محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث

أبو القاسم سعد الله

الدكتور أبو القاسم سعد الله محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث (بداية الاحتلال) الشركة الوطنية للنشر والتوزيع

الدكتور أبو القاسم سعد الله محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث بداية الاحتلال الطبعة الثالثة الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر

رقم النشر 1138/ 82 الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر: 1982

مقدمة الطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية أخذ العرب عبارة (التاريخ الحديث) من الأوربيين الذين يعنون به الفترة الممتدة من القرن 16 إلى اليوم. وللتاريخ الحديث عند الأوربيين ميزات تميزه عن غيره من الفترات التاريخية، ومن هذه الميزات ظهور الكيانات السياسية الموجودة اليوم، ونمو المدن، ومن ثمة الطبقة الوسطى ووفرة رأس المال، والتقدم العلمي والنظريات في مختلف مجالات الفكر. فهل هذه الميزات تنطبق على التاريخ العربي - الإسلامي بالمفهوم السابق. لقد اعتاد العرب، تقليدا لا واقعا، أن يبدأوا تاريخهم الحديث أيضا بالقرن 16 أي باستيلاء العثمانيين على مقاليد السلطة في البلاد العربية، ولكن العثمانيين في الحقيقة لم يأتوا بجديد لا في الكيانات السياسية، ولا في النظم الاجتماعية ولا في التقدم العلمي. فلماذا إذن نطلق على عهدهم عهد التاريخ الحديث؟ ولماذا نظل على هذا التقليد للأوربيين في فرع من فروع المعرفة ذات التأثير القوى على حياتنا من جميع جوانبها، كالتاريخ؟ والأمر كذلك بالنسبة للجزائر، فمؤرخوها يطلقون بالتبعية على العهد العثماني فيها (العصر الحديث،) بينما نعرف من كل الدراسات حول الموضوع أن (الوجق) في الجزائر لم يحاول أبدا أن يعيش (العصر الحديث) الذي كانت تحياه أوربا. بالعكس لقد أغلق جميع النوافد، وقبع في حدوده القديمة، مما جعل البلاد تعاني من حكم الإقطاع وظلم الحكام والجهل والتخلف العلمي، فكانت النتيجة أن احتل جيش فرنسا الجزائر، ولم يكد الوجق يدافع حتى عن حريمه، وإذا نحن توسعنا في الاستعمال وتجوزنا في الحكم نقول بأن ما وقع سنة 1830 في الجزائر ليس احتلال فرنسا للجزائر هكذا

بل هو احتلال (العصر الحديث) (للعصر الوسيط) أو احتلال التقدم للتخلف. ورغم أن الجزائر قد عانت الكثير من هذا الاحتلال الذي كاد أن يفقدها شخصيتها، ويأتي على حضارتها فإنها قد تعلمت منه الكثير أيضا. فالصراع الطويل بين الوطنية والاستعمار قد أدى في النهاية إلى ظهور نماذج (العصر الحديث) بالمعنى الأوربي. فالمقاومة كانت تدعو إلى قيام الكيان السياسي، والعلاقة بين المستعمر والمستعمر أدت إلى تحول اجتماعي واقتصادي عميق، كما أدت إلى ظهور الوعي الفكري والإيمان بالتقدم العلمي ومجاراة العالم في التقنيات، ولذلك فإنه يجوز في نظرنا، مع التسامح والتجوز طبعا، أن نطلق على سنة 1830 بداية العصر الحديث بالنسبة للجزائر على الأقل، ويمكن أن يقاس على ذلك في جميع أنحاء الوطن العربي، فالتاريخ إذن يجب أن يخضع لعملية التحول الداخلي في المجتمع الذي نؤرخ له إذ لا يمكن تطبيق ظاهرة خارجية عنه عليه، تقليدا وعرفا، لا حقيقة وواقعا. والكتاب الذي بين يدي القارىء كان قد نشر سنة 1970 بعنوان (تاريخ الجزائر الحديث - بداية الاحتلال) وقد رأيت أن هذا العنوان أكبر من حجمه، كما أنه لا يدرس جميع مدلول العنوان لذلك رأيت أن أعيد نشره بعنوان (محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث - بداية الاحتلال) مستهدفا، كما لاحظته في مقدمة الطبعة الأولى، دراسة الفترة الانتقالية من العهد العثماني إلى العهد الفرنسي. والحقيقة أن محتوى الكتاب لا يجيب على كل الأسئلة المتعلقة بجوانب هذه الفترة. وقد فكرت في توسيعه وتمديد زمانه إلى حوالي 1848، ولكن خطتي في تناول الحركة الوطنية الجزائرية جعلتني أتوقف عند ما كنت قد كتبته فيه. ذلك أن هذه الخطة تقتضي أن يكون الجزء الأول من الحركة الوطنية الجزائرية من بداية الاحتلال إلى سنة 1900، وقد اقترح علي بعضهم أن أجعل هذا الكتاب هو الجزء الأول من سلسلة

الحركة الوطنية فأبيت، لأن الكتاب على ما هو عليه لا يلبي رغبتي في هذا الموضوع كما أنه لا يشمل كل الفترة المخصصة للجزء المذكور. لذلك فضلت إعادة نشره كما هو ليستفيد منه الظامئون إلى معرفة تاريخ الجزائر، ولكني أعدت فيه النظر وأدخلت عليه تنقيحات كثيرة وأضفت إلى هوامش مصادر جديدة ظهرت منذ الطبعة الأولى أو فاتني التنبيه عليها عندئد، ولا يسعني إلا أن أتمنى أن يستفيد القراء من الطبعة الجديدة للكتاب كما استفاد منه قراء طبعته الأولى. أبو القاسم سعد الله معهد العلوم الاجتماعية - جامعة الجزائر القاهرة 3 من أبريل 1976

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى الفترة الانتقالية من العهد العثماني إلى العهد الفرنسي في الجزائر لم تعط حقها من العناية رغم أهميتها في تطور حياة المواطن الجزائري. وقد بذل الكتاب الفرنسيون جهدا خاصا في دراسة عهد الاحتلال الفرنسي. ولكنهم اكتفوا بوصف العهد العثماني بالتأخر والاستبداد والغربة، وبوصف المواطن الجزائري أثناءه بالخضوع والقدرية والضياع. وقد تعرضت في كتابي (الحركة الوطنية الجزائرية) إلى بعض مظاهر هذه الفترة الانتقالية ولكنه تعرض مقتضب. ثم حملني تدريس نفس الفترة لطلابي في جامعة الجزائر على زيادة البحث. ولكن المشكلة الرئيسية كانت هي المراجع بالعربية أو التي تمثل وجهة النظر الجزائرية. وقد حمل الفرنسيون معهم أهم الوثائق عندما تأكدوا من استقلال الجزائر وأصبح من العسير الاستفادة منها الآن. ومع ذلك حاولت الاتصال بمكتبات الجزائر وزرت بعض مدنها بحثا عن الوثائق. كما قمت برحلات إلى مصر وسررية وفرنسا لنفس الغرض. وقد حصلت من ذلك على فوائد جمة ولكنها غير كافية. ولذلك يجب القول بأن هذه المحاضرات التي هي بعض نتائج تلك الجهود، لا تدعي بأنها قد درست الفترة المذكورة دراسة وافية. فهي في الواقع ليست إلا بعض الخطوط العامة لدراسة شاملة نرجو أن يسعدنا الحظ بانجازها، ولذلك أيضا يجب الاعتراف بوجود عدة جوانب نقص في هذا البحث سواء في المادة أو في تطور الفكرة. ولزيادة الاطلاع وضعت قائمة ببعض المراجع العربية والأجنبية في نهاية الكتاب.

وإني أغتنم هذه الفرصة لأوجه شكري إلى إدارة معهد البحوث والدراسات العربية على الدعوة التي وجهتها إلي لإلقاء هذه المحاضرات على طلاب قسم الدراسات التاريخية والجغرافية بالمعهد. خاصا بالذكر مدير المعهد الأستاذ محمد خلف الله وأمين المعهد الأستاذ محمد رفقي خاطر. ولا شك أن في تشجيع البحث العلمي وتبادل الآراء بين الباحثين العرب تدعيما لوحدة الأمة العربية وخدمة للإنسان أينما كان. أبو القاسم سعد الله القاهرة في 24 من مارس 1970

المحتوى مقدمة. الفصل الأول - الحملة الفرنسية على الجزائر. الفصل الثاني - استعدادات الجزائر لمواجهة الحملة. الفصل الثالث - من الإدارة العثمانية إلى الإدارة الفرنسية. الفصل الرابع - دور حضر مدينة الجزائر. الفصل الخامس - مرابطون وثوار. الفصل السادس - اللجة الافريقية. الفصل السابع - الجزائريون أمام اللجنة الأفريقية. الفصل الثامن - الحاج أحمد، باي قسنطينة. الفصل التاسع - الحالة الاقتصادية. الفصل العاشر - الحياة الثقافية. - بعض المراجع. - الفهرس. -فهرس الأعلام والأماكن.

الفصل الأول الحملة الفرنسية على الجزائر

الفصل الأول الحملة الفرنسية على الجزائر عند مقارنة العلاقات بين الجزائر والدول الأجنية تجد أن علاقات فرنسا بالجزائر كانت على العموم طيبة، فمنذ القرن السادس عشر كانت فرنسا تتمتع في الجزائر بامتيازات تجارية خاصة، فكان لها مؤسسات تجارية في عنابة، والقالة، ورأس بونة، والقل. وكانت هذه المؤسسات تدفع ضرائب سنوية متفقا عليها إلى الباشا من جهة وإلى باي قسنطينة (الذي تقع هذه الؤسسات في إقليمه) من جهة أخرى. وكانت فرنسا، في مقابل ذلك، تتمتع بحق صيد المرجاز وتصدير الحبوب إلى أوربا (¬1). وقد تطورت هذه العلاقات فكانت أفضل ما تكون في عهد الثورة الفرنسية. فقد اعترفت الجزائر بالجمهورية الفرنسية الجديدة في وقت كانت فيه تحت حصار أوربي محكم. وتكونت بين الدولتين علاقات ودية باستثناء فترة الحملة الفرنسية على مصر (1798 - 1802) حين طلب ¬_____ (¬1) انظر الفريدد نيتمون A. Nettement (تاريخ احتلال الجزائر) Histoire de la conquete d'Alger (باريس، 1856)، ص 96 - 102. والمصادر التي تعطي وجهة النظر الجزائرية عن موضوع الحملة لا تكاد توجد، حتى حمدان خوجة (المرآة، باريس، 1833) لا يخصص لأسباب الحملة سوى فصل من حوالي عشر صفحات. لذلك يجب التنبيه إلى أن هذا البحث يعتمد في الغالب على وجهة النظر الفرنسية.

السلطان من الجزائر إعلان الحرب على فرنسا. وفي 1796 أقرضت الجزائر حكومة الثورة في فرنسا مليونا من الفرنكات بدون فائدة، على أن تستعمل فرنسا هذا المبلغ في شراء الحبوب من الجزائر. وفي سنة 1794 أذنت الجزائر للحكومة الفرنسية أن تتمول في موانىء الجزائر عندما كانت الأسواق الأوربية مغلقة في وجه التجارة الفرنسية. وفي أول الأمر كان شراء المواد الغذائية من الموانىء الجزائرية يتم بطريقة مباشرة، فتدفع الشركة الفرنسية المعنية (الشركة الملكية ثم خليفتها الوكالة الوطنية الفرنسية) الثمن إلى الحكومة الجزائرية. ثم غيرت فرنسا طريقة الدفع، أثناء حكومة المؤتمر، فلجأت إلى التاجرين اليهوديين الجزائريين: بكرى وبوشناق ليقوما بالدفع بدلها، إلى الحكومة الجزائرية. وقصة تدخل هذين اليهوديين في العلاقات بين الجزائر وفرنسا تشكل جزءا أساسيا في تطور العلاقات بين البلدين التي بدأت بالحصار ثم الحملة وانتهت باحتلال الجزائر (¬1). ولذلك فليس هناك بد من ذكر بعض خيوط هذه القصة لفهم أسباب الحملة ونتائجها. إن الاسم الكامل لبكري هو: ميشيل كوهين بكرى المعروف باسمه المستعرب ابن زاهوت. وكان صاحب تجارة في أوربا قبل أن يفتح سنة 1770 مركزا له في مدينة الجزائر. وكان هذا المركز متواضعا في البداية، ولكنه ازدهر حين انضم إلى صاحبه أخوته الثلاثة، وابنه داود، وصهره نافتالى بوشناق. المعروف باسمه المستعرب بوجناح. ويوجنان، كابن زاهوت، كان أيضا من أسرة لها تجارة في الخازج، وجاءت إلى مدينة الجزائر حوالي 1723، وبدأت أيضا بداية متواضعة. أما ثروة بوجناح الطائلة التي أصبح يتمتع بها بعدئذ فهو مدين فيها إلى التعفن والفساد الذي كان شائعا أيام الحكم العثماني في ¬

_ (¬1) أنظر أيضا دراستي عن (الجزائر والحملة الفرنسية) في مجلة (الجيش)، عددي أكتوبر ونوفمبر، 1970، وهي دراسة مترجمة عن الإنكليزية.

الجزائر. وهناك قصة على ذلك ترويها كتب المؤرخين لا تخلو من طرافة ومن عبرة أيضا. فقد قيل إن مصطفى الوزناجي بن سليمان، باي التيطري بين 1775 - 1794 كان يخشى غضب الباشا عليه أثناء إحدى رحلاته العادية (كل ثلاث سنوات) إلى مدينة الجزائر. لذلك اعتزل الناس ولم يكن يجرؤ على رؤية أحد. ولم يسعفه حينئذ سوى بوجناح الذي أعطاه ما يحتاجه من مال وتشجيع وصادف أن عين الوزناجي بعد ذلك بايا على قسنطينة فاعترف بالجميل لبوجناح، ومنذئذ أصبح (بوجناح) رجل أعماله ومحل ثقته، وبالتالي أصبح نفوذه لدى الباي قويا. أما كيف ازدرت تجارة ابن زاهوت وبوجناح. فلذلك قصة أيضا, فقد أراد الباي نفسه أن يتقدم بهدية ثمينة إلى امرأة الباشا فطلب من بوجناح أن يأتيه بحلية كريمة تعرف محليا بالصريمة، فجاءه بها بملبغ 300،000 فرنك، فاشتراها منه الباى. ومادام الباي لا يملك أن يدفع نقدا فقد دفع إليه الثمن قمحا على حساب أربع فرنكات للكيلة الواحدة. وهكذا حصل بوجناح على 75،000 كيلة من القمح، وعندما باع القمح في فرنسا (وقد كان محتكرا لتجارة الحبوب) ربح منه.،450،000 فرنك، بينما لم تكلفه الصريمة، المشتراة من باريس، سوى.0،000 فرنك (¬1). وتحت حماية بعض الباشوات، مثل حسن ومصطفى. أصبح اليهوديان ابن زاهوت وبوجناح، صاحبي نفوذ قوى وتأثير عميق في كل المجالات الحيوية في الدولة الجزائرية، كانا على علم بأحوال البلاد الداخلية. وكانا يتجسسان على أحوال المواطنين الجزائريين لصالح الحكام، وإذا كان ¬

_ (¬1) يروي القصة حمدان خوجة في كتابه (المرآة) (باريس، 1833)، ص 142 ويثبتها غبريال اسكير (احتلال الجزائر la prise d'Alger) (باريس، 1929) ط. جديدة. وقد ظل الوزناجي بايا على قسنطينة إلى سنة 1797، ومات مقتولا.

ابن زاهوت قد قصر نشاطه على الميدان التجاري، فإن بوجناح قد تسرب إلى شئون الدولة، فكان هذا يرفع أو يخفض الموظفين والبايات، وحتى الباشوات، مما جعل بعض الناس يطلقون عليه اسم (ملك الجزائر) (¬1) وبلغ تأثر بوجناح أنه كان يستقبل هو وأهل طائفته باسم الباشا، القناصل الأجانب كما فعل مع قنصل الدانمارك والسويد وهولاندا (1801)، وقام هو وأهل طائفته أيضا بالمفاوضات بين الجزائر والبرتغال. وفي سنة 1804 استقبل مبعوث السلطان إلى الجزائر، ولم يكن تأثير هذين اليهوديين مقصرا على الجزائر، بل كان في كل البحر الأبيض المتوسط فكانت لهما مراكز تجارية في مرسيليا، وجنوا، ونابولي , وأزمير، والإسكندرية، وتونس، وليفورنيا، وقرطاجنة (أسبانيا)، ومنطقة الراين، وبلجيكا. وكانا صاحبي نفوذ سواء لدى الدول الكيبرة أو الصغيرة نظرا للقروض التي يتقدمان بها أو الوساطات التي يقومان بها. وبينما كانت فرنسا مدينة لليهوديين الجزائريين، كانا هما مدينين للدولة الجزائرية , وفي سنة 1790 قدر دين فرنسا بمليونين من الفرنكات، أما دين اليهوديين للجزائر فقد قدر ب 300،000 فرنك وقد عين هؤلاء التجار اليهود يعقوب بكرى ممثلا لهم في مرسيليا ثم في باريس. ويذكر الفرنسيون أن الرأى العام الفرنسي قد ثار ضد تأثير اليهود الجزائريين في فرنسا ولكن تدخل الوزير الفرنسي تاليراند Talleyrand الذي كسبه اليهود. قد جعل الحكومة الفرنسية تتراجم في الإجراءات التي كانت تعتزم اتخاذها ضدهم (¬2) ومن جهة أخرى جر اليهود الحكومة الجزائرية إلى قضية قرضهم لفرنسا ¬

_ (¬1) اسكير، ص 20، بخصوص قضية بكري وبوشناق (راجع أيضا نيتمون)، ملحق 3، ص 632 - 635. (¬2) نفس المصدر ص 23.

فكتب الباشا مصطفى إلى تالليراند يطلب منه أن تدفع فرنسا الدين الذي عليها إلى رعاياه اليهود. وهكذا أصبح القرض قضية تطرح على مستوى الحكومتين. وبعد فترة من الوقت أصبح سيمون أبوقية هو ممثل تجارة يهود الجزائر في باريس. وعندما تقدم أبوقبة بمذكرة إلى فرنسا عن القرض بلغ الدين الذي على فرنسا 3،377،445 فرنك. وفي سنة 1802 بلغ 8،151،000 زنك، وكان الباشا خلال ذلك كله لا يفتأ يطالب الحكومة الفرنسية بالدين الذي عليها إلى رعاياه اليهود، ولكن بدون جدوى. ومما يذكر أن الحكومة الفرنسية قد سجنت ممثلي يهود الجزائر في بلادها إثر إعلان الحرب بين الدولتين (1798) على أساس أنهم رعايا جزائريون، ثم أطلقت سراحهم بعد انتهاء الحرب (1801). وليس معنى ما ذكرناه أن اليهود عامة، وعائلتي ابن زاهوى وبوجناح خاصة، لم يتعرفوا إلى أي اضطهاد (¬1)، فقد كان العثمانيون في الجزائر يتسامحون معهم إلى حد ويعطونهم بعض الوظائف الفنية كالعمل في دار سك النقود. وقد يوجد باشا أو باي يحميهم لهدف معين، كما كان الباشا مصطفى، ولكن ذلك كان عادة مؤقتا، وقد أدى تدخل اليهود الظاهر في شئون الدولة السياسية إلى انخفاض أسهم في النهاية. ففي صيف 1805 مات بوجناح ملك الجزائر بضربة من جندي انكشاري. وتلا ذلك ردود فعل ضد اليهود. وفي نفس السنة اغتيل الباشا مصطفى الذي كان يتدخل لصالحهم. وعندما تولى الباشا أحمد، صادر أملاك بوجناح واضطهد أفرادا بارزين من أسرة بكرى (ابن زاهوت). وقد لعب داود دوران، منافس ابن زاهوت وبوجناح في التجارة وفي رئاسة الطائفة اليهودية في الجزائر، دورا هاما في المصير الذي لحق ¬_____ (¬1) انظر نيتمون، ص 138 راجع أيضا اسكير، الفصل الخاص بقضية بكري وبوشناق.

بصاحبيه، غير أن أيام ازدهار دوران لم تكن طويلة، فقد استعاد يوسف بكرى سمعة العائلةكما حل ابنه داود محل دوران في رئاسة الطائفة اليهودية. مع ذلك فقد ظل دوران يكيد لهما إلى أن نجح في تجريدهم من جميع سلطاتهم. ففي 1811 قطعت رأس داود بكرى الذي اتهم بالوشاية بالباشا لدى السلطان وحل دوران محله. ولكن هذا لم يدم سوى ثمانية شهور في سلطته الجديدة لأن يوسف بكرى، الذي كان عجوزا، قد ثأر منه لابنه داود. غير أن سلطة يوسف لم تدم طويلا أيضا لأن عمر آغا قد أمر بنفيه سنة 1816 فذهب يوسف إلى ليفورنيا. وقد حل محله بالجزائر يعقوب بكري الذي كان ممثلا لتجارة هؤلاء اليهود الجزائريين في باريس والذي لم يكن محل ثقة من العائلة. ومما يذكر أنه كان قد حصل على الجنسية الفرنسية. وفي الجزائر أصبح يعقوب زعيما للطائفة اليهودية ومسئولا عن التجارة التي تديرها أسرة بكري. في سنة 1819 عينت الحكومة الفرنسية لجنة رباعية لدراسة الدين الذي على فرنسا لرعايا الجزائر اليهود. وقد قدرته اللجنة 42 مليون فرنك. ولكن هذا المبلغ انخفض شيئا فشيئا إلى أن صار 7 ملايين فقط، نتيجة مطالبة أطراف أخرى بديونها التي على أسرة بكري - بوشناق. ولكن المذكرة التي أصدرتها الحكومة الفرنسية في 28 أكتوبر 1819 قد أكدت أن ملك فرنسا عازم على إرضاء طلب باشا الجزائر للمحافظة على العلاقات الودية بين الجزائر وفرنسا، ويذكر مؤرخ فرنسي أن المذكرة قد نصت أيضا على أن فرنسا لن تسدد الدين إلا يعد إعلان الباشا التخلي عن مطالبته بتسديد الدين له شخصيا بدل بكري (¬1)،. ويقال أن الباشا قد أعلن رسميا، في 12 أفريل، 1820 أنه راض إذا سددت الحكومة الفرنسية الدين الذي عليها إلى يعقوب بكري مباشرة. ومن المفهوم أنه متى استعاد يعقوب قرضه فانه ¬_____ (¬1) نفس المصدر ص 45.

سيدفع ما عليه للباشا (¬1). وفي 24 جويليه، 1820 صدر قانون عن البرلمان الفرنسي بتخصيص 7 ملايين فرنك لتسديد الدين إلى يعقوب بكري. وعندئذ واجهت الحكومة الفرنسية، على ما قيل، مطالب كثيرة يدعي أصحابها بأن يعقوب بكري مدين لهم. وأمام ذلك أحالت الحكومة الفرنسية القضية إلى المحاكم، ولكن معنى ذلك كله هو أن الباشا لن يحصل من يعقوب بكري على الديون المتراكمة عليه. تعود مشاريع الحملة الفرنسية على الجزائر إلى عهد نابوليو (¬2). فبعد عودة السلام بين الجزائر وفرنسا (1801) رجعت فرنسا إلى امتيازاتها في الجزائر. غير أن قنصل نابوليون في الجزائر، وهو ديبوا - ثانفيل لم يحمل إلى الباشا مصطفى الهدية التي اعتاد القناصل تقديمها له. وحين طلبها الباشا رسميا على أساس أنها شيء واجب، رد عليه نابليون برسالة ساخطة هدد فيها بتحطيم الأسطول الجزائري، وأنذر بأن فرنسا على عهده ليست هي فرنسا على عهد البوربون. وما لبثت العلاقات أن توترت بين البلدين من جديد فقد احتجزت الجزائر سفينتين فرنسيتين وضربت أخرى في ميناء تونس من أحد الجزائريين. فكتب نابليون إلى الباشا مصطفى أيضا يطالبه بدفع تعويض عن الخسائر ومعاقبة الوزراء المسئولين عن هذه الحوادث. كان نابوليون يحلم بجعل البحر الأبيض المتوسط بحيرة فرنسية. لذلك كان يخطط لحملة كبيرة ضد دول المغرب العربي الأربع وإقامة مستعمرات عسكرية فرنسية هناك وإضافة المنطقة إلى أجزاء امراطوريته في البحر ¬_____ (¬1) نفس المصدر ص 46 انظر أيضا الشيخ محمد بيرم (صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار) ج 4، ص 8 - 9، ط القاهرة، 1303. (¬2) هناك مشاريع فرنسية أخرى لغزو الجزائر وهناك حملات وقعت فعلا قبل عهد نابليون ولكن ذلك لا يعنينا هنا، انظر ليتمون، ص 105 - 115.

المذكور. ولتحقيق ذلك طلب من الفرنسيين الذين كانوا أسرى في الجزائر أو الذين عاشوا فيها، معلومات عنها وعن سكانها وتحصيناتها. فأوصى قنصل فرنسى سابق في الجزائر، وهو السيد جون بون سان - اندري، بضرب الجزائر ضربة قوية وسريعة وإنهاء الحرب في ثمانية أيام. واقترح فرنسي آخر بنزول حملة فرنسية قرب تنس والهجوم على مدينة الجزائر برا. ولكن نابوليون تخلى عن مشروع الحملة لانشغاله بمناطق أخرى. غير أنه أرسل إلى الجزائر قطعة من أسطوله بقيادة الأميرال ليسيغ leissegues حاملا رسالة إلى الباشا (سنة 1802) يطالبه فيها بدفع التعويضات المذكورة، ويعلمه برفضه تسديد المبلغ الذي يطالب به وهو 200،000 فرنك. ومن بين الذين كانوا في هذه المهمة القبطان بيرج Berge الذي جمع عندئذ معلومات هامة عن الجزائر، وهو الذي سيكون من أعضاء الحملة البارزين سنة 1830. وخلال سنة 1805 جاء جيروم نابوليون إلى الجزائر على رأس قطعة بحرية أيضا للمطالبة بإطلاق سراح 231 من الأسرى الطليان. ولكن الباشا أحمد، الذي خلف مصطفى، لم يطلق سراحهم إلا بعد أن دفع جيروم مبلغ 80،000 فرنك. ومن جهة أخرى أدت هزيمة الأسطول الفرنسي في (ترافلغار) إلى أن سحبت الجزائر الامتيازات التي كانت لفرنسا وأعطتها إلى بريطانيا. وكان ذلك سنة 1807. ولكن نابوليون قد وقع السلام مع روسيا في نفس السنة (معاهدة تلست)، وعاد إلى مشروع الحملة ضد الجزائر، فأمر قنصله في الجزائر بمغادرة المدينة وإعلام الباشا بأنه سيواجه الحرب إذا لم يطلق سراح الأسرى الجنويين والكورسيكيين والطليان، ومن جهة أخرى أمر وزيره للبجرية بالتفكير جيدا في القيام بحملة ضد الجزائر سواء كانت برية أو بحرية، كما أمره بجمع المعلومات الضرورية عن وسائل التموين وطبيعة الأرض، ومكان وزمان الحملة، واقترح التمويه على العدو لكي يظن أن الحملة موجهة إلى صقلية. وطلب أن لا يزيد عدد الجيش

عن 20،000 رجل. وأمر أن تأتيه المعلومات في ظرف شهر. وطلب من الوزير إرسال أحد جنوده الذين يمتازون بالروح العسكرية وبالمهارة الهندسية سريا إلى الجزائر ليتجسس ويعود بتقرير مفصل وخطة واضحة، فوقع الاختيار على ضابط يسمى بوتان Y. Boutin. وصل بوتان إلى مدينة الجزائر في 24 ماي 1808 على ظهر سفينة تسمى لوركان le Requin وقد ظل هناك متجسسا على الحصون دارسا خطة للنزول بدقة متنقلا من برج البحرى (كاب ماتيفو) شرقا إلى سيدي فرج غربا وبعد أن كتب ملاحظاته ورسم خطته قفل راجعا في 17 جويليه من نفس العام. غير أن الانكليز ألقوا عليه القبض في عرض البحر وقادوه إلى مالطة. وأثناء ذلك أعدم الخطة ولكنه أبقى على ملاحظاته التي منها سيكتب تقريره ويرسم لخطه من جديد (¬1). ومن مالطة فر متكرا وعاد إلى فرنسا في أكتوبر عن طريق أزمير واسطانبول. وقد ضمن تقريره معلومات دقيقة عن تحصينات الجزائر وطبيعة أرضها، وعدد قواتها، وزمن الحملة المقترحة والمدة التي تستغرقها، وعدد الجيش الضروري. واقترح بوتان عدد الرجال من 35 إلى 40 ألف محارب معظمهم من المشاة، مع بعض المدافع، وقد أظهر الأخطار التي تتعرض لها الحملة من البحر ونصح بدلا من ذلك أن تكون الحملة برية، وبالاستيلاء على قلعة مولاى حسن (الامبراطور) لأنها تشرف على المدينة. واقترح أن يكون مكان نزول الحملة هو سيدي فرج لخلوه من المدافع والجنود. ومن رأيه أن أفضل وقت للحملة هو من مايو إلى جوان وأن مدة الحملة لا تتجاوز شهرا. ولكن انشغال نابوليون بالحرب في أسبانيا وبحملة روسيا وضعف الأسطول الفرنسي ثم سقوطه -كل ذلك قد جعل مشروع غزو الجزائر يبقى على الرف مؤقتا. ¬_____ (¬1) أنظر مشروع بوتان في ليتمون، ملحق، ص: 64 - 67.

وبعد مؤتمر فيينا عينت فرنسا قنصلا جديدا لها في الجزائر وهو بيير دوفال Duval ، في 28 أوت 1815. وقد حمل إلى الباشا هدايا تقدر ب 112،924 فرنك تضم مجوهرات وساعات وأقمشة وأسلحه. وفي مقابل ذلك أعاد الباشا إلى فرنسا الامتيازات التي فقدتها، وكان ذلك في 17 مارس 1817 إثر حملة اللورد اكسموث الانكليزي على الجزائر (1816). وتساهلت الجزائر فخفضت مقدار الضريبة السنوية المقررة على فرنسا من 300،000 الى 118،000 فرنك. كان دوفال المذكور إبنا لمترجم فرنسي كان يعمل في السفارة الفرنسية في اسطانبول وقد تولى جميع مهامة القنصلية في القنصليات الفرنسية بآسيا الصغرى. وكان يتكلم العربية والتركية (¬1). ورغم أنه كان فد واجه بعض الصعوبات منذ البداية في مهمته فانه كان يمتاز باتباع سياسة التعفن الاجتماعي والتوريط وخلف الوعد، وهي ما يعبر عنها الغربيون بالروح الشرقية. وكان دوفال يعتبر هذه الوسيلة هي طريق النفاذ إلى الباشا وبالتالي التأثير عليه وكسبه. ومما يذكر أنه سلم، دون بقية القناصل الأجانب، الجزائريين الذين كانوا في خدمته إلى السلطات المحلية أثناء ثورة 1823. أما الباشا حسين فقد تولى الحكم سنة 1818 خلفا للباشا علي خوجة. وقد اشتهر بالغيرة على الدين، وباليقظة الدائمة، والميل إلى الأهالي. وكان دون الخمسين من عمره حين تولى الحكم. وقد ورث قضية الدين الذي على فرنسا لرعاياه اليهود. كما واجه عدة ضغوط من فرنسا وبريطانيا بعد مؤتمر فيينا، لإلغاء الرق وإبطال دفع الضريبة السنوية على الدول الأوروبية. والواقع أن هناك أقوالا متضاربة حول شخصيته ومزاجه وقدرته. فبعضهم ¬_____ (¬1) قال عنه خوجة في (المرآة) ص 166 أنه لم يكن يتكلم التركية جيدا، وأن قدرة دوفال على التركية تشبه قدرة خوجة على الفرنسية.

يتهمه بالقسوة والتهور والتهاون وبعضم يصفه بالخيرية والأمانة والشهامة (¬1). طلب الباشا الجديد من فرنسا أن تدفع إليه شخصيا الدين الذي عليها ليعقوب بكري ووعد بأنه سيتولى هو وليس المحاكم الفرنسية، تسديد الديون التي على بكري للدائنين. وقد ذكرنا أن المبلغ، بعد أن انخفض عدة مرات، قد استقر على سبعة ملايين فرنك. وكتب الباشا بذلك إلى الحكومة الفرنسية ولكن الرد لم يصله بدعوى أن وزير الخارجية عندئذ، وهو البارون دي دماس Damas، لم يفهم طلب الباشا ما دام سلفه قد وافق على أن تدفع فرنسا مباشرة إلى بكري. وقد اتهم الباشا القنصل دوفال بإخفاء رد فرنسا عنه. وزاد وسوء التفاهم بينهما أن يعقوب بكري قال بأنه قد دفع بعض النقود إلى القنصل الفرنسي (¬2). فزاد ذلك من عدم ثقة الباشا في القنصل. ولذلك طلب الباشا من فرنسا استدعاء قنصلها ودفع الدين الذي لبكري له شخصيا. ولكن فرنسا بدلا من أن تسمي قنصلا جديدا، وهو إجراء متبع، وتكتب إلى الباشا بخصوص الدين، أرسلت سفينة حربية إلى الجزائر بقيادة الضابط فلورى طالبة من الباشا دفغ تعويضات معينة ومدعية عليه ادعاءات مختلفة (¬3) وعندما تكرر طلب الباشا بتعيين قنصل فرنسي جديد ودفع الدين كررت فرنسا إرسال السفن الحربية، هذه المرة أربع، بقرار من مجلس الوزراء، وذلك في أبريل 1827. ¬_____ (¬1) أنظر خوجة (المرآة) ص 160 - 161، راجع أيضا ليتمون، ص 137 - 128. (¬2) كان الباشا قد سجن (1826) يعقوب بكري لعدم وفائه برد دين إلى القنصل الانكليزي. وقد أجبره أيضا على التخلي له (أي الباشا) عن كل الديون التي يدعيها على أسبانيا وفرنسا وسردينيا. (¬3) اسكير ص 58.

