطي: الاتقان 1/ 176.

إن الاحتجاج باختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة القديمة عن المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان لا يكفي في الدلالة على أن ذلك كان اجتهادا من الصحابة (¬1)، وذلك لأن تلك المصاحف كانت جهدا فرديا خاصا لا يمكن أن يكون ما فيها حجة على المصحف الذي اجتمع عليه الصحابة ونقلته الأمة نقلا متواترا. ثم إن تلك المصاحف أحرقت في خلافة عثمان، أحرقها أصحابها أنفسهم (¬2)، ثقة منهم بالمصحف الذي أجمع عليه الصحابة، واندثرت أخبارها، وما روي من وصف لترتيب السور فيها لا يخلو من الاضطراب، فهذا ابن النديم العالم المدقق يقول عن ترتيب السور في مصحف ابن مسعود: إنه رأى عدة مصاحف ذكر نساخها أنها مصحف ابن مسعود، وليس فيها مصحفان متفقان! (¬3) وما ورد من روايات عن الصحابة بشأن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن، وقراءتهم هم له، تدل على أن ترتيب السور في المصحف توقيفي أيضا، وأن الصحابة أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسماء السور كانت معروفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان حفظة القرآن من الصحابة يتلونه على ترتيب معروف لديهم، ويختمون في أسبوع أو شهر أو أقل من ذلك على هذا الترتيب. وما يدل على أن ترتيب السور على نحو ما هي عليه اليوم في المصحف كان معروفا زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ما روي من تسميته سورة (الحمد لله رب العالمين): ¬

_ (¬1) قال القرطبي (الجامع لأحكام القرآن 1/ 60): «وأما ما روي من اختلاف مصحف أبي وعليّ وعبد الله فإنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتب لهم تأليف السور، بعد أن لم يكن فعل ذلك». (¬2) رفض عبد الله بن مسعود إحراق مصحفه حين وصل المصحف المرسل إلى الكوفة من المدينة، ثم رضي وتابع إجماع الصحابة (ينظر: الترمذي: كتاب السنن 5/ 266، وابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 17 - 18). (¬3) الفهرست ص 29.

فاتحة الكتاب، فلولا أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بأن يرتبوا سور المصحف هذا الترتيب لما كان لتسميته هذه السورة فاتحة الكتاب معنى، إذ قد ثبت الإجماع أن هذه السورة ليست أول سور القرآن نزولا، فثبت أنها فاتحته نظما وترتيبا وتلاوة (¬1). ومن ذلك أيضا ما روي عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليلة التمام، فيقرأ البقرة، وآل عمران، والنساء، لا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا ورغب، ولا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا واستعاذ (¬2). وكذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قال: وهو يتحدث عن سورة الإسراء، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي (¬3). فقد جاءت هذه السور في الرواية مرتبة على نحو ما هي عليه في المصحف. واستدل عدد من العلماء على أن ترتيب السور في المصحف توقيفي بالحديث الذي رواه واثلة بن الأسقع الليثي (¬4) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعطيت مكان التوراة السبع الطّوال، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضّلت بالمفصّل» (¬5). ¬

_ (¬1) ابن بسطام: كتاب المباني ص 42. (¬2) ابن المبارك: كتاب الزهد ص 421، وأبو يعلى: المسند 8/ 257. (¬3) الجامع الصحيح 6/ 228. وينظر: ابن حجر: فتح الباري 9/ 39، والسيوطي: الاتقان 1/ 178. وقوله: العتاق: جمع عتيق، وهو القديم النفيس من كل شيء. والتلاد: كل مال قديم يورث عن الآباء. (¬4) صحابي من أهل الصفة، يقال إنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، ومات سنة 85 هـ (ابن عبد البر: الاستيعاب 4/ 1564). (¬5) رواه الإمام أحمد في مسنده 4/ 107، والطبري في تفسيره 1/ 44، والطبراني في معجمه الكبير 22/ 62.

قال أبو جعفر النحاس: «وهذا الحديث يبيّن لك أن تأليف القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان مؤلفا من ذلك الوقت، وإنما جمع في المصحف على شيء واحد، لأنه قد جاء هذا الحديث بلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تأليف القرآن» (¬1). والسبع الطّوال المذكورة في الحديث هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، واختلف في السابعة، فقيل التوبة، وقيل يونس. وإنما سميت هذه السور الطّوال لطولها على سائر سور القرآن، والطّوال جمع لكلمة الطّولى تأنيث الأطول. وأما المئون فهي ما كان من سور القرآن عدد آياته مائة آية، أو تزيد عليها شيئا أو تنقص منها شيئا يسيرا. وأما المثاني فإنها ما ثنّى المئين فتلاها، وهي التي آياتها أقل من مائة. وأما المفصل من سور القرآن فهي ما ولي المثاني من قصار السور، وقيل إنما سميت بالمفصل لكثرة الفصول التي بين سورها (¬2)، وهي تبدأ من سورة الحجرات أو سورة ق حتى خاتمة القرآن (¬3). وقد وردت هذه التسميات في أحاديث أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عدد من الصحابة، منهم ابن مسعود وعثمان وابن عباس، رضي الله عنهم، (¬4) وهي تدل على أن ترتيب السور في المصحف كان محفوظا منذ عصر النبوة. وقال الحافظ ابن حجر: ومما يدل على أن ترتيب السور توقيفي ما أخرجه ¬

_ (¬1) القطع والائتناف ص 82. (¬2) ينظر: الطبري: جامع البيان 1/ 45، والسخاوي: جمال القراء 1/ 34، والسيوطي: الاتقان 1/ 179. (¬3) ينظر السيوطي: الاتقان 1/ 180. (¬4) ينظر: مالك: الموطأ ص 73 و 92، والترمذي: 2/ 110 - 113، والدارمي: كتاب السنن 1/ 297، وابن منظور: لسان العرب 18/ 129 ثنى.

أحمد وأبو داود عن أوس بن حذيفة الثقفي، قال: كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف ... فذكر الحديث، وفيه: فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طرأ عليّ حزبي من القرآن، فأردت ألّا أخرج حتى أقضيه» قال أوس: فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تحزّبون القرآن؟ قالوا: نحزّبه: ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل من ق حتى نختم. فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). وقد أكد عدد من العلماء استنادا إلى هذه الروايات وغيرها (¬2)، أن ترتيب السور في المصحف توقيفي أيضا، منهم أبو بكر بن الأنباري الذي قال: «اتساق السور كاتساق الآيات والحروف، كله عن النبي صلى الله عليه وسلم» (¬3). وقال الحافظ أبو عمرو الداني: «القول عندنا في تأليف السور وتسميتها وترتيب آيها في الكتابة: إن ذلك توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم لتوفر مجيء الأخبار بذلك، واقتضاء العادة بكونه كذلك، وتواطؤ الجماعة عليه» (¬4). وقد لخص الإمام مالك بن أنس هذا الموضوع بقوله المشهور الذي نقله عنه عبد الله بن وهب: «إنما ألّف القرآن على ما كانوا يسمعون من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬5). ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري 9/ 42، والسيوطي: الاتقان 1/ 178، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم 4/ 221. (¬2) ينظر: السيوطي: الاتقان 1/ 177 - 179. (¬3) نقلا عن السيوطي: الاتقان 1/ 177. (¬4) كتاب البيان: ص 40. (¬5) الداني: المقنع ص 8، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن 1/ 60.

ثالثا - ترتيب القرآن حسب النزول (السور المكية والسور المدنية)

ثالثا- ترتيب القرآن حسب النزول (السور المكية والسور المدنية): من المعروف أن ترتيب الآيات والسور في المصحف لم يعتمد على تأريخ نزولها، وإنما اعتمد على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقراءته للقرآن وتعليمه ذلك للصحابة. ولم يعد تأريخ نزول الآيات والسور محفوظا على نحو مفصل، لأن الصحابة لم يعتنوا بهذا الجانب من تأريخ القرآن، وإنما كانت عنايتهم متجهة إلى حفظه على نحو ما يقرؤه لهم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إشارات تأريخية ومعنوية ارتبط بها نزول آيات وسور من القرآن ظلت تشير إلى وقت نزولها ومكانه. واعتنى علماء القرآن من الصحابة والتابعين بحفظ تلك الإشارات والبناء عليها، حتى صارت علما من علوم القرآن يسمى بعلم المكي والمدني، وأفرده بالتصنيف جماعة من العلماء (¬1). 1 - تعريف المكي والمدني من القرآن: ناقش علماء القرآن تعريف المكي والمدني، واتخذ بعضهم زمان النزول أساسا للتعريف، وجعل تأريخ الهجرة حدا فاصلا. واستند بعضهم إلى مكان النزول في صياغته للتعريف. التعريف بحسب الزمان: المكي هو ما نزل قبل الهجرة، والمدني هو ما نزل بعدها، سواء نزل بمكة أم بالمدينة، عام الفتح أو عام حجة الوداع، في سفر أو في حضر (¬2). وروي هذا التعريف عن يحيى بن سلام البصري المفسر (ت 200 هـ) حيث قال: «ما نزل بمكة وما نزل بطريق المدينة قبل أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فهو من المكي، وما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدني» (¬3). وهذا هو التعريف المشهور في كتب علوم القرآن. ¬

_ (¬1) منهم مكي بن أبي طالب القيسي، والعز الديريني (ينظر: السيوطي: الاتقان 1/ 22). (¬2) الزركشي: البرهان 1/ 178. (¬3) الداني: كتاب البيان ص 132.

2 - كيفية معرفة المكي والمدني

التعريف بحسب المكان: المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة (¬1). وقسّم هبة الله بن سلامة المفسر البغدادي (ت 410 هـ) المكي على قسمين، هما: المكي الأول، وهو ما نزل في مكة قبل الهجرة، والمكي الأخير: وهو ما نزل فيها بعد الفتح (¬2). 2 - كيفية معرفة المكي والمدني: لم يحدثنا التاريخ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أمر أصحابه بحفظ الآيات والسور على زمان النزول، وإنما تشير الروايات إلى أنه كان يحدد لهم مواضع الآيات من السور وقت التنزيل وعند كتابتها في الرقاع. ومن ثم فإن الصحابة كانت جهودهم متجهة إلى حفظ القرآن مرتبا على نحو ما يرتبه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بقي في ذاكرتهم ما لاحظوه من مكان وزمان نزول كثير من الآيات والسور، ونقل ذلك عنهم تلامذتهم من التابعين. قال القاضي أبو بكر الباقلاني: «إنما يرجع في معرفة المكي والمدني إلى حفظ الصحابة التابعين، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول، لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول» (¬3). ولاحظ العلماء أن معرفة المكي والمدني من سور القرآن يمكن أن يكون من طريقين: سماعي وقياسي (¬4). فالسماعي: ما وصل إلينا الخبر بنزوله في مكة أو المدينة، قبل الهجرة أو ¬

_ (¬1) الزركشي: البرهان 1/ 178. (¬2) الناسخ والمنسوخ ص 322 - 323. (¬3) نقلا عن السيوطي: الاتقان 1/ 23. (¬4) الزركشي: البرهان 1/ 189.

بعدها، وكان عدد من الصحابة قد أبدوا اهتماما بهذا الجانب من تأريخ القرآن، على نحو ما نقل ابن سعد عن عبد الله بن عباس أنه قال: «كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل من القرآن في ذلك. وكنت لا آتي أحدا منهم إلا سرّ بإتياني لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجعلت أسأل أبيّ بن كعب يوما، وكان من الراسخين في العلم، عما نزل من القرآن بالمدينة، فقال: نزل بها سبع وعشرون سورة، وسائرها بمكة» (¬1). وسوف أذكر من نقلت عنهم روايات في ذلك من الصحابة والتابعين في آخر هذا المبحث. أما القياسي: فإنه يعتمد على جملة من الضوابط التي استخلصها العلماء من الروايات المنقولة عن عدد من الصحابة والتابعين في بيان خصائص السور المكية والسور المدنية، فمن تلك الروايات: أ- عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: «كل شيء في القرآن يا أَيُّهَا النَّاسُ أنزل بمكة، وكل شيء في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أنزل بالمدينة» (¬2). ولاحظ بعض العلماء أن (يا أيها الناس) منه مكي ومنه مدني وأكثره مكي (¬3). ب- عن عروة بن الزبير، قال: «ما كان من حدّ أو فريضة أنزلها الله عز وجل بالمدينة، وما كان من ذكر الأمم والقرون أنزل بمكة» (¬4). ج- قال المفسر محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي (ت 741 هـ): «واعلم أن السور المكية نزل أكثرها في إثبات العقائد، والرد على المشركين، وفي ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى 2/ 371. (¬2) الحاكم: المستدرك 3/ 18، والبيهقي: دلائل النبوة 7/ 144. (¬3) ينظر: الداني: كتاب البيان ص 132، والزركشي: البرهان 1/ 188. (¬4) الحارث المحاسبي: فهم القرآن ص 394، والبيهقي: دلائل النبوة 7/ 144.

3 - أهمية معرفة السور المكية والسور المدنية

قصص الأنبياء، وأن السور المدنية نزل أكثرها في الأحكام الشرعية، وفي الرد على اليهود والنصارى وذكر المنافقين، والفتوى في مسائل، وذكر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وحيث ورد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهو مدني، وأما يا أَيُّهَا النَّاسُ فقد وقع في المكي والمدني» (¬1). 3 - أهمية معرفة السور المكية والسور المدنية: لهذا البحث التاريخي في تحديد وقت نزول سور القرآن فوائد يذكرها العلماء في مجال الدراسات القرآنية منها (¬2): أ- تتوقف معرفة الآيات الناسخة والمنسوخة على معرفة ما نزل أولا، قال النحاس: «وإنما نذكر ما أنزل بمكة لأن فيه أعظم الفائدة في الناسخ والمنسوخ، لأن الآية إذا كانت مكية، وكان فيها حكم، وكان في غيرها حكم غيره نزل بالمدينة، علم أن المدنية نسخت المكية» (¬3). ب- ساير نزول القرآن تاريخ الدعوة، وترتيب السور ترتيبا زمنيا يمكننا من تصور تأريخ السيرة تصورا أكثر جلاء ووضوحا، في ضوء الآيات القرآنية الكريمة، والقرآن من هذه الناحية يعتبر المرجع الأصيل لدراسة السيرة النبوية. ج- إن تتبع السور المكية والسور المدنية والنظر في موضوعاتها وأسلوبها يكشف عن المنهج الذي رسمه القرآن للدعوة في مراحلها المختلفة، فكانت موضوعات السور المكية تتحدث عن قضية العقيدة خاصة، وتعددت صور عرضها، في أسلوب قوي مؤثر، لأنه كان يخاطب أناسا غلب عليهم الشرك وفساد العقيدة، فلما استقرت العقيدة الصحيحة في قلوب الجماعة المؤمنة التي تكونت في ¬

_ (¬1) التسهيل لعلوم التنزيل 1/ 8. (¬2) مناع القطان: مباحث في علوم القرآن ص 59. (¬3) الناسخ والمنسوخ ص 214، وينظر: الحارث المحاسبي: فهم القرآن ص 394.

4 - تحديد السور المكية والسور المدنية وترتيبها

المدينة عندها أنزل الله تعالى الفرائض والحدود في أسلوب متمهل مترسل يناسب مخاطبة القلوب المؤمنة. 4 - تحديد السور المكية والسور المدنية وترتيبها: لم يعد ممكنا ترتيب القرآن على تواريخ تنزلاته، لطول المدة التي نزل فيها وتعدد مرات نزول الوحي، وتنوع الظروف التي ينزل فيها، وترتيب القرآن في سورة على نحو آخر غير ترتيب النزول، وقد سأل ابن سيرين عكرمة مولى ابن عباس: ألّفوه الأوّل فالأوّل؟ فقال عكرمة: لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه ذلك التأليف ما استطاعوا (¬1). لكن علماء القرآن من الصحابة والتابعين تمكنوا من تحديد السور المكية والسور المدنية وأن يرتبوها ترتيبا تقريبيا حسب أوقات نزولها، معتمدين في ذلك على نزول أول السورة، كما روي عن ابن عباس أنه قال: «كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة، ثم يزيد الله فيها ما يشاء» (¬2). وقد نقل المؤلفون في علوم القرآن عددا من الروايات في ذكر السور المكية والمدنية، منقولة عن الصحابة والتابعين، مثل الرواية المنقولة عن عبد الله بن عباس (¬3)، وأبي الشعثاء جابر بن زيد (¬4)، والحسن البصري (¬5)، وقتادة بن دعامة السدوسي (¬6)، ومجاهد بن جبر المكي (¬7)، وعلي بن أبي طلحة (¬8). وهذه الروايات ¬

_ (¬1) ابن الضريس: فضائل القرآن ص 76. (¬2) ابن الضريس: فضائل القرآن ص 73. (¬3) المصدر نفسه، والسيوطي: الاتقان 1/ 26. (¬4) الداني: البيان ص 133. (¬5) البيهقي: دلائل النبوة 7/ 142، والسيوطي: الاتقان 1/ 25. (¬6) الحارث المحاسبي: فهم القرآن ص 395. (¬7) ابن النديم: الفهرست ص 28. (¬8) الداني: كتاب البيان ص 134.

المبحث الخامس تطور شكل المصحف

متقاربة في مضمونها، ويتفق أكثرها على أن عدد السور المدنية ثمان وعشرون سورة، والمكية ست وثمانون سورة. وننقل هنا مقطعا من الرواية المنقولة عن عبد الله بن عباس، وهي: (¬1) «وكان أول ما أنزل من القرآن: اقرأ باسم ربك، ثم: ن والقلم، ثم: يا أيها المزمل، ثم: يا أيها المدثر، ثم: تبت يدا أبي لهب، ثم: إذا الشمس كورت، ثم: سبح باسم ربك الأعلى ... ثم: أنزل بالمدينة سورة البقرة، ثم: الأنفال، ثم: آل عمران، ثم: الأحزاب، ثم: الممتحنة، ثم: النساء، ثم: إذا زلزلت، ثم: الحديد، ثم: القتال، ثم الرعد، ثم: الرحمن، ثم: الإنسان، ثم: الطلاق، ثم: لم يكن، ثم: الحشر، ثم: إذا جاء نصر الله، ثم: النور، ثم: الحج، ثم: المنافقون، ثم: المجادلة، ثم: الحجرات، ثم: التحريم، ثم: الجمعة، ثم: التغابن، ثم: الصف، ثم: الفتح، ثم: المائدة، ثم: التوبة، فذلك ثمان وعشرون سورة». المبحث الخامس تطور شكل المصحف حظي المصحف بعناية كبيرة من الخطاطين والعلماء وأولي الأمر ومن غيرهم من المؤمنين، وكانوا يستحبون تحسين كتابته وتبيينها وإيضاحها، وكرهوا كتابته في الشيء الصغير، وكان يقال: عظّموا كتاب الله (¬2). وتركزت تلك العناية على جوانب متعددة من المصحف، منها ما يتعلق بكتابته وضبطها، ومنها ما يتعلق بتجزئته وعدد آياته وأسماء سوره، ومنها ما يتعلق بتجليده وتذهيبه ونوع الورق الذي يكتب عليه. وكانت قد ظهرت دراسات مستقلة لبحث تلك الجوانب ¬

_ (¬1) ابن الضريس: فضائل القرآن ص 75، والسيوطي: الاتقان 1/ 26. (¬2) ينظر: السيوطي: الاتقان 4/ 158.

أولا - علم رسم المصحف

من المصحف (¬1)، صارت جزءا من علوم القرآن، وهي توضح ما يتعلق بشكل المصحف وما لحق بعض جوانبه من تطور. أولا- علم رسم المصحف: تعني عبارة (رسم المصحف) طريقة رسم الكلمات في المصحف من ناحية عدد حروف الكلمة ونوعها، لا من حيث نوع الخط وجماليته، ويستند رسم الكلمات في المصحف إلى طريقة رسمها في المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان، رضي الله عنه، والتي عرفت في المصادر الإسلامية باسم المصاحف العثمانية، نسبة إلى سيدنا عثمان لكونه هو الذي أمر بنسخها وإرسالها إلى البلدان خارج الجزيرة العربية، كما صار رسم الكلمات فيها يعرف بالرسم العثماني (¬2). وقد حافظ المسلمون على رسم الكلمات في المصحف كما جاءت في المصاحف العثمانية الأولى، مع ما في عدد منها من حذف بعض الحروف أو زيادة بعضها، اقتداء بعمل الصحابة، رضي الله عنهم، وكان الإمام مالك (ت 179 هـ) قد سئل: «أرأيت من استكتب مصحفا اليوم، أترى أن يكتب على ما أحدث الناس من الهجاء (الإملاء) اليوم؟ فقال: لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتبة الأولى» قال أبو عمرو الداني: ولا مخالف له في ذلك من علماء الأمة (¬3). وظل هذا الموقف من الالتزام بالرسم العثماني في كتابة المصاحف إلى زماننا (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر: محمود عباد محمد: خط وتذهيب وزخرفة القرآن الكريم حتى عصر ابن البواب، رسالة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة بغداد 1991. (¬2) ينظر: غانم قدوري حمد: رسم المصحف ص 155 - 157. (¬3) المقنع ص 9 - 10. (¬4) أصدرت لجنة الفتوى في الأزهر سنة 1355 هـ فتوى بعدم جواز طبع المصحف بالإملاء الحديث (ينظر: مجلة الأزهر مج 7 ج 10 شوال 1355 هـ- باب الأسئلة والفتاوى).

ثانيا - علم النقط والشكل

وألّف عدد من العلماء بعد عصر تدوين العلوم الإسلامية كتبا خاصة لوصف طريقة كتابة الكلمات في المصاحف العثمانية (¬1)، لعل من أشهرها في زماننا كتاب (المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار) لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني الأندلسي المتوفى سنة 444 هـ. وهو مطبوع عدة طبعات. ثانيا- علم النقط والشكل: كانت المصاحف العثمانية مجردة من نقاط الإعجام ومن الحركات وغيرها من علامات الحركات، لخلو الكتابة العربية في تلك الحقبة منها، وبقيت الكتابة العربية تستعمل على ذلك النحو حتى النصف الثاني من القرن الأول الهجري، حين بدأت الدراسات اللغوية في العراق، وكان خلوّ الكتابة العربية من العلامات من أولى المشكلات التي عالجتها تلك الدراسات. وتجمع المصادر العربية القديمة على أن أبا الأسود الدؤلي (ظالم بن عمرو ت 69 هـ) هو أول من اخترع طريقة لعلامات الحركات تعتمد على النقاط الحمر، وكان ذلك في البصرة، فجعل الفتحة نقطة فوق الحرف، والكسرة نقطة تحت الحرف، والضمة نقطة أمام الحرف، وجعل التنوين نقطتين (¬2). وتنسب المصادر العربية إلى نصر بن عاصم الليثي البصري (ت 90 هـ)، وهو تلميذ أبي الأسود الدؤلي، اختراع نقاط الإعجام التي تميز بين الحروف المتشابهة في الرسم، مثل الدال، والذال، والراء، والزاي، ونحوها. وكان ذلك بتوجيه من الحجاج بن يوسف الثقفي في أثناء ولايته على العراق بين سنة (75 - 95 هـ) (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر في معرفة أسماء تلك الكتب: كتابي: رسم المصحف ص 169 - 184. (¬2) ابن الانباري: إيضاح الوقف 1/ 49، وابن النديم: الفهرست ص 45، والداني: المحكم ص 4 - 6. (¬3) حمزة الأصفهاني: التنبيه على حدوث التصحيف ص 27، والعسكري: شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف ص 13.

ثالثا - علم العدد القرآني

ولم تستمر طريقة أبي الأسود الدؤلي في تمثيل الحركات بالنقاط الحمر طويلا، لصعوبتها عند الكتابة، واحتمال التباسها بنقاط الإعجام التي وضعها نصر للتمييز بين الحروف المتشابهة في الرسم، وذلك حين جعل الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري (ت 170 هـ) الحركات حروفا صغيرة مكان النقاط الحمر، وكذلك وضع الخليل علامة للهمزة والتشديد والرّوم والإشمام، واستخدمت العلامات الجديدة تدريجيا، حتى زالت طريقة الدؤلي بعد ذلك (¬1). وصارت المباحث المتعلقة بالعلامات الكتابية علما أطلق عليه اسم (علم النّقط والشّكل)، وهو يعالج كيفية استخدام العلامات في رسم المصحف خاصة، ومذاهب العلماء في ذلك، وسمي هذا العلم في العصور المتأخرة بعلم الضبط (¬2). وكتبت في هذا العلم كتب كثيرة (¬3)، أشهرها كتاب «المحكم في علم نقط المصاحف»، لأبي عمرو الداني، مؤلف كتاب «المقنع»، وكتاب «المحكم» (مطبوع). ثالثا- علم العدد القرآني: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتّل ويبيّن قراءته إذا قرأ القرآن، وكان يقطّع قراءته ويقف عند رءوس الآيات، وكتب الصحابة رضي الله عنهم، القرآن في المصاحف على نحو ما كانوا يسمعون من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوه مجردا مما سواه، ولم يكتبوا في المصاحف الأولى إلا ألفاظ الوحي، فلم يكن فيها أسماء السور وأرقام الآيات، ولا علامات الأجزاء ونحوها. وقد اعتنى علماء قراءة القرآن من الصحابة والتابعين بتعيين رءوس الآيات، ¬

_ (¬1) ينظر: الداني: المحكم ص 6 - 7. (¬2) المارغني: دليل الحيران ص 321. (¬3) ينظر كتابي: رسم المصحف ص 478 - 483.

وإن لم تكن مرسومة في المصحف، فكانوا يعلّمون الناس القرآن ويوقفونهم على رءوس الآي، وقد وضعوا أول الأمر ثلاث نقاط عند رأس الآية (¬1)، ثم تطورت فصارت دائرة، ثم كتب رقم الآية في داخلها في العصور المتأخرة. وظهر في المراكز العلمية الخمسة: مكة والمدينة والكوفة والبصرة والشام (دمشق) علماء اشتهروا بمعرفة عدد الآيات، واعتنوا بإحصاء عدد كلمات كل سورة وعدد حروفها، كذلك اعتنوا بتجزئة القرآن ثلاثين جزءا أو ستين أو أكثر من ذلك، وضعوا علامات للخموس والعشور والأجزاء، كرهها الفقهاء في أول الأمر، كما كرهوا النقط والشكل في المصاحف، وكانوا يقولون: جرّدوا القرآن ولا تخلطوا به شيئا، وكرهوا فواتح السور التي يكتب فيها اسم السورة وعدد آياتها ومكية أو مدنية (¬2). ثم خفّت الكراهة وأثبت الخطاطون تلك الزيادات في المصحف، وصار استعمال النقط والشكل في المصاحف لازما صيانة له من اللحن والتحريف. وألّف علماء القرآن كتبا كثيرة في علم العدد القرآني، ذكر ابن النديم منها قريبا من عشرين كتابا إلى زمن تأليفه كتاب «الفهرست» سنة 377 هـ، ويكاد كتاب الدانيّ «البيان في عدّ آي القرآن» يكون أوسع كتاب في هذا الموضوع وأكثر كتبه شهرة، قال في مقدمته: «هذا كتاب عدد آي القرآن وكلمه وحروفه، ومعرفة خموسه وعشوره، ومكيّه ومدنيّه، وبيان ما اختلف فيه أئمة أهل الحجاز والعراق والشام من العدد، وما اتفقوا عليه منه، وما جاء من السّنن والآثار في عدد الآي عن السالفين، وورد من الآثار في العقد بالأصابع عن الماضين، وسائر ما ينتظم بذلك من الأبواب ... » (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر: ابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 143. (¬2) ينظر: الداني: المحكم ص 10 - 15، والسيوطي: الاتقان 4/ 160 - 161. (¬3) كتاب البيان ص 19.

رابعا - أسماء السور

رابعا- أسماء السور: سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، كانت أسماؤها معروفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان إذا نزل عليه الشيء من القرآن يدعو بعض من يكتب له ويقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا (¬1). يشير بهذا إلى اسم السورة، وقال السيوطي: «وقد ثبتت أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار» (¬2). واسم السورة يؤخذ من شيء ورد ذكره فيها أو مما اختصت به، كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لقرينة ذكر قصة البقرة المذكورة فيها وعجيب الحكمة فيها، وسميت سورة النساء بهذا الاسم لما تردد فيها من كثير من أحكام النساء، وتسمية سورة الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها، وهكذا في تسمية سائر سور القرآن (¬3). وقد يكون للسورة اسم واحد وهو كثير، وقد يكون لها اسمان فأكثر، من ذلك سورة براءة تسمى التوبة، وسورة الإسراء تسمى سورة بني إسرائيل، وسورة فصّلت تسمى حم السجدة، وسورة غافر تسمى المؤمن، وسورة محمد تسمى القتال، وسورة تبارك تسمى الملك، وهكذا (¬4). وقد تساءل الزركشي: هل تعدد الأسامي توقيفي أو بما يظهر من المناسبات؟ وقد رجّح أنه توقيفي أيضا (¬5). ولم تكن أسماء السور تكتب في المصحف في الحقبة الأولى من تاريخ الإسلام، فكان يترك بين السورتين فراغ قدر سطر واحد (¬6)، ثم صار هذا الفراغ ¬

_ (¬1) السيوطي: الاتقان 1/ 172. (¬2) الاتقان 1/ 150. (¬3) ينظر: الزركشي: البرهان 1/ 270. (¬4) ينظر: السخاوي: جمال القراء 1/ 36، والسيوطي: الإتقان 1/ 151. (¬5) البرهان 1/ 270. (¬6) موريتز: مجموعته المصورة (الباليو جرافية العربية) لوحة 17.

خامسا - علامات الوقف

يشغل بخطين تزيّن ما بينهما دوائر، أو خط متعرج كالسلسلة، أو يترك ما بينهما خاليا (¬1). ثم صار الخطاطون يعتنون بزخرفة ما بين السورتين، وصار يكتب في داخل تلك الزخرفة اسم السورة وما يتصل بمكان نزولها وعدد آياتها (¬2). وحافظ المصحف في عصر الطباعة على تلك الصورة لفواتح السور. خامسا- علامات الوقف: يحتاج القارئ إلى تقسيم ما يتلوه إلى جمل وعبارات يقف عند نهايتها، ليتم المعنى، والقراءة بالترتيل والمكث واجبة بنص القرآن، فقد قال الله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) [المزمل] أي بيّنه تبيينا (¬3). واعتنى علماء قراءة القرآن بالمواضع التي يحسن الوقف عليها في أثناء القراءة، وجعلوا الوقف على ثلاثة أقسام هي: الوقف التام، والحسن، والقبيح، وألّفوا في ذلك كتبا كثيرة فصّلوا فيها تلك الأقسام من أول القرآن إلى آخره (¬4). وكانت المصاحف الأولى خالية من علامات الوقف، وظلت كذلك قرونا كثيرة، وعمل الخطاطون في فترات متأخرة على وضع علامات لأنواع الوقف التي ذكرها العلماء في كتبهم، مثل (م، ج، صلى، قلى، لا) ونحوها، وتجد في آخر المصاحف المطبوعة توضيحا لدلالة تلك العلامات وما يشبهها. وقد تختلف هذه العلامات من مصحف إلى آخر تبعا لاختلاف اجتهاد العلماء في فهم التركيب النحوي للآيات، وما يترتب على ذلك من تغير المعنى. ¬

_ (¬1) ينظر: صلاح الدين المنجد: دراسات في تاريخ الخط العربي شكل 47 و 48 و 49 في الصفحات 92 و 93 و 94. (¬2) ينظر: موريتز: مجموعته الخطية لوحة 1 - 12 و 33 - 36. (¬3) النحاس: القطع والائتناف ص 73. (¬4) ينظر: الزركشي؛ البرهان 1/ 342، والسيوطي: الإتقان 1/ 230.

سادسا - المصحف في عصر الطباعة

سادسا- المصحف في عصر الطباعة: يسّرت الطباعة الحديثة نشر آلاف النسخ الموحدة الشكل من المصحف، المزدانة بالورق الصقيل والزخارف المذهبة الجميلة والتجليد المتين المزيّن، والنسخ المتنوعة الحجم، لكن الطباعة لم تغير شيئا من شكل المصحف العام وطريقة كتابته وضبطه، فالمصحف أخذ شكله المتميز منذ وقت مبكر، وأكثر المصاحف التي تطبع اليوم تستنسخ من مصحف مخطوط روعي فيه الشكل الموروث للمصحف. ويكاد الإجماع ينعقد على أن أول مصحف أخرجته المطابع ورأى النور (¬1) كان في سنة 1694 م، الذي وقف على طبعه هنكلمان في مدينة هامبورج بألمانية (¬2). وهو لم يخل من الأخطاء الطباعية (¬3)، ثم توالت طباعة المصاحف بعد ذلك ودخلت البلاد الإسلامية فظهرت المصاحف المطبوعة في تركيا ومصر والهند، وطبع المصحف في بلادنا في العقود الأخيرة عدة طبعات على نسخة بقلم الخطاط حافظ محمد أمين رشدي التي كتبها سنة 1236 هـ. وكان خط مصاحف القرآن في القرون الأولى يغلب عليه ما يسمى بالخط الكوفي، ثم تفنن الخطاطون في تطوير الحرف العربي وانتقل إلى الليونة، في القرن الرابع والخامس الهجريين، وغلب على المصاحف رسمها بها صار يعرف بخط النسخ، لكن أهل المغرب طوّروا الخط الكوفي على نحو ظل متميزا وصار يعرف بالخط المغربي، وظلت المصاحف تطبع به في بلاد المغرب، لكن استخدام خط النسخ هو الشائع في المصاحف التي تطبع في معظم البلدان الإسلامية الأخرى. ¬

_ (¬1) ذكر الدكتور صبحي الصالح في كتابه (مباحث في علوم القرآن ص 99) أن القرآن ظهر مطبوعا للمرة الأولى في البندقية في حدود سنة 1530 م لكن السلطات الكنسية أصدرت أمرا بإعدامه حال ظهوره. (¬2) حفني ناصف: تأريخ الأدب ص 112، ومحمد طاهر الكردي: تاريخ القرآن ص 16 و 186، وصبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن ص 99. (¬3) ينظر كتابي: رسم المصحف ص 602.

إن رحلة المصحف الطويلة عبر القرون لم تغيّر من نصه الذي كتبه الصحابة، رضي الله عنهم، حين تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمعوه في المصحف ونسخوه في المصاحف، وأنت إذا أخذت أحدث نسخة مطبوعة من المصحف، ثم وازنت بينها وبين إحدى النسخ العتيقة من المصحف المكتوبة على الرقوق، بالخط الكوفي القديم المجرد من العلامات، مما تحتفظ به بعض المكتبات العالمية، لوجدت النص واحدا والتطابق بينهما تامّا، سوى ما يرجع إلى الاختلافات الشكلية التي لا تغير من النص المكتوب ولا من قراءته. وقد يسّر الله تعالى أسباب حفظ القرآن، كتابة في السطور، وحفظا في الصدور، وتلاوة في الألسنة، وتحقق بذلك وعد الله الحق في حفظ القرآن في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر]. فالقرآن الكريم معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الخالدة، وحجة الله تعالى الباقية، هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، عصمة لمن اعتصم به، ونجاة لمن تمسك به، لا يعوجّ فيقوّم، ولا يخلق من كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدّق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم (¬1). وقد اتفقت كلمة العلماء المدققين، والمستشرقين المنصفين على صحة نقل القرآن وانتهائه بنصه إلى النبي صلى الله عليه وسلم على الرغم من أنهم لا يؤمنون أنه من عند الله. وهناك بضع شهادات لكبار العلماء منهم تؤكد أن القرآن هو الكتاب الوحيد في الدنيا الذي بقي نصه محفوظا من التحريف، من بين كتب الديانات جميعا، وأنه لم يتطرق شكّ إلى أصالته، وأن كل حرف نقرؤه اليوم نستطيع أن نثق بأنه لم يقبل أي تغيير من يوم نزوله إلى زماننا (¬2). ¬

_ (¬1) هذه الأوصاف للقرآن ملخصة من حديثين، أحدهما عن الإمام علي (الترمذي: كتاب السنن 5/ 158) والثاني عن عبد الله بن مسعود (الطبراني: المعجم الكبير 9/ 130). (¬2) تنظر نصوص تلك الأقوال في كتاب النبي الخاتم للندوي ص 30 - 31.

الفصل الثالث قراءة القرآن الكريم

الفصل الثالث قراءة القرآن الكريم المبحث الأول أهداف قراءة القرآن إن الهدف من قراءة أي كتاب يتوقف على موضوعه، فإن كان كتابا في علم من العلوم فإن الهدف من قراءته اكتساب المعرفة، وإذا كان كتابا تاريخيا كان الهدف اتخاذ العبرة من أحداث الماضي وتدبر شئون الحاضر والمستقبل من خلال ذلك، وإذا كان كتابا أدبيا كان الهدف التذوق الفني وما قد يصحبه من متعة روحية وتهذيب أخلاقي، وهكذا. وإذا أردنا أن نحدد أهداف قراءة القرآن الكريم وجدنا أنها ترتبط أيضا بموضوعه إلى حد كبير، فالقرآن ليس كتابا في علم من العلوم، وإن كان فيه من العلم ما يعجز العقل البشري عن الإحاطة به، والقرآن ليس كتابا في التاريخ، وإن كان فيه من القصص ما فيه عبرة لأولي الألباب، كما أنه ليس كتابا أدبيا، وإن كان فيه من جمال الأسلوب وروعة التعبير ما يعجز البشر عن الإتيان بمثله. فما موضوع القرآن إذن، وما أهداف قراءته؟ إن موضوع القرآن الأساسي هو هداية البشرية إلى منهج الله تعالى الذي اختاره لها، وكانت قراءته من أهم ما يحرص المسلمون على تعلمه وتعليمه والمداومة عليه، حتى قال ابن خلدون: «اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين، أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات، وسبب ذلك أن

1 - قراءة القرآن وسيلة من وسائل الدعوة

التعليم في الصغر أشد رسوخا، وهو أصل لما بعده، لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات، وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبني عليه» (¬1). إن تتبّع ما ورد في القرآن والأحاديث النبوية عن قراءة القرآن، وما تضمنته سيرة السلف من تعلق بالقراءة وحرص عليها يوضح جوانب من الأهداف والغايات التي تتحقق من قراءة القرآن، والتي تتمثل في كون القراءة وسيلة من وسائل الدعوة، وكونها عبادة تزكو بها النفوس، وهي أيضا أساس للفقه والعمل. 1 - قراءة القرآن وسيلة من وسائل الدعوة: إن تلاوة القرآن كانت من وسائل الدعوة إلى الإسلام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى الناس في المواسم، فكان يدعوهم إلى الإسلام ويقرأ عليهم القرآن (¬2). وكان تأثير القرآن في نفوس سامعيه عظيما، على نحو ما كان من موقف النفر الذين لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة، وكانوا من الخزرج، فدعاهم إلى الله، عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فأجابوه إلى ما دعاهم إليه، وصدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام (¬3). فكان إسلامهم فتحا عظيما في تاريخ الدعوة. وكان المشركون قد أحسّوا بتأثير قراءة القرآن واجتذابها النفوس إلى الدعوة الجديدة، فتنادوا بينهم: لا تسمعوا لهذا القرآن، كما حكى القرآن قولهم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) [فصلت]، ولكن الله تعالى خيّب آمالهم، وأخذ القرآن طريقه إلى القلوب (¬4). ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون ص 537. (¬2) ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 383 و 391. (¬3) المصدر نفسه 1/ 429. (¬4) ينظر: الطبري: جامع البيان 24/ 112.

2 - قراءة القرآن عبادة

وظلت قراءة القرآن تقوم بذلك الدور في نشر الدعوة بعد أن مكّن الله تعالى لدينه، فكانت وفود العرب تأتي إلى المدينة، لا سيما بعد فتح مكة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليهم القرآن ويعلّمهم شرائع الإسلام (¬1). وكان من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم القرآن أنه كان يرسل القراء من الصحابة إلى المواطن التي يفتح الناس فيها صدورهم للدعوة، كما أرسل مصعب بن عمير، رضي الله عنه، بعد بيعة العقبة الأولى إلى المدينة، «وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلّمهم الإسلام، ويفقّههم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة مصعب» (¬2). وبيّن الله تعالى في كتابه الكريم أنه إنما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ليتلو القرآن على الناس، فقال: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) [النمل]. وقد امتدح الله تعالى المؤمنين الذين وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً (2) [الانفال]، وذمّ الكفار الذين إذا تتلى عليهم آيات الله قالوا: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) [الأحقاف] أو قالوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) [المطففين]. 2 - قراءة القرآن عبادة: إن تلاوة القرآن هي أفضل الأذكار (¬3)، ومن ثمّ يستحب الإكثار منها (¬4)، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ثواب قارئ القرآن وفضله في أحاديث كثيرة، منها قوله: «اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ... » (¬5). ومنها قوله: «من ¬

_ (¬1) ينظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 301 و 312 و 344. (¬2) ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 434. (¬3) النووي: الأذكار ص 95. (¬4) السيوطي: الاتقان 1/ 292. (¬5) صحيح مسلم بشرح النووي 6/ 90، والمنذري: الترغيب والترهيب 2/ 369.

قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقوال (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» (¬1). والأحاديث في فضل التلاوة كثيرة، سوف نشير إلى عدد منها في المبحث الآتي، إن شاء الله تعالى. وكانت استجابة الصحابة، رضي الله عنهم، ومن تبعهم من سلف الأمة الصالح للتوجيه النبوي بتلاوة القرآن استجابة عظيمة، ملأت عليهم أوقاتهم في الهواجر والأسحار، يوضّح ذلك ما قاله الإمام النووي: «ينبغي أن يحافظ على تلاوته ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، وقد كانت للسلف، رضي الله عنهم، عادات في القدر الذي يختمون فيه، فكان جماعة منهم يختمون في كل شهرين ختمة، وآخرون في كل شهر ختمة، وآخرون في كل عشر ليال ختمة، وآخرون في كل ثمان ليال ختمة، وآخرون في كل سبع ليال ختمة، وهذا فعل الأكثرين من السلف ... وكثيرون في كل ثلاث، وكان كثيرون يختمون في كل يوم وليلة ختمة ... وأما الذين ختموا القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم، فمنهم عثمان ابن عفان، وتميم الداريّ، وسعد بن جبير» (¬2). ولا شك في أن الإكثار من التلاوة له أثره العميق في تهذيب النفس وتقويم السلوك، فالله تعالى قال: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) [يونس]، وقال سبحانه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82) [الإسراء]، ففي القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة، وفي القرآن شفاء من الهوى والطمع والحسد ونزعات الشيطان، في القرآن شفاء من شطط التفكير والشعور. وبذلك كان القرآن ذكرا من أفضل ¬

_ (¬1) الترمذي: كتاب السنن 5/ 161، والحاكم المستدرك 1/ 555. (¬2) الأذكار ص 95 والتبيان ص 26.

3 - قراءة القرآن للفقه والعمل

الأذكار وعبادة من أجلّ العبادات، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: «من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ... » (¬1). 3 - قراءة القرآن للفقه والعمل: إن الهدف الأساسي من قراءة القرآن، مع كونها عبادة، هو التفهم للمعاني التي تتضمنها الآيات الكريمة، والتطبيق لما تتضمنه من أحكام، وقد قال الله تعالى في وصف القرآن: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (92) [ص]، كما حث الله تعالى على تفهم معانيه بقوله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) [النساء]، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) [محمد]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أسلم الرجل أمره بقراءة القرآن قبل كل شيء (¬2)، وقال للصحابة: فقّهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه وعلّموه القرآن (¬3). لأن القرآن الكريم هو الأصل الأول للعقيدة والأحكام والآداب، والسّنّة مبيّنة ومفصّلة لما تضمنه القرآن. وكانت طريقة تلقي الصحابة للقرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤكد على التفهم للمعاني، فقد قال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: كنا إذا تعلّمنا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات من القرآن لم نتعلم من العشر التي نزلت بعدها حتى نعلم ما فيها، يعني من العمل (¬4). وكان أبو عبد الرحمن السلمي (ت 74 هـ)، وهو مقرئ أهل الكوفة في ¬

_ (¬1) الترمذي: كتاب السنن 5/ 169. (¬2) السخاوي: الوسيلة ص 119. (¬3) الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/ 474. (¬4) الحاكم: المستدرك 1/ 557.