وبمناسبة عيد الأضحى الذي صادف 29 أبريل 1827 وقعت ضربة المروحة المشهورة. فقد حضر كالعادة القناصل الأجانب، ومن بينهم دوفال، لتهنئة الباشا. ودار الحديث بين الباشا والقنصل الفرنسي حول رد فرنسا على طلبه. فكان رد القنصل غامضا ولعله كان مهيأ للباشا. وقد تطور الحديث فاتهم الباشا القنصل بأنه كان السبب في عدم وصول الرد إليه مباشرة. وأمره بالخروج، وعندما لم يتحرك ضربه بالمروحة التي كانت بيده. وقد ادعى دوفال في تقريره إلى حكومته بأنه ضرب ثلاث مرات. أما الباشا فقد قال بأنه ضربه لأنه أهانه. وتذهب رواية أخرى إلى أن الضرب لم يقع أصلا ولكن وقع التهديد بالضرب (¬1). كان رد فرنسا على ذلك إرسال قطعة من أسطولها أمام الجزائر بقيادة القبطان كولى Collet . وقد وصلت القطعة يوم 12 جوان 1827 وصعد القنصل دوفال سفينة القبطان المسماة (لابروفانس). جاء كولى يطلب من الباشا أن يأتي شخصيا إلى السفينة ويعتذر للقنصل. ولما كان معروفا مسبقا أن الباشا لن يرضى بذلك فقد اشتملت تعليمات كولى على اقتراحات أخرى، وهي: 1 - أن يستقل الباشا القبطان ورئيس أركانه والقنصل بمحضر الديوان والقناصل الأجانب ويعتذر أمامهم إلى دوفال. 2 - أن يرسل بعثة برئاسة وكيل الحرج (وزير البحرية) إلى قطعة الأسطول الفرنسي ليعتذر باسم الباشا إلى القنصل. وفي جميع الحالات يرفع العلم الفرنسي على جميع القلاع الجزائرية، بما في ذلك القصبة وتطلق ¬_____ (¬1) يقر خوجة (ص 167) بوقوع ضربة المروحة، ولكنه يلقي المسئولية على جهل دوفال باللغة التركية. ويذكر ليتمون أن الحادث وقع يوم 30 أبريل 1827. أنظر ص 142.

مائة طلقة مدفع تحية له. وكانت تعليمات كولى تقتضي أنه في صورة قبول الباشا أحد الحلول الثلاثة يتقدم إليه بعد ذلك بعدة مطالب فرنسية تتضمن دفع التعويضات، ومعاقبة الجزائريين المسئولين عن الإضرار بالمنشآت الفرنسية، وحق تسليح هذه المنشآت في المستقبل، وإعلان الجزائر أنه لا حق لها في دين بكري، كما تقتضي التعليمات أنه في حالة عدم استجابة الباشا لواحد من الاقتراحات المذكورة يعلن الحصار رسميا على الجزائر. بناء على التعليمات أرسل كولى بالاقتراح الثالث، في 15 يونية، إلى الباشا وأعطاه أربعا وعشرين ساعة للرد. كان حامل هذا الإنذار قنصل سردينيا في الجزائر الكونت D'Attili الذي أصبح يرعى المصالح الفرنسية بعد انسحاب دوفال (¬1). كان رد الباشا على داتيلي أنه لا يفهم أنه بدلا من أن تعين فرنسا قنصلا جديدا وتكتب إليه مباشرة لجأت إلى إرسال إنذار مضحك مع ضابط بحرية. وعندما انقضى أجل الإنذار بدون رد أعلن كولى الحصار في 16 يونية 1827. أما الباشا فقد أمر من جهته باي قسنطينة بالاستيلاء على المنشآت الفرنسية الواقعة في إقليمه. في نفس الشهر الذي أعلن فيه الحصار، كلف الجنرال لوفيردو Loverdo أن يعد (مشروعا يحتوي على المعلومات التاريخية والجغرافية والإحصائية والعسكرية) التي تهدف إلى القيام بحملة ضد الجزائر. وقد أنهى الجنرال عمله خلال ثلاثة شهور. ولكن الحكومة الفرنسية لم تقرر الحملة على ضوئه واكتفت بالحصار نظرا لحوادث اليونان وفراغ المخازن من الأسلحة ووجود الأسطول الفرنسي في اليونان. فكان مطلب فرنسا من باشا الجزائر مقصورا على الاعتذار لقنصلها عما ارتكبه نحوه. ¬_____ (¬1) توفي في فرنسا بتاريخ 23 أغسطسى سنة 1829، وقد خلف غي منصبه ابن أخيه الاسكندر دوفال الذي أصبح مكلفأ بشئون القنصلية الفرنسية في الجزائر سنة 1830.

ولكن مشاريع إعداد الحملة ظلت تكثر يوما بعد يوم. فقد كلف الضابط دوبتي - ثوار Dupetit - thouars بإعداد مشروع لمهاجمة الجزائر من البجر، ولكن الحكومة الفرنسية لم تأخذ به أيضا. ثم تولى إعداد مشروع آخر وزير الحربية عندئذ، الكونت كليرمون تونير C. Tonnerre. والواقع أنه اعتمد على مشروع بوتان السابق ذكره. وقد رأى تونير أن حملة فرنسية ضد الجزائر ضرورية وممكنة في نفس الوقت. وكان في تقريره النهائي بعض العواطف الدينية الواضحة، فقد وصف الحملة بأنها (حرب صليبية) هيأتها العناية الإلهية لينفذها الملك الفرنسي الذي اختاره (الله ليثأر من أعداء الدين والإنسانية) ويغسل الإهانة التي لحقت بالشرف الفرنسي. وأضاف تونير مخاطبا الملك (لعل الوقت سيجعل من حظنا نحن الفرنسيين تمدين الجزائريين بجعلهم مسيحيين) (¬1). وقد احتوى تقرير تونير، الذي كان في أهميته يشبه تقرير بوتان، وصفا للحالة الاقتصادية التي كانت عليها الجزائر والتي تغري أصحاب رأس المال والمصالح التجارية بالحملة. فقد قال إن الخزينة الجزائرية كانت تضم 150 مليون فرنك، وأن للجزائر مواني عديدة وسهولا خصبة، وغابات صالحة لبناء السفن، وهناك مناجم الحديد والرصاص وجبال من الملح والمواد الكيمائية الأخرى. وفي نفس الوقت دغدغ أحلام العسكريين حين أوصى بإقامة مستعمرات عسكرية فرنسية في الجزائر. أما في بقية تفاصيل المشروع فقد كان تونير يسير على خطى بوتان. فقد أوصى هو أيضا بالهجوم من البر بدل البحر، وأن يكون نزول القوات الفرنسية من شبه جزيرة سيدي فرج. وأما وقت الحملة فهو ما بين أبريل ويونية وتوقع لها أن تدوم ستة أسابيع. ورأى أن الحملة ستكلف الخزانة ¬_____ (¬1) اسكير ص 74، وليتمون، ص 150 - 153.

الفرنسية حوالي 50 مليون فرنك، وتضم 33،000 رجل، بالإضافة إلى فرقة من الخيالة وعدد من فرق المدفعية. وكان من رأيه أيضا أن فرنسا لا تحتل جزءا فقط من الجزائر بل يجب احتلالها كلها احتلالا (طويل المدى) واقترح الوزير الفرنسي سنة 1828 موعدا للحملة لأن أوربا كانت تعيش في سلام ولأن الرأي العام الفرنسي كان متهيئا لها. وقد ناقش مجلس الوزراء مشروع تونير في جلسة 11 أكتوبر 1827، ولكن المجلس في النهاية قرر عدم الأخذ به آنذاك: وهناك مشروع آخر تقدم به أحد النواب في البرلمان. وقد نادى صاحبه باقامة مستعمرات عسكرية شبيهة بما فعل الرومان، وبدعوة الأوربيين أن يتوجهوا إلى الجزائر بدل الهجرة إلى أمريكا. وقال صاجب هذا المشروع إن احتلال الجزائر سيعوض فرنسا عما فقدته في منطقة الراين ويغنيها عن ثراء بعض البضائع مثل التبغ والحرير والسكر والزيت والقطن، ولكن الحكومة الفرنسية لم تقتنع بالمشروع نظرا لأن حملة الانتخابات كانت على الأبواب ولأن نتائج الحملة المقترحة ستأتي بعد إجراء الانتخابات، وبالتالي لن تؤثر في الرأي العام الفرنسي لصالح الحكومة. استمر الحصار إذن بدل الحملة. وكان الفرنسيون يهدفون من ورائه إلى قطع التموين عن الجزائر، فكان أسطولهم المحاصر يتكون من 12 سفينة كانت تقوم بمراقبة الموانىء الجزائرية، وكانوا يوقفون بعض السفن المشبوهة ويتجزون بعض السفن الأخرى. ولكن الحصار لم ينه عمليات القرصنة، وبالتالي لم ينجح. وفي 3 أكتوبر وقعت معركة بين الأسطول الجزائري (12 سفينة، 30200 رجل، 252 مدفعا) والأسطول الفرنسي المذكور. وقد دامت المعركة حوالي أربع ساعات ولم تسفر عن نتيجة لكل من الطرفين (¬1). ¬_____ (¬1) المعروف أن جزءا من أسطول الجزائر كان عندئذ في اليونان لمساعدة الدولة العثمانية وقد تحطم عدد من سفنه هناك.

ولكن تكاليف الحصار التي بلغت سبعة ملايين فرنك سنويا، والخوف من الحرب مع بريطانيا أو مع أسبانيا، إذا ما تحول الحصار إلى حملة عسكرية، وتغيير الحكومة الفرنسية خلال 4 يناير 1828.كل هذه العوامل جعلت فرنسا تفتح باب المفاوضات مع الجزائر هادفة إلى إلغاء الحصار بطريقة (مشرفة)، ففي 29 أبريل عام 1828 ذهبت إلى الجزائر بعثة للتفاوض بقيادة الضابط بيزار Bézard، ولكن البعثة فشلت لإصرار الباشا على عدم دفع تعويضات إلى فرنسا. وتلا ذلك بعثة أخرى بقيادة بيزار نفسه التي فشلت أيضا لأن الباشا رفض أحد الشروط الفرنسية الأساسية وهو إرسال وزير من حكومته إلى باريس للاعتذار، واشترط أن يفعل ذلك فقط بعد توقيع معاهدة صلح مع فرنسا. أما الفرنسيون فقد عزوا فشل البعثة إلى (طيبة) القنصل السرديني في الجزائر الذي كان يرعى المصالح الفرنسية، وإلى نشاط القنصل الإنكليزي المضاد، ثم إلى المترجم اليهودي دوران Duran ، الذي اتهموم بعدم نقل الحقيقة. وأمام فشل المفاوضات عاد الفرنسيون إلى التفكير في الحملة ضد الجزائر. ففي صيف 1828 كلف وزير الحربية الجديد دي كو De caux لجنة خماسية (لدراسة المسائل المتعلقة بحملة ضد الجزائر وتقديم خطة كاملة للعمل وتعيين الوسائل الضرورية للتنفيذ (¬1). وقد كانت هذه اللجنة تضم الجنرال بيرج الذي كان قد أرسل سنة 1802 للتجسس على تحصينات الجزائر، وكان رئيسها هو الجنرال لوفير دو الذي سبقت الإشارة إليه. قامت اللجنة بجمع المعلومات من كتب الرحالة وأخبار الأسرى الأوربيين والمذكرات التي كتبت عن الحملات السابقة ضد الجزائر من ¬_____ (¬1) نفس المصدر، ص 97، أنظر أيضا تفاصيل الحصار والمفاوضات في ليتمون، ص 153 - 176.

عام 1628 إلى 1808. كان رأي اللجة بخصوص مكان النزول وعدد الجنود والمعدات هو تقريبا رأي بوتان وتونير. وقدرت أن تغادر الحملة ميناء طولون في منتصف أبريل وتعود حوال نهاية شهر أغسطس، كما قدرت تكاليف الحملة ب 20 مليون فرنك. ومن جهة أخرى ذكرت اللجنة بعض التفاصيل في جدول الهجوم على الأماكن العامة مثل قلعة مولاي جسن والقصبة، وتوقعت أن تشتبك القوات الفرنسية في معركة حاسمة ضد قوات البايات الثلاثة مجتمعة في اليوم العشرين من النزول. ونظرا لوجود معارضة قوية في البرلمان، والخسارة الاقتصادية التي تسبب فيها الحصار، وللظروف الدولية، قررت الحكومة الفرنسية أن تفاوض من جديد سنة 1829. وقد أرسلت القبطان دى نيرسيا De Nerciat إلى الجزائر في مهمة نحو الباشا حسين، على أن تفتح محاولته الطريق أمام قائد الحصار الجديد وهو بريتونيير Bretonnière الذي خلف كولى. وقد صدرت التعليمات بأن يصحب قائد الحصار، عندما يأتي دوره في المفاوضة، مترجما فرنسيا بدلا من اليهوي دوران. وتمت خطة الاجتماع بين الباشا وقائد الحصار على ما يرام، ولكن النتيجة كانت سلبية. فقد طلب قائد الحصار من الباشا إرسال وفد سام إلى باريس للاعتذار والتقارض. ولكن الباشا استغرب ذلك وأصر على عقد الصلح في الجزائر أو لا يقبل إرسال الوفد. وأثناء عودة الوفد الفرنسي خائبا أطلقت المدافع على سفينة قائد الحصار (لابروفانس) من التحصينات الجزائرية. ويقول الجزائريون إن السفينة اقتربت كثيرا من التحصينات، أما الفرنسيون فيقرون بذلك ولكنهم يعزونه إلى شدة الرياح. وقد أصيبت السفينة ببعض العطب ولكن قائدها نجح في الهروب بها سالما. وكانت الحادثة قد جرت بتاريخ 3 أغسطس عام 1829. ومما يذكر أن الباشا قد تبرأ من الحادث وعبر

عن أسفه لوقوعه، وعاقب وزير البحرية وقائد الميناء بالطرد من منصبهما. ولكن الحادث قد وقع على أية حال، وأدى إلى زيادة تعقد العلاقات بين الطرفين وسوء التفاهم بينهما. ومما وسع الشقة أيضا مجيء دي بولينياك إلى رئاسة الوزارة الفرنسية في أواخر سنة 1829، وقد كانت له مشاريع عريضة لا بالنسبة للجزائر فقط ولكن بالنسبة لأوربا والشرق أيضا. ومن جهة أخرى تغير وزير البحرية وأصبح هو البارون دي هوسي D'Haussez الذي كان يرى ضرورة القيام بحملة ضد الجزائر في ربيع 1830. وقبل أن يصبح بولينياك رئيسا للوزارة كان قد استقبل عندما كان وزيرا للخارجية، (سبتمبر عام 1829) وفدا قادما من مصر يحمل آراء عرفت فيما بعد باسم (مشروع محمد على) لحل قضية الجزائر (¬1). وبناء على المشروع فقد عرض محمد على على فرنسا أن تساعده في أن يصبح حاكما على طرابلس وتونس والجزائر، واقتراح أن يمر جشيه بالساحل الأفريقي الشمالي محميا بأسطول فرنسي بحري. وطلب من فرنسا أن تمده مقدما بأربع سفن و28 مليونا من الفرنكات، وكان يرى أن السلطان العثماني سيكون راضيا لأن المشروع سيجعله يحصل على جزية سنوية شبيهة بالتي يدفعها إليه محمد علي من مصر، وسيرضي المشروع أيضا فرنسا لأنها ستتخلص عن مشكلة الجزائر، وأوربا لأنها ستتخلص من القرصنة. وقد قال محمد علي للقنصل الفرنسي في القاهرة عندئد أنه قادر على إنهاء المشكلة الجزائرية بتجنيد 68 ألف رجل و23 سفينة وتوفير مائة مليون فرنك لتغطية نفقات الحملة. ¬_____ (¬1) كان أعضاء الوفد هما القنصل الفرنسي في الاسكندرية، والمغامر الفرنسي المركيز دى ليفرون الذي أصبح ممثلا لشئون محمد علي في فرنسا. ولعل صاحب الاقتراح الأول هو فرنسا وليس محمد علي.

أما بولينياك فقد كان يرى منذ عام 1814 ضرورة الربط بين قضية مصر وشمال أفريقية. وكان يرى أن ذلك سبيل مأمون إلى نشر التأثير الفرنسي في المنطقة. وعندما كان سفيرا لبلاده في لدن (1828) تحادث مع زملائه بشأن فوائد فرنسا من حملة ضد الجزائر وفوائد أوربا أيضا. وحين وصل إلى الحكم بدأ يبحث عمن يكون آلة في تنفيذ خطته، ولا سيما في تلك الظروف التي كانت فيها غير قادرة على القيام بمشروع الحملة بنفسها مباشرة. لذلك رحب باقراحات محمد علي وأرسل الضابط هودير Hunder إلى مصر للتفاوض. كما أرسل تعليمات إلى سفير فرنسا في اسطانبول بجس نبض السلطان حول الموضوع. ويقال أن التعليمات قد تضمنت إقناع السلطان بأن الحملة إذا قام بها محمد علي ستحقق: 1 - جزية هامة من الولايات الثلاث المتمردة عليه. 2 - عدم إرسال الجنود الفرنسيين إلى الجزائر. وقد قيل أن رأي الديوان العثماني كان في صالح المشروع في البداية ثم وقع التراجع عنه. ثم تغير الموقف وحاول العثمانيون إقناع السفير الفرنسي بأن تأييد الخطة يخالف الدين الإسلامي وأن محمد علي لن يقدر على تنفيذ الخطة. وبدلا من التأييد وافق الديوان على إرسال شخصية هامة للتعرف على موقف باشا الجزائر والتوسط في إيجاد حل سلمي بين الجزائر وفرنسا. هذه الشخصية هو السيد خليل أفندي الذي كان صديقا لباشا الجزائر والذي كان دبلوماسيا ماهرآا. وقد وصل إلى الجزائر في شهر ديسمبر 1828. ولكن أفندي فشل في مهمته، ويعود ذلك إلى شروط فرنسا التي تصر على إعادة حق صيد المرجان وإقامة منشآت مسلحة ونحو ذلك في الجزائر. ومن جهة أخرى عارض كل من وزير الحربية بورمون ووزير البحرية

دى هوسي مشروع محمد علي عند مناقشته في مجلس الوزراء، لأن المشروع، على ما هو عليه، يعتبر إهانة للشرف الفرنسي في نظرهما. فمحمد علي لم يكن في نظرهما يختلف كثيرا عن حسين باشا: كلاهما (بربري) وقد هدد هوسي بالاستقالة إذا منحت فرنسا الأربع سفن إلى محمد علي. لذلك اضطر بولينياك إلى تعديل المشروع بتخفيض المعونة إلى 10 ملايين، أما السفن فتعار فقط. واشترط أن تكون فرنسا (مشاركة) في الحملة بأسطول هام يحمي جيش محمد علي من البحر، وبقوة هامة من الجنود والمهندسين للمشاركة في الحصار والهجوم. وفي 12 أكتوبر 1829 وافق الملك الفرنسي على المشروع المعدل وفي الحال أرسل بولينياك بعثة إلى محمد علي لحقت (يهودير) الذي كان ما يزال في طولون ينتظر سفينة تحمله إلى مصر. وقد وصل إلى الاسكندرية في 16 نوفمبر. ولكن مجلس الوزراء الفرنسي قرر خلال جلسة 19 ديسمبر عام 1829 أن تقوم فرنسا وحدها بالحملة ضد الجزائر. وفي العشرين منه وافق الملك على ذلك مبدئيا أيضا. وفي نفس اليوم عاد هودير يحمل رفض محمد علي للمشروع المعدل. ومع ذلك لم ييأس بولينياك من التعاون مع محمد علي. ففي جلسة 3 يناير عام 1830 اقترح مجلس الوزراء تعديلا جديدا على المشروع. فقد قرر دفع 20 مليونا (كما اشترطها محمد علي) نصفها عند تحرك الجيش المصري ونصفها الباقي بعضه عند الوصول إلى طرابلس وبعضه الآخر عند الوصول إلى تونس. وقرر أيضا دفع 8 ملايين في مقابل السفن الأربع التي رفضت فرنسا إعطاءها أو إعارتها. ومن جهة أخرى قرر مجلس الوزراء إرسال الأسطول الفرنسي لحماية الحملة ابتداء من الاسكندرية. وفي 20 يناير وصل هودير من جديد عند محمد علي بالاقتراح المعدل، وقد رضي محمد علي بالاقتراح. ولكن حملة صحفية واسعة جعلت الحكومة الفرنسية تغير موقفها.

فقد وصفت بعض الصحف مشروع محمد علي - بولينياك بأنه (غير ممكن، فظيع، مهزلة، أي مجد لفرنسا أن تستعمل مسلما ضد مسلم). كما أن روسيا وانكترا اعترضتا على المشروع. وهكذا أرسلت الحكومة الفرنسية رسولا آخر إلى محمد علي في (6 فبراير عام 1830) يعرض عليه ثمانية ملايين فرنك إذا اكتفى بطرابلس وتونس. أما الجزائر فقد رأت أن تتولاها فرنسا بنفسها. عندئذ يئس محمد علي وقطع المفاوضات مع الفرنسيين قائلا (إنهم لن يصلوا أبدا إلى الجزائر، وإذا وصلوا فلن يجرؤوا على البقاء فيها لمعارضة بريطانيا لهم) (¬1). وهكذا ففي جلسة 30 يناير 1830 قرر مجلس الوزراء الفرنسي، بعد دراسة استغرقت أربع ساعات، القيام، بحملة ضد الجزائر. وفي 7 فبراير أقر الملك شارل العار مشروع الحملة وأصدر مرسوما ملكيا بتعيين الكونت دى بورمون قائدا عاما للحملة والأميرال دوبيرى قائدا للأسطول. وقد بدأت الاستعدادات الحثيثة لتنفيذ المشروع. ... ¬_____ (¬1) عن وجهة النظر المصرية انظر زاهر رياض (صحائف مطوية من تاريخ مصر الحديث (مشروع حملة الجزائر)، في مجلة (المقتطف) ج 120 سنة 1952،ولأحمد عزت عبد الكريم دراسة حول نفس الموضوع لا أذكر الآن أين نشرها.

الفصل الثاني استعدادات الجزائر لمواجهة الحملة

الفصل الثاني استعدادات الجزائر لمواجهة الحملة بينما كانت فرنسا تستعد للقيام بحملة عسكرية ضد الجزائر كانت هذه تستعد أيضا لمواجهة الحملة. وقد عرفنا استعدادات فرنسا ويهمنا الآن أن نعرف استعدادات الجزائر. ونلاحظ مند البداية أن مكان نزول القوات الفرنسية لم يكن محصنا، ويرجع ذلك إلى القيادة العسكرية التي سنعرف موقفها بعد قليل. ونلاحظ أيضا أن فرنسا قد أنزلت قواتها في سيدي فرج (14 يونيه عام 1830) بدون مقاومة. كانت هناك بعض المدافع التي نصبت عند بداية التوتر بين الدولتين، ولكنها لم تكن كافية لمواجهة أو لصد الأسطول الفرنسي. نصب القائد العام الفرنسي (بورمون) مقر قيادته في زاوية المرابط سيدي فرج. وكانت الزاوية تشرف على الخليج بكامله. وكانت تضم مسجدا صغيرا يحوطه جدار وبعض الغرف، وحول الزاوية كانت مزارع الشعير والحنطة وأشجار التين والبرتقال والزيتون. تتوسطها نخلة وحيدة عالية. وداخل المسجد صندوق ذخائر سيدي فرج المرصع بالفضة والمرجان. وكانت ترفرف فوق المسجد أعلام وقطع ملونة من القماش الحريرى. وقد استقر كل أحد من الفرنسيين حيث شاء. فقد نصب بورمون قيادته في المسجد نفسه الذي أصبح له بمثابة مجلس وزارة وغرفة نوم في نفس الوقت. أما المتصرف العام فقد استقر تحت النخلة الوحيدة. كان حسين باشا على علم بتفاصيل الحملة قبل وقوعها، ولكن يبدو

أنه لم يكن على علم بمكان نزولها. فقد كان يعتقد أنها لن تتعدى الضرب من البحر شأنها شأن الحملات الأوربية السابقة. وما دام قد حصن الواجهة البحرية فانه لا خوف من عواقب الحملة. ومن جهة أخرى كان لا يزال على الاعتقاد بأن الفرنسيين لن يتخلوا عن فكرة التفاوض رغم استعداداتهم للحملة، وكان يساعده على اعتقاده كثرة الرسل والبعثات التي جاءت طالبة التفاوض منذ إعلان الحصار. ولعل الباشا كان يعتمد أيضا على مساعدات بريطانيا التي كان قنصلها، بالإضافة إلى قنصل نابولي ; يقوم بنشاط ملحوظ منذ عام 1827. وقد كانت مصالح بريطانيا تقتضي استمرار النظام القائم في الجزائر كما كانت مصالحها تقتضي ذلك في المشرق. وحين كتب محمد علي ناصحا الباشا رد عليه هذا بأن يبيع الفول للمسيحيين بدل إعطائه النصائح بدون جدوى. وقد كان حسين باشا قد بعث برسله للتجسس على أخبار الفرنسيين في إيطاليا وأسبانيا ومرسيليا وطولو ن وباريس وجبل طارق ومالطة (¬1) ; وحين جاءته هذه الرسل تنذره بأن فرنسا تستعد للقيام بحملة اعقد أن ذلك لن يتعدى غارة بحرية ستتفشل لا محالة. ولكن حين بلغ حسين باشا أن جيشا فرنسيا قد نزل فعلا في سيدي فرج وإنه في طريقه لضرب العاصمة من البر أخذه الخوف، فجنوده الانكشاريون الذين كانوا يشكلون جيشه النظامي لم يكونوا يتجاوزون 6000 رجل، وهي قوة صغيرة لا تكفي حتى للإبقاء على الأمن والنظام محليا. وأمام هذا الوضع رفع الجزائريون رؤوسهم التي كانت مطأطأة وبدأوا يعتدون على الجنود الأتراك في الليل ويلوذون بالفرار. وحين اثتكى الجنود إلى الباشا نصحهم بغض النظر. وحاول حسين أن يتقرب من الأهالي أيضا ¬_____ (¬1) أرسل أيضا رسولا إلى باشا طرابلس. ويبدو أن هذا كان صديقا لحسين ولذك رفض الاستماع إلى كل من محمد علي ومبعوث فرنسا. إن كثرة الجواسيس تجعلنا لا نؤيد الفكرة القائلة أن حسين باشا لم يكن على علم بمكان نزول الحملة.

بعزل المفتي الحنفي (شيخ الإسلام) وتعيين مفتي عربي مكانه، وباستشارة الزعماء الأهليين أمثال حمدان خوجة وبوضربة. وقد واجه حسين مشاكل محلية أهمها مؤامرة أنصار الآغا يحيى الذي كان حسين قد أمر بقتله سنة 1827. كان الآغا يحيى محبوبا من الجيش ومن العرب معا. وقد تولى قيادة الجيش حوالي 12 سنة في عهد حسين باشا. وكان قد حضر معارك كثيرة محلية فاكتسب خبرة واسعة بأحوال البلاد ونفسية الأهالي. وكان نشيطا طموحا وموهوبا. وهذه الخصائص هي التي جعلته محل شك، ولا سيما من أعدائه أمثال الخزناجي الذي كان يغار منه ويخشى صعوده إلى منصب الباشا. لذلك وجهت اليه تهمة التآمر فعزله الباشا ونفاه إلى مدينة البليدة. (حوالي 50 كيلومترا من العاصمة). ولكن الآغا السابق استمر في اتصالاته. ولا سيما مع العرب الذين قيل إنهم كانوا يزورونه ليلا ويعدون معه خطة للاستيلاء على الحكم. وبعد مواجهته بوثائق (مزورة) تثبت تآمره لقلب النظام حكم عليه الباشا بالموت. ولكن موته لم ينه الخوف منه، فقد ظل (كابوسا) يخيف حسين باشا. ذلك أن أنصار القتيل قاموا بتنظيم مؤامرة للثأر له. وقد كانوا حوالي 46 شخصا، وكان زعيمهم يدعى مصطفى تيشته. وكان المتآمرون قد اتفقوا أن يغتنموا فرصة العيد ويذهبوا إلى القصبة ويتقدمون، وهم مسلحون، من الباشا لتقبيل يده. وهناك يغتالونه ويقضون على وزرائه ويستولون على السلطة ويفتحون المفاوضات مع فرنسا. فإذا لم تقبل هذه شروطهم يستدعون انكلترا للتدخل. ولكن المؤامرة اكتشفت وأمر حسين (¬1) هو السيد محمد العنابي الذي سيرد ذكره (أنظر الفصل الخاص بمحضر الجزائر) ولكن ابن العنابي كان حنفيا أيضا. أنظر عنه دراستنا المنشورة في الكتاب التذكاري المقدم إلى الدكتور أحمد عزت عبد الكريم، القاهرة، 1976. ¬

_ (¬1) هو السيد محمد العنابي الذي سيرد ذكره (أنظر الفصل الخاص بمحضر الجزائر) ولكن ابن العنابي كان حنفيا أيضا. أنظر عنه دراستنا المنشورة في الكتاب التذكاري المقدم إلى الدكتور أحمد عزت عبد الكريم، القاهرة، 1976.

باشا بقتل سبعة من أعضائها. ومنذئذ أصبح حسين يحقد على جنوده الأتراك وحاول أن يستعين بالجزائريين بدلا منهم. تولى القيادة بعد يحيى صهر حسين باشا وهو الآغا ابراهيم. وقد كان ابراهيم هذا عاجزا عن أداء مهمته. فهو لم يكتف يبعدم القيام بأية استعدادات لصد العدو بل إنه عارض اقتراحات زملائه، أمثال الحاج أحمد باي قسنطينة بعدم تعريض الجيش كله إلى لقاء واحد مع العدو، ووجوب مقاومة العدو في حرب مناوشات وليس في حرب مواجهة. وكان ابراهيم يقول لهم دائما إنه الوحيد الذي كان يعرف مناورات وتكتيك العدو الحربي. وقد تلقى كل جندي من ابراهيم عشر رصاصات فقط كانت في نظره تكفي للإطاحة بنصف الجيش الفرنسي (وبعد ذلك ليس هناك حاجة لتوزيع البارود). عين ابراهيم قائدا للجيش إثر ضرب السفينة الفرنسية (لابروفانس) (3 أغسطس 1829). وقد سلمت له عندئذ خطة الفرنسيين في الهجوم ومكان نزول قواتهم وعدد جنودهم ومدافعهم. ومع ذلك لم يستعد لأي شيء وكان يدعي أن الجزائريين (القبائل) سيرغمرن الفرنسيين على الفرار منذ نزولهم على الأرض. ولكنه لم يصدر أوامره لهؤلاء الجزائريين لكي يأتوا من بواديهم لمواجمة العدر في سيدي فرج، فكان كل جيشه مكونا، كما يقول خوجة، من أهالي متيجة الذين لا يعرفون سوى بيع الحليب (¬1)! وكان ابراهيم يدعي أن لديه 5،000 من المغامرين سيذهبون ليلا إلى معسكر العدو ويشيعون فيه الفوضى والاضطراب حتى يقتل الفرنسيون بعضهم بعضا. أما أهل جرجرة فقد تخلوا عن ابراهيم وذهبوا في حالهم لأنه ¬_____ (¬1) المرآة، 177 والإشارة إلى أن الآغا إبراهيم قد تسلم خطة الفرنسيين منذ 1829 يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الداي كان على علم بالحملة.

لا يعطهم لا ذخيرة ولا مؤونة: (فلو كان الآغا يحيى على رأس الجيش الجزائري (بدل ابراهيم) لكانت الأمور أحسن حالا لأن تجاربه في البحر والبر وشجاعته في كل المناسبات تكون ضمانا للجندي الذي يعمل تحت أواره (¬1). أما الأغا إبراهيم فقدكان لا يوحي إلا باليأس والفشل. أرسل حسين باشا المراسيل إلى داخل البلاد يدعون إلى الجهاد ضد الفرنسيين. وقد استجاب لندائه الرسميون والأهالي على السواء. فوعده لحاج أحمد باي قسنطينة ب 30،000 محارب، ووعد حسن باي وهران ب 6،000 محارب بقيادة الخليفة، نظرا لكبر سن الباي، ووعد مصطفى بومزراق باي التيطرى ب 20،000 محارب، وجمع شيوخ جرجرة بين 16 و18 ألف محارب، وجمع أهالي ميزاب حوالي 4،000 محارب. وأرسل حسين أيضا إلى باي وهران يأمره بتحصين الميناء كما أرسل إلى باي قسنطينة يأمره بتحصين ميناء عنابة ويستقدمه إلى العاصمة طبقا للتقاليد التي تقتضي القدوم كل ثلاث سنوات، وأمر الباشا أيضا بإجراء إحصاء لعمال مدينة الجزائر وإرسالهم إلى القلاع للدفاع عنها. ورغم هذه الاستعدادات الظاهرية فإن الواقع كان يكشف عن بعض الأخطاء. فبدلا عن أن يستعمل حسين هذه القوات في صد الهجوم الفرنسي من سيدي فرج أبقاه بعيدة عن العاصمة بعدة كيلومرات. وحين عبر له بعض الأجانب عن استغرابه من هذا الإجراء أجابه حسين بأنه فعل ذلك ليسهل تحطيم العدو. كان حسين ينظر بثقة إلى جنوده وتحصيناته، وكان يعتقد أن القصبة لا تهزم وأنها تستطيع أن تقاوم عدة سنوات. ولم يدعم معسكراته سوى ببعض مئات من الجنود، ولكنه حصن الميناء وزوده بثلاث سلاسل على الأقل نصبت خلفها المدافع. وفي اليوم الذي نزل فيه ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 176.

الجيش الفرنسي في سيدي فرج لم يكن هناك لا مدافع ولا خنادق (¬1). ولم يكن لدى الآغا ابراهيم أكثر من 300 فارس. وكان باي قسنطينة لا يملك إلا عددا قليلا من المحاربين. أما باي التيطري فقد كان ما يزال في عاصمة إقليمه (المدية) ولم يصل إلا بعد عدة أيام من نزول الجيش الفرنسي. أما جيش إقليم وهران فلم يكن بعيدا عن سيدي فرج وكان تحت قيادة خليفة الباي. وكان باي التيطري قد وعد الباشا 20،000 فارس، منهم 10 آلاف برماحهم (¬2)، ولكنه حين وصل إلى الميدان لم يأت معه بأكثر من ألف رجل. هذه القوات كانت مجتمعة في معسكر (اسطاويلي). وكان الآغا ابراهيم مع فرقة من سكان متيجة وأخرى من أعالي جرجرة. كانت القوات تذهب كل يوم إلى معسكر الحراش الواقع شرقي العاصمة والذي يبعد مسافة أربع ساعات من اسطاويلي وتعود منه كل صباح. وقد رفض ابراهيم استراتيجية باي قسنطينة التي تقوم على توزيع القوات الجزائرية - العثمانية وجعل جزء منها غرب سيدي فرج حتى تمنع العدو من تحقيق هدفه وهو العاصمة. وقد انتقد الباي أحمد الخطة قائلا بأن وضع القوات على ما هي عليه سيكون (مرشدأ) للقوات الفرنسية في زحفها نحو العاصمة ونادى بضرورة العناية بالجيش وأن يأخذ كل قائد مجموعة منه ويعدها إعدادا كافيا. كما طالب الباي أحمد بضرورة حفر الخنادق حول المعسكر. ولكن رد الآغا ابراهيم على هذه الاقتراحات كان سلبيا ومثبطا. فقد أجاب الباي بأنه لا يعرف التكتيك الحربي الأوربي الذي يخالف التكتيك الحربي العربي. فلم يسع الباي سوى الصمت , وفي آخر لحظة اقتنع الآغا ¬_____ (¬1) كان هناك حوالي 12 مدفعا صغيرا وضعها الآغا يحيى عند بداية الحصار، والظاهر أن عدد القوات الجزائرية المذكورة مبالغ فيه جدا. (¬2) لذلك سمى الباي (بمزراق) أي بورمح.

بضرورة حفر الخندق الذي كان يرى أنه سيكون معطلا لجيشه لا لجيش العدو. وقد أذاع الجيش بأن كل عربي بدون سلاح يأتي ويأخذه وعندما حضر والديه ليلا أعطاهم الفؤوس بدلا من الأسلحة وأمرهم بحفر الخندق. فثم ذلك في ليلة واحدة، ولكن الخندق كان غير مفيد في النهاية فلم يحم المدافع ولم يعرقل سير تقدم العدو. ومن جهة أخرى رفض الآغا معاقبة جندي انكشاري قتل جزائريا لكي يبيع رأسه في المدينة على أنه رأس جندي فرنسي. وقد أثار هذا الحادث حفيظة الجنود الجزائريين الذين كانوا في جيشه. وأثناء هذه الساعات الحرجة جاء جزائري يدعى أحمد بن شنعان إلى المعسكر الفرنسي للتعرف على ما إذا كان الفرنسيون قد جاءوا مستعمرين أو محررين. وبعد قضاء ليلة واحدة تركوه يعود من حيث أتى بعد أن زودوه بنسخ من (البيان) الذي كانوا قد وجهوه إلى الجزائريين أهالي المغرب العرب عامة، والذي يوضح أن الفرنسيين قادمون إلى الجزائر للانتقام لشرفهم من الباشا وأنهم سيعاملون الجزائريين كما عاملوا (إخوانهم) المصريين من قبل (¬1). وفي نفس الوقت توجه مترجم سوري في الجيش الفرنسي إلى المعسكر الجزائري محاولا إقناع القيادة بالتفاوض مع الفرنسيين، ولكنه حمل من هناك إلى حسين باشا الذي أمر بقتله بعد أن ظن أنه يحاول التأثير عليه بوصفه للقوات الفرنسية بالكثرة والضخامة (¬2). وهناك عدة أمثلة على تهاون الآغا ابراهيم. فقد ذكر حمدان خوجة أنه حضر العشاء ليلة معركة اسطاويلي مع القواد: باي قسنطينة، وخليفة باي وهران وباي التيطري، وخوجة الخيل، بالإضافة إلى الآغا ابراهيم. ¬_____ (¬1) أسكير، ص 203. وقد يكون في نسج هذه القصة والقصة التي قبلها شيئا من الاختلاف. (¬2) نفس المصدر ص 304.

وقد انفرد بحمدان خوجه وأخبره بأن فلانا وفلانا قد ذهبوا إلى المعسكر الفرنسي وأظهروا أنفسهم أصدقاء لفرنسا وأعطوا العدو تقارير خاطئة عن حالة البلاد وحالة الجيش. وكان ابراهيم قد استلم نقودا من حسين باشا لتوزيعها على المحاربين لتشجيعهم ولكنه لم يعط أحدا منهم شيئا. ووعد الباشا أيضا الجزائريين بأن كل من يحمل إليه رأس عدو يعطيه 500 فرنك، وكلف الآغا بدفع المبلغ في مكانه مقابل وصل استلام، ولكن الآغا لم يدفع شيئا وكان يقول لمن يأتيه برأس العدو تعال خذ المبلغ بعد المعركة. وفي صباح المعركة بالذات خرج ابراهيم وحاشيته من المعسكر إلى سيدي فرج تاركا المعسكر خاليا إلا من حوالي 40 شخصا كانوا يحرصون الأثاث، ولكنهم كانوا بدون سلاح (¬1). ويذكر خوجة أيضا أنه قد خرج ذات ليلة ومشى إلى وسط المعسكر وذهب إلى خيمة الآغا ابراهيم لقضاء بعض حاجته وعاد من حيث أتى دون أن يشعر به أحد ودون أن يرى أي علامة للاستعداد ضد هجمات العدو (¬2). فمن كان المخطىء حقا: إبراهيم نفسه أو حسين باشا الذي عين صهره أغا الجيش؟ إن بعض المعاصرين للحملة يرون أن تعيين ابراهيم كان خطأ فادحا ارتكبه حسين باشا لم يرتكب مثله خلال حكمه الطويل. (إنها غلطة رئيسية لا تغتفر). وهو حكم صادر من صديق لحسين باشا. وسنعرف أن حسين كان يصر على الإبقاء على الآغا حتى بعد هزيمته في أسطاويلي. إن حسين هو الذي عزل الآغا يحيى وعين خلفا له قائدا جاء ليحارب فرنسا (بدون جيش منظم، وبدون ذخيرة، وبدون مؤونة، وبدون شعير للخيل، وبدون المقدرة الضرورية على مواجهة الحرب) (¬3). ¬_____ (¬1) خوجه، المرآة، ص 182. (¬2) نفس المصدر، ص 183 - 184. (¬3) نفس المصدر، ص 185.

عند الهزيمة في اسطاويلي (19 يونية عام 1830) هرب ابراهيم من الميدان وترك خلفه الجيش والخيام، والفرقة الموسيقية والأعلام. وقد اختفى في دار ريفيه مع بعض خدمه. وبدل أن يعزله حسين باشا في الحين ويعين خلفا له يعيد الروح المعنوية للجيش ويواجه به العدو الزاحف، أرسل حمدان خوجة إليه الذي كان موضع ثقته ليحاول إقناعه بضرورة استلام القيادة من جديد. وقد وجده خوجة محطم المعنويات منكسر القلب. وبصعوبةكبيرة أقنعه بضرورة الاستمرار في مهمته. ولكن الأغا الذي كان طفلا في تصرفاته لم يستطع أن يواصل مهمته. فعندما تقدم الجيش الفرنسي من أسطاويلي مارا بمعسكر سيدي خلف اختفى ابراهيم من جديد. وأمام ذلك عزله حسين باشا ودعا المفتي (¬1) وأعطاه سيفا وأمره بحمع الشعب وإقناع الناس بالجهاد دفاعا عن البلاد. كان المفتي رجلا فاضلا ولكنه كان صالحا للإفتاء لا للقيادة ومن جهة أخرى أحاط به بعض رجال الحضر وحاولوا إقناعه بأن الأمل ضعيف في النجاح، وأن الباشا يخوض معركة خاسرة، وأن (الشعب بدون قائد). وفي نفس الوقت كان الجيش الفرنسي يقترب من قلعة (مولاي حسن) (قلعة الامبراطور)، فزاد ذلك الأفكار بلبلة والأمل بنجاح المقاومة بعدا. أما قيادة الجيش فقد تولاها الباي مصطفى بومزراق. ولكن تبديل القيادة في مثل تلك الظروف لم يكن يدل على الحكمة وبعد النظر. ورغم أن القائد الجديد كان يمتاز بالشجاعة والتجربة فإنه اكتفى بجمع الغنائم واختيار البنادق الطويلة لإطلاق الرصاص بنفسه على الفرنسيين. ومما زاد الأمر سوءا أن حسين باشا كان يثق في وزير ماليته (الخزناجي) الذي كان في الواقع يتآمر عليه. وكان الخزناجي طموحا ¬_____ (¬1) هو محمد بن العنابي الذي نفاه كلوزيل فيما بعد. (أنظر فصل حضر الجزائر).

إلى درجة المبالغة وغيورا إلى درجة الحقد. وقد أودت آراؤه بحياة الآغا يحيى من قبل، وهو الآن يعمل للاستيلاء على الحكم من يد حسين. وكان يتقرب من الانكشارية الذين لا يصعد أي متآمر إلى السلطة إلا بأيديهم. كان الخزناجي قد عين للدفاع عن قلعة مولاي حسن. ومن هناك بدأ يعد مشروعا للتفاوض مع الفرنسيين على شروطهم. وكان نشاطه يزداد كلما اقترب الجيش الفرنسي من القلعة. وكان لا يبالي بترك أبواب القلعة مفتوحة، أما الذين كانوا معه فقد كانوا مستعدين للفرار في أية لحظة، ولاضطرابه نسف مخزن البارود الصغير الذي كان في القلعة فأحدث ضجة وزلزالا هائلا اهتزت له المدينة. ولو نسف المخزن الكبير لأحدث أضرارا كبيرة بالمدينة والسكان. وبعد استيلاء الفرنسيين على قلعة مولاي حسن جمع حسين باشا أمناء الطوائف وأعيان المدينة ورجال القانون والدين وشرح لهم الوضع الذي عليه البلاد وطلب منهم النصيحة فيما يفعل لمواجهة الوقف. وقد وضع أمامهم السؤال التالي: هل يعتقدون أنه من الصواب مواصلة المقاومة ضد الفرنسيين أو يجب تسليم المدينة إليهم (الفرنسيين) والتوقيع معهم على معاهدة استسلام. ولكن الحاضرين وجدوا أنفسهم في حرج، فهل ينصحون بالاستسلام بينما قد يكون رأيه هو المقاومة؟ وبعد تقليب الموضوع من عدة وجوه أجابوه بجواب غامض، وهو أنهم على استعداد لمواصلة الحرب، لكن إذا كان رأيه غير ذلك فهم يطيعون أوامره. وشيئا فشيئا بدأت روح الهزيمة تدب في أوصال الجهاز الإداري والجهاز الاجتماعي أيضا. وقد كان للبيان الذي وزعه الفرنسيون بمهارة تأثير كبير على بعض الأشخاص الذين يسمون أنفسهم بالمعتدلين (¬1). وكان هؤلاء قد اقتنعوا بأن الفرنسيين قد جاءوا حقا (محررين) للجزائريين من ¬_____ (¬1) أنظر هذا البيان في كتابي: (الحركة الوطنية الجزائرية) (دار الآداب، بيروت، عام 1969) ملحق 1.

سلطة الأتراك، وكانوا يعتقدون أن فرنسا المتحضرة لا يمكن أن تعد بشيء إلا إذا كانت راغبة في التنفيذ. فأصبح هؤلاء من أنصار الحل السلمي. وقد تسبب البيان (الغامض الفارغ)، الذي كان مقصودا به الدعاية فقط، في (شل الطاقة المحاربة) لدى بعض الجزائريين (¬1). ففي ليلة 2 يوليو عام 1830، أي قبل ثلاثة أيام من دخول الجيش الفرنسي للمدينة، اجتمع عدد من أعيان مدينة الجزائر في قلعة باب البحرية. لقد كان هؤلاء يمثلون التجار وأرباب المال. وقرروا أن ضياع المدينة أصبح أمرا محتما، وأنه إذا ما دخلها الفرنسيون عنوة فإنهم سيبيحونها وينهبون ثرواتها ويعتدون على النساء ويقتلون الأطفال. ورأوا، تفاديا لذلك، قبول اقتراح الباشا الثاني الذي ينص على الاستسلام بعد توقيع معاهدة وكان لسان حالهم أن أمة شريفة مثل فرنسا لا يمكن أن تعد ولا تفي. حقا أن الأتراك أقرب إلى الجزائريين من ناحية الدين ولكن الفرنسيين سيتركون الجزائريين يتمتعون بدينهم وتقاليدهم وسيتركون لهم أملاكهم ومساجدهم وزواياهم. فلماذا إذن يقاومون الجيش الفرنسي ويزهقون الأرواح بدل التوقيع على معاهدة استسلام؟ وفي النهاية قرروا عدم مقاومة الفرنسيين عند دخول المدينة وأرسلوا وفدا عنهم إلى القصبة لمقابلة الباشا وإطلاعه على ما اتفقوا عليه. وقد أجابهم الباشا بأنه سينظر في القضيه خلال اليوم التالي. وفي اليوم المعين (4 يوليو 1830) أرسل حسين كاتبه مصطفى مصحوبا بالقنصل الانكليزي إلى مقر القيادة الفرنسية للتفاوض مع بورمون. ومع الوفد المذكور ذهب أيضا أحمد بوضربة (¬2)، وحسن بن حمدان بن عثمان خوجة بعنوان مترجمين. ولم يكن حسين يدري عندئذ أن كاتبه كان عضوا في المؤامرة التي يتزعمها الخزناجي للإطاحة به. وعلى أية حال فقد كان مصطفى يفاوض بورمون لا باسم حسين باشا ولكن باسم الخزناجي، واعدا بورمون ¬_____ (¬1) خوجه، المرآة، ص 192. (¬2) عنه أنظر فصل الحضر.

بأنه سيحمل إليه رأس حسين وأنه مستعد للتفاهم مع فرنسا على ما تشاء. غير أن بورمون أجابه حسب الرواية الفرنسية بأنه لم يأت لمساعدة المتآمرين ولكنه جاء لكي يحارب. وقال إنه يقبل اقتراح حسين باشا الذي ينص على الاستسلام وبعد التفاوض ومراجعة الباشا وقعت المعاهدة التالية يوم 5 يوليو 1830: 1 - تسلم قلعة القصبة وكل القلاع الأخرى المتصلة بالمدينة وميناء هذه المدينة إلى الجيش الفرنسي هذا الصباح على الساعة العاشرة. 2 - يتعهد القائد العام للجيش الفرنسي أمام سعادة باشا الجزائر أن يترك له الحرية وكل ثرواته الشخصية. 3 - سيكون الباشا حرا في أن يذهب هو وأسرته وثرواته الخاصة إلى المكان الذي يقع عليه اختياره. فاذا فضل البقاء في الجزائر فله ذلك هو وأسرته تحت حماية القائد العام للجيش الفرنسي وسيعين له حرس لضمان أمنه الشخصي وأمن أسرته. 4 - يتعهد القائد العام لكل الجنود الانكشاريين بنفس المعاملة ونفس الحماية. 5 - سيظل العمل بالدين الإسلامي حرا، كما أن حرية السكان مهما كانت طبقتهم، ودينهم، وأملاكهم، وتجارتهم. وصناعتهم لن يلحقها أي ضرر. وستكون نساؤهم محل احترام. وقد التزم القائد العام على ذلك بشرفه. وسيتم تبادل وثائق هذا الاتفاق قبل الساعة العاشرة هذا الصباح، وسيدخل الجيش الفرنسي حالا بعد ذلك إلى القصبة ثم يدخل كل القلاع التي حول المدينة كما يدخل الميناء (¬1). توقيع: الكونت دي بورمون ختم حسين باشا، داي الجزائر ¬_____ (¬1) نص هذه المعاهدة مترجم من كتاب (المرآة) لحمدان خوجة، ص 195 - 196.

الفصل الثالث من الإدارة العثمانية إلى الإدارة الفرنسية

الفصل الثالث من الإدارة العثمانية إلى الإدارة الفرنسية النظم الإدارية التي أقامها العثمانيون في الجزائر لم تكن تختلف كثيرا عن النظم التي أقاموها في اسطانبول وفي الأجزاء الأخرى من الدولة. ورغم (الطابع الشرقي) الذي تميزت به هذه الإدارة في الجزائر فإن الفرنسيين أبقوا على بعض منها عندما احتلوا الجزائر. وكان بعضهم يريد التطبيق الحرفي لعدد من هذه النظم. ولا سيما العسكرية منها. ونحن نجد في مناقشات اللجنة الأفريقية بعض الآراء حول هذا الموضوع (¬1). ولكي يفهم المرء حالة الجزائر في الفترة الانتقالية من العهد العثماني إلى العهد الفرنسي لابد من إعطاء لمحة عن هذه النظم الإدارية. يمتاز الحكم العثماني في الجزائر بظاهرة الخضوع للسلطان. كما يمتاز بعدم الاستقرار الإداري. وقد كان هناك نوع من التفاهم المتبادل بين السلطان والحاكم في الجزائر. فالباشا كان يحاول تمكين سلطته بعد تسميته من الجنود. والبيعة المحلية لا تكفي، إذا لم يباركها السلطان بالفرمان والقفطان المذهب، وسيف الشرف والعمامة الخاصة. وقد كان في استطاعة السلطان أن يضغط على الباشا بعدم إرسال الأشياء المذكورة أو بمنعه من تجنيد المتطوعين في أناضوليا. وهو إجراء يسبب ضعف الولاية (الجزائر). ويدخل تبادل الهدايا بين السلطان والباشا في هذا النطاق. فالباشا كان يرسل إلى السلطان وإلى وزرائه وأعوانه هدايا ثمينة يختلف حجمها ونوعها ¬_____ (¬1) انظر فصل (اللجنة الأفريقية).

تبعا للظروف. وكانت هذه الهدايا غالبا ما ترسل على سفن مسيحية، بل كان أصحاب هذه السفن يعتبرونه شرفا لبلادهم أن تحمل سفنها الهدايا إلى السلطان من حكام الجزائر. والهدايا كانت غالبا لا تخرج عن الحياك والساعات والجواهر والخيول والعبيد والزرابى والتبغ ونحو ذلك. أما السلطان فقد كانت هداياه إلى حاكم الجزائر مما تحتاجه البلاد ويقوي ساعدها اقتصاديا وعسكريا. فقد كانت غالبا تشمل الأسلحة والبارود والحديد والسفن الحربية والتجارية (¬1). وكان هناك تعاون بين الطرفين في عدة ميادين. ففي الميدان الدولي قطعت الجزائر علاقاتها مع فرنسا بطلب من السلطان عندما كانت هذه في حرب ضد مصر وسورية (1799)، وفي مناسبة أخرى أرسلت الجزائر بقطعة من أسطولها (حوالي ثمان سفن حربية) لمساعدة السلطان في معركة نافارينو، كما أرسلت ثلاث سفن لمساعدة الدولة العثمانية في قمع ثورة اليونان (1823). أما في الميدان الداخلي فقد كانت الجزائر ترسل بالعملاء إلى الشرق، وخصوصا منطقة آسيا الصغرى، لتجنيد المتطوعين في الانكشارية. وفي بعض الأحيان كانت السلطات العثمانية تقوم بالتجنيد بطلب من الجزائر. وكان العملاء يوزعون النقود ويعدون المتطوعين بمغريات كثيرة في الجزائر كالفتيات الحسان والشوارع المرمرية الجميلة. وكان عدد المجندين يختلف من سنة إلى أخرى تبعا للوضع الاقتصادي الذي كانت عليه الجزائر. وكلما انحفض عدد المتطوعين عجزت الحكومة الجزائرية عن مواجهة الاضطرابات ¬_____ (¬1) أنظر تفاصيل هدايا السلطان وحاكم الجزائر في بيير بوابي (الحياة اليومية في مدينة الجزائر) La vie quotidienne a Alger (باريس 1962)، ص 85 - 86، وفي الكتاب تفاصيل أخرى عن النظام والإدارة عامة. ومن الوثائق الجزائرية التي تناولت موضوع الهدية رحلة ابن حمادوش الجزائري المسماة (لسان المقال ...) أنظر دراستي عنها في (مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق) أبريل 1975.

الداخلية بل والحروب مع الخارج. وبين 1800 - 1830 كانت نسبة المتطوعين حوالي 200 شخص سنويا، باستثناء الفترة الواقعة بين 1810 - 1820 التي ارتفع فيها هذا العدد قليلا. ولكن ثورة الانكشارية سنة 1817 أدت إلى مقتل عدد كبير منهم يقدره بعضهم ب 1500 شخص (¬1). وهناك مزايا كان يتحلى بها الجندي العثماني في الجزائر. فقد كان أبرز ما يميزه الانضباط والشجاعة والتواضع. وكان يمثل العمود الفقري للنظام القائم عندئذ في البلاد. وكان أهل الجزائر يسمون هؤلاء الجند بكباش أناضوليا لكونهم حمرا سمانا. أما اسمهم الرسمي فقد كانوا يعرفون باليولداش. وإلى جانب ذلك كانوا يمتازون بالخشونة والتهور، وبالتعالي نحو المواطنين. وقد انخفضت معنوياتهم وقيمهم بعد ثورة 1817 على عهد علي خوجه باشا الجزائر عندئذ، فهو الذي قتل منهم الكثيرين وبدأ في الاستعاضة عنهم بجيش محلي، غير أن مشروعه لم يتحقق تماما، فظلوا القوة العسكرية الحقيقية في البلاد إلى الاختلال. وباستثناء وظائف الكتاب (الخوجات) وبعض الوظائف الأخرى الثانوية فإن طبقة الانكشارية هي التي كانت تسيطر على جميع مقاليد الدولة في الجزائر. وغالبا ما كان الباشا (الداي) يعين أيضا من هذه الطبقة. وكان تعيينه يقع غالبا بعد ثورة داخل القصر. أما الأهالي فلم يكن لهم دور يذكر في انتخاب الباشا. وفي كثير من الأحيان ينتخب الباشا رغم أنفه. وكثيرا ما كان يطول النزاع حول التولية، وكان رفع العلم الأحمر على القصر دليلا على استمرار النزاع، فإذا رفع العلم الأخضر فذلك علامة انتهاء الأزمة وبدء فترة من الاحتفالات بانتخاب الباشا الجديد. وخلال الحكم العثماني كان قصر الباشا يقع في الجنينة (¬2)، ولكن الباشا علي خوجة قد نقله إلى القصبة في أعالي المدينة. ونقل الباشا الخزينة ¬_____ (¬1) بوايى، ص 88 - 89. (¬2) هي ساحة بورسعيد حاليا.

إلى هناك أيضا. وكان ذلك عقب الثورة التي قام بها ضده جنود الانكشارية (1817) وقد استعان الباشا على ذلك بتجنيد جيش أهلي (أغلبه من سكان زواوة) وكرغلى. ومما يذكر أن علي خوجة كان من بين الحكام القلائل الذين ماتوا طبيعيا، وأنه هو الذي عين حسينا خلفا له، وهذا الأخير هو الذين وقعت الحملة الفرنسية على عهده، 1830. ودخول العنصر الأهلي في عهد علي خوجة لا يمكن أن نسميه حركة قومية بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكننا نلاحظ أن هناك فكرة جديدة قد دخلت في علاقة الأهالي بالحكام العثمانيين. غير أن هذه الفكرة لم يتح لها أن تتطور إلى شكل نظام ملكي قائم على قاعدة وطنية شأن أسرة محمد علي في مصر أو الأسرة الحسينية في تونس (¬1). كان الباشا يقوم بمهمته بمساعدة عدد من المجالس والوزراء. فهناك ديوانان: عادي، ويضم عددا عن المستشارين الكبار، وكان هذا كثير الاجتماع، والديوان الأعظم الذي كان أعضاؤه من كبار الضباط، (حوالي 80 عضوا) بالإضافة إلى أعضاء الديوان العادي. وكان هذا لا يجتمع إلا بشأن القضايا الهامة كالحرب والسلم. وكان يحضر جلساته أيضا آغا القمرين (الرئيس النظري للانكشارية)، والمفتيان الحنفي والمالكي وكتاب الدولة الأربعة الكبار. وهناك أيضا ديوان البحر الذي كان يجتمع تحث رئاسة وكيل الحرج أد وزير البحرية. وكان يتكون من زعماء الأسطول أو الرياس. أما الوزراء، فقد كانوا كما يلي: الخزناجي (المالية) الذي يأتي بعد الباشا مباشرة في الأهمية. وكثيرا ما كان يتولى بعده، آغا العرب الذي كان يجمع ¬_____ (¬1) نفس المصدر، ص 92 - 92. ولعله لو نجح الباشا علي خوجه في القضاء على الانكشارية وإقامة حكم وراثي لتغير مجرى التاريخ الجزائري.

إلى قيادة الجيش البري الشؤون الأهلية، خوجة الخيل الذي كان عبارة عن وزير نقل بالمعنى الحديث، فهو الذي يشرف على الحيوانات التي لدى الأهالي والتي تعود إلى الدولة، وهو الذي يشرف على جميع الضرائب من أملاك الدولة، ويبيت المالجى الذي كان ينظر وراء الأملاك المصادرة ويراقب الأموال الآنية من البايات والشخصيات المعزولة أو التي اغتيلت. وأخيرا وكيل الحرج الذي كان يهم بشؤون البحر والشؤون الخارجية أيضا. وإليه يعود التصرف في قضايا التموين والقرصنة والتحصينات. وإلى جانب الدولوين والوزارات كانت هناك وظائف أخرى هامة في الدولة الجزائرية العثمانية. أو لها وظائف الكتاب أو الخوجات الذين كانوا يشكلون طبقة عليا في المجتمع الجزائري. وكانوا يتميزون بلباس القفطان الطويل والبرنس الأبيض والعمامة الضخمة. كما كانوا يحملون في حزامهم مقلمة من النحاس لتميزهم من الطبقة الانكشارية. وتشمل وظائفهم عدة ميادين. فهناك خوجة السوق (الرحبة)، وخوجة الملح، وخوجة الزرع، وخوجة الجلود، وخوجة الجمارك، وهكذا. وثانيها وظائف القواد، وكان هؤلاء يتمتعون بصلاحيات إدارية ومالية لا يتمتع بها غيرهم. ومنهم من يتولى منصبا معينا كقائد الفحص الذي كان يتولى حراسة ضواحي المدينة، وقائد الزبل الذي كان يشرف على نظافة المدينة وتجميلها، ومنهم من يتولى مهام إدارية مباشرة في منطقة خاصة في وطن من الأوطان (¬1) أو غير مباشرة بحيت يشرف على مجموعة من القبائل عن طريق شيخ كل قبيلة. وكانت مهمة القائد تتمثل في جمع الضرائب وإبقاء الأمن في المنطقة التي تعود إليه وتمثيل السلطة المركزية. وكانوا يمتازون ¬_____ (¬1) كان كل إقليم مقسما إلى عدة أوطان، مثلا كان في إقليم التيطري وحده حوالي 21 وطنا. وعلى كل وطن قائد يحكم مباشرة.

ببلباس البرنس الأحمر الذي يخلعه عليهم الباشا في حفلة خاصة تقام لهذا الغرض (¬1). بالإضافة إلى دار السلطان، التي كانت تشمل مدينة الجزائر والساحل وسهل متيجة، كانت الجزائر على أيام العثمانيين تنقسم إداريا إلى ثلاثة أقاليم: أولا إقليم قسنطينة (الذي كان أهمها) شرقا وعاصمته مدينة قسنطينة. وثانيا إقليم وهران غربا (الذي يأتي في العدرجة الثانية أهمية) وعاصمته مزونة ثم معسكر، وبعد تحرير مدينة وهران من الأسبان (1792) أصبحت هي العاصمة، وأخيرا إقليم التيطري وسطا (وهو أقلها أهمية) وعاصمته مدينة المدية. وكان هذا الإقليم ضعيفا لقربه من الإدارة المركزية من جهة ولقلة موارده الاقتصادية من جهة أخرى. كل إقليم كانت له إدارة شبيهة بالإدارة المركزية. فالخزناجي هو الخزندار في إدارة الإقليم، وآغا العرب هو الخليفة. أما بيت المالجي فهو نفسه في الإقليم أيضا. وبالإضافة إلى ذلك كان هناك الخوجات والشواش ونحوهم من الموظفين. وكانت الوحدة الإدارية هي القبيلة التي كانت في العادة تحت سلطة شيخ القبيلة الذي يخضع بدوره إلى قائد من أصل تركي أو كرغلي. وكانت علاقة القبائل بالإدارة على أنواع: فهناك القبائل النائية التي لا تصلها يد السلطة. وهناك القبائل ذات الاستقلال الذاتي التي تدفع ضريبة الخضوع، وهناك قبائل الرعية، وهذه أيضا أنواع: فمنها الخاضعة خضوعا جزئيا ومنها الخاضعة خضوعا تاما (وتسمى قبائل العازل أو العبيد). وأخيرا هناك قبائل المخزن وهي المتحالفة مع السلطة المركزية وتمدها بالمال والرجال عند قيامها بحملات عسكرية (¬2) سواء داخليا أو خارجيا. وليس هناك حالة قارة لجميع هذه القبائل. وإذا كان على كل مسؤول إقليم أن يسهر على الأمن وأن يجمع الضرائب ¬_____ (¬1) أبقت فرنسا على نظام القواد المذكورين بل أبقت حتى على شعاره وهو البرنس الأحمر. (¬2) وتسمى الحملات العسكرية في العهد العثماني بالمحال (جمع محلة). وما زال الاستعمال شائعا إلى اليوم في بعض الجهات.

فان هناك شيئا آخر عليه أن يقوم به وهو رحلة الدنوش أو القيام بزيارة إلى مدينة الجزائر كل نصف سنة لتقديم تقرير عن المحصول في الإقليم. وتقام لذلك حفلة خاصة تقليدية. وفي كل ثلاث سنوات كان الباي يذهب بنفسه على رأس الوفد. وكثيرا ما كانت هذه الرحلة إلى العاصمة محفوفة بالأخطار لأن الباي قد لا يعود إلى مقر إدارته إذا لم يرض الباشا وحاشيته ومقربيه بالهدايا الثمينة ومظاهر النجاح في فرض السلطة. ويظل الباي في مدينة الجزائر في العادة ثمانية أيام. وكانت عودته إلى مقر عمله تتوقف على تسلمه قفطانا جديدا من الباشا، وهو ما يعتبر في عرفهم تجديدا للثقة فيه من الإدارة المركزية. وعلى أية حال فان قدوم الباي إلى العاصمة كان يتم في بهجة عامة وتقام لذلك حفلة تدوم عدة أيام، وكان أهالي العاصمة ينتظرونها ويستمتعون بها، ويعتبرونها نوعا من التغيير في حياتهم الرتيبة (¬1). وهناك عدة وظائف قضائية يتولاها القاضي والعدل والعون والوكيل. وكان هؤلاء يختارون من بين العلماء بعد أن يجتازوا امتحانا خاصا. وكان حكم هؤلاء المسئولين لا رجعة فيه غير أن للمفتي أن يقول كلمته فيه. وكان المذهبان الحنفي والمالكي ممثلين في جميع المستويات: فهناك محكمة حنفية وأخرى مالكية، ومفاتي وقضاة حنفيون وآخرون مالكيون، ومجلس مشترك. هذا بالنسبة للمسلمين، أما بالنسبة للإسرائيليين فقد كان لهم قضاة خاصون بهم (الأحبار) وأما المسيحيون فقد كانوا يحاكمون في القنصليات الأجنبية الموجودة في الجزائر. وتحتفظ الدولة بحق التدخل إذا لزم الأمر، ولا سيما في القضايا الجنائية. ويمتاز القضاء زمن العثمانيين بالتنفيذ السريع والعقاب الصارم إذا اقتضى ¬_____ (¬1) انظر بعض التفاصيل عن رحلة الدنوش في كتاب (مذكرات الشريف الزهار) نشر أحمد توفيق المدني، الجزائر، 1975.

الأمر ذلك. وكانت العقوبة بالموت تختلف بحسب الجنس والطبقة الاجتماعية فالأتراك المذنبون كانوا يخنقون سرا في دار رئيس الانكشارية (آغا القمرين) وكان اليهود يحرقون حرقا والمسيحيون يشنقون شنقا. أما العرب فقد كانوا يعاقبون إما بالشنق وإما بقطع الرأس. وإذا كانت القضية خطيرة يرمى بالشخص حيا من أعالي الجدران جهة البحر. حيث يموت موتا بطيئا قاسيا. وإذا كانت المرأة الزانية متزوجة فانها توضع في كيس وترمى في البحر، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة الحرة التي وجدت مع أحد المسيحيين أو اليهود وكان يقوم بتنفيذ الأحكام مساعدو المزوار. (¬1) ويذكر المؤرخون أن مدينة الجزائر كانت مثالا للأمن والهدوء، وهم يعزون ذلك إلى قوة وصرامة تنفيذ العقوبات ضد الجناة (¬2). أما تنظيم المدينة الداخلي (أي مدينة الجزائر) فقد كان يعود إلى نظر شيخ البلاد الذي كان عبارة عن رئيس بلدية اليوم، والذي كان دائما عربي الأصل، وهو الذي كان يشرف على الأمن وله شرطة منظمة مكونة من حضر المدينة العرب. وكان يساعده في مهمته عدد من الأعضاء، وكان شيخ المدينة مكلفا بقبض الضرائب. وكان المحتسب هو الذي يقوم بمراقبة الأسواق حتى لا يقع الغش، فاذا ثبت الغش في الأسعار أو الموازين فان يد الغاش تقطع أو يطاف به أمام العامة على ظهر حمار. أما إذا ثبت غش الخباز فان يده لا تقطع ولكن تصادر المخبزة ويضرب هو ضربا مبرحا على قدميه. وكان يقوم بالحراسة الليليلة المزوار وأعوانه. فاذا وقع حادث أدى إلى جريان الدم فان (جراح باشى) يتدخل بمعالجة الجريح، وهذا الشخص، ¬_____ (¬1) المزوار هو مسئول حراسة المدينة ليلا وهو الذي يراقت وينظم الفتيات العاهرات عن طريق رخص خاصة يصدرها لهن. (¬2) اعتقد الفرنسيون أن الهدوء في الجزائر على عهد العثمانيين يعود إلى قسوة الأحكام فقلدوا العثمانيين في ذلك ولكن الفرق كان كبيرا.