عصر التابعين، يحدّث عن الصحابة الذين علّموه القرآن ويقول: «حدثني الذين كانوا يقرءوننا: عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجازونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا» (¬1). وقال العلماء: تكره قراءة القرآن بلا تدبّر (¬2)، وقال الآجري: والقليل من الدرس للقرآن مع الفكر فيه وتدبره أحبّ إليّ من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبر ولا تفكر فيه، وظاهر القرآن يدل على ذلك والسّنة وقول أئمة من المسلمين (¬3). ونقل الآجري روايتين تدلان على ذلك (¬4): الرواية الأولى: عن أبي جمرة الضّبعي، قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، فقال ابن عباس: لأن أقرأ البقرة في ليل، فأتدبرها وأرتّلها أحبّ إليّ من أن أقرأ كما تقول. والرواية الثانية: عن مجاهد بن جبر، تلميذ ابن عباس، أنه سئل عن رجل قرأ البقرة وآل عمران، ورجل قرأ البقرة، قراءتهما واحدة، وركوعهما وسجودهما وجلوسهما، أيهما أفضل؟ قال: الذي قرأ البقرة، ثم قرأ: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) [الإسراء]. ونقل أبو عمرو الداني رواية عن زيد بن ثابت أن رجلا سأله عن قراءة القرآن في سبع؟ فقال: حسن، ولأن أقرأه في عشرين أو في النصف أحب إليّ من أن أقرأه في سبع، واسألني عن ذلك؟ أردّده وأقف عليه (¬5). ¬

_ (¬1) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 69، والذهبي: معرفة القراء 1/ 48. (¬2) الزركشي: البرهان 1/ 445. (¬3) أخلاق حملة القرآن ص 109. (¬4) المصدر نفسه ص 109 - 110. (¬5) التحديد ص 76.

المبحث الثاني فضائل التلاوة وآدابها

ونقل رواية أخرى عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال: أقرأ القرآن بالمفصل في ركعة! فقال: أهذّا كهذّ الشعر، ونثرا كنثر الدّقل؟ (¬1) ومع ذلك فإن العلماء لا يمنعون من القراءة السريعة مطلقا، وقد نصوا على أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، كما أنه يختلف لاختلاف حال الشخص في النشاط والضعف والتدبر والغفلة (¬2). المبحث الثاني فضائل التلاوة وآدابها أولا: فضائل التلاوة: إن قيمة كل كتاب تعتمد على منزلة مؤلفه وأهمية موضوعه وبلاغة أسلوبه، والقرآن الكريم بلغ أقصى الغايات في ذلك كله، فهو كلام الله تعالى «وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» (¬3). وموضوعه بيان منهج الله الذي لا تتحقق سعادة البشرية إلا به وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) [آل عمران]، وأسلوبه جاء في أعلى درجات الفصاحة والبلاغة التي أعجزت الفصحاء والبلغاء في جميع العصور. وبيان فضائل تلاوة القرآن ترتبط بفضل القرآن الكريم ذاته، وقد وصف الله تعالى القرآن في آيات كثيرة بأنه مصدر الهداية للبشرية وسبب الرحمة الإلهية لها، ومن تلك الآيات: ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ص 77. (¬2) النووي: التبيان ص 27، والزركشي: البرهان 1/ 471. (¬3) هذا جزء من حديث قدسي رواه الترمذي في سننه (5/ 169)، وينظر: ابن حجر: فتح الباري 9/ 66.

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) [الإسراء]. يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) [يونس]. وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) [النحل]. طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) [النمل]. إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) [النمل]. وقد امتدح الله تعالى الذين يتلون كتاب الله، ووعدهم مغفرة منه وفضلا، بقوله الكريم: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) [فاطر]. وجاءت في فضل القرآن وفضل تلاوته عشرات الأحاديث التي رواها العلماء في كتب الحديث في باب (فضائل القرآن)، وأفردها عدد منهم في رسائل منفردة؛ سميت بكتب (فضائل القرآن)، مثل كتاب «فضائل القرآن» لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ)، وكتاب «فضائل القرآن» لأبي جعفر بن محمد الفريابي (ت 301 هـ)، وكتاب «فضائل القرآن» لأحمد بن شعيب النسائي (ت 303 هـ)، وغيرها كثير. وسوف أقتبس مما ورد في تلك الكتب عددا من الأحاديث التي تبيّن فضل تعلم القرآن وفضل تلاوته، منها: 1 - روى البخاري وغيره، عن أبي عبد الرحمن السّلميّ، عن عثمان بن عفان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

«خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه» (¬1). قال أبو عبد الرحمن السلمي، وهو الذي جاء بالمصحف من المدينة إلى الكوفة في خلافة عثمان: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا (¬2). وكان أبو عبد الرحمن قد جلس في المسجد الأعظم في الكوفة ونصب نفسه لتعليم الناس قراءة القرآن، ولم يزل يقرئ بها أربعين سنة، إلى أن توفاه الله سنة 73 هـ (¬3). وقد روى الترمذي وغيره هذا الحديث عن علي بن أبي طالب أيضا (¬4). 2 - وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» (¬5). 3 - وروى مسلم بن الحجاج عن أبي أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ... » (¬6). وجاء هذا المعنى في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: ربّ إني منعته الطعام والشراب بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان» (¬7). ¬

_ (¬1) قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 342): رواه البخاري مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وغيرهم. (¬2) الترمذي: كتاب السنن 5/ 159. (¬3) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 68. (¬4) الترمذي: كتاب السنن 5/ 161، والدارمي: كتاب السنن 2/ 437، والآجري: أخلاق حملة القرآن ص 48. (¬5) سنن الترمذي 5/ 161. (¬6) صحيح مسلم بشرح النووي 6/ 90. (¬7) قال المنذر في الترغيب والترهيب (2/ 353): رواه أحمد والطبراني والحاكم.

4 - وروى أصحاب الكتب الستة (¬1) عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السّفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاقّ، له أجران». 5 - وروي عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» (¬2). قال المنذري: والمراد بالحسد هنا الغبطة، وهو تمني مثل ما للمحسود، لا تمني زوال تلك النعمة، فإن ذلك هو الحسد المذموم (¬3). 6 - وعن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب» (¬4). 7 - وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجّة: ريحها طيّب، وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مرّ» (¬5). 8 - وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت ¬

_ (¬1) وهم: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة (ينظر: المنذري: الترغيب والترهيب 2/ 348). (¬2) رواه البخاري (فتح الباري 9/ 73) ومسلم (بشرح النووي 6/ 97). (¬3) الترغيب والترهيب 2/ 351. (¬4) رواه الترمذي والحاكم (الترغيب والترهيب 2/ 359). (¬5) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة (الترغيب والترهيب 2/ 343).

ثانيا - آداب التلاوة

الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» (¬1). 9 - وعن عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصّفّة، فقال: أيّكم يحبّ أن يغدو كلّ يوم إلى بطحان، أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطيعة رحم؟ فقلنا: يا رسول الله كلّنا يحبّ ذلك، قال: فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلّم آيتين من كتاب الله، عز وجل، خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل (¬2). 10 - وردت أحاديث في فضل الإكثار من قراءة سورة أو آيات معينة، فمما رواه البخاري ومسلم ما ورد في فضل سورة الفاتحة، وسورة البقرة، وخواتيمها «الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه» وآية الكرسي منها، وسورة الكهف، وعشر آيات من أولها، والمعوذتين، وسورة الإخلاص، حيث قال صلى الله عليه وسلم: أيعجز، أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) تعدل ثلث القرآن» (¬3). ثانيا- آداب التلاوة: ينبغي أن يستشعر قارئ القرآن عظمة كتاب الله تعالى، فإذا أراد القراءة فعليه أن يلتزم بما ورد من الآداب والسنن التي تتعلق بنظافة البدن والمكان وبكيفية التلاوة، والتزام توقير القرآن، واجتناب ما ينافي ذلك من مظاهر الغفلة وعدم التيقظ والخشوع. ¬

_ (¬1) رواه مسلم وأبو داود وغيرهما (الترغيب والترهيب 2/ 343). (¬2) رواه مسلم وأبو داود (الترغيب والترهيب 2/ 345). (¬3) ينظر: ابن حجر: فتح الباري 9/ 54 - 62، وصحيح مسلم بشرح النووي 6/ 89 - 96.

1 - نظافة البدن والمكان

1 - نظافة البدن والمكان: يستحب أن يقرأ القارئ وهو على طهارة، إذا كان يقرأ من حفظه، فإن قرأ وهو محدث جاز بإجماع المسلمين، والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، وأما الجنب والحائض فإنه يحرم عليهما قراءة القرآن، سواء كان آية أو أقل منها، ويجوز لهما إجراء القرآن على قلبهما من غير تلفظ به. وينبغي إذا أراد القراءة أن ينظف فاه بالسّواك وغيره، والاختيار في السواك أن يكون بعود من أراك، ويجوز بسائر العيدان، وبكل ما ينظف كالخرقة الخشنة والأشنان وغير ذلك. ويستحبّ أن تكون القراءة في مكان نظيف مختار، ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد، لكونه جامعا للنظافة وشرف البقعة (¬1)، لكن القراءة جائزة في أي مكان طاهر نظيف. ويحرم على المحدث مسّ المصحف وحمله، وأما كتب تفسير القرآن فإن كان القرآن فيها أكثر من غيره حرم مسّها وحملها على المحدث، وإن كان غيره أكثر جاز على خلاف في ذلك (¬2). 2 - ترتيل القرآن وتحسين الصوت: أجمع العلماء من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين على استحباب تحسين الصوت بالقرآن، ما لم يخرج عن حد القراءة، فإن أفرط حتى زاد حرفا أو أخفاه فهو حرام، وتكره لذلك القراءة بالألحان التي تخرج بالتلاوة عن حدها (¬3). ¬

_ (¬1) النووي: التبيان ص 32 - 35، والسيوطي: الإتقان 1/ 295. (¬2) النووي: التبيان ص 93 - 95. وينظر: ابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 185. (¬3) النووي: التبيان ص 51.

3 - التدبر والخشوع

وينبغي لمن قرأ القرآن أن يرتّله ترتيلا، كما قال الله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا 4 [المزمل]، أي بيّنه تبيينا، وعلى القارئ ألّا يخلّ بقواعد التلاوة سواء قرأ بالتحقيق، وهو التمهل، أو بالحدر، وهو السرعة في القراءة، أو توسّط في ذلك (¬1). 3 - التدبر والخشوع: قراءة القرآن عبادة مقصودها الاتعاظ والائتمار والانزجار، وقد قال الله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ 29 [ص]. وقال سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها 24 [محمد]. والتدبّر معناه التفكر والنظر في عاقبة الشيء. وقد حث العلماء على التزام قارئ القرآن بتفهم ما يقرأ، والتفكر فيه، مع الخشوع، وترك ما لهي عن ذلك، ومن لوازم التفكر أن القارئ إذا مر بآية رحمة سأل مولاه الكريم، وإذا مرت به آية عذاب استعاذ بالله من النار (¬2). وعلى القارئ أن يلزم احترام القرآن والابتعاد في أثناه القراءة عن الضحك واللغط والحديث في خلال القراءة، إلا كلاما يضطر القارئ إليه، وينبغي أن يتمثل القارئ والمستمع قول الله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 204 [الأعراف] (¬3). وقد لخص الإمام الغزالي شرائط القراءة المحمودة بقوله: «تلاوة القرآن حقّ تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظّ اللسان تصحيح الحروف ¬

_ (¬1) الآجري: أخلاق حملة القرآن ص 108، وابن الجزري: النشر 1/ 205. (¬2) الآجري: أخلاق حملة القرآن ص 97. (¬3) النووي: التبيان: ص 42.

4 - أوقات القراءة المحمودة، والسرعة فيها

بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثير والانزجار والائتمار، فاللسان يرتل، والعقل يترجم، والقلب يتعظ» (¬1). 4 - أوقات القراءة المحمودة، والسرعة فيها: إن أفضل القراءة ما كان في الصلاة، أما القراءة في غير الصلاة فأفضلها قراءة الليل، والنصف الأخير من الليل أفضل من النصف الأول، والقراءة بين المغرب والعشاء محبوبة، وأما القراءة في النهار فأفضلها بعد صلاة الصبح، ولا كراهية في القراءة في وقت من الأوقات (¬2). وقد اختلف العلماء في الأفضل هل الترتيل وقلة القراءة أو السرعة مع كثرة القراءة؟ فذهب بعضهم إلى أن كثرة القراءة أفضل، لأن للقارئ بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لكن معظم العلماء يقولون إن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من السرعة مع كثرتها، لأن المقصود من القرآن فهمه والتفقه فيه والعمل به. وتلاوته وحفظه وسيلة إلى معانيه. وقال بعض العلماء: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجلّ وأرفع قدرا، وإن ثواب كثرة القراءة أكثر عددا (¬3). ومما له علاقة بسرعة القراءة تحديد المدة المفضلة لختم القرآن، والأصل استحباب الإكثار من قراءة القرآن (¬4)، وقد تفاوتت سيرة السلف في القدر الذي يختمون فيه، فكثيرون كانوا يختمون في أسبوع، أو في أسبوعين أو في شهر، وكرهوا أن يختم القارئ في أقل من ثلاث ليال لقوله صلى الله عليه وسلم: «لم يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث» (¬5). كما كرهوا أن يأتي عليه أكثر من أربعين يوما ولم ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين 1/ 294. (¬2) النووي: التبيان ص 75. (¬3) ابن الجزري: النشر 1/ 208 - 209. (¬4) السيوطي: الإتقان 1/ 292. (¬5) رواه الترمذي في سننه 5/ 182، وقال: حديث حسن صحيح.

المبحث الثالث أصل القراءات القرآنية

يختم القرآن (¬1). وقال بعض العلماء: إن ذلك يختلف باختلاف حال الشخص في النشاط والضعف والتدبر والغفلة (¬2). المبحث الثالث أصل القراءات القرآنية القراءات القرآنية من أهم علوم القرآن، صرف إليها العلماء كثيرا من عنايتهم وجهودهم من لدن عصر الصحابة، رضوان الله عليهم، إلى عصرنا هذا، رواية وتعليقا وتأليفا، وموضوع القراءات شديد الصلة بنص القرآن الكريم، لأنه يعنى بكيفية النطق بألفاظ القرآن، وتحقيق الروايات المنقولة في ذلك عن أئمة القراءة. وقد صار كثير من مباحث هذا العلم أقرب إلى دائرة البحث التأريخي بعد أن انتشرت في معظم بلدان العالم الإسلامي قراءة واحدة من القراءات القديمة المشهورة، وهي قراءة عاصم بن أبي النّجود الكوفي، المتوفى سنة 127 هـ، التي تضبط عليها أكثر المصاحف المطبوعة في عصرنا، وزالت القراءات الأخرى من ميادين التلاوة والتعبد بقراءة القرآن، إلى ميادين البحث والدراسة والرواية في دور العلم ومعاهد الإقراء. وهناك سببان، في الأقل، يحملان الدارس على النظر في موضوع القراءات والبحث في أصلها، الأوّل: انتشار التسجيل الصوتي لقراءات قرآنية غير قراءة عاصم، يعجز كثير من الناس في زماننا عن فهم حقيقتها ومعرفة أصلها، فتكون لذلك موضع تساؤل وتشويش لا يزيله إلا الوقوف على تأريخ هذا الموضوع وتفصيلاته. والثاني: إن علم القراءات من أكثر علوم القرآن الكريم بحثا وتأليفا، ¬

_ (¬1) ينظر المصدر نفسه 5/ 180. (¬2) النووي: التبيان ص 27، والزركشي: البرهان 1/ 471.

أولا - سبب تعدد القراءات وحديث الأحرف السبعة

ولا بد لدارس علوم القرآن من الوقوف على المعالم البارزة لهذا العلم الذي يتعلق بضبط النص القرآني والمحافظة عليه (¬1). أولا- سبب تعدد القراءات وحديث الأحرف السبعة: والحديث عن أصل القراءات القرآنية يستدعي بحث قضيتين: الأولى تحديد مصدر القراءات، والثاني: تحديد السبب الذي أدّى إلى ظهورها، ومناقشة هاتين القضيتين مرتبط بالظروف التي ظهرت فيها الدعوة الإسلامية، وطبيعة المجتمع العربي في تلك الحقبة، وما كان بين أجزائه من تباين لغوي ظاهر، لأن قراءة القرآن هي في جانب منها نشاط لغوي، ومن جانب آخر هي نشاط فكري ينعكس على سلوك الفرد والجماعة. كان العرب في جزيرتهم قبائل وجماعات، تفصل بين قبيلة وأخرى فواصل طبيعية أو عوامل نفسية، فالجزيرة بطبيعة أرضها ومناخها تفرض على الناس نوعا من العزلة والتنقل المستمر وراء مساقط المياه ومنابت الكلأ، ولم يكن هناك سلطان سياسي يشمل تلك القبائل والجماعات، بل إن المنازعات كثيرا ما كانت تزيدها تشتتا وعزلة، ومن ثم فإن عوامل الافتراق كانت أكثر فاعلية في المجتمع العربي قبل الإسلام من عوامل التقارب والتوحد، وقد انعكس ذلك على الوضع ¬

_ (¬1) لكي يطلع القارئ الذي ليس في متناول يده كتب القراءات على مثال يتبين له من خلاله حقيقة اختلاف القراءات، أورد قراءات القراء السبعة في سورة الفاتحة: 1 - قرأ عاصم والكسائي (مالك)، وقرأ الباقون من السبعة (ملك). 2 - قرأ عاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي (صراط، الصراط) بالصاد، وقرأ ابن كثير في رواية عنه (السراط)، وقرأ حمزة بين الصاد والزاي (صاد مجهورة). 3 - قرأ حمزة (عليهم) بضم الهاء والباقون بكسرها. 4 - قرأ ابن كثير (عليهمو) في الوصل، والباقون بإسكان الميم من غير واو. (ينظر: ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 104، والداني: التيسير ص 18).

اللغوي الذي كان يتميز بتعدد اللهجات وتباين صور النطق للعربية (¬1)، لا سيما في وقت كانت تسود فيه الأمية، ويصعب التنقل والامتزاج، ما عدا فرصا محدودة يلتقي فيها أفراد معدودون في مواسم الحج والتجارة لأيام معدودة، ثم يمضي كل واحد منهم لينخرط في حياة قبيلته أو بلدته. وفي ذلك الظرف شاء الله تعالى أن يبعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم برسالة تدعو إلى التوحيد والتوحيد، وتحثّ على التعلم والتحضر، يقول القاسم بن ثابت السرقسطي (ت 302 هـ): «إن الله تبارك وتعالى بعث نبيه صلى الله عليه وسلم والعرب متناءون في المحال والمقامات، متباينون في كثير من الألفاظ واللغات، ولكل عمارة (¬2) لغة دلت بها ألسنتهم، وفحوى قد جرت بها عادتهم، وفيهم الكبير العاسي والأعرابي القح، ومن لو رام نفي عادته وحمل لسانه على غير دربته (¬3) تكلف منه حملا ثقيلا، وعالج منه عبئا شديدا، ثم لم يكسر غربه (¬4) ولم يملك استمراره إلا بعد التمرين الشديد، والمساجلة الطويلة، فأسقط الله عنهم هذه المحنة، وأباح لهم القراءة على لغاتهم، وحمل حروفه على عادتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئهم بما يفقهون، ويخاطبهم بالذي يستعملون بما طوّقه الله من ذلك، وشرح به صدره، وفتق به لسانه، وفضّله على جميع خلقه» (¬5). والقرآن الكريم نزل بلغة قريش، في الرأي الراجح، على نحو ما أشرنا إلى ذلك في المبحث الخاص بعربية القرآن، ومعنى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاه من جبريل عليه السّلام وتلاه على الناس بنطق عربي يطابق نطق العربية السائد في مكة المكرمة في ذلك الوقت، وكان كتبة الوحي يكتبون ألفاظ الوحي على نحو ما ¬

_ (¬1) قال ابن النديم (الفهرست ص 8): «ولكل قبيلة من قبائل العرب لغة تنفرد بها». (¬2) العمارة، بكسر العين وفتحها، هي الشعبة من القبيلة، أو هي الحي العظيم. (¬3) دربته: ما تدرب عليه واعتاده. (¬4) الغرب: الحدّة. (¬5) نقلا عن البلوي: ألف با 1/ 211، وأبو شامة: المرشد الوجيز ص 128.

يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا فإن الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أمر الجماعة الذين نسخوا المصاحف أن يكتبوه على لسان قريش، لأنه هو النطق المنزل به. ولا شك في أن أهل مكة كانوا أقدر على تحقيق نطق القرآن كما نطقه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم قومه وعشيرته، أما غيرهم من العرب فكانوا متفاوتين في القدرة على تحقيق ذلك النطق، بحسب قرب أو بعد لغاتهم (أي لهجاتهم) من لغة أهل مكة، ومن ثمّ ظهرت مشكلة أهل مكة. وقد أشار بعض العلماء إلى أن تلك المشكلة ظهرت بصورة واضحة بعد الهجرة، حين دخل في الإسلام أفراد من قبائل عربية متباينة النطق (¬1). وأمام ذلك الوضع اللغوي المعقد لم يحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على تعلم نطق قريش، ولم يمنعهم من قراءة القرآن، وإنما رخّص لهم أن يقرءوا القرآن بالنطق الذي يمكنهم تحقيقه، قال الصحابي عبد الله بن عباس (ت 68 هـ) حول الموضوع: «إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرئ الناس بلغة واحدة، فاشتد ذلك عليهم، فنزل جبريل، فقال: يا محمد، أقرئ كلّ قوم بلغتهم» (¬2). وروى الترمذي في سننه عن أبي بن كعب أنه قال: «لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، فقال: يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير، والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط! قال: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف». قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح قد ورد عن أبيّ بن كعب من غير وجه (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر: ابن حجر: فتح الباري 9/ 28، وعبده الراجحي: اللهجات العربية في القراءات القرآنية ص 68. (¬2) ينظر: أبو شامة: المرشد الوجيز ص 95. (¬3) سنن الترمذي 5/ 178.

وقد تواتر في أحاديث صحيحة كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه». وبلغ عدد الصحابة الذي رووا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا وعشرين صحابيا (¬1)، في مناسبات متعددة، ووردت روايات الحديث في أصح كتب الحديث وكتب التفسير وعلوم القرآن (¬2). وكانت رخصة الأحرف السبعة حلّا لمشكلة واجهت الصحابة في عصر النبوة حيث يسّرت عليهم قراءة القرآن، من غير أن يختل نظمه أو تتحرف كتابته، قال ابن قتيبة (ت 276 هـ): «وكل هذه الحروف كلام الله تعالى، نزل به الروح الأمين على رسوله عليه السّلام وذلك أنه كان يعارضه في كل شهر من شهور رمضان بما اجتمع عنده من القرآن، فيحدث الله إليه من ذلك ما يشاء، وينسخ ما يشاء، وييسر على عباده ما يشاء، فكان من تيسيره أن أمره بأن يقرئ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم. فالهذليّ يقرأ: عتى حين، يريد: حَتَّى حِينٍ 54 [المؤمنون] لأنه كان يلفظ بها ويستعملها. والأسديّ يقرأ تعلمون وتعلم وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ 106 [آل عمران] وأَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ 60 [يس]. والتميمي يهمز والقرشيّ لا يهمز، والآخر يقرأ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ 11 [البقرة] ووَ غِيضَ الْماءُ 44 [هود] بإشمام الضم مع الكسر، وهذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا [يوسف] بإشمام الكسر مع الضم، وما لَكَ لا تَأْمَنَّا 11 [يوسف] بإشمام الضم مع الإدغام وهذا ما لا يطوع به كل لسان. «ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده ¬

_ (¬1) ينظر: السيوطي: الاتقان 1/ 131. (¬2) ينظر روايات الحديث: صحيح البخاري (فتح الباري) 9/ 23، وصحيح مسلم بشرح النووي 6/ 98، وسنن الترمذي 5/ 177، وسنن النسائي 2/ 150، وسنن أبي داود 2/ 75، وتفسير الطبري المسمى جامع البيان 1/ 14 وما بعدها، ومكي: الإبانة ص 62 - 69، وأبو شامة: المرشد الوجيز ص 77 - 89.

ثانيا - معنى الأحرف السبعة

طفلا وناشئا وكهلا، لاشتدّ ذلك عليه، وعظمت المحنة للعادة. فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعا في اللغات ومتصرفا في الحركات، كتيسيره عليه في الدين ... » (¬1). ثانيا- معنى الأحرف السبعة: ولم تكن تلك الأحرف تتجاوز تنوع صور النطق إلى اختلاف المعاني، على نحو ما نقل محمد بن شهاب الزهري (ت 124 هـ) عن الصحابة، فقد قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه «قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي الأمر الذي يكون واحدا، لا يختلف في حلال ولا حرام» (¬2). أي أن الألفاظ المختلف في قراءتها لا يتغير معناها، وإنما الذي يتغير هو النطق فقط. ولم يرد في روايات هذا الحديث ما يحدد المراد بالأحرف السبعة، ولم ينقل عن الصحابة ما يوضح ذلك أيضا، غير ما نقله ابن شهاب عنهم في قوله: بلغني أن تلك السبعة الأحرف، ومن ثم فإن العلماء اجتهدوا في تفسيرها بعد اتفاق جمهورهم على أنها تخص النطق والقراءة، لا اختلاف المعاني والأحكام (¬3). ويمكن أن نلخص جهود العلماء في تفسير الأحرف السبعة في اتجاهين: الاتجاه الأول: أن عدد السبعة الواردة في الحديث لا يقصد به الحصر وأنه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة، ولفظ ¬

_ (¬1) تأويل مشكل القرآن ص 29 - 30. (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي 6/ 101، وينظر: سنن أبي داود 2/ 76. (¬3) حظي موضوع الأحرف السبعة باهتمام واسع من لدن علماء القرآن، وقد أفرده بعضهم برسائل أو كتب مستقلة، مثل كتاب (الإبانة عن معاني القراءات) لمكي بن أبي طالب القيسي (ت 437 هـ)، وكتاب (المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز) لأبي شامة المقدسي (ت 665 هـ)، وكتاب (الكلمات الحسان في الحروف السبعة وجمع القرآن) للشيخ محمد بخيت المطيعي (ت 1354 هـ).

الاتجاه الثاني

السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد، كما يطلق السبعون في العشرات، وسبع مائة في المئين، ولا يراد العدد المعين (¬1). قال ابن الجزري (ت 833 هـ): «وقيل: ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص، بل المراد السعة والتيسير، وأنه لا حرج عليهم في قراءته بما هو من لغات العرب، من حيث إن الله تعالى أذن لهم في ذلك، والعرب يطلقون لفظ السبع والسبعين والسبع مائة ولا يريدون حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص، بل يريدون الكثرة والمبالغة من غير حصر، قال تعالى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ (261) [البقرة]، وإِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً (80) [التوبة]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة» ... » (¬2). الاتجاه الثاني : وذهب أكثر علماء السلف إلى أن المقصود بالسبعة الحصر، لكن اختلفوا في تعيين السبعة، وأشهر الأقوال في هذا الاتجاه ثلاثة: 1 - أنها سبع لغات (لهجات) من لغات العرب، قال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ): «قوله: (سبعة أحرف) يعني سبع لغات من لغات العرب، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، هذا ما لم نسمع به قط، ولكن نقول هذه اللغات متفرقة في القرآن ... » (¬3). 2 - الأحرف السبعة هي سبعة ألفاظ مختلفة في النطق متفقة في المعنى، قال الطبري: «الأحرف السبعة التي أنزل بها القرآن هي لغات سبع في حرف واحد وكلمة واحدة، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، كقول القائل: هلم، وأقبل، وتعال، وإليّ، وقصدي، ونحوي، وقربي، ونحو ذلك مما تختلف ¬

_ (¬1) ينظر: أبو شامة: المرشد الوجيز ص 99، والسيوطي: الإتقان 1/ 131. (¬2) النشر 1/ 25 - 26. (¬3) غريب الحديث 3/ 159، وينظر: كتابه فضائل القرآن 21 و.

فيه الألفاظ بضروب من المنطق وتتفق فيه المعاني» (¬1). ويرى الطبري أن عثمان، رضي الله عنه، جمع الناس على حرف واحد، وأن الأحرف الستة الأخرى قد ذهبت (¬2). 3 - الأحرف السبعة هي سبعة وجوه من وجوه القراءات، قال ابن قتيبة: «وقد تدبّرت وجوه الخلاف في القراءات فوجدتها سبعة أوجه ... » (¬3)، وذلك مثل إبدال لفظ بلفظ، أو حرف بحرف، أو تقديم وتأخير، أو زيادة حرف أو نقصانه، أو اختلاف حركة بناء الكلمة أو إعرابها، أو اختلاف في تفخيم الصوت أو ترقيقه، أو نحو ذلك (¬4). ولم يحظ أي قول من هذه الأقوال، أو غيرها مما قاله بعض العلماء في تفسير الأحرف السبعة، بما يمكن أن يرجحه على غيره أو يحمل على القطع بصحته، لكن العلماء بعد ذلك مجمعون على أن تلك الرخصة كانت في وقت معين، قال الطحاوي (ت 310 هـ (: إن تلك السبعة إنما كانت في وقت خاص، لضرورة دعت إلى ذلك» (¬5). أما الأجيال اللاحقة فليس لها إلا اتباع القراءة المأثورة عن الصحابة التي تناقلتها الأمة عبر العصور (¬6). ولم تكن تلك الرخصة مطلقة حتى في زمن الصحابة فقد نص العلماء على «أن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي، بأن يغير كل أحد الكلمة بمرادفها في ¬

_ (¬1) جامع البيان 1/ 25. (¬2) المصدر نفسه 1/ 28. (¬3) تأويل مشكل القرآن ص 36. (¬4) ينظر: أبو شامة: المرشد الوجيز ص 113 - 125، وابن الجزري: النشر 1/ 26 - 28، والسيوطي: الاتقان 1/ 132. (¬5) نقلا عن أبي شامة: المرشد الوجيز ص 106. (¬6) ينظر: المصدر نفسه ص 102.

المبحث الرابع نشأة مدارس القراءة

لغته، بل المرعي في ذلك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم» (¬1). قال الداني: «وهذه القراءات كلها والأوجه بأسرها من اللغات هي التي أنزل القرآن عليها، وقرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرأ بها وأباح الله تعالى لنبيه القراءة بجميعها وصوّب الرسول صلى الله عليه وسلم من قرأ ببعضها» (¬2). فأصل القراءات القرآنية يرجع- إذن- إلى رخصة الأحرف السبعة التي يسّر الله تعالى بها على الصحابة في قراءاتهم للقرآن، فكل القراءات القرآنية ترجع إلى قراءات الصحابة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علّم الصحابة القرآن، وسمع منهم قراءتهم وأقر لهم اختلافهم في النطق، كما جاء في عدد من روايات حديث الأحرف السبعة، وكما ورد في رواية أبي العالية الرياحي (رفيع بن مهران ت 92 هـ) التي نقلها الطبري، وقال فيها: «قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلّ خمس رجل، فاختلفوا في اللغة، فرضي قراءاتهم كلهم» (¬3). وروي عن معاذ بن جبل أنه قال: عرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب أحدا منا (¬4). وكان صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة: «اقرءوا كما علّمتم» وينهاهم عن الجدال في القرآن وقراءته (¬5). المبحث الرابع نشأة مدارس القراءة أولا- قراءة القرآن في عصر النبوة: إن هدف النبوات والرسالات هو هداية الناس وتعليمهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ورسالته خاتمة الرسالات الإلهية، وكان إيصال هذه الرسالة ¬

_ (¬1) السيوطي: الاتقان 1/ 136. (¬2) جامع البيان في القراءات السبع 8 ظ. (¬3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 1/ 19، وينظر: أبو شامة: المرشد الوجيز ص 130. (¬4) علم الدين السخاوي: الوسيلة ص 119. (¬5) ينظر: الطبري: جامع البيان 1/ 12، وأبو شامة: المرشد الوجيز ص 84 - 85.

إلى الناس يستلزم التبليغ والتعليم، وقد قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ... (2) [الجمعة]، وقال سبحانه: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ (45) [العنكبوت]، وقال عزّ من قائل: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) [الإسراء]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت معلّما» (¬1). فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معلّم هذه الأمة الأوّل، علّمها القرآن وتلاوته، وبيّن لها الأحكام والسنن والآداب. وكانت قراءة القرآن أول شيء يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّ من يدخل في الإسلام، قال علم الدين السخاوي: «كان صلى الله عليه وسلم إذا أسلم الرجل يأمره بقراءة القرآن قبل كل شيء» (¬2). وكان يتولى تعليم أصحابه ما ينزل عليه من الوحي، ويتدارس معهم ما نزل من القرآن، ويعلّم من يدخل في الدين القرآن والفرائض، وكانت البيوت في أول عهد الدعوة أماكن للتعليم، وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي في مكة مركزا للدعوة وتعليم الصحابة القرآن (¬3). وازدادت الحاجة إلى تعليم القرآن بانتشار الإسلام وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجد ما يكفي من الوقت لتعليم كل من يدخل في الدين، لا سيما أهل القرى والبوادي خارج المدينة المنورة، فكان يكل تعليم القرآن إلى عدد من أصحابه الذين تميزوا بحفظ القرآن وضبط قراءته، وكان يرسل المعلمين إلى من نأى عنه من المسلمين، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجل في الإسلام قال: «فقّهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه وعلّموه القرآن» (¬4). وقال عبادة بن الصامت، وكان أحد علماء الصحابة بالقرآن: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجة 1/ 83. (¬2) الوسيلة ص 119. (¬3) ينظر: ابن عبد البر، الاستيعاب 1/ 131. (¬4) تاريخ الطبري 2/ 474.

رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى رجل منا يعلّمه القرآن، فدفع إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا، وكان معي في البيت، أعشّيه عشاء أهل البيت، فكنت أقرئه القرآن» (¬1). وكان أبي بن كعب أحد فقهاء الصحابة وأقرأهم لكتاب الله، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أقرأ أمتي أبيّ (¬2). فلما قدمت وفود العرب إلى المدينة بعد فتح مكة، كان أبي بن كعب يعلّمهم القرآن، وممن ذكرت الروايات أنهم تعلموا القرآن من أبي وفد أهل البحرين، ووفد بني حنيفة، ووفد قبيلة غامد (¬3). أما المعلمون الذين بعث بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعليم القرآن، فكان أوّلهم مصعب بن عمير الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قبل الهجرة بعد العقبة الثانية، يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، وكان يدعى القارئ والمقرئ (¬4). وكان معاذ بن جبل الأنصاري أحد فقهاء الصحابة وعلمائهم بالقرآن، وقد ذكر ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلّف معاذ بن جبل بمكة بعد الفتح، حين توجه إلى الطائف، يفقه أهل مكة ويقرئهم القرآن (¬5). وبعد دخول أهل اليمن في الإسلام بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هناك، يعلّم القرآن وشرائع الإسلام، كما بعث إلى بعض أنحاء اليمن الأخرى أبا موسى الأشعري للغاية ذاتها (¬6). وبذلك اشتهر عدد من الصحابة في عصر النبوة بحفظ القرآن وإجادة قراءته، ¬

_ (¬1) الساعاتي: الفتح الرباني 18/ 9، وقال: أخرجه أبو داود في سننه، وابن ماجة، والحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. (¬2) ينظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 341، وابن عبد البر: الاستيعاب 1/ 66. (¬3) ينظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 336 و 345 و 5/ 557. (¬4) ينظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 434، وصحيح البخاري (فتح الباري) 8/ 699، وابن عبد البر، الاستيعاب 4/ 1473. (¬5) الطبقات الكبرى 2/ 348، والخزاعي: تخريج الدلالات السمعية ص 81. (¬6) ينظر ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/ 585 و 4/ 108، وابن عبد البر: الاستيعاب 3/ 1403.

ثانيا - قراءة القرآن في عصر الخلافة الراشدة

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث الصحابة على تعلم القرآن منهم، حيث قال: «خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب» (¬1). وقد ظل عدد منهم يؤدي دور معلم القرآن بعد عهد النبوة. ثانيا- قراءة القرآن في عصر الخلافة الراشدة: إن تعليم قراءة القرآن للمسلمين كان قد استأثر باهتمام كبير من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأثر باهتمام الخلفاء الراشدين من بعده، ويحدثنا التاريخ عن وقائع كثيرة تعكس جانبا من ذلك الاهتمام، وقد مرّ الحديث عن جمع القرآن في الصحف بعد أن استمر القتل بقراء القرآن في معركة اليمامة في خلافة الصديق، رضي الله عنه. وفي خلافة عمر بن الخطاب تضاعفت الحاجة إلى تعليم القرآن الكريم، بعد حركة الفتوح الواسعة، وكان عمر، رضي الله عنه، قد عمل على تحقيق متطلبات المسلمين في الأمصار الجديدة، حيث جعل من ولاة الأمصار معلمين للناس، فقال في إحدى خطبه: «اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار أني إنما بعثتهم ليعلّموا الناس دينهم وسنة نبيّهم» (¬2). وكان قد أرسل أبا موسى الأشعري واليا على البصرة (¬3)، فكان يعلم الناس هناك القرآن (¬4). وبعث عمر إلى الكوفة عبد الله بن مسعود مع عمار بن ياسر، وكتب إليهم: «إني قد بعثت إليكم بعمار بن ياسر أميرا، وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر، فاقتدوا بهما، واسمعوا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 9/ 46)، وسنن الترمذي 5/ 632. (¬2) تاريخ الطبري 4/ 204. (¬3) ابن عبد البر: الاستيعاب 4/ 1763. (¬4) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 345.

من قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي» (¬1). فكان عبد الله بن مسعود يعلّم القرآن في المسجد، قال تلميذه مسروق بن الأجدع: «كان عبد الله يقرئنا في المسجد، ثم نجلس بعده نثبت الناس» (¬2). وقال ابن مجاهد: «وأما أهل الكوفة فكان الغالب على المتقدمين من أهلها قراءة عبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه، لأنه الذي بعث به إليهم عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، ليعلمهم» (¬3). وكان ولاة الأمصار قد أولوا هذا الأمر اهتمامهم، فبعد فتح بلاد الشام كتب يزيد بن أبي سفيان والي الشام رسالة إلى عمر بن الخطاب جاء فيها: إن أهل الشام قد كثروا وملئوا المدائن، واحتاجوا من يعلّمهم القرآن ويفقههم، فأعنّي يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم، فدعا عمر أولئك الخمسة (معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو أيوب)، فقال لهم: إن إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلّمهم القرآن ويفقههم في الدين، فأعينوني، رحمكم الله، بثلاثة منكم، إن أجبتم فاستهموا، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا، فقالوا: ما كنا لنتساهم، هذا شيخ كبير لأبي أيوب، وأما هذا فسقيم لأبي بن كعب، فخرج معاذ وعبادة وأبو الدرداء، فقال عمر: ابدءوا بحمص فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يلقن، فإذا رأيتم ذلك فوجّهوا إليه طائفة من الناس، فإذا رضيتم منهم فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق والآخر إلى فلسطين. وقدموا حمص فكانوا بها حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق ومعاذ إلى فلسطين، وأما معاذ فمات عام طاعون عمواس (سنة 18 هـ)، وأما عبادة فصار بعد إلى فلسطين ¬

_ (¬1) ابن سعد: الطبقات الكبرى 6/ 7، وابن عبد البر: الاستيعاب 3/ 992. (¬2) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 68، وابن الجزري: غاية النهاية 1/ 459. (¬3) كتاب السبعة ص 66.

ثالثا - بروز ملامح مدارس القراءة

فمات بها (سنة 34 هـ)، وأما أبو الدرداء فلم يزل بدمشق حتى مات (سنة 32 هـ)، رضي الله عنهم (¬1). وفي خلافة عثمان، رضي الله عنه، تم نسخ المصاحف وإرسالها إلى الأمصار، فتوحدت المصاحف التي يقرأ فيها المسلمون جميعا، ورافق إرسال المصاحف تعيين معلمين للقراءة في تلك المصاحف، وقد روى الجعبري أن عثمان، رضي الله عنه، أمر زيد بن ثابت (ت 45 هـ) أن يقرأ في المصحف المدني، وبعث عبد الله بن السائب (ت في حدود 70 هـ) مع المصحف المكي، والمغيرة بن [أبي] شهاب (ت 91 هـ) مع المصحف الشامي، وأبا عبد الرحمن (ت 73 هـ) مع المصحف الكوفي، وعامر بن عبد قيس (ت 55 هـ) مع المصحف البصري (¬2). وكانت جهود الصحابة الأوائل الذين تصدوا لتعليم القرآن، وجهود من سار على نهجهم من الصحابة والتابعين، قد حققت أكبر حملة عرفتها البشرية لتعليم القراءة، فصار يلهج بالقرآن ملايين الناس آناء الليل وأطراف النهار، وكانت تلك الجهود قد أرست أسس مدارس القراءة في الأمصار الإسلامية، خاصة المدن الخمس الكبيرة: مكة والمدينة والكوفة والبصرة والشام (دمشق)، حيث واصل تلامذة الصحابة من التابعين ومن جاء بعدهم من تابعي التابعين عملهم في تعليم قراءة القرآن الكريم. ثالثا- بروز ملامح مدارس القراءة: وبرزت في عصر الصحابة والتابعين بصورة واضحة معالم مدارس الإقراء في الأمصار الإسلامية، وترسخت آداب تعلم القرآن وقراءته، وقد كانت ظروف الدعوة في عصر النبوة تقتضي السرعة في الحركة واستغلال كل الإمكانات، فكان ¬

_ (¬1) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 356، والذهبي: سير أعلام النبلاء 2/ 248. (¬2) جميلة أرباب المراصد 67 ظ، وينظر: المارغني: دليل الحيران ص 17.

علماء الصحابة يعلّمون في البيوت إضافة إلى المسجد، وكان الواحد يتنقل من بلد إلى آخر كما فعل معاذ بن جبل حيث خرج من المدينة، وعلّم في مكة، وذهب إلى اليمن، ثم رجع إلى المدينة ليخرج بعدها إلى الشام. لكن تعليم القراءة بعد عصر النبوة صار يأخذ شكل التعليم المنظم، في المكان والطريقة، وصار المعلمون أكثر استقرارا، على نحو يجعل من كل واحد منهم مدرسة لها تميزها وأثرها بعد ذلك في رواية القراءات وتعليمها. فكان أبو الدرداء، قاضي دمشق وسيد القراء فيها، يجعل الناس حين يجتمعون عليه بعد صلاة الغداة للقراءة عشرة عشرة، وعلى كل عشرة عريف أو ملقن، حتى بلغ الذين يقرءون القرآن عنده أزيد من ألف رجل، وهو يقف في المحراب يرمقهم ببصره، وقد يطوف عليهم قائما، فإذا أحكم الرجل منهم تحول إلى أبي الدرداء يعرض عليه، وكان عبد الله بن عامر عريفا على عشرة، فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر (¬1). وكان أبو الدرداء هو الذي سنّ الحلق للقراءة (¬2). وكان أبو موسى الأشعري يعلّم الناس القرآن في مسجد البصرة وكان يجلسون إليه حلقا حلقا (¬3)، وكان يعلّم القرآن خمس آيات خمس آيات (¬4). وجاء أبو عبد الرحمن السلمي إلى الكوفة مع المصحف الذي أرسله عثمان إلى أهلها، فجلس في المسجد الأعظم فيها لتعليم الناس القرآن، ولم يزل يقرئ بها أربعين سنة (¬5). فكان يقرئهم عشرين آية بالغداة وعشرين آية بالعشي، ويخبرهم بموضع العشور والخموس، وكان يقرأ خمس آيات خمس آيات (¬6). ¬

_ (¬1) السخاوي: جمال القراء 2/ 454. (¬2) الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/ 249، والحلق بفتحتين، أو بكسر وفتح، جمع حلقة. (¬3) الحاكم: المستدرك 2/ 220. (¬4) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 604. (¬5) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 68. (¬6) ابن سعد: الطبقات الكبرى 6/ 172، والذهبي: معرفة القراء 1/ 46.

المبحث الخامس القراء السبعة وأصول قراءتهم

وكان أبو عبد الرحمن يبدأ بأهل السوق لئلا يحتسبوا عن معايشهم (¬1)، واقتدى به عاصم في ذلك (¬2). ولكن حمزة كان يقدّم الفقهاء من طلبة العلم (¬3). ولا شك في أن عدد الذين قرءوا القرآن من التابعين على علماء الصحابة كبير جدا، لا يأتي عليهم الحصر، لكن الذين تخصصوا بالقراءة من ذلك العدد الكبير، وخلفوا الصحابة في تعليم القرآن، كانوا معدودين، فقد اشتهر منهم في كل مصر جماعة، تصدروا للإقراء، فعلّموا تابعي التابعين قراءة القرآن، ثم خلفهم تلامذتهم من تابعي التابعين الذين كان من بينهم القراء السبعة المشهورون الذين سنتحدث عنهم وعن قراءاتهم في المبحث الآتي، إن شاء الله تعالى. المبحث الخامس القراء السبعة وأصول قراءتهم كانت الأمصار الخمسة: مكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، والشام (دمشق)، هي المراكز العلمية التي نبتت فيها العلوم الإسلامية في عصر الصحابة والتابعين. وكان علماء القراءة من التابعين قد خلفوا الصحابة في تعليم الناس القرآن في تلك الأمصار، وما عداها من البلدان التي استنارت بنور الدعوة الجديدة، وواصل تلامذتهم الاضطلاع بواجب التعليم الذي لم ينقطع عبر أجيال الأمة، لأن القراءة سنّة يأخذها الآخر عن الأول. وأخذت القراءات القرآنية تتحدد معالمها في عصر التابعين وتابعيهم، وتتشكل اتجاهاتها الرئيسية، مستمدة مادتها من قراءات الصحابة الذين تشرفوا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتلقي القرآن منه، والذين خصهم الله تعالى برخصة التيسير في القراءة. ¬

_ (¬1) ابن الجزري: منجد المقرئين ص 8. (¬2) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 347. (¬3) ابن الجزري: منجد المقرئين ص 8.