الذي كان من الانكشارية، لم يكن طبيبا بالمعنى الحقيقي للكلمة، وكان جراح باشى كثيرا ما يأخذ الرشوة ليسكت على الحادث. وكان المزوار أو مساعده هو الذي يتولى رئاسة الفرقة التي تتألف من عرب الحضر، فاذا كانت الفرقة من أهل زواوة فان رئيسها يدعى القلباشى. وكان من الممنوع السير ليلا بدون مصباح في مدينة الجزائر. ولكن لا يسمح لليهود سوى بحمل شمعة أو مصباح زيتي تمييزا لهم، وتمتاز مدن الجزائر عندئذ بأن أهلها كانوا ينامون باكرا ويستيقظون باكرا أيضا. ويلاحظ أن ما قيل في عاصمة البلاد يقال في عوصم الأقاليم وأهم المدن الأخرى. وهكذا نرى أن هناك خصائص تميز الإدارة العثمانية في الجزائر. وأهم هذه الخصائص الولاء المطلق للسلطان، وبقاء الانكشاريين في حالة عزوبة استعدادا للمهمة العسكرية التي أعدوا من أجلها. فاذا تزوج الانكشاري فان أبناءه وأحفاده يصبحون كراغلة (أمهاتهم جزائريات) ولا يتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها آباؤهم. ومن أهمها أيضا العنف الذي صحب تغيير الحاكم، فقلما يموت الحاكم في فراشه. ومن حسن الحظ أن الاضطراب كان يقتصر على القصر ولا يمتد إلى عامة البلاد. وكانت هذه الإدارة محافظة متمسكة بالتقاليد الاجتماعية والدينية، وهي تقوم على نظام اجتماعي طبقي يبدأ بالعبيد وينتهي بالوجق العثماني (الأرستقراطي) مارا بطبقة وسطى يمثلها عادة العرب الحضريون وهم غالبا سكان المدن من التجار والصناع وأصحاب الحرف والخوجات والعلماء. وتمتاز الإدارة العثمانية بالقسوة في العقوبات وسرعة التقاضي وتنفيذ الأحكام. كما تمتاز بالتعفن الإداري والاجتماعي كالرشوة والتوريط والتواكل والغش. فما موقف الفرنسيين من هذه الإدارة بعد احتلالهم للجزائر؟ وما الجديد الذي أدخلوه عليها (¬1)؟ ¬_____ (¬1) يجد المهتم تفاصيل هامة عن الحياة الإدارية والاجتماعية في العهد العثماني بالجزائر.

أول ما فعله الكونت دي بورمون قائد الجيش الفرنسي المنتصر، هو حل منظمة الانكشارية التي كان عدد أعضائها العزاب في مدينة الجزائر يبلغ.،500 والمتزوجين حوالي الألف. وكان اليهود قد رفعوا رؤوسهم بعد دخول الفرنسيين فبدأوا حملة من الانتقام من أسيادهم السابقين فنهبوا أموالهم ومنازلهم، وورطوهم في قضايا مالية شائكة وبلغ بهم الانتقام أن اعتقلوا عددا كبيرا من العثمانيين عندما تأكدوا من اقتراب الجيش الفرنسي من المدينة وكانوا يهللون ويرقصون في الشوارع معلنين ولاءهم للسيد الفرنسي الجديد. أما بورمون فقد أمر بترحيل الانكشاريين غير المتزوجين إلى آسيا الصغرى بعد تجريدهم من الأسلحة. وقد تبادل كل من حسين باشا (كان سنه عندئذ حوالي 65 سنة) وبورمون الزيارة. فزار الباشا أولا بورمون مصحوبا بحوالي خمسين شخصا من العرب والأتراك. وطالب باسترداد أثاثه وحاجاته التي منها كيس يحتوي على 30،000 قطعة من الذهب. كانت الزيارة في 7 جويلية 1830. وفي اليوم التالي زاره بورمون وخيره في المكان الذي يريد الذهاب إليه فاختر أولا مالطة ولكن خوفا من بريطانيا خيره بورمون في مكان آخر فاختار نابولي، التي كان ملكها صديقا للباشا، فقبلت رغبته. وفي 31 من الشهر وصل حسين باشا الجزائر السابق إلى نابولي على متن السفينة الفرنسية (جان دارك) وكان برفقته 110 أشخاص من بينهم الآغا ابراهيم. قائد الجيش المنهزم، ووزير المالية أو الخزناجي، ومن بينهم أيضا 57 امرأة، حرائر ووصيفات. قال أحد المؤرخين الفرنسيين ليس هناك مدينة في العالم قد شهدت عند احتلالها الفوضى التي شهدتها مدينة الجزائر (¬1). فقد اختفت الحلق والسلاسل. ¬_____ = في كتاب ديفولكس A. Devaux (التشريفات) (باريس 1852) كما يحتوي كتاب حمدان خوجة (المرآة) على معلومات طيبة في الموضوع. (¬1) غابريال اسكير، ص 411.

والصوارى والأخشاب والسنائر من الميناء، وخلعت أبواب المحلات العامة، ونهبت الأموال والأثاث والحلي من المنازل. وكثر الاعتداء على الأشخاص والأعراض. وزاد الأمر سوءا أن القائد العام (بورمون) قد ترك الحبل على الغارب، ولم يعد يحكم فعلا، بل ترك الأمور إلى قائد الأركان وإلى مسئول التموين، وكلاهما كان غير قادر على ممارسته أية سلطة. وكان بورمون متأثرا لوفاة إبنه، وقلقا من الحالة السياسية في فرنسا (ثورة جويليه، 1830)، بالإضافة إلى أنه كان في وضع حرج نحو الجيش الذي وعده بالامتيازات ولكنها لم تأت. ولو أن الفرنسيين قد أبقوا على وظائف الإدارة العثمانية لظلت الأمور تسير على الأقل في الحد الأدنى، ولكنهم ألغوا وظائف الخزناجي، وقائد الشرطة، ومراقبي الأسواق، والأمناء. وكانوا يهدفون من ذلك إلى وضع حد للوجود العثماني وإلى بداية إدارة جديدة ولكنها كانت إدارة مرتجلة أدت إلى كثير من التعقيدات، والمشاكل بدل الحلول. في اليوم التالي من الاحتلال (6 جويليه) أنشأ بورمون (لجنة الحكومة) وتتلخص مهمتها في النظر في (حاجات وإمكانيات البلاد والنظم التي يجب تعديلها وإلغاؤها والفائدة من استخدام أعيان الجزائريين من مختلف الطبقات الأهلية والفرنسية لملء إطارات الموظفين. وممارسة الوظائف المدنية). (¬1) وكان يرأس اللجنة وكيل التموين، وتضم الجنرال تولوزى Tholozé والجنرال فيرينو Firino ، والقنصل الفرنسي السابق في عنابة الاسكندر دوفال، Deval (¬2) أما كاتبها فقد كان دى بوسير Bussiere الذي كان من موظفي وزارة الشئون الخارجية الفرنسية. ويساعده مترجمان هما: جيراردان Girardain ، والمستشرق الشهري دي صال Salle . ويتضح من ¬_____ (¬1) نفس المصدر ص 408. (¬2) ليس هذا صاحب قصة المروحة الذي عرفنا أنه مات أثناء الحصار.

تركيب اللجنة ومن مهمتها أنها هيئة فرنسية تجهل الشئون الأهلية وحاجات الجزائريين (¬1). وكانت مهمتها تأسيس الإدارة الفرنسية في الجزائر، على أنقاض الإدارة العثمانية وهي مهمة ليست سهلة. كان (للجنة الحكومة) هدفان: جمع المعلومات عن الإدارة العثمانية السابقة للاستفادة منها في الإدارة الجديدة، وتوفير السكن والمستشفيات للجيش الفرنسي، غير أن اللجنة لم تستطع أن تحقق أي شيء بالنسبة للنقطة الأولى لأن سجلات ووثائق الإدارة السابقة قد اختفت (¬2)، أما المعلومات التي توصلت إليها حول المداخيل والأملاك فقد كانت من أفواه الناس فقط. وأما بخصوص النقطة الثانية فان اللجنة الحكومية أنشأت (هيئة مركزية) تضم ممثلين عن المنظمات السبع الهامة في المدينة، وهم الحاج علي بن أمين السكة، وابن مربط، وابراهيم بن المولى محمد، وحسن قلعاجي، ومحمد ابن الحاج عمر، وأحمد بوضربة، والحاج قدور بن عشائش، وبعد حين انضم إلى الهيئة إسرائيليان قد لعبا دورا واضحا في التمهيد للاحتلال وهما ابن بكري وابن دوران. ونلاحظ أن بعض أعضاء هذه الهيئة كانت له شهرة في التعاون مع الفرنسيين، مثل بوضربة. كما نلاحظ أن جميعهم تقريبا كانوا من حضر مدينة الجزائر (¬3). ¬_____ (¬1) كانت تضم أعضاء غير فرنسيين وهم بيت المالجي، وأمين السكة، والآغا، ولكن دورهم كان استشاريا فقط. (¬2) يقر المؤرخون الفرنسيون بأن الجنود كانوا يشعلون غليوناتهم بوثائق الإدارة العثمانية السابقة على مرأى من مسؤوليهم، نفس المصدر، ص 409. (¬3) كان الاعتقاد الشائع لدى الفرنسيين أن حضر الجزائر كانوا متضايقين من الإدارة العثمانية ولذلك فهم طبقة صالحة للتعاون معهم ضد هذه الإدارة، وقد استعملوا بعضى أعضاء الحضر في البداية ولكن سرعان ما انقلبوا عليهم واتهموهم بالتآمر والطموح ونحو ذلك، ونفوا زعماءهم من مدينة الجزائر. انظر الفصل الخاص بحضر الجزائر.

كان رئيس الهيئة المركزية هو أحمد بوضربة الذي أظهر حماسا كبيرا للوجود الفرنسي في الجزائر، على الأقل في أول الأمر، وسنتعرض لهذه الشخصية في مكان آخر. وحسبنا أن نقول أن بوضربة كان متزوجا من فرنسية، ويحسن الفرنسية، وكان من الذين فاوضوا بورمون على تسليم المدينة ليلة الخامس من جويليه. وقد قال عنه أحد المورخين الفرنسيين إن بوضربة كان (رجلا فطنا ومهذبا وحيليا ولكنه كان بدون مبادىء أخلاقية، وكان يخلق المشاكل أكثر مما يجد حلالها (¬1) ومواطنوه الذين كانوا معه في الهيئة كانوا ممن رحبوا بالفرنسيين أول الأمر وصدقوا أنهم جاءوا فعلا محررين كما ادعوا في بيانهم. وعلى أية حال فانه كان في الهيئة أيضا نائب وكيل التموين الفرنسي، بروغير Bruguiere الذي كان يمثل الملك الفرنسي لدى الهيئة المذكورة. ومن جهة أخرى كانت الهيئة تضم أعضاء آخرين، وهم بيت المالجي وخوجات أسواق القمح والفحم، وأمناء البساكرية، وبني مزاب، كما كانت تضم مفتي الحنفية والمالكية وقاضي الحنفية والمالكية. وباختصار فإن الهيئة كانت عبارة عن (مجلس بلدي) يلعب فيه بوضربة دور شيخ المدينة على عهد العثمانيين. وإذا كانت مهمة لجنة الحكومة هي جمع المعلومات والعناية بالجيش فان مهمة الهيئة المركزية أو المجلس البلدي كانت تتمثل في محاولة إنشاء إدارة محلية. وتشمل هذه أيضا توفير الحاجات العاجلة للجيش، ومعرفة قدرات وطاقات البلاد عامة ومدينة الجرائر خاصة (¬2). ومن الواضح أن هناك تداخلا بين مهمة المنظمتين، ولكن كلا منهما كانت تسير نحو هدف واحد، وهو خدمة السيد الجديد، وتوفير الراحة لجيشه، ووضع إمكانيات ¬_____ (¬1) نفس المصدر ص 410. (¬2) نفس المصدر ص 409.

البلاد بين يديه. ولعل الفرنسيين قد لجأوا إلى خلق هذه الهيئة لترضية الجزائريين، ولا سيما الطبقة التي تعاونت معهم وكانت تظن أن إنهاء الإدارة العثمانية يعني انتقال الحكم إليها. أما السلطة الحقيقية فقد كانت في يد اللجنة الحكومية. وقد حاولت لجنة الحكومة أن توفر الغذاء للمدينة، فنظمت الجمارك والمكوس. غير أن الموظفين الذين عهدت إليهم بذلك كانوا يجهلون مهمتهم فكانت النتيجة ارتفاعا فاحشا في الأسعار واستغلالا كبيرا للضعفاء. وقد انحفضت الواردات بالبحر إلى 5 % والصادرات إلى 2 %، باستثناء البضائع الفرنسية طبعا. وهكذا كانت المدينة على وشك أن لا تجد حتى المواد الألويةكالملح (¬1). ويلقى الفرنسيون تبعة ذلك على أعضاء الهيئة المركزية الذين يتهمونهم باقتسام الأموال بينهم، كما يلقونها على المستفيدين من هذه الفوضى الاقتصادية، وهم أناس مغامرون قد اصطحبوا الجيش الفرنسي من أوربا ومن فرنسا نفسها دون أن يكون لهم أي عنوان (¬2). وقد نظم الفرنسيون شرطة المدينة ووضعوها تحت شخص عرف بمغامراته البوليسية والجاسوسية. ففي عهد نابليون الأول تولى دوبينيوز D'Aubignose إدارة شرطة بريم Bréme (ألمانيا). وقبل الاحتلال بعدة شهور أرسل إلى تونس للتجسس ونشر الدعاية والتأثير على السلطات التونسية حتى لا تنجد الجزائر عند تدخل الفرنسيين، وهو نفسه الذي تولى إدارة الشرطة في الجزائر بعد نجاح الحملة، وكان يعمل تحت إمرته مفتش للشرطة، ومحافظون، وفرقة عربية من عشرين شخصا يرأسها المزوار الذي سبق أن أشرنا إلى مهمته في العهد العثماني، ورغم هذا التنظيم ¬_____ (¬1) أنظر (فيلهم شيمبر والجزائر) تلخيص أبو العيد دودو، المجاهد الثقافي عدد 10، 1969)، ص 107 - 109 (¬2) اسكير ص 410.

فقد وقعت السرقات بكثرة ولم يحترم الجزائريون الفرنسيين. ويعزو الفرنسيون ذلك إلى (رخاوة العرب). لذلك استبدلت الشرطة العربية بشرطة فرنسية. ويقولون إنهم بذلك الإجراء قد جعلوا (السكان يحترمون الوضع الجديد عن طريق العصا) (¬1). أظهرت الطائفة اليهودية في الجزائر ميلا واضحا إلى الفرنسيين كما أظهر لهم هؤلاء عطفا أوضح وأصبحوا عندهم من ذوي الحظوة والجاه. وقد لعب ديني Denniée وكيل التموين دورا بارزا في حمل القائد العام على مراعاة اليهود. ومنذ اليوم التالي للاحتلال عينت السلطات الفرنسية اليودي سرور رئيسا للمترجمين غير الفرنسيين. وقد أصبح بكري صاحب نفوذ كبير حتى إن الجيش كان لا يفعل شيئا إلا باستشارته. وبذلك حصل على امتيازات كبيرة له ولطائفته (¬2). وهذا الحلف هو الذي جعل حضر المدينة يتوجسون من الفرنسيين بعد أن رحبوا بهم. ورغم أن هذه الطائفة لم تعترف بالجميل فإن الفرنسيين ظلوا على ميلهم لليهود على حساب العرب. ويذكر الفرنسيون أنفسهم أن اليهود الذين أظهروا التعاون معهم أولا كانوا على استعداد لبيع الجيش الفرنسي في سبيل مصالحهم، وأصبحوا مرابين ومورطين غير أوفياء بالعهود (¬3). وفي اليوم الأول من الاحتلال اتصل بكري بالأتراك وحذرهم من الخطر الذي يهددهم ووعدهم الحماية على شرط أن يدفعوا مقابل ذلك ما طلبه منهم. كما اتصل بقومه ووعدهم أن الفرنسيين لن يفعلوا شيئا بدون رضاه. ¬_____ (¬1) نفس المصدر ص 412. (¬2) نفس المصدر ص 412 - 413. (¬3) يذكر اسكير أنهم ادعوا أن امرأة أحد الأتراك كانت تخبىء السلاح في بيتها، وعندما تبين العكس ذهبوا إليها وطلبوا منها دفع 600 قطعة من الذهب حتى لا تتعرض لمعاملة سيئة فأعطتهم المبلغ ولكنها اشتكتهم فألقي القبض على المعتدين وسجنوا، ص 412.

وكان يطمح إلى أن يكون رئيس الطائفة اليهودية في العهد الفرنسي كما كان زمن الإدارة العثمانية. واتصل أيضا بمحافظي الشرطة وطلب منهم تسليم كل القضايا الخاصة باليهود إليه. وقد فعل ذلك دون علم الهيئة المركزية (المجلس البلدي) ورئيس الشرطة. ويعزو الفرنسيون سخط العرب عليهم إلى تأثير اليهود الذي أصبح واضحا بعد الاحتلال. ويقولون إن النفوذ اليهودي كان السبب في هجرة كثير من أغنياء العرب من المدينة. وقد تدخل أعضاء الهيئة المركزية لدى رئيس الشرطة لمنع هجرة العائلات الغنية من المدينة ولكن بدون جدوى. وهناك من يذهب إلى أن ثورة العرب ضد الفرنسيين حتى في الأرياف كانت تعود إلى النفوذ الذي أصبح عليه اليهود في الإدارة الجديدة (¬1). والواقع أن هناك مبالغة في هذه القضية لأن سخط العرب وثورتهم، سواء في المدينة أو في الريف كان يعود إلى مبدأ الاحتلال نفسه. ولم يكن النفوذ اليهودي سوى نتيجة من النتائج الكثير ة التي ترتبت على هذا الاحتلال. فوقف التجارة، واحتلال المنازل والمساجد والأملاك الخاصة بدون مقابل والاعتداء على الأعراض، وإزالة معالم الحكم الأهلي، كل ذلك، وغيره، أدى إلى الثورة ضد الفرنسيين، حتى من الذين كانوا في البداية مؤمنين بالتعاون معهم في بعض الحدود، وإن المرء ليجد وصفا صارخا لتصرفات الجيش الفرنسي في تلك الأثناء في كتاب (المرآة) لحمدان بن عثمان خوجة (¬2). وخلال السنوات الأولى للاحتلال لم يكن هناك نموذج إداري اتبعه الفرنسيون، وقد دام الحال كذلك إلى مجىء اللجنة الأفريقية وصدور قرار ¬_____ (¬1) نفس المصدر، ص 414. وعن هجرة الجزائريين، في هذه الأثناء أنظر كتابنا (الحركة الوطنية) ط. بيروت، 1969. (¬2) أنظر الفصل الخاص بحضر الجزائر.

جويليه سنة 1834 الذي ألحق الجزائر بفرنسا ونظم إدارتها على نحو شبيه بما كان يجري في فرنسا. ومن الذين تولوا خلال السنوات الأربع الأولى، بعد بورمون، كلوزيل، وبرتزين، والدوق دي روفيغو، وفوارول. كلهم كانوا مهتمين بمشاريع الاستعمار، ومباربة الثوار، أكثر مما كانوا مهتمين بالتنظيم الإداري. وبالإضافة إلى ذلك فان الحكومة الفرنسيين نفسها كانت إلى سنة 1834 لم تتخذ موقفا واضحا من قضية الجزائر. ولكن في هذا التاريخ وبتوصية من اللجنة الإفريقية قررت الاحتفاظ بالجزائر وإلحاقها بفرنسا وإعطاءها إدارة قادرة في منصب الحاكم العام الجديد الذي كان مسئولا لدى الحكومة عن كل الأمور العسكرية والمدنية في الجزائر. أما تطور الإدارة الفرنسية بعد ذلك فلا يعنينا في هذا المجال لأن غرضنا هو ربط الفترة الانتقالية إداريا، أو بعبارة أخرى كيف انتقلت السلطات الإدارية من العثمانيين إلى الفرنسيين.

الفصل الرابع دور حضر الجزائر

الفصل الرابع دور حضر الجزائر يتهم المؤرخون الفرنسيون حضر الجزائر بأنهم كانوا يحلمون بعودة الحكم الإسلامي، إلى الجزائر خلال السنوات الأولى للاحتلال. وكان أعيان هؤلاء الحضر يعملون لصالح هذه الفكرة سواء لدى السلطات الفرنسية أو في اتصالاتهم مع الباشا حسين المخلوع في المنفى، أو مع الحاج أحمد، باي قسنطينة، آخر سلطة قوية من العهد العثماني. ويذكر هؤلاء المؤرخون أن أعيان الحضر كانوا يعتقدون أن اتصالات شبه رسمية، بوحي من سلطات سامية، قد تمت لتحقيق عودة الحكم الإسلامي، وأن هذه الاتصالات قد جعلتهم يعتقدون أن الفكرة ممكنة وأن فرنسا نفسها قد تعبت من تكاليف الاحتلال وأنها ستتخلى عن الجزائر لصالحهم (¬1). حضر الجزائر كانوا طبقة غنية منحدرة من أهل البلاد ومن مهاجري الأندلس. وكانوا سياسيا في المرتبة الثالثة بعد الأتراك والكراغلة. وكانوا يملكون الأراضي في سهل متيجة وبعض الأملاك في مدينة الجزائر نفسها ويمتهنون التجارة. وكانوا غالبا راضين بوضعهم ولا يطمحوان إلى مناصب سياسية. ولكن منهم من تقلد مناصب القضاء والإفتاء والكتابة ونحوها من المقاليد الثانوية الهامة. كان بعضم محل ثقة الباشا كحمدان بن عثمان خوجة. وعندما بدأ الفرنسيون في شرح الوضع الاجتماعي في الجزائر، صنفوا طبقة ¬_____ (¬1) أنظر بيابسي دي رينو de Reynaud (أخبار الجزائر) (باريس ص 1854) ط 2، ج 1 ص 172.

الحضر على أنها منافسة وساخطة على (الأتراك). وهكذا وجهوا أنظارهم نحو هذه الطبقة التي كانت بدورها مستعدة للاستعانة بهم لكن بشروط. وبمجرد استيلاء الفرنسيين على مدينة الجزائر نحوا (الأتراك) عن الحكم وأسندوا بعض المناصب لهؤلاء الحضر فتولى بعضهم مركز (آغا العرب) مثل حمدن بن أمين السكة، وأصبح بعضهم بايا على التيطري، مثل مصطفى ابن عمر، وأصبح بعضهم رئيسا لأول مجلس بلدي لمدينة الجزائر، مثل أحمد بوضربة. ولكن طبقة الحضر هذه سرعان ما اكتشفت أنها كانت مخطئة في اعتقادها أن فرنسا ستعوض حكم الأتراك بحكم محلي تكون هي (طبقة الحضر) على رأسه. فقد عرف أعضاء هذه الطبقة بعد فترة قليلة من الاحتلال، أن فرنسا جاءت لتبقى، وأن أموالهم وأراضيهم صودرت وأصبحت ملكا للدولة الجديدة، وأن مساجدهم وزواياهم ومساكنهم قد احتلت من الجيش الفرنسي أو هدمت لتفتح الطريق أمام ساحات عمومية، ومسارح، ومستشفيات عسكرية، أو تحولت إلى كنائس. بل إن (أملاك مكة والمدينة)، التي كانت مؤسسات خيرية للفقراء والطلبة قد استولى عليها الفرنسيون وأصبح ريعها يذهب مباشرة إلى خزينة الدولة المحتلة. ومما فتح أعينهم أكثر على الخطأ الذي وقعوا فيه أن السلطات الفرنسية كشفت لهم عن نواياها بعزل وطرد ونفي أولئك الذين قبلوا التعاون معها بدعوى عدم القيام بالواجب، أو التآمر لاستعادة الحكم الإسلاي. أو الانضمام إلى الثائرين ضدها. بل لقد كانت هذه السلطات تعطي عهد الأمان وتنقضه (¬1)، وتذبح قبائل بريئة كاملة (¬2)، وتأسر المرابطين كرهائن، (¬3) وتطالب ¬_____ (¬1) انظر فصل مرابطون وثوار. (¬2) مثل قبيلة العوفية في عهد الدوق دي روفيغو. (¬3) مثل مرابط القليعة عندما فر كبير الأسرة الآغا محيي الدين. كان ذلك على عهد دي روفيغوا أيضا.

بخمسين شابا من أكابر العائلات في المدينة لحملهم إلى باريس كرهائن أيضا (¬1). وأمام هذه الوقائع التجأ حضر الجزائر إلى عدة طرق للتعبير عن عدم رضاهم. لم يكونوا مرابطين فيأمروا أتباعهم بالجهاد ضد فرنسا كما فعل محيي الدين والد الأمير عبد القادر. ولم يكونوا شيوخ قبائل فيدعو أنصارهم إلى حمل السلاح كما فعل ابن زعمون، ولم يكونوا من بقايا الدولة المنهارة فيحملوا الناس على محاربة العدو كما فعل كل من باي التيطري وباي قسنطينة. لقد كانوا مجرد طبقة تاجرة في الماضي ولكنها الآن مجردة من المال، كانوا يحسنون المؤامرات ولكنهم يفتقدون الوسائل. وقد زاد وضعهم سوءا أن كثيرا منهم هاجر أو ارتحل إلى أماكن أخرى في الجزائر نفسها، والذين لم يهاجروا ولم يرتحلوا شتتهم الفرنسيون وأضعفوهم بالنفي والمحاكمات وتسليط الطائفة اليهودية عليهم. وهكذا لم يبق أمامهم، فيما يبدو، سوى الشكوى والتذمر، وكتابة العرائض والرسائل، ومخاطبة الرأي العام باسم الإنسانية. والكشف عن سوءات الحكم الفرنسي في الجزائر، والاتصالات الغامضة بكل الجهات الممكنة لمساعدتهم على الخروج مما أصبحوا فيه، ومن الطبيعي أن نذكر بأنهم لم يكونوا جميعا في هذا المستوى. فمنهم من استسلم للظروف وصمت. ومنهم من رضي بحياة المنفى. ومنهم من ظل يتعاون مع السلطات القرنسية راضيا أو مكرها. وكان للتنافس والطموح وضعف الإرادة والضمير بين أفرادها حظ كبير في ضعضعة هذه الطبقة وإضعاف دورها الذي كان يمكن أن يكون إيجابيا. وليس الهدف هنا هو دراسة هذه الطبقة من جميع النواحي، ولكن ¬_____ (¬1) انظر دي رين، ج 1، ص 106، وخوجة (المرآة)، ص 256.

الهدف هو رسم بعض الصور لبعض أفرادها لمعرفة مواقفهم نحو غيرهم، ومواقف غيرهم منهم. وهؤلاء الأفراد يختلفون بلا شك ثقافة وحيوية وهدفا، وهناك عدد كبير منهم كان يمكننا الحديث عنه، ولكننا قررنا الحديث بصفة عفوية عن مصطفى بن عمر، وابنه حمدان بن أمين السكة ومحمد العنابي، وأحمد بوضربة، وحمدان خوجة. ونحب أن نذكر بأن ما سنقوله عن كل منهم ليس ترجمة شخصية له بالمعنى التقليدي، بل هو عبارة عن دراسة لبعض مواقفه من الاحتلال ومن وضع مواطنيه عندئذ. وهذه الدراسة لا تهدف إلى فهم موقف الفرد المدروس بقدر ما تهدف إلى فهم العلاقة بين الجزائريين والسلطات الفرنسية في بداية الاحتلال. يذكر خوجة أن كلوزيل قائد الجيش الفرنسي بعد بورمون، قد طلب من أعيان مدينة الجزائر قائمة بأسماء العائلات الكبيرة في المدينة ليعين منها بايا على إقليم التيطري، وبعد تقديم القائمة اختار كلوزيل منها مصطفى بن الحاج عمر ليكون بايا خلفا للباي مصطفى بومزراق الذي خلعه الفرنسيون لثورته ضدهم (¬1). وبناء على خوجة أيضا فان ابن عمر كان قريبا من امرأة الداي حسن باشا الجزائر الأسبق (¬2)، ويبدو أن ابن عمر كان قليل الخبرة، وأنه لم يسع إلى هذا المنصب ولكن المنصب سعى إليه، وأنه، كبعض زملائه قد قبله كرها. وقد كانت أمامه مشاكل لا تحصى. فكان عليه أن يواجه ثورة الباي السابق ثم ثورة ابنه (ابن بومزراق)، وأن يواجه شكوك وثورة أهل الإقليم الذي تولى عليه والذي كان من أفقر الأقاليم، وأن يواجه أخيرا ضغط الفرنسيين الذين ينتظرون منه إخضاع الإقليم إليهم ¬_____ (¬1) المرآة ص 244، ويذكر دي رينو أن تعيين ابن عمر قد تم بقرار من المجلس البلدي لمدينة الجزائر صادر بتاريخ 15 نوفمبر - 1830. انظر (أخبار الجزائر) ص 134. (¬2) المرآة ص 244.

فهل كان ابن عمر مؤهلا لهذا الدور؟ تذكر المصادر الفرنسية أنه كان قليل المبادرة، ولم تكن له قدرة لا على التنظيم ولا على الحكم. ومن جهة أخرى أمره كلوزيل عند تعينه (¬1) أن لا يغير شيئا من الإدارة السابقة، وأن يعمل كأنه باي قديم ولكن الفرنسيين يتهمونه بأنه قد ترك كل شيء يتدهور، وأنه فشل في جلب النافرين إلى فرنسا، وبالأخص عائلات المدية عاصمة الإقليم. وقد اقتصرت أعماله إذن على تسيير الأمور العادية داخل المدينة، وهي أعمال تتعلق بالقضاء والمخالفات ونحوها (¬2). ومع ذلك فقد تعلق به أهل المدية ورغبوا في بقائه عليهم حين أراد أن يعود إلى مدينة الجزائر في صحبة الجيش الفرنسي. فابن عمر كان يعرف أنه لا قدرة له على مواجهة الموتف بعد انسحاب الجيش الفرنسي من المدية ولكن المواطنين خافوا من حلول الفوضى فأصروا على بقائه بينهم. كان كلوزيل قد دخل المدية في 23 نوفمبر 1830 وأخذ بومزراق أسيرا، وعين بدله ابن عمر المذكور، وترك معه حامية بقيادة دانليون Danlion وعاد إلى الجزائر. وإذا كان بومزراق قد استسلم وذهب إلى الاسكندرية فان ابنه الشاب سي أحمد قد ظل ثائرا، ويقال أن كلوزيل قد ارتكب غلطة بعدم اعتقاله مع أبيه (¬3) وعلى أية حال فانه قد ظل زمنا في الببدة إلى أن أحس بأن الظروف مواتية لإعلان الثورة، ثم عاد إلى المدية. مقر حكم والده وقاد الثائرين ضد ابن عمر واحتل دار الباي الريفية، بل كان يدخل المدية دون أن يجرؤ الباي على اعتقاله. وعندما تفاقم أمره طلب ابن عمر النجدة من القائد الفرنسي العام في الجزائر الذي خلف كلوزيل. فجاء بنفسه (أعني برتزين Berthezene) . وهناك انسحب سي أحمد بن ¬_____ (¬1) ظل الفرنسيون يتبعون تقليد العثمانيين عند إسناد منصب الباي إلى من يرغبون وهكذا كانوا يخلعون على الشخص قفطانا ويسلمونه سيفا. ولكن منصب لباي سرعان ما زال. (¬2) أنظر دي رينو، ج 1، ص 161 - 162. (¬3) نفس المصدر، ص 198.

بومزراق من دار الباي، ولكن برتزين فشل في مطاردة العرب. ولذلك قرر انسحاب الفرنسيين تماما من المدية وأخذ معه الباي ابن عمر وعاد إلى الجزائر. أراد برتزين بعد ذلك أن يعين ابن غمر بايا على وهران، ولكن القائد الفرنسي في تلك الناحية: الجنرال بوايي Boyer ، رفض التعاون مع ابن عمر (¬1). وقد ظل كذلك إلى عهد الدوق دي روفيغو الذي اضطهد طبقة الحضر فذهب ابن عمر. كما ذهب ابنه حمدان بن أمين السكة. إلى باريس خوفا من توجيه الاتهام إليه بأنه يعمل لصالح عودة الحكم الإسلامي. وهو الاتهام الذي وجه إلى زملائه العاملين في صفوف الفرنسيين من حضر الجزائر (¬2). ولنذكر هنا بأن ابن عمر كان من التجار الأثرياء وليس عن الحكام، وأن الفرنسيين قد استخدموه فترة ثم تخلوا عنه، وأنه ذهب إلى باريس فانضم هناك إلى زملائه المنفيين فكونوا حولهم حلقة من المعارضين، والفضوليين، وكان بعضهم يقوم بدور نشيط في هذه الأثناء كحمدان خوجة ولكن بعضهم ظل مغمورا، دون أن نعرف السبب حتى الآن. ونشير هنا إلى أن ابن عمر لم يكن من بين الأشخاص الذين مثلوا أمام اللجنة الأفريقية بناء على الوثائق التي أمكننا الاطلاع عليها. وفي باريس أعطى وسام الشرف وكان الناس هناك يخاطبونه (بالسيد الباي) (¬3) غير أنه من الواضح أن هذا الوسام لم يكن علامة على اعتراف فرنسا بخدماته فقط ولكنه كان محاولة لإسكاته، لأن هناك عددا آخر من أمثاله كانت توجه إليهم الاتهامات في ¬_____ (¬1) نفس المصدر ص 222. (¬2) نفس المصدر ص 259. (¬3) نفس المصدر أنظر أيضا توماس كامبل (رسائل من الجنوب)، ج 1، ص 216 - 218، 226 - 227 وكان كامبل قد التقى به وتناول عنده العشاء وصفه أوصافا حية.

الجزائر بينما تمنح لهم الأوسمة في باريس. وكان ابن عمر إذ ذاك يبلغ 47 سنة وكان يتقن الفرنسية، وكان يلبس لباس أهل الحضر ويطعم الفقراء. وإذا كان الحاج ابن عمر قد ولاه الفرنسيون منصب الباي فان ابنه، حمدان بن أمين السكة قد ولوه منصب (أغا العرب) (¬1) ويبدو أنه بوصية من بوضربة (الذي كان محل ثقة بورمون) عينه بورمون، القائد الأعلى للجيوش الفرنسية، في ذلك المنصب. كان ابن أمين السكة تاجرا، من حضر الجزائر الذين لا يخرجون من المدينة إلا نادرا. ولسوء الحظ أننا لا نعرف إلا القليل عن حياته قبل مجىء الفرنسيين ويذكر الفرنسيون، بعد سقوط أسهمه في أعينهم، أنه كان شرها وغير أمبن، وأنه لم يكن يعرف البلاد، وبالتالي لم يكن يعرف مهمته. ومن جهة أخرى كانت شجاعته محل شك لديهم (¬2). ويتسائل المرء عن فائدة تعيينه في منصب هام كالذي أسند إليه ما دام غير مؤهل للقيام به. وعلى أية حال فقد فشل في مهمته، على الأقل في نظر الفرنسيين، لأنه لم يستطع أن يجعل عرب سهل متيجة ينسون أنه تاجر وأنه من الحضريين ولأنه لم يعد محل ثقة لديهم (¬3). كان سهل متيجة الذي عين حمدان بن أمين السكة للإشراف عليه باسم الفرنسيين مقسما إلى عدة أوطان، وعلى كل وطن قائد يأتمر بأمر الآغا. وأهم هذه الأوطان هي: وطن بني خليل وعلى رأسه الشرقي، وطن بني موسى وعلى رأسه أوشفون، وطن الخشنة وعلى رأسه العمرى، وطن السبت وعلى ¬_____ (¬1) هدذا ذكره دي رينو، وهو من خبراء الجزائر لأنه تولى مسئولية (المكاتب العربية) (البير آرب) مدة طويلة. أنظر ص 134، ولكن العلاقة بين الرجلين ما زالت غير واضحة. (¬2) نفس المصدر، ص 100 والواقع أنني إلى الآن غير مطمئن إلى الصلة المذكورة بينه وبين مصطفى بن عمر. (¬3) الظاهر أن فشله لا يعود إلى كونه حضريا ولكن إلى كونه كان يمثل الفرنسيين.

رأسه عبد الوادي. وهناك شرشال التي اعترفت بالبركاني شيخ بني مناصر، وهناك أيضا القليعة التي كانت تخضع لعائلة ابن المبارك. وهو مرابط له سمعة واسعة. هذه هي الأوطان والقبائل التي كان على ابن أمين السكة أن يتفاهم معها أو بجلبها إلى الفرنسيين كما تقتضي مهمته. فماذا فعل؟ إنهم يقولون إنه لم يعرف كيف يستفيد من علاقته بعرب متيجة. فقد قام بارهاب كبير ضدهم بعد انسحاب الفرنسيين من مدينة البليدة (عاصمة السهل) فجلب عليه السخط الكبير من هؤلاء العرب. وهكذا أصبح لا يستطيع الظهور بعد ذلك في متيجة دون تأييد الجيش الفرنسي. وقد أدت هذه السياسة إلى أن أصبح كل السهل في فوضى متناهية، باستثناء مدينة القليعة التي سيطر فيها مرابطو ابن مبارك على الموقف وحافظوا على النظام (¬1). أثناء حملة الفرنسيين على المدية (نوفمبر 1830) تركوا ابن أمين السكة في الموزاية لكي يرقب تحركات العرب في متيجة. ولكن بدلا من ذلك دخل داره وترك الأمور على حالها مفضلا، كما يقولون، عدم التعرض للأخطار. كان الفرنسيون ينتظرون منه أن يتجول في المنطقة، وأن يكسب العرب، وأن يتعرف على المشارع التي يفكرون فيها. ولكنه لم يفعل، فكثرت الثورات وورجه الفرنسيون اضطرابات لم يتوقعوها. فهل كان الآغا (ابن أمين السكة) متواطئا مع عرب المنطقة؟ هل كان مهملا فقط وليس لموقفه أية علاقات سياسية؟ هذا ما لا نستطيع الإجابة عنه الآن. على أية حال فقد وجه إليه الفرنسيون تهمة عدم القيام بالواجب فطلب من كلوزيل أن يأذن له بجولات في متيجة ليبرهن له على إخلاصه وكفاءته، وجاء في تقريره بعد ذلك أنه تبادل إطلاق الرصاص مع العرب الثائرين. ثم أرسل ¬_____ (¬1) نفس المصدر، ص 134 - 137.

من البليدة رأس شخص قال عنه إنه المسئول عن مقتل المدفعيين الفرنسيين الخمسين. (¬1). وبعد تفحص الرأس تبين أنه لشخص آخر كان صديقا، وليس عدوا للفرنسيين (¬2). وإزاء ذلك عزله كلوزيل في 7 جانفي (يناير) 1831 من منصبه، وألغى منصب الآغا مدة قبل أن يعين له شخص آخر. وقد أرغمه كلوزيل أيضا على الذهاب إلى فرنسا خوفا من أن يشترك في مؤامرة ضد السلطات الفرنسية مع القبائل التي كان آغا عليها أو مع زملائه الحضريين. ويقال إن ابن أمين السكة كان شابا طموحا يخشى منه. وهكذا نفي إلى باريس حيث تزوج وظل هناك عدة سنوات بعيدا عن مسرح الأحداث، ثم عاد إلى الجزائر، ولكن دي روفيغو، قائد الجيش الفرنسي، نفاه من جديد أثناء حملته التي قام بها لتصفية العناصر الحضرية الهامة من مدينة الجزائر (¬3). ويذكر حمدان خوجة أن ابن أمين السكة كان في باريس أثناء تأليف كتابه (المرآة) (1833) (¬4). وقد انتصر خوجة لزميله في المهنة وفي الغربة واتخذه حجة على تعسف السياسة الفرنسية في الجزائر عندئذ. فالفرنسيون قد عينوه آغا ثم اتهموه بالتهاون، ومع ذلك أعطاه كلوزيل، كما يقول خوجة، شهادة الإخلاص عند سفره إلى باريس، فاذا كان الأمر كذلك، فلماذا، بناء على خوجة، يعزلونه من منصبه وينفونه من وطنه (¬5). ولعل مما يؤكدكلام خوجة أن الفرنسيين قد منحوا الأغا (ابن أمين السكة) وسام لشرف أثناء إقامته في باريس، ويذكر بعضهم أن السياسيين والصحفيين الفرنسيين كانوا يدعون حمدان بن أمين السكة، الذي عزلوه في الجزائر، باسم السيد ¬_____ (¬1) رقعت هذه الحادثة في البليدة أثناء معركة ضد الفرنسيين هناك. (¬2) أنطر دي ريفو، ص 143، 154 - 155. (¬3) نفس المصدر، 258. (¬4) المرآة، ص 255. (¬5) نفس المصدر ص 255 - 256.

الآغا (¬1). ومن الحضريين الجزائريين الذين ظلوا مغمورين المفتي الحنفي سيدي محمد ابن العنابي. كان شخصية فاضلة ومحترمة من معاصريه. وقد هاله ما كان يجري في البلاد ورآه منافيا لشروط التسليم وضد مبادىء الأمة الفرنسية نفسها. لذلك كتب سلسلة من الرسائل إلى الجنرال كلوزيل يذكره فيها بنصوص الاتفاق الجزائري الفرنسي وينبهه إلى العواقب التي قد تجر إليها السياسة المتبعة آنذاك. وقد أرادت السلطات الفرنسية إبعاده من الجزائر فاختلفت له سببا وهو أنه كان يتآمر ضد الدولة بالاتصال بالعرب , وأنه كان يعمل لصالح عودة الحكم الإسلامي إلى الجزائر. وعلى أية حال فقد ألقى كلوزيل عليه القبض وسجنه بعض الوقت ثم نفاه. ويذكر خوجة أن اعتداء شنيعا قد وقع على عائلته أيضا (أي العنابي) (¬2). حاول خوجة أن يفهم التهمة الموجهة إلى صديقه العنابي فكان يذهب مرة إليه ومرة إلى كلوزيل. وقد أخبره هذا بأن المفتي كان على اتصال بالعرب وأنه كان يحاول إثارتهم ضد الفرنسيين لذلك ألقى عليه القبض. وعندما ذهب إلى المفتي نفى التهمة نفيا قاطعا. وأخيرا عرف خوجة المبرر وقصه بشيء من العاطفة. فقد زار أحد مترجمي الجيش الفرنسي المفتي العنابي وأعلن له أن كلوزيل سيجلو عن الجزائر وأنه ينوي تسليم مقاليد الحكومة إليك فهل في استطاعتك أن تنظم جيشا وأن تعد قوة تهدىء البلاد وتدافع عنها؟ فأجابه العنابي بأنه سيبذل جهده في التنظيم عندما يحين الوقت. ثم سأله المترجم: وهل ستصلك الجنود من داخل البلاد أو أنك ستعتمد على ¬

_ (¬1) دي رين، 259. ويذكر جورج إفير G. yver (حمدان بن عثمان خوجة) المجلة الأفريقية - 1913، ص 96 هامش 2، أن حمدان بن أمين السكة قد تزوج بإحدى الغسالات مما أثار فضول الصحافة المحلية، وأنه قد مات سنة 1834. (¬2) أنظر دي رينو ص 155 - 156. وحمدان خوجة، المرآة، ص 262 - 265.

قواتك في مدينة الجزائر وحدها؟ فأجابه العنابي: سأجند، عندما يحين الوقت، من المدن ومن جميع أنحاء البلاد. وسيكون في استطاعتي أن أجند ثلاثين ألف رجل. ويؤكد خوجة أن المترجم المذكور قد أخفى شخصين ليشهدا على هذه المحادثة (¬1). بهذه الوسيلة أوقع الفرنسيون المفتي العنابي في الفخ، في زعمهم، ووجدوا له حجة على إقصائه من البلاد. وقد حضر خوجة وطلب من كلوزيل أن يمهل المفتي بعض الوقت حتى يبيع أملاكه وينهي التزاماته. ويبدو أنه كان من الأغنياء حيث يذكر خوجة أنه كان يملك العقارات والأثاث ولم يحصل له على عشرين يوما إلا بشق النفس وبتقديم ضمانات شخصية. وخلال هذه الفترة استطاع أن يقضي حاجاته. وفي آخرها غادر الجزائر إلى الاسكندرية. وقد كان اتخاذ مثل هذا الإجراء سبب في صمت السلطات التشريعية في البلاد كالقضاة والمفتيين، فهم لم يعودوا إلى الاحتجاج على خرق شروط التسليم خوفا من مصير المفتي العنابي. وهكذا اختفى عنصر من عناصر المقاومة في مدينة الجزائر، ورغم أننا لا ندري مدى التأثير الذي نسب إلى المفتي العنابي بين العرب. فإن الظاهر أنه كان مبالغا فيه. ولكن وجود العنابي في سلطة الافتاء وشخصيته القوية وهمته العالية وجرأته على معارضة الاحتلال -كل ذلك لفتت إليه الأنظار وجعلته قادرا، في أعين أعدائه على الأقل، على القيام بثورة ضدهم تجعل وجودهم في الجزائر محل شك. لذلك قرروا ضربه قبل أن يضربهم. وقد استمرت هذه السياسة من كلوزيل إلى روفيغو إلى بوجو. وهي سياسة تقوم على إبعاد جميع العناصر (الخطرة) ذات النفوذ أو التي يمكن أن تلعب دورا اجتماعيا وسياسيا بين المواطنين، حتى يخلو الجو للسلطات الجديدة (¬2). ¬

_ (¬1) خوجة (المرآة) ص 263 - 264. (¬2) قمنا بدراسة مطولة عن ابن العنابي وآثاره ونشرت في الكتاب التذكاري المهدى إلى الدكتور أحمد عزت عبد الكريم، القاهرة 1976.

أحمد بوضربة لعب دورا بارزا خلال السنوات الأولى للاحتلال، ومع ذلك فلا نعرف عن حياته إلا قليلا. وكل ما نعرفه حتى الآن هو أنه كان من حضر مدينة الجزائر الذين كانوا في الغالب تجارا ميسورين، والذين لم يكونوا على علاقة طيبة مع الحكم العثماني، ولكنهم كانوا راضين بنصيبهم منه على الأقل ظاهريا. ونعرف أيضا أنه كان قد أقام فترة من الوقت في مرسيليا مشتغلا بالتجارة. وهناك تعلم، كما يقول الفرنسيون، اللغة والعادات والتقاليد الفرنسية، وتزوج من فرنسية. وقد تورط هناك أيضا في قضية إفلاس مالي جعلته يغادر مرسيليا ويعود إلى مدينة الجزائر. ونعرف أنه حضر في الرابع من جويليه 1830، لدى الكونت دي بورمون، قائد الجيوش الفرنسية، بصحبة حسن بن حمدان بن عثمان خوجة، وكاتب الباشا، ليفاوض على تسليم المدينة إلى الفرنسيين، مقتنعا بما أعلنوه عن أنفسهم من أنهم جاءوا محررين للجزائريين من ربقة الاضطهاد (التركي). ومنذئذ تكونت علاقة بينه وبين بورمون، فكان يثق فيه ويستشيره في شئون الجزائر الداخلية (¬1). وبورمون هو الذي ولاه رئاسة أول مجلس بلدي في مدينة الجزائر. وكان يأخذ برأيه في تعيين الأهالي ولا سيما الحضريين، في المناصب الجديدة. فهو الذي اقترح، كما قيل، إسناد منصب آغا العرب إلى الحضري حمدان بن أمين السكة، وهو الذي أوصى بتعيين الحاج مصطفى بن عمر بايا على التيطري، وكان يقترح سياسة فرنسا نحو باي قسنطينة وباي وهران. وقد استمر على مكانته وتأثيره عند خلفاء بورمون أيضا فقد ولاه كلوزيل إدارة أملاك مكة والمدينة، ووضع فيه برتزين ثقته. يصفه الفرنسيون بعدة أوصاف متناقضة أحيانا. فهم من ناحية يثقون ¬_____ (¬1) دي رينو ج 1 ص 99.

فيه وفي إخلاصه ولكنهم من ناحية أخرى يتهمونه بأنه كان يرأس (لجنة المغاربة) التي كانت تعمل لصالح استعادة الحكم الإسلامي في الجزائر والتي كانت على اتصال مستمر مع الباشا المخلوع (¬1). وقد وصفوه بأنه كان لطيف المعشر وداهية، ولكنه كان بدون مبادىء أخلاقية، وكان كثير المشاكل أكثر من كونه ماهرا عمليا. وفي عهد برتزين بدأ يلعب دورا هاما بين الأهالي، حسب رواية بعض الفرنسيين، الذين كانوا حتى ذلك الوقت يمقتونه لسوء أخلاقه وسمعته السيئة، لا سيما بعد أن ظهر اسمه عدة مرات أمام المحاكم في قضايا مالية ونحوها (¬2) وقد اتهمه بعض الفرنسيين أيضا بإثارة القلق والتآمر، بل بارتكاب أعمال خطيرة (¬3). أما في عهد الدوق دي روفيغو فان سهم بوضربة قد هبط، كما هبطت أسهم جميع الحضريين أمثاله. فقد رأى الدوق أن بوضربة وجماعته يشكلون خطرا على الاحتلال الفرنسي وأنهم يعملون بأقنعة مختلفة. لذلك قرر التخلص منهم بشتى الوسائل. فسجن بعضهم، وأبعد آخرين عن مدينة الجزائر. وهكذا نفيت في عهده (لجنة المغاربة) التي كان من أعضائها بوضربة، وابن أمين السكة، وابن عمر، وحمدان خوجة، وابراهيم ابن مصطفى باشا. وكان من نتيجة ذلك أن التقى هؤلاء مرة أخرى في باريس حيث لفتوا إليهم الأنظار بمظهرهم الجزائري - الأفريقي، وباتصالاتهم مع رجال الصحافة والصالونات، بل والبرلمانيين. ويهمنا أن نشير إلى أن معرفتنا بدور بوضربة في باريس غير عميقة. فقد كان على خلاف مع حمدان خوجة في السياسة التي يجب اتباعها مع ¬_____ (¬1) جورج إفير (مذكرات بوضربة) المجلة الأفريقية 1913 عدد 289 - ص 218. (¬2) دي رين، ج 1. ص 172 (¬3) نفس المصدر أنظر أيضا إفير. ص 218 هامش 2.

الفرنسيين. وقد يكون هذا الخلاف شخصيا وقد يكون سياسيا. وبوضربة يعرض بخوجة في (مذكراته) فيصفه بأنه من الذين حملوا أقلامهم لاستعمالها في الهجومات الشخصية (¬1). ويفخر بأنه ليس من هذا النوع وأنه ينظر إلى الأمور نظرة واقعية وأنه يتحرى الحقيقة وأنه يعمل لصالح مواطنيه، ولفرنسا في نفس الوقت. وقد ظهر بوضربة، كما ظهر خوجة، عند تكوين اللجنة الأفريقية (7 جويليه 1833) فكتب إليها مذكرة. كما كتب إليها خوجة مذكرة. ولكن شتان بين العملين روحا وعاطفة وهدفا. فبينما كان خوجة ثائرا على الأوضاع، غير مؤمن بالتعاون المفروض بين الفرنسيين والجزائريين، كان بوضربة ناقدا للأوضاع ولكنه قابل لها مقترحا حلولا عملية لفائدة التعاون الفرنسي- الجزائري. والمذكرة مقسمة إلى سبعة فصول تضم عناوين مثل التنظيم البلدي، وتطبيق القضاء والعدل. والتنظيمات الخاصة بالمناطق الداخلية، وإدارة المؤسسات الخيرية، وغيرها. وإلى جانب المذكرة مثل بوضربة أمام اللجنة الأفريقية وتقدم عندئذ بخلاصة أفكاره حول العلاقات الجزائرية - الفرنسية. وقد ذكرنا من قبل هذه الآراء، التي لم تكن في الواقع سوى خلاصة للمذكرة، ولذلك فلا نرى داعيا لتلخيص المذكرة هنا. ويذكر دي رينو أن اللجنة الأفريقية قد استمعت بعناية لأفكار بوضربة (¬2) كما يذكر إفير أن أفكار بوضربة لم تكن كلها تمنيات مثالية (يوتوبيا)، بل إن الحكومة الفرنسية قد طبقت بعضها، ولا سيما الأفكار الخاصة بالتنظيم القضائي والإدارة البلدية (¬3). ماذا فعل بوضربة بعد 1834؟ وكيف انتهت حياته؟ هذا ما لا نستطيع الإجابة عنه حاضرا. ولعل علاقة بوضربة بالفرنسيين في بداية الاحتلال ¬_____ (¬1) إفير (ص 220) وقد أشار خوجة إلى خلافه مع بوضربه في كتابه (المرآة) (باريس) 1823 ص 257. (¬2) أشار إلى ذلك إفير ص 219 هامش 1. (¬3) نفس المصدر.

ليست غريبة عن علاقة بعض الجزائريين أثناء وعند نهاية الاحتلال. فرغم (اعتداله) وتعلقه بفكرة التعاون بين الطرفين لقي جزاءه نفيا واتهاما بسوء الخلق والتآمر. ونحب أن نشير في نهاية هذا البحث إلى أن بوضربة، كخوجة، كان على إطلاع واسع بأحوال بلاده سواء في المدن أو في الريف، وسواء في إقليم الجزائر أو في بقية الأقاليم (¬1). وإذا كانت حياة بوضربة غامضة فان حياة حمدان خوجة كانت واضحة. فقد كان تاجرا كبيرا ومالكا غنيا من أثرياء مدينة الجزائر. كانت له أراضي في سهل متيجة وأملاكا في مدينة الجزائر. وقد ولد في أواخر القرن 18 من أسرة لها مكانة بارزة في الدولة. فكان عمه أمين السكة (أي مسئول المالية)، وكان والده أستاذا في الشريعة وأصول الدين ثم كاتبا من الدرجة الأولى للدولة. وقد مكنه ذلك من ثقافة عميقة ومعرفة شاملة بشئون الدولة والبلاد عامة، كما مكنه من السفر إلى المشرق وإلى أوربا والتعرف على أحوال العالم القديم (الشرق) والجديد (أوربا)، وكان ذلك في وقت دقيق يشهد تغيرات جذرية في السياسة الدولية (مؤتمر فيبنا)، وفي التفكير الإنساني نتيجة الثورة الصناعية. وعند الاحتلال كان خوجة حاضرا في مدينة الجزائر وقد لعب دورا هاما. ولكن من وراء الستار. فهو الذي، على ما قيل، كانت له اليد في الدعوة إلى اجتماع الحضر الذين طلبوا على أثره من الباشا الاستلام. وقد كان محل ثقة الباشا ولذلك أرسله إلى صهره الآغا إبراهيم ليقنعه باستئناف القتال بعد هزيمته (الآغا) في معركة أسطاويلي، وكان ابنه حسن هو الذي صحب بوضرة وكاتب الباشا للتفاوض مع بورمون على شروط التسليم. ويقال إن خوجة كان موضع ثقة بورمون الذي ولاه عضوية المجلس البلدي لمدينة الجزائر، وفي عهد كلوزيل الأول لم يكن خوجة مغضوبا عليه بعد، فكلوزيل هو الذي ولاه لجنة تقدير تعويضات الأملاك المصادرة ¬_____ (¬1) تشير مصادر أخرى إلى أن بوضربة كان يعمل في مدينة الجزائر لحساب الأمير عبد القادر، كما تقول إنه قد توفي في المغرب الأقصى.

وأسند إليه دراسة طالب اليهود من فرنسا لدفع تعويضات عن القروض التي كانوا قد دفعوها إلى الكراغلة، كما أصبح خوجة، متوليا شئون المراسلة بين بومزراق، باي التيطري، وبين السلطات الفرنسية. غير أن حظوظه قد هبطت لعدة عوامل. فقد اتهمته أرملة الآغا يحيى بأخذ نقود منها لكي يمنع إرسال ابنها إلى فرنسا (¬1). وكان خلافه مع بوضربة قد أضر به. ويذكر بعضهم أن تدخله الملح لصالح المفتي العنابي قد أساء إليه أيضا (¬2). ومن جهة أخرى تآمر ضده اليهود الذين لم يكونوا يثقون فيه. أما موقفه غير المتسامح من احتلال المساجد فقد جعله في أعين الفرنسيين من الحاقدين عليهم. وإذا كانت هذه أمور يمكن التسامح معها، فان الفرنسيين لم يكونوا ليتسامحوا معه في الدعاية الواسعة التي قالوا إنه قد نشرها بين الجزائريين عن هزيمة الفرنسيين وانتصار المسلمين في المدية. كان هذا الموقف سببا في عزله من الوظائف التي أسندت إليه والتي قال عنها بأنه قد قبلها لأنه لم يكن له الخيار. وقد وصف هو قرار العزل بأنه كان (بردا وسلاما) عليه (¬3)، كان خوجة على اتصال مع الباشا حسين أثناء زيارة حسين إلى باريس سنة 1831. وكان له به علاقة عالية وسياسية أيضا (¬4). وقد اختلفت آراء الفرنسيين حول خوجة. فبيشون Pichon الذي كان عندئذ المتصرف المدني، قد اعتبره رجلا قديرا، أما كلوزيل فقد ¬_____ (¬1) كان أن طلب كلوزيل من أعيان مدينة الجزائر خمسين من أبنائهم ليرسلهم إلى فرنسا ليتعلموا الفرنسية في الظاهر. ولكن الهدف كان أخذهم كرهائن، وانظر خوجة، ص 256. (¬2) اتهم العنابي بالتآمر على أمن الدولة وحكم عليه بالنفي. انظر سبقا. (¬3) المرآة ص 257. (¬4) إفير (حمدان بن عثمان خوجة) ص 191، هامش 2.

عزله واتهمه بالتآمر. وقد وقف اليهود، كما ذكرنا، والمسيحيون أيضا موقفا عدائيا من المواقف الواضحة التي وقفها ضد انتهاك المساجد وتأثير النفوذ اليهودي كل حساب العرب. وكان لخوجة رأي في هؤلاء أيضا. فقد كان ساخطا على كلوزيل سخطا شديدا، وكان ناقما على برتزين، خليفة كلوزيل وعلى بيشون. وإذا كنا قد عرفنا أن الدوق دي روفيغو قد وقف من الخضريين موقفا عدائيا فانه قد وقف من خوجة في أول الأمر، موقفا مختلفا. فقد أعاد إليه داره التي كان قد استقر فيها أحد الضباط، وأرسله للتفاوض مع الآغا محيي الدين بن مبارك، مرابط القليعة، وكلفه بمهمة سرية لدى الحاج أحمد باي قسنطينة. فذهب مرتين إلى قسنطينة (أوت وأكتوبر 1832 ودامت رحلته إلى ديسمبر من نفس السنة) محاولا إقناع الباي باقتراح الدوق وهو الاعتراف بالسيادة الفرنسية ودفع جزية سنوية لفرنسا (¬1). ثم توترت العلاقات بينه وبين الدوق فنفاه من الجزائر. كما أن اليهودي بكري قد أغرقه في قضايا مالية شائكة جعلته يتابعها لدى مجلس الدولة في فرنسا. وفي شهر ماي 1833 كان في باريس يدافع عن قضية الجزائر ويشرحها أمام الرأي العام الفرنسي والعالمي. وكان للضغط الذي قامت به فئة المنفيين الجزائريين في باريس الفضل في تحرك البرلمان الفرنسي وظهور اللجنة الأفريقية. وفي نفس الشهر المذكور أرسل خوجة مذكرة إلى مجلس الدولة الفرنسي عن حالة الجزائر، وفي 3 جوان أرسل، مع ابراهيم بن مصطفى باشا، ¬_____ (¬1) رحلة خوجة إلى قسنطينة ما تزال غامضة. فهل كان يعمل لصالح الدوق، أو لصالح الحاج أحمد (كما اعترف هو أمام اللجنة الأفريقية) أو لصالح الباشا حسين الذي كان على اتصال به، أو لصالح شيء آخر. حول هذه الرحلة أنظر أيضا الكتيب الذي ألفه علي أفندي بن حمدان بن عثمان (خوجة) وذكريات رحلة من الجزائر إلى قسنطينة عبر الجبال. ترجمه إلى الفرنسية دي سولسي Desaulcy (ميتز، 1838). ومما يذكر أن على هذا نذهب مع أبيه إلى قسنطينة. لم نعثر بعد على النص العربي لهذا العمل.

مذكرة طويلة إلى المارشال سولت وزير الحربية، واقترحا فيها بعض مطالب الجزائريين مثل تكوين لجنة تحقيق. وفي 9 جويليه أرسل خلاصة للمذكرة إلى الحكومة الفرنسية. وفي 10 منه أرسل خوجة نسخة من المذكرة ورسالة إلى الملك الفرنسي وناشده التدخل في الجزائر. وبعد أن تكونت اللجنة أصبح خوجة هو صوت الجزائريين الذين فوضوه ليتحدث باسمهم. ولذلك رفع في 16 سبتمبر رغبات الجزائريين على الملك. وقد ألح فيها على شيئين: الحرية والاستقلال والتمتع بالحقوق التي يتمتع بها الأوربيون، ثم كتب (المرآة) لتنوير الرأي العام. وكان الكتاب جاهزا تقريبا منذ جوليه غير أن خوجة لم ينشره انتظارا لتحسن الأوضاع وظهور نتائج اللجنة الأفريقية. غير أنه قرر نشره في أكتوبر، وأرسل منه نسخة مع رسالة إلى أعضاء اللجنة المذكورة (¬1). وينص المؤلف أن (المرآة) سيكون في جزئين يتناول في الأول الجزائر في العهد العثماني وإدارة بورمون وكلوزيل الأولى، ويتناول في الثاني إدارة برتزين وبيشون. ولكن لم يظهر منه سوى الجزء الأول. خاب أمل خوجة في اللجنة الأفريقية التي لم تحقق ما كان يريد. وقد عرضته آراؤه في (المرآة) إلى المحاكمات بدعوى التشهير بالغير، ولم يقبل له أي مطلب استئناف حتى الذي تقدم به أمام مجلس الدولة. ومن جهة أخرى عاد كلوزيل، الذي كان ساخطا عليه، حاكما عاما على الجزائر سنة 1835 (¬2). وقد أصدر كلوزيل قرارا في 26 سبتمبر سنة 1836 بطرد حسن بن حمدان خوجة من الجزائر بدعوى أنه كان من المتآمرين على فرنسا. أما ابنه الآخر، على، الذي كان قد صحبه إلى فرنسا فقد عاد إلى الجزائر خلال مارس 1839. وأما خوجة نفسه فقد ذهب إلى اسطانبول حيث ظل ¬_____ (¬1) تاريخ الرسالة، باريس، 26 أكتوبر 1833. (أنظر الحركة الوطنية الجزائرية) ملحق 3. (¬2) لا ندري ما إذا كان خوجة في الجزائر بعد 1835 ونذكر هنا أنه قد ظهر كتيب بعنوان (رفض كتاب خوجه) باريس (1824) فرد خوجة بكتيب عنوانه (الرد على رفض كتاب حمدان خوجه) باريس (1824).

على اتصال بالحاج أحمد باي قسنطينة يترجم رسائله إلى التركية ويطلع السلطان على أحوال الجزائر. وهناك كتب خوجة كتابا نشره بالعربية والتركية وهو (إتحاف المنصفين والأدباء بمباحث الاحتراز من الوباء) (¬1). وأهداه بالشعر إلى السلطان محمود الثاني. وإذا كان (المرآة) يظهر مقدرة خوجة التاريخية والسياسية فان (إتحاف المنصفين) يظهر مقدرته العلمية والدينية. من الواضح أن خوجة يحتاج إلى أكثر من بحث، فحياته خصبة، واطلاعه واسع، وآماله عريضة، وعلاقاته كثيرة وليس ما ذكرنا عنه سوى خلاصة علاقاته وبعض الخطوط من حياته. أما آراؤه وأفكاره وأهدافه فقد تناولناها في (الحركة الوطنية الجزائرية) (¬2). وعسى أن يتاح لنا الوقت لإعطائه حقه من الدراسة والعناية. والشيء الذي نريد أن نخلص إليه أنه بنهاية خوجة انتهت حركة (اللجنة المغربية) التي كانت تضم العناصر التاجرة والمثقفة والتي حاولت أن تلعب دورا خطرا بالوقوف بين عهدين عثماني وفرنسي. ولعل رومانتيكية خوجة واعتدال بوضربة وعدم وجود قاعدة شعبية قد ساهمت في تصفية هذه الحركة. ... ¬

_ (¬1) حققه ونشره محمد بن عبد الكريم نشر الشركة الوطنية الجزائر 1918. (¬2) طبع دار الآداب بيروت 1969 ص 37 - 44. من الذين درسوا آثار خوجة أيضا عبد الجليل التميمي في كتاب (بحوث ووثاتق). والجدير بالذكر أن محمد العربي الزبيري قد ترجم (المرآة) إلى العربية. كما أن محمد بن عبد الكريم قد نشر عنه دراسة خاصة، كما قام بترجمة (المرآة) أيضا.

الفصل الخامس مرابطون وثوار

الفصل الخامس مرابطون وثوار بعد توقيع معاهدة الاستسلام بين حسين باشا والكونت دي بورمون (5 يوليو عام 1830) وانتهاء المقاومة الرسمية، بدأت المقاومة الشعبية التي كان على رأسها مرابطون يجمعون الساسة إلى الدين وثوار لهم أطماع دنيوية حادة. ولما كان أهل المدينة قد فظلوا السلام على الحرب وقرروا عدم الوقوف في وجه الجيش الفرنسي، فان عرب البادية من الفلاحين وعمال الأرض ورؤساء القبائل ورجال الدين قد قرروا المقاومة ومنع تقدم الجيش الفرنسي خارج المدينة. ومن الطبيعي أن يكون أول من اصطدم بالعدو، خارج المدينة، هم سكان متيجة الممتد من الساحل إلى جبال الأطلس. كان هناك حوالي اثنتى عشرة قبيلة. لكل منها رئيس أو قائد. وأهمها بنو خليل، والخشنة، والسبت، وبنو موسى. وبالإضافة إلى هذه القبائل كانت هناك مدن صغيرة منتشرة في السهل أهمها البليدة، والقليعة، وشرشال، وبوفاريك، وكان معظم السكان من المزارعين والتجار الصغار. وعندما شعرت القبائل والمدن المجاورة بالخطر تحالفت وقررت المقاومة، ومن ثم ابتدأت سلسلة من الاصطدامات مع العدو وتحولت شيئا فشيئا إلى ثورة عامة. وقد ظهر خلال هذه الثورة زعماء لعبوا دورا هاما في السنوات الأولى من الاحتلال، منهم ابن زعمون، والحاج سيدى السعدي، والحاج محيي الدين بن المبارك، ولم تكن المقاومة مقتصرة على هؤلاء العرب، بل كان هناك في بقية الإدارة العثمانية مقاومون أمثال مصطفى بومزراق، باي التيطري، وإبراهيم باي قسنطينة السابق.

من أوائل المقاومين ابن زعمون، والواقع أننا لا نعرف عنه إلا أشياء متفرقة غير كاملة لأن تكون صورة واضحة عن حياته وأفكاره. وقد حاول الفرنسيون دفن أخباره إلا ما كان منها مرتبطا بانتصار جيشهم. كان ابن زعمون من قبيلة فليسة وكان قد عزم على منع تقدم الجيش الفرنسي نحو البليدة فجمع عرب المنطقة وعرض عليهم القضية بما في ذلك مشروعا يضمن حريتهم ووجودهم ودينهم في مقابل الاعتراف بالسلطة الفرنسية على مدينة الجزائر. كان ذلك في الشهر الأول من الاحتلال حين علم أن بورمون كان ينوي الزحف على البليدة. لذلك كتب إلى بورمون يطلب منه عدم التقدم إلا بعد توقيع معاهدة مع العرب تنظم العلاقة مع الفرنسيين. ولكن بورمون قرر الذهاب إلى البليدة على أية حال في 20 يولية، عام 1830 على رأس جيش من حوالي 2000 من المشاة، وبعض مئات من الخيالة، وبعض قطع المدفعية (¬1). أصبح ابن زعمون صاحب نفوذ كبير في إقليم الجزائر للمقاومة الشديدة التي أبداها في وجه تقدم العدو، وكان تأثيره يزداد يوما. وفي 26 نوفمبر من نفس السنة، أي أثناء إدارةكلوزيل، هاجم ابن زعمون في جيش قوي مدينة البليدة التي ترك فيها الفرنسيون حامية بقيادة العقيد رولير Rulliere. وقد دخلت قواته المدينة ودارت معركة حامية من شارع إلى شارع ومن دار إلى دار مات في جرائها عدد كبير من الحامية الفرنسية ومن السكان أيضا. وفي 27 من نفس الشهر وصل كلوزيل نفسه مدينة البليدة قادما من حملته الفاشلة على مدينة المدية عاصة إقليم التيطري. وقد وجد كلوزيل مدينة البليدة (مليئة بالجثث) على حد تعبير أحد الكتاب ومن الذين قتلتهم قوات ابن زعمون خمسون فرنسيا كانوا يتولون المدفعية. ويقال إن كلوزيل قد حزن لهم كثيرا وقرر في النهاية سحب القوات الفرنسية الباقية من البليدة ¬_____ (¬1) أنظر دي رينو، (أخبار الجزائر) ج 1، ص 100 - 101.