أولا - الاختيار في القراءة

وكانت القراءات في القرن الأول تنسب إلى عدد من الصحابة، أو إلى المدن التي كانوا يسكنونها، فيقال: قراءة عبد الله بن مسعود أو قراءة أهل الكوفة، ويقال: قراءة زيد بن ثابت أو قراءة أهل المدينة، وهكذا في القراءات الأخرى، لكن القراءات صارت تنسب بعد عصر الصحابة إلى علماء القراءة من التابعين وتابعيهم، ليس لأنهم تركوا قراءات الصحابة وابتدعوا قراءات جديدة، بل لأن القارئ من التابعين أو من تابعيهم صار يدرس القراءات القرآنية في الأمصار ثم يختار من مجموع ما درسه قراءة يقرأ بها ويعلّمها، وعناصرها مستمدة من قراءات الصحابة، وإن صارت تنسب إلى القارئ الذي اختارها، وكان القراء السبعة من بين عدد من قراء التابعين وتابعي التابعين الذين اختار كل واحد منهم قراءة نسبت إليه، مستمدا مادتها من القراءات التي تلقّاها عن شيوخه. وسوف نعرض هذا الموضوع في فقرتين: الأولى عن الاختيار في القراءة، والثانية عن القراء السبعة. أولا- الاختيار في القراءة: إن الاستجابة لحاجات المجتمع الإسلامي في عصر الصحابة والتابعين كانت تقتضي السرعة في إنجاز الأعمال وتثبيتها في الواقع العلمي من غير أن يتطلب ذلك تدوينها في شكل دراسات نظرية، أو توثيقها بعد ذلك في سجلات تاريخية، ومن ثم فإن الحديث عن القراءات القرآنية في تلك الحقبة وتطورها قد لا يغطي كل تفصيلات ما قام به علماء القراءة آنذاك في كل الأمصار، ولذلك سوف أركز على تتبع الموضوع في المدينة والكوفة اللتين كانتا أكثر الأمصار الخمسة نشاطا علميا في ذلك الوقت، مع الإشارة إلى بعض الروايات الأخرى الموضحة للموضوع. كانت المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية الأولى، وكانت قراءة القرآن فيها تعرف بقراءة العامّة (¬1)، وقراءة الجماعة (¬2)، وقد تعرف بقراءة زيد بن ¬

_ (¬1) الزركشي: البرهان 1/ 237. (¬2) الباقلاني: نكت الانتصار ص 147.

ثابت (¬1)، لأنه كان معلّم أهل المدينة. ونقل أبو شامة عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: «كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون قراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان علي، رضي الله عنه، طول أيامه يقرأ في مصحف عثمان، ويتخذه إماما» (¬2). وكانت إلى جانب قراءة الجماعة قراءات أخرى، تنسب إلى بعض الصحابة، ولكن بعد أن أرسلت المصاحف في خلافة عثمان إلى الأمصار «قرأ أهل كل مصر من قراءاتهم التي كانوا عليها بما يوافق خط المصحف، وتركوا من قراءتهم ما خالف خط المصحف» (¬3). وكانت قراءة عبد الله بن مسعود، أو قراءة أهل الكوفة الأولى أشهر القراءات بعد قراءة الجماعة. قال ابن مجاهد: «وأما أهل الكوفة فكان الغالب على المتقدمين من أهلها قراءة عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، لأنه الذي بعث به إليهم عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، ليعلّمهم، فأخذت عنه قراءته قبل أن يجمع عثمان، رضي الله عنه، الناس على حرف واحد، ثم لم تزل في صحابته من بعده يأخذها الناس عنهم، كعلقمة، والأسود بن يزيد، ومسروق بن الأجدع، وزرّ بن حبيش، وأبي وائل، وأبي عمرو الشيباني، وعبيدة السلماني وغيرهم ... «فلم تزل قراءة عبد الله بالكوفة لا يعرف الناس غيرها، وأول من أقرأ بالكوفة القراءة التي جمع عثمان، رضي الله عنه، الناس عليها أبو عبد الرحمن السلمي، واسمه عبد الله بن حبيب، فجلس في المسجد الأعظم، ونصب نفسه لتعليم الناس القرآن، ولم يزل يقرئ بها أربعين سنة» (¬4). ¬

_ (¬1) أبو شامة: المرشد الوجيز ص 69. (¬2) المصدر نفسه ص 68. (¬3) مكي: الإبانة ص 29. (¬4) كتاب السبعة ص 66.

وانتشرت قراءة أهل المدينة في الكوفة، لا سيما بعد انتقال الإمام علي، رضي الله عنه، إليها، لكن أهل الكوفة لم يتركوا قراءة ابن مسعود دفعة واحدة، فقد ظلوا متمسكين بما يوافق خط المصحف منها، حتى كان سعيد بن جبير (ت 95 هـ) يؤمّ الناس في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت (¬1)، لكن معالم قراءة ابن مسعود كانت في طريقها إلى الاضمحلال، فقد قال سليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ): «أدركت الكوفة وما قراءة زيد فيهم إلا كقراءة عبد الله فيكم اليوم، ما يقرأها إلا الرجل والرجلان» (¬2). وإذا كنا نلاحظ أن قراءة ابن مسعود قد أخذت تختفي معالمها في أوائل القرن الثاني الهجري، فإن عناصر من تلك القراءة كانت قد دخلت في عدد من قراءات القراء المشهورين، خاصة ما يوافق خط المصحف منها، وهي تشكل أحد مصادر قراءة عاصم (ت 128 هـ) الذي قال: «ما أقرأني أحد حرفا إلا أبو عبد الرحمن السلمي، وكان أبو عبد الرحمن قد قرأ على علي، رضي الله عنه، وكنت أرجع من عند أبي عبد الرحمن فأعرض على زر بن حبيش، وكان زر قد قرأ على عبد الله» (¬3). فكانت قراءة عاصم إذن مختارة من قراءات شيوخه من التابعين. وقد عرفت ظاهرة تأليف القراءة على ذلك النحو بظاهرة الاختيار، فكان أئمة الإقراء في القرون الأولى يختارون قراءة من مجموع القراءات التي يروونها عن شيوخهم، ويعلّمون بها تلامذتهم. وهذه الظاهرة قديمة ترجع جذورها إلى عصر الصحابة، فقد ذكر ابن الجزري أن ابن عباس «كان يقرأ القرآن على قراءة زيد بن ثابت، إلا ثمانية عشر حرفا أخذها من قراءة ابن مسعود» (¬4). ¬

_ (¬1) الذهبي: معرفة القراء 1/ 57، وابن الجزري: غاية النهاية 1/ 305. (¬2) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 67. (¬3) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 70. (¬4) غاية النهاية 1/ 426.

وتسمية القراءة القرآنية باسم القارئ ليس مبنيا على أساس أنه اخترع تلك القراءة بل لأنه اختارها ودوام عليها وعلّمها، قال الدانيّ: «إن معنى إضافة ما أنزل الله تعالى إلى من أضيف إليه من الصحابة، كأبيّ وعبد الله وزيد وغيرهم، من قبل أنه كان أضبط له وأكثر قراءة وإقراء به، وملازمة له وميلا إليه، لا غير ذلك. وكذا إضافة أن ذلك القارئ وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة، وآثره على غيره، ودوام عليه ولزمه، حتى اشتهر به، وعرف به، وقصد فيه، وأخذ عنه، فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد» (¬1). وقد كان لمعظم علماء الإقراء في القرن الثاني الهجري اختيار في القراءة فكان نافع بن عبد الرحمن (ت 169 هـ) إمام أهل المدينة قد قال: «قرأت على سبعين من التابعين» (¬2)، وقال: «فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته وما شذّ فيه واحد تركته، حتى ألّفت هذه القراءة في هذه الحروف» (¬3). وكان علي بن حمزة الكسائي (ت 189 هـ) «قد قرأ على حمزة ونظر في وجوه القراءات، وكانت العربية علمه وصناعته، واختار من قراءة حمزة وقراءة غيره قراءة متوسطة، غير خارجة عن آثار من تقدم من الأئمة، وكان إمام الناس في القراءة في عصره» (¬4). وقال ابن النديم: «وكان الكسائي من قراء مدينة السلام، وكان أولا يقرئ بقراءة حمزة، ثم اختار لنفسه قراءة، فأقرأ بها الناس في خلافة هارون» (¬5). ¬

_ (¬1) جامع البيان ورقة 9 ظ، وابن الجزري: النشر 1/ 52. (¬2) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 62. (¬3) المصدر نفسه، ومكي: الإبانة ص 17. (¬4) كتاب السبعة ص 78. (¬5) الفهرست ص 30.

وصارت كلمة (اختيار) تساوي كلمة (قراءة)، فإذا قيل: اختيار حمزة فإنما ذلك يعني قراءته، لكن قراءات الصحابة لم تستخدم فيها كلمة اختيار، فكان يقال دائما قراءة ابن مسعود، وقراءة زيد وهكذا. وذكر ابن الجزري في كتابه (غاية النهاية في طبقات القراء) عشرات من اختيارات القراء، منها من غير اختيارات القراء السبعة اختيار خلف بن هشام (¬1)، واختيار يحيى بن مبارك اليزيدي (¬2)، واختيار أبي حاتم السجستاني (¬3)، واختيار أبي عبيد القاسم بن سلام (¬4). وذكر لبعض القراء اختيارين مثل محمد بن عيسى الأصبهاني (¬5). ولم تستمر ظاهرة الاختيار إلى أبعد من القرن الثالث، فقد ذكر الذهبي أنه «سأل رجل ابن مجاهد: لم لا يختار الشيخ حرفا يحمل عليه؟ فقال: نحن أحوج إلى أن نعمل أنفسنا في حفظ ما مضى عليه أئمتنا، أحوج منا إلى اختيار حرف يقرأ به من بعدنا» (¬6). وإذا كانت ظاهرة الاختيار في القراءة قد توقفت عند عصر ابن مجاهد (ت 324 هـ) فإنها أدت إلى ظهور عدد من القراءات التي صارت تنسب إلى علماء القراءة الذين عاشوا في القرن الثاني الهجري خاصة. كما أنها أدت إلى اختفاء قراءات الصحابة مثل قراءة زيد أو قراءة عبد الله، أو ما كان يعرف بقراءة أهل المدينة أو قراءة أهل الكوفة، لأن عناصر هذه القراءات قد دخلت في اختيارات القراء مختلطة بعضها ببعض، وأوضح مثال على ذلك قراءة عاصم الذي جمعت قراءته عناصر من قراءة زيد بن ثابت عن طريق أبي عبد الرحمن السلمي، وعناصر ¬

_ (¬1) غاية النهاية 1/ 154 و 2/ 49. (¬2) غاية النهاية 2/ 376. (¬3) غاية النهاية 1/ 146 و 148 و 429. (¬4) غاية النهاية 1/ 188 و 2/ 347. (¬5) غاية النهاية 1/ 9 و 2/ 61 و 197 و 223. (¬6) معرفة القراء 1/ 217.

ثانيا - القراء السبعة

من قراءة ابن مسعود عن طريق زر بن حبيش، فكانت ظاهرة الاختيار سبب اختفاء تلك القراءات بصورتها الأولى، وظهورها في قراءات القراء من تابعي التابعين. ثانيا- القراء السبعة: كان القرن الثاني الهجري عصر الاختيار في القراءة، وظهرت بسبب ذلك عشرات القراءات في الأمصار الإسلامية، وقد عمل علماء القراءة على جمع تلك القراءات في مؤلفاتهم، وقد أحصى أحد الباحثين قريبا من تسعين كتابا أو رسالة أو نسخة في القراءات القرآنية من بدء عصر التأليف حتى عصر ابن مجاهد المتوفى سنة 324 هـ (¬1). ولكن تلك المؤلفات لم يبق منها إلا أسماؤها أو إشارات مختصرة إليها، وأقدم كتاب في القراءات وصل إلينا هو كتاب السبعة في القراءات لأبي مجاهد الذي كان له أثر كبير في رواية القراءات ودراستها. ومن الإشارات المفيدة التي تخص المؤلفات القديمة في القراءات التي سبقت عصر ابن مجاهد ما ذكره ابن الجزري (ت 833 هـ) عن مناهج عدد من تلك المؤلفات وما ذكر فيها من القراء وقراءاتهم، حيث قال: «فكان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب أبو عبيد القاسم بن سلّام، وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئا مع هؤلاء السبعة، وتوفي سنة أربع وعشرين ومائتين. وكان بعده أحمد بن جبير بن محمد الكوفي، نزيل أنطاكية جمع كتابا في قراءات الخمسة من كل مصر واحد، وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائتين. وكان بعده القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي، صاحب قالون، ألّف كتابا في القراءات جمع فيه قراءة عشرين إماما منهم هؤلاء السبعة، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين. ¬

_ (¬1) عراك اسماعيل إبراهيم: القراءات القرآنية حتى عصر ابن مجاهد ص 156 - 168.

فكان من قراء المدينة

وكان بعده الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جمع كتابا حافلا سماه الجامع، فيه نيّف وعشرون قراءة (¬1)، توفي سنة عشر وثلاث مائة» (¬2). وليس في أيدي الدارسين اليوم تحديد لأسماء أولئك القراء الذين ضمت تلك المؤلفات قراءاتهم، لكن قطعة من كتاب القراءات لأبي عبيد نجت من التلف يمكن أن تكشف لنا عددا من تلك الأسماء، فقد نقل علم الدين السخاوي (ت 643 هـ) في كتابه (جمال القراء) نصا طويلا من كتاب القراءات لأبي عبيد، من المحتمل أن يكون جزءا من مقدمة ذلك الكتاب، وجاء فيه ذكر لأسماء القراء من الصحابة ثم التابعين في الأمصار الخمسة، ثم قال أبو عبيد بعد ذلك: «فهؤلاء الذين سميناهم من الصحابة والتابعين هم الذين يحكى عنهم عظم القراءة، وإن كان الغالب عليهم الفقه والحديث. قال: ثم قام من بعدهم بالقرآن قوم ليست لهم أسنان من ذكرنا ولا قدمتهم، غير أنهم تجردوا للقراءة، واشتدت بها عنايتهم ولها طلبهم، حتى صاروا بذلك أئمة يأخذها الناس عنهم ويقتدون بهم فيها، وهم خمسة عشر رجلا من هذه الأمصار المسماة، في كل مصر منهم ثلاثة رجال: فكان من قراء المدينة: 1 - أبو جعفر القارئ، واسمه يزيد بن القعقاع [ت 130 هـ] (¬3) مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي. 2 - وشيبة بن نصاح [ت 130 هـ على خلاف]، مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. 3 - ونافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم [ت 169 هـ]. ¬

_ (¬1) قال ياقوت (معجم الأدباء 18/ 65): «أن الطبري بنى كتابه على كتاب أبي عبيد». (¬2) النشر 1/ 34 - 35. (¬3) أضفت تواريخ الوفيات إلى النص.

وكان من قراء مكة

وكان أقدم هؤلاء الثلاثة أبو جعفر، قد كان يقرئ الناس بالمدينة قبل وقعة الحرّة [سنة 63 هـ]، حدثنا ذلك اسماعيل بن جعفر عنه، ثم كان بعده شيبة على مثل منهاجه ومذهبه، ثم ثلثهما نافع بن أبي نعيم، وإليه صارت قراءة أهل المدينة، وبها تمسكوا إلى اليوم، فهؤلاء قراء أهل الحجاز في دهرهم. وكان من قراء مكة: 1 - عبد الله بن كثير [ت 120 هـ]. 2 - وحميد بن قيس الذي يقال له الأعرج [ت 130 هـ]. 3 - ومحمد بن محيصن [ت 123 هـ]. وكان أقدم هؤلاء الثلاثة ابن كثير، وإليه صارت قراءة أهل مكة، وأكثرهم به اقتدوا فيها. وكان حميد بن قيس قرأ على مجاهد قراءته فكان يتبعها لا يكاد يعدوها إلى غيرها، وكان ابن محيصن أعلمهم بالعربية وأقواهم عليها، فهؤلاء قراء أهل لمكة في زمانهم. وكان من قراء الكوفة: 1 - يحيى بن وثاب [ت 103 هـ]. 2 - وعاصم بن أبي النّجود [ت 128 هـ]. 3 - والأعمش [ت 148 هـ]. وكان أقدم هؤلاء الثلاثة وأعلاهم يحيى، يقال: إنه قرأ على عبيد بن نضلة صاحب عبد الله، ثم تبعه عاصم، وكان أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش ثم كان الأعمش فكان إمام الكوفة المقدم في زمانه عليهم، حتى بلغ إلى أن قرأ عليه طلحة بن مصرف، وكان أقدم من الأعمش. فهؤلاء الثلاثة رؤساء الكوفة في القراءة، ثم تلاهم: 4 - حمزة بن حبيب الزيات [ت 156 هـ] رابعا، وهو الذي صار عظم أهل الكوفة

وكان من قراء أهل البصرة

إلى قراءته، من غير أن تطبق عليه جماعتهم، وكان ممن اتبع حمزة في قراءته سليم بن عيسى ومن وافقه. وكان ممن فارقه أبو بكر بن عياش فإنه اتبع عاصما ومن وافقه. 5 - وأما الكسائي [ت 189 هـ] فإنه كان يتخير القراءات، فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضا. فهؤلاء قراء أهل الكوفة. وكان من قراء أهل البصرة: 1 - عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي [ت 117 هـ]. 2 - وأبو عمرو بن العلاء [ت 154 هـ]. 3 - وعيسى بن عمر الثقفي [ت 149 هـ]. وكان أقدم الثلاثة ابن أبي إسحاق، وكانت قراءته مأخوذة عن يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم. وكان عيسى بن عمر عالما بالنحو، غير أنه كان له اختيار في القراءة على مذهب العربية يفارق قراءة العامة، ويستنكرها الناس، وكان الغالب عليه حب النصب ما وجد إلى ذلك سبيلا، منه قوله: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) [المسد]، والزَّانِيَةُ وَالزَّانِي (2) [النور]، ووَ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ (38) [المائدة]، وكذلك قوله: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ (78) [هود]. والذي صار إليه أهل البصرة في القراءة، فاتخذوه إماما أبو عمرو بن العلاء. فهؤلاء قراء أهل البصرة. 4 - وقد كان لهم رابع، وهو عاصم الجحدري [ت 128 هـ] لم يرو عنه في الكثرة ما روي عن هؤلاء الثلاثة. وكان من قراء أهل الشام: 1 - عبد الله بن عامر اليحصبي [ت 118 هـ]. 2 - ويحيى بن الحارث الذماري [ت 145 هـ].

3 - وثالث قد سمي لي بالشام، ونسيت اسمه (¬1). فكان أقدم هؤلاء الثلاثة عبد الله بن عامر، وهو إمام أهل دمشق في دهره، وإليه صارت قراءتهم، ثم اتبعه يحيى بن الحارث، وخلفه في القراءة وقام مقامه. وقد ذكروا الثالث بصفة لا أحفظها. فهؤلاء قراء أهل الأمصار الذين كانوا بعد التابعين» (¬2). ثم إن القراء بعد هؤلاء كثروا، وتفرقوا في البلاد، وانتشروا، وخلفهم أمم بعد أمم، عرفت طبقاتهم واختلفت صفاتهم، فمنهم المحكم للتلاوة المعروف بالرواية والدراية، ومنهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف (¬3)، فلما كان العصر الرابع سنة ثلاث مائة وما قاربها كان أبو بكر بن مجاهد، رحمه الله، قد انتهت إليه الرئاسة في علم القراءة، وتقدم في ذلك على أهل ذلك العصر، اختار من القراءة ما وافق خط المصحف، ومن القراء بها من اشتهرت قراءته، وفاقت معرفته، وتقدّم أهل زمانه في الدين والأمانة والمعرفة والصيانة، واختاره أهل عصره في هذا الشأن، وأطبقوا على قراءته، ز وقصد من سائر الأقطار، وطالت ممارسته للقراءة والإقراء، وخصّ في ذلك بطول البقاء ... فاختار هؤلاء القراء السبعة أئمة الأمصار، فكان أبو بكر، رحمه الله، أول من اقتصر على هؤلاء السبعة، وصنّف كتابه في قراءتهم، واتبعه الناس على ذلك (¬4). قال ابن مجاهد في مقدمة كتاب السبعة: «فهؤلاء سبعة نفر من أهل الحجاز ¬

_ (¬1) قال علم الدين السخاوي (جمال القراء 2/ 431): «هو خليد بن سعد صاحب أبي الدرداء»، وقال أبو شامة (المرشد الوجيز ص 165): «وعندي أنه عطية بن قيس الكلابي (ت 121 هـ) أو اسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر (ت 131 هـ) فإن كل واحد منهما كان قارئا للجند ... ». (¬2) جمال القراء 2/ 428 - 431. (¬3) أبو شامة: المرشد الوجيز ص 165. (¬4) السخاوي: جمال القراء 2/ 432، وأبو شامة: المرشد الوجيز ص 160.

والعراق والشام، خلفوا في القراءة التابعين، وأجمعت على قراءتهم العوام من أهل كل مصر من هذه الأمصار التي سمّيت وغيرها من البلدان التي تقرب من هذه الأمصار» (¬1). والقراء السبعة الذين اختارهم ابن مجاهد وأورد قراءتهم في كتابه (السبعة) هم: 1 - أبو عبد الرحمن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم (ت 169 هـ) قارئ أهل المدينة. 2 - عبد الله بن كثير (ت 120 هـ) قارئ أهل مكة. 3 - أبو بكر عاصم بن أبي النجود (ت 128 هـ) قارئ أهل الكوفة. 4 - حمزة بن حبيب الزيات (ت 156 هـ) من الكوفة أيضا. 5 - علي بن حمزة الكسائي (ت 189 هـ) نشأ بالكوفة ثم انتقل إلى بغداد، وتوفي في قرية من قرى الري. 6 - أبو عمرو بن العلاء (ت 154 هـ) قارئ أهل البصرة. 7 - عبد الله بن عامر اليحصبي (ت 118 هـ) قارئ أهل الشام. وكان لعمل ابن مجاهد هذا تأثير كبير على دراسة القراءات وروايتها، فصارت أكثر كتب القراءات تؤلف في وصف القراءات السبع، وقد رسّخ ابن مجاهد اتجاها جديدا في النظر إلى القراءات حين ألّف كتابا آخر جمع فيه (شواذ القراءة) (¬2)، فأحدث ذلك شعورا بأن ما عدا القراءات السبع يعد شاذّا (¬3). لكن بعض المؤلفين الذين جاءوا بعد ابن مجاهد ألحق بالسبعة ثلاثة من القراء هم: 1 - أبو جعفر القارئ (ت 130 هـ) المدني شيخ نافع. ¬

_ (¬1) كتاب السبعة ص 87. (¬2) ابن جني: المحتسب 1/ 25. (¬3) ابن النديم: الفهرست ص 33.

2 - يعقوب بن إسحاق الحضرمي (ت 205 هـ) تلميذ أبي عمرو بن العلاء. 3 - خلف بن هشام (ت 229 هـ) أخذ القراءة عن تلامذة حمزة. فظهر مصطلح القراءات العشر. وظهر عدد من الكتب في وصف هذه القراءات. ولعل أشهر الكتب المؤلفة في القراءات السبع في زماننا كتاب (السبعة في القراءات) لأبي بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد (ت 324 هـ)، وكتاب (التيسير في القراءات السبع) لأبي عمرو الداني (ت 444 هـ)، الذي نظمه أبو محمد القاسم بن فيرة الشاطبي (ت 590 هـ) في منظومته اللامية الشهيرة المسماة (حرز الأماني ووجه التهاني) التي شرحت شروحا كثيرة (¬1). ومن أشهر الكتب المؤلفة في القراءات العشر كتاب (النشر في القراءات العشر) لابن الجزري (ت 833 هـ)، وألف الشيخ أحمد بن محمد الدمياطي الشهير بالبناء (ت 1117 هـ) كتابه (اتحاف فضلاء البشر بقراءات الأربعة عشر) ذكر فيه قراءات الأئمة العشرة إضافة إلى قراءة محمد بن محيصن (ت 123 هـ) ويحيى بن المبارك اليزيدي (ت 202 هـ) والحسن البصري (ت 110 هـ) وسليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ). ومن المناسب الإشارة هنا إلى أن القراءات السبع لا تعني الأحرف السبعة الواردة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه»، فهذا الحديث يشير إلى الرخصة في القراءة التي أذن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة في زمانه، أما القراءات السبع فهي اختيارات سبعة من علماء القراءة الذين عاشوا في القرن الثاني الهجري والذين أفرد ابن مجاهد قراءاتهم في كتاب مستقل، وهذه القراءات وغيرها هي النتيجة العملية لرخصة الأحرف السبعة. وقال مكي بن أبي طالب: «فأما من ظن أن قراءة كل واحد من هؤلاء القراء ¬

_ (¬1) حاجي خليفة: كشف الظنون 1/ 646 - 649.

المبحث السادس القراءة الصحيحة والقراءة الشاذة

كنافع وعاصم وأبي عمرو، أحد الحروف السبعة التي نص النبي صلى الله عليه وسلم عليها، فذلك منه غلط عظيم» (¬1). وكان بعض العلماء قد كره اقتصار ابن مجاهد على سبعة من القراء، وقال لو اقتصر على دون هذا العدد أو زاد عليه، حتى لا يظنّ أن المقصود بهذه القراءات الحروف السبعة (¬2). فالقراءات السبع إذن هي قراءات سبعة من علماء القراءة الذين عاشوا في القرن الثاني الهجري، وكان ابن مجاهد (ت 324 هـ) أول من سبّع السبعة (¬3)، أي أنه أول ميّزهم وأفرد قراءاتهم في كتاب مستقل، وكانوا قد أخذوا قراءاتهم عن علماء القراءة من التابعين الذين تلقوها عن الصحابة، رضي الله عنهم، وكان علماء القراءة يستندون إلى ضوابط وشروط يرجعون إليها في تمييز القراءة الصحيحة المقبولة مثل القراءات السبع، والقراءات الشاذة التي لا تجوز القراءة بها، وهو ما سنحاول توضيحه في المبحث الآتي إن شاء الله. المبحث السادس القراءة الصحيحة والقراءة الشاذة إن القراءات القرآنية التي تلقاها التابعون عن الصحابة، رضي الله عنهم، كانت موضع عناية علماء القراءة من تابعي التابعين، الذين اختار كل واحد منهم قراءة من مجموع ما تلقاه عن شيوخه من القراءات المروية، على نحو ما بيّنا في المباحث السابقة، وانتشرت في كل مصر من الأمصار الإسلامية قراءة من تلك القراءات، وكان ما قام به ابن مجاهد من اختياره سبع قراءات مشهورة وتضمينها ¬

_ (¬1) الإبانة ص 5. (¬2) ابن الجزري: النشر 1/ 36. (¬3) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 139.

أولا - القراءة الصحيحة

في كتابه (السبعة) وإدراج ما عداها في كتاب (شواذ القراءة) - قد رسّخ فكرة تقسيم القراءات إلى صحيحة وشاذة، وكان هذا التقسيم يستند إلى أسس وضوابط كان علماء القراءة يستهدون بها وهم يروون القراءات أو يؤلفونها في الكتب. وهذا توضيح للمراد بالقراءة الصحيحة والشروط التي يجب أن تتوفر فيها، والمقصود بالقراءة الشاذة، ومتى تعد القراءة شاذة. أولا- القراءة الصحيحة: وهي القراءة التي تصح بها القراءة في المصحف ويقرأ بها القرآن في الصلاة، وقد أجمع العلماء على صحة القراءات السبع التي اختارها ابن مجاهد وتواترها (¬1)، لتوفر شروط الصحة فيها، تلك الشروط التي كان علماء القراءة يستندون إليها في تمييز القراءات منذ بدء عصر التأليف في هذا العلم. فهذا أبو عبيد القاسم بن سلّام (ت 224 هـ)، وهو أول من ألّف كتابا جامعا في القراءات، يشير إلى شروط القراءة الصحيحة الثلاثة، كما نقل ذلك عنه أبو بكر الأنباري وهو يوضح رأيه في كيفية الوقف على هاء السكت في مثل قوله تعالى: (يتسنّه، واقتده، وحسابيه، وماهيه) يقول أبو عبيد: «الاختيار عندي في هذا الباب كله الوقوف عليها بالهاء، بالتعمد لذلك، لأنها إن أدرجت في القراءة مع إثبات الهاء كان خروجا من كلام العرب، وإن حذفت في الوصل كان خلاف الكتاب، فإذا صار قارئها إلى السكت عندها على ثبوت الهاءات اجتمعت له المعاني الثلاثة: أن يكون مصيبا في العربية. وموافقا للخط. وغير خارج من قراءة القراء» (¬2). ¬

_ (¬1) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 78، والسيوطي: الإتقان 1/ 222، وابن خلدون: المقدمة ص 437. (¬2) إيضاح الوقف والابتداء 1/ 311.

1 - الرواية وصحة السند

وقال مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437 هـ): «إن جميع ما روي من القراءات على ثلاثة أقسام: قسم يقرأ به اليوم، وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال، وهي: أن ينقل عن الثقات إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن شائعا، ويكون موافقا لخط المصحف» (¬1). وقال ابن الجزري (ت 833 هـ): «كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها» (¬2). وإليك بيانا موجزا لهذه الأركان أو الشروط الثلاثة: 1 - الرواية وصحة السند: المقصود بهذا الركن أن تكون القراءة مروية عن واحد أو أكثر من الصحابة الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وقرءوا بين يديه (¬3)، وهو أهم أركان القراءة الصحيحة (¬4)، وكان السلف من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم يعبّرون عن هذا الركن بقولهم (القراءة سنّة)، فقد روى ابن مجاهد عن زيد بن ثابت أنه قال: «القراءة سنّة» وفي رواية أخرى: «القراءة سنة، فاقرءوه كما تجدونه»، وروى عن عروة بن الزبير أنه قال: «إن قراءة القرآن سنة من السنن، فاقرءوا كما أقرئتموه»، وعن عامر الشعبي أنه قال: «القراءة سنة، فاقرءوا كما قرأ أوّلوكم»، ¬

_ (¬1) الإبانة ص 8. (¬2) النشر 1/ 9. (¬3) المصدر نفسه 1/ 13. (¬4) السيوطي: الإتقان 1/ 213.

وعن محمد بن المنكدر أنه قال: «القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول» (¬1). وقال أبو عمرو الداني: «والأخبار الواردة عن السلف والأئمة والعلماء في هذا المعنى كثيرة» (¬2). وفي كتب القراءات وأخبار القراء أمثلة كثيرة وشواهد متعددة على أن القراءات منقولة نقلا وليس من اجتهاد القراء، فهذا أبو عمرو بن العلاء (ت 154 هـ) كان إمام أهل البصرة في اللغة والنحو، وهو أحد القراء السبعة، كان «لا يقرأ بما لم يتقدمه فيه أحد» وكان يقول: لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قرئ به لقرأت حرف كذا وكذا، وحرف كذا وكذا» (¬3). وحين سأله تلميذه أبو زيد اللغوي «أكلّ ما أخذته وقرأت به سمعته؟ قال: لو لم أسمعه لم أقرأ به، لأن القراءة سنة» (¬4). وكان علماء اللغة والنحو والتفسير يرددون مع علماء القراءة أن القراءة سنة، فقال سيبويه: «إن القراءة لا تخالف لأنها السّنّة» (¬5). وقال أبو علي النحوي: «وليس كل ما جاز في قياس العربية تسوغ التلاوة به، حتى ينضم إلى ذلك الأثر المستفيض بقراءة السلف له وأخذهم به، لأن القراءة سنة» (¬6). وقال القسطلاني: «الإسناد أعظم مدارات هذا الفن، لأن القراءات سنة متبعة ونقل محض (¬7). ولذلك لا بد في القراءة من المشافهة والسماع (¬8). فلو ¬

_ (¬1) كتاب السبعة ص 49 - 55. (¬2) جامع البيان 12 ظ. (¬3) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 48. (¬4) مكي: التبصرة ص 235. (¬5) الكتاب 1/ 148. (¬6) الحجة 1/ 29. (¬7) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 172. (¬8) ابن الجزري: النشر 2/ 358.

2 - موافقة خط المصحف

حفظ إنسان الشاطبية مثلا فليس له أن يقرئ بما فيها إن لم يشافهه من شوفه به، لأن في القراءات شيئا لا يحكم إلا بالسماع والمشافهة (¬1). وكل ما سبق يؤكد على أن القراءات لم تكن نتيجة اجتهاد القراء، بل هي مروية عن الصحابة الذين تلقوا القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ابن الجزري: «إن من يزعم أن أئمة القراءة ينقلون حروف القرآن من غير تحقيق ولا بصيرة فقد ظن بهم ما هم منه مبرءون وعنه منزهون» (¬2)، وقال أيضا: «نعوذ بالله من قراءة القرآن بالرأي والتشهي، وهل يحل لمسلم القراءة بما يجد في الكتابة من غير نقل؟» (¬3). 2 - موافقة خط المصحف: المقصود بخط المصحف هجاء الكلمات في المصاحف العثمانية، أي الحروف التي رسمت، وهو يمثل ألفاظ الوحي كما نطقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأملاها على كتّاب الوحي، قال مكي: «فلما كتب عثمان المصاحف، ووجهها إلى الأمصار، وحملهم على ما فيها، وأمرهم بترك ما خالفها، قرأ أهل كل مصر مصحفهم الذي وجّه إليهم على ما كانوا يقرءون قبل وصول المصحف إليهم مما يوافق خط المصحف، وتركوا من قراءتهم التي كانوا عليها مما يخالف خط المصحف» (¬4). ولما كان خط المصاحف القديمة مجردا من علامات الحركات ومن نقاط الإعجام فقد ساعد ذلك على الاحتفاظ بقراءات الأمصار التي لا تقتضي تغيير رسم الكلمات، فثبت أهل كل مصر من الأمصار على ما تلقوه من قراءات موافقة للخط، وتركوا ما كان من القراءات خارجا عن خط المصاحف، مما كان مرخصا بقراءته برخصة الأحرف السبعة، قبل أن يجمع عثمان، رضي الله عنه، ¬

_ (¬1) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 171. (¬2) النشر 2/ 214. (¬3) المصدر نفسه 2/ 263. (¬4) الإبانة: ص 16.

الأمة على المصاحف التي أمر بانتساخها من الصحف التي جمع فيها القرآن في خلافة الصديق. وهكذا صارت موافقة القراءة لخط المصحف ركنا ثانيا من أركان القراءة الصحيحة، و «اجتمع القراء على ترك كل قراءة تخالف المصحف» (¬1). فالقراءات القرآنية المروية عن الصحابة نقلها عنهم التابعون، لكن ما كان مخالفا لخط المصحف صار يعدّ شاذا لا يقرأ به، قال الزجاج: «القراءة بخلاف ما في المصحف لا تجوز، لأن المصحف مجمع عليه، ولا يعارض الإجماع برواية لا يعلم كيف صحتها» (¬2). وقد استخدم هذا الركن في الحكم على قراءة بكاملها، فقد قال ابن الجزري عن قراءة محمد بن محيصن المكي: «ولولا ما فيها من مخالفة المصحف لألحقت بالقراءات المشهورة» (¬3). ويتضح أثر شرط موافقة القراءة لخط المصحف من موقف علماء القراءة مما أقدم عليه محمد بن أحمد بن أيوب المعروف بابن شنبوذ (ت 328 هـ) فقد «كان يرى جواز القراءة بما صح سنده، وإن خالف رسم المصحف» (¬4). وكان قد ناهضه إمام القراءة في عصره ببغداد أبو بكر بن مجاهد بسبب قراءاته تلك، وعقد له الوزير ابن مقلة مجلسا بحضور ابن مجاهد وجماعة من العلماء والقضاة وكتب عليه فيه المحضر، واستتيب عن مذهبه بعد اعترافه به (¬5). وأورد ابن النديم نص كتاب رجوع ابن شنبوذ عن مذهبه في القراءة بما خالف خط المصحف، وهو: «يقول محمد بن أحمد بن أيوب: قد كنت أقرأ ¬

_ (¬1) أبو بكر الأنباري: إيضاح الوقف 1/ 282. (¬2) معاني القرآن وإعرابه 1/ 374 وينظر 1/ 97 و 219. (¬3) غاية النهاية 2/ 167. (¬4) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 105. (¬5) الذهبي: معرفة القراء 1/ 223، وابن الجزري: غاية النهاية 2/ 54.

حروفا تخالف ما في مصحف عثمان المجمع عليه، والذي اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراءته، ثم بان لي أن ذلك خطأ، وأنا منه تائب، وعنه مقلع، وإلى الله، جلّ اسمه، منه بريء، إذ كان مصحف عثمان هو الحق الذي لا يجوز خلافه، ولا أن يقرأ بغير ما فيه» (¬1). ولم يكن خط المصحف القديم سببا لنشأة القراءات أو وجودها، كما حاول بعض المستشرقين ومن قلدهم أن يصوروا ذلك (¬2)، لأن تعلم القرآن وقراءته كان يستند إلى التلقي الشفهي في عصر النبوة وما بعده، فكان «الاعتماد في نقل القرآن على حفظ المصاحف والكتب» (¬3). وكان تعدد وجوه القراءة معروفا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وجود المصاحف، فكانت قراءة الصحابة متعددة بفضل رخصة الأحرف السبعة، وإلى جانب ذلك كله فإن من القراءات ما كان مخالفا لخط المصحف، ولو كان الخط سببا لوجود القراءات لانحصرت القراءات فيما يحتمله الخط. فلم يكن خط المصحف إذن سببا في وجود القراءات القرآنية أو اختلافها، ولكن الخط كان سببا في حفظ الاختلاف الموجود أصلا، لأن القراءة سنة متبعة (¬4). وكان الخط حين عدّت موافقته شرطا في قبول القراءة مقياسا يمنع ما لا يدخل في نطاقه مما صح من الروايات، فالرسم لا ينشئ القراءة ولكنه يحكم عليها (¬5). ولو كان خط المصاحف هو السبب في نشأة القراءات كما يزعم هؤلاء لوجب قبول كل قراءة احتملها خط المصحف، فما دامت القراءات هي اجتهاد القراء- بزعمهم- في قراءة المرسوم فإنه لا فضل للواحدة منها على الأخرى، ¬

_ (¬1) الفهرست ص 35. (¬2) مثل جولد تسيهر: مذاهب التفسير الإسلامي ص 8 - 9، وبروكلمان: تاريخ الأدب العربي 1/ 40، وعبد الله خورشيد: القرآن وعلومه في مصر 9. (¬3) ابن الجزري: النشر 1/ 6. (¬4) عبده الراجحي: اللهجات العربية في القراءات القرآنية ص 71. (¬5) عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية ص 210.

وفي قصة حماد الراوية (ت 155 هـ) (¬1)، الذي كان مشغولا برواية الشعر عن تعلم قراءة القرآن، فلما أراد أن يحفظ القرآن قرأه في الصحف، قال أبو أحمد العسكري: «روى الكوفيون أن حمادا الراوية كان حفظ القرآن من المصحف، فكان يصحّف نيفا وثلاثين حرفا» (¬2). وقد تناقلت كتب التصحيف وغيرها أمثلة مما صحّفه حماد على سبيل التمثيل والحذير من الوقوع فيما وقع فيه، فمن ذلك أنه قرأ (¬3): وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ (68) [النحل] فصحفها إلى: النخل، بالخاء. وبَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) [ص] صحفها إلى: غرة، بالراء. ولِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) [عبس] صحفها إلى: يعنيه بالعين. ويدل موقف العلماء من حماد الراوية أن القراءات الصحيحة التي اشتهر القراء السبعة وغيرهم ليست ناشئة عن الخط، وإلّا لكان حماد أحد القراء المشهورين، بدل أن كان مثالا لسوء التدبير وعدم اتباع منهج علماء القراءة بتعليم القرآن مشافهة من العلماء بالقراءة. وتعبر عن هذه القضية كلمة قالها الناس في الزمن الأول، وهي: «لا تأخذوا القرآن من مصحفيّ، ولا العلم عن صحفيّ» (¬4). فالمصحفي هو «من لم يقرأ القرآن على القراء ويتعلم من ألفاظهم» (¬5). وإنما اعتمد على القراءة في المصحف فقط، وأما الصحفي فهو الذي يروي العلم من الصحف فيخطئ في قراءة الصحف لاشتباه الحروف (¬6). ¬

_ (¬1) ينظر عنه: الزركلي: الأعلام 2/ 271. (¬2) شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف ص 12. (¬3) ينظر: حمزة الأصفهاني: التنبيه ص 38 (ط بغداد)، والعسكري: تصحيفات المحدثين ص 33. (¬4) العسكري: شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف ص 13. (¬5) العطار؛ التمهيد 127 و. (¬6) الخليل: العين 3/ 120.

3 - موافقة العربية

3 - موافقة العربية: كانت القراءات القرآنية موجودة قبل تدوين قواعد اللغة وظهور كتب النحو في القرن الثاني الهجري، فالقراءات ترجع إلى عصر النبوة حين تلقى الصحابة القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت شروط القراءة الصحيحة تقتصر على أن تكون مروية وموافقة لخط المصحف، ولكن بعد أن استقرت قواعد النحاة أضاف بعض العلماء شرطا ثالثا للقراءة الصحيحة، وهو أن تكون موافقة للعربية، ولا شك في أن هذا الشرط متحقق في القراءات القرآنية لكن عددا محدودا جدا من الكلمات التي قرأها بعض القراء قراءة لا توافق القواعد اللغوية العامة، وعدّها بعض النحاة شاذة مخالفة لقياس العربية. والذي أجمع عليه علماء القراءة وعلماء العربية هو أن القراءة لا تجوز بالقياس ولا بالاجتهاد، ولا بد فيها من صحة النقل أولا وموافقة خط المصحف ثانيا، لكن النحاة اشترطوا أن تكون القراءة موافقة للكثير من كلام العرب، ولا يكتفون بصحة الرواية، ومن ثم وصفوا بعض القراءات بالضعف أو الشذوذ، وهو موقف لا يرتضيه علماء القراءة، لأن القواعد التي وضعها النحاة جاءت لاحقة، ووضعت لغرض تعليمي يستند إلى الظواهر المطردة ولا يعنى كثيرا بالظواهر المنفردة، والقراءات مهما كان موقف النحويين منها فإنها أكثر تعبيرا عن واقع العربية في فترة ظهور الإسلام، من حيث الأصوات والمفردات والتراكيب. وقد قال الداني كلمة موجزة تعبر عن موقف القراء من هذه القضية، وهي قوله: «وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت لا يردّها قياس عربية ولا فشوّ لغة، لأن القراءة سنّة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها» (¬1). ¬

_ (¬1) جامع البيان ورقة 171 و.

وحاول ابن الجزري (ت 833 هـ) أن يصوغ شرط موافقة القراءة لقواعد العربية صياغة فيها مرونة فقال: «كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه» (¬1) ثم شرح ذلك بقوله: «وقولنا في الضابط (ولو بوجه) نريد به وجها من وجوه النحو سواء كان أفصح أم فصيحا، مجمعا عليه أم مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله، إذا كانت القراءة مما شاع وذاع، وتلقاه الأئمة بالإسناد الصحيح، إذ هو الأصل الأعظم والركن الأقوم، وهذا هو المختار عند المحققين في ركن موافقة العربية» (¬2). وبجانب ذلك فإن العلماء مجمعون على أن القراءة لا تصح مهما كانت قوتها في العربية إذا لم تكن مروية، وفي قصة ابن محيصن، وعيسى بن عمر، وابن مقسم العطار، دليل قاطع على أن القراءات لا مجال فيها للاجتهاد والرأي. أما ابن محيصن (وهو محمد بن عبد الرحمن بن محيصن ت 123 هـ) فإنه كان أحد قراء مكة في زمانه، وكان أعلمهم بالعربية، وقال ابن مجاهد: «كان لابن محيصن اختيار في القراءة على مذهب العربية، فخرج به عن إجماع أهل بلده، فرغب الناس عن قراءته وأجمعوا على قراءة ابن كثير لاتباعه» (¬3). وكان عيسى بن عمر الثقفي النحوي البصري (ت 149 هـ) له اختيار في القراءة على قياس العربية (¬4)، وقال أبو عبيد: «وكان عيسى بن عمر عالما بالنحو، غير أنه كان له اختيار في القراءة على مذاهب العربية، يفارق قراءة العامة، ويستنكرها الناس» (¬5). وأما ابن مقسم العطار (وهو محمد بن الحسن البغدادي ت 354 هـ) فإنه ¬

_ (¬1) النشر 1/ 9. (¬2) المصدر نفسه 1/ 10. (¬3) ابن الجزري: غاية النهاية 2/ 167. (¬4) المصدر نفسه 1/ 613. (¬5) السخاوي؛ جمال القراء 2/ 430.