وعدم احتلالها وعاد بجيشه إلى مدية الجزائر (¬1). وهذه المعركة هي التي جعلت كلوزيل يشك أيضا في ولاء آغا العرب عندئذ وهو لسيد حمدان ابن أمين السكة (¬2). وكان الفشل الذي حل بالفرنسيين في المدية وفي البليدة في خريف عام 1830 قد قوى إيمان العرب بالنصر. وقد تقوى ساعد ابن زعمون بانضمام المرابط الحاج سيدي السعدي ودعوته للناس بالجهاد وحمل السلاح. وكانت مقاومة مصطفى بومزواق تزيد أيضا في رفع الروح المعنوية. وقد توزعت هذه القوات في منطقة متيجة فكانت قوات ابن وعمون وسيدى السعدي تحارب على الجانب الأيمن لوادي الحراش أما قوات بومزراق فقد كانت تحارب في منطقة بوفاريك. وخلال صيف 1831 هاجمت قوات ابن زعمون المراكز الفرنسية الأمامية وأشعلت النيران في حصاد المزرعة النموذجية (حوش حسن باشا) قرب وادي الحواش، وهو الحصاد الأول الذي أعده الفرنسيون ليحتفلوا به بمناسبة مرور عام على وجودهم في الجزائر. وقد دار القتال عدة أيام حتى أصبحت العاصمة مهددة، مما جعل القائد العام، الجنرال برتزين، يخرج إلى المعركة بنفسه في جيش كبير يتكون من ست فرق عسكرية، وجميع الفرسان الذين لديه. وبعض المدفعية. وهاجم برتزين قوات ابن زعمون وسيدى السعدي عند مكان يسمى باسم المرابط سيدي أرزين (¬3). ولكن القوات العربية عندما شاهدت ضخامة الجيش الفرنسي انسحبت إلى الجبال المجاورة ولم تشتبك مع العدو. وقد عاد برتزين إلى العاصمة ظانا أنه قد وضع حدا للثورة، ولكنه ما كاد يرجع حتى عادت القوات ¬_____ (¬1) نفس المصدر، ص 149 - 150. (¬2) انظر الفصل الخاص بحضر الجزائر. (¬3) كذا، والظاهر أن الاسم فيه تحريف لا نعرف أصله الآن.

العربية إلى الهجوم (¬1). ولكن ذلك لا يعني أن القوات العربية لم تعان أية هزيمة. ففي معركة بوفاريك الكبيرة خلال خريف 1831 انهزمت قوات ابن زعمون وتفرقت بسبب سوء التنظيم. وكان ابن زعمون قد غضب وتألم من سلوك جيشه خلال هذه المعركة فقرر الانسحاب إلى داره في فليسة وعدم التدخل في أي شيء. وهكذا ظل معتزلا الشئون السياسية مدة طويلة (¬2). وتكاد أخبار ابن زعمون تنقطع منذئذ وقد وجدنا رفيقه سيدي السعدي ينضم إلى الأمير عبد القادر، ولكننا لا ندري ما إذا كان هو قد فعل ذلك أيضا (¬3). ونحن نجد في رسائل كلوزيل (سنة 1830) بعض الرسائل الموجهة إلى ابن زعمون ومع ذلك فان نهاية حياته ما تزال غامضة. والحاج سيدي السعدي الذي سبق ذكره كان من أسرة مرابطة من مدينة الجزائر. وكان قد حج إلى مكة مما رفعه في أعين مواطنيه. ويقال إنه كان طموحا متدينا شجاعا، ويبالغ أعداؤه فيقولون إنه كان يريد أن يخلف حسين باشا في الحكم ويطرد الفرنسيين من الجزائر. وكان سيدي السعدي قد ساهم مساهمة كبيرة في إثارة القبائل ضد فرنسا حين كان يدعو إلى الجهاد وحمل السلاح. وبعد دخول الفرنسيين مدينة الجزائر خرج منها وأقام في هذه القبائل يدعوهم إلى الثورة. وإذا كان ابن زعمون صاحب سيف فإن سيدى السعدي كان صاحب ¬

_ (¬1) دي رينو: ج 1 ص 200. (¬2) نفس المصدر ص 204. (¬3) قادنا البحت إلى معرفة أن ابن زعمون قد انضم بجميع قواته وقبيلته (فليسة) إلى الأمير عبد القادر سنة 1828. ومن الجدير بالذكر أن ابن زعمون كان يتلقى الأوامر من الزعيم الروحي القبائل عندئذ، وهو الشيخ علي بن عيسى أنظر بولسكي (العلم المثلث على الأطلس) - لندن، 1854 ص ص 69.

فكر، لذلك كان موقفه عندئذ كموقف الشيخ الحداد من الحاج المقراني أثناء ثروة عام 1871. وبفضل دعوته وتأثيره هاجم عرب متيجة المنتشرون في الفحص (الضواحي) المزارعين الأوربيين الذين بدأوا يستقرون في السهل. وقد قتلوا منهم عددا كبيرا واضطروا الباقين إلى الفرار إلى العاصمة. وكان لهذه الأحداث أثر على الأوربيين فازدادوا خوفا وانزعاجا وغادروا مزارعهم وجلين. أما في المدينة نفسها فقد أغلق الأوربيون مؤسساتهم وبدأرا يفكرون في الرحيل إلى أوربا ببضائعهم الثمينة، وأصبحوا يعتقدون أنه من الصعب مقاومة هذه الثورة العامة. وهكذا كان يظهر أن (المستعرة الوليدة (الجزائر) كانت تشهد آخر أيامها) (¬1). كان الحاج السعدي يتجول بين القبائل ويدعوها إلى الثورة العامة، وكان صوته مسموعا لمكانته الدينية لأنه كان من المرابطين، وقد علم القائد العام الفرنسي بتحركات السعدي بين القبائل وانضمام كل القواد (شيوخ القبائل) إلى الثورة، ولكنه لم يقم بأي شيء في بادئ الأمر. وزاد من سخط القبائل على الفرنسيين ما ارتكبوه نحو قبيلة العوفية في 7 أبريل عام 1832 التي هاجموها ليلا وأعدموها عن آخرها وحاكموا وأعدموا شيخها، الربيعة، رغم براءة القبيلة (¬2). بل إن أغا العرب، الحاج محيي الدين، قد انضم إلى الثورة، رغم احتفاظه بالمنصب، وترك الثوار يدعون إلى الجهاد في القليعة مقر أسرته ونشاطه. وقد قرر القائد العام القضاء على الثورة فاتهم أغا العرب بالخيانة وطلبه ¬_____ (¬1) نفس المصدر ص 198 - 199. (¬2) اتهمهما الفرنسيون بالاعتداء على وفد فرحات بن سعيد الذي جاء يطلب التعاون مع الفرنسيين. أنظر جورج إفير (حمدان بن عثمان خوجة) في (المجلة الأفريقية) عام 1913، ص 122، هامش 3. أنظر أيضا: دي رينو، ص 346 - 247. وقد ذكر هذا المصدر أن رأس قائد العوفية قد أحضر هدية للدوق دي روفيغو.

للمحاكة، وخرج هو بالجيش الفرنسي إلى بئر خادم. ومن هناك وجه جزءا من الجيش إلى القليعة حيث أسرة الأغا محيي الدين، وإلى سوق علي، قرب بوفاريك، التي كانت مجمع الثوار. وقد اشترك في القتال الذي دار في بداية أكتوبر عام 1832، كل من الجيش الفرنسي وفرقة (قناصة أفريقية) وفرقة (الزواف) الخاصة. وهي المعركة التي انهزم فيها الثوار وانسحبوا إلى الجبال والمدن المجاورة، واعتزل على أثرها ابن زعمون، والتحق بعدها الحاج سيدي السعدي بالأمير عبد القادر ليواصل جهاده ضد الفرنسيين (¬1). كما أن الأغا محيي الدين قد فر وانضم إلى الأمير عبد القادر وأصبح خليفة له في مدينة مليانة (¬2). والحديث عن الثورة في العهد الأول من الاحتلال يقودنا إلى الحديث عن الآغا محيي الدين بن المبارك، مرابط مدينة القليعة. ويذكر المؤرخون الفرنسيون أنه كان للقائد الفرنسي العام، الجنال برتزين، الذي كان متوليا سنة 1831، سياسة مهادنة نحو العرب فاستنصح حضر مدينة الجزائر فنصحوه بتعيين الحاج محيي الدين بن الصغير بن سيدي علي مبارك أغا على العرب في منطقة سهل متيجة. وقد سبقه في هذا المنصب في العهد الفرنسي الآغا حمدان بن أمين السكة الذي عينه بورمون، ثم جاء كلوزيل فعزل حمدان هذا وولى مكانه فرنسيا يدعى العقيد مانديري Mendiri . ولكن برتزين الذي خلف كلوزيل أراد أن يتقرب من العرب فعين عليهم أغا منهم، ظانا أن ذلك يكفي للقضاء على الثورة والمقاومة. ويبدو أن القائد العام قد أحسن الاختيار لأن الحاج محيي الدين كان من أسرة مرابطة عريقة وذات نفوذ في القليعة وما حولها. ولكن محيي الدين لم يقبل المنصب بدون شرط. فقد تعهدت له فرنسا بمبلغ 70،000 فرنك سنويا. وتعهد ¬_____ (¬1) دي رينو، 252 - 253. (¬2) شارل أندري جوليان (تاريخ الجزائر المعاصر) (باريس عام 1964)، ص 125.

لها هو ببقاء العرب حيث هم بشرط أن يبقى الفرنسيون حيث هم أيضا. وبعبارة أخرى كان هذا الشرط تجميدا للأوضاع وأصبح الفرنسيون بمقتضاه محاصرين في مدية الجزائر (¬1). قام الآغا محيي الدين بالتزامه خلال سنة 1831 فكان كل من الطرفين ملتزما بحدوده. وكان الآغا يوصي في جميع رسائله التي يوجهها إلى القائد العام بعدم السماح لأي فرنسي أن يذهب أو يتصل بالأهالي، وكان يصر على أن يكون هو الصلة الوحيدة بين العرب والفرنسيين. ويذكر بعض المؤرخين أن مراسلاته القليلة قد أصبحت هي وسيلة الفرنسيين الوحيدة للتعرف على أحوال العرب (¬2).كان الآغا محيي الدين يمتاز بالحكمة والورع والنظام. وكان العرب في المنطقة يحترمونه لأصله وشخصيته القوية. وكانت سمعته وسلطته ونظامه هي التي استطاعت أن تضع حدا للفوضى ولو إلى حين. وقد عين وعزل بعض رؤساء القبائل. فعين الحاج محمد المخفي على قبائل الخشنة خلفا لابن العمري الذي قتل أثناء الثورة، وأبقى أحمد بن أورشيف على بنى موسى، ومسعود بن عبد الواد على قبيلة السبت، وكلا الرجلين الأخيرين كان قد شارك في الثورة ضد فرنسا. وعين أيضا العربي بن موسى على بني خليل خلفا لمحمد بن الشرقي الذي تخلى عن منصبه بعد عزل حمدان بن أمين السكة من منصبه (أغا العرب). غير أن تصرفات الآغا محيي الدين المستقلة قد جردت الفرنسيين من أية صلة مع الأهالي وجعلت موقفهم سلبيا. وقد قاد ذلك إلى اتهام الأغا بأنه كان يعمل لحسابه الخاص وأنه كان يتصل بالقبائل لتشجيعها على الثورة ضد فرنسا، وأنه عندما قامت هذه الثورة العامة قد انضم إليها سرا، رغم أنه ¬_____ (¬1) دي رينو، ص 203. (¬2) نفس المصدر، ص 203 - 204. عثرنا على بعض هذه المراسلات في الأرشيف الوطني الفرنسي، وسنستعملها إن شاء الله في الجزء الأول من كتابنا (الحركة الوطنية الجزائرية).

كان في الظاهر يظهر الإخلاص لفرنسا ويدعى العجز عن القيام بمهمته، كان الأغا محيي الدين قد تأثر بحادثة العوفية (ربيع سنة 1832) مثل بقية العرب، وكانت هذه واحدة من سلسلة وقائع ارتكبها الدوق دي روفيغو Rovigo القائد العام الجديد ضد الأهالي. وبدا منذئذ الخلاف بين القائد العام وبين أغا العرب الحاج محيي الدين. فأوقفه القائد العام عن عمله، وعين حمدان بن عثمان خوجة ليكون واسطة بينه وبين الآغا، وخصص له شرطة تضايقه وتتبع أخباره وتراقب أصدقاءه، وأبطل العمل بالاتفاق (العرب في مكانهم والفرنسيون في مكانهم) وقرر أن يتصل بالعرب مباشرة متجاهلا سلطة الآغا. فكانت هذه الإجراءات فاتحة عهد من الخصومة بين القائد والآغا محيي الدين (¬1). أرسل دي روفيغو أحد رجاله، وهو الجنرال بروسار Brossard إلى مدينة القليعة على رأس جيش كبير لمحاربة الثوار هناك ولإلقاء القبض على الآغا محيي الدين وحمله إلى مدينة الجزائر ليواجه المحاكمة. ولكن الآغا كان قد أحس بما يبيت له فلجأ إلى قبيلة بني مناد. وعندما لم يجد بروسار الآغا الذي يبحث عنه ذهب إلى أسرته وحمل اثنين منها رهينتين إلى الجزائر وهما سيدي علال وسيدي محمد، إبنا عم الآغا، وكلاهما مرابط، وكلاهما (رجل سلام وخير) ولا سيما الأخير منهما، وظلا سجينين في الجزائر إلى زمن إدارة الجنرال فوارول Voirol ، أي أكثر من سبعة شهور. ومن جهة أخرى سجن الفرنسيون مساعد الآغا، وهو المسمى حميدة الذي جاء إلى الجزائر حاملا رسالة إلى القائد العام من الآغا ولكن دي روفيغو الذي كان يشك في إخلاص الآغا احتجز مساعده وقرر محاكمته. وتذكر المصادر الفرنسية أن السيد حميدة قد أصابه خوف كبير من المحاكمة فمات ¬_____ (¬1) نفس المصدر، ص 146 - 150.

في سجنه (¬1). من بني مناد ظل الآغا محيي الدين يكتب إلى القائد العام يعلن براءته من الاتهام الموجه إليه ويشرح موقفه. وعندما لم تجد الرسائل إلى القائد العام كتب الآغا مباشرة إلى الملك الفرنسي يعبر له عن براءته وإخلاصه. كما كتب إلى وزير الحربية. منها الرسالة التي وجهها بتاريخ 24 يونية عام 1832 إلى الملك الفرنسي يخاطبه فيها باسم العرب الذين تجمعوا حوله ويطالبه بوضع حد لحكم دي روفيغو وإحلال العدل الذي وعدت به فرنسا الجزائريين (¬2). ومن ذلك رسالة وجهها إلى وزير الحربية بتاريخ 21 أكتوبر عام 1832 اشتكى فيها من القائد العام واتهمه بارتكاب الأخطاء والاستماع إلى أنصار عودة الحكم التركي إلى الجزائر. والعمل ضد كل ما يكتبه إليه من نصائح وآراء تخص العلاقات مع العرب (¬3). وبدلا من أن يبدأ الدوق دي روفيغو عهدا جديدا من المصالحة مع العرب عمد إلى سياسة العنف نحوهم. فبعد حادثة العوفية حاول القضاء على الآغا محيي الدين بتكليف أحد المترجمين بالبحث له عن شخص يقوم باغتيال الآغا (¬4). وقرر أيضا معاقبة مدينتي البليدة والقليعة على تعضيدهما للثورة بغرامه قدرها مليون ومائة ألف فرنك. كان عدد سكان القليعة لا يتجاوز 1،500 نسمة. ولم تدفع القليعة من المبلغ سوى عشرة آلاف فرنك دفعتها أسرة ابن المبارك التي كان زعيمها في السجن ¬_____ (¬1) نفس المصدر، ص 254. ولعل موته لم يكن بسبب الخوف كما تدعي المصادر الفرنسية. (¬2) دار المحفوظات (الأرشيف) الوطنية في باريس رقم B 801670. F. (¬3) نفس المصدر، ونفس الرقم. ونحن نفهم من ذلك أن الآغا لم يكن من أنصار الحكم العثماني في الجزائر، وأنه كان، كالأمير عبد القادر، من أنصار الحكم الوطني. (¬4) دي رينو، ص 254.

بالجزائر. ولم تدفع البليدة سوى 1،400 فرنك قدمها حاكمها في عهد فوارول خليفة دي روفيغو. أراد الدوق أيضا أن ينظم الشئون العربية بنفسه ما دام لا يعترف بوساطة الآغا محيي الدين. حاول أولا أن يعين السيد أحمد بن شنعان الذي كان من قبيلة بني جاد والذي قال الفرنسيون إنه اتصل بهم عشية معركة اسطاويلي (19 يونية عام 1830) (¬1)، خلفا للأغا محيي الدين. ولكن ابن شنعان لم يرحب به أهل المنطقة، وحين أراد من أهل البليدة أن يقبلوه حاكما عليهم رفضوه وهددوه. لذلك لجأ إلى العاصمة بعد أن أقام في البليدة بعض الوقت. وعدل الدوق عن تعيينه. لكنه قرر القيام بحملة ضد البليدة فهرب أهلها منها إلى الجبال المجاورة ودخلها الجيش الفرنسي وعاث فيها فسادا ثم رجع إلى العاصمة مكللا بالعار لا بالغار كما يقول الفرنسيون أنفسهم (¬2). كما قرر الدوق تعيين رؤساء جدد على القبائل غير موالين للأغا محيي الدين. فعين على بني موسى ابن رباح، وعين على بني خليل سي حمود، وأبقى على الخشنة السيد الحاج المخفي. وقد ارتكب الدوق حادثا كان له أثر بعيد على العلاقات بين العرب والفرنسيين. فقد كان قد اتصل بتقارير تفيد أن العربي بن موسى قائد بني خليل، ومسعود بن عبد الواد قائد السبت كانا عدوين لدودين لفرنسا وأنهما كانا مستعدين لإثارة العرب ضدما. أراد الدوق أن يستدرجهما إلى الجزائر التي لم يدخلاها منذ فترة طويلة. فكتب بتاريخ 6 أكتوبر عام 1832 إلى أهل البليدة يطلب منهم إرسال وفد إلى الجزائر فيه القائدان المذكوران، بالإضافة إلى أشخاص آخرين. ولكن القائدين شعرا بالمكيدة فترددا في الذهاب واشترطا الأمان. أرسل الدوق إليهما الأمان عن طريق صديقهما ¬_____ (¬1) انظر الفصل الثاني من هذا الكتاب. (¬2) نفس المصدر، ص 256.

الحاج المخفي الذي لا يشكان في نيته. وجاء معهما المخفي إلى الجزائر، ولكن بمجرد وصولهما اعتقلا وقيدا مكبلين إلى السجن. وقد تأثر صديقهما المخفي لذلك واحتج وطلب من الفرنسيين اتهامه مثلهما ومد يديه إلى القيد معهما. ورغم أن كثيرا من الرسائل من القبائل قد وصلت إلى الدوق تطالب باطلاق سراح القائدين مسعود بن عبد الواد والعربي بن موسى فان الدوق لم يرضخ. وقد جاء بقضاة حاكموهما ونفذ الفرنسيون فيهما حكم الإعدام خلال فبراير عام 1833، أي قبل حوالي شهر واحد من مغادرة الدوق الجزائر نهائيا، وقد مات في باريس خلال يونية من نفس السنة، يعاني كما يقول الذين درسوا حياته من (أزمة ضمير). أما الآغا محيي الدين، الذي كان يريد له الدوق نفس المصير، فقد شعر بالخطر فانضم إلى الأمير عبد القادر. وقد عينه هذا خليفة له على مدينة مليانة، وأصبح من المقاومين البارزين. ولكن بقية حياته ما زلنا نجهلها (¬1). وهناك شخصية عربية أخرى غريبة الأطوار والتصرفات في هذه الأثناء ذلك هو فرحات بن سعيد شيخ العرب في منطقة الزاب الصحراوية. كان فرحات قد عين شيخا على العرب من طرف إبراهيم باي قسنطينة السابق وعزل خصمه ابن قانة. كان شخصية طموح لا يبالي بالوسائل إذا كانت توصله إلى أهدافه. ثار سنة 1821 ولكن صدر عنه العفو وبقي نفوذه الكبير في الجنوب. وكان هناك تنافس خطير بين أسرته وأسرة بن قانة سالت من جرائه دماء غزيرة. وعندما ولي الحاج أحمد بايا على قسنطينة عزل فرحات وعين خصمه ابن قانة شيخا على العرب. وكان ابن قانة صهرا للحاج أحمد. ¬_____ (¬1) عن دور ومكانة محيي الدين (الآغا) لدى الأمير عبد القادر أنظر محمد باشا (تحفة الزائر)، ط. الاسكندرية، سنة 1903.

ولكن فرحات ثار واغتنم فرصة وجود الفرنسيين في الجزائر وحاول تجنيد كل العوامل للإطاحة بالحاج أحمد. تعاون فرحات أولا مع الباي إبراهيم الذي كان يحاول هو أيضا استعادة مكانته المفقودة. وعندما لم يجد في إبراهيم القوة الحقيقية التي تطيح بالحاج أحمد لجأ إلى الفرنسيين. أرسل إليهم وفدا إلى مدينة الجزائر يقترح على الدوق دي روفيغو التحالف على أن يهاجم الفرنسيون قسنطينة ويساعدهم هو (فرحات) بجيش كبير من القبائل. احتفى الدوق بالوفد وجعل منه حادثا كبيرا ولكنه رد على فرحات بجواب غامض (¬1). ولعله فعل ذلك لأنه كان في نفس الوقت يفاوض الحاج أحمد على الاعتراف بالسيادة الفرنسية وإبقائه في مكانه حاكما على قسنطينة. وعلى أية حال فان فرحات لم يحصل على ما كان يريد من الفرنسيين فبدأ اتصالات أخرى مع الأمير عبد القادر. وبعد مفاوضات اعترف به الأمير شيخا على العرب وأمده بالسلاح والتأييد. ويبدو أن فرحات الذي كان يحارب الحاج أحمد والفرنسيين في نفس الوقت كان يحارب من أجل قضية شخصية لا قضية وطنية، رغم أن الغبار ما زال يغطي كثيرا من الحقائق عن هذه الشخصية (¬2). ¬_____ (¬1) كان وفد فرحات بن سعيد سببا في حادثة قبيلة العوفية، لأن الوفد قد تعرض إلى المهانة أثناء عودته فانتقم له الدوق منهما بذلك قبيلة العوفية. (¬2) أنظر عن فرحات بن سعيد (مذكرات الحاج أحمد آخر بايات قسنطينة) نشر وتعليق إيمري (المجلة الأفريقية) 1949. أنظر أيضا كتاب بوعزيز بن قانا (أسرة من القواد الصحراويين)، (بالفرنسية، الجزائر، 1930) أيضا دي رينو، ص 246، 247.

الفصل السادس اللجنة الأفريقية

الفصل السادس اللجنة الأفريقية هناك عدة أسباب جعلت الحكومة الفرنسية ترسل لجنة تحقيق إلى الجزائر لتعاين الوضع وتقدم تقريرا عنه يتضمن اقتراحات واضحة حول مستقبل البلاد. من ذلك: المناقشة الحادة التي جرت في البرلمان حول تخصيص ميزانية لمواصلة الحرب في الجزائر، والحملة التي قام بها بعض الجزائريين المنفيين، وخصوصا حمدان خوجة، ضد تصرفات الإدارة الفرنسية في الجزائر، وضغط الرأي العام الأوربي على فرنسا للإعلان عن موقفها الرسمي من الاحتفاظ أو التخلي عن الجزائر. وافق ملك الفرنسيين، لويس فيليب، على هذه اللجنة، التي أصبحت تعرف باسم اللجنة الأفريقية، بتارخ 7 جويليه 1833، بناء على تقرير قدمه إليه وزير الحربية المارشال سولت soult وقد أعلن رسميا أن هدف اللجنة هو جمع المعلومات التي تنير الحكومة عن حالة الجزائر الحاضرة وعن مستقبلها. وفي نفس الوقت قضى الملك أن ينضم أعضاء اللجنة المذكورة إلى لجنة أخرى تتكون بعد عودة اللجنة الأولى إلى فرنسا. والجدير بالذكر أن الحكومة قد أعطت إلى اللجنة (تعليمات) تتضمن النقاط التي تريد منها التعرف عليها وتطلب منها إيجاد حلول للمشاكل الهامة التي كانت تواجهها الجزائر. كما أعطتها (برنامج) عمل مفصل تسير على ضوئه. ومن السهل أن يستنتج المرء، من (التعليمات) و (البرنامج)، أن الحكومة الفرنسية كانت قد قررت مسبقا ماذا ستفعل بالجزائر وأن إرسال

اللجنة المذكورة ما هو إلا محاولة لإعطاء مرقفها صورة واسعة شعبية. وكان من الممكن أن تعلن الحكومة عن موقفها نحو الجزائر دون إرسال اللجنة. وصلت اللجنة إلى الجزائر بتاريخ 2 سبتمبر 1833. وكان رئيسها هو الجنرال بوني Bonnet وكاتبها هو السيد بيسكاتوري Piscatory النائب في البرلمان. وفي اليوم التالي استقبلت اللجنة ممثلي السلطات المدنية والعسكرية في الجزائر كما استقبلت أعضاء الغرفة التجارية ولجنة استعمار الأراضي. ومن الذين استقبلتهم أيضا وفود عن المستوطنين الفرنسيين (الكولون)، وعن التجار الأوربيين، وعن أعيان العرب الحضريين (المور)، بالإضافة إلى وفد عن يهود الجزائر. والهدف من هذه الاستقبالات هو توضيح مهمة اللجنة وتهدئة الخواطر. والملاحظ أن اللجنة تفادت التصريح بأي شيء فيه التزام أو يعرقل حرية الرأي بالنسبة لأعضائها (¬1). وفي 6 من الشهر المذكور عقدت اللجنة أول جلسة عمل قسمت خلالها الأعمال حسب اختصاصات الأعضاء. ونتيجة لذلك اختص الجنرال بوني بالمسائل العسكرية، والجنرال مونفور Montfort بالطرق والقناطر، والسيد دوفال دايي D. Dailly بالبحرية، والسيد لورانس Laurence بالإدارة والتشريع والقضاء، والسيد دوبير سار D. Auberssart بالمالية والضرائب والعقارات، والسيد رينار Reynard بالتجارة والصناعة والجمارك. والسيد دي لابينسورنيير de la pinsonniére بالزراعة واستغلال الأرض (الاستعمار). ويتضح من تقسيم الأعمال اهتمام اللجنة بالمسائل التي ستقدم تقارير عنها إلى الحكومة أثر عودتها إلى فرنسا. كانت (التعليمات) التي سلمتها الحكومة إلى اللجنة تحتوي على 24 صفحة ¬_____ (¬1) اللجنة الأفريقية، (باريس 1824) (محاضر)، ج 2، ص 1.

وفيها أسئلة كان على اللجنة أن تجيب عليها، ومنها: هل تحتفظ فرنسا بالجزائر أو تتخلى عنها، وفي كلا الحالتين ما فائدة فرنسا؟ ثم ما طريقة العمل إذا كان الاحتفاظ هو الحل المقترح، وما الوسائل التي على الحكومة استعمالها لتنفيذ الاقتراح؟ ومن جهة أخرى تقتضي التعليمات أن توضح اللجنة جميع أوجه الحالة الراهنة في الجزائر. وإلى جانب ذلك تحتوي (التعليمات) على وصف هام لحالة وطبقات السكان الجزائريين وحالة الأراضي. ونلاحظ أن (التعليمات) تميل إلى الرأي القائل بالاحتفاظ بالجرائر، وكأن مهمة اللجنة هي البحث عن وسائل الاحتفاظ بالجزائر في ضوء تجارب السنوات السابقة وليس الإجابة على ما إذا كان الاحتفاظ جائزا، أو ممكنا. وقد تنقلت اللجنة في مدينة الجزائر وضواحيها فزارت المؤسسات العامة وسهل متيجة متنقلة من الحميز (وادي الخميس) إلى البليدة. وأثناء ذلك زارت المراكز العسكرية وتنقلت في الطرق الجديدة باحثة عن المنشآت الصناعية التي قيل لها أنها كانت موجودة. وفي 14 من الشهر المذكور رحلت اللجنة إلى عنابة وزارت أيضا بعض مناطقها التي أصبحت بيد الفرنسيين. وفي 4 أكتوبر ذهبت إلى مدينة وهران وتنقلت في ضواحيها، وزارت خليج أرزيو في 15 أكتوبر. وحاولت زيارة مستغانم ولكنها لم تنجح وفي 16 منه زار بعض أعضائها مدينة بجاية التي استولى عليها العفرنسيون حديثا. وأخيرا عادت اللجنة إلى مدينة الجزائر في 23 أكتوبر. عقدت اللجنة بجميع أعضائها جلسة عمل في 24 أكتوبر بمدينة الجزائر وبلغ عدد الجلسات التي عقدتها حوالي 30 جلسة. وفي كل جلسة كانت تناقش عددا من المسائل وتستمع إلى تقارير الأعضاء الذين تولى كل منها دراسة قضية بعينها تدخل في اختصاصه. وهكذا كانت هناك تقارير عن استغلال الأراضي (الاستعمار)،وعن البحرية، وعن الحالة العسكرية وعن الأشغال العامة.

كانت (العلاقات مع العرب) هي موضوع جدول الأعمال في جلسة 28 أكتوبر. وقد افتتح أحد الأعضاء باقتراح مناقشة الموضوع من ثلاث زوايا: (1) اتباع سياسة اللين وحسن المعاملة نحو العرب إلى أن يندمجوا في السكان الأوربيين. (2) مواصلة الحرب ضدهم بلا هوادة إلى أن يفنوا أو يتقهقروا من المناطق التي احتلها أو سيحتلها الفرنسيون. (3) إحلال التشريعات الفرنسية محل التشريعات المحلية بهدف إبعاد العرب تدريجيا من المناطق التي تدخل تحت السيطرة الفرنسية. ودارت المناقشة حول هذه النقاط فقال بعضهم باتباع سياسة عادلة نحو العرب لأن فرنسا قد التزمت لهم بذلك فاذا هاجروا بعد ذلك من المناطق التي تخضع للفرنسيين فذلك شأنهم. وطالب آخر باستعمال طرق تضطر العرب إلى الهجرة من المناطق المحتلة، وقال إن المعامدات التي تربطنا بالسكان يجب أن تكون (استراتيجية حرب وليست سلاما دائما) معهم (¬1). واعترف ثالث بجهله حالة العرب عندئذ قائلا إن المعلومات التي لدى اللجنة لا تكفي للإجابة على السؤال المطروح وهو (هل يمكن لفرنسا تكوين علاقات ودية مع العرب؟) وكان من رأي بعضهم استخدام القوة والشدة مع العرب وعزلهم عن الأسواق والمراكز الفرنسة، بينما رأى آخرون إمكانية كسب ود العرب عن طريق فتح مجال العمل في المنشآت الفرنسية. طلبت (التعليمات) إلى اللجنة أيضا الإجابة على ما إذا كان يمكن لفرنسا أن تسلك نحو العرب نفس السياسة التي اتبعها الأتراك معهم. وأثناء المناقشة قال أحد أعضاء اللجنة بأنه يجب على فرنسا أن لا تتبع نظام الأتراك لأن هذا النظام لا يتناسب جملة وتفصيلا مع التقاليد والنظم الفرنسية، فالأتراك ¬_____ (¬1) إشارة إلى اتفاق حسين - بورمون يوم 4 يوليو 1830، وإلى اتفاق الآغا محيي الدين - برتزين سنة 1831. الخ.

بناء على هذا الرأي، كانوا على دين وتقاليد وعادات ووجهات نظر شبيهة بالتي كانت لدى العرب، وليس كذلك الحال بالنسبة لفرنسا. وقال آخر إن نظام الأتراك القديم لا يتناسب مع ما تفكر فيه فرنسا حاليا وهو الاستعمار وإحلال جالية غربية محل السكان الأصليين. أما احتلال الأتراك للجزائر، بناء على هذا الرأي، فقد كان باسم القرصنة فقط، وليس باسم وضع نظام اجتماعي واقتصادي شأن فرنسا عندئذ. وميز بعضهم فقال إنه يمكن الاستفادة من النظام التركي في الجزائر من الوجهة العسكرية فقط، أي فرض السيطرة التركية بالقوة، وهو ما يجب في نظره، أن تستفيد منه فرنسا في علاقاتها الجديدة مع العرب. ومن النقاط التي ناقشتها اللجنة قضية جنسية المستوطنين الذين سيسمح لهم بدخول الجزائر. وكان ذلك في جلسة 29 أكتوبر. وقد طرح السؤال بالكيفية الآتية: هل يسمح بدخول الجزائر للفرنسيين فقط أو يسمح لجميع الأجناس بلا تمييز؟ وإذا سمح للجميع فما الشروط التي يجب أن تتوفر في غير الفرنسيين الذين يرغبون في استيطان الجزائر؟ وبعد مناقشة طويلة قررت اللجنة حرية دخول جميع الأجناس إلى الجزائر دون تمييز الأصل، ولكن الأولوية أعطيت للمزارعين وأصحاب الحرف والمؤهلات الخاصة. كذلك ناقشت اللجنة السلطة الفرنسية في الجزائر: هل تكون سلطة عسكرية ومدنيه أو إحداهما فقط؟ وفي جلسة أول نوفر قررت اللجنة تركيز جميع السلطات الفرنسية في الجزائر. سواء كانت عسكرية أو مدنية، في سلطة عليا واحدة، وهي سلطة (الحاكم العام)، الذي اقترحت خلق منصبه. ومن القضايا المتصلة بهذا الموضوع صلة كل وزارة فرنسية بالحاكم العام في الجزائر، ثم صلاحيات الحاكم العام نفسه وصلاحيات (المجلس الإداري) الذي يساعده في مهمته. ومن رأي اللجنة أن الحاكم العام يستمد سلطانه من مجلس الوزراء الفرنسي في جميع القضايا الكلية. أما القضايا الجزئية

فيتلقى سلطاته فيها من كل وزارة على حدة، أي على غرار ما كان جاريا به العمل في فرنسا نفسها. وقد رأت اللجنة خلق مجلس إداري من قائد الجيش الفرنسي في الجزائر ومن المتصرف المدني والمتصرف العسكري والموظف القضائي السامي. ويترأس الحاكم العام هذا المجلس الذي لن تكون مهمته سوى استشارية بالدرجة الأولى. أما سلطات الحاكم العام فتمليها الظروف وطبقا للقضايا المطروحة. وعلى أية حال فان الحاكم العام يعمل بالتعاون مع المجلس الإداري وبالتنسيق مع الحكومة في باريس. ومن الجدير بالذكر أن اللجنة رأت تركيز السلطة الفرنسية في مدينة الجزائر بحيث تتصل جميع المناطق المحتلة بمدينة الجزائر قبل اتصالها بباريس (¬1). أما بخصوص النظام البلدي فقد اقترحت اللجنة بشأن الجزائر تطبيق ما كان جاريا به العمل في فرنسا نفسها قبل 1831. ومن رأيها إشراك العرب في (المجلس البلدي) بشرط أن لا يتجاوز عددهم عدد الفرنسيين فيه. واقترحت أن تكون للبلديات ميزانية خاصة. وكان من رأيها الإسراع بتنظيم المجلس البلدي في مدينة الجزائر وتنظيم المناطق المحيطة بها في بلديات ريفية. ثم عالجت اللجنة قضايا الضرائب عامة. والضريبة الخاصة بالعرب، وشئون القضاء المدني والجنائي، وحالة التجارة والجمارك، ونظام الزراعة وخطة الاستعمار المطبقة عندئذ. ومن الذين استمعت إليهم اللجنة من العرب وسجلت إجاباتهم في محضر الجلسات السيد مصطفى بن الكبابطي، الذي كان عندئذ متوليا شئون الإفتاء على المذهب المالكي. وقد استجوبه رئيس اللجنة في الجلسة الخاصة بمناقشة العدالة والقضاء. وإجابة ابن الكبابطي تناولت قضايا غير سياسية في ظاهرها كموقف التشريع الإسلامي من حقوق الرجل والمرأة ونظام الملكية، والزواج ¬_____ (¬1) نفس المصدر ص 88، 99.

والطلاق، وإجراءات الأحكام القضائية (¬1). عادت اللجنة الأفريقية إلى فرنسا في 9 نوفمبر، 1833، وقدمت تقاريرها إلى الحكومة الفرنسية مضيفة إليها اقتراحات واضحة حول مستقبل الجزائر ومستقبل فرنسا هناك. وأهم الاقتراحات هو أن اللجنة رأت ضرورة الاحتفاظ بالجزائر التي أطلقت عليها اسم (الممتلكات الفرنسية في أفريقية). وقد سبق أن لاحظنا أن ذلك هو هدف الحكومة منذ تكوين اللجنة بتزويدها (بتعليمات) و (برنامج) يحملان رغبة الحكومة في الانتهاء إلى هذه النتيجة. وفي الحال قامت الحكومة يتقديم تلك التقارير والاقتراحات إلى لجنة جديدة موسعة تشكلت بتاريخ 12 ديسمبر، 1833. كانت اللجنة الجديدة تتألف من 19 شخصيا برئاسة الدوق ديكازيس Decazes الذي كان من أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي. ومن بين أعضائها كل أعضاء اللجنة الأولى والثمانية، واللجنة الثانية كالأولى تتكون من عسكريين ومدنيين مراعى فيهم الاهتمام والتخصص بالمشاكل المعروضة الناجمة عن احتلال الجزائر. وقد عقدت اللجنة جلستها الأولى في 22 ديسمبر 1833. وفي الجلسة الثانية (5 جانفي - يناير 1834) انتخبت كاتبها فكان السيد بيسكاتورى الذي سبقت إليه الإشارة والذي كان كاتب اللجنة الأولى. وفي جلسة 6 جانفي وافقت على طريقة العمل وهي الاستماع أولا إلى محاضر جلسات اللجنة الأولى والاستماع أيضا إلى قراءة مختلف التقارير الملحقة بالمحاضر المذكورة. وبعد ذلك يتحدث أعضاء اللجنة الأولى عن انطباعاتهم في الجزائر. والجدير بالذكر أن اللجنة الثانية طلبت من وزير الحربية أن يمدها بجدول مفصل عن الأعمال الإدارية التي قامت بها الحكومة الفرنسية في الجزائر منذ الاحتلال. والواقع أن تعاون الحكومة مع هذه ¬_____ (¬1) انظر إجابته في نفس المصدر ص 140 - 143.

اللجنة لم يكن أقل وضوحا من تعاونها مع اللجنة الأولى. وسنرى أمثلة أخرى لهذا التعاون بين الطرفين. وعلى أية حال فقد عقدت اللجنة الثانية حوالي 56 جلسة. وكانت مناقشات تطول وتحتد كلما كان الموضوع عن الاحتفاظ أو التخلي عن الجزائر، أو عن استغلال الأرض (الاستعمار)، أو عن الضرائب والجمارك والتجارة. والملاحظ أن اللجنة استمعت إلى أشخاص آخرين غير أعضائها، عسكريين ومدنيين، مؤيدين ومعارضين للاحتفاظ بالجزائر، ومن الذين استمعت إليهم اللجنة عدد من الجزائريين الذين كانوا عندئذ منفيين من بلادهم. وسنذكر إجابة بعضهم في مكان آخر من هذا العمل (¬1). وهناك عدد من الأشخاص لم يحضروا أمام اللجنة واكتفوا بالاعتذار مثل الجنرال كلوزيل Clauzel. وفي الجلسة 17 أعلن الرئيس مناقشة الموضوع الهام الذي كان على اللجنة أن تبت فيه. وهو (الاحتفاظ أو التخلي) عن الجزائر، ويمكننا أن نلاحظ أنه خلال جميع المناقشات، سواء في اللجنة الأولى أو الثانية، لم تكن الآراء فقط في صالح الاحتفاظ بالجرائر ولكن كانت أيضا في صالح الاستعمار، أي استغلال الأرض والسيطرة التامة على جميع ثروات البلاد. غير أنه يجب استثناء قلة نادرة من الأصوات التي كان أصحابها يرون ضرورة التخلي التام عن الجزائر أو الاحتفاظ بها جزئيا فقط كالاحتفاظ بالمناطق الساحلية. وفي الجلسة المذكورة لخص بعضهم رأي اللجنة الأولى بخصوص هذا الموضوع في العبارات الآتية: (من الفائدة الاحتفاظ بالجزائر. الاحتفاظ بها أمر مستحسن. من الضروري الاحتفاظ بها) إذن فرأي اللجنة الأولى هو الاحتفاظ بالجزائر، ولكن درجات ذلك تمتد من الفائدة إلى الاستحسان إلى الضرورة. ¬_____ (¬1) أنظر الفصل السابع.

وأثناء الجلسة التالية (28 جانفي، 1834)، التي خصصت أيضا لمناقشة نفس الموضوع، حضر المناقشة وزير البحرية بنفسه وجلس على المنصة إلى جانب رئيس اللجنة. وقد تدخل الوزير وأجاب على عدة أسئلة تتعلق بحركة الجنود في الجزائر والميزانية الضرورية سواء اتبعت فرنسا الاحتلال الجزئي أو الكلي. ونلاحظ هنا أن احتمال التخلي عن الجزائر لم يكن واردا، وأن حضور الوزير لهذه الجلسة بالذات كان تدخلا مباشرا من الحكومة لتعزيز حجة المدافعين عن مبدأ الاحتفاظ بالجزائر. وبعبارة أخرى فاللجنة لم تكن محايدة ولكنها كانت وسيلة لتنفيذ برنامج الحكومة في الجزائر. ومن الملاحظ أن اللجنة كانت تحت ضغط شديد من الخارج. فقد كانت تتصل برسائل شخصية من الذين شاركوا في الحملة ضد الجزائر، وبتقارير إضافية من وزارتي البحرية والحربية ومن السلطات الفرنسية في الجزائر، غير أننا نلاحظ غياب صوت العرب في هذا الصدد. ومن الممكن أن يكون قد كتمه (المكتب العربي) الذي أنشىء في الجزائر ليكون همزة الوصل بين العرب والسلطات الفرنسية. ومن الممكن أيضا أن تكون المطالب والعرائض العربية ما زالت في دار المحفوظات (الأرشيف) ضمن الوثائق التي لم تنشر بعد. ويظهر من مناقشات أعضاء اللجنة أنهم كانوا يحاولون إيجاد طرق الاحتفاظ بالجزائر واحتلالها كاملة واستعمارها واستغلالها، ولم يكونوا يناقشون ما إذا كان ذلك ممكنا. ونحن نجدهم قد ناقشوا ووافقوا على احتلال وهران وعنابة وبجاية، وصوتوا على ميزانية الاحتلال وعلى عدد الجنود الضروريين للحفاظ على الاحتلال. ومما يلفت النظر أن رئيس اللجنة كان كثيرا ما يقرأ الوثائق والرسائل والتقارير التي يطالب أصحاب بضرورة احتلال الجزائر والاحتفاظ بها حتى قال أحد الأعضاء أثناء المنافثة (جلسة 7 فبراير 1834).

إنه يخشى أن تلك الوثائق ستؤثر تأثيرا كبيرا على حياد اللجنة وعلى قرارها النهائي (¬1). ومن المطالب التي تقلها اللجنة وقرأها الرئيس على الأعضاء عريضة من مستوطني الجزائر (الكولون). والجدير بالذكر أن كلوزيل هو الذي وجهها إلى اللجنة (جلسة 48)، لعله كان يقصد بها التأثير على الأعضاء كعامل من عوامل الضغط. وقد استمع الأعضاء إلى هذه العريضة (باهتمام) كبير، ولاحظوا أن الأفكار التي احتوت عليها بخصوص تطبيق السياسة الفرنسية في الجزائر والسلطة المركزية المقترحة كانت تتشابه مع مقترحات اللجنة الأولى التي تقدمت بها إلى الحكومة عند عودتها. ومن جهة أخرى تقدم مجلس بلدية مرسيليا بمطالب مشابهة إلى وزير الحربية الذي أحالها بدوره إلى اللجنة. وقد استمع إليها الأعضاء (بنفس الاهتمام) أيضا (¬2). وهكذا كانت اللجنة أمام ضغوط مختلف المجموعات الفرنسية، سواء كانت في الجزائر أو في فرنسا، في الحكم أو خارجه. في إحدى الجلسات ناقشت اللجنة قضية هامة عندئذ، وهي حالة ومصير الأملاك التي احتلها الفرنسيون وسكنوها أو استعملوها في المصالح العامة دون دفع الأجور المستحقة عليها. ولتوضيح الموقف قرأ الرئيس خلال الجلسة نص الاتفاق الجزائري - الفرنسي الذي وقعه حسين باشا والكونت دي بورمون. وزيادة في بلبلة الأعضاء قرأ أحدهم ترجمة أخرى للاتفاق المذكور تختلف في بعض تعابيرها عن الترجمة الأولى التي قرأها الرئيس. ومما جاء في المناقشة أن أغلب الأتراك (الذين ضمن لهم الاتفاق حق الاحتفاظ بأملاكهم) قد بقوا في الجزائر بعد الاحتلال، ولكن بعد ستة أسابيع ¬_____ (¬1) نفس المصدر، ج 1، ص 207 (¬2) نفس المصدر، ص 337.

أمر القائد العام الفرنسي بطردهم بدعوى أنهم كانوا يتآمرون لاستعادة السلطة، وقد حملوا إلى أزمير أو الاسكندرية. وكان عددهم يبلغ 1500 شخص. أما نساؤهم وأطفالهم فقد بقوا في الجزائر. ونشير إلى أن هذه الحادثة، أي تفريق الرجال عن نسائهم وأطفالهم، قد أثارت موجة سخط شديد ضد الفرنسيين في الجزائر واستنكرها الوطنيون، أمثال حمدان خوجة في كتابه (المرآة) (¬1). أما بخصوص تنظيم السلطة الفرنسية في الجزائر فان اللجنة الثانية قد انتهت إلى نفس نتائج اللجنة الأولى تقريبا. فقد وافقت كالأولى على خلق منصب الحاكم العام. ودرست علاقة سلطاته بالحكومة المركزية في باريس، كما وافقت على إنشاء مجلس بلدي في مدينة الجزائر مكونا من رئيس وأربعة مساعدين، منهم يهودي ومسلم على الأقل. ومن جهة أخرى أعطت إلى الحاكم العام صلاحيات إدخال أعضاء من الجزائريين إلى المجلس البلدي المقترح متى رأى ذلك مناسبا. ومن رأي اللجنة أيضا تكوين مجلس بلدية في كل من وهران وعنابة. أما بجاية فلم تتخذ اللجنة حولها موقفا عندئذ لأن الوضع فيها كان ما يزال غير واضح ولأن السلطة الفرنسية هناك غير مستقرة (¬2). ولعل موقف اللجنة من (معاهدة دي ميشال) التي وقعت بين الممثل الفرنسي والأمير عبد القادر يكشف عن نواياها الحقيقية نحو مصير الجزائر الذي كان من المفروض أن تخرج بتوصيات واضحة عنه. والجدير بالذكر أن رئيس الوزراء الفرنسي هو الذي أرسل نسخة من المعاهدة إلى اللجنة للاطلا عليها عبأ. وفي جلسة 51 (7 أفريل 1834) استمعت اللجنة إلى ¬

_ (¬1) (المرآة) باريس، 1833، ص 220 - 222 وما يليها. (¬2) أما مدينة قسنطينة فما تزال تحث حكم الباي الحاج أحمد كما سنرى.

قراءة لتلك المعامدة (باهتمام عظيم) حسبما جاء في المحضر. وفي شكرها لرئيس الوزراء على إرسال النسخة لاحظت وتأسفت له على أن المعاهدة لا تحمل دلالات واضحة عن خضوع الأمير عبد القادر لفرنسا واعترافه الرسمي الصريح بسيادتها في الجزائر. وقالت اللجنة أنها لا ترى في المعاهدة التزام الأمير بدفع جزية سنوية إلى فرنسا، لأن الجزية، بناء على رأى اللجنة، هي علامة الخضوع عند العرب. وما دام العرب لم يلتزموا بذلك فان اللجنة تخشى أن تكون هذه المعامدة مجرد خطوة أولى سيتبعها الأمير بخطوات أخرى يطلب فيها تنازلات أكثر إيجابية من فرنسا (¬1). أما بخصوص أملاك مكة والمدينة، التي هي مؤسسات دينية خيرية تحت إشراف وكلاء، فان اللجنة قد درستها أيضا ووافقت على بعض الاقتراحات حولها. وقد قدرت أنه من بين 5000 دار في مدينة الجزائر كان هناك 2،601 ترجع إلى أملاك مكة والمدينة. وكان منها في مدينة وهران 149 دارا. وفي مدينة عنابة 91 دارا. وما دامت اللجنة حريصة على الموارد الاقتصادية التي تجلب دخلا وافرا للخزينة الفرنسية فقد قدرت أن تدر أملاك مكة والمدينة دخلا قدره 400،000 فرنك سنويا إذا وضعت تحت إدارة حكيمة. ومن المعلوم أن السلطات الفرنسية قد وضعت يدها على هذه الأملاك منذ الأسابيع الأولى للاحتلال رغم مخالفة ذلك للاتفاق المشترك ورغم استنكار الجزائريين (¬2). وقد اقترحت اللجنة إبقاء نظام (بيت المال) على الأقل في الوقت الحاضر، وأوصت أن يعين الحاكم العام المسئول عن هذا النظام الذي يكون بدوره مسئولا عن كل مصاريف ومستندات (بيت المال) ولكن الإدارة الفرنسية في الجزائر هي التي تقرر كيفية وعلاقة أموال نظام (بيت المال) بالخزينة العامة. ¬_____ (¬1) اللجنة الأفريقية، 12، ص 351. درسنا هذه النقطة بتفصيل في كتابنا (حياة الأميرعبد القادر)، ط، تونس، سنة 1974. (¬2) راجع حول أملاك مكة والمدينة كتاب (المرآة) لحمدان خوجة ص 246 وما يليها.

والواقع أن اللجنة لم توص باحتلال المدن والسهول فقط ولكنها أوصت بجعل الجزائركلها أملاكا فرنسية (دائما وثابتا) وقد أكدت هذا الرأي في التقرير النهائي الذي قدمته إلى الحكومة. فقد جاء في هذا التقرير أن على فرنسا أن تحتفظ بالجزائر وأن لا تبقى في المدن الساحلية فقط، بل الواجب عليها جعل تلك المدن مراكز أمامية لإمداد الجيش بضرورات حملات عسكرية توسعية في داخل البلاد لإخضاع كامل البلاد للسيطرة الفرنسية. ولكن اللجنة سجلت في نفس الوقت بعض الاعترافات سواء في محاضر الجلسات أو في التقرير النهائي. فقالت إن عددا من الحضر (المور) واليهود الجزائريين قد اضطروا إلى مغادرة أملاكهم. وقد أعلنت السلطات الفرنسية عندئذ عن خلو تلك الأملاك التي عمرها بعدهم المالطيون وأسبان جزر البليار، والألمان والسويسريون الذين كانوا متجهين أولا إلى أمريكا. وبعد استقرار هؤلاء في أملاك الجزائريين (الخالية) بدأوا يشكون من الوضع الذي هم فيه وحلت الخيبة عندهم، حسب تعبير اللجنة، محل الأحلام (¬1). والملاحظ أن اللجنة لم تلق التبعة على السلطات الفرنسية في الجزائر التي أمرت بنفي الجزائريين وإخرجهم كرها من ديارهم، بل ألقتها على النهابين والمغامرين. واعترفت اللجنة أيضا أن المحاولات الأولى لاستعمار الأرض حول مدينة الجزائر قد باءت بالفشل لأن الفاقة والأمراض أبعدت المستوطنين الجدد عن المستعمرات، وبالإضافة إلى ذلك هناك العنف والحرب المتواصلة التي كانت تشنها القبائل المجاورة (أي في سهل متيجة) ضد الفرنسيين (¬2). أما في وهران وعنابة فقدكان الأمر أسوأ. فأهل وهران قد غادروا مدينتهم منذ حل بها الفرنسيون. كما تعطلت هناك العلاقات التجارية بين العرب والفرنسيين (¬3). ¬_____ (¬1) اللجنة الأفريقية، ص 292 (تقارير). (¬2) أنظر الفصل الخامس. (¬3) انظر كتابنا (حياة الأمير عبد القادر).

وإذا كانت العلاقة مع العرب أفضل نوعا ما في عنابة فان الجيش الفرنسي قد خسر هناك أكثر مما خسر في مدينة الجزائر نفسها. وقد لاحظ تقرير. اللجنة أن الأمل مفقود لدى أهل الجزائر، وأن طبقة الحضر قد بقيت ساخطة لأن الفرنسيين هناك لم يفوا بوعدهم. كما لاحظ أن وجود الجيش الفرنسي قد (جرح بالضرورة عادات ومصالح) الجزائريين (¬1). وبعد أربعين جلسة قدمت اللجنة عملها إلى الحكومة في جزئين: يتضمن الجزء الأول محتوى المناقشات حول الموضوعات الرئيسية كالاحتفاظ أو التخلي عن الجزائر، ومدى التوسع في الاحتلال ثم نظام الإدارة الذي يجب اتباعه في الجزائر. أما الجزء الثاني فيتضمن تقارير عامة عن الإدارة المدنية، والقضاء والمالية، وأخيرا محضر المناقشات المختلفة حول جميع الموضوعات التي طرحت أمام اللجنة. ورأي اللجنة في عرب الجزائر عندئذ لا يختلف عن رأي الفرنسيين في (الأهالي) عشية الثورة الجزائرية. فاللجنة حكمت أن العربي ما زال كعهده زمن ابراهيم الخليل، ومن رأيها أن عرب الجزائر لن يأخذوا عادات الأوربيين ولا تقاليدهم ولا حاجاتهم، ثم إنهم لن يختلطوا بهم أبدا. ولعل المؤرخ يقف طويلا عند هذا الحكم من الناس كانوا يخططون لمستقبل الجزائر التي ستصبح عندهم (المستعمرة الفذة). فاللجنة كانت غير متفائلة بالعلاقات بين الجزائريين والفرنسيين. وقد اكتفت بتوصية إلى فرنسا في أن تتعامل فقط مع بعض الحضر الجزائريين الذين يرضون بالبقاء في المدن المحتلة. أما الجزائريون عامة فلا يجب أن تعتمد عليهم فرنسا كمستهلكين لحضارتها، ولا سيما إنتاجها الاقتصادي. ولكن لماذا تصر فرنسا على الاحتفاظ بالجزائر؟ تجيب اللجنة عن ¬_____ (¬1) اللجنة الأفريقية، ص 293. (تقارير).

ذلك بأن الحذر والحكمة يقتضيان أن تكتفي فرنسا بما حصلت عليه من نتائج حتى الآن من الحملة ضد الجزائر. وكأن اللجنة كانت تجيب على المعارضة وأصوات الوطنيين أمثال حمدان خوجة (¬1)، والناقدين الأجانب أمثال الانكليزي بانيستر الذي ألف كتابا في هذا الصدد (¬2) حين زعمت بأنه كان من الممكن أن تترك فرنسا حضر الجزائر يؤلفون حكومة جزائرية منها، ربما تحت حماية فرنسا أو تحت حماية إحدى الدول المجاورة للجزائر كتونس أو المغرب أو مصر. وأقرت اللجنة أنه من الحق أن الحكومة الفرنسية قد أعلنت منذ اليوم الأول للحملة أن الجيش الفرنسي سيغادر الجزائر بعد الانتقام لشرف فرنسا الوطني ومعاقبة الباشا على فعلته. ولكن اللجنة قد اعترفت بأن جميع أعمال الحكومة الفرنسية في الجزائر، وكل أقوال ممثليها، بل حتى التصويت الذي جرى أخيرا لانتخاب البرلمان، كل ذلك قد أظهر لأوربا، بناء على اللجنة، أن فرنسا عازمة على الاحتفاظ بالجرائر، فالتخلي عن الجزائر يعتبر، في نظر اللجنة، إهانة جديدة لشرف فرنس (¬3). بل إن التخلي عن الجزائر سيكون صدمة لذاتية الأمة الفرنسية الشرعية وسيؤدي أيضا إلى التضحية بالتجارة وبالتوسع السياسي لفرنسا، وإلى تحطيم الآمال. وهكذا فحين جرى التصويت كانت الأصوات 17 لصالح الاحتفاظ بالجرائر و2 فقط لصالح التخلي عنها. وفي التقرير النهائي للجنة بعض الإحصاءات الهامة التي لا تهم المؤرخ فقط. من ذلك أنه نص على أن سكان مدينة الجزائر قبل الاحتلال كانوا ¬_____ (¬1) أنظر رسالته إلى اللجنة الأفريقية في كتاب (الحركة الوطنية الجزائرية) ملحق 3. (¬2) (نداء في صالح شمال أفريقية) باريس 1833. (¬3) اللجنة الأفريقية ج، أ، ص 402 (تقارير).

يتراوحون بين 35 و40 ألف نسمة، واعترف التقرير أن الأتراك طردوا من البلاد وأن الجيش الفرنسي قد سكن المنازل سواء تلك التي أرغم أصحابها على التخلي عنها أو التي ما زال أصحابها فيها، وهو عمل يتنافى، حسب رأي اللجنة، مع التقاليد الإسلامية (¬1). ومضايقه الجنود للسكان في منازلهم اضطرت كثيرا من العرب إلى الهجرة. ولذلك فان سكان مدينة الجزائر سنة 1834 كانوا لا يتجاوزون 25،000، منهم 4،000 أروبي حلوا بالجزائر بعد الاحتلال. ويذكر التقرير أيضا أن أغلب هؤلاء الأروبيين قد اشتروا الديار في مدينة الجزائر أما الباقون منهم فقد اشتروا لهم أملاكا في الضواحي. ويعترف التقرير أيضا أن المنازل الموجودة في الضواحي (وهي كثيرة لأن أغلب حضر الجزائر كانت لهم منازل خارج المدينة) قد عانت من شره الجنود الفرنسيين الذين اقتلعوا حتى الأبواب والنوافذ واستعملوها للتسخين، بل اقتلعوا الأشجار النادرة (¬2). ونلاحظ أن اللجنة كانت صريحة في وصف ما ارتكبه الفرنسيون نحو الجزائريين. فقد قالت في تقريرها النهائي الذي قدم إلى الحكومة في 10 مارس 1834، أن عددا من المساجد قد حطم أو حول إلى كنائس دون تعويض، وأن الجيش الفرنسي قد احتل كثيرا من المنازل الخاصة دون تعويض أيضا، وأن عددا آخر من الأملاك الخاصة قد احتل أو حطم أو استعمل في المصالح العامة دون تعويض أيضا (¬3). ورغم صراحة الوصف وقساوته أحيانا فان اللجنة تغاضت عن شكاوى الجزائريين مما اعترفت هي نفسها به وأوصت بالاحتفاظ بالجزائر دون اقتراح خطة جديدة فعالة ومنصفة. ¬_____ (¬1) أنظر حمدان خوجه، (المرآة) ص 233 وما يليها. (¬2) اللجنة الأفريقية، ح أص 410 (تقارير). (¬3) نفس المصدر، 445.

فنحن نجدها توصي بالدفاع عن سهل متيجة الخصيب، الذي قالت إنه يبلغ 25 فرسخا مربعا، لأنه مهم للدفاع عن المدينة من ناحية، وللفواكه والخضر والحبوب التي يدرها من ناحية أخرى، ولحماية المستوطنين الجدد الذين استقروا فيه من ناحية ثالثة. وبعد أن أقرت منصب الحاكم العام الذي سيكون مسئولا عن الشئون المدنية والعسكرية بمساعدة مجلس خاص أوصت بالاستعانة بحضر الجزائر واليهود، وبتدعيم الدرك المكون من الحضر ومنظمة الزواويين (الزواف) أما منصب أغا العرب فاللجنة قد تركت الباب مفتوحا. فالذي كان يعنيها هو الكفاءة سواء كان الآغا من حضر الجزائر أو من عرب البدو أو من الفرنسيين. ومن جهة أخرى أوصت اللجنة بانشاء ميزانية خاصة للجزائر وتخفيض الجيش الفرنسي هناك إلى أن يصل إلى 21000 فقط. ولكنها لم تجعل هذا التخفيض أمرا واجبا واكتفت بترك الموضوع للظروف إذا سمحت. ولكن إذا تحقق ذلك يبقى 12000 للدفاع عن مدينة الجزائر. أما باقي الجيش فيستعمل في وهران وعنابة وبجاية. والجدير بالذكر أن اللجنة أوصت باستخدام الجنود الجزائريين لمساعدة الجنود الفرنسيين (¬1). ... ¬_____ (¬1) لاحظ رئيس اللجنة (ديكازيس) أن الهروب كان شائعا من منظمة الزواويين التي كونها الفرنسيون من الجزائريين. وقد قال إن المنظمة تكونت ب 1،144 جندي، وبعد الهروب منها لم يبق سوى 363 جندي. أنظر نفس المصدر، ص 47 (محاضر). وللكاتب الفرنسي جورج إيفير دراسة عن (اللجنة الأفريقية) لا تحضرني تفاصيلها، لأنني) اطلعت عليها منذ مدة ولم أكتب ذلك.

الفصل السابع الجزائريون أمام اللجنة الأفريقية

الفصل السابع الجزائريون أمام اللجنة الأفريقية ليس في محاضر جلسات اللجنة الأفريقية الأولى المطبوعة سوى إشارة واحدة إلى جزائري هو المفتي ابن الكبابطي الذي سبق الحديث عنه. ولم يكن حديث ابن الكبابطي عن الإدارة الضرورية في الجزائر أو علاقة مواطنيه بفرنسا وإنما كان حديثا عن الأحوال الشخصية الإسلامية التي أراد الفرنسيون الذين استجوبوه عنها أن يتأكدوا منها قبل وضع خطة جديدة لاستقرار فرنسا في الجزائر. ولعل اللجنة الأولى التي استجوبت ابن الكبابطي قد مثل أمامها غيره أيضا، ولكننا على أية حال لا نجد في محضر الجلسات المطبوع غيره. ومن الممكن أن يكون أرشيف اللجنة المخزون محتويا على أسماء أخرى من الجزائريين. وقد يساعد على هذا الاعتقاد ما نجده من أن اللجنة قد استمعت إلى (الأهالي) إلى جانب استماعها إلى العناصر الأخرى من السكان في الجزائر (¬1). أما اللجنة الثانية التي كان مقرها باريس فقد استمعت على الأقل إلى ثلاثة من الجزائريين صادف أن كانوا موجودين في باريس عندئذ، هم أحمد بوضربة، وحمدان بن أمين السكة، وحمدان بن عثمان خوجة (¬2). وكانوا جميعا قد نفتهم السلطات الفرنسية في الجزائر. ولعل أرشيف اللجنة يحتوي على أسماء جزائرية أخرى لم تظهر في المحضر المطبوع والذي اعتمدنا عليه ¬_____ (¬1) سنذكر في نهاية هذا البحث مذكرة حمدان خوجة إلى اللجنة الأفريقية. (¬2) أنظر فيما يتعلق بحياة وشخصية ونشاط كل منهم الفصل الرابع من هذا الكتاب.

في هذا البحث. وعلى أية حال فان هؤلاء الجزائريين قد عبروا أمام اللجنة عن آراء واضحة حول الوجود الفرنسي في الجزائر وحول العلاقات الجديدة بين مواطنيهم والفرنسيين. والملاحظ أن بوضربة كان أكثر ميلا إلى الفرنسيين، بينما كان ابن أمين السكة معتدلا. أما خوجة فان مشاعره المعادية للفرنسيين كانت واضحة رغم أنه قد عبر عنها في مناسبات أخرى أكثر صراحة مما عبر عنها أمام اللجنة فهل كان الموقف يقتضي منه الحذر؟ أحمد بوضربة شخص غريب الأطوار مغامر أكثر منه سياسيا. وهناك بعض التعريفات القصيرة به، وبمواقفه وآرائه عامة في بعض المصادر الفرنسية. ولكن الذي يعنينا هنا ليس الترجمة له بل معرفة الآراء التي عبر عنها حين مثل أمام اللجنة الثانية (¬1). ويجب أن نذكر أنه قد قدم، مثل خوجة، مذكرة خاصة إلى هذه اللجنة ضمنها اقتراحات واضحة عن مستقبل الجزائر، ولا سيما التنظيم الإداري. وتجدر الإشارة إلى أن أحمد بوضربة قد سبق أن فاوض الفرنسيين (دي بورمون بالذات) عن كيفية تسليم مدينة الجزائر إليهم عند نجاح الحملة، كما أنه كان حاضرا حين صيغت بنود الاتفاق الجزائري الفرنسي سنة 1830. نصح بوضربة بأن تتبع فرنسا في الجزائر سياسة العدل الصارم نحو الجزائريين ولكن مع اللين والاعتدال، لأن ذلك هو الوسيلة الوحيدة التي تؤدي إلى نتائج طيبة. ونصح كذلك بأن تتفادى فرنسا نظام الأتراك في حكم الجزائريين الذي قال عنه إنه لا يتلاءم مع نظام الإدارة المتبع في فرنسا. ومن آرائه الجدلية حول هذا الموضوع اقتراحه بأن تعين فرنسا ¬_____ (¬1) انظر إيفير (المجلة الأفريقية 1913) فقد تناول هناك حياة أحمد بوضربة، كما نشر مذكرته.

أغا فرنسا على القبائل الجزائرية وليس أغا عربيا. (¬1) وبرر اقتراحه بأن الجزائريين يشكون في الآغا الذي هو منهم إذا دافع عنهم أمام الفرنسيين أما إذا كان رنسيا فانهم لا يشكون في إخلاصه إذا دافع عنهم، فهم مثلا لن يتهموه بأنه كان عميلا لبلاده بخلاف العربي. وانتقد بوضربة طريقة الاحتلال الفرنسي وقال إن أسوأ ما تميز به هو عدم اتباعه لنظام ثابت. ولا ننسى أن بوضربة كان يعبر عن هذا الرأي بعد أن نفته السلطات الفرنسية وبعد أن فشل في الوصول إلى الهدف الذي كان يعمل من أجله وهو إعادة الاعتبار إن لم يكن الحكم، إلى حضر الجزائر باعتبارهم خلفاء الأتراك في حكم الجزائر. لذلك قال بأن الاحتلال لم يحم أحدا، أي حتى الذين ساندوه أمثاله هو. فكانت النتيجة، بناء على رأيه أن الذين كانوا مع الاحتلال قد تخلوا عنه، وأن الذين كانوا سيرحبون به لم يجرؤوا على الإعلان عن شعورهم. وقد طلب بوضربة من فرنسا أن تعلن صراحة عن موقفها من القبائل التي خضعت لها، ومن تلك التي تريد الخضوع لها، ثم من تلك التي تقاوم الاحتلال. فالتردد والغموض لا يزيدان الأمور إلا تعقيدا وطلب من فرنسا أيضا أن لا تعفى الأهالي من الضرائب ولكن تفرضها عليهم بعدل، وأن تعاقب المذنبين منهم بحكمة. ولكي يسهل اندماج العرب في البيئة الفرنسية الجديدة اقترح بوضربة أيضا بعض الحلول. فطالب ببناء القرى والضيعات التي يستوطنها الفرنسيون عل أن يسمح للعرب بالاستقرار في هذه المستعمرات لأن ذلك وسيلة للتعارف بين المجموعتين ووسيلة أيضا لتعرف العرب على حضارة الفرنسيين بالإضافة إلى أن هذه الطريقة تنهي شيئا فشيئا مقاومة العرب لفرنسا. ¬_____ (¬1) اللجنة الأفريقية، ج، ص 40 (محاضر). وقد عرفنا أن الفرنسيين قد جربوا الاثنين فعينوا ابن أمين السكة والحاج محيي الدين من العرب وعينوا الضابط مانديري من الفرنسيين. وكان ذلك قبل اللجنة الأفريقية.