ثانيا - القراءة الشاذة

كان «من أحفظ الناس لنحو الكوفيين وأعرفهم بالقراءات وله في التفسير ومعاني القرآن كتاب جليل سماه كتاب الأنوار وله أيضا في القراءات وعلوم النحو تصانيف عدة» (¬1). ولكنه على جلالة قدره وسعة علمه «عمد إلى حروف من القرآن فخالف الإجماع وقرأها وأقرأها على وجوه ذكر أنها تجوز في اللغة العربية، وشاع ذلك عنه عند أهل العلم فأنكروه عليه، وارتفع الأمر إلى السلطان، فأحضره واستتابه بحضرة القراء والفقهاء فأذعن بالتوبة، وكتب محضر توبته، وأثبت من حضر ذلك المجلس خطوطهم فيه بالشهادة عليه» (¬2). ثانيا- القراءة الشاذة: القراءة الشاذة هي التي نقلت عن علماء القراءة الأوائل من الصحابة والتابعين لكنها مخالفة لخط المصاحف العثمانية، فقد كان المسلمون يقرءون القرآن قبل نسخ المصاحف في خلافة عثمان، رضي الله عنه، على وجوه من النطق، وكان بعض تلك الوجوه يخالف خط المصحف، ثم ترك الناس، كل قراءة خارجة عن الخط بعد نسخ المصاحف وإرسالها إلى الأمصار الإسلامية، وقرءوا بالوجوه التي يحتملها الخط من القراءات التي قرأ بها الصحابة، رضي الله عنهم. وقد سمّيت القراءات المخالفة لخط المصحف بالقراءات الشاذة لأنها جاءت مخالفة لما أجمعت عليه الأمة من نص القرآن الذي نقل بالتواتر، قال علم الدين السخاوي: الشاذ مأخوذ من قولهم شذّ الرجل يشذّ شذوذا، إذا انفرد عن القوم، والذي لم يزل عليه الأئمة الكبار القدوة في جميع الأمصار من الفقهاء والمحدثين وأئمة العربية توقير القرآن واجتناب الشاذ واتباع القراءة المشهورة ولزوم الطرق المعروفة (¬3). ¬

_ (¬1) الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 2/ 206. (¬2) المصدر نفسه 2/ 206 - 207. (¬3) جمال القراء 1/ 234.

وقال أبو منصور الأزهري: «من قرأ بحرف شاذ يخالف المصحف وخالف بذلك جمهور القراء المعروفين فهو غير مصيب، وهذا مذهب الراسخين في علم القرآن قديما وحديثا» (¬1). وتلك القراءات المخالفة لخط المصحف التي قرأ بها الصحابة هي جزء من رخصة الأحرف السبعة التي رخص لهم بها النبي صلى الله عليه وسلم لكن الإجماع على المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان صيّر تلك القراءات كأنها منسوخة (¬2)، وظل كثير من علماء السلف ينقلونها للاستشهاد لا للقراءة، فالفقيه والمفسر واللغوي يذكرونها في كتبهم للاستدلال بها على أمر أو استنباط حكم، أما القراءة بها فمتروكة، لأنهم أجمعوا على تحريم القراءة بالشواذ (¬3). ولم تحظ القراءات الشاذة بعناية علماء القراءة كما حظيت القراءات الصحيحة التي نقلت نقلا متواترا، ومن ثمّ تشكك كثير من العلماء في صحة ما يروى من تلك القراءات، قال إسماعيل القاضي (ت 282 هـ) في كتابه في القراءات: «فإذا اختار الإنسان أن يقرأ ببعض القراءات التي رويت مما يخالف خط المصحف صار إلى أن يأخذ القراءة برواية واحد عن واحد، وترك ما تلقته الجماعة عن الجماعة» (¬4). وقال أبو عمرو بن العلاء: «إني أتّهم الواحد الشاذ إذا جاء على خلاف ما جاءت به العامة» (¬5). وكان هارون بن موسى العتكي البصري (ت قبل 200 هـ) أول من اهتم بالقراءات الشاذة في البصرة، قال أبو حاتم السجستاني البصري (ت 255 هـ): ¬

_ (¬1) تهذيب اللغة 5/ 14. (¬2) مكي: الإبانة ص 10. (¬3) القسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 72 - 73. (¬4) نقلا عن: مكي: الإبانة ص 21. (¬5) أبو شامة: المرشد ص 181.

«كان أول من سمع بالبصرة وجوه القراءات وألّفها وتتبع الشاذ منها، فبحث عن إسناده هارون بن موسى الأعور، وكان من القراء، فكره الناس ذلك، وقالوا قد أساء حين ألّفها ... » (¬1). قال الأصمعي (ت 215 هـ): «كنت أشتهي أن يضرب مكان تأليفه الحروف» (¬2). وكما تشكك بعض العلماء في صحة نقل تلك القراءات فإن بعضا منهم حمل القراءات الشاذة المخالفة لخط المصحف على التفسير، فقال أبو بكر بن الأنباري: «وما يؤثر عن الصحابة والتابعين أنهم قرءوا بكذا وكذا إنما ذلك على جهة البيان والتفسير، لا أن ذلك قرآن يتلى» (¬3). وقال معلقا على قراءة مروية عن ابن الزبير لقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (104) [آل عمران] ويستعينون الله على ما أصابهم: «وهذه الزيادة من تفسير ابن الزبير، وكلام من كلامه، غلط فيه بعض الناقلين فألحقه بألفاظ القرآن» (¬4). وقال أبو جعفر النحاس: «وهذا من القراءات المخالفة للسواد، وأكثرها لا يصح ولا يوجد إلا معلولا» (¬5). وقال معلقا على إحدى تلك القراءات: «فلا يجوز لأحد أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف، ولو صحت لكانت على التفسير لا على القراءة» (¬6). وقال القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني: «وكان منهم من يقرأ التأويل مع التنزيل، نحو قوله تعالى: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى (138) [البقرة] وهي صلاة ¬

_ (¬1) السخاوي: جمال القراء 1/ 235، وأبو شامة: المرشد الوجيز ص 181. (¬2) أبو شامة: المرشد الوجيز ص 181. (¬3) نقلا عن: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 1/ 86. (¬4) المصدر نفسه 4/ 165. (¬5) القطع ص 425. (¬6) القطع ص 474، وينظر: ص 212 و 258 و 511.

العصر ... » (¬1). وقال أبو حيان الأندلسي: «إن ما جاء مخالفا لخط المصحف هو «في الحقيقة تفسير لا قراءة» (¬2). ويؤيد هذا المذهب في فهم القراءات المخالفة لخط المصحف ما روي عن مجاهد بن جبر المكي (ت 103 هـ) تلميذ ابن عباس أنه قال: «لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن، مما سألت» (¬3). قال شارح سنن الترمذي: «أي لما وقع في قراءته من تفسير كثير من القرآن» (¬4). ذلك هو معنى القراءة الشاذة وموقف العلماء منها، لكن ابن مجاهد (ت 324 هـ) حين ألّف كتاب (السبعة في القراءات) وضمنه القراءات الصحيحة المشهورة قد أوحى بمعنى جديدة للقراءة الشاذة وهو أن كل ما عدا القراءات السبع شاذ، لا سيما أنه ألّف كتابا ذكر فيه (شواذ القراءة) الذي شرحه ابن جني في كتابه (المحتسب). قال ابن جني «وأنا بإذن الله بادئ بكتاب أذكر فيه أحوال ما شذ عن السبعة، على أننا ننحي فيه على كتاب أبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد، رحمه الله، الذي وضعه لذكر الشواذ من القراءة» (¬5). وشاع في القرن الرابع هذا المفهوم الجديد للقراءة الشاذة، فإلى جانب دلالة هذا المصطلح على القراءات المخالفة لخط المصحف صار يعني أيضا ما عدا القراءات السبع، حتى وإن كانت موافقة للخط، وقد ألف أبو طاهر بن أبي هاشم تلميذ ابن مجاهد كتابا في (شواذ السبعة) (¬6)، كما أن ابن النديم تأثر بهذا ¬

_ (¬1) أبو شامة: المرشد الوجيز ص 241. (¬2) البحر المحيط 7/ 65. (¬3) الداودي: طبقات المفسرين 2/ 306. (¬4) تحفة الأحوذي 8/ 282. (¬5) المحتسب 1/ 34 - 35. (¬6) ابن النديم: الفهرست ص 35.

المفهوم أيضا، فذكر أولا (أخبار القراء السبعة)، ثم ذكر (قراء الشواذ) وهم ما عدا السبعة (¬1). ولم يستمر تأثير هذا المفهوم الجديد للقراءة الشاذة طويلا، فقد انحسر تأثيره بظهور مؤلفات في القراءات العشر، بإضافة قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف إلى القراءات السبع، وظل تعريف القراءة الشاذة بأنها ما خالف المصحف هو المعتمد. قال أبو شامة: «فليس الأقرب في ضبط هذا الفصل إلا ما قد ذكرناه مرارا من أن كل قراءة اشتهرت بعد صحة إسنادها وموافقتها خط المصحف، ولم تنكر من جهة العربية، فهي القراءة المعتمد عليها، وما عدا ذلك داخل في حيز الشاذ والضعيف، وبعض ذلك أقوى من بعض» (¬2). وقد بيّن ذلك ابن الجزري بصورة أكثر تفصيلا بقوله: «كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها، ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة، أم العشرة، أم عن الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة، أو شاذة، أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم، هذا هو الصحيح عن أئمة التحقيق من السلف والخلف» (¬3). ¬

_ (¬1) الفهرست ص 33. (¬2) المرشد الوجيز ص 178. (¬3) النشر 1/ 9.

المبحث السابع القراءات القرآنية في الوقت الحاضر

المبحث السابع القراءات القرآنية في الوقت الحاضر أولا- انتشار قراءة عاصم بن أبي النجود: دأب علماء القراءة بعد عصر ابن مجاهد، على رواية القراءات السبع، والتأليف فيها، وزاد بعضهم القراءات الثلاث المتممة للعشر، وصارت القراءات العشر مدار القراءة والإقراء، ويميل بعض العلماء من المتأخرين إلى تقسيم القراءات على ثلاثة أقسام: قسم اتفقوا على تواتره وهو السبع، وقسم اختلفوا فيه والراجح أنه متواتر وهو الثلاث بعدها، وقسم متفق على شذوذه وهو ما عدا العشر (¬1). وقد تلقت الأمة على مدى العصور القراءات الصحيحة بالقبول، وهي لا ترى أن بعضها أولى من بعض بالقراءة، قال مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437 هـ): «والقراءات الثابتة عندنا كلها من السّنّة التي لا مدفع فيها لأحد» (¬2). وكان السلف بعضهم يقرأ بهذه القراءة وبعضهم يقرأ بتلك، ولم ينكر واحد على الآخر قراءته، ولم يوجب أحد القراءة بقراءة معينة أو بجميع القراءات الصحيحة، قال الطبري: «الأمة أمرت بحفظ القرآن وخيّرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت، كما أمرت إذا هي حنثت في يمين وهي موسرة أن تكفّر بأي الكفارات شاءت: إما بعتق أو إطعام أو كسوة ... » (¬3). ويبدو أن المسلمين اتجهوا في العصور المتأخرة إلى القراءة ببعض القراءات دون بعض، على الرغم من أن رواية العلماء للقراءات المأثورة لم تنقطع، فقد ظل علماء القراءة يحرصون على رواية القراءات السبع وغيرها، بينما صار جمهور ¬

_ (¬1) السيوطي: الإتقان 1/ 210، والقسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 170. (¬2) التبصرة ص 230. (¬3) جامع البيان 1/ 25.

الناس يكتفون بضبط قراءة واحدة يتلون بها كتاب الله تعالى، وأدى ذلك خلال القرون المتلاحقة إلى انتشار قراءات معينة وانحسار أخرى، بحيث صارت لا تعرف إلا في الكتب، ولا يضبطها إلا المتخصصون بدراسة القراءات وروايتها. وأكثر القراءات انتشارا في العالم الإسلامي اليوم قراءة عاصم، ويقرأ المسلمون في بلاد المغرب برواية ورش عن نافع، وفي بلاد السودان برواية الدوري عن أبي عمرو بن العلاء، لكن قراءة عاصم آخذة بالانتشار في تلك البلدان أيضا. ولم يكن تميز قراءة عاصم بالأمر الذي حدث في العصور المتأخرة، فهذا الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241 هـ يسأله ابنه صالح: أي القراءة أحب إليك؟ فقال: قراءة نافع، قال: فإن لم توجد؟ قال: قراءة عاصم (¬1). وقال مكي عن قراءة عاصم: «فقراءته مختارة عند من رأيت من الشيوخ، مقدّمة على غيرها، لفصاحة عاصم، ولصحة سندها، وثقة ناقلها» (¬2). فهذه ثلاثة أسباب ذكرها مكي لتميز قراءة عاصم، سوف نقف على شواهدها التاريخية بعد قليل، إن شاء الله. وليس من اليسير القول إن قراءة عاصم سادت بلدان المشرق الإسلامي في قرن معين، ولكن لدينا شواهد وأقوال توضح جانبا من هذه القضية الكبيرة، منها أن الخطيب البغدادي ذكر أن أحمد بن سهل الأشناني المتوفى سنة 307 هـ «هو أحد القراء المجودين، قرأ على عبيد بن الصبّاح روايته عن حفص بن سليمان حرف عاصم بن أبي النجود، واشتهر بهذه القراءة» (¬3). وتمضي قرون حتى نلتقي بقول أبي حيان الأندلسي (ت 754 هـ) الذي يذكر فيه أن قراءة نافع هي التي ينشأ عليها أهل المغرب وأن قراءة عاصم هي القراءة ¬

_ (¬1) السخاوي: جمال القراء 2/ 464. (¬2) التبصرة ص 219. (¬3) تاريخ بغداد 4/ 185.

التي ينشأ عليها أهل العراق (¬1). وهذا دليل تاريخي يؤكد سيادة قراءة عاصم في العراق في القرن الثامن الهجري. ونلتقي بنص آخر من القرن الثاني عشر الهجري يدل على انتشار قراءة عاصم إلى مناطق خارج العراق، فهذا محمد المرعشي المتوفى سنة 1150 هـ يقول: والمأخوذ به في ديارنا قراءة عاصم برواية حفص عنه (¬2)، وهو يعني بلدته مرعش، وهي مدينة بين الشام وبلاد الروم (¬3). وهي اليوم تابعة لتركيا تقع جنوبيها. ولعل اختراع المطابع وطباعة المصاحف بها قد ساعد على انتشار قراءة عاصم أيضا، فأول مصحف أخرجته المطابع ورأى النور كان في سنة (1694 م- 1106 هـ تقريبا) الذي وقف على طبعة هنكلمان في مدينة هامبورج بألمانيا، وكان مضبوطا على قراءة عاصم (¬4). وخلاصة القول في هذا الأمر أن قراءة عاصم انتشرت في الأمصار الإسلامية في وقت مبكر، وسادت في كثير من البلدان، لا سيما في العراق وما حوله من بلدان المشرق الإسلامي منذ القرن الثامن الهجري في الأقل، وأن القرون اللاحقة شهدت سيادتها في مناطق أخرى. أما عاصم صاحب القراءة فهو عاصم بن أبي النّجود أبو بكر الأسدي، مولاهم، الكوفي، وقيل إن اسم أبيه بهدلة، وقيل هو اسم أمه، وأن اسم أبيه هو عبد الله (¬5)، ومهما يكن من أمر فإنه اشتهر باسم عاصم بن أبي النّجود. وكان من ¬

_ (¬1) البحر المحيط 1/ 11. (¬2) جهد المقل ص 293. (¬3) صفي الدين البغدادي: مراصد الاطلاع 3/ 1259. (¬4) تراجع الفقرة الخاصة بطباعة المصحف في الفصل الثاني من هذا الكتاب. (¬5) ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 6/ 340، وابن الجزري: غاية النهاية 1/ 346.

ثانيا - أصول قراءة عاصم

التابعين لأنه روى عن عدد من الصحابة (¬1)، لكن أكثر شيوخه في الحديث وقراءة القرآن من التابعين. وقد أجمع علماء الحديث على توثيقه، قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: «ثقة رجل صالح خير»، وقال أبو زرعة: ثقة، وقال يحيى بن معين: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: محله عندي محل الصدق، صالح الحديث، وحديثه مخرج في الكتب الستة (¬2). وكان عاصم ممن اشتهروا بالعلم والفضل، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد أبي عبد الرحمن السلمي، جمع بين الفصاحة والإتقان والتحرير والتجويد وكان أحسن الناس صوتا بالقرآن (¬3)، قال تلميذه أبو بكر بن عياش: كان عاصم نحويا فصيحا (¬4)، وقال أبو إسحاق السّبيعي: ما رأيت أحدا أقرأ للقرآن من عاصم بن أبي النجود (¬5)، وقال ابن مجاهد: وكان عاصم متقدما في زمانه، مشهورا بالفصاحة، معروفا بالإتقان (¬6). وكانت وفاته في آخر سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل سنة ثمان وعشرين، فلعله مات في أولها، بالكوفة (¬7)، رحمه الله تعالى. ثانيا- أصول قراءة عاصم: أما شيوخ عاصم في القراءة فيروى أنه قرأ على أنس بن مالك، لكن أشهر ¬

_ (¬1) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 347. (¬2) ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 6/ 341، وابن الجزري: غاية النهاية 1/ 348. (¬3) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 347. (¬4) الذهبي: معرفة القراء 1/ 75. (¬5) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 70. (¬6) المصدر نفسه. (¬7) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 348.

شيوخه في القراءة جماعة من علماء القراءة من التابعين في الكوفة، منهم أبو عبد الرحمن السّلمي، وزرّ بن حبيش، وأبو عمرو سعد بن إياس الشيباني (¬1). أما أبو عبد الرحمن السّلمي فاسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت لأبيه حبيب صحبة، قال أبو عبد الرحمن: كان أبي قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد (¬2)، وكانت نشأته في المدينة، فتلقى العلم من كبار الصحابة الذين أدركهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب (¬3). وكان زيد بن ثابت أكثر من أخذ القراءة عنه، فيروى أنه أتى عثمان بن عفان للقراءة عليه، فقال إنك تشغلني عن أمور الناس، ولكن اذهب إلى زيد بن ثابت فاقرأ القرآن عليه (¬4). وحين أمر عثمان بن عفان بانتساخ المصاحف وإرسالها إلى الأمصار بعث مع مصحف أهل الكوفة أبا عبد الرحمن السلمي (¬5)، فاقام في الكوفة بعد ذلك، قال ابن مجاهد: «وأول من أقرأ بالكوفة القراءة التي جمع عثمان، رضي الله تعالى عنه، الناس عليها أبو عبد الرحمن السّلمي، واسمه عبد الله بن حبيب، فجلس في المسجد الأعظم، ونصب نفسه لتعليم الناس القرآن، ولم يزل يقرئ بها أربعين سنة ... وكان أخذ القراءة عن عثمان وعن علي بن أبي طالب وزيد ابن ثابت وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب، رضي الله عنهم. وكان يقول: قرأت على أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، القرآن كثيرا، وأمسكت عليه المصحف، فقرأ عليّ. وأقرأت الحسن والحسين، رضي الله تعالى عنهما، حتى ¬

_ (¬1) المصدر نفسه 1/ 347. (¬2) ابن عبد البر: الاستيعاب 1/ 323. (¬3) ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 5/ 37، وابن الجزري: غاية النهاية 1/ 413. (¬4) الذهبي: معرفة القراء 1/ 48. (¬5) المارغني: دليل الحيران ص 17.

ثالثا - رواة قراءة عاصم

قرءا عليّ القرآن ... فلما مات أبو عبد الرحمن [سنة 74 هـ] رحمه الله تعالى خلفه في موضعه أبو بكر عاصم بن أبي النجود» (¬1). أما زرّ بن حبيش الأسدي الكوفي فإنه أخذ القراءة عن عدد من الصحابة في مقدمتهم عبد الله بن مسعود، قال عاصم: ما رأيت أقرأ من زر، وكان عبد الله ابن مسعود يسأله عن العربية، يعني عن اللغة، وقال يحيى بن معين: زر بن حبيش ثقة. وكانت وفاته سنة 82 هـ (¬2). وكان أبو عمرو الشيباني قد قرأ على عبد الله بن مسعود أيضا، وكانت وفاته سنة 96 هـ (¬3). ثالثا- رواة قراءة عاصم: كان عاصم يقرئ القرآن في مسجد الكوفة الجامع، فقرأ عليه أناس يخرجون عن العد والحصر، لكن الذين أخذوا عنه القراءة من العلماء كانوا بضعة عشرات، فقال السخاوي: روى عنه القراءة ثمانية وأربعون من الأئمة والعلماء (¬4). وذكر ابن الجزري في كتابه (غاية النهاية في طبقات القراء) أسماء أكثر من عشرين قارئا أخذوا قراءتهم عن عاصم، وقال بعد أن ذكرهم: «وروى عنه القراءة خلق لا يحصون» (¬5). ولعل أشهر تلامذته اثنان: أبو بكر شعبة بن عياش، وحفص بن سليمان أبو عمر الأسدي اللذان تنقل كتب القراءات عنهما قراءة عاصم (¬6). والقراءة التي يقرأ بها المسلمون اليوم هي قراءة عاصم برواية حفص عنه. ¬

_ (¬1) كتاب السبعة ص 68 - 69. (¬2) ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 3/ 623، وابن الجزري: غاية النهاية 1/ 294. (¬3) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 303. (¬4) جمال القراء 2/ 465. (¬5) غاية النهاية 1/ 347. (¬6) مكي: التبصرة ص 182، والداني: التيسير ص 6.

أما أبو بكر شعبة بن عياش فإنه كان لا يمكّن من نفسه من أراد أخذ قراءة عاصم منه (¬1). كما أنه قطع الإقراء قبل موته سنة 193 هـ- بسبع سنين وقيل بأكثر (¬2). ولعل هذا هو السر في انتشار قراءة عاصم من رواية حفص الذي كان متفرغا للقراءة، بينما كان أبو بكر مشتغلا برواية الأحاديث إلى جانب القراءة، ومن ثم قال يحيى بن معين: هو أصح قراءة من أبي بكر، وأبو بكر أوثق منه، يعني في الحديث (¬3). أما حفص بن سليمان فإنه كان ربيب عاصم، ابن زوجته، وكان ينزل معه في دار واحدة، فقرأ عليه القرآن مرارا، حتى صار أضبط من روى القراءة عن عاصم (¬4)، قال يحيى بن معين: الرواية الصحيحة التي رويت عن قراءة عاصم هي رواية أبي عمر حفص بن سليمان. وقال أبو الحسين بن المنادي عن حفص: إنه قرأ على عاصم مرارا، وكان الأولون يعدونه في الحفظ فوق أبي بكر بن عياش، ويصفونه بضبط الحروف التي قرأ بها على عاصم، وقال أبو هشام الرفاعي: كان حفص أعلمهم بقراءة عاصم (¬5). ولم يلبث حفص أن غادر الكوفة، فأقام في بغداد، وذكر الخطيب البغدادي أنه كان ينزل في الجانب الشرقي من بغداد في محلة سماها سويقة نصر، وأنه لو رأيته لقرّت عينك به علما وفهما (¬6). وكان يقرئ بها القرآن. ثم رحل للحج، وجاور بمكة فأقرأ بها أيضا (¬7). وذكر أبو بكر الأنباري أنه يروي قراءة عاصم ¬

_ (¬1) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص 71. (¬2) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 326. (¬3) الذهبي: ميزان الاعتدال 1/ 55. (¬4) الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 6/ 186. (¬5) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 254. (¬6) تاريخ بغداد 6/ 186. (¬7) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 254.

برواية حفص عن أبيه، عن عمه، عن الفضل بن يحيى الأنباري الذي أقام بمكة مجاورا حتى أخذ القراءة عن حفص (¬1). ولا نعلم مقدار مكث حفص في بغداد ولا مقدار مجاورته في مكة، ولكننا نعلم أنه أقرأ القرآن فيهما، وأنه توفي سنة 180 هـ- أو بعدها (¬2). ويبدو أن تنقل حفص بن سليمان بين الكوفة وبغداد ومكة قد أسهم في انتشار قراءة عاصم من ذلك الزمان، حتى صارت أشهر قراءة للقرآن في العالم الإسلامي كله. ومن خلال العرض السابق يتبين أن القراءة التي يقرأ بها المسلمون القرآن اليوم هي قراءة عاصم بن أبي النجود برواية تلميذه حفص بن سليمان، وأن أشهر شيوخ عاصم في القراءة أبو عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش اللذان أخذا القراءة عن خمسة من كبار الصحابة: عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي بن كعب. ورواية حفص تمثل القراءة التي أخذها عاصم عن أبي عبد الرحمن السلمي، فقد قال حفص لعاصم: أبو بكر، يعني شعبة بن عياش، يخالفني في القراءة، فقال عاصم: أقرأتك بما أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب، وأقرأته بما أقرأني زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود (¬3). مع عدم إغفال أثر ظاهرة الاختيار في قراءته. ومن خلال العرض السابق أيضا ندرك صحة قول مكي عن قراءة عاصم (¬4): «فقراءته مختارة عند من رأيت من الشيوخ، مقدمة على غيرها، لفصاحة عاصم، ولصحة سندها، وثقة ناقلها» (¬5). ¬

_ (¬1) إيضاح الوقف والابتداء 1/ 113. (¬2) الذهبي: معرفة القراء 1/ 116، وابن الجزري: غاية النهاية 1/ 255. (¬3) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 254. (¬4) التبصرة ص 219. (¬5) كان حفص بن سليمان قد اعتنى بقراءة القرآن وتعليمها أكثر من عنايته برواية الحديث، ومن ثم قال عنه يحيى بن معين: هو أصح قراءة من أبي بكر، وأبو بكر أوثق منه في

المبحث الثامن علم التجويد

المبحث الثامن علم التجويد علم التجويد هو العلم الذي يعنى بنطق ألفاظ القرآن نطقا صحيحا، وذلك بإعطاء كل صوت حقه من المخرج والصفات، وما يلحقه في التركيب من أحكام، وهو بذلك يختلف عن علم القراءات الذي يهتم بضبط وجوه النطق التي رواها علماء القراءة من التابعين وتابعيهم عن الصحابة، رضي الله عنهم، على نحو ما بينا في المباحث السابقة. وقد ميّز علماء القراءة بين العلمين على الرغم من أن ميدانهما واحد وهو قراءة القرآن، قال محمد المرعشي (ت 1150 هـ): «إن قلت: ما الفرق بين علمي التجويد والقراءات؟ قلت: علم القراءات علم يعرف فيه اختلاف أئمة الأمصار في نظم القرآن في نفس حروفه أو في صفاتها، فإذا ذكر فيه شيء من ماهية صفات الحروف فهو تتميم، إذ لا يتعلق الغرض به، أما علم التجويد فالغرض منه معرفة ماهيات صفات الحروف، فإذا ذكر فيه شيء من اختلاف الأئمة فهو تتميم» (¬1). ¬

_ الحديث (الذهبي: ميزان الاعتدال 1/ 55). وقال الذهبي (معرفة القراء 1/ 117): «أما في القراءة فثقة ثبت ضابط لها، بخلاف حاله في الحديث». وتضعيف حفص في الحديث لا يقدح في ضبطه للقراءة. وحاولت أن أقف على علة تضعيفه في الحديث فإذا هي لا تقدح بصحة روايته للقراءة، لأن الأمر يرجع إلى أنه أخذ من شعبة بن الحجاج كتابا فلم يردّه، وكان ياخذ كتب الناس فينسخها. (البخاري: كتاب الضعفاء ص 32، وابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 3/ 173). فكأنهم ضعفوه لأنه ينسخ كتب الحديث من غير سماع، ولعل له عذرا في ذلك بانشغاله بعلم القراءة، أما عدم رده كتاب شعبة فلا أحسب أنه سبب كاف لعدم الثقة به، لا سيما أن وكيع بن الجراح وهو أحد أئمة الحديث قال عن حفص: وكان ثقة (الداني: التيسير ص 6). (¬1) جهد المقل ص 84.

وقال المرعشي في موضع آخر: «اعلم أن علم القراءة يخالف علم التجويد لأن المقصود من الثاني معرفة حقائق صفات الحروف مع قطع النظر عن الخلاف فيها، مثلا يعرف في علم التجويد أن حقيقة التفخيم كذا وحقيقة الترقيق كذا، وفي القراءة يعرف فخّمها فلان ورققها فلان» (¬1). وكان مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ) قد ألمح في أكثر من موضع من كتابه (الرعاية لتجويد القراءة) إلى هذا المعنى، فقال: «ولست أذكر في هذا الكتاب إلا ما لا اختلاف فيه بين أكثر القراء» (¬2). وقال: «فليس هذا كتاب اختلاف، وإنما هو كتاب تجويد ألفاظ ووقوف على حقائق الكلام، وإعطاء اللفظ حقه، ومعرفة أحكام الحروف التي ينشأ الكلام منها، مما لا اختلاف في أكثره» (¬3). وقال عن كتب القراءات: فتلك الكتب كتب تحفظ منها الرواية المختلف فيها، وهذا الكتاب يحكم فيه لفظ التلاوة التي لا خلاف فيها، فتلك كتب رواية، وهذا كتاب دراية ... » (¬4). وكان قد ظهر البحث في الأصوات اللغوية في العربية في الوقت الذي درس فيه العلماء قواعد اللغة العربية، ويتضمن كتاب سيبويه (أبي بشر عمرو بن عثمان ت 180 هـ) بابا كبيرا خصصه لدراسة الأصوات في العربية سماه باب الإدغام. واقتفى مذهبه كثير من علماء العربية، وقد جعل أبو الفتح عثمان بن جني (ت 392 هـ) مقدمة كتابه (سر صناعة الإعراب) خاصة بدراسة الأصوات اللغوية. واعتنى علماء قراءة القرآن أيضا بدراسة اللغة العربية، وبحثوا في الظواهر الصوتية في قراءات القراء لكنهم لم يجعلوا لهذه المباحث كتبا خاصة بها حتى ¬

_ (¬1) ترتيب العلوم ص 64. (¬2) الرعاية ص 42. (¬3) الرعاية ص 128. (¬4) الرعاية ص 200.

القرن الرابع الهجري، حين حاول علماء القراءة استخلاص المباحث المتعلقة بأصوات العربية وظواهر النطق من كتب النحو وكتب القراءات وجمعوها في كتب خاصة مستقلة، وقد أطلق على مباحث هذه الكتب اسم علم التجويد. ويذكر المؤرخون أن أول مؤلف مستقل في علم التجويد هو القصيدة التي نظمها أبو مزاحم موسى بن عبيد الله بن يحيى الخاقاني البغدادي المتوفى سنة 325 هـ (¬1)، في حسن أداء القرآن، وعدة أبياتها واحد وخمسون بيتا، ومطلعها: أقول مقالا معجبا لأولي الحجر ... ولا فخر إن الفخر يدعو إلى الكبر (¬2). وأول كتاب معروف اليوم ألّف بعد قصيدة أبي مزاحم هو كتاب (التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي) لأبي الحسن علي بن جعفر السعيدي المتوفى في حدود سنة 410 هـ، لكنه كتاب صغير الحجم، على الرغم من أهميته العلمية وقيمته التاريخية (¬3). وتتابع التأليف في علم التجويد منذ مطلع القرن الخامس الهجري إلى عصرنا هذا، فظهرت عشرات الكتب التي تنوعت مناهجها وأساليب تأليفها (¬4)، وتتصدر تلك الكتب ثلاثة مؤلفات أندلسية هي: 1 - الرعاية لتجويد التلاوة وتحقيق لفظ التلاوة، لمكي بن أبي طالب القيسي (ت 437 هـ) (¬5). ¬

_ (¬1) ابن الجزري: غاية النهاية 2/ 321. (¬2) حققت القصيدة ونشرتها سنة 1980 بجملة كلية الشريعة العدد السادس (ص 348 - 353) ونشرها الدكتور علي حسين البواب ثانية في مجلة المورد سنة 1985 في المجلد 14 في العدد الأول (ص 115 - 127). (¬3) حققت الكتاب ونشر في مجلة المجمع العلمي العراقي سنة 1985، مج 36 ج 2 (ص 240 - 287). (¬4) ينظر: كتابي: الدراسات الصوتية ص 23 - 46. (¬5) حققه الدكتور أحمد حسن فرحات وطبع في دمشق سنة 1974، وطبع في دار عمار/

2 - التحديد في الإتقان والتجويد، لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت 444 هـ) (¬1). 3 - الموضح في التجويد، لعبد الوهاب القرطبي (ت 462 هـ) (¬2). وعلم التجويد مكمّل لعلم القراءات، لأنه لا يمكن للقارئ تلاوة القرآن بصورة صحيحة ما لم يعرف قواعد التجويد، مهما كانت القراءة التي يتلو بها القرآن. ومن ثمّ كان واجبا على قارئ القرآن أن يعرف قواعد هذا العلم، وأن تكون لديه المقدرة على تطبيق تلك القواعد في القراءة، ليجري لسانه بالنطق الصحيح الفصيح، فيكون بذلك مستوفيا لشروط القراءة، راجيا ثوابها، متجاوزا لإثم التقصير فيها. وقد قال ابن الجزري في المقدمة الجزرية (¬3): والأخذ بالتجويد حتم لازم ... من لم يجوّد القرآن آثم وقال شراح المقدمة: «إن مراعاة قواعد التجويد والأخذ بذلك، أي العمل به، فرض عين لازم لكل قارئ قرأ القرآن، ثم أخبر أن من لم يصحح القراءة آثم، أي من لم يراع قواعد التجويد في قراءته عاص آثم بعصيانه، والإثم معاقب عليه ... » (¬4). وقد بيّن ابن الجزري هذا الموضوع في كتابه النشر على نحو أكثر تفصيلا. فقال: «ولا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده ¬

_ الأردن، عدة طبعات. (¬1) حققته وطبع ببغداد سنة 1987 م، وفي دار عمار/ الأردن. (¬2) حققته وطبع في معهد المخطوطات العربية في الكويت سنة 1990 م. (¬3) متن الجزرية ص 14. (¬4) أبو بكر أحمد بن الجزري: الحواشي المفهمة 22 ظ، وينظر: القسطلاني: اللئالئ السنية 14 و، وطاش كبرى زاده: شرح الجزرية 15 و.

متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة عن أئمة القراءة المتصلة بالحضرة النبوية الأفصحية العربية التي لا تجوز مخالفتها ولا العدول عنها إلى غيرها. والناس في ذلك بين محسن مأجور، ومسيء آثم أو معذور، فمن قدر على تصحيح كلام الله تعالى باللفظ الصحيح العربي الفصيح وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أو النبطي القبيح، استغناء بنفسه واستبدادا برأيه وحدسه واتكالا على ما ألف من حفظه، واستكبارا عن الرجوع إلى عالم يوقفه على صحيح لفظه، فإنه مقصر بلا شك، وآثم بلا ريب، وغاشّ بلا مرية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم). أما من لم يطاوعه لسانه أو لا يجد من يهديه إلى الصواب فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها» (¬1). (¬2) وتتلخص موضوعات علم التجويد وأركانه في أربعة أمور، ذكرها الحسن بن قاسم المرادي (ت 749 هـ) بقوله: «إن تجويد القراءة يتوقف على أربعة أمور: أحدها: معرفة مخارج الحروف. والثاني: معرفة صفاتها. والثالث: معرفة ما يتجدد لها بسبب التركيب من الأحكام. والرابع: رياضة اللسان بذلك وكثرة التكرار» (¬3). ¬

_ (¬1) النشر 1/ 210 - 211، والقسطلاني: لطائف الإشارات 1/ 209. (¬2) أشار ابن الجزري في النشر (1/ 211 - 212) إلى قول نصر بن علي الشيرازي: «على أن العلماء اختلفوا في وجوب حسن الأداء في القرآن فبعضهم ذهب إلى أن ذلك مقصور على ما يلزم المكلف قراءته في المفترضات فإن تجويد اللفظ وتقويم الحروف وحسن الأداء واجب فيه فحسب. وذهب الآخرون إلى أن ذلك واجب على كل من قرأ شيئا من القرآن كيفما كان، لأنه لا رخصة في تغيير اللفظ بالقرآن وتعويجه واتخاذ اللحن سبيلا إليه إلّا عند الضرورة» وصحح ابن الجزري هذا الرأي الأخير. (¬3) المفيد ص 39، وشرح الواضحة (له) ص 29.

وليس بيان هذه القضايا من غرض هذا الكتاب، لأنه يبحث في علوم القرآن بحثا عاما، وتفصيل قضايا كل علوم القرآن موضعه الكتب الخاصة بكل علم من تلك العلوم، فتفصيل موضوعات علم التجويد والوقوف على قواعد التلاوة تكلفت ببيانها كتب علم التجويد، ولكن تلزم الإشارة هنا إلى بعض القضايا المنهجية منها: 1 - أهمية دراسة مخارج الحروف وصفاتها لدارس قواعد التلاوة، وقد أولت كتب علم التجويد القديمة هذه الناحية عناية كبيرة، لكن الكتب المتأخرة والمؤلفة حديثا في هذا العلم أهملت ذلك إلى حد كبير، وهذا نقص يجب تلافيه. 2 - تقدمت دراسة علم الأصوات اللغوية في زماننا تقدما ملحوظا ولم يستفد دارسو علم التجويد في زماننا من الحقائق الصوتية التي كشف عنها هذا العلم، وهو أمر يخالف منهج علماء السلف الذين بنوا كتبهم في علم التجويد على حقائق علم الأصوات اللغوية كما يعرضها علماء اللغة العربية. 3 - للتطبيق العملي والتمرين الشفهي أهمية كبرى في ضبط الأداء، وفهم دقائق التلاوة، ومن ثم فإنه لا تكفي القراءة في كتب علم التجويد، إن لم تقترن التلقي من المعلم المتقن الضابط لقراءة القرآن (¬1). ¬

_ (¬1) يمكن الوقوف على تفصيل هذه القضايا المنهجية في بحث (مناهج كتب تعليم قواعد التلاوة: عرض ومناقشة) منشور في مجلة كلية المعارف الجامعة، العدد الأول، الأنبار 1418 هـ 1998 م، ص 36 - 57.

الفصل الرابع تفسير القرآن الكريم

الفصل الرابع تفسير القرآن الكريم تدل كلمة «التفسير» على بيان معاني الألفاظ أو الكشف عن علل الظواهر، وغلب استخدامها مضافة إلى «القرآن» لتدل على ما كتب في بيان معاني كلمات القرآن الكريم وآياته. والمعنى اللغوي للكلمة لم يكن بعيدا عن هذا الاستخدام، فكلمة التفسير هي مصدر فسّر، من الفسر وهو البيان، يقال: فسر الشيء يفسره فسرا أبانه، ومثله: فسّره- بتشديد السين- تفسيرا، فالتفسير في أصل اللغة يقصد به كشف المراد عن اللفظ المشكل (¬1). ولم يكن مصطلح (تفسير القرآن) المصطلح الوحيد المستخدم للدلالة على ما كتب في بيان معاني كلمات القرآن الكريم وآياته. فقد استخدم إلى جانبه مصطلح (معاني القرآن) (¬2)، ومصطلح (تأويل القرآن) (¬3)، لكن غلب استخدام ¬

_ (¬1) ينظر: ابن منظور: لسان العرب 6/ 361 (فسر)، والزركشي: البرهان 2/ 146. وكان قد ذهب بعض المتقدمين إلى أن التفسير مقلوب من (سفر)، يقال: سفرت المرأة سفورا إذا ألقت خمارها عن وجهها، وأسفر الصبح أضاء (ينظر: الزركشي: البرهان: 2/ 147)، لكن الآلوسي قال (روح المعاني 1/ 4): «والقول إنه مقلوب السّفر مما لا يسفر له وجه». (¬2) المعنى: هو القصد والمراد، يقال: عنيت بالكلام كذا، أي قصدت وعمدت، ومعنى كل كلام مقصده (ابن منظور: لسان العرب 19/ 341: عنا). وحمل عدد من التفاسير كلمة (معاني) في عنوانه، خاصة التفاسير اللغوية، مثل (معاني القرآن) للفراء والأخفش والزجاج والنحاس. (¬3) التأويل مشتق من الأوّل، وهو الرجوع، يقال: أوّل الكلام وتأوّله: دبّره وقدّره وفسّره، فالتأويل هو تفسير ما يؤول إليه الشيء (ابن منظور: لسان العرب 13/ 34: أول). وحمل عدد من التفاسير القديمة كلمة (التأويل) في عنوانه، مثل تفسير الطبري المسمى (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، وتفسير البيضاوي المسمى (أنوار التنزيل وأسرار التأويل). لكن كلمة (التأويل) تطورت دلالتها، فبينما كانت تعني التفسير وبيان المعنى، كما قال

مصطلح (تفسير القرآن) على ما عداه منذ زمن بعيد، وصارت عبارة (علم التفسير) تطلق على المباحث والجهود التي كتبها العلماء في توضيح دلالة كلمات القرآن الكريم ومعاني آياته. والتعريفات المنقولة عن علماء السلف لمصطلح «التفسير» لا تخرج عن كونه كشفا لمعاني القرآن، قال أبو حيان الأندلسي: «التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، وتتمات لذلك» (¬1). والملاحظ هنا أن أبا حيان أدرج (علم القراءة) ضمن علم التفسير، لكن عددا من العلماء الذين جاءوا بعده أخرجوا هذا العلم من مباحث علم التفسير، لأنه علم له مباحثه وقضاياه التي لا تندرج في موضوع الكشف عن معاني القرآن الكريم، كما أن له كتبه الخاصة به. قال الزركشي: «التفسير علم يعرف به فهم كتاب الله المنزّل على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه» (¬2). وقال في موضع آخر: «هو علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها، والإشارات النازلة فيها، ثم ترتيب ¬

_ ثعلب: «التأويل والمعنى والتفسير واحد» (لسان العرب 13/ 34) صارت تدل على حمل الكلام على المعنى غير المتبادر من ظاهر اللفظ. وقد قال ابن جزيّ الغرناطي في كتابه التسهيل (1/ 11): فإن قيل ما الفرق بين التفسير والتأويل؟ فالجواب أن في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: أنهما بمعنى واحد. الثاني: أن التفسير للفظ، والتأويل للمعنى. الثالث: أن التفسير هو الشرح، والتأويل هو حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر، بموجب اقتضى أن يحمل على ذلك، ويخرج عن ظاهره». (¬1) البحر المحيط 1/ 3، وينظر: السيوطي: الإتقان 4/ 169. (¬2) البرهان 1/ 13.

مكيّها ومدنيّها، وناسخها ومنسوخها، وخاصّها وعامّها، ومطلقها ومقيّدها، ومجملها ومفسرها» (¬1). وقال الشريف الجرجاني: «التفسير في الأصل هو الكشف والإظهار، وفي الشرع: توضيح معنى الآية، وشأنها، وقصتها، والسبب الذي نزلت فيه، بلفظ يدل عليه دلالة واضحة» (¬2). ولعل علم التفسير من أقدم العلوم الإسلامية نشأة وتدوينا، فقد ارتبطت نشأته بنزول القرآن الكريم وتعلمه وتلاوته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مفسر للقرآن، ثم خلفه من بعده العلماء من أصحابه، لا سيما عبد الله بن عباس الملقب بترجمان القرآن، ثم يأخذ التابعون العلم عن الصحابة، وظهر منهم مفسرون مشهورون، ظلت جهودهم في التفسير موضع تقدير العلماء من بعدهم. وتوسّع التفسير في عصر تابعي التابعين، ثم تعددت مناهج المفسرين بعد ذلك، فنجد من المفسرين من اعتنى بجمع التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، ومن المفسرين من اعتنى بالجانب اللغوي من القرآن على نحو ما نجد في كتب (معاني القرآن)، ومن المفسرين من اعتنى بآيات الأحكام الفقهية، كما في كتب (أحكام القرآن). وهكذا تعددت مناهج المفسرين وكثرت التفاسير، وهي تعكس في ذلك تنوع ثقافة العلماء في العصور الإسلامية، وتنوع اهتماماتهم العلمية أيضا. ولم ينقطع جهد علماء المسلمين في توضيح معاني القرآن في أي عصر من العصور، إلا أن طبقة العصر وثقافة أهله كانت تنعكس على مناهج المفسرين، ومن ثم فلا غرابة أن نجد في العصر الحديث نزعات تجديدية في تفسير القرآن، ¬

_ (¬1) البرهان 2/ 148. (¬2) التعريفات ص 40.

المبحث الأول نشأة علم التفسير

ومناهج تعكس ما استجد في حياة المسلمين والعالم من يقظة وتطور علمي وتطلع حضاري. وكانت حصيلة تلك الجهود الكبيرة التي بذلها المفسرون من لدن عصر الصحابة حتى وقتنا الحاضر ثروة علمية أخذت أكبر مساحة في المكتبة العربية الإسلامية، وأنتجت مئات المؤلفات المتعددة المناهج والأحجام، التي لا يتسع المقام للحديث المفصل عنها هنا، ومن ثم سوف أكتفي بعرض الاتجاهات العامة لتلك المؤلفات والنقاط البارزة في تلك الجهود من خلال المباحث الآتية: المبحث الأول: نشأة علم التفسير. المبحث الثاني: دراسة موجزة لأشهر التفاسير القديمة. المبحث الثالث: علم التفسير في العصر الحديث. المبحث الرابع: خلاصة في أصول التفسير. المبحث الخامس: إعجاز القرآن الكريم. المبحث الأول نشأة علم التفسير أولا- تفسير القرآن في عصر النبوة: جاء تدوين العلوم الإسلامية متأخرا بضع عشرات من السنين عن عصر النبوة المبارك، لكن نشأة تلك العلوم كان مرتبطا بتلك الحقبة، وكان التفسير مرتبطا بتلاوة القرآن الكريم، لأن التلاوة، مع كونها عبادة، ليست غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة لتفهم معاني كلام الله تعالى، حتى تتحقق ثمرة التلاوة، وهي الاهتداء إلى الدين القويم، وقد حث القرآن على تدبر معاني الآيات، قال الله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) [ص] وحذّر من الغفلة عند التلاوة بقوله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) [محمد].

والتدبّر معناه التفكر، مشتق من قولهم: دبّر الأمر وتدبره: أي نظر في عاقبته وما يؤول إليه (¬1). وكان تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن لأصحابه يقتضي تفهم معانيه، كما كانت قراءة الصحابة القرآن تقتضي الوقوف على معانيه، يدل على ذلك قول أبي عبد الرحمن السلمي (ت 74 هـ): «حدثني الذين كانوا يقرءوننا: عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر، فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا» (¬2). والعمل يقتضي الفهم ومعرفة المعاني. ومن تمام تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن للناس بيان معانيه ومعرفة أحكامه، قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) [النحل]. ومن ثمّ «فإن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبيّن القرآن، وتدل عليه، وتعبّر عنه» (¬3). سواء أكان ذلك البيان قوليا أم عمليا. واختلف الدارسون في مقدار التفسير الذي بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، فمنهم من قال: إنه فسّر عدا من الآيات (¬4)، ومنهم من قال: إنه بيّن للصحابة معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه (¬5). ويمكن أن يكون الاختلاف في هذه القضية لفظيا، لأن القرآن الكريم أنزل بلغة العرب، وكان لسان المخاطبين به من الصحابة عربيا، فلم يحتاجوا إلى السؤال عن معاني كثير من آيات القرآن، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: «إنما ¬

_ (¬1) لسان العرب: مادة دبر. (¬2) ابن سعد: الطبقات الكبرى 6/ 172، وابن مجاهد: كتاب السبعة ص 69. (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى 13/ 29. (¬4) ينظر: الطبري: جامع البيان 1/ 37، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن 1/ 31. (¬5) ابن تيمية: مقدمة في أصول التفسير ص 35.

أنزل القرآن بلسان عربي مبين ... فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألوا عن معانيه، لأنهم كانوا عرب الألسن، فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه» (¬1). وما قاله أبو عبيدة لا يعني أن الصحابة لم يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى شيء من القرآن، أو أنه لم يبين لهم من معاني القرآن شيئا، فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن معاني الكثير من آيات القرآن، لكنه لم يبين معاني جميع آياته، لأن من القرآن ما استأثر الله بعلمه، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ولا شك في أنه صلى الله عليه وسلم لم يفسر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب، لأن القرآن نزل بلغتهم، ولم يفسر لهم ما استأثر الله بعلمه، مما يجري مجرى الغيوب التي لم يطلع الله عليها نبيه، وإنما فسّر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليهم معناه أو التبس المراد به، مما خصه الله بمعرفته وأطلعه عليه (¬2). ولم يدوّن شيء من التفسير في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن التدوين كان موجها إلى حفظ ألفاظ الوحي، وكان صلى الله عليه وسلم قد نهى أولا عن كتابة شيء من كلامه غير القرآن، خشية اختلاطه بالقرآن، فقال: «لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، ومن كتب غير القرآن فليمحه» (¬3). ونقل علماء الصحابة إلى التابعين ما سمعوه من التفسير النبوي للقرآن الكريم، وأخذ تابعو التابعين ومن جاء بعدهم تلك الروايات وأوردوها في كتب الحديث وكتب التفسير، وصارت مصدرا أساسيا في تفسير القرآن الكريم، لأنه «مما ينبغي أن يعلم أن القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة النبي صلى الله عليه وسلم ... لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم» (¬4). ¬

_ (¬1) مجاز القرآن 1/ 8. (¬2) ينظر: محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 53. (¬3) صحيح مسلم بشرح النووي 18/ 129، وابن أبي داود: كتاب المصاحف ص 4. (¬4) ابن تيمية: مجموع الفتاوى 13/ 27.

وكان الإمام السيوطي، رحمه الله، قد جمع الروايات المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن، من كتب الحديث والتفسير، في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) مرتبة على ترتيب السور في المصحف، وقد بلغ مجموعها أكثر من مائتين وخمسين رواية بقليل (¬1). ومن أمثلة تلك الروايات: 1 - أخرج أحمد، والترمذي وحسّنه، وابن حبان في صحيحه، عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المغضوب عليهم هم اليهود، وإن الضالين النصارى» (¬2). 2 - وأخرج الحاكم وصححه، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (97) [آل عمران]. ما السبيل؟ قال: «الزاد والراحلة» (¬3). 3 - وأخرج أحمد، والشيخان وغيرهم، عن ابن مسعود، قال: لما نزلت هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ (82) [الأنعام]، شق ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله، وأيّنا لا يظلم نفسه؟ قال: «إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) [لقمان]، وإنما هو الشرك» (¬4). 4 - وأخرج مسلم وغيره، عن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (60) [الأنفال]، ألا وإن القوة الرّمي» (¬5). 5 - وأخرج أحمد، والترمذي، والحاكم وصححه، والنسائي، عن أبي هريرة ¬

_ (¬1) الإتقان 4/ 214 - 257. (¬2) الإتقان 4/ 214، وينظر: تفسير ابن كثير 1/ 30. (¬3) الإتقان 4/ 218، وتفسير ابن كثير 1/ 386. (¬4) الإتقان 4/ 222، وتفسير ابن كثير 2/ 153. (¬5) الإتقان 4/ 225، وتفسير ابن كثير 2/ 322.

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الرّان الذي ذكر الله في القرآن كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) [المطففين]» (¬1). والمتأمل في ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من بيان لمعاني آيات أو كلمات من القرآن يجد أكثر تلك الروايات جاءت جوابا لمسائل سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كانت استدلالا منه على معنى، فيكون ذلك الاستدلال بيانا لمعنى الآية، وجاء عدد منها تفسيرا نبويا لكلمات أو آيات من القرآن توضيحا لمعناها وتأكيدا له في نفوس الصحابة، رضي الله عنهم. ويمكن للدارس أن يلحظ أن تفسير القرآن في عصر النبوة لم يكن شاملا لكل القرآن الكريم، ولعل ذلك يرجع من جانب إلى فصاحة الصحابة التي مكنتهم من إدراك معاني كثير من آي القرآن من غير حاجة إلى سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وإلى أن التطبيق العملي لأحكام القرآن الذي كانوا يشاهدونه ويشاركون فيه قد أغناهم من جانب آخر عن السؤال عن معاني الآيات الكريمة. ولعل هناك عاملا آخر أسهم في تقليل مسائل الصحابة عن معاني آي القرآن، هو قوة إيمانهم، وصفاء عقيدتهم، وعمق يقينهم، فكرهوا لذلك السؤال عما تشابه من آي القرآن مما استأثر الله بعلمه (¬2)، فلم يرو أنهم سألوا عنه رسول صلى الله عليه وسلم بل كانوا يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، واتجهوا إلى الجانب العملي من ¬

_ (¬1) الإتقان 4/ 252، وتفسير ابن كثير 4/ 486. (¬2) مثل كراهة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، سؤال صبيغ التميمي عن معاني آيات من متشابه القرآن، حتى إنه ضربه بعراجين النخل. وكان عبد الله بن عباس، رضي الله عنه، إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس قال له: ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ (ينظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى 13/ 311، وتفسير ابن كثير 1/ 6 و 4/ 232).

ثانيا - المفسرون من الصحابة

القرآن والسنة النبوية فسألوا عما خفي عنهم منه واشتغلوا بتعلمه وروايته لمن جاء بعدهم من أجيال المسلمين، رضي الله عنهم أجمعين. ثانيا- المفسرون من الصحابة: سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليم القرآن، وكان إذا دخل رجل في الإسلام دفعه إلى الصحابة وقال لهم: «فقّهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه وعلّموه القرآن» (¬1). وأخذ الصحابة بذلك، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان الخلفاء الراشدون يحرصون على تعليم المسلمين القرآن والسنة، وروى الطبري أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان يقول: «اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار أني إنما بعثتهم ليعلّموا الناس دينهم وسنّة نبيهم» (¬2). واشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة، كما قال السيوطي، هم: «الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، أما الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة نزرة جدا، وكأن السبب في ذلك تقدم وفاتهم» (¬3). وكان بعض الصحابة يتحرج من الإقدام على تفسير القرآن الكريم (¬4)، لكن آخرين منهم لاحظوا حاجة المسلمين إلى من يفهّمهم معاني كلام الله تعالى، فكانوا يفسرون لهم القرآن، وكان من الصحابة من ذهب إلى وجوب تقليب النظر في آيات القرآن واستنباط المعاني منها، فهذا أبو الدرداء يقول: «لا يفقه الرجل ¬

_ (¬1) الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/ 474. (¬2) المصدر نفسه 2/ 204. (¬3) الإتقان 4/ 204. (¬4) ينظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى 13/ 371، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/ 6.

1 - تميز ابن عباس بالتفسير

كلّ الفقه حتى يجعل للقرآن وجوها»، وهذا عبد الله بن مسعود يقول: «من أراد علم الأولين والآخرين فليثوّر (¬1) القرآن» (¬2). ومن ينظر في التفاسير الكبيرة التي حرص مؤلفوها على نقل أقوال الصحابة في التفسير مثل الطبري وابن كثير والسيوطي يجد أسماء كبار الصحابة من مفسري القرآن تتردد في تفسير كل آية تقريبا، خاصة علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وكان ابن عباس أكثر الثلاثة، بل أكثر الصحابة تفسيرا للقرآن الكريم، ومن ثم سوف نكتفي بالحديث عن جهوده في التفسير من هذه الفترة. 1 - تميّز ابن عباس بالتفسير: ولد عبد الله بن عباس بن عبد المطلب قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكانت وفاته سنة 68 هـ- بالطائف (¬3). وكان رسول الله قد دعا لعبد الله بالفقه والعلم مرتين، فذكر ابن سعد عن طاوس عن ابن عباس أنه قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح على ناصيتي، وقال: «اللهم علّمه الحكمة وتأويل الكتاب». وذكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان في بيت خالته ميمونة، ووضع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءا من الليل، فقالت: يا رسول الله وضع لك هذا عبد الله بن عباس، فقال: «اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل» (¬4). وقد أصابت ابن عباس بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالعلم، فكان أعلم الصحابة ¬

_ (¬1) يثوّر القرآن: أي ينقّر عنه ويفكر في معانيه (ينظر: ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث 1/ 239). (¬2) الزركشي: البرهان 2/ 154، والسيوطي: الإتقان 4/ 197. (¬3) الداودي: طبقات المفسرين 1/ 233. (¬4) الطبقات الكبرى 2/ 356، وينظر: ابن حجر: فتح الباري 1/ 169 و 7/ 100.

بتفسير القرآن، فهو بحر التفسير وحبر الأمة، الذي لم يكن على وجه الأرض في زمانه أعلم منه» (¬1). وكان ابن عباس إلى جانب ذكائه وفطنته حريصا على أخذ العلم عن كبار الصحابة، فكان في شبابه يسأل الصحابة ويكابد من أجل ذلك المشاق (¬2)، وذكر أبو ليث السمرقندي: «أنه كان إذا أشكل عليه شيء من التفسير سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين من أهل الكتاب الذين قرءوا الكتب مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما» (¬3)، فاشتهر ابن عباس بالعلم والفطنة والذكاء. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أوائل من عرف ما كان لابن عباس من علامات الفطنة والذكاء وحسن تأويل القرآن، فكان يقدمه على صغر سنّه، ويجلسه مع أشياخ بدر (¬4). وعرف ذلك أيضا عبد الله بن مسعود، فكان يقول: «نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس» (¬5)، وقد عاش ابن عباس بعد عبد الله بن مسعود ستا وثلاثين سنة، فذاع صيته واشتهر أمره، وسلّم له علماء الصحابة بتقدمه وعلمه، روي أن عبد الله بن عمر سمع تفسير ابن عباس لقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما (30) [الأنبياء] فقال: «قد كنت أقول: ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه أوتي علما» (¬6). ¬

_ (¬1) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 425. (¬2) ينظر ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 371. (¬3) بستان العارفين ص 361. (¬4) ابن حجر: فتح الباري 8/ 734، والسيوطي: الاتقان 4/ 206. (¬5) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 366، والسيوطي: الاتقان 4/ 205. (¬6) ينظر: الطبري: جامع البيان 1/ 40، والسيوطي: الاتقان 4/ 206.

2 - جهود ابن عباس في التفسير

2 - جهود ابن عباس في التفسير: كان ابن عباس كثير العلم واسع المعرفة، فكان يجلس يوما لا يذكر فيه إلا الفقه، ويوما للتاويل، ويوما للمغازي، ويوما للشعر، ويوما لأيام العرب (¬1)، وقال عمرو بن دينار المكي (ت 126 هـ): ما رأيت مجلسا قط أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس: للحلال والحرام، وتفسير القرآن، والعربية، والشعر، والطعام (¬2). لكن شهرة ابن عباس بالتفسير فاقت شهرته بالجوانب الأخرى. وكانت لابن عباس مجالس عامة يفسر فيها القرآن للناس، على نحو ما فسر سورة البقرة، وفي رواية سورة النور في موسم الحج (¬3) وله بعد ذلك جلسات مع خاصة تلامذته يفسر لهم القرآن، قال تلميذه مجاهد بن جبر المكي (ت 104 هـ): عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت؟ وكيف كانت؟ (¬4) وتعددت الروايات عن ابن عباس في التفسير نتيجة لذلك، قال السيوطي: «وقد ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة، وفيه روايات وطرق مختلفة» (¬5). ولم تصل إلينا مجموعة كاملة لجهود ابن عباس في تفسير القرآن الكريم، لأنه كان يفسر القرآن تفسيرا شفويا، ولم يدونه في كتاب، وإن كان من تلامذته من دوّن ما سمعه من أستاذه. وتحتفظ كتب التفسير القديمة بثروة كبيرة من جهود ابن عباس في التفسير، لا سيما تفسير الطبري، وتفسير ابن كثير، وتفسير السيوطي المسمى (الدر المنثور في التفسير بالمأثور). وتوجد اليوم مجموعات صغيرة متميزة من جهود ابن عباس في التفسير، أشهرها: ¬

_ (¬1) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 368. (¬2) ابن الجزري: غاية النهاية 1/ 426. (¬3) ينظر: الطبري: جامع البيان 1/ 40. (¬4) الداودي: طبقات المفسرين 2/ 306. (¬5) الإتقان: 4/ 207.

أ - صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس

أ- صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قال السيوطي: «وقد روي عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة، وفيه روايات وطرق مختلفة، فمن جيدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي عنه، قال أحمد بن حنبل: بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل رجل إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا ... قال ابن حجر: وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث، رواها معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وهي عند البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيرا فيما يعلّقه عن ابن عباس، وأخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر كثيرا، بوسائط بينهم وبين أبي صالح. وقال قوم: لم يسمع ابن أبي طلحة من ابن عباس التفسير، وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير. قال ابن حجر: بعد أن عرفت الواسطة، وهو ثقة، فلا ضير في ذلك» (¬1). ويميل بعض الباحثين إلى أن تلك الصحيفة هي تفسير ابن عباس الذي ألّفه بنفسه (¬2). وقام الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي بجمع ما ورد في صحيح البخاري منقولا عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة في كتاب سمّاه (معجم غريب القرآن مستخرجا من صحيح البخاري). وأورد السيوطي في كتابه (الإتقان) (¬3) ما تضمنته صحيفة علي بن أبي طلحة، وبلغ ما ورد فيها قريبا من ست مائة كلمة أو عبارة قرآنية، وزاد عليها السيوطي ما جا من ألفاظ في نسخة الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس لم ترد في الصحيفة المذكورة، وبلغت قريبا من مائة وأربعين كلمة، وهذا مثال مما نقله السيوطي من الصحيفة من سورة غافر (¬4): ¬

_ (¬1) الإتقان 1/ 207. (¬2) فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي 1/ 181. (¬3) الإتقان 2/ 5 - 54. (¬4) الإتقان 2/ 34.

ب - أجوبة مسائل نافع بن الأزرق

ذِي الطَّوْلِ (3): السعة والغنى. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ (31): حال. فِي تَبابٍ (37): خسران. ادْعُونِي (60): وحّدوني. ب- أجوبة مسائل نافع بن الأزرق: قصة هذه المسائل هي على ما رواه أبو بكر الأنباري أنه «دخل نافع بن الأزرق إلى المسجد الحرام، فإذا هو بابن عباس جالسا على حوض من حياض السقاية، قد دلّى رجليه في الماء، وإذا الناس قيام عليه يسألونه عن التفسير، فإذا هو لا يحبسهم بتفسيره. فقال نافع: تالله ما رأيت رجلا أجرأ على ما تأتي به منك يا ابن عباس! فقال له ابن عباس: ثكلتك أمك، أولا أدلّك على من هو أجرأ مني؟ قال: من هو؟ قال: رجل تكلم بغير علم، أو كتم علما عنده. فقال نافع: يا ابن عباس، إني أريد أن أسألك عن أشياء فأخبرني بها. قال: سل عما شئت ... قال أخبرني عن قوله: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ (35) [المائدة]، قال: الوسيلة: الحاجة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عنترة وهو يقول: إن الرجال لهم إليك وسيلة ... » (¬1). وقال السيوطي في (الإتقان): «وقد أخرج بعضها ابن الأنباري في كتاب (الوقف)، والطبراني في معجمه الكبير، وقد رأيت أن أسوقها هنا بتمامها» (¬2). وقد بلغت المسائل التي أوردها السيوطي مائة وثمانيا وثمانين مسألة. ¬

_ (¬1) إيضاح الوقف والابتداء 1/ 76. (¬2) الإتقان 2/ 55.

ج - كتاب (اللغات في القرآن)

ج- كتاب (اللغات في القرآن): روى عبد الله بن الحسين بن حسنون المقرئ (ت 368 هـ) بإسناده عن ابن عباس كتاب (اللغات في القرآن) (¬1)، تحدث فيه عن ألفاظ من القرآن، ذكر أنها جاءت في لغة من لغات العرب، على نحو ما جاء من ذلك في سورة الأنفال (¬2): قوله عز وجل: رِجْزَ الشَّيْطانِ (11): يعمي تخويف الشيطان بلغة قريش. يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً (29): يعني مخرجا بلغة هذيل. د- تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: ومن الآثار التي تنسب إلى عبد الله بن عباس تفسير جمعه أبو طاهر محمد ابن يعقوب الفيروزآبادي (ت 817 هـ) مؤلف (القاموس المحيط)، وسماه (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس) (¬3). وهناك شك كبير في صحة نسبة ما جاء في هذا التفسير إلى ابن عباس، سيما أن إسناده ينتهي إلى محمد بن مروان السّدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (¬4)، وقد قال السيوطي: إن أوهى الطرق التي نقلت لنا تفسير ابن عباس هي طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، فإن انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروان السّدي الصغير فهي سلسلة الكذب (¬5). ¬

_ (¬1) نشره الدكتور صلاح الدين المنجد، في 75 صفحة، والنص يستغرق من ص 15 - 55. (¬2) كتاب اللغات في القرآن ص 26. (¬3) من طبعاته طبعة عبد الحميد حنفي أحمد بمصر سنة 1356 هـ، بهامش القرآن الكريم، باسم (تنوير المقياس) بالياء بدل (المقباس) بالباء، وهو تصحيف (ينظر: الداودي: طبقات المفسرين 2/ 276، وفؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي 1/ 182). (¬4) تنوير المقياس ص 2. (¬5) الإتقان 4/ 209.

3 - منهج ابن عباس في تفسير القرآن

وقال الشيخ محمد حسين الذهبي: «وقد نسب إلى ابن عباس، رضي الله عنه، جزء كبير في التفسير، وطبع في مصر مرارا باسم (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس) ... إن هذا التفسير المنسوب إلى ابن عباس لم يفقد شيئا من قيمته العلمية في الغالب، وإنما الشيء الذي لا قيمة له فيه هو نسبته إلى ابن عباس» (¬1). 3 - منهج ابن عباس في تفسير القرآن: إن الحديث عن منهج ابن عباس في التفسير يقتضي الوقوف على ما روي عنه في ذلك، لكن جهود ابن عباس في التفسير ما زالت موزعة في التفاسير القديمة ولم تستخلص بشكل مستقل، على أن ذلك لا يمنع من ذكر ما لاحظه الدارسون حول منهجه في تفسير القرآن الكريم، فمن ذلك: أ- يعدّ تفسير ابن عباس، في مختلف أصوله، أول محاولة لشرح ألفاظ القرآن شرحا لغويا (¬2). وكان يعتمد في ذلك الشرح على شعر العرب في أغلب الأحيان، قال سعيد بن جبير: سمعنا ابن عباس يسأل عن الشيء من القرآن، فيقول: فيه كذا وكذا، أما سمعتم قول الشاعر يقول فيه كذا وكذا (¬3). وكان ابن عباس يقول: «إذا أعيتكم العربية في القرآن فالتمسوها في الشعر، فإنه ديوان العرب» (¬4). ب- جاء في بعض الروايات المنقولة عن ابن عباس في التفسير أخبار منقولة عن أهل الكتاب تتعلق ببدء الخليفة أو قصص الأنبياء، وقد عرفت تلك الأخبار في كتب التفسير بالإسرائيليات. قال ابن كثير، بعد أن نقل رواية عن السدي أوردها في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن ¬

_ (¬1) التفسير والمفسرون 1/ 81. (¬2) فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي 1/ 180. (¬3) أبو بكر الأنباري: كتاب إيضاح الوقف والابتداء 1/ 62. (¬4) لمصدر نفسه 1/ 101.

عباس، وعن مرّة عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي، ويقع فيه إسرائيليات كثيرة، فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة، والله أعلم» (¬1). وجاء في رواية نقلها ابن كثير عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله الأنصاري، عن ابن عباس أنه قال: «يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله، تقرءونه غضا لم يشب، وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدّلوا كتاب الله وغيّروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم أحدا قط سألكم عن الذي أنزل عليكم» (¬2). وهذه الرواية تدل على أن ابن عباس يرفض الأخذ عن أهل الكتاب، وقد لا تكون مناقضة لدلالة الرواية التي نقلناها عن أبي الليث السمرقندي من أن ابن عباس إذا أشكل عليه شيء من التفسير سأل الصحابة «والمسلمين من أهل الكتاب الذين قرءوا الكتب مثل كعب الأحبار ... » فهؤلاء قد أسلموا. ج- ورد في أكثر من مصدر من المصادر القديمة أن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: التفسير أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها. وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، يقول: الحلال والحرام. وتفسير يعلمه العلماء خاصة. وتفسير لا يعلمه إلا الله، ومن ادّعى علمه فهو كاذب (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم 1/ 77. (¬2) المصدر نفسه 1/ 118 - 119. (¬3) ينظر: الكبرى: جامع البيان 1/ 34، وابن تيمية: مجموع الفتاوى 13/ 375 و 384، والزركشي: البرهان 2/ 164، والسيوطي: الإتقان 4/ 188.

ثالثا - التفسير في عصر التابعين

وهذا القول يحدد بعض ملامح منهج ابن عباس في التفسير، فهو يؤكد على استناد كثير من التفسير على العلم باللغة العربية، كما يشير أن من آي القرآن ما استأثر صلى الله عليه وسلم تعالى بعلمه، وهو يأخذ عمليا بهذا التوجه، فقد روي أن رجلا سأل ابن عباس عن قوله تعالى: يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ (5) [السجدة] فقال له ابن عباس: فما يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) [المعارج] فقال الرجل: إنما سألتك لتحدثني، فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله في كتابه، الله أعلم بهما (¬1). ثالثا- التفسير في عصر التابعين: إن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة، كما تلقوا عنهم علم السّنّة (¬2). واتسعت حركة التفسير في عصر التابعين لازدياد حاجة الناس إليه لفهم آيات القرآن الكريم، بعد أن ضعفت ملكة اللغة وبعد أن دخل في الدين أمم متنوعة اللغات والثقافات، فنشأ في الأمصار الإسلامية جماعة من العلماء اشتغلوا بتفسير القرآن، معتمدين في ذلك على ما تلقوه عن الصحابة، وعلى ما وصل إليه علمهم في فهم آيات الكتاب الحكيم. ويبدو أن هذه الفترة شهدت أولى محاولات تدوين التفسير تدوينا منظما، إذا صح أن جهود ابن عباس كانت تروى رواية، أو أنها لم تدون تدوينا منظما. واشتهر من علماء التابعين في كل مصر من الأمصار الإسلامية جماعة من المفسرين، خاصة في مكة والمدينة والكوفة والبصرة، أما أهل الشام فإنهم في هذه الحقبة «كانوا أهل غزو وجهاد، فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم» (¬3). قال ابن تيمية، رحمه الله: «وأما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة، ¬

_ (¬1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى 13/ 372. (¬2) المصدر نفسه 13/ 332. (¬3) المصدر نفسه 13/ 347.

لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس، كطاوس، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير، وأمثالهم. وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، وعلماء أهل المدينة في التفسير، مثل زيد بن أسلم، الذي أخذ عنه مالك التفسير، وأخذ عنه أيضا ابنه عبد الرحمن، وأخذه عن عبد الرحمن عبد الله بن وهب» (¬1). ونميز من خلال هذا القول ثلاثة مراكز علمية ازدهر فيها التفسير في زمن التابعين، هي مكة، والمدينة، والكوفة، لكن أثر المفسرين الذين نشئوا في هذه المراكز لم يقتصر على المدن التي نشئوا فيها، وإنما امتد إلى الأمصار الأخرى، فلم يكن في تلك العصور حدود تمنع العلماء من التنقل في الأمصار الإسلامية، أو طلبة العلم من الرحلة إلى العلماء في مكان إقامتهم. أما مكة فقد نشأت فيها مدرسة للتفسير، أرسى ابن عباس أسسها، وشادها تلامذته من بعده. وأشهر تلامذته مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي (ت 104 هـ). قال عبد الله بن أبي مليكة: «رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله» (¬2). ويروى عن مجاهد أنه قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت؟ وكيف كانت؟ (¬3). وحاز مجاهد سمعة طيبة في مجال التفسير، فنجد خصيف بن عبد الرحمن (ت 137 هـ) يقول: «كان أعلمهم بالتفسير مجاهد» (¬4). وكان سفيان الثوري (ت 161 هـ) يقول: «إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به» (¬5). ¬

_ (¬1) مقدمة في التفسير ص 61، ومجموع الفتاوى (له) 13/ 347. (¬2) الطبري: جامع البيان 1/ 40. (¬3) السيوطي: الإتقان 4/ 210، والداودي: طبقات المفسرين 2/ 306. (¬4) السيوطي: الإتقان 4/ 210. (¬5) الطبري: جامع البيان 1/ 40.

وينسب المؤرخون إلى مجاهد كتابا في (التفسير) (¬1). وقد طبع تفسير مجاهد من رواية عبد الله بن أبي نجيح (ت 131 هـ) (¬2). ولا يتناول هذا التفسير كل آيات القرآن، وإنما يقتصر على مواضع من كل سورة، على ترتيب المصحف. وفيه شرح لغوي للألفاظ، كما يبيّن أحيانا سبب نزول الآيات والقصة التي تتعلق بها (¬3). ومن علماء التفسير الذين أخذوا عن ابن عباس، من طبقة التابعين، عكرمة مولى ابن عباس (ت 104 هـ)، الذي قال: «كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل، ويعلمني القرآن والسنن». وأثمرت هذه الشدة في التعليم، فكان الشعبي يقول: «ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة»، ويفخر عكرمة بقوله: «لقد فسّرت ما بين اللوحين»، لكنه لا ينكر فضل أستاذه عليه فيقول: «كل شيء أحدثكم في القرآن فهو عن ابن عباس» (¬4). وممن أخذ التفسير عن ابن عباس أيضا عطاء بن أبي رباح (ت 115 هـ)، وطاوس بن كيسان اليماني (ت 106 هـ)، وأبو الشعثاء جابر بن زيد البصري (ت 103 هـ)، ومنهم سعيد بن جبير الكوفي (ت 95 هـ) (¬5). أما المدينة فإنه كان فيها من التابعين ممن اشتهر بالتفسير زيد بن أسلم المدني (ت 136 هـ)، الذي كانت له حلقة للعلم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عنه يعقوب بن شيبة: ثقة من أهل الفقه والعلم، عالم بتفسير القرآن، له كتاب في (التفسير) يرويه عنه ولده عبد الرحمن (¬6). ¬

_ (¬1) الداودي: طبقات المفسرين 2/ 306، وفؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي 1/ 186. (¬2) طبع سنة 1396 هـ 1976 م، بتحقيق عبد الرحمن الطاهر بن محمد السورتي. (¬3) ينظر: مقدمة محقق تفسير مجاهد ص 37. (¬4) ينظر في هذه الأقوال: السيوطي: الإتقان 4/ 211. (¬5) ينظر: السيوطي: الإتقان 4/ 210 - 211. (¬6) السيوطي: طبقات الحفاظ ص 53، والداودي: طبقات المفسرين 1/ 176.

وكان من تلامذة زيد الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ)، كما أخذ عنه التفسير ابنه عبد الرحمن (ت 182 هـ) الذي ألّف كتابا في (التفسير) وآخر في (الناسخ والمنسوخ) (¬1). أما في الكوفة فإن أشهر علمائها في التفسير زمن التابعين تلامذة عبد الله بن مسعود، يقول مسروق بن عبد الرحمن (ت 63 هـ)، أحد تلامذة هذه المدرسة: «كان عبد الله يقرأ علينا السورة، ثم يحدثنا فيها، ويفسرها، عامة النهار» (¬2)، ومن تلامذة هذه المدرسة أيضا علقمة بن قيس (ت 61 هـ)، والأسود بن يزيد النخعي (ت 64 هـ)، وعبيدة بن عمرو السلماني (ت 73 هـ)، ومرة بن شراحيل الهمداني (ت 76 هـ) (¬3). وكان في البصرة في عصر التابعين مفسرون، أخذ عدد منهم التفسير عن ابن عباس مثل: أبي الشعثاء جابر بن زيد (ت 103 هـ) الذي أخذ التفسير عن ابن عباس، ومنهم قتادة بن دعامة السدوسي (ت 118 هـ)، والحسن البصري (ت 110 هـ)، والربيع بن أنس البصري (ت 139 هـ) نزيل خراسان (¬4). تلك هي المعالم البارزة لجهود التابعين في التفسير، وهي لا ترسم صورة كافية لتطور التفسير في هذه المرحلة التي تمثل البداية للتدوين المنظم لهذا العلم. ولكن فقدان جل تفاسير هذه الفترة يستلزم تتبع الروايات المنقولة عن مفسري التابعين في التفاسير الكبيرة، مثل: تفسير الطبري، وابن كثير، والسيوطي، ويمكن من خلال ذلك إعادة تشكيل تلك التفاسير ودراستها، لكن ذلك يخرج عن طبيعة هذه المحاضرات وهدفها. ¬

_ (¬1) الداودي: طبقات المفسرين 1/ 165. (¬2) الطبري: جامع البيان 1/ 35. (¬3) ينظر: محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 118 - 126. (¬4) ينظر: الزركشي: البرهان 2/ 158، والسيوطي: الإتقان 4/ 210.

رابعا - التفسير في مرحلة المصنفات الجامعة

رابعا- التفسير في مرحلة المصنفات الجامعة: ازدادت مادة التفسير بعد عصر التابعين، وبدأت تظهر المصنفات التي جمع مؤلفوها أقوال الصحابة والتابعين في التفسير، وذكر الداودي في كتابه (طبقات المفسرين) في ترجمة الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ) أنه «هو أول من صنف تفسير القرآن على طريقة الموطأ، تبعه الأئمة، فقلّ حافظ إلا وله تفسير مسند» (¬1). وتحدث السيوطي عن حركة التأليف في مجال التفسير بعد عصر التابعين، فقال بعد أن ذكر المفسرين من الصحابة والتابعين: «ثم بعد هذه الطبقة ألّفت تفاسير تجمع أقوال الصحابة والتابعين، كتفسير سفيان بن عيينة (ت 198 هـ)، ووكيع بن الجراح (ت 197 هـ)، وشعبة بن الحجاج (ت 160 هـ)، ويزيد بن هارون (ت 206 هـ)، وعبد الرزاق (ت 211 هـ)، وآدم بن أبي إياس (ت 211 هـ)، وإسحاق بن راهويه (ت 238 هـ)، وروح بن عبادة (ت 250 هـ)، وعبد بن حميد (ت 249 هـ)، وسنيد (ت 226 هـ)، وأبي بكر بن أبي شيبة (ت 235 هـ)، وآخرين. وبعدهم ابن جرير الطبري، وكتابه أجل التفاسير وأعظمها، ثم ابن أبي حاتم، وابن ماجة، وابن مردويه، وأبو الشيخ بن حيان، وابن المنذر، في آخرين، وكلها مسندة إلى الصحابة والتابعين وأتباعهم، وليس فيها غير ذلك إلا ابن جرير، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض، والإعراب والاستنباط، فهو يفوقها بذلك» (¬2). وتحدث أبو حيان الأندلسي عن تطور التأليف في التفسير بعد عصر التابعين ¬

_ (¬1) طبقات المفسرين 2/ 299. وذكر الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في كتابه (التفسير ورجاله ص 33) أن عبد الملك بن جريج (ت 150 هـ) كان أول من ألف في التفسير. لكني وجدت الداودي يذكر أن ابن جريج كان أول من صنف الكتب في الحجاز (طبقات المفسرين 1/ 357). (¬2) الإتقان 4/ 211 - 212.

وظهور الحاجة إلى التعمق في الكشف عن معاني القرآن، فقال: «ثم تتابع الناس في التفسير وألفوا فيه التآليف. وكانت تآليف المتقدمين أكثرها إنما هي في شرح اللغة، ونقل سبب ونسخ وقصص، لأنهم كانوا قريبي عهد بالعرب وبلسان العرب، فلما فسد اللسان وكثرت العجم، ودخل في دين الإسلام أنواع الأمم المختلفو الألسنة ... احتاج المتأخرون إلى إظهار ما انطوى عليه كتاب الله تعالى من غرائب التراكيب، وانتزاع المعاني، وإبراز النكت البيانية، حتى يدرك ذلك من لم تكن في طبعه، ويكتسبها من لم تكن نشأته عليها ... » (¬1). وتطورت الحياة العلمية في الأمة الإسلامية تطورا سريعا، وتنوعت المعارف والثقافات، وبرزت المذاهب الفقهية، والاتجاهات الفكرية، وانعكس ذلك على تفسير القرآن الكريم، فتأثرت التفاسير بثقافة المفسر وتوجهاته الفكرية، فتنوعت تبعا لذلك. وكان السيوطي، رحمه الله، قد تحدث عن هذا التطور في التأليف في علم التفسير، فقال بعد أن ذكر التفاسير الجامعة لأقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم، فقال: «ثم ألّف في التفسير خلائق! فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال بترا، فدخل من هنا الدخيل، والتبس الصحيح بالعليل. ثم صار كل من يسنح له قول يورده، ومن يخطر بباله شيء يعتمده، ثم ينقل ذلك عنه من يجيء بعده ظانّا أن له أصلا، غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح، ومن يرجع إليهم في التفسير، حتى رأيت من حكى في تفسير قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) [الفاتحة] نحو عشرة أقوال. وتفسيرها باليهود والنصارى هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة والتابعين وأتباعهم، حتى قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في ذلك اختلافا بين المفسرين. ¬

_ (¬1) البحر المحيط 1/ 13.

ثم صنّف بعد ذلك قوم برعوا في علوم، فكان كل منهم يقتصر في تفسيره على الفن الذي يغلب عليه: فالنحوي تراه ليس له همّ إلا الإعراب، وتكثير الأوجه المحتملة فيه، ونقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته، كالزجّاج، والواحدي في «البسيط»، وأبي حيّان في «البحر» و «النهر». والأخباري ليس له شغل إلا القصص واستيفاءها والإخبار عمّن سلف، سواء كانت صحيحة أو باطلة، كالثعلبي. والفقيه يكاد يسرد فيه الفقه من باب الطهارة إلى أمهات الأولاد، وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع الفقهية التي لا تعلق لها بالآية، والجواب عن أدلة المخالفين، كالقرطبي. وصاحب العلوم العقلية، خصوصا فخر الدين، قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وشبهها، وخرج من شيء إلى شيء، حتى يقضي الناظر فيه العجب من عدم مطابقة المورد للآية، قال أبو حيان في «البحر» (¬1): جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء: فيه كل شيء إلا التفسير. والمبتدع ليس له قصد إلا تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد، بحيث إنه متى لاح له شاردة من بعيد اقتنصها، أو وجد موضعا فيه أدنى مجال سارع إليه ... » (¬2). ¬

_ (¬1) البحر المحيط 1/ 341. (¬2) الإتقان 4/ 212 - 213.

المبحث الثاني دراسة موجزة لأشهر التفاسير القديمة

المبحث الثاني دراسة موجزة لأشهر التفاسير القديمة إن دراسة التفاسير التي كتبها علماء السلف دراسة وافية تكشف عن حال كاتبيها، وتبين منهجهم في التفسير، أمر يحتاج إلى مجال أوسع مما تسمح به طبيعة هذه المحاضرات (¬1)، إلا أن ذلك لا يمنع من معرفة أسماء أشهر التفاسير القديمة، والاتجاهات العامة التي كتبت في إطارها، ودراسة تفاسير تمثل تلك الاتجاهات، حتى يتعرف الطالب عليها وتكون لديه فكرة عنها، تساعده في الرجوع إليها والاستفادة منها، عند الرغبة في ذلك أو الحاجة إليه. أولا- من كتب التفسير بالمأثور: «جامع البيان للطبري» الطبري هو محمد بن جرير، أبو جعفر، ولد بآمل سنة 224 هـ، ورحل في طلب العلم، وسمع بالعراق ومصر والشام من خلق كثير، واستوطن بغداد، وأقام فيها حتى وفاته سنة 310 هـ (¬2). قال عنه الخطيب البغدادي: «أحد أئمة العلماء، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه ومعرفته وفضله، وقد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات، بصيرا بالمعاني، فقيها بأحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين، في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في (تاريخ ¬

_ (¬1) أوسع كتاب في تراجم المفسرين: (طبقات المفسرين) للداودي، وهو مطبوع في جزءين، وأوسع كتاب في اتجاهات التفسير ومناهج المفسرين: كتاب (التفسير والمفسرون) لمحمد حسين الذهبي، وهو مطبوع في جزءين. (¬2) ينظر ترجمة الطبري في طبقات المفسرين للداودي 2/ 106 - 114.

الأمم والملوك) وكتاب في (التفسير) لم يصنّف أحد مثله، وكتاب سماه (تهذيب الآثار) لم أر سواه في معناه، إلا أنه لم يتمه، وكتاب حسن في القراءات سماه (الجامع)، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختار من أقاويل الفقهاء، وتفرد بمسائل حفظت عنه» (¬1). وتفسير الطبري المسمى (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) عظيم القدر، عرف قيمته القدماء والمعاصرون. قال عنه أبو حامد الأسفراييني: «لو رحل رجل إلى الصين في تحصيله لم يكن كثيرا» (¬2). ووصف ابن تيمية تفسير الطبري بأنه من أجل التفاسير وأعظمها قدرا (¬3). وقال السيوطي: «فإن قلت: فأي التفاسير ترشد إليه، وتأمر الناظر أن يعوّل عليه؟ قلت: تفسير الإمام أبي جعفر بن جرير الطبري، الذي أجمع العلماء المعتبرون على أنه لم يؤلف في التفسير مثله» (¬4). وتفسير الطبري من أكبر كتب التفسير، يقع في ثلاثين جزءا، وهو مطبوع عدة طبعات. وهو تفسير شامل فسّر فيه الطبري القرآن الكريم آية آية، وكلمة كلمة. وهو يقسّم السورة إلى مجموعات، تضم كل مجموعة آية أو أكثر، ويبدأ تفسير كل مجموعة بقوله: (القول في تأويل (¬5) قوله تعالى ... )، ثم يبيّن المعنى في إيجاز بأسلوبه وعبارته، ثم يقول: (وبمثل الذي قلنا في تأويل الآية قال جماعة من أهل التأويل)، ويعقب ذلك مباشرة بقوله: (ذكر من قال ذلك) فيذكر الروايات المنقولة في الآية أو الكلمة التي يفسرها عن النبي صلى الله عليه وسلم أو مفسري الصحابة والتابعين وتابعيهم. وإذا كان هناك اختلاف في تفسير شيء من القرآن ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 163. (¬2) السيوطي: طبقات الحفاظ ص 307. (¬3) مقدمة في أصول التفسير ص 90، ومجموع الفتاوى (له) 13/ 361. (¬4) الإتقان 4/ 213. (¬5) يستخدم الطبري كلمة (التأويل) مرادفة لكلمة (التفسير).

بين أهل التفسير فإنه يقول: (وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ... فقال بعضهم ... وقال آخرون). والطبري لا يقف عند حدود النقل، فكثيرا ما يرجح بين الروايات، أو ينقدها، ويختار من ذلك ما يراه أقوى حجة وأوضح دليلا، ويقول: (والصواب عندنا في ذلك). وهو يذكر وجوه القراءات ويوجهها، ويذكر وجوه الإعراب ويبين آراء النحويين فيها، ويشير إلى الأحكام الفقهية عند تفسيره آيات الأحكام فيبين مذاهب الفقهاء فيها (¬1). ويأتي تفسير الطبري على رأس مجموعة من التفاسير التي التزمت بنقل الروايات المأثورة في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين خاصة، ولعل أشهر التفاسير في هذا الاتجاه بعد تفسير الطبري (¬2) ما يأتي (¬3): 1 - بحر العلوم- للسمرقندي، وهو أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم، المتوفى سنة 375 هـ. 2 - الكشف والبيان عن تفسير القرآن- للثعلبي، وهو أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم، المتوفى سنة 427 هـ. 3 - معالم التنزيل- للبغوي، وهو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء، المتوفى سنة 510 هـ. 4 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز- لابن عطية، وهو أبو محمد عبد الحق بن غالب الأندلسي، المتوفى سنة 546 هـ. ¬

_ (¬1) ينظر تفصيل منهج الطبري في التفسير: محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 173 - 174. (¬2) ألّف يحيى بن سلام البصري الإفريقي (ت 200 هـ) كتابا جامعا في التفسير، بناه على إيراد الأخبار مسندة، وتعقبها بالنقد والاختيار، ولا يزال مخطوطا (ينظر: محمد الفاضل ابن عاشور: التفسير ورجاله ص 43). (¬3) ينظر: محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 204.

الإسرائيليات في كتب التفسير بالمأثور

5 - تفسير القرآن العظيم- لابن كثير، وهو الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل ابن عمر الدمشقي المتوفى سنة 774 هـ. 6 - الجواهر الحسان في تفسير القرآن- للثعالبي، وهو أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الجزائري، المتوفى سنة 876 هـ. 7 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور- للسيوطي، وهو جلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر، المتوفى سنة 911 هـ. الإسرائيليات في كتب التفسير بالمأثور: وأخذ على كتب التفسير بالمأثور أنه دخلها كثير من الروايات المنقولة عن أهل الكتاب، تتعلق بتفسير الآيات التي تتحدث عن بدء الخليقة وقصص الأنبياء وأخبار الأمم الغابرة، مما لا علاقة له بأمور العقيدة والأحكام الشرعية، وهو ما يسمى عند أهل التفسير بالإسرائيليات نسبة إلى بني إسرائيل (¬1). ولا شك في أن القرآن الكريم نسخ الديانات السابقة، كما نسخ كتبها، لكنّ هناك موضوعات أشار إليها القرآن الكريم ورد ذكرها في كتب الأنبياء السابقين مثل التوراة والإنجيل، لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الاطلاع عليها، لكن مع الحذر من أن تكون محرّفة أو منتحلة. فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بلّغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (¬2). كما روى البخاري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه قال: «كان أهل ¬

_ (¬1) تفصيل موضوع الإسرائيليات في كتب التفسير ينظر عند: رمزي نعناعة: الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير. ومحمد محمد أبو شهبة: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير. (¬2) مختصر صحيح البخاري 461 كتاب الأنبياء رقم الحديث 1379.

الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى (136) الآية» (¬1). وكان ابن تيمية، رحمه الله، قد ناقش الروايات الإسرائيلية في كتب التفسير، وقسمها على ثلاثة أقسام، فقد قال: «ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد (¬2)، فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم (¬3)، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني ... كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدتهم ... » (¬4). وأفاض ابن خلدون في الحديث عن أصل الإسرائيليات وسبب وجودها في كتب التفسير، فقال: «وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا، إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين، والمقبول والمردود، والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء، مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى، ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري 8/ 170. (¬2) في تفسير ابن كثير (1/ 5): «تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد». (¬3) يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: « ... وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج». (¬4) مقدمة في أصول التفسير ص 100، ومجموع الفتاوى (له) 13/ 366.

وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما يعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا علاقة له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة، وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الاحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم، وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرّى فيها الصحة التي يجب بها العمل، وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملئوا الكتب بهذه المنقولات، وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنهم بعد صيتهم، وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة، فتلقّيت بالقبول من يومئذ ... » (¬1). ويبدو أن تعليل ابن خلدون سبب ضعف تلك الروايات بأنها أخذت عن أهل الكتاب الذين كانوا يسكنون البادية لا ينطبق على جميع ما روي من تلك المنقولات، فقد جاء في الحديث السابق الذي رواه أبو هريرة، رضي الله عنه، أن أهل الكتاب كانوا يقرءون التوراة بالعبرانية ويترجمونها إلى العربية لأهل الإسلام، وهؤلاء لا يمكن وصفهم بأنهم من أهل البادية الذين لا علم عندهم، ولكن هذا النقل المباشر عن التوراة لا يمنع من وصف تلك الروايات بالضعف، أو عدم القطع بصحتها، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم)، لأن تلك الروايات قد تكون صحيحة، وقد تكون مكذوبة، بسبب ما تعرضت له كتبهم من التحريف والزيادة. إن أكثر ما يروى في كتب التفسير من الإسرائيليات يرجع إلى أربعة أشخاص هم (¬2): ¬

_ (¬1) المقدمة ص 439 - 440. (¬2) ينظر: محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 183.

ثانيا - من التفاسير اللغوية:"معاني القرآن وإعرابه - للزجاج"

1 - الصحابي الكريم عبد الله بن سلام، توفي بالمدينة سنة 43 هـ. 2 - كعب الأحبار، كعب بن ماتع الحميري، توفي بحمص سنة 32 هـ. 3 - وهب بن منبّه الصنعاني، توفي بصنعاء سنة 144 هـ على خلاف. 4 - عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، توفي سنة 150 هـ. وينبغي الحذر من اتهام هؤلاء الأربعة بالدس على الدين، فقد كانوا من جلة العلماء، وعبد الله بن سلام صحابي مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الآخرون من مشهوري التابعين، وصف ابن حجر كل واحد منهم بأنه ثقة (¬1). أما ما نقل عنهم من روايات فيجب أن ننظر إليه من خلال المنهج الصحيح الذي أشرنا إليه قبل قليل بشأن الإسرائيليات، فقد نقل هؤلاء الأربعة ما سمعوه أو قرءوه في كتب أهل الكتاب، وقد يكون صوابا وقد يكون باطلا، «ولكن يجب أن نفرّق في هذا المقام بين ما يصح أن يقال فيهم، وما يصح أن ينقل عنهم، فأما ما يصح أن يقال فيهم فهو الثقة والتقدير، على نحو ما ألمحنا، وأما الذي ينقل عنهم فمنه الصحيح وغير الصحيح، لكن عدم صحة ما لم يصح لا يعلل باتهامهم وتجريحهم ... » (¬2). ثانيا- من التفاسير اللغوية: «معاني القرآن وإعرابه- للزجاج» يقف هذا التفسير على رأس مجموعة من الكتب اتجهت بالتفسير اتجاها خاصا، وهو الاهتمام بالناحية اللغوية والنحوية لكلمات القرآن وعباراته، ومحاولة فهم النص القرآني من خلال ذلك، وتسمى هذه التفاسير بكتب معاني القرآن، ويذكر الزركشي أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح قال: «وحيث رأيت في كتب التفسير (قال أهل المعاني) فالمراد به مصنفو الكتب في معاني القرآن، كالزجاج ومن قبله» (¬3). ¬

_ (¬1) تقريب التقريب 1/ 366، و 2/ 494 و 652. (¬2) محمد عبد العظيم الزرقاني: مناهل العرفان 1/ 495. (¬3) البرهان 1/ 291، وينظر: السيوطي: الإتقان 2/ 3.

وذكر ابن النديم في كتابه (الفهرست) خمسة وعشرين كتابا في معاني القرآن ومشكله ومجازه، من تأليف كبار علماء العربية، منهم: الكسائي، والأخفش، ويونس بن حبيب، والمبرد، وقطرب، وأبو عبيدة، والفراء، وابن كيسان، وابن الأنباري، والزجاج، وثعلب، وغيرهم (¬1). وأشهر كتب معاني القرآن المعروفة في زماننا كتاب (معاني القرآن) لأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء (ت 207 هـ)، وكتاب (معاني القرآن) لأبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش (ت 211 هـ)، و (مجاز القرآن) لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 210 هـ على خلاف)، وكتاب (معاني القرآن وإعرابه) لأبي إسحاق إبراهيم بن السّريّ الزجاج (ت 311 هـ)، وهو الكتاب الذي نريد أن نتحدث عنه ممثلا لاتجاه متميز في تفسير القرآن الكريم، يهتم بالناحية اللغوية أكثر من الجوانب الأخرى في التفسير. والزجاج رجل يشهد الذين ترجموا له بأنه كان من أهل الفضل والدين، حسن الاعتقاد، جميل المذهب، رفعته همته من مهنة كان فيها يخرط الزجاج، إلى علم شامخ بين اللغويين والنحاة، ذلك أنه آنس من نفسه ميلا إلى النحو واشتهى التبحر فيه، فأخذه عن ثعلب رأس النحاة الكوفيين في بغداد في زمانه، ثم انتقل عنه إلى المبرد رأس النحاة البصريين في بغداد في زمانه، وقد خلّف الزجاج التآليف في تفسير القرآن، واللغة، والنحو، والعروض (¬2). ويقوم منهج الزجاج في كتابه (معاني القرآن وإعرابه) على ذكر الآية، ثم اختيار ألفاظ منها ليحللها تحليلا لغويا، فيذكر أصل الكلمة، والمعنى الذي تدل عليه، ويستشهد بما يؤيد رأيه من كلام العرب، وقد يستطرد فيشرح الأمثلة التي يستشهد بها، ثم يعود لإعراب الآية إن كان فيها ما يحتاج إلى إعراب. ¬

_ (¬1) الفهرست ص 34. (¬2) ينظر: الداودي: طبقات المفسرين 1/ 7 - 10، ومصطفى الجويني: مناهج في التفسير ص 93 - 94.

ويقرر الزجاج أن هناك ترابطا بين الإعراب والمعنى حيث قال: «إنما نذكر مع الإعراب المعنى والتفسير لأن كتاب الله ينبغي أن يبيّن، ألا ترى أن الله يقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (¬1) فحضضنا على التدبر والنظر، ولكن لا ينبغي لأحد أن يتكلم إلا على مذهب أهل اللغة أو ما يوافق نقلة أهل العلم» (¬2). ويعنى الزجاج في كتابه القراءات القرآنية، معتمدا في ذلك على كتاب أبي عبيد القاسم بن سلّام (ت 224 هـ) في القراءات، قال: «وأكثر ما أرويه من القراءة في كتابنا هذا فهو عن أبي عبيد، مما رواه إسماعيل بن إسحاق، عن أبي عبد الرحمن، عن أبي عبيد» (¬3). ويبدو أن هذا المنحى في تفسير القرآن الكريم أصابه بعد الزجاج تطور أخرجه من دائرة التفسير إلى ميدان النحو، فالزجاج كان قد عنون كتابه (معاني القرآن وإعرابه)، ثم جاء أبو جعفر النحاس (أحمد بن محمد ت 338 هـ) بعد الزجاج وفصل بين معاني القرآن وإعراب القرآن، فألف كتابا في (معاني القرآن) وآخر في (إعراب القرآن)، فظهرت بعدئذ كتب إعراب القرآن التي تعنى بالناحية الإعرابية والوجوه النحوية، دون الاهتمام بالتفسير والمعنى، كما يظهر ذلك جليا في كتاب (مشكل إعراب القرآن) لمكي بن أبي طالب القيسي (ت 437 هـ) وكتاب (البيان في غريب إعراب القرآن) لأبي البركات الأنباري (ت 577 هـ)، وكتاب (التبيان في إعراب القرآن) لأبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري (ت 616 هـ). ولا يعني ذلك أن اهتمام المفسرين بالناحية اللغوية والإعرابية لآيات القرآن قد اختفى من كتب التفسير، فالمعرفة اللغوية والنحوية من أدوات المفسر الضرورية، لكن هذه الناحية لم تعد سمة بارزة في تفاسير القرآن الكريم، وقد ¬

_ (¬1) في سورة النساء آية 28، وسورة محمد آية 24. (¬2) معاني القرآن وإعرابه 1/ 161. (¬3) المصدر نفسه 1/ 157.

ثالثا - من التفاسير الفقهية:"الجامع لأحكام القرآن - للقرطبي"

تبرز في بعض التفاسير، مثل تفسير (البحر المحيط) لأبي حيان الأندلسي (محمد ابن يوسف ت 745 هـ) الذي اعتنى فيه بالناحية اللغوية والنحوية عناية كبيرة، لكنه لم يهمل النواحي الأخرى التي لها اتصال بالتفسير (¬1). ومن التفاسير التي تميزت بجانب من جوانب الدراسة اللغوية تفسير الزمخشري (محمود بن عمر ت 538 هـ) المعروف باسم (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل)، فقد امتاز تفسير الزمخشري باهتمامه بالناحية البلاغية لأسلوب القرآن الكريم، وبيان جمال أسلوبه وبديع نظمه- على الرغم من النزعة الاعتزالية فيه- فالزمخشري يكثر في تفسيره من الكلام على أنواع الاستعارات والمجازات والأشكال البلاغية الأخرى، فحوى تفسيره ثروة بلاغية في المعاني والبيان لا تكاد توجد في تفسير آخر، وقد ترك الكشاف من هذه الناحية أثرا واضحا في التفاسير الأخرى (¬2). ثالثا- من التفاسير الفقهية: «الجامع لأحكام القرآن- للقرطبي» نظر عدد من المفسرين إلى الآيات القرآنية من ناحية تضمنها أحكاما فقهية، فبحثوا في تلك الآيات وفسروها، وبينوا ما يستنبط منها من أحكام، واحتجوا له. وظهرت مصنفات مستقلة تتناول آيات الأحكام دون ما سواها، أو مركّزة على تلك الآيات إلى جانب تفسير ما سواها من آيات القرآن، وأشهر التفاسير في هذا الاتجاه (¬3): 1 - أحكام القرآن- للإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ)، الذي طبع منه ما جمعه أبو بكر البيهقي. ¬

_ (¬1) ينظر: محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 318. (¬2) المصدر نفسه 1/ 443. (¬3) ينظر: الزركشي: البرهان 2/ 3.

2 - أحكام القرآن- لأبي بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص، الفقيه الحنفي، المتوفى سنة 370 هـ. 3 - أحكام القرآن- لأبي الحسن علي بن محمد المعروف بالكياالهراسي، الفقيه الشافعي، المتوفى سنة 504 هـ. 4 - أحكام القرآن- لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، الفقيه المالكي، المتوفى سنة 543 هـ. 5 - الجامع لأحكام القرآن- لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، الفقيه المالكي، المتوفى سنة 671 هـ. والجامع لأحكام القرآن للقرطبي من أوسع التفاسير التي عنيت بالأحكام الفقهية، قال الداودي في ترجمة المؤلف: مصنف التفسير المشهور الذي سارت به الركبان، كان من عباد الله الصالحين والعلماء العارفين، جمع في تفسير القرآن كتابا كبيرا في خمسة عشر مجلدا، وهو من أجل التفاسير، أسقط منه القصص والتاريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن، وذكر القراءات والإعراب والناسخ والمنسوخ (¬1). وقد وضح القرطبي في أول الكتاب هدفه من التأليف، وبيّن منهجه فيه، فقال: «وبعد، فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع، الذي استقل بالسّنّة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض، رأيت أن أشتغل به مدى عمري، وأستفرغ فيه منّتي (¬2)، بأن أكتب فيه تعليقا وجيزا، يتضمن نكتا من التفسير واللغات والإعراب والقراءات والرد على أهل الزيغ والضلالات، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ... ونحن نشير إلى جمل من ذلك في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب. وأضرب عن كثير من قصص المفسرين ¬

_ (¬1) طبقات المفسرين 2/ 65 - 66. (¬2) المنّة: القوة.

رابعا - من التفاسير المتأثرة بالنزعة العقلية

وأخبار المؤرخين، إلا ما ندر منه ولا غنى عنه للتبيين، واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام، بمسائل تسفر عن معناها، وترشد الطالب إلى مقتضاها، فضمنت كل آية تتضمن حكما أو حكمين فما زاد مسائل نبيّن فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير والغريب والحكم، فإن لم تتضمن حكما ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل، هكذا إلى آخر الكتاب، وسميته ب (الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان ... » (¬1). والذي يقرأ في هذا التفسير يجد أن القرطبي، رحمه الله، قد وفّى بما شرطه على نفسه في هذا التفسير، فهو يعرض لذكر أسباب النزول والقراءات، والإعراب، ويبين معنى الغريب من ألفاظ القرآن، ويحتكم إلى اللغة كثيرا، ويكثر من الاستشهاد بأشعار العرب، وهو ينقل عن السلف كثيرا مما أثر عنهم في التفسير والأحكام، مع نسبة كل قول إلى قائله، وممن نقل عنهم كثيرا: ابن جرير الطبري، وابن عطية، وابن العربي، والكيا الهراسي، وأبو بكر الجصاص (¬2). والقرطبي حين يبحث في آيات الأحكام، ويذكر مسائل الخلاف، يورد أدلة كل رأي، ويعلق عليها، ولا يتعصب لمذهبه المالكي، فربما رجح رأي غير الإمام مالك في بعض المسائل، وهو حين يرد أو ينقد فإنه يسوق ذلك في أدب وعفة، ويبتعد عن التعصب والتجريح (¬3). رابعا- من التفاسير المتأثرة بالنزعة العقلية: «التفسير الكبير- للفخر الرازي» اعتمد عدد من المفسرين على النظرة العقلية في تفسير القرآن الكريم، فتوسعوا في تفسير آيات العقيدة والآيات الكونية، مستندين إلى ما تمخضت عنه ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن 1/ 2 - 3. (¬2) ينظر: محمد حسين الذهبي 2/ 458. (¬3) ينظر: مناع القطان: مباحث في علوم القرآن ص 380 - 381.

الحضارة الإسلامية من ثقافة وعلوم عقلية في العصور المتعاقبة، فظهر أثر ذلك على عدد من التفاسير أشهرها (¬1): 1 - التفسير الكبير المسمى مفاتيح الغيب- لأبي عبد الله محمد بن عمر فخر الدين الرازي، المتوفى سنة 606 هـ. 2 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل- للقاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي، المتوفى سنة 685 هـ على خلاف. 3 - مدارك التنزيل وحقائق التأويل- لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، المتوفى سنة 701 هـ. 4 - غرائب القرآن ورغائب الفرقان- لنظام الدين بن الحسن النيسابوري، المتوفى سنة 728 هـ. 5 - لباب التأويل في معاني التنزيل- لعلاء الدين أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم، المعروف بالخازن، المتوفى سنة 741 هـ. 6 - السراج المنير في الإعانة على معرفة معاني كلام ربنا الحكيم الخبير- لمحمد ابن محمد، المعروف بالخطيب الشربيني، المتوفى سنة 977 هـ. 7 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم- لأبي السعود محمد بن محمد ابن مصطفى المتوفى بالقسطنطينية سنة 982 هـ. ولم يكن الرازي أول من اتجه بالتفسير هذه الوجهة، لكنه كان أكثر توسعا من غيره فيها، وفتح الطريق واسعا للمفسرين من بعده للمضي فيه، فظهرت مجموعة من التفاسير اعتمدت على النظرة العقلية في تفسير القرآن، من غير أن تهمل التفسير المنقول، وكانت هذه التفاسير تعكس في الغالب شخصية المفسر ¬

_ (¬1) ينظر: محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 289.

العلمية، فتنوعت لذلك طريقة معالجة تفسير الآيات في هذه التفاسير ولكن جميعها تعتمد على النظرة العقلية والاجتهاد في التفسير بالرأي المبني على الدليل، وسوف نتحدث عن تفسير الرازي الذي يقف في مقدمة هذه المجموعة من التفاسير. أما الرازي فهو محمد بن عمر بن الحسين، أبو عبد الله، فخر الدين المفسّر، المتكلم، إمام وقته في العلوم العقلية، وأحد الأئمة في العلوم الشرعية، صاحب المصنفات المشهورة، والفضائل الغزيرة المذكورة، ولد في شهر رمضان سنة 544 هـ، ببلاد الري، وكانت وفاته في يوم الاثنين يوم عيد الفطر من سنة 606 هـ بمدينة هراة (¬1). وكانت قاعدة ثقافة الرازي واسعة جدا، يظهر ذلك من قائمة كتبه، فهي في معارف متنوعة، وفنون عدة: في العلوم النقلية والعقلية والطبيعية، فقد ألّف في تفسير القرآن، والفقه، واللغة، والأدب، والتاريخ، وعلم الكلام، والمنطق، والفلسفة، والرياضة، والفلك، والطب (¬2). وتفسير الرازي هو (التفسير الكبير)، ويسمى أيضا (مفاتيح الغيب)، وكان هناك شك في إتمام الرازي تأليف هذا التفسير، وقيل: إنه كتب معظمه وأتمه بعض المتأخرين (¬3)، لكن رجح بعض الباحثين المحدثين أن يكون الرازي قد كتب التفسير كله (¬4). ¬

_ (¬1) تنظر ترجمة الرازي عند: الداودي: طبقات المفسرين 2/ 213 - 217. (¬2) ينظر: محسن عبد الحميد: الرازي مفسرا ص 19 و 35. والداودي: طبقات المفسرين 2/ 216. (¬3) محمد الفاضل بن عاشور: التفسير ورجاله ص 119، ومحمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 291. (¬4) محسن عبد الحميد: الرازي مفسرا ص 52 - 63.

والرازي حين بدأ بتفسير سورة الفاتحة أطال الكلام فيها كثيرا، وأورد في تفسيرها من المسائل والفوائد الشيء الكثير، لكنه عاد حين أخذ في تفسير سورة البقرة إلى المنهج المعروف في التفسير الذي يدور على ألفاظ وعبارات الآيات القرآنية بشكل مباشر، ومع ذلك فإن تفسير الرازي يعد من التفاسير المطولة، لكثرة المسائل التي يثيرها الرازي وهو يفسر آيات القرآن. وأكثر الرازي في تفسيره من إيراد قضايا علم الكلام ومسائل العقيدة، لأنه يعتقد أن هذا العلم من أشرف العلوم، بسبب اتصاله بالله الخالق، سبحانه وتعالى، لأنه لا طريق، في رأيه، إلى معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال. والناظر في هذا التفسير يجد نفسه أمام منهج عقلي يقوم على ما امتاز به الرازي من غزارة في العلم وقوة في الحجة. وهذا الاتجاه العقلي عند الرازي في تفسيره لا يعني أنه كان يفضل ثمرات العقول على صحيح المنقول، فإنه كان إذا ثبت النقل فسر الآية به، ولم يعدل عنه إلى غيره، فالمقصود بالمنهج العقلي عند الرازي هو تفسير القرآن الكريم فيما لم يرد فيه نص، لأن النقل إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وحيا من الله تعالى، قاطعا في معناه، غير مخالف لما تؤدي إليه العقول، لأن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح، لأنهما صادران من مبدع واحد، فمن المحال أن يتعارضا تعارضا حقيقيا (¬1). والرازي في تفسيره يهتم بكثير من القضايا ذات الصبغة العامة، فهو يكثر من الاستطراد إلى العلوم الرياضية والطبيعية، عند تفسير الآيات الكونية، ويناقش مسائل العقيدة كلما سنحت الفرصة لذلك، وهو لا يكاد يمر بآية من آيات الأحكام إلا يذكر مذاهب الفقهاء فيها، ويستطرد كذلك إلى ذكر المسائل الأصولية والنحوية والبلاغية، ومؤكدا على مظاهر ووجوه إعجاز القرآن، وبالجملة فالكتاب أشبه بموسوعة في التفسير وعلم الكلام وعلوم الكون والطبيعة (¬2). ¬

_ (¬1) ينظر: المصدر السابق ص 67 وما بعدها. (¬2) ينظر: محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 294.

خامسا - من التفاسير الصوفية:"لطائف الإشارات" - للقشيري

وهذا الشمول في تفسير الرازي هو الذي يوضح لنا قول أبي حيان في تفسيره (البحر المحيط): «جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء: فيه كل شيء إلا التفسير» (¬1). ويبدو ان الرازي كان يشعر بتوسعه في المباحث العقلية والكونية، فقال مدافعا عن موقفه: «وربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال: إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم، وذلك خلاف المعتاد، فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته ... إن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السماوات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية أحوال الضياء والظلام وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذكر هذه الأمور في أكثر السور، وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالها جائزا لما ملأ الله كتابه منها ... » (¬2). خامسا- من التفاسير الصوفية: «لطائف الإشارات» - للقشيري: التصوف منهج في الحياة ينحو نحو الزهد في زينة الدنيا، والاجتهاد في العبادة، وتهذيب النفس، وهو منهج إسلامي أصيل النشأة، لكنه تطور حتى صار على أيدي بعض المتأخرين فلسفة تتضمن أفكارا تتعارض مع التوحيد الخالص، وجاءت بتفسيرات تؤدي إلى تعطيل أحكام الشرع. وكتب عدد من كبار المتصوفة تفاسير للقرآن الكريم وفق منهجهم الذي يستند إلى الفكرة القائلة بأن لكل آية معنى ظاهرا ومعنى باطنا، وأنهم عن طريق الرياضة الروحية والتأمل العميق تنكشف لهم معاني للآيات تتجاوز دلالة الألفاظ اللغوية المتعارف عليها في اللغة العربية. ¬

_ (¬1) البحر المحيط 1/ 341، وينظر: السيوطي: الإتقان 4/ 213. (¬2) التفسير الكبي 14/ 120 - 122.

ومن أشهر التفاسير التي سلكت هذا المنهج (¬1): 1 - تفسير القرآن العظيم- لسهل بن عبد الله التستري، المتوفى سنة 283 هـ. 2 - حقائق التفسير- لأبي عبد الرحمن محمد بن الحسن السلمي، المتوفى سنة 412 هـ. 3 - لطائف الإشارات- لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، المتوفى سنة 465 هـ. 4 - عرائس البيان في حقائق القرآن- لأبي محمد روزبهان الشيرازي، المتوفى سنة 606 هـ. 5 - تفسير ابن عربي- وهو أبو بكر محمد بن علي، المتوفى سنة 638 هـ. 6 - التأويلات النجمية- لنجم الدين داية، المتوفى سنة 654 هـ، وأكمله علاء الدولة السماني المتوفى سنة 736 هـ. وأغلب ما في هذه التفاسير لا يعطي توضيحا بيّنا لآيات القرآن الكريم، ولا يقدم نموذجا صالحا لتمثيل التصوف الإسلامي بأمانة وصدق، حتى نجد الواحدي يقول في (حقائق التفسير) للسلمي: «إن كان اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر!» (¬2). وقد احتل (لطائف الإشارات) للقشيري موقعا متميزا بين تفاسير المتصوفة بفضل منزلة مؤلفه وثقافته الواسعة واعتداله في مسلكه الصوفي، قال محقق الكتاب: «ونستطيع بعد ذلك أن نميز بين تفسير القشيري في (لطائفه) وبين أولئك الذين تنسب تفاسيرهم إلى التصوف وأهله، أولئك الذين أسرفوا حين حملوا النص القرآني فوق ما يحتمل، وبدلا من أن يخضعوا للنص القرآني أخضعوا النص القرآني لنصرة مذاهبهم، وساروا في الدروب العقلية حتى جمحوا، وابتعدوا عن ¬

_ (¬1) ينظر: إبراهيم بسيوني: مقدمة تحقيق لطائف الإشارات 1/ 15 - 18. (¬2) ينظر: الزركشي: البرهان 2/ 171.

الخط الأصيل، حتى صارت تفاسيرهم جديرة بالدرس في مجالس الفلسفة والكلام لا في مجالس الرياضات والمجاهدات والأحوال، أما عند القشيري فليس هناك مذهب عقلي خبيء، ولا عقيدة باطنية مستورة» (¬1). أما القشيري فهو الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن، النيسابوري، الملقب زين الإسلام، ولد سنة 376 هـ، وتوفي سنة 465 هـ، كان فقيها بارعا، أصوليا محققا، متكلما سنّيا، محدثا حافظا، مفسرا متفننا، نحويا لغويا، أديبا كاتبا شاعرا، مليح الخط جدا، شجاعا بطلا، له في الفروسية واستعمال السلاح الآثار الجميلة (¬2). وهو صاحب (الرسالة) المشهورة الموصوفة بالرسالة القشيرية في التصوف، وكان قد أخذ التصوف عن أبي علي الدقاق خاصة. وكان من جملة ما ألفه القشيري (التفسير الكبير)، ألفه قبل سنة 410 هـ، وهو من أجود التفاسير وأوضحها (¬3)، استوفى فيه تفسير القرآن الكريم على الطريقة المعروفة بالاهتمام بالتفسير والاهتمام بفنون اللغة بما يوضح معاني الآيات (¬4). وألّف القشيري بعد ذلك تفسيره (لطائف الإشارات)، وهو تفسير صوفي للقرآن الكريم، وهو يعد أهم تفسير للقرآن الكريم على طريقة أرباب المجاهدات والأحوال. والذي يعنينا من أمر هذا النوع من التفسير، الذي يسميه بعض الدارسين بالتفسير الإشاري، هو أن نقف على الحجة التي يستند إليها، وحقيقة المنهج الذي يسير عليه في تفسير آيات القرآن الكريم. ¬

_ (¬1) إبراهيم بسيوني: مقدمة تحقيق لطائف الإشارات 1/ 36. (¬2) ينظر: الداودي: طبقات المفسرين 1/ 338 - 346. (¬3) المصدر نفسه 1/ 344. (¬4) إبراهيم بسيوني: مقدمة تحقيق لطائف الإشارات 1/ 38.

أما الحجة التي يستند إليها فهي رواية منقولة عن الحسن البصري، مرفوعة مرة وموقوفة أخرى، ونصها: «لكل آية ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع». وهذه الرواية بين أن تكون حديثا ضعيفا لإرساله، لأن الحسن، رحمه الله، لم يسمّ الصحابي الذي أخذ عنه هذا الحديث، وبين أن تكون من كلام الحسن البصري (¬1). وكان عبد الرزاق الصنعاني قد نقل الرواية في مصنفه عن الحسن، هكذا: «عن الحسن، قال: ... والذي نفسي بيده ما منه آية إلا ولها ظهر وبطن، وما فيه حرف إلا وله حد، ولكل حد مطلع». قال عبد الرزاق: فحدثت به معمرا، قال: امحه، لا تحدث به أحدا» (¬2). وفي معنى الرواية آراء للعلماء لخصها الزركشي بقوله: «أما قوله: «ظهر وبطن» ففي تأويله أربعة أقوال: أحدها: وهو قول الحسن، أنك إذا بحثت عن باطنها، وقسته على ظاهرها، وقفت على معناها. الثاني: قول أبي عبيد (¬3)، إن القصص ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين، وباطنها عظة للآخرين. الثالث: قول ابن مسعود، رضي الله عنه، أنه ما من آية إلا عمل بها قوم، ولها قوم سيعملون بها. الرابع: قاله بعض المتأخرين، إن ظاهرها لفظها، وباطنها تأويلها. وقول أبي عبيد أقربها» (¬4). ¬

_ (¬1) ينظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى 13/ 232، والسيوطي: الإتقان 4/ 196. (¬2) المصنف 3/ 358. (¬3) في البرهان (أبي عبيدة) والتصحيح من السيوطي: الإتقان 4/ 196. (¬4) البرهان 2/ 169، وينظر: السيوطي: الإتقان 4/ 196.

ونقل السيوطي قولا خامسا، حيث قال: «وحكى ابن النقيب قولا خامسا: إن ظهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر، وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها أرباب الحقائق» (¬1). وهذا هو التفسير الذي استند إليه بعض الدارسين في الاحتجاج للتفسير الصوفي، وليس هناك ما يرجح هذا التفسير للحديث. وقد اجتهد الشيخ محمد حسين الذهبي في محاولة العثور على الأصل الشرعي لهذا النوع من التفسير، وتأييد رواية الحسن البصري بآيات من القرآن (¬2). ودافع الآلوسي عن تفاسير الصوفية بقوله: «وأما كلام السادة الصوفية في القرآن فهو من باب الإشارات إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة، وذلك من كمال الإيمان، ومحض العرفان، لا أنهم اعتقدوا أن الظاهر غير مراد أصلا، وإنما المراد الباطن فقط، إذ ذاك اعتقاد الباطنية الملاحدة، توصلوا به إلى نفي الشريعة بالكلية ... » (¬3). وغلا بعض المعاصرين حين قال: «التفسير الصوفي للقرآن أوزن قدرا من التفسير الحرفي، فالتفسير الصوفي قد استنبط التفسير الحرفي وصعد منه إلى عوالم أخرى، قد استعد لها الصوفي برياضة نفسه، وتكوّن ثقافته، وسعة دوائره وأحاسيسه وملكاته الجديدة التي أقفرت منها قلوب الحرفيين!» (¬4). وعلى الرغم من أن بعض الدارسين حاول أن يقيد هذا النوع من التفسير بشروط (¬5)، فإن التفاسير الصوفية «تعتمد على أذواق غير مقيدة بالطرائق العلمية، ¬

_ (¬1) الإتقان: 4/ 196. (¬2) التفسير والمفسرون 2/ 352. (¬3) روح المعاني 1/ 7. (¬4) عبد القادر عطا: التفسير الصوفي للقرآن ص 67. (¬5) ذكر الشيخ محمد حسين الذهبي عدة شروط (التفسير والمفسرون 2/ 377) هي: أولا: أن لا يكون التفسير الإشاري منافيا للظاهر من النظم القرآني.

ولا محكمة الاستخراج على قواعد اللغة وعلومها» (¬1). ومن الواضح أن مثل هذا المنهج يؤدي إلى أنماط عديدة من التفسيرات الذاتية، تتنوع بعدد المطبقين لمثل هذا المنهج تنوعا حتميا، وذلك بناء على اختلاف المواهب والاستعدادات الروحية التي هي منحة خالصة من فضل الله، وما حققه الصوفي بتأييد الله في طريقه من جهاد وتقدم، ومثل هذا التنوع يصبح خطرا ولا شك إذا قصد به أن يكون المرجع الأول والأخير للمسلم، مهما اختلفت درجته، لما يؤدي إليه من الاضطراب والبلبلة، ولكنه قد يصبح ثروة طائلة وزادا روحيا قيّما إذا وفّى الإنسان بالأصول العامة وأقام مقتضيات الأحكام الشرعية إجمالا وتفصيلا (¬2). وهذا المنهج هو موطن الضعف في هذا النوع من التفسير، بل هذا المنهج هو ممكن الخطر «ذلك لأن قضية الظاهر والباطن استغلت استغلالا سيئا لخدمة الكثير من العقائد الهدامة، وارتكبت في حق الظاهر القرآني جرائم خطيرة، حين أريد له أن يؤوّل لنصرة الأغراض المريضة والدعوات الجامحة» (¬3). ولضعف الأساس الذي يقوم عليه التفسير الصوفي أو الإشاري قال بعض السلف: «أما كلام السادة الصوفية في القرآن فليس بتفسير» (¬4) لأنه ليس مبنيا على القواعد المقررة في علم التفسير من الاعتماد على ما تقتضيه اللغة وما نقل من التفسير المأثور، وإنما هي شيء مبني على الرياضة الروحية التي قد تنفع في تهذيب النفوس، ولكنها لا تكفي في توضيح معاني القرآن. ثانيا: أن يكون له شاهد شرعي يؤيده. ثالثا: أن لا يكون له معارض شرعي أو عقلي. رابعا: لا بد أولا من الاعتراف بالمعنى الظاهر. ¬

_ (¬1) محمد كمال إبراهيم جعفر: التصوف ص 166. (¬2) محمد كمال إبراهيم جعفر: التصوف ص 166. (¬3) إبراهيم بسيوني: مقدمة تحقيق لطائف الإشارات 1/ 37. (¬4) الزركشي: البرهان 2/ 170، والسيوطي: الإتقان 4/ 194.

المبحث الثالث التفسير في العصر الحديث

المبحث الثالث التفسير في العصر الحديث أولا- العودة إلى كتابة التفاسير الكبيرة: مرت على المسلمين قرون خمدت فيها جذوة البحث العلمي في مختلف علوم الشريعة الإسلامية، وركدت حركة التأليف، وانتهت إلى صورة تتمثل بكتابة الحواشي والمختصرات للمشهور من كتب العلوم. ودخل التفسير في هذه المرحلة، فظهرت التفاسير المختصرة مثل (تفسير الجلالين) لجلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي، كما كتبت عشرات الحواشي، مثل ما كتب من حواش على تفسير الجلالين، وتفسير الزمخشري، وتفسير القاضي البيضاوي، وغيرها. وتقدّم الزمن وازداد اتصال بلدان العالم الإسلامي بدول الغرب، كما كانت دول الغرب تسعى حثيثا لبسط سيطرتها على الشعوب الإسلامية ونهب خيراتها، وتحقق ذلك بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية. وصحا المسلمون على حالة من التناقض بين ماضيهم المزدهر وقيمهم الأصيلة، وما صاروا عليه من التخلف العلمي والانحطاط الحضاري، وكان ذلك مبعث يقظة في بلاد المسلمين، اختلفت وجهتها بين التمسك بالدين الإسلامي واتخاذه أساسا لتقدم المسلمين كما كان أساسا لتقدمهم من قبل، وبين الاستسلام للغرب ومحاكاته في قيمه ومثله وطريقة حياته. ووجد دعاة الإصلاح ورواد النهضة الإسلامية الحديثة أن الناس بهم حاجة إلى الفهم الصحيح للدين، فنشطت حركة التأليف في العلوم الإسلامية من جديد، خاصة بعد انتشار المطابع في البلاد الإسلامية، وحاول العلماء كتابة تفسير القرآن بأسلوب يناسب حاجة الأمة إلى اتخاذ القرآن منار هداية ومصدر تشريع، وتوالت المحاولات، فكان من التفاسير الأولى في هذا العصر، التي ظلت تحمل طابع التفاسير القديمة، مع نزعات إلى التجديد في بعض الجوانب:

1 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في التفسير. للقاضي محمد بن علي الشوكاني الصنعاني المتوفى سنة 1250 هـ 1834 م. 2 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (¬1). لأبي الثناء شهاب الدين محمود بن عبد الله الآلوسي، المتوفى سنة 1230 هـ 1854 م. 3 - محاسن التأويل (¬2). لمحمد جمال الدين القاسمي، المتوفى سنة 1332 هـ 1914 م. 4 - فتح البيان في مقاصد القرآن (¬3). لصديق حسن خان، ألفه في بلدة بهوبال في الهند سنة 1289 هـ 1872 م (¬4). وظهرت تفاسير أخرى كانت أكثر نزوعا إلى التجديد، وإثارة قضايا تعكس تأثر كاتبيها بضغط الواقع المحزن للمسلمين، وتفوق أعدائهم العلمي والصناعي، فغلبت على بعض التفاسير النزعة العلمية بإدخال النظريات العلمية الحديثة في تفسير القرآن، وتكلف بعض المفسرين العثور على أصل لتلك النظريات في آيات القرآن. وغلب على بعضها النظرة العقلية والتأثر بروح الحضارة الغربية، فأدى ذلك بكاتبيها إلى رفض الأخذ بالتفسير المأثور واعتباره مما يصدّ عن فهم القرآن، واعتمادهم النظرة العقلية المجردة في تفسير القرآن، مما أدى بهم أحيانا إلى التعسف في تأويل بعض الآيات القرآنية، مع حرصهم على تضييق دائرة الغيبيات ومحاولة تفسيرها بالنظرة العقلية. وعلى الرغم من ذلك فإنه ينبغي عدم إغفال الجوانب الأخرى النافعة في هذه التفاسير من سهولة العبارة والتخفف من استخدام مصطلحات العلوم القديمة، ¬

_ (¬1) طبع الطبعة الأولى في مطبعة بولاق بمصر سنة 1301 هـ في تسعة مجلدات ضخام (ينظر: محسن عبد الحميد: الآلوسي مفسرا ص 164). (¬2) شرع القاسمي في كتابة تفسيره سنة 1316 هـ (ينظر: محاسن التأويل 1/ 6). (¬3) صدر الجزء الأول منه في القاهرة سنة 1965 م وهو في عشرة مجلدات. (¬4) ينظر: فتح البيان 1/ 4.

1 - تفسير القرآن الحكيم، المشتهر باسم تفسير المنار.

والتركيز على بيان معاني الآيات بما يوضح للقارئ صورة الحياة التي يريدها القرآن للفرد والجماعة. ومن أشهر تلك التفاسير: 1 - تفسير القرآن الحكيم، المشتهر باسم تفسير المنار. للشيخ محمد رشيد رضا (ت 1354 هـ 1935 م)، الذي لخص الأجزاء الخمسة الأولى من دروس شيخه محمد عبده التي قرأها في الجامع الأزهر من شهر محرم سنة 1317 هـ إلى المحرم من سنة 1323 هـ (¬1). ثم تابع محمد رشيد رضا التفسير حتى انتهى إلى سورة يوسف. 2 - الجواهر في تفسير القرآن الكريم المشتمل على عجائب بدائع المكونات وغرائب الآيات الباهرات. للشيخ طنطاوي جوهري (ت 1358 هـ 1940 م) وقد انتهى من كتابته في شهر محرم من سنة 1344 هـ الموافق لشهر آب من سنة 1925 م، وطبع في خمسة وعشرين جزءا. 3 - تفسير المراغي. للشيخ أحمد مصطفى المراغي، أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم، وكتب هذا التفسير سنة 1360 هـ، وطبع الجزء الأول منه سنة 1365 هـ 1946 م. 4 - التفسير الحديث. للأستاذ محمد عزة دروزة، كتبه بين سنة 1941 م وسنة 1945 م، وطبع الجزء الأول منه سنة 1381 هـ 1962 م، وهذا التفسير رتبت فيه السور على حسب تاريخ النزول لا على الترتيب المعروف في المصحف. وحجة المؤلف في ذلك أن ترتيب السور حسب النزول يكشف سير الدعوة وتاريخ التشريع. ¬

_ (¬1) ينظر: تفسير المنار 1/ 14.

ثانيا - من قضايا التفسير في العصر الحديث

ثانيا- من قضايا التفسير في العصر الحديث: لم يتوقف التأليف في تفسير القرآن الكريم عند التفاسير التي ذكرناها، لكن كثيرا من التفاسير المؤلفة حديثا يحتاج إلى دراسة تكشف عن المنهج الذي سار عليه مؤلفوها، والنظرة التي تحكمت في طريقة كشفهم عن معاني الآيات، ومعرفة مدى الصلة بين هذه التفاسير والجهود القديمة في التفسير، وذلك يحتاج إلى مجال أوسع مما تسمح به هذه المحاضرات (¬1). ونكتفي هنا بالإشارة إلى قضيتين مهمتين تتعلقان بالتفسير في العصر الحديث، هما موقف المفسرين المحدثين من التفسير المأثور، وموقفهم من العلوم والنظريات الحديثة. 1 - موقف المفسرين المحدثين من التفسير المأثور: ظهر من المفسرين المحدثين من تنكّر للتفسير المأثور، واعتبره مما يصد عن فهم كتاب الله تعالى، ولعل أبرز من أعلن ذلك واعتمده الأستاذ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا «فلم يكن الأستاذ يحفل بالناحية الأثرية، ولا يولي اهتماما للأخبار وطرق تخريجها، ولا يعتمد في تفسير الآيات على الأخبار المتصلة بها» (¬2). وقد انعكست هذه النظرية العقلية على منهج السيد محمد رشيد رضا في التفسير، حتى صرح في المقدمة بأن «أكثر ما روي في التفسير المأثور أو كثيره حجاب على القرآن، وشاغل لتاليه عن مقاصده العالية، المزكية للأنفس، والمنوّرة للعقول، فالمفضلون للتفسير المأثور لهم شاغل عن مقاصد القرآن بكثرة الروايات، التي لا قيمة لها سندا ولا موضوعا» (¬3). ولاحظ الشيخ محمد الفاضل بن عاشور أنه «لما استقل الشيخ رشيد بمعاناة ¬

_ (¬1) ينظر تفصيلا لبعض هذه الجوانب في كتاب (اتجاهات التفسير في العصر الحديث) للدكتور عبد المجيد عبد السلام المحتسب، ط 1، دار الفكر، بيروت 1393 هـ 1973 م. (¬2) محمد الفاضل بن عاشور: التفسير ورجاله ص 253. (¬3) تفسير المنار 1/ 10.

العمل من مبدئه، وأصبح معتمدا على المصادر التي كان الأستاذ الإمام يأخذ منه ويترك حسب منهجه العلمي- بدأ هواه الأول للعلوم النقلية الأثرية يعاوده ويأخذ به فمال إليها، وتتبع رجالها الأولين مثل الطبري والآخرين مثل ابن كثير، فبدت على التفسير مسحة أثرية ما كانت بادية على أجزائه الخمسة الأولى» (¬1). كان ذلك الموقف من التفسير المأثور يواجه في الواقع النزعة الخرافية الشائعة التي تسيطر على العقلية العامة في تلك الفترة، كما يواجه سيل الأساطير والإسرائيليات التي حشيت بها بعض كتب التفسير في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعلم الحديث إلى ذروتها. ومواجهة ضغط الخرافة من جهة وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى لا يمكن أن يتم بمواجهة النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة، ثم يفسر القرآن في ضوئها، بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص لنتلقى منها تصوراتنا ومواقفنا، ومن ثم لا يصح أن يقال إن مدلول هذا النص يصطدم مع العقل، فلا بد من تأويله! وليس معنى ذلك هو الاستسلام للخرافة، ولكن معناه أن العقل ليس هو الحكم في مقررات القرآن وإنما يكون دور العقل التلقي والتفهم الواعي لما يقوله ويبيّنه القرآن (¬2). وفهم آيات القرآن في عصرنا يجب ألّا يكون بمعزل عن فهم السلف لها، فالتفسير المأثور إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مقدم على كل شيء، بل حجة متبعة لا تسوغ مخالفتها لشيء آخر، ولا أظن أن المتحاملين على التفسير المأثور يقصدون هذا النوع أبدا، والتفسير المأثور عن الصحابة مقدم على غيره، فإنه إما أن يكون مسموعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وإما أن يعبر فيه الصحابي عن مناسبة النزول، أو يبين معنى الآية، مما يلزم المفسر للقرآن الإفادة منه. وكذلك يمكن ¬

_ (¬1) التفسير ورجاله ص 253. (¬2) ينظر: سيد قطب: في ظلال القرآن 30/ 3976 - 3979.

2 - موقف المفسرين المحدثين من النظريات العلمية الحديثة

الاستفادة من تفاسير التابعين ومن بعدهم، خاصة التوضيحات اللغوية والاستنتاجات الفقهية، ولا تكاد تنطبق تلك الحملة على التفسير المأثور إلا في جانب واحد منه، وهو ما يعرف بالإسرائيليات التي تسللت إلى بعض التفاسير القديمة، في تفسير بدء الخليقة وقصص الأنبياء. ولم يحمد كثير من المتقدمين إيراد تلك الروايات في تفسير القرآن، بل أنكروها. 2 - موقف المفسرين المحدثين من النظريات العلمية الحديثة: افتتن بعض المفسرين بالنظريات العلمية الحديثة، وذلك حين نظر في ذلك الركود العلمي الذي كان يلف بلاد المسلمين، وتلك الحضارة الغربية المزدهرة بالصناعة والعلوم والفنون، واعتقد أن من وسائل النهوض بواقع المسلمين التأكيد على أن الإسلام يحث على طلب العلم، وأن في القرآن إشارات إلى العلوم والنظريات العلمية الحديثة، فحاول تفسير القرآن وشحنه بكل أنواع العلوم ومظاهر الحضارة الحديثة، وخير من يمثل هذا الموقف الشيخ طنطاوي جوهري، رحمه الله، في تفسيره (الجواهر). قال الشيخ طنطاوي في مقدمة التفسير بعد أن ذكر أنه خلق مغرما بالعجائب الكونية، معجبا بالبدائع الطبيعية، وأنه ألّف كتبا في ذلك، وأنه رغب في أن يفسر القرآن ويضمنه تلك العلوم: «وإني لعلى رجاء أن يؤيد الله هذه الأمة بهذا الدين، وينسج على منوال هذا التفسير المسلمون ... وليقومنّ من هذه الأمة من يفوق الفرنجة في الزراعة والطب والمعادن والحساب والهندسة والفلك، وغيرها من العلوم والصناعات، كيف لا، وفي القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبع مائة وخمسين آية، فأما علم الفقه فلا تزيد آياته الصريحة على مائة وخمسين آية؟ وقد وضعت في هذا التفسير ما يحتاجه المسلم من الأحكام والأخلاق، وعجائب الكون، وأثبتّ فيه غرائب وعجائب الخلق، مما يشوق المسلمين والمسلمات إلى الوقوف على حقائق

معاني الآيات البينات، في الحيوان والنبات والأرض والسماوات، ولتعلمنّ أيها الفطن أن هذا التفسير نفحة ربانية، وإشارة قدسية، وبشارة رمزية، أمرت به بطريق الإلهام، وأيقنت أن له شأنا سيعرفه الخلق، وسيكون من أهم أسباب رقي المستضعفين في الأرض» (¬1). ونحا هذا المنحى أيضا، وإن كان على نحو أخف، الشيخ أحمد مصطفى المراغي في تفسيره، فقد قال في مقدمته: «ويضم إلى آراء مؤلفه آراء أهل الذكر من الباحثين في مختلف الفنون التي ألمح إليها القرآن على ما أثبته العلم في عصرنا» (¬2). ومع إمكان تلمس العذر لأولئك المفسرين الذين سلكوا هذا المنهج فإن «الذين يفسرون القرآن الكريم بما يطابق مسائل العلم، ويحرصون على أن يستخرجوا منه كل مسألة تظهر في أفق الحياة، يسيئون إلى القرآن من حيث يظنون أنهم يحسنون صنعا، لأن هذه المسائل التي تخضع إلى سنّة التقدم تتبدل، وقد تتقوض من أساسها وتبطل، فإذا فسرنا القرآن بها تعرضنا في تفسيره للنقائض، كلما تبدلت القواعد العلمية، أو تتابعت الكشوف بجديد ينقض القديم، أو يقين يبطل التخمين» (¬3). فكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة، أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة، تحتوي أولا على خطأ منهجي أساسي، وهو أن نعلّق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية، وهي كل ما يصل إليه العلم البشري. كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم (¬4): ¬

_ (¬1) الجواهر في تفسير القرآن 1/ 3. (¬2) تفسير المراغي 1/ 4. (¬3) مناع القطان: مباحث في علوم القرآن ص 270. (¬4) ينظر: في ظلال القرآن 2/ 182.

المعنى الأول: هو الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع، ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال له من العلم، على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه، ونهائي في حقائقه، والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق، لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة. المعنى الثاني: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان، بناء يتفق- بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية- مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي، حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله، بل يصادقه ويعرف بعض أسراره، ويستخدم بعض نواميسه في خلافته، نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له، ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة. المعنى الثالث: هو التأويل المستمر، مع التمهل والتكلف، لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر، وكل يوم يجدّ جديد. ولكن ذلك لا يعني أننا لا يمكن أن ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات وحقائق علمية عن الكون والحياة والإنسان في تفسير القرآن، وقد قال الله سبحانه وتعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53) [فصلت] ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق والأنفس من آيات الله، وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا، من غير أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة. وهنا ينفع المثال: يقول القرآن مثلا: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) [الفرقان]، ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون، (الأرض بهيئتها هذه، وببعد الشمس عنها هذا

ثالثا - اتجاهات جديدة في التفسير

البعد، وبعد القمر عنها هذا البعد، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها، وبسرعة حركتها هذه، وبميل محورها هذا، وبتكوين سطحها هذا، وبآلاف من الخصائص، هي التي تصلح للحياة وتوائمها، فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة، هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وتعميقه في تصورنا، فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه، وهكذا. هذا جائز ومطلوب، ولكن الذي لا يجوز ولا يصح علميا نحو هذا المثال: يقول القرآن الكريم: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) [المؤمنون]، ثم تظهر نظرية في النشوء والارتقاء لبعض العلماء تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة، وأن هذه الخلية نشأت في الماء، وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان، فنحمل نحن هذا النص القرآني ونجري وراء النظرية، لنقول: هذا هو الذي عناه القرآن! هذا غير مناسب، لأن هذه النظرية ليست نهائية، فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائيا، وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر، ما يكاد يبطلها. وهي معرضة للنقد والبطلان، بينما الحقيقة القرآنية نهائية، وليس من الضروري أن يكون هذا معناها، فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان ولا تذكر تفصيلات هذه النشأة، وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها، وهي أصل النشأة الإنسانية. ثالثا- اتجاهات جديدة في التفسير: لا يمكن للدارس أن يضع حدا تتوقف عنده جهود العلماء في تفسير القرآن الكريم، وقد استمرت تلك الجهود في العقود الأخيرة من الحقبة التي نعيش فيها الآن، وظهرت بوادر اتجاهات جديدة في التفسير، ويمكن أن نصنف جهود العلماء في التفسير في السنين الأخيرة إلى ثلاثة أصناف.

أ - الاستمرار في كتابة التفاسير الكبيرة، وذلك مثل

أ- الاستمرار في كتابة التفاسير الكبيرة، وذلك مثل: 1 - التحرير والتنوير، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور. 2 - أضواء البيان، للشيخ محمد أمين الشنقيطي. 3 - في ظلال القرآن، للأستاذ سيد قطب. ولكل من هذه التفاسير الثلاثة ميزاته الخاصة به، فالأول يعنى كثيرا بإبراز جمال أسلوب القرآن ووجوه بلاغته. والثاني يؤكد على صفاء العقيدة ونبذ ربقة التقليد، والثالث يسعى إلى العودة بالحياة كلها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم. ثم لكل واحد من هذه التفاسير ميزاته وخصائصه التي لا يتسع المقام لتفصيلها أو الوقوف عندها في هذه المحاضرات. ب- كتابة التفاسير المختصرة: ازدحمت حياة الناس في عصرنا بمشاغل كثيرة، ولم تعد مراجعة التفاسير الكبيرة ممكنة إلا لأهل الاختصاص، ومن ثم فإن المعنيين بتفسير القرآن الكريم وجدوا أن كتابة تفاسير مختصرة قد تكون مفيدة لغير المتخصصين بتفسير القرآن أو علوم الشريعة، ومن ثم ظهر نوعان من تلك التفاسير: النوع الأول: اختصار تفاسير كبيرة قديمة وذلك مثل: 1 - مختصر تفسير الطبري. 2 - مختصر تفسير ابن كثير. 3 - زبدة التفسير في اختصار فتح القدير للشوكاني. النوع الثاني: كتابة تفاسير مختصرة جديدة، مثل: 1 - التفسير الفريد، لمحمد فريد وجدي. 2 - المصحف الميسر، لعبد الجليل عيسى. 3 - صفوة البيان في تفسير القرآن، لمحمد حسنين مخلوف.

ج - التفسير الموضوعي

ج- التفسير الموضوعي: وهو ضرب من البحث الفقهي أو العلمي في قضية من القضايا التي عالجها القرآن الكريم، وهو ليس جديدا كل الجدة، لكن عددا من الباحثين المحدثين تحدثوا عنه باعتباره منهجا جديدا في التفسير، وذلك مثل: 1 - التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن. 2 - المنافقون في القرآن الكريم. 3 - الطب والقرآن. ويحسن بنا ونحن نتحدث عن التفسير في السنين الأخيرة أن نشير إلى تفسير متوسط في حجمه، وفي أسلوبه، جمع فيه كاتبه خلاصة ما جاء في أشهر التفاسير القديمة بأسلوب واضح ميسر، ليكون في متناول جمهور القراء من غير المتخصصين، في زماننا، وهو (صفوة التفاسير) للشيخ محمد علي الصابوني، جزاه الله تعالى خيرا. المبحث الرابع خلاصة في أصول التفسير تتبعنا في المباحث السابقة نشأة علم التفسير، وتطور التأليف فيه، ووقفنا عند المناهج التي اعتمدها المفسرون في توضيح معاني الآيات الكريمة، وهناك عدة قضايا تتعلق بتوضيح أهمية علم التفسير ومقدار الحاجة إليه، وبيان ثقافة المفسر، وما يحتاج إليه، وتحديد السبل التي يمكن أن يسلكها في عمله، وموقع الترجمة من التفسير وعلاقتها به، وسوف ندرس هذه القضايا في فقرات هذا المبحث، إن شاء الله. أولا- أهمية علم التفسير والحاجة إليه: يحتل علم التفسير الصدارة بين العلوم الإسلامية، لأن فهم معاني القرآن أمر

ضروري لقارئ القرآن والمتفقه في الدين، قال أبو مسلم الأصبهاني (محمد بن بحر ت 370 هـ) في تفسيره (¬1): «أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن، بيان ذلك أن شرف الصناعة إما بشرف موضوعها مثل الصياغة، فإنها أشرف من الدّباغة، لأن موضوع الصياغة الذهب والفضة، وهما أشرف من موضوع الدباغة الذي هو جلد الميتة. وإما بشرف غرضها، مثل صناعة الطب، فإنها أشرف من صناعة الكناسة، لأن غرض الطب إفادة الصحة، وغرض الكناسة تنظيف المستراح، وإما لشدة الحاجة إليها كالفقه، فإن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الطب، إذ ما من واقعة في الكون في أحد من الخلق إلا وهي مفتقرة إلى الفقه، لأن به انتظام صلاح أحوال الدنيا والدين، بخلاف الطب فإنه يحتاج إليه بعض الناس في بعض الأوقات. «إذا عرف ذلك، فصناعة التفسير قد حازت الشرف من الجهات الثلاث، أما من جهة الموضوع فلأن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كل حكمة، ومعدن كل فضيلة، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. وأما من جهة الغرض فلأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية التي لا تفنى. وأما من جهة شدة الحاجة فلأن كل كمال ديني أو دنيوي عاجلي أو آجلي، مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية، وهي متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى». وما ورد في القرآن من آيات يؤكد على أهمية التفكير في معاني الآيات التي يقرؤها القارئ، قال الله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) [ص]. ¬

_ (¬1) نقلا عن السيوطي: الإتقان 4/ 173.

ثانيا - ثقافة المفسر وأدواته

وكان ابن عباس يقول: «الذي يقرأ القرآن ولا يحسن تفسيره كالأعرابي يهذّ الشعر هذّا» (¬1)، وأخذ سعيد بن جبير عن أستاذه ابن عباس هذا المعنى فكان يقول: «من قرأ القرآن ثم لم يفسره كان كالأعمى أو كالأعرابي» (¬2). وقال شيخ المفسرين محمد بن جرير الطبري: «إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله، كيف يلتذ بقراءته؟!» (¬3). ومن ثمّ كانت: «حاجة الأمة ماسّة إلى فهم القرآن» (¬4). والحاجة إلى تفسير القرآن كانت تزداد بتقدم الزمان والابتعاد عن عصر النبوة المبارك، قال السيوطي (ت 911 هـ): «إن القرآن نزل بلسان عربي في زمن أفصح العرب، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه، أما دقائق باطنه فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر: مع سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم في الأكثر ... ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر، لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم، فنحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير» (¬5). وما قاله السيوطي، رحمه الله، عن حاجة أهل زمانه إلى التفسير ينطبق على أهل زماننا إن لم يكونوا أكثر منهم حاجة إليه. ثانيا- ثقافة المفسر وأدواته: إن قارئ القرآن إذا كان على قدر مناسب من المعرفة والثقافة اللغوية فإنه سوف يدرك كثيرا من معاني آيات القرآن الكريم، ولا شك في أن إدراكه ذاك سوف ¬

_ (¬1) السيوطي: الإتقان 4/ 172. والهذ: سرعة القراءة والقطع. (¬2) الطبري: جامع البيان 1/ 35. (¬3) نقل ذلك ياقوت في معجم الأدباء 8/ 63. (¬4) ابن تيمية: الفتاوى الكبرى 13/ 330. (¬5) الإتقان 4/ 170 - 171.

يزداد إذا نظر في كتب التفسير المختلفة، وكلما أطال النظر في تلك الكتب وأمعن التفكير في معاني الآيات اتسعت آفاق إدراكه معاني الذكر الحكيم، لكن من أراد أن يكتب للآخرين فهمه وتفسيره للقرآن الكريم فإن ذلك يقتضي منه أن يكون على قدر كبير من العلم والفهم لعلوم كثيرة تؤهله للقيام بتلك المهمة الجليلة. وذكر علماء السلف العلوم التي يلزم المفسر الإلمام بها حتى يتمكن من تفسير القرآن، فبلغت خمسة عشر علما، لخصها السيوطي بقوله (¬1): يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج المفسر إليها، وهي خمسة عشر علما: أحدها: اللغة، لأنها بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها ... الثاني: النحو، لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب ... الثالث: التصريف، لأن به تعرف الأبنية والصيغ ... الرابع: الاشتقاق، لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف المعنى باختلافهما ... الخامس والسادس والسابع: المعاني والبيان والبديع، لأنه يعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، وبالثاني خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث وجوه تحسين الكلام، وهذه العلوم الثلاثة هي علوم البلاغة، وهي من أعظم أركان المفسر، لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وإنما يدرك بهذه العلوم ... الثامن: علم القراءات، لأن به يعرف كيفية النطق بالقرآن، وبالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض. التاسع: أصول الدين بما في القرآن من الآيات الدالة بظاهرها على ما لا ¬

_ (¬1) على مذهب المتأخرين من علماء الكلام، أما السلف فإنهم كانوا لا يؤولون من ذلك شيئا، ويقولون: آمنا به كّل من عند ربنا.

يجوز على الله تعالى، فالأصولي يؤوّل ذلك (¬1)، ويستدل على ما يستحيل، وما يجب، وما يجوز. العاشر: أصول الفقه، إذ به يعرف وجه الاستدلال على الأحكام والاستنباط. الحادي عشر: أسباب النزول والقصص، إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المنزلة فيه بحسب ما أنزلت فيه. الثاني عشر: الناسخ والمنسوخ (¬2)، ليعلم المحكم من غيره. ¬

_ (¬1) على مذهب المتأخرين من علماء الكلام، أما السلف فإنهم كانوا لا يؤولون من ذلك شيئا، ويقولون؛ آمنا به كل من عند ربنا. (¬2) النسخ في اللغة يأتي بمعنى الإزالة، ومعنى نقل الشيء من مكان إلى آخر، ومنه نسخ الكتب (ابن منظور: لسان العرب مادة نسخ). وفي الاصطلاح النسخ هو: «رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه» (مصطفى زيد: النسخ في القرآن الكريم 1/ 105). والنسخ في القرآن أحد العلوم التي درسها المشتغلون بعلوم القرآن (ينظر: الزركشي: البرهان 2/ 28، والسيوطي: الإتقان 3/ 59) وكتبت فيه كتب مستقلة، مثل: (الناسخ والمنسوخ) للنحاس، وغيره. وقال العلماء إن النسخ في القرآن الكريم لا يقع إلا في آيات الأحكام، في الأمر والنهي والحدود والعقوبات في أحكام الدنيا، ولا يقع فيما أخبر الله تعالى عنه من أمور العقيدة وأخبار خلق آدم وأخبار الأنبياء والامم الماضية، مما وقع، أو مما سيقع من قيام الساعة والبعث والجزاء (ينظر: الحارث المحاسبي: فهم القرآن ص 223، والنحاس: الناسخ والمنسوخ ص 258، ومكي: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 56). والنسخ في القرآن ليس من قبيل البداء، وهو استصواب شيء علم بعد أن كان غير معلوم، لأن ذلك على الله غير جائز (ابن منظور: لسان العرب مادة بدو) وإنما هو نوع من التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية خاصة تلك التي أخذت شكل عادات شعورية في المجتمع، ويضربون مثالا تحريم الخمر، فقد جاء في القرآن أولا أن الخمر والميسر فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ (219) [البقرة]، ثم نزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ (43) [النساء]، ثم نزل التحريم في سورة المائدة رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ (90) [المائدة]، ومعرفة المفسر بموضوع الناسخ والمنسوخ أمر.

الثالث عشر: الفقه. الرابع عشر: الأحاديث المبيّنة لتفسير المجمل والمبهم. الخامس عشر: علم الموهبة، وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، وإليه الإشارة بحديث (من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم) ... » (¬1). ولاحظ علماء السلف أمورا أخرى رأوها ضرورية لمن يقدم على تفسير القرآن، حتى يكون تفسيره مقبولا، فنقل الإمام السيوطي عن أبي طالب الطبري، وهو يتحدث عن أدوات المفسر قوله: «اعلم أن من شرطه: 1 - صحة الاعتقاد أولا، ولزوم سنة الدين، فإن من كان مغموصا عليه في دينه لا يؤتمن على الدنيا فكيف على الدين، ثم لا يؤتمن من الدين على الإخبار عن عالم، فكيف يؤتمن في الإخبار عن أسرار الله تعالى، ولأنه لا يؤمن إن كان متهما بالإلحاد أن يبغي الفتنة، ويغوي الناس بليّه وخداعه، كدأب الباطنية وغلاة الرافضة، وإن كان متهما بهوى لم يؤمن أن يحمله هواه على ما يوافق بدعته، كدأب القدرية، فإن أحدهم يصنف الكتاب في التفسير ومقصوده منه الإيضاح بين المسلمين (¬2) ليصدهم عن اتباع السلف ولزوم طريق الهدى. 2 - ويجب أن يكون اعتماده على النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ومن عاصرهم، ويجتنب المحدثات. 3 - ومن شرطه صحة المقصد فيما يقول ليلقى التسديد، فقد قال تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا (69) [العنكبوت] وإنما يخلص له القصد إذا ¬

_ ضروري حتى لا يقع في الخطأ في تفسير الآيات المنسوخة. (¬1) الإتقان 4/ 185 - 188. (¬2) في الأصل: المساكين.

ثالثا - تفسير الآيات المحكمات والآيات المتشابهات

زهد في الدنيا، لأنه إذا رغب فيها لم يؤمن أن يتوسل به إلى عرض يصدّه عن صواب قصده، ويفسد عليه صحة عمله» (¬1). والمفسر في زماننا محتاج إلى العلوم الخمسة عشر التي ذكرناها، كما أنه لا بد له من القاعدة الفكرية السلمية التي يستند إليها من صحة الاعتقاد واجتناب المحدثات، وسلامة المقصد، وهو محتاج إلى جانب ذلك كله الاطلاع على منجزات العلوم الحديثة التي لها تعلّق بالموضوعات التي أشار إليها القرآن الكريم، حتى يتمكن من توضيح ما تضمنه القرآن من أسرار الكون وعجائبه التي نبّأ عنها القرآن بقوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53) [فصلت]. وقد يكون مفيدا لمفسر القرآن في عصرنا أن يكون على اطلاع على ما تأكد من تاريخ الأمم القديمة التي أسهم علم الآثار في الكشف عن بعض أخبارها، كما أن معرفته بالمواقع الجغرافية التي ذكرت في القرآن يمكن أن يكون مفيدا في الكشف عن معنى كثير من الآيات الكريمة. وبذلك يتضح أن تفسير القرآن الكريم يحتاج إلى ثقافة موسوعية، وقاعدة علمية متعددة الجوانب، ولا يستغني مفسر القرآن في عصرنا عن الاطلاع على الثروة التفسيرية الكبيرة التي كتبها علماء الأمة الإسلامية في العصور السابقة، على نحو ما سنشير إلى ذلك في فقرة لاحقة إن شاء الله تعالى. ثالثا- تفسير الآيات المحكمات والآيات المتشابهات: إذا أحاط المفسر بالعلوم الخمسة عشر التي يحتاج إليها من يتصدى لتفسير القرآن الكريم، وإذا تحققت له صحة الاعتقاد وصحة المقصد التي اشترطها العلماء لصحة التفسير فإن ذلك لا يعني أن المفسر سوف يتمكن من تفسير كل ¬

_ (¬1) الإتقان 4/ 173 - 175.

آيات القرآن الكريم بدرجة واحدة من التفصيل والبيان، فقد لاحظ العلماء أن من آيات القرآن ما يتحدث عن أمور هي أوسع من مدركات العقل البشري، فيعجز العقل البشري عن توضيحها بأكثر مما يؤخذ من دلالة الألفاظ المعبرة عنها. وبناء على تلك الحقيقة قسّم العلماء القرآن على ثلاثة أوجه (¬1): أحدها: لا سبيل إلى الوصول إليه، وهو الذي استأثر الله بعلمه، وحجب علمه عن جميع خلقه، وهو أوقات ما كان من آجال الأمور الحادثة التي أخبر الله في كتابه أنها كائنة، مثل وقت قيام الساعة، ووقت نزول عيسى بن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، والنفخ في الصور، وما أشبه ذلك. والوجه الثاني: ما خصّ الله بعلم تأويله نبيّه صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته، وهو ما فيه مما بعباده إلى علم تأويله الحاجة، فلا سبيل إلى علم ذلك إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم لهم تأويله. والثالث منها: ما كان علمه عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وذلك تأويل عربيته، وإعرابه، لا يوصل إلى علم ذلك إلى من قبلهم. ويستند هذا التقسيم إلى الرواية المنقولة عن عبد الله بن عباس التي ذكرناها عند الحديث عن جهوده في التفسير، كما أن جمهور العلماء والمفسرين يفسرون الآية السابعة في سورة آل عمران في ضوء ذلك، وهي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (7) [آل عمران]. قال الطبري: المحكم من آي القرآن ما عرف العلماء تأويله، وفهموا معناه ¬

_ (¬1) الطبري: جامع البيان 1/ 32 و 41، وينظر: الزركشي: البرهان 2/ 166، والسيوطي: الإتقان 4/ 190 - 191.

وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، والراسخون في العلم يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا (7) لا يعلمون ذلك، ولكن فضل علمهم في ذلك على غيرهم: العلم بأن الله هو العالم بذلك دون سواه من خلقه (¬1). وعلى هذا النحو فهم علماء السلف الآية الكريمة السابقة، فقال عبيدة بن عمرو السلماني (ت 72 هـ) وهو من تابعي أهل الكوفة، وأحد تلامذة عبد الله بن مسعود: من أين يعلمون تأويله؟ وإنما انتهى علم الراسخين إلى أن قالوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا (¬2). وسئل الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ) عن قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أيعلم تأويله الراسخون في العلم؟ قال: لا، وإنما معنى ذلك أن قال: وما يعلم تأويله إلا الله، ثم أخبر فقال: والراسخون في العلم يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وليس يعلمون تأويله (¬3). وقد ذهب الأكثرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم وجمهور العلماء من بعدهم إلى أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه (¬4)، ويدل على ذلك أمور منها (¬5): 1 - ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، عن عائشة، رضي الله عنها، قال: تلا ¬

_ (¬1) جامع البيان 3/ 171. (¬2) الحارث المحاسبي: فهم القرآن ص 329. (¬3) المصدر نفسه ص 330. (¬4) روي عن مجاهد بن جبر المكي (ت 102 هـ) وقتادة بن دعامة السدوسي (ت 118 هـ) أنهما يذهبان إلى أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، ولكنهما يفسران المتشابه بغير ما فسّره به الجمهور، فعند مجاهد هو الآيات التي يصدّق بعضها بعضها (ينظر: ابن حجر: فتح الباري 8/ 209)، وعند قتادة هو المنسوخ من آي القرآن (ينظر: الحارث المحاسبي: فهم القرآن ص 329). (¬5) ينظر: السيوطي: الإتقان 3/ 5 - 8.

رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ... وقال: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم». 2 - ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره، والحاكم في مستدركه، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: «وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون في العلم آمنا به»، وهذه القراءة، وإن كانت شاذة لعدم تواترها، ومخالفتها خط المصحف، أقل درجاتها أنها تفسير صحيح عن ابن عباس تدل على أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله. 3 - ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متّبعي المتشابه ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة، وعلى مدح الذين فوضوا العلم إلى الله، وآمنوا بما أنزل الله: محكمه ومتشابهه، قائلين: كلّ من عند الله. وبناء على رأي الجمهور في تفسير الآية تكون الواو في تفسير قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ للاستئناف، ويكون ما بعدها جملة مستأنفة مكونة من مبتدأ وخبر، وتكون الواو على رأي غيرهم للعطف، وهو خلاف ما ذهب إليه جمهور أهل العلم (¬1). وينص علماء الوقف والابتداء على أن الوقف التام في الآية يكون عند لفظ (الله) المعظم من قوله: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ثم يستأنف القارئ بعد ذلك قراءته بقوله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ... (¬2). إن القرآن الكريم قد كشف الستر عن حجب الغيب فأطلع البشرية على أخبار اليوم الآخر والبعث والحساب والجنة والنار، وكشف عن بعض أسرار الكون وحقائقه بما يتناسب وقابلية البشر وإدراكهم، ورمز إلى أمور أخرى ليست من مدركات العقل البشري استأثر الله بعلمها وحجبها عنا في الحياة الدنيا، فالذين في قلوبهم زيغ وانحراف وضلال عن سواء الفطرة يتركون الأصول ¬

_ (¬1) الطبري: جامع البيان 3/ 182، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن 4/ 16. (¬2) أبو بكر الأنباري: إيضاح الوقف والابتداء 2/ 565.

الواضحة التي تقوم عليها العقيدة والشريعة والمنهج العلمي للحياة الإسلامية، ويجرون وراء المتشابه الذي يعوّل فيه على الإيمان بصدق مصدره، والتسليم بأنه هو الذي يعلم الحق كله، بينما الإدراك البشري نسبي محدود المجال. وأما الراسخون في العلم الذين بلغ من علمهم أن يعرفوا مجال العقل وطبيعة التفكير البشري وحدود المجال الذي يملك العمل فيه بوسائله الممنوحة لهم، فإنهم يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا (¬1). ولا يعني قول العلماء إن من القرآن ما استأثر الله بعلمه أنه ليس له معنى أو حقيقة يدل عليها، وإنما يعني أن الوقوف على حقيقة معناه ليس في طوق البشر «لعدم نظيره عندنا» (¬2)، ومن ثم كان السلف يقولون في مثل هذه الآيات: «قراءة الآية تفسيرها» (¬3) أي أن القارئ يقف عند الدلالة الظاهرة لألفاظها، من غير تعمق في البحث عن تفصيلات ذلك المعنى. وهاهنا ثمة ملاحظتان: الأولى: ذهب بعض العلماء أن التشابه أمر نسبي، فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، ولكن هناك آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد، وهناك آيات متشابهات لا سبيل لأحد للقول في تفسيرها (¬4). الثانية: أن الله تعالى وصف القرآن بالإحكام في قوله: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) [هود]، وإحكامه هنا يعني إتقانه وعدم تطرق النقص والاختلاف إليه، كما أن الله تعالى وصفه بأنه متشابه في قوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ (23) [الزمر]، والمراد بتشابهه هنا كونه يشبه ¬

_ (¬1) ينظر: سيد قطب: في ظلال القرآن 3/ 369. (¬2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى 13/ 280. (¬3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى 13/ 296. (¬4) ابن تيمية: مجموع الفتاوى 13/ 144.

رابعا - التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي

بعضه بعضا في الحق والصدق والإعجاز، والقرآن من هذه الناحية محكم متشابه جميعه (¬1). وهذا غير المعنى الذي تحدثنا عنه في هذه الفقرة. رابعا- التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي: يتردد في كتب علوم القرآن وفي المباحث المتعلقة بالتفسير مصطلح التفسير بالمأثور، ومصطلح التفسير بالرأي، وهما مصطلحان لهما أصل في كلام علماء السلف، فابن تيمية، رحمه الله، يقول وهو يتحدث عن التفسير: «العلم إما نقل مصدّق، وإما استدلال محقق» (¬2)، وذكر الزركشي، رحمه الله، التفسير بالرواية، والتأويل بالدراية (¬3)، وهما قريبان مما يراد من قولهم التفسير المأثور الذي صار يطلق على ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين من تفسير للقرآن الكريم، وقولهم التفسير بالرأي الذي يراد منه تفسير القرآن بالاجتهاد وفق ضوابط معينة (¬4). وتحدث ابن خلدون عن نشأة هذين الاتجاهين في التفسير، فقال: «وأما التفسير فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه، وكان ينزل جملا جملا، وايات آيات، لبيان التوحيد والفروض الدينية، بحسب الوقائع، ومنها ما هو في العقائد الإيمانية، ومنها ما هو في أحكام الجوارح، ومنها ما يتقدم ومنها ما يتأخر ويكون ناسخا له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبيّن المجمل، ويميز الناسخ من المنسوخ، ويعرّفه أصحابه، فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات، ومقتضى الحال منها ... «ونقل ذلك عن الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وتداول ذلك ¬

_ (¬1) ينظر: السيوطي: الإتقان 3/ 3. (¬2) مجموع الفتاوى 13/ 344، وينظر 13/ 329. (¬3) البرهان 2/ 150. (¬4) ينظر: محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 152 و 355.

التابعون من بعدهم، ونقل ذلك عنهم، ولم يزل متناقلا بين الصدر الأول والسلف حتى صارت المعارف علوما ودوّنت الكتب، فكتب الكثير من ذلك، ونقلت الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين، وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي، وأمثال ذلك من المفسرين، فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار. «ثم صارت علوم اللسان صناعية، من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب، فوضعت الدواوين في ذلك، بعد أن كانت ملكات للعرب، لا يرجع إلى نقل ولا كتاب، فتنوسي ذلك وصارت تتلقّى من كتب أهل اللسان، فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم، وصار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف، وهي معرفة الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، ومقاصد الآي، وكان ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين، وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا ... والصنف الآخر من التفسير وهو ما يرجع إلى اللسان، من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب، وهذا الصنف من التفسير قلّ أن ينفرد عن الأول، إذ الأول هو المقصود بالذات ... » (¬1). وقد روى عبد الله بن عباس حديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن تفسير القرآن بالرأي هما: الأول: قوله: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (¬2). والثاني: قوله: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» (¬3). ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون ص 438 - 440. (¬2) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 6): أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود والطبري. (¬3) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 6): روى هذا الحديث أبو داود والترمذي والنسائي.

خامسا - أحسن طرق التفسير

وحمل العلماء الحديث الأول على من يتصدى لتفسير القرآن من غير علم ولا دليل، لا سيما أنه قد جاء في بعض روايات الحديث: (من قال في القرآن بغير علم)، قال ابن عطية: «وليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته، والنحاة نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر، فإن هذا القائل ليس قائلا بمجرد رأيه» (¬1). وقال القرطبي: «وإنما النهي يحمل على أحد وجهين: أحدهما: أن يكون له في الشيء رأي، وإليه ميل من طبعه وهواه، فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه، ليحتج على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى. الوجه الثاني: أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع والنقل ... والنقل والسماع لا بد له منه في ظاهر التفسير أولا، ليتقي به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط» (¬2). وحمل العلماء الحديث الثاني على أن «القائل في ذلك برأيه، وإن أصاب الحق فيه، فمخطئ فيما كان من فعله بقيله فيه برأيه، لأن إصابته ليست إصابة موقن أنه محق، وإنما إصابة خارص وظانّ، والقائل في دين الله بالظن قائل على الله ما لم يعلم». خامسا- أحسن طرق التفسير: بعد أن يحقق من يريد أن يفسر القرآن ما يتطلبه الإقدام على هذا العمل من مؤهلات علمية وفكرية، عليه أن يحدد المنهج الذي يحقق له هدفه من غير أن يؤدي به ذلك إلى تفريط أو شطط، وكان عدد من علماء السلف، رحمهم الله ¬

_ (¬1) مقدمة تفسير ابن عطية ص 262. (¬2) الجامع لأحكام القرآن 1/ 33.

تعالى، قد تحدثوا عن أحسن طرق التفسير، وبينوا الخطوات التي يجب على المفسر أن يخطوها، والموقف الذي عليه أن يقفه من التراث التفسيري الذي أنتجته أجيال علماء الأمة السابقين. فقالوا (¬1): فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب: 1 - إن أصح الطرق في ذلك أن يفسّر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسّر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر. 2 - فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، قال الطبري: «فرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما أنزل الله عليه، وليس لأحد مع قوله، الذي يصح عنه، قول» (¬2). وقال ابن تيمية: «إن القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى أقوال أهل اللغة ... ولا غيرهم» (¬3). 3 - فإذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصّوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماءهم وكبراءهم، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين مثل عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهم، وغيرهم. 4 - وإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنّة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر المكي، وسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء، والحسن البصري، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك، وغيرهم من التابعين وتابعيهم، ¬

_ (¬1) ينظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى 13/ 363 - 370، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/ 4، والزركشي: البرهان 175. (¬2) جامع البيان ج 25، سورة الدخان، آية 10. (¬3) مجموع الفتاوى 13/ 27.

فإذا أجمعوا على الشيء، فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك (¬1). 5 - فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام، وأما من تكلم في القرآن بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه، كما أشرنا في الفقرة السابقة، وثمة ملاحظتان تتعلقان بهذا الموضوع هما: الملاحظة الأولى: على المفسر المعاصر الذي يتحرى الدقة في تفسيره أن يطيل النظر في تفاسير الأجيال الأولى من علماء الأمة، من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأن يتخذ من فهمهم للقرآن منطلقا لتوضيح معاني الآيات الكريمة التي يفسرها، ولا يعني هذا أن عليه أن يأخذ بكل ما روي في التفسير المأثور، فقد سبق أن أشرنا إلى ما في بعض المرويات من ضعف، وما شاب بعضها الآخر من الروايات الإسرائيلية، ولكن وراء ذلك علم بالقرآن دقيق، وفهم لآياته أصيل لا يستغني عنه المفسر. والملاحظة الثانية: على المفسر المعاصر ألّا يعرض أيضا عن التفاسير التي كتبها علماء الأمة بعد عصر تابعي التابعين إلى وقتنا الحاضر، ففيها ثروة تفسيرية ¬

_ (¬1) قال ابن تيمية (مجموع الفتاوى 13/ 333، 343): «الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ... وجمع عبارات السلف في مثل هذا نافع جدا، فإن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين، ومع هذا فلا بد من اختلاف محقق بينهم». وقال في موضع آخر (13/ 368): «فأما من حكى خلافا ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه. أو يحكي الخلاف ويطلقه، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضا، فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ. كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالا متعددة لفظا، ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى، فقد ضيّع الزمان، وتكثر بما ليس بصحيح ... ».

سادسا - ترجمة القرآن

قيمة لا يستغني عنها المفسر اليوم، مع التنبيه إلى ما قد يكون فيها من أمور لم تعد تتوافق مع ما ثبت من حقائق العلم، ومن أمور تعبر عن أفكار وقضايا كانت تشغل عقول الناس في العصور السابقة، ولم تعد تحظى باهتمام المسلمين اليوم، وليس بهم حاجة إليها، ومن الخير عدم إثارتها من جديد. سادسا- ترجمة القرآن: الترجمة نقل الكلام من لغة إلى أخرى، ويقال: ترجم كلامه إذا فسّره بلسان آخر، ومنه الترجمان- بفتح التاء وضمها- وهو الذي ينقل الكلام من لغة إلى أخرى (¬1). والترجمة الفنية لكي تكون عملا ناجحا مثمرا، ونشاطا ثقافيا نافعا، لا بد لها من مترجم له الصلاحية التامة من الناحية اللغوية والفنية، والتكوين اللغوي يتنوع بتنوع اللغات، والتكوين الفني يتنوع بتنوع المادة العلمية أو الأدبية التي تتناولها الكتب أو تعالجها المقالات والبحوث التي تراد ترجمتها (¬2). والترجمة في الأعمال الثقافية العادية عمل لا يخلو من المشكلات، وفي الحديث عن مشكلات الترجمة لا يصح أن نقحم ضعف المترجم في اللغة التي يترجم منها والتي يترجم إليها، إذ لا يسمى المترجم مترجما حقا إلا حين يتمكن من اللغتين كتابة وقراءة. وكذلك يجدر بنا أن نفترض إخلاص المترجم في عمله، وحسن نيته، وأنه حين أخرج النص المترجم قد بذل الجهد وتحرى الصواب، ولم يكن متأثرا بمذهب خاص يصبغ ترجمته بصبغة خاصة. أي أن للترجمة مشكلات وصعوبات حتى مع إتقان المترجم للغتين، وأمانته وإخلاصه في عمله (¬3). ¬

_ (¬1) ابن منظور: لسان العرب مادة (ترجم) و (رجم). (¬2) محمد عوض محمد: فن الترجمة ص 19. (¬3) إبراهيم أنيس: دلالة الألفاظ ص 171.

وتتلخص تلك المشكلات في الأمور الآتية (¬1): 1 - نظام الجملة، فاللغات تختلف في النظام الذي تخضع له الجمل في ترتيب كلماتها، وعلاقة كل كلمة بالأخرى. 2 - ومن صعوبات الترجمة ما يتعلق بجمال الألفاظ وجرسها. 3 - والمشكلة الكبرى في الترجمة هي التي تتصل بدلالة الكلمات وحدود معانيها. ودلالة الكلمات في مجال الأفكار وفي النشاط العلمي تلتزم عادة حدودا لا تكاد تتعداها، أما في ترجمة النصوص الأدبية فالمشكلة أشد عسرا، وأصعب منالا، لأن الآداب تعتمد على التصوير والعاطفة والتأثير والانفعال، إلى جانب ما تعبر عنه من أفكار. وتبلغ صعوبة الترجمة غايتها في ترجمة القرآن الكريم، فمن المستحيل أن يقدر بشر مهما أوتي من العلم وتمكن من اللغة أن يعيد صياغة آيات القرآن بلغة أخرى غير العربية، ويحافظ في الوقت ذاته على معانيه من جانب وأسلوبه المعجز من جانب آخر. ومع صعوبة الترجمة، إن لم نقل استحالتها، فإن علماء المسلمين يقررون ضرورة تبليغ القرآن ورسالته إلى أمم الأرض مهما كانت لغاتهم، وتحقيق ذلك قد لا يتم إلا بضرب من الترجمة، قال ابن تيمية، رحمه الله: «ومعلوم أن الأمة مأمورة بتبليغ القرآن لفظه ومعناه، كما أمر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكون تبليغ رسالة الله إلا كذلك، وإن تبليغه إلى العجم قد يحتاج إلى ترجمته لهم، فيترجم لهم بحسب الإمكان، والترجمة قد تحتاج إلى ضرب أمثال لتصوير المعاني فيكون ذلك من تمام الترجمة» (¬2). ¬

_ (¬1) ينظر: المصدر نفسه ص 171 - 175. (¬2) مجموع الفتاوى 4/ 116 - 117.

المبحث الخامس إعجاز القرآن الكريم

وتقسّم الترجمة إلى ترجمة حرفية، أي نقل اللفظ بلفظ مرادف، وترجمة تفسيرية وهي ترجمة المعنى وبيانه (¬1)، وسواء ترجم القرآن ترجمة حرفية أم تفسيرية، ومهما توافر لتلك الترجمة من الدقة والإخلاص فإنها لا تسمى قرآنا، لأن القرآن موحى بلفظه ومعناه، والترجمة تفوّت الألفاظ ونظمها، إذا أمكن أن تحافظ على المعنى كاملا، وهو غير متيسر في الواقع (¬2). ونقل النووي عن إمام الحرمين قوله: «ترجمة القرآن ليست قرآنا بإجماع المسلمين، ومحاولة الدليل لهذا تكلف، فليس أحد يخالف في أن من تكلم بمعنى القرآن بالهندية ليست قرآنا، وليس ما لفظ به قرآنا، ومن خالف في هذا كان مراغما جاحدا، وتفسير شعر امرئ القيس ليس شعره، فكيف يكون تفسير القرآن قرآنا؟» (¬3). وخلاصة الموضوع أنه يمكن القول: إن ترجمة القرآن مهما كانت لا تسمى قرآنا، وإنما هي نوع من التفسير بلغة أخرى غير العربية، ومن ثم أجمع العلماء على عدم جواز قراءة القرآن بغير اللغة العربية في الصلاة أو في غيرها (¬4). المبحث الخامس إعجاز القرآن الكريم الإعجاز مصدر الفعل أعجز، مثل الإحسان من أحسن، والإكرام من أكرم، والفعل الثلاثي عجز وعجز، ومضارعه يعجز، ويقال عجز عن الامر إذا قصّر عنه، وأعجزني فلان إذا عجزت عن طلبه وإدراكه، والعجز الضعف (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر نفسه 4/ 115، وينظر: محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون 1/ 23. (¬2) ينظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى 6/ 542. (¬3) المجموع شرح المهذب 3/ 342. (¬4) ينظر: الزرقاني: مناهل العرفان 2/ 56 - 60. (¬5) ابن منظور: لسان العرب 7/ 236 عجز.

أولا - إعجاز القرآن في عصر النبوة

والإعجاز في الاصطلاح زوال القدرة عن الإتيان بالشيء من عمل أو رأي أو تدبير (¬1)، والمعجزة أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة (¬2)، وسمّيت معجزة لأن البشر يعجزون عن الإتيان بمثلها (¬3). واشتهر في مجال الدراسات القرآنية مصطلح (إعجاز القرآن) للدلالة على عجز الناس عن معارضة القرآن أو الإتيان بمثله، وهذه القضية قديمة ترجع إلى عصر النبوة، حين وقف المشركون يكذّبون بالدعوة الجديدة، ويصدون الناس عنها، ويزعمون أن القرآن مفترى من دون الله، فتحداهم القرآن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور أو بسورة واحدة، فعجزوا عن ذلك، ومكّن الله تعالى لدينه. وبحث العلماء موضوع إعجاز القرآن، حين صارت المعارف علوما، وظهر التأليف في أنواع العلوم التي حدثت في الأمة، ووقفوا عند وجوه الإعجاز في القرآن، وتعددت آراؤهم، وتنوعت مواقفهم، وظهرت الرسائل المؤلفة في هذا الموضوع، وكثرت المؤلفات فيه، في العصور القديمة والعصر الحديث. ولا يتسع المقام لتتبع كل ما كتب في موضوع إعجاز القرآن، ولكن يلزم دارس علوم القرآن أن يعرف خلاصة ما قيل في هذا الموضوع، وسوف نتناول في هذا المبحث الإعجاز في عصر النبوة، ونتتبع تطور التأليف فيه عند المتقدمين، ونقف عند أبرز اتجاهات دراسة الإعجاز في العصر الحديث. أولا- إعجاز القرآن في عصر النبوة: لم يكن مصطلح (الإعجاز) قد تميز في عصر النبوة، وإن كان معناه قائما معروفا، وكانت كلمة (آية) وجمعها (آيات) تعبر عن معنى كلمة (معجزة) وجمعها ¬

_ (¬1) الفيروزآبادي: بصائر ذوي التمييز 1/ 65. (¬2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 1/ 69، والسيوطي: الإتقان 4/ 3. (¬3) سمّى العلماء الامر الخارق الذي يحصل للأنبياء معجزة، وللصالحين كرامة، وسموا ما يجري على يد الفسقة والكفار استدراجا وإهانة.

(معجزات)، فقد روى البخاري، رحمه الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (¬1). قال ابن حجر: «أي أن معجزتي التي تحدّيت بها [هي] الوحي الذي أنزل عليّ، وهو القرآن، لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح» (¬2). وجاء في القرآن ما يؤكد أن أكبر معجزاته صلى الله عليه وسلم هو القرآن، قال الله تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ (51) [العنكبوت]. فالقرآن الكريم أفضل معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وأكملها وأجلها وأعظمها (¬3). وشهد عصر النبوة صراعا شديدا بين الدين الجديد وأتباعه، وبين المشركين الذين أعلنوا عداءهم وحربهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وشنوا حملة من الطعن والتشكيك في القرآن الكريم، ولم يملكوا وهم يحسون بقوة تأثيره في النفوس إلا أن يلفقوا الأقاويل والأباطيل بحق القرآن، ولكن ذلك لم يحل بين القرآن والتأثير في النفوس وجذب المؤمنين إلى الدين الجديد، فتصايحوا حينئذ لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) [فصلت]. كان مشركو مكة متحيرين في أمر القرآن وقوة تأثيره في النفوس، ولم يتفقوا على كلمة يقولونها بحق القرآن ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة أحد كبرائهم ليتداولوا في هذا الأمر، فقال لهم الوليد: أجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا، ويردّ قولكم بعضه بعضا، قالوا: فأنت ¬

_ (¬1) ينظر: ابن حجر: فتح الباري 9/ 3 و 13/ 247. (¬2) فتح الباري 9/ 6، وينظر: السيوطي: الإتقان 4/ 3. (¬3) الفيروزآبادي: بصائر ذوي التمييز 1/ 67.

فقل، قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن، قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخنقه ولا تخالجه، ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر: قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم، قالوا: فما نقول؟ قال: والله إنّ لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك (¬1). وقد حكى القرآن تخرصات المشركين تلك وأقاويلهم، فقد قال الله تعالى: 1 - بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ (5) [الأنبياء]. 2 - وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) [الصافات]. 3 - وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) [الفرقان]. 4 - وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) [الأنفال]. 5 - وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) [سبأ]. ولم تكن أقوال المشركين الباطلة في القرآن الكريم لتوقف سير الدعوة وانتشارها، ولم تكن تلك الأقوال لتقنع المشركين أنفسهم بصدق دعواهم، فقد ¬

_ (¬1) ينظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 271.

كانوا متحيرين في أمرهم، لا تكاد نفوسهم تستقر على شيء حتى تتحول عنه، لكن الله تعالى لم يدع تلك الأقاويل الباطلة لتؤثر في النفوس، فردها عليهم من أقرب طريق، حين تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو بعشر سور منه، أو بسورة واحدة، فقال الله تعالى: 1 - وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ (24) [البقرة]. 2 - أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) [يونس]. 3 - أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) [هود]. 4 - أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) [الطور]. ويستخلص من هذه الآيات الكريمة أمران: الأول: أن القرآن تحدّى المشركين أن يأتوا بمثل القرآن، أو عشر سور، او سورة واحدة، وهو تحدّ قائم طوال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: إن المشركين عجزوا عن الإتيان بمثله أو مثل شيء منه، وهو عجز يدل عليه النقل المتواتر الذي يقع به العلم الضروري، فلا يمكن جحود واحد من هذين الأمرين (¬1). والذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن أنه تحداهم إليه حتى طال التحدي، وجعله دلالة على صدقه صلى الله عليه وسلم ونبوته، وضمّن أحكامه استباحة ¬

_ (¬1) الباقلاني: إعجاز القرآن ص 18.

ثانيا - إعجاز القرآن في المؤلفات القديمة

دماءهم وأموالهم وسبي ذريتهم، فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا وتوصلوا إلى تخليص أنفسهم وأهليهم من حكمه بأمر قريب، هو عادتهم في لسانهم ومألوف من خطابهم، وكان ذلك يغنيهم عن تكلف القتال وإكثار المراء والجدال، وعن الجلاء عن الأوطان، وعن تسليم الاهل والذرية للسبي، فلما لم تحصل منهم معارضة علم أنهم عاجزون عنها (¬1). عجز العرب في عصر النبوة عن معارضة القرآن مع توفر الدواعي وشدة الحاجة (¬2)، وصدق الله العظيم إذ قال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) [الإسراء]. ثانيا- إعجاز القرآن في المؤلفات القديمة: كان المشركون قد أدركوا بالفطرة وبما كانوا عليه من فصاحة وبيان ما في القرآن الكريم من تميز وسمو، فقاسوه على أرقى فنون القول لديهم من سجع الكهان وقصيد الشعراء ورجزهم، وأدركوا أنه فوق ذلك فلم يجدوا شيئا يصفون به القرآن يخلصهم من دهشتهم وحيرتهم غير أن يصفوه بأنه سحر. وتلقى الصحابة، رضي الله عنهم، القرآن الكريم فملأ قلوبهم إيمانا وحكمة وهدى وتقوى، وهم يتلونه ليل نهار، مؤمنين أنه مأدبة الله، لا يعوجّ فيقوّم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد (¬3)، وتلقاه التابعون وتابعوهم على نحو من ذلك، ولم ينقل عنهم أنهم تعرضوا لمناقشة إعجاز القرآن، لأنهم أدركوه بفطرتهم، فلم يحتاجوا إلى أن يعملوا فيه فكرتهم. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ص 20. (¬2) الطبري: جامع البيان 1/ 165، والرماني: النكت ص 113. (¬3) جزء من حديث رواه المحدّثون عن ابن مسعود (ينظر: الآجري: أخلاق حملة القرآن ص 44).

ويبدو أن اتساع المعارف وتنوع الثقافات الذي حدث في صدر الدولة العباسية قد أثار جدلا حول عدد من أمور العقيدة، ونشأ جيل من الناس قصرت بهم معارفهم عن فهم الإعجاز أو إدراك حقيقته، فتصدى علماء الأمة لدراسة هذا الموضوع وكتبوا فيه عددا من الرسائل والكتب، تبحث في سر الإعجاز وتسعى إلى بيان وجوهه وتوضيحها، ولا يتسع المقام لتتبع كل تلك الجهود، وإنما سوف أقتصر على عرض المعالم البارزة فيها. 1 - تكاد كلمة الباحثين تتفق على أن الجاحظ (أبا عثمان عمر بن بحر ت 255 هـ) هو أول من درس موضوع الإعجاز في كتاب مستقل، فقد ألف كتاب (نظم القرآن) (¬1)، ويبدو أن الجاحظ يذهب إلى أن إعجاز القرآن كائن في نظمه وتأليفه، وهو يرد في ذلك على شيخه إبراهيم بن سيّار النظّام (ت 224 هـ)، الذي زعم أن إعجاز القرآن كائن في أن الله تعالى صرف العرب عن معارضته، ولولا ذلك لكان في مقدورهم الإتيان بمثله، وسمّي هذا المذهب بالصّرفة، وهو قول أنكره جمهور علماء الأمة وردوه (¬2). 2 - ومن أقدم الكتب التي عالجت الموضوع كتاب (بيان إعجاز القرآن) لأبي سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي (ت 388 هـ) الذي استهله بقوله: «قد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديما وحديثا، وذهبوا فيه كل مذهب من القول» (¬3). ثم عرض الخطابي ثلاثة من تلك المذاهب، ولم يوافق القائلين بها، وهي (¬4): ¬

_ (¬1) ذكره الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن (ص 6 و 248)، وذكر ابن النديم في الفهرست (ص 220) كتاب إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه لمحمد بن يزيد الواسطي (ت 306 هـ). (¬2) ينظر: الباقلاني: إعجاز القرآن ص 29، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن 1/ 75، والزركشي: البرهان 2/ 93، وأبو زهرة: المعجزة الكبرى ص 75. (¬3) بيان إعجاز القرآن ص 21. (¬4) المصدر نفسه ص 22 - 24.

أ- ذهب قوم إلى أن العلة في إعجازه الصرفة. ب- وزعمت طائفة أن إعجازه إنما هو فيما يتضمنه من الإخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان، وهو يقول: ولا يشكّ في أن هذا وما أشبهه من أخباره نوع من أنواع إعجازه، ولكنه ليس بالأمر العام الموجود في كل سورة من سور القرآن، وقد جعل سبحانه في صفة كل سورة أن تكون معجزة بنفسها. ج- وزعم آخرون أن إعجازه من جهة بلاغته، وهم الأكثرون من علماء أهل النظر، لكنه يأخذ عليهم أنهم إذا سئلوا عن تحديد هذه البلاغة لم يتمكنوا وقالوا: إن ذلك شيء لا يمكن تصويره وأنه يظهر أثره في النفس حتى لا يلتبس على ذوي العلم والمعرفة به. ويلخص الخطابي بعد ذلك رأيه في إعجاز القرآن بقوله: «واعلم أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف، مضمّنا أصح المعاني» (¬1). والتفت الخطابي إلى الأثر الذي يتركه سماع القرآن الكريم في النفس، وجعله أحد وجوه الإعجاز، فقال: «في إعجاز القرآن وجه آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في الحال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشّاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول صلى الله عليه وسلم من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ص 27.

اغتياله وقتله فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيمانا ... » (¬1). 3 - وألّف أبو الحسن علي بن عيسى الرماني (ت 386 هـ) كتابه (النكت في إعجاز القرآن)، وقال في أوله: «وجوه إعجاز القرآن تظهر من سبع جهات: ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة، والتحدي للكافة، والصّرفة، والبلاغة، والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة، ونقض العادة، وقياسه بكل معجزة» (¬2). ثم بيّن تلك الوجوه، وفصّل القول في البلاغة وأقسامها، حتى أخذ ذلك معظم الكتاب. (¬3). 4 - وتحدّث أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت 403 هـ) عن وجوه الإعجاز في كتابه (إعجاز القرآن)، وذكرها ملخصة في كتابه (الانتصار لنقل القرآن)، وهي عنده ثلاثة. أحدها: ما تضمنه من الإخبار عن الغيوب، وما يحدث وما يكون، وذلك مما لا يقدر عليه البشر ولا سبيل لهم إليه. والوجه الثاني: ما تضمنه من قصص الأولين وأخبار الماضين التي لا يعرفها إلا من أكثر ملاقاة الأمم، ودراسة الكتب، مع العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميّا، ولم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم. والوجه الثالث: أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه (¬4). ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ص 70. (¬2) النكت ص 75. (¬3) النكت ص 75 - 109، وبقية الوجوه ص 109 - 111. (¬4) إعجاز القرآن ص 33 - 35، ونكت الانتصار ص 58 و 242.

5 - وممن اعتنى بإعجاز القرآن أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (ت 471 هـ)، وكتب في ذلك الرسالة الشافية التي ضمنها جملا من «القول في بيان عجز العرب حين تحدّوا إلى معارضة القرآن، وإذعانهم وعلمهم أن الذي سمعوه فائت للقوى البشرية، ومتجاوز للذي يتسع له ذرع المخلوقين ... » (¬1). وهذه الرسالة كتبها عبد القاهر ليثبت حقيقة الإعجاز لا ليبين أسراره، أما تفصيل القول في أسرار الإعجاز فقد جاء كثير من ذلك في كتابه (دلائل الإعجاز). وتتلخص فكرته في قوله: «فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عدّدناه، لم يبق إلا أن يكون في النظم، لأنه ليس من بعد ما أبطلناه أن يكون فيه إلا النظم والاستعارة، ولا يمكن أن تجعل الاستعارة الأصل في الإعجاز وأن يقصر عليها، لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة في مواضع من السور الطوال مخصوصة، وإذا امتنع ذلك فيها ثبت أن النظم مكانه الذي ينبغي أن يكون فيه ... وكنا قد قلنا أن ليس النظم شيئا غير توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم» (¬2). 6 - وبحث القاضي عياض بن موسى (ت 544 هـ) الإعجاز في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) وحدّد وجوه الإعجاز الرئيسية في أربعة هي: أولها: حسن تأليفه، والتئام كلمه، وفصاحته، وبلاغته الخارقة عادة العرب. والثاني: صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب. وكلا هذين الوجهين يرجع إلى الناحية البيانية في القرآن (¬3). والثالث: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع، فوجد كما ورد، على الوجه الذي أخبر. ¬

_ (¬1) الرسالة الشافية ص 117. (¬2) دلائل الإعجاز ص 391. (¬3) أبو زهرة: المعجزة الكبرى ص 87.

والرابع: ما أنبأ من أخبار القرون السالفة والامم البائدة (¬1). وأضاف إليها القاضي عياض وجوها أخرى، أهمها (¬2): أ- ما ورد من تعجيز قوم في قضايا، فما فعلوا. ب- الروعة التي تلحق قلوب سامعيه، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته. ج- كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، مع تكفل الله تعالى بحفظه. د- أن قارئه لا يمله، وسامعه لا يمجه. هـ- جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد العرب عامة ولا محمد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته خاصة معرفتها ولا القيام بها. 7 - وذهب علم الدين علي بن محمد السخاوي (ت 643 هـ) إلى أن إعجاز القرآن في أنه خارج في بديع نظمه وغرابة أساليبه عن معهود كلام البشر، مختص بنمط غريب لا يشبه شيئا من القول في الرصف والترتيب، لا هو من قبيل الشعر، ولا من ضروب الخطب والسجع، يعلم من تأمله أنه خارج عن المألوف، مباين للمعروف، متناسب في البلاغة، متشابه في البراعة، بريء من التكلف، منزّه عن التصنع والتعسف. أما ما تضمنه القرآن العزيز من الإخبار عن المغيّب، وما أتى به من أخبار القرون الماضية والأمم الخالية، وبما كان من أول خلق الأرض والسماء إلى انقضاء الدنيا، فذلك- في رأي علم الدين السخاوي- ليس مما تحداهم به، ولكنه دليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم (¬3). 8 - وجعل أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (ت 684 هـ) وجوه إعجاز القرآن ¬

_ (¬1) الشفا 1/ 491 و 511 و 522، وينظر: السيوطي: الإتقان 4/ 16. (¬2) الشفا 1/ 526 و 529 و 533 و 535 و 536. (¬3) جمال القراء 1/ 44.

عشرة، منها ما يتعلق بنظمه وتأليفه، ومنها ما يتعلق بمعانيه وأحكامه، مما لا يخرج أكثره عن الوجوه التي ذكرها العلماء قبله (¬1). 9 - وذكر بدر الدين الزركشي (ت 794 هـ) اثني عشر وجها من وجوه الإعجاز، هي تلخيص لجهود سابقيه (¬2). 10 - وجمع جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) جهود السابقين له في موضوع الإعجاز في باب من أبواب كتابه الكبير (الإتقان في علوم القرآن) (¬3). كما أنه ألّف كتابا في الموضوع سماه (معترك الإقران في إعجاز القرآن) في ثلاثة أجزاء كبيرة، وذكر فيه أن بعض العلماء أنهى وجوه إعجازه إلى ثمانين وجها (¬4). وبلغ ما ذكره هو خمسة وثلاثين وجها، استغرق الوجه الأخير أكثر من ثلثي الكتاب، وهو في (ألفاظ القرآن المشتركة)، وقال في أول كلامه فيه: «وهذا الوجه من أعظم وجوه إعجازه، حيث كانت الكلمة الواحدة تتصرف إلى عشرين وجها، وأكثر وأقل، ولا يوجد ذلك في كلام البشر» (¬5). وكثير مما ذكره السيوطي لا يدخل في موضوع الإعجاز، وأشار هو نفسه إلى ذلك بقوله: «وإن كانت بعض الأوجه لا تعدّ من إعجازه، فإنما ذكرتها للاطلاع على بعض معانيه، فيثلج له صدرك، وتبتهج نفسك» (¬6). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن 1/ 73. (¬2) البرهان 2/ 106. (¬3) الإتقان 4/ 3 - 23. (¬4) معترك الأقران 1/ 3. (¬5) المصدر نفسه 1/ 514. (¬6) المصدر نفسه 1/ 12.

ثالثا - إعجاز القرآن في العصر الحديث

ثالثا- إعجاز القرآن في العصر الحديث: لم يكن الدارسون المحدثون أقلّ عناية ببحث وجوه إعجاز القرآن الكريم من السابقين، بل إن العصر الحديث أظهر معطيات جديدة للإعجاز، وأثار نقاشات وسّعت مفهوم الإعجاز وعمقت من دلالاته، وتنوعت مناهج المحدثين في تناول الموضوع، وتباينت مواقفهم منه، وكثرت البحوث والمؤلفات فيه، ويمكن أن نشير إلى الاتجاهات البارزة لديهم في معالجة الموضوع، دون الخوض في تفصيلاته، وهي: الاتجاه الأول: يقدّم عددا من وجوه الإعجاز، كثير منها ذكره السابقون، وقد أوصلها الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني إلى أربعة عشر وجها، فصّل القول فيها، وأكتفي هنا بإيراد عناوينها (¬1): الوجه الأول: لغته وأسلوبه. الوجه الثاني: طريقة تأليفه. الوجه الثالث: علومه ومعارفه. الوجه الرابع: وفاؤه بحاجات البشر. الوجه الخامس: موقف القرآن الكريم من العلوم الكونية. الوجه السادس: سياسته في الإصلاح. الوجه السابع: أنباء الغيب فيه. الوجه الثامن: آيات العتاب. الوجه التاسع: ما نزل بعد طول انتظار. الوجه العاشر: مظهر النبي صلى الله عليه وسلم عند هبوط الوحي عليه. ¬

_ (¬1) مناهل العرفان 2/ 228 - 308.

الوجه الحادي عشر: آية المباهلة. الوجه الثاني عشر: عجز الرسول عن الإتيان ببدل له. الوجه الثالث عشر: الآيات التي تجرد الرسول من نسبته إليه. الوجه الرابع عشر: تأثير القرآن ونجاحه. الاتجاه الثاني: حاول عدد من الدارسين المحدثين حصر وجوه الإعجاز في عناوين رئيسية تنضوي تحتها معظم تلك الوجوه، فجعلوا الإعجاز منقسما على ثلاث نواح، هي (¬1): 1 - الإعجاز اللغوي (أو البياني): وهو يشمل كل ما يتعلق بالتعبير القرآني من الكلمة، والجملة، والأسلوب. والتعبير القرآني تعبير فنيّ مقصود في جوانبه الثلاثة، بالغ الغاية القصوى فيها. 2 - الإعجاز العلمي: وهو يتناول دراسة الآيات التي وردت فيها إشارة إلى قضايا علمية تتعلق بالفلك أو الطب أو علمي النبات والحيوان، ونحوها، وهذا الجانب من أكثر جوانب الإعجاز بحثا وتأليفا في الوقت الحاضر. 3 - الإعجاز التشريعي: ويستند هذا النوع من البحث في إعجاز القرآن على أساس أنه معجزة تشريعية، من حيث الشمول، والمرونة، وتحقيق العدالة، وذلك بالاستناد إلى مصدره الإلهي الذي صانه من قصور الفكر البشري عن الإحاطة بواقع الحال، وإدراك متغيرات المستقبل. الاتجاه الثالث: يقصر الإعجاز على الجانب البياني من القرآن، فهو «كائن في رصف القرآن وبيان نظمه، ومباينة خصائصه للمعهود من خصائص كل نظم ¬

_ (¬1) ينظر: محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم 79، ومناع القطان: مباحث في علوم القرآن ص 264.

وبيان في لغة العرب» ثم «إن ما في القرآن من مكنون الغيب ومن دقائق التشريع ومن عجائب آيات الله في خلقه، كل ذلك بمعزل عن هذا التحدي المفضي إلى الإعجاز، وإن كان ما فيه من ذلك كله يعد دليلا على أنه من عند الله تعالى ... » (¬1). الاتجاه الرابع: يقصر الإعجاز على ما في القرآن من معان سامية وتشريع حكيم، فإعجازه «في رسالته العليا النافعة للناس كافة ... هذه الرسالة لو نقلت بأمانة إلى أي لغة من لغات العالم لكان لها في ناطقيها وقع مثل وقعها في العربية ... ولو كان إعجاز القرآن في فصاحته وبلاغته في العربية فحسب كيف آمن غير العرب به؟ فالقرآن معجزة لما في رسالته من تعليمات عليا، وإرشادات سامية، وغايات نبيلة، وأغراض شريفة، وأهداف قيمة، تزيد الإيمان وتحث المؤمنين على الأعمال الصالحة ومكارم الأخلاق ... » (¬2). الاتجاه الخامس: الإعجاز العددي، وهو نوع جديد من البحث في إعجاز القرآن، وتعددت وجهات الدارسين له، واختلفت آراء الباحثين فيه، ويمكن أن نذكر هنا ثلاثة مناهج لهذا الاتجاه: المنهج الأول: يقوم على جعل العدد (19) أساسا للأعداد في القرآن، وكان الدكتور محمد رشاد خليفة صاحب هذا المنهج والمبشر به، ولكن دراسات لاحقة ظهرت أثارت الشكوك حول أمانته في الأرقام التي قدمها في دراسته (¬3)، وحول هدفه منها، بعد أن ظهر أنه كان ذا علاقة بالنحلة البهائية في أمريكا، التي تقدس العدد (19). المنهج الثاني: يقوم على أساس وجود تناظر عددي بين مجموعات كبيرة من ¬

_ (¬1) محمود محمد شاكر: فصل في إعجاز القرآن، (وهو تقديم لكتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي) ص 24 - 25. (¬2) عبد الرحمن الطاهر بن محمد السورتي: مقدمة تحقيق تفسير مجاهد ص 12 - 15. (¬3) ينظر: إدريس الكلاك: ليس في الإسلام تقديس للأرقام.

رابعا - نظرة في مناهج العلماء في دراسة إعجاز القرآن

الألفاظ التي بينها علاقة من نوع ما، وكان الأستاذ عبد الرزاق نوفل هو الذي تنبه إلى هذه القضية وفصّلها في سلسلة متتابعة من كتابه (الإعجاز العددي للقرآن الكريم)، وذلك مثل ورود كل من لفظ الدنيا والآخرة (115) مرة في القرآن، والملائكة والشياطين (68) مرة، والحياة والموت (71) مرة، وهكذا في ألفاظ كثيرة (¬1). المنهج الثالث: يقوم على أساس اكتشاف علاقات عددية بين حروف القرآن وكلماته وآياته وسوره، من جانب، وعلى ما في العدد (7) من إعجاز كما يدل على ذلك ما ورد في القرآن الكريم من جانب آخر، وصاحب هذه النظرة الأستاذ عمر النجدي في كتابه (معجزة القرآن الجديدة: بنية الآيات والسور) (¬2)، ويصعب على القارئ الوقوف على أسس مشتركة لقوانين التنزيل كما يسميها المؤلف في كتابه. رابعا- نظرة في مناهج العلماء في دراسة إعجاز القرآن: إن كثرة الوجوه التي ذكرها العلماء في بيان إعجاز القرآن الكريم قديما وحديثا تساعد قراء القرآن في كثير من الأحيان في الوقوف على جوانب من جامعية هذا القرآن الخارقة، لكنها قد تكون أيضا سببا في حجب بعض أسراره الباهرة، وذلك حين يقف المرء على بعض الأقوال المتعارضة في تحديد وجوه الإعجاز، وقد جعل ذلك السيوطي يقول: «وقد خاض الناس في ذلك كثيرا، فبين محسن ومسيء» (¬3). ولا شك في أن كثرة تلك الوجوه وتباينها في بعض الأحيان لا تغير من ¬

_ (¬1) صدر الكتاب في ثلاثة أجزاء صغيرة، ثم صدر في طبعة جديدة في مجلد واحد. (¬2) دار ابن قتيبة، الكويت 1994 م. (¬3) الإتقان 4/ 6.

حقيقة إعجاز القرآن، وإنما هي تعكس تفاوت العلماء في إدراك ذلك الإعجاز، وقد أخبر كل واحد منهم بما عرف، لأن أمر القرآن عجيب «يراه الأديب معجزا، ويراه اللغوي معجزا، ويراه أرباب القانون والتشريع معجزا، ويراه علماء الاقتصاد معجزا، ويراه المربون معجزا، ويراه علماء النفس والمعنيون بالدراسات النفسية معجزا، ويراه علماء الاجتماع معجزا، ويراه المصلحون معجزا، ويراه كل راسخ في علمه معجزا» (¬1). كما أن تلك الوجوه يمكن أن تسلك في منهج يزيل ما قد يبدو بينها من تعارض، ويكون كل وجه منها كاشفا عن جانب من أسرار القرآن، أو مقدما الدليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في ما أخبر به من أنه يتلقى القرآن من لدن حكيم عليم، وتتلخص ملامح هذا المنهج في أمرين: الأول: تحديد الوجه الذي أعجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن، ومنعهم من الإقدام على معارضته، في عصر النبوة. الثاني: تحديد ما جاء في القرآن من الأمور التي تدل على أنه لا يمكن أن يكون من عند أحد سوى الله تعالى. وهذا المنهج ليس جديدا، فقد ورد مضمونه في كلام علم الدين السخاوي (ت 643 هـ) الذي كان أول عالم يفرق بين الأمرين السابقين في دراسة الإعجاز فيما اطلعت عليه، وسبق أن ألمحت إلى رأيه. وتحدث الأستاذ محمود محمد شاكر عن ذلك أيضا في (فصل في إعجاز القرآن) وهو تقديم لكتاب (الظاهرة القرآنية)، ودعا إلى التمييز بين أمرين: الأول: إن إعجاز القرآن كما يدل عليه لفظه وتاريخه إنما هو تحدّ بلفظ القرآن ونظمه وبيانه، لا بشيء خارج عن ذلك. ¬

_ (¬1) فاضل صالح السامرائي: التعبير القرآني ص 22، طبع دار عمار/ الأردن.

والثاني: إن إثبات دليل النبوة، وتصديق دليل الوحي، وأن القرآن من عند الله تعالى ليس من الإعجاز في شيء (¬1). واتخذ الشيخ محمد أبو زهرة موقفا مقاربا لذلك، فقال بعد أن عرض وجوه الإعجاز التي ذكرها العلماء السابقون: «وعلى ذلك تنقسم وجوه الإعجاز التي اشتمل عليها القرآن إلى قسمين: أولهما: ما يتعلق بالمنهاج البياني، وهذا النوع من الإعجاز أول من يخاطب به العرب. القسم الثاني: الإعجاز بما اشتمل عليه من ذكر لأخبار السابقين، ولأخبار مستقبلة وقعت كما ذكر، واشتماله على علوم كونية وحقائق لم تكن معروفة في عصر محمد صلى الله عليه وسلم وقد أتى بها القرآن وتقررت حقائقها من بعد، وكذلك ما اشتمل عليه من شرائع أثبت الوجود الإنساني أنها أصلح من غيرها، وأنها وحدها العادلة، وأن هذا النوع معجزة للأجيال كلها» (¬2). وننتهي من هذا العرض إلى نتيجة ملخصها أن إعجاز القرآن في عصر النبوة الذي أعجز العرب هو في نظمه وبيانه، وأن ما أدركه العلماء بعد ذلك من وجوه أخرى جاء معززا للإعجاز ومؤكدا صدق النبوة، وأن هذا القرآن تنزيل من الرحمن الرحيم. إن هذا التصور لمنهج دراسة الإعجاز لا يهمل التراث الكبير الذي خلفه العلماء السابقون في موضوع الإعجاز، لكنه يعيد تنظيمه على نحو أكثر تناسقا ووضوحا، في إطار واحد شامل، يضم ما كان أصلا سر الإعجاز، وما ظهر بعد ¬

_ (¬1) راجع رقم (7) من الفقرة (ثانيا) من هذا المبحث. (¬2) المعجزة الكبرى ص 90 - 91.

ذلك من دلائل صدق النبوة وربانية القرآن، وبهذا تصبح كلمة الإعجاز ذات دلالة أوسع مما وضعت له في أول الأمر من بيان سر عجز العرب عن محاكاته، لتدل على ذلك، ثم على ما وقف عليه العلماء بعد ذلك من أسرار القرآن التشريعية والعلمية والتاريخية. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مصادر الكتاب

مصادر الكتاب 1 - الآجري (محمد بن الحسين): أخلاق حملة القرآن، دار الأنبار، بغداد 1989 م. 2 - الآلوسي (أبو الثناء محمود بن عبد الله): روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الطباعة المنيرية بمصر. 3 - إبراهيم أنيس (دكتور): دلالة الألفاظ، ط 3، مكتبة الأنجلو المصرية 1972. 4 - ابن الأثير (علي بن أبي الكرم): الكامل في التاريخ، الطباعة المنيرية بمصر. 5 - ابن الأثير (المبارك بن محمد): النهاية في غريب الحديث، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة. 6 - أحمد بن حنبل: المسند، ط 3، دار المعارف بمصر 1368 هـ 1949 م. 7 - الأزهري (أبو منصور محمد بن أحمد): تهذيب اللغة، القاهرة. 8 - ابن الأنباري (أبو بكر محمد بن القاسم): إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل، دمشق 1971 م. 9 - الباقلاني (محمد بن الطيب): إعجاز القرآن، دار المعارف، بمصر 1954 م. 10 - الباقلاني: نكت الانتصار لنقل القرآن؛ منشأة المعارف، الإسكندرية 1971. 11 - البخاري (محمد بن اسماعيل): الجامع الصحيح، طبع محمد صبيح، القاهرة. 12 - بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، ج 1 (مترجم)، دار المعارف، القاهرة 1959 م. 13 - ابن بسطام (أبو محمد حامد بن أحمد): مقدمة (كتاب المباني في نظم المعاني) نشرها آرثر جفري في (مقدمتان في علوم القرآن) القاهرة 1954. 14 - البلاذري (أحمد بن يحيى): فتوح البلدان، ط 1، القاهرة 1901. 15 - البلوي (أبو الحجاج يوسف بن محمد): ألف با، جمعية المعارف بمصر 1287 هـ.

16 - البيضاوي (عبد الله بن عمر): أنوار التنزيل وأسرار التأويل، دار الكتب العلمية، بيروت. 17 - البيهقي (أحمد بن الحسين): دلائل النبوة. 18 - الترمذي (محمد بن عيسى): سنن الترمذي، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 19 - ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم): مجموع فتاوى شيخ الإسلام، الرياض. 20 - ابن تيمية: مقدمة في أصول التفسير، ط 2، بيروت 1392 هـ 1972 م. 21 - ابن الجزري (أبو الخير محمد بن محمد): غاية النهاية في طبقات القراء، القاهرة 1932 م. 22 - ابن الجزري: متن الجزرية بهامشها شرح زكريا الأنصاري، طبع محمد علي صبيح، القاهرة 1956 م. 23 - ابن الجزري: منجد المقرئين ومرشد الطالبين، القاهرة 1350 هـ. 24 - ابن الجزري: النشر في المقالات العشر، مطبعة مصطفى أحمد بمصر. 25 - ابن جزي الغرناطي (محمد بن أحمد): التسهيل لعلوم التنزيل، القاهرة. 26 - الجعبري (إبراهيم بن عمر): الجميلة في شرح العقيلة، مخطوط، دار الكتب المصرية (249 قراءات). 27 - ابن جني (أبو الفتح عثمان): المحتسب في تبيين شواذ القراءات، القاهرة 1966 م. 28 - جولد تسيهر: مذاهب التفسير الإسلامي (مترجم) القاهرة 1955 م. 29 - ابن أبي حاتم (عبد الرحمن): الجرح والتعديل، طبعة الهند. 30 - حاجي خليفة (مصطفى بن عبد الله): كشف الظنون، استانبول 1941 - 1943 م. 31 - الحارث المحاسبي: فهم القرآن ومعانيه، مطبوع مع كتاب العقل، بيروت 1971 م.

32 - الحاكم (محمد بن عبد الله): المستدرك على الصحيحين، حيدرآباد في الهند. 33 - ابن حجر (أحمد بن علي): فتح الباري بشرح صحيح البخاري، المطبعة السلفية، القاهرة 1380 هـ. 34 - حفني ناصف: تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية، ط 2، القاهرة 1958 م. 35 - حمزة بن الحسن الأصفهاني: التنبيه على حدوث التصحيف، دمشق 1968. 36 - أبو حيان الأندلسي (محمد بن يوسف): البحر المحيط، الرياض. 37 - الخطابي (حمد بن محمد): بيان إعجاز القرآن (ضمن ثلاث رسائل) القاهرة 1968 م. 38 - الخطيب البغدادي (أحمد بن علي): تاريخ بغداد، مكتبة الخانجي، القاهرة 1931 م. 39 - الخطيب البغدادي: تقييد العلم، دمشق 1949. 40 - ابن خلدون (عبد الرحمن): مقدمة ابن خلدون، بيروت. 41 - خليفة بن خياط: تاريخ خليفة، دمشق 1967 م. 42 - الداني (ابو عمرو عثمان بن سعيد): البيان في عد آي القرآن، الكويت 1994 م. 43 - الداني: التحديد في الإتقان والتجويد، بغداد 1987 م. 44 - الداني: التيسير في القراءات السبع، استانبول 1930 م. 45 - الداني: جامع البيان في القراءات السبع، مخطوط، دار الكتب المصرية (3 م قراءات). 46 - الداني: المحكم في نقط المصاحف، دمشق 1960 م. 47 - الداني: المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار، دمشق 1940 م. 48 - أبو داود (سليمان بن الأشعث): سنن أبي داود، دار إحياء السنة النبوية. 49 - ابن أبي داود (عبد الله بن سليمان): كتاب المصاحف، القاهرة 1936 م.

50 - الداودي (محمد بن علي): طبقات المفسرين، القاهرة 1972 م. 51 - الذهبي: (محمد بن أحمد): سير أعلام النبلاء، القاهرة 1957 م. 52 - الذهبي: معرفة القراء الكبار، القاهرة 1969 م. 53 - الرازي (محمد بن عمر): التفسير الكبير، ط 2، المكتبة العلمية، طهران. 54 - الرماني (علي بن عيسى): النكت في إعجاز القرآن (ضمن ثلاث رسائل)، القاهرة 1968 م. 55 - رمزي نعناعة: الإسرائيليات وأثرها في التفسير، دمشق 1970 م. 56 - الزجاج (إبراهيم بن السري): معاني القرآن وإعرابه، بيروت 1973 م. 57 - الزرقاني (محمد عبد العظيم): مناهل العرفان في علوم القرآن، ط 3، القاهرة 1943 م. 58 - الزركشي (محمد بن عبد الله): البرهان في علوم القرآن، ط 2، القاهرة 1972 م. 59 - الساعاتي (أحمد بن عبد الرحمن البنا): الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، ط 1، القاهرة 1374 هـ. 60 - السخاوي (علم الدين علي بن محمد): جمال القراء وكمال الإقراء، القاهرة 1987 م. 61 - السخاوي: الوسيلة إلى كشف العقيلة، رسالة ماجستير تقدم بها صالح مهدي عباس إلى كلية الآداب في الجامعة المستنصرية، بغداد. 62 - سفيان بن سعيد الثوري: تفسير القرآن العظيم، رامبور 1965 م. 63 - ابن سعد (محمد): الطبقات الكبرى، بيروت 1957 م. 64 - السمعاني (عبد الكريم بن سعد): أدب الإملاء والاستملاء، ليدن 1970 م. 65 - سيبويه (عمرو بن عثمان): الكتاب، طبعة عبد السلام هارون.

66 - سيد قطب: في ظلال القرآن، طبعة دار الشروق. 67 - السيوطي (جلال الدين عبد الرحمن): الإتقان في علوم القرآن، القاهرة 1967 م. 68 - السيوطي: الدر المنثور في التفسير المأثور، بيروت. 69 - السيوطي: طبقات الحفاظ، القاهرة 1973 م. 70 - السيوطي: لباب النقول في أسباب النزول، بيروت 1978 م. 71 - السيوطي: معترك الأقران في إعجاز القرآن، القاهرة 1969 م. 72 - أبو شامة (عبد الرحمن بن إسماعيل): المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، بيروت 1975 م. 73 - صبحي الصالح (دكتور): مباحث في علوم القرآن، بيروت 1964 م. 74 - صديق حسن خان: فتح البيان في مقاصد القرآن، القاهرة 1965 م. 75 - صفي الدين البغدادي (عبد المؤمن بن عبد الحق): مراصد الاطلاع، بيروت 1954 م. 76 - صلاح الدين المنجد: دراسات في تاريخ الخط العربي، بيروت 1972 م. 77 - الصولي (محمد بن يحيى): أدب الكتاب، القاهرة 1341 هـ. 78 - ابن الضريس (محمد بن أيوب): فضائل القرآن، مخطوط، الظاهرية 3814 (78 المجاميع). 79 - الطبراني (سليمان بن أحمد): المعجم الكبير، ط 2، الموصل 1984 م. 80 - الطبري (محمد بن جرير): تاريخ الرسل والملوك، دار المعارف بمصر. 81 - الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ط 3، الحلبي، القاهرة 1967. 82 - طنطاوي جوهري: الجواهر في تفسير القرآن، ط 2، الحلبي بمصر 1350 هـ. 83 - ابن عبد البر (يوسف بن عبد الله): الاستيعاب في معرفة الأصحاب، القاهرة 1960 م. 84 - عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المصنّف، بيروت 1390 هـ 1971 م.

85 - عبد الصبور شاهين (دكتور): تاريخ القرآن، القاهرة 1966 م. 86 - عبد الصبور شاهين: القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث، القاهرة 1966 م. 87 - عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، مكتبة الخانجي، القاهرة 1404 هـ 1984 م. 88 - عبد القاهر الجرجاني: الرسالة الشافية (ضمن ثلاث رسائل) القاهرة 1968. 89 - عبد القادر عطا: التفسير الصوفي للقرآن، القاهرة 1389 هـ- 1969 م. 90 - عبد الله خورشيد: القرآن وعلومه في مصر، القاهرة 1970 م. 91 - عبد الله بن عباس (الصحابي): اللغات في القرآن، رواية ابن حسنون المقرئ، ط 2، بيروت 1392 هـ- 1972 م. 92 - عبده الراجحي (دكتور): اللهجات العربية في القراءات القرآنية، دار المعارف بمصر 1969 م. 93 - أبو عبيد (القاسم بن سلام): غريب الحديث، حيدرآباد. 94 - أبو عبيد: فضائل القرآن، مخطوط أوقاف الموصل (35 مريم خاتون). 95 - أبو عبيدة (معمر بن المثنى): مجاز القرآن، القاهرة 1954 م. 96 - عرّاك إسماعيل إبراهيم: القراءات القرآنية حتى عصر ابن مجاهد، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية الدارسات الإسلامية، جامعة بغداد. 97 - العسكري (ابو أحمد الحسن بن عبد الله): تصحيفات المحدثين، دار الكتب العلمية، بيروت. 98 - العسكري: شرح ما يقع فيه التصحيف، القاهرة 1963 م. 99 - العطار (أبو العلاء الحسن بن أحمد): التمهيد في معرفة التجويد، مخطوط في مكتبة جستربتي رقم 3354.

100 - ابن عطية (عبد الحق بن أبي بكر): مقدمة تفسيره (ضمن: مقدمتان في علوم القرآن) القاهرة 1954 م. 101 - علي الطنطاوي: من نفحات الحرم، دمشق 1960 م. 102 - أبو علي النحوي (الحسن بن أحمد): الحجة في علل القراءات، القاهرة 1965 م. 103 - عياض بن موسى (القاضي): الشفا بتعريف حقوق المصطفى، عمان 1407 هـ 1986 م. 104 - العيني (بدر الدين محمود بن محمد): عمدة القاري شرح صحيح البخاري، الطباعة المنيرية. 105 - غانم قدوري حمد (دكتور): الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، بغداد 1986 م، طبع دار عمار/ الأردن 2001 م. 106 - غانم قدوري حمد: رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية، بيروت 1982 م، طبع دار عمار/ الأردن 2001 م. 107 - الغزالي (أبو حامد محمد): إحياء علوم الدين، الحلبي، القاهرة 1939 م. 108 - فاضل صالح السامرائي (دكتور): التعبير القرآني، بغداد 1988 م. 109 - الفراء (يحيى بن زياد): معاني القرآن، القاهرة. 110 - فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي (مترجم) القاهرة 1971 م. 111 - الفيروزآبادي (محمد بن يعقوب): بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، القاهرة 1383 هـ. 112 - الفيروزآبادي: تنوير المقياس (المقباس) من تفسير ابن عباس، القاهرة 1356 هـ. 113 - ابن قتيبة (عبد الله بن مسلم): تأويل مشكل القرآن، القاهرة 1973 م.

114 - ابن قتيبة: المعارف، بيروت 1970 م. 115 - القرطبي (محمد بن أحمد): الجامع لأحكام القرآن، القاهرة 1952 م. 116 - القسطلاني (أحمد بن محمد): لطائف الإشارات لفنون القراءات، القاهرة 1972 م. 117 - القشيري (عبد الكريم بن هوازن): لطائف الإشارات، دار الكتاب العربي. 118 - ابن كثير (إسماعيل بن عمر): تفسير القرآن العظيم، طبعة إحياء الكتب العربية بمصر. 119 - ابن كثير: فضائل القرآن، القاهرة 1347 هـ. 120 - ابن ماجة (محمد بن يزيد): سنن ابن ماجة، القاهرة 1372 هـ 1952 م. 121 - المارغني (إبراهيم بن محمد): دليل الحيران شرح مورد الظمآن، القاهرة 1974 م. 122 - مالك بن أنس: الموطأ، دار الشعب، القاهرة. 123 - مالك بن نبي: الظاهرة القرآنية (مترجم)، دار الفكر. 124 - ابن المبارك (عبد الله): الزهد والرقائق، مؤسسة الرسالة، بيروت. 125 - ابن مجاهد (أحمد بن موسى): كتاب السبعة في القراءات، القاهرة 1972 م. 126 - مجاهد بن جبر: تفسير مجاهد، تحقيق السورتي 1396 هـ 1976 م. 127 - محسن عبد الحميد (دكتور): الآلوسي مفسرا، بغداد 1388 هـ 1968 م. 128 - محسن عبد الحميد: الرازي مفسرا، بغداد 1971 م. 129 - محمد حسين الذهبي (دكتور): التفسير والمفسرون، القاهرة 1396 هـ 1976 م.

130 - محمد حسين هيكل (دكتور): الصديق أبو بكر، القاهرة 1964 م. 131 - محمد حسين هيكل: في منزل الوحي، القاهرة 1967 م. 132 - محمد رشيد رضا: تفسير المنار، بيروت. 133 - محمد أبو زهرة (الشيخ): المعجزة الكبرى، القاهرة 1390 هـ 1970 م. 134 - محمد طاهر الكردي: تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه، جدة 1946. 135 - محمد عبد الله دراز (دكتور): مدخل إلى القرآن الكريم، الكويت 1971. 136 - محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم، الكويت 1970 م. 137 - محمد عوض محمد: فن الترجمة، القاهرة 1969 م. 138 - محمد الفاضل بن عاشور: التفسير ورجاله، تونس 1972 م. 139 - محمد كمال إبراهيم (دكتور): التصوف طريقا وتجربة ومنهجا، الإسكندرية 1970 م. 140 - محمد محمد أبو شهبة: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، القاهرة 1973 م. 141 - محمد المرعشي (ساج قلي زاده): جهد المقل في التجويد، رسالة دكتوراه قدمها سالم قدوري الحمد إلى كلية الآداب بجامعة بغداد. 142 - المراغي (الشيخ أحمد مصطفى): تفسير المراغي، القاهرة 1365 هـ 1946 م. 143 - مصطفى زيد (دكتور): النسخ في القرآن الكريم، القاهرة 1963 م. 144 - مصطفى الصاوي الجويني: مناهج في التفسير، الإسكندرية 1971 م. 145 - مكي بن أبي طالب: الإبانة عن معاني القراءات، القاهرة 1960 م. 146 - مكي: التبصرة في القراءات السبع، طبعة الدار السلفية، بومبي. 147 - مكي: الرعاية لتجويد القراءة، دمشق 1397 هـ 1973 م.

148 - مناع القطان: مباحث في علوم القرآن، الطبعة الثالثة 1973 م. 149 - المنذري (عبد العظيم بن عبد القوي): الترغيب والترهيب في الحديث الشريف، القاهرة 1393 هـ 1973 م. 150 - ابن منظور (محمد بن مكرم): لسان العرب، طبعة بولاق. 151 - النحاس (أحمد بن محمد): القطع والائتناف، بغداد. 152 - النحاس: الناسخ والمنسوخ، القاهرة 1323 هـ. 153 - الندوي (أبو الحسن علي الحسيني): العرب والإسلام. 154 - الندوي: النبي الخاتم، القاهرة 1975 م. 155 - ابن النديم (محمد بن إسحاق): الفهرست، طهران. 156 - النسائي (أحمد بن شعيب): كتاب السنن. 157 - النسفي (عبد الله بن أحمد): مدارك التنزيل وحقائق التأويل. 158 - نصر الهوريني (أبو الوفا): المطالع النصرية، بولاق 1302 هـ. 159 - النووي (يحيى بن شرف الدين): التبيان في آداب حملة القرآن، دمشق. 160 - النووي: صحيح مسلم بشرح النووي، القاهرة. 161 - النووي: المجموع شرح المهذب، جدة. 162 - هبة الله بن سلامة المفسر: الناسخ والمنسوخ، بهامش أسباب النزول للواحدي، طبع هندية بمصر 1315 هـ. 163 - ابن هشام (عبد الملك): السيرة النبوية، القاهرة 1955 م. 164 - الواحدي (علي بن أحمد): أسباب النزول، القاهرة 1389 هـ 1969 م. 165 - الواقدي (محمد بن عمر): كتاب المغازي، القاهرة 1966 م. 166 - ياقوت الحموي: معجم الأدباء، القاهرة. 167 - ياقوت: معجم البلدان، بيروت 1388 هـ 1968 م.

§1/1