ومن جهة أخرى اقترح إنشاء جريدة لبث الأفكار وتنوير الرأي المحلي، لأن العربي، حسب رأي بوضربة، فضولي بطبعه، وسوف يقرأ هذه الجريدة بشغف كبير. ولكنه نصح أن لا تحتوي الجريدة على مناقشات أو قضايا دينية لأن العرب عندئذ سينفرون منها. وبدلا من الدين يجب أن تناقش الجريدة وتقدم معلومات عن الصناعة والفلاحة والمواضيع العلمية. وقال بوضربة في هذا الصدد إن كل جزائري تقريبا يعرف القراءة والكتابة، لذلك فان إنشاء هذه الجريدة سيفتح آفاقا جديدة أمام الجزائريين والفرنسيين معا. وقال أيضا إن في كل قرية جزائرية مدرستين، باستثناء منطقة جرجرة التي لاحظ أن التعليم فيها منحصر في طبقة خاصة، وهي طبقة الشيوخ والرؤساء (¬1). وكان بوضربة يبدو متفائلا حين وقف متحمسا ينادي بأحداث تغييرات على النظام الفرنسي القائم عندئذ في الجزائر، فقد طالب بإنهاء نظام العنف القائم حاليا والذي دام ثلاث سنوات، واستبداله بآخر قائم على اللين وحماية الأشخاص والممتلكات. وعندئذ، بناء على رأيه، سيرى الفرنسيون أن النتائج ستختلف، إذ سوف لا يجدون مقاومين وخطرين ولكن متعاونين راضين. وأعلن بوضربة أنه يقف في صالح عدة قضايا. من ذلك إقامة فرقة الزواويين (الزواف) على شرط أن تؤدي الدور الإيجابي المنتظر منها، وأن تتوفر لها شروط العمل الضرورية (¬2). أما بخصوص دمج اليهود في حياة الجزائريين العامة فلم يمانع بوضربة فيه ولكنه ألح في أن ذلك يجب أن لا يكون ¬_____ (¬1) نفس المصدر، ص 41 - 42. وقد أكد رأي بوضربة في انتشار التعليم توماس كامبل في كتابه (رسائل من الجنوب) المكتوب في نفس الفترة. (¬2) أسس الفرنسيون هذه الفرقة من الجزائريين ولكن أفرادها كانوا يفرون منها بشكل جعل رئيس اللجنة الثانية (ديكازيس) يقول أن من بين 1144 شخصا لم يبق سوى 263. انظر نفس المصدر، ص 47.

على حساب العرب. وقال بأن على فرنسا أن تعطي إلى العرب الضمانات الكافية على أن الطائفة اليهودية في الجزائر لن تنال شيئا من مراكز النفوذ الكبيرة في البلاد. ويمكن الإعلان عن هذه الضمانات بناء على رأيه، بواسطة بيان عام يوقع عليه علماء البلاد ومسئولو الشئون الدينية. أما عن القوات التي كانت لدى الجزائر القديمة فان بوضربة لم يذكر جميع التفاصيل حولها واكتفى بتهدئة روع الفرنسيين الذين كانوا يخشون تجمع تلك القوات للانقلاب عليهم. فقد قال إنه كان في مركز اسطاويلي 16،000 رجل مسلح و 4،000 من القبائل الراجلين (¬1) ولاحظ أن هذه القوات لا يمكنها أن تجتمع الآن من جديد، وإذن فلا خوف على الفرنسيين من وقوع ثورة ضدهم. ولاحظ أنه لا في وهران ولا في قسنطينة شخص يتمتع بنفوذ واسع يستطيع أن يؤلف حكومة جزائرية تخشى منها فرنسا (¬2) وادعى أن تصرفات الحاج أحمد باي قسنطين كانت سيئة إلى درجة أنه لا يستطيع أن يكسب ثقة أي أحد، فما بالك بتهديد الوجود الفرنسي. ويبدى بوضربة بعض الآراء الهامة حول أملاك الدولة في سهل متيجة فهو يقول إن دار السلطان (مدينة الجزائر وضواحيها بما في ذلك متيجة) كانت تملك بين 12 و 13 مزرعة في السهل المذكور، بعض هذه المزارع كان مملوكا عن طريق الإيجار. وكانت هناك وزارة خاصة (لعله يقصد خوجة الخيل) تقوم بإدارة المزارع وتعهدها. وكانت كل مزرعة تحتوي على 60 أو 80 زوجا من البقر. وكانت حدود ملكية كل قبيلة في السهل منظمة ¬_____ (¬1) وقعت معركة اسطاويلي في 19 جوان (يونيو) 1830 بين الجيش الجزائري بقيادة الآغا ابراهيم والجيش الفرنسي المهاجم بقيادة دي بورمون، وقد لاحظ بوضربة أن أهل جرجرة لا يحاربون أبدا على الخيل. (¬2) لم يكن الأمير قد ذاع صيته بعد (1834، أما الحاج أحمد باي قسنطينة فيبدو أن بوضربة لم يكن يرى فيه خطرا على الفرنسيين. وقد عرفنا أن بوضربة أصبح ممثل الأمير عبد القادر في مدينة الجزائر حسب بعض الروايات. انظر أيضا الفصل الرابع.

تنظيما دقيقا وثابتا، ولذلك فليس هناك نزاعات بين القبائل على الحدود. وقال بوضربة إن معظم سهل متيجة يعود إلى سكان مدية الجزائر، ولا سيما طبقة الحضر منهم. أما الأراضي المشاعة خلا توجد إلا في داخل الوطن، التي هي منطقة قبلية تخضع لإدارة الشيخ محليا وإدارة الدولة التي يمثلها القائد. وادعى بوضربة أن سهل متيجة غير صحي، وهو في هذا يتفق مع رأي حمدان خوجة. وقال إن عمال الأراضي في متيجة يعطون للمالك أربعة أخماس المحصول (¬1) , ولكنه لاحظ أن السهول المحيطة بمدينة وهران صحية خلافا لمتيجة، واقترح على فرنسا أن تتبع في وهران نفس النظام المقترح في الجزائر. ومن رأيه أن الذي جعل منطقة وهران خطيرة على الفرنسيين هو وجود شخصية ذات نفوذ كبير (¬2). وهناك آراء أخرى غريبة عبر عنها بوضربة حول الوجود الفرنسي في الجزائر. فقد لاحظ على الفرنسيين بأنهم إذا أرادوا الاكتفاء باحتلال السواحل والمدن فانهم لن يحصلوا على نتيجة في الجزائر. لذلك نصحهم بأن يعزموا على البقاء الدائم في البلاد وأن يكونوا لهم خلفاء من أهلها حتى تتوفر لهم شروط الإقامة. ونصحهم بأنهم إذا احتلوا قسنطينة (وكان حديثه سنة 1834. أي قبل ثلاث سنوات من احتلال قسنطينة فعلا). فيجب عليهم تعيين حاكم (فرنسي) عليها. وقال إن عدد سكان قسنطينة عندئذ يتراوحون بين 25 و 30 ألف نسمة وإن عادات هؤلاء السكان تختلف اختلافا واضحا عن عادات سكان الأرياف في الإقليم. ونصح الفرنسيين بأن يتعرفوا، قبل القيام بأي توسع، على إخلاص حلفائهم الجزائريين، وبذلك يتفادون تعريض جندهم للخطر المحقق. غير أنه أشار ¬_____ (¬1) هو النظام المعروف بالخماسة وصاحبه بالخماس (بتشديد الميم). (¬2) يبدو بوضربة متناقضا مع ما قاله سابقا من أنه لا وجود لشخصية ذات نفوذ تشكل خطرا على الفرنسيين في وهران. والظاهر أنه هنا يقصد الأمير الذى ظهر على المسرح بعد معاهدة ديميشال سنة 1824، أثناء انعقاد اللجنة.

عليهم بضرورة إعادة المساجد، التي (استعارها) الجيش الفرنسي أو التي استعملتها السلطات الفرنسية لمصالح عامة، إلى ما كانت عليه. ذلك أن هذه الحركة من فرنسا سيكون لها وقع كبير على نفوس العرب. أما بخصوص التجارة المحلية فقد قدم بوضربة حولها أيضا بعض الاقتراحات. فمن رأيه أن كل قبيلة خضعت لفرنسا يجب أن تتعهد بحماية طرق القوافل التي تدخل في نطاقها. وطالب بحرية التجارة في بعض المواد الهامة مثل الزيت والحرير لفائدة البلاد. ونادى باقامة حرس وطني فرنسي في مدينة الجزائر مكون من الجزائريين. والجدير بالذكر أن هذا الحرس كان موجودا أيضا على عهد العثمانيين وكان مكونا من عرب الحضر أو المور. فبوضربة إذن نصح باستمرار هذا النظام ولكن تحت ظل الفرنسيين (¬1). ونلاحظ من آراء بوضربة أنه كان يدعو بالدرجة الأولى إلى تغيير السياسة الفرنسية المطبقة عندئذ في الجزائر. وقد أوضح للفرنسيين طريق هذا التغيير. فمن رأيه أن على فرنسا أن تقوم برسالة تمدين فتعامل الناس بالعدل والإحسان، وتنشر بينهم حضارتها ومبادئها 0 وتدمج الجزائريين تدريجيا في مجتمعها. وهناك فرص كثيرة يراها أمام الفرنسيين في الجزائر إذا ما سلكوا طريق الاعتدال، ولم يتهوروا في تطبيق الاحتلال. ورغم أن هذا ليس موضع الحديث عن بوضربة من جميع جوانبه فانه يمكننا أن نعتبره من أوائل المبشرين بدعوة الاندماج التي آمن بها بعض الجزائريين خلال القرن الحالي، كما أنه كان من أوائل الجزائريين المعجبين بفرنسا المضحين في سبيل ذلك بحرية الجزائر وبالفكرة القومية على الإطلاق. وهناك متحدث آخر من الجزائريين أمام اللجنة، وهو السيد حمدان ¬_____ (¬1) يقع حديث بوضربة في اللجنة الأفريقية، ج 1، (محاضر)، ص 39 - 43.

ابن أمين السكة. وليس هذا مقام الترجمة لهذا الشخص الذي لعب دورا بارزا في الفترة الأولى للاحتلال ثم غضب عليه الفرنسيون ونفوه مثل بقية زملائه. ونكتقي بالقول هنا بأنه كان من حضر مدينة الجزائز وأنه تولى منصب أغا العرب في بداية الحكم الفرنسي، وأن المصادر الفرنسية تذكر أنه لم يقم بواجبه على أحسن وجه، وأنه كان رجلا يخشى منه. لذلك نفته السلطات الفرنسية من الجزائر حتى لا يفكر في التآمر ضدها. وقبل أن يعود إلى الجزائر أقام مدة في باريس وتزوج هناك من فرنسية (¬1). وأثناء إقامته في فرنسا أدلى بالآراء التالية أمام اللجنة الأفريقية (اللجنة الثانية). ونود أن نلاحظ، قبل إيراد آرائه، أن كلامه قد جاء في محضر اللجنة بضمير الغائب، أي أن كاتب اللجنة هو الذي صاغ كلامه، خلافا لزميليه بوضربة وحمدان خوجة الذي سيأتي ذكره. ونلاحظ ثانيا أن ابن أمين السكة قد تحدث في نفس الجلسة (رقم 13) التي تحدث فيها بوضربة. وأخيرا نلاحظ أن كاتب المحضر قد ذكر أن آراء ابن أمين السكة وبوضربة كانت متشابهة ولم تختلف إلا في جزئية واحدة سنذكرها. والواقع غير ذلك. فرغم أن المحضر لم يسجل له (بضمير الغائب) سوى حوالي عشرة أسطر، فان النغمة التي تسود آراء ابن أمين السكة كانت تشوبها المرارة، كما أن أفكاره كانت نافدة للفرنسيين أكثر منها ناصحة لهم أو مقترحة عليهم الحلول الصالحة، شأن أفكار بوضربة. فاذا أخذنا في الحسبان هذه الاعتبارات نستطيع أن ننظر في الحديث القصير الذي سجل له في محضر جلسات اللجنة. ذكر ابن أمين السكة الفرنسيين بأنهم جاءوا إلى الجزائر، كما أعلنوا، محررين لا منتصرين. ولذلك فقد كان من المفروض أن يكونوا أصدقاء ¬_____ (¬1) انظر عنه الفصل الرابع. وقد لاحظنا هناك أنه توفي سنة 1834 وهو ما يزال شابا، حسب الروايات المعاصرة.

للجزائريين وأن يتنقلوا بينهم بكل حرية، ولكن الواقع غير هذا. فقد جعل الفرنسيون من أنفسهم أعداء للجزائريين، وهكذا أصبحوا لا يستطيعون التنقل من مكان إلى آخر إلا بالحرب. وابن أمين السكة الذي كان سابقا أغا العرب لم يتردد في التصريح أمام اللجنة بأنه كان الأولى للسلطات الفرنسية في الجزائر أن تعتمد على الجنود الجزائريين لكي تنجح في مهمتها. ومن النقاط البارزة التي اختلف فيها رأي بوضربة عن رأي ابن أمين السكة أن هذا الأخير يقول بضرورة أن يكون أغا العرب مسلما جزائريا، بينما يقترح بوضربة، كما سبقت الإشارة، أن يكون الآغا فرنسيا، أما بشأن إدارة البلاد ووسائل الحكم فان رأي ابن أمين السكة لم يختلف كثيرا، حيب محضر الجلسة، عن رأي زميله بوضربة. ولكننا نلاحظ أن ابن أمين السكة قد أشار إلى أنه عندما كان أغا العرب يستطيع في الآيام الأولى للاحتلال أن يتنقل على رأس فرقة من الخيالة الجزائرية بكل حرية حتى في الاماكن النائية والمنعزلة التي لم يكن الأتراك قد وصلوها من قبل. وقال إنه خلال ذلك لم يلق إلا قليلا من المعارضة المحلية (¬1). وانتقد ابن أمين السكة بعض تصرفات الفرنسيين في الجزائر بشدة. ومن الذين ذكرهم بالاسم قائد الجيش الفرنسي العام في الجزائر بيرتزين وخليفته الدوق دي روفيغو (¬2) واللذين اتهمهما بعدم الإيفاء بوعد إعلان العفو العام. وأشار إلى أن حادثة مذبحة قبيلة العوفية (التي وقعت في عهد روفيغو) قد شوهت سمعة فرنسا في الجزائر. بالإضافة إلى أنه ذكر أمام اللجنة دون تردد أن مندوبين جزائرين قدموا من البليدة إلى مدينة الجزائر قد أوقفوا وحوكموا وأعدموا، خلافا للقوانين العامة، رغم ¬_____ (¬1) انظر الفصل الخاص بمحضر مدينة الجزائر. (¬2) توفي خلال سنة 1833. أما بيرتزين فلا ندري إن كان ما يزال حيا عندما أدلى ابن أمين السكة بحديثه.

أنهم كانوا يحملون عهد الأمان رسميا من الدوق دي روفيغو نفسه. وقال ابن أمين السكة إن هذا الحادث قد حطم ثقة الجزائريين في الفرنسيين (¬1). وهكذا، رغم قصر الكلام المنسوب إلى حمدان بن أمين السكة، فان عبارته كانت شديدة اللهجة، ناقدة للأوضاع، معرضة بالسياسة الفرنسية. ولعل ذلك هو السبب الذي جعل كاتب اللجنة يورد كلامه بصيغة الغائب بطريقة التلخيص دون ذكر عباراته هو. وعسى أن تكون معرفة كل ما قال تساعد الباحث على فهم آرائه وحقيقة شخصيته وصلة تفكيره عندئذ بمستقبل الجزائر. أما الآن فحسبنا أن نقول أن ابن أمين السكة كان بين بوضربة وخوجة. فلا هو مائل إلى الفرنسيين كبوضربة ولا هو ناقم عليهم كخوجة. فابن أمين السكة كان معتدلا، جامعا بين الميل الظاهر إليهم والنقمة المكتومة عليهم (¬2). يعتبر حمدان بن عثمان خوجة من الشخصيات البارزة التي لعبت دورا هاما خلال السنوات الأولى للاحتلال. فقد كان من تجار العاصمة وأغنيائها الكبار، كما كان من النشطين في شئون السياسة والدولة، والمطلعين المتتبعين لأحوال العالم آنذاك سواء المشرق أو أوربا. وله كتب نذكر منها (المرآة) الذي اشتهر به والذي ما يزال في نصه الفرنسي فقط (¬3). وله (المذكرة) التي بعث بها إلى اللجنة الأفريقية موضع حديثنا (¬4). وله رسالة (إتحاف المنصفين والأدباء في الاحتراز من الوباء) التي ألفها بينما كان في اسطانبول منفيا ونشرها عندئذ بالعربية والتركية وأهداها ¬_____ (¬1) يشير بالحادثة إلى مقتل قائدي بني خليل والسبت غدرا. أنظر الفصل الخامس. (¬2) يقع حديث ابن أمين السكة في اللجنة الأفرقية، ج 1، ص 43 - 44 (محاضر). (¬3) طبع في باريس: 1833، وهو مترجم عن العربية ولكن الأصل العربي ما يزال مفقودا، ترجم إلى العربية أخيرا كما سبق أن قلنا. (¬4) نشرها جورج إيفير G. yver في (المجلة الأفريقية) (1913). وترجمها إلى العربية كل من العربي الزبيري ومحمد بن عبد الكريم. انظر نهاية الفصل الرابع.

إلى السلطان محمود الثاني. وله رسالة وجهها أيضا إلى اللجنة الأفريقية بالفرنسية (¬1). ولعل له كتبا أخرى لم نعرفها بعد، ولحمدان خوجة مواقف من الاحتلال الفرنسي، ومن الفكرة القومية، ومن حرية الجزائر بالذات. وإذا كان بعض هذه المواقف ما يزال غامضا فإن بعضها الآخر واضح كل الوضوح عبر عنه صراحة في عدة مناسبات، أهمها ساعة مثوله أمام اللجنة الأفريقية الثانية (¬2). مثل حمدان خوجة أمام اللجنة في جلستها الرابعة عشرة وكان مصحوبا بمترجمه (¬3)، وقد قال له الرئيس إن اللجنة تعلم عن الكتاب الذي أخرجه عن الجزائر (¬4)، وأن الكتاب يحتوي على قضايا ليس من شأن اللجنة أن تتدخل فيها، وعلى شكاوى شخصية ستنال حقها من العدالة وطلب منه أن يجيب على الأمور العامة وعلى ما أراد أن يطلع عليه الرأي العام واتهمه بأن أكثر ما جاء في الكتاب خال من الراهين، ودعاه إلى تقديم البراهين إذا كانت لديه. وبناء على محضر الجلسة فإن خوجة قد أجاب أن ليس لديه لا حقائق ولا براهين جديدة. وقد طمأن الرئيس خوجة على أن الأمور التي اشتكى منها ستنال حظها من العناية. فالمساجد التي احتلتها السلطات الفرنسية ستعاد إلى ما كانت عليه ¬_____ (¬1) مترجمة إلى العربية في ملحق كتابي (الحركة الوطنية الجزائرية). دار الآداب بيروت، 1969).ملحق 3. (¬2) لزيادة الاطلاع على حياه حمدان خوجة انظر نفس المصدر، ص 37 - 44 وانظر، أيضا الفصل الخاص بحضر مدينة الجزائر من هذا البحث. (¬3) هكذا جاء في محضر الجلسات والذي نعرفه من مصادر أخرى أن خوجة كان يحسن الفرنسية. (¬4) يعني كتاب (المرآة) (باريس 1833) وهو الذي هاجم فيه بشدة النظام الفرنسي في الجزائر.

وأن الأملاك ستحترم في المستقبل، وأن الإيجارات ستدفع، لأن هدف الحكومة الفرنسية هو تطبيق نفس العدالة المطبقة في فرنسا على الجزائر. ثم سأل خوجة رأيه فيما إذا كان يعتقد أن تطبيق مبدأ إعادة الأملاك سيحقق الازدهار للمناطق التي احتلتها فرنسا في الجزائر، كما سيؤدي إلى استعماله الجزائريين الذين عارضوا حتى الآن الوجود الفرنسي والذين هم بلا شك قد أقاموا معارضتهم نتيجة للشكاوى التي نشرها (أي خوجة) في كتابه والتي بالغ فيها. ورغم أن محضر اللجنة قد اختصر إجابته على هذا الموضوع فإنه قد عبر عن اعتقاده بأن النتيجة التي توقعها رئيس اللجنة لن تتحقق بسرعة لأن نظام العدالة المشار إليه قد يفيد، بناء على رأي خوجة، أهل المدن، أما بالنسبة لسكان الأرياف فلن يكون له سوى مفعول ضئيل. ومن رأي خوجة أن زنا لن تجني شيئا من محاولتها إغراء الجزائريين بوضع نظام فرنسي مكان النظام التركي أو بالتظاهر باحترام الدين والمعتقدات المحلية. فقد سأله الرئيس عما إذا كان يعتقد أن احترام الدين وحماية السكان وعدل الحكومة الفرنسية الصارم قد وفرت لمواطنيه فرصا مغرية لم تكن متوفرة لهم زمن الأتراك. وكان الرئيس يعتقد، خلافا لخوجة، أن هذه الإجراءات ستسهل الطريق أمام السلطات الفرنسية في الجزائر. فمثلا، فتح سوق مدينة الجزائر أمام الجزائريين لبيع بضائعهم بأسعار عالية سيضمن خضوعهم لفرنسا حرصا على مصلحتهم الاقتصادية. ولكن خوجة أجاب باختصار، على الأقل بناء على محضر الجلسة، بأن ذلك الاستنتاج صعب إن لم يكن مستحيلا. ونفس الجواب رد به خوجة على سؤال طرحه الرئيس حول علاقة فرنسا بسكان منطقه متيجة. فالرئيس قد لاحظ أن أهالي متيجة يبيعون بضائعهم في الأسواق الخاضعة للفرنسيين وأنهم قد أصبحوا على علاقات طيبة معهم. ولكن الفرنسيين يريدون إقامة نظام يضمن هذه

العلاقات ويمتنها. وهناك عدة إمكانيات لذلك، منها تعيين أغا يأتي إليه عرب متيجة بمطالبهم ويكون واسطة بينهم وبين السلطات الفرنسية، كما كان واسطة بينهم وبين حكومة الوجق التركي من قبل , وسيكون هذا الآغا مكلفا بالأمن عن طريق شرطة (الصبائحية) المكونة من العرب أنفسهم. وكان الفرنسيون، على لسان رئيس اللجنة، يرون أن إقامة هذا النظام واحترام الدين وعرض الفرص سيجعل العرب يخضعون لهم. ولكن جواب خوجة على هذه النقطة كان متشائما ومختصرا أيضا، غير أنه كان واضحا. فقد رأى استحالة خضوع العرب للفرنيين لأن العرب (عرب سهل متيجة خاصة) كانوا معزولين أيام الأتراك، أما اليوم فهم متضامنون ضد العدو المشترك (¬1). ولذلك فان جميع المغريات المذكورة لن تحقق طاعتهم لفرنسا. وقد قدم خوجة معلومات هامة عن الحالة العسكرية في الجزائر عند نزول الفرنسيين. فقد كان آنذاك في مدينة الجزائر. وكان حسين باشا قد أرسله لإقناع الآغا إبراهيم، صهر الباشا، باستئناف قيادة الجيش بعد هزيمة أسطاويلي (19 جوان 1830). وقد نجح خوجة في مهمته رغم صعوبتها. وكان محل ثقة الباشا. ولذلك فان معلوماته أكثر صحة من معلومات غيره، وقذ ذكر خوجة أمام اللجنة بأنه كان في إمكان حسين باشا أن يجند 60،000 محارب ولكنه لم يستعمل كل قواته ثقة بقدرته من ناحية، ومن ناحية أخرى فانه لم يكن يتوقع ذلك الهجوم من الفرنسيين وقد اكتفى الباشا، بناء على خوجة، بتجنيد جيش من 30،000 محارب فقط. أما رحلته الغامضة إلى قسنطينة فقد أجاب خوجة عنها إجابة غامضة ¬_____ (¬1) قضية التضامن هنا هي التي عبر عنها خوجة في مناسبات أخرى وخصوصا في (المذكرة) بالقومية. لأن من رأيه أن التعايش بين الجزائريين والفرنسيين مستحيل لاختلافهم في كل شيء. انظر كتابي (الحركة الوطنية الجزائرية)، ص 37 - 44.

أيضا. ورغم أن تفاصيل هذه الرحلة ما تزال غير معروفة فان بعض خيوطها يمكن جمعها من المصادر القليلة الموجودة عنها (¬1). ويذكر خوجة أن الدوق دي روفيغو قد أرسله باقتراحات معينة للتفاوض مع الحاج أحمد، باي قسنطينة، وأنه قد تعرض من أجل ذلك إلى أخطار كبيرة وأنه دفع ثمن الرحلة من جيبه. وقد طلب منه رئيس الجلسة أن يقص على أعضاء اللجنة قصة هذه الرحلة مع ذكر الصعوبات والتسهيلات التي وجدها في الطريق ووصف القوة العسكرية والمادية التي يملكها الحاج أحمد. قال خوجة إن الرحلة قد دامت عشرين يوما وأنها كانت عن طريق البر، وأنه كان مصحوبا بابنه (¬2). ويذكر محضر الجلسة أن خوجة (وهو الذي طالما اشتكى من الأخطار التي تعرض لها وطالب بدفع تعويضات عن الأموال التي صرفها) قد قال بأنه كان في استطاعته المرور بحرية بفضل وصية أحد المرابطين (الذي لم يذكر اسمه) (¬3)، وبفضل هدايا صغيرة. ولكن خوجة رفض بناء على محضر الجلسة، أن يجيب على محتوى الاقتراحات التي كان من المفروض أن يكون مكلفا بتقديمها إلى الحاج أحمد، مدعيا أن ذلك سر بينه وبين الحكومة الفرنسية. وعندما نبهه الرئيس بأن اللجنة تسأله باسم الحكومة وأنه ليس هناك سر لدى اللجنة اضطرب خوجة، حسب محضر الجلسة، ولم يستطع تبرير مهمته. وقد ذكر بأنه تعرض إلى ¬_____ (¬1) من هذه المصادر كتاب ابنه علي خوجة انظر فصل حضر مدينة الجزائر و (أخبار الجزائر) لبيلي دي رينو، 3 ج (باريس، 1854) و (المرآة) لخوجة نفسه. و (مذكرات الحاج أحمد باي قسنطينة) التي نشرها م. إيميري Emerit في (المجلة الأفريقية) 1949. (¬2) وهو الذي كتب وصف الرحلة المذكورة. (¬3) لا شك في أنه يقصد الشيخ علي بن عيسى الذي كان عمره مائة سنة، وهو سرابط قرومة (الأخضرية حاليا) والزعيم الروحي لقبيلة فلية. انظر الفصل الخامس.

أخطار من قبل الحاج أحمد نفسه (¬1). ولكن خوجة أجاب بالإيجاب عندما تحداه الرئيس بأنه كان يمثل في المفاوضات لا الدوق دي روفيغو ولكن الحاج أحمد. فالحاج أحمد، بناء على رئيس الجلسة، قد أعطى خوجة تفويضا كتابيا لكي يفاوض فرنسا باسمه (أي الحاج أحمد). وإذا كان هذا هو الصحيح فإن خوجة قد ذهب إلى قسنطينة على حسابه الخاص للقيام بمهمة سياسية لا دخل للسلطات الفرنسية فيها. ولذلك فإن خوجة في نظرها كان متآمرا، ثم إن النقود التي كان يطبها من فرنسا مقابل الرحلة ليس له حق فيها. والواقع أننا إذا أخذنا رأي خوجة من (المرآة) فإنه يبدي هناك إعجابا كبيرا بالحاج أحمد ويخصه بالثناء. وهذه الروح لم تختف عندها مثل أمام اللجنة. فهو يرى أن خضوع الحاج أحمد لفرنسا عن طريق التفاوض أمر صعب لأن باي قسنطينة كان يشعر أن له كثيرا من الأنصار في الصحراء، ثم إن له 10،000 محارب يدفع لهم الرواتب. بخلاف جنود حلفائه الكثيرين، فرأى خوجة في الحاج أحمد إلى هذه الساعة كان رأيا عاليا إذا صح التعبير. ثم عادت المناقشة بين خوجة وأعضاء اللجنة إلى سهل متيجة، فما أملاك الدولة قديما في هذا السهل؟ وما حق ملكية أهل السهل فيه؟ وقد أجاب ¬_____ (¬1) ليس هناك ما يدل على سوء التفاهم بين خوجة والحاج أحمد. ويذكر الأخير في مذكراته أن خوجة قد أخذ منه مالا ليذهب إلى فرنسا ليفاوض باسمه (أي الحاج أحمد) ولكنه لم يسمع منه إلا عندما كان (أي خوجة) في اسطانبول دون أن يعيد المال الذي وعد بإعادته. وعلى أية حال فإن خوجة قد ظل يترجم رسائل الحاج أحمد إلى السلطان محمود الثاني. ويبدو أن العلاقة بين الرجلين قد استمرت إلى نهاية حكم الحاج أحمد. أما عن مبدأ المفاوضات فالحاج أحمد يذكر أن خوجة قد جاء يفاوضه باسم الدوق دي روفيغو. ولكنه خلافا لخوجة، يذكر أن الرحلة كانت عن طريق (عنابة). انظر الفصل الخاص بالحاج أحمد.

خوجة لأنه لا يعرف بالضبط حدود أملاك الدولة القديمة في متيجة، وكل ما يعرفه بالتأكيد هو أن أفضل المزارع كانت للدولة. وأنه كانت هناك حوالي ست عشرة مزرعة. يعمل في معظمها عرب منطقة متيجة. وقد أحال خوجة اللجنة إلى أرشيف الحكومة القديمة الذي قال عنه إن فيه جميع التفاصيل. وأما عن حق ملكية العاملين في هذه المزارع فإن خوجة قد أجاب بأن حوالي ثلثي السهل لعرب المنطقة. ويملك أهل مدينة الجزائر الثلث الباقي الذي يتركونه لعرب المنطقة. يعملون فيه مقابل نصف المحصول. وتوجد أملاك الدولة، بناء على رأيه. في هذا الثلث. وكان خوجة غامضا في جوابه عن سؤال يخص تجارة الجزائر القديمة مع السودان أو إمكانية إعادة تلك التجارة إلى ما كانت عليه. فقد أوضح بأن هذه التجارة كانت تتم عن طريق قوافل الإبل. ويقوم بها عربان معروفون، من بينهم بنو عزول الذين قال عنهم إنهم يوجدون في الصحراء على مسافة خمسة عشر يوما من مدينة الجزائر. وحذر خوجة من الأخطار التي تعترض إحياء هذا الخط التجاري مع أفريقية. ويبدو أنه لم يرد أن يساعد الفرنسيين في هذه النقطة، كما كان مقتضيا حولها في إجابته عليها وعلى أمثالها مما يتصل بتمكين فرنسا من تدعيم سلطانها في الجزائر. وعلى أية حال فقد أحال اللجنة، في النهاية، على كتابه الذي قال إنه يحتوي على تفاصيل حول نقطة التجارة المذكروة (¬1). هذا كل ما عثرنا عليه في محضر جلسة اللجنة من آراء الجزائريين حول أوضاع بلادهم خلال السنوات الأول من الاحتلال. ولا شك في أن هناك وثائق أخرى حول هذا الموضوع لم تنشر بعد لعلها أهم مما نشر حتى الآن. وعلى أية حال فإن فيما لدينا من آراء كفاية للدلالة على وجهات النظر ¬_____ (¬1) يجد القارىء كلام خوجة في اللجنة الأفريقية، ج 1، ص 56 - 59. (محاضر).

المختلفة. ويمكننا اعتبار أن الآراء في جملتها تمثل معظم الاتجاهات الموجودة في الجزائر آنذاك. فهناك اتجاه يميل إلى التعاون مع الفرنسيين يمثله هنا أحمد بوضربة، وهناك اتجاه ثان كان أصحابه مستعدين للتعاون على شرط توفير ظروف معينة ويمثله هنا حمدان بن أمين السكة، وأخيرا هناك اتجاه يرفض التعاون تماما لاختلاف الشعبين والحضارتين الإسلامية العربية والأوربية ويمثله هنا حمدان بن عثمان خوجة. ***

الفصل الثامن الحاج أحمد باي قسنطينة

الفصل الثامن الحاج أحمد باي قسنطينة يمكن تقسيم المقاومة التي واجهت الفرنسيين بعد احتلال الجزائر إلى ثلاثة أنوع: مقاومة سياسية قامت بها طبقة التجار والعلماء وأعيان المدن، وكانت هذه غالبا تنبع من المدن وتولاها كما رأينا حمدان بن عثمان خوجة وزملاؤه. مقاومة شعبية دينية قام بها مرابطون ورؤساء قبائل تحت راية الجهاد في سبيل الله والأرض والشرف والوطن، وتولاها كما رأينا أيضا مرابطون وزعماء أمثال بن زعمون والحاج سيدي السعدي والآغا محيي الدين ثم الأمير عبد القادر , أما النوع الثالث من المقاومة فهو ما قام به ممثلو الإدارة العثمانية، بعد سقوط الحكومة المركزية، دفاعا عن المصالح الشخصية والألقاب العثمانية في سبيل الإسلام وذودا عن التقاليد والأراضي الإسلامية. وقد تولى هذا النوع من المقاومة باي التيطري مصطفى بومزراق. وابنه سي أحمد، وإبراهيم باي قسنطينة السابق، والحاج أحمد الذي كان باي قسنطينة عند دخول الفرنسيين مدينة الجزائر. ويهمنا الآن الحديث عن الحاج أحمد الذي قاوم الفرنسيين خلال ثماني عشرة سنة وترك لنا سيرة مقاوم عنيد، وجندي كفء، وحاكم قدير. ولاه حسين باشا بايا على قسنطينة حوالي سنة 1827. وكان الحاج أحمد مرتبطا بإقليم قسنطينة بالمصاهرة فكان كرغليا، أي من أب تركي وأم جزائرية، وكان أخواله من عائلة ابن قانة التي كانت لها مكانة وسلطة على عرب الصحراء في نواحي بسكرة والزاب. كان جده هو أحمد القلي الذي

كان بايا على قسنطينة أيضا. أما والده فقد كان خليفة لحسين باشا. وقد تصاهر الحاج أحمد مع عدد من الأسر والقبائل العربية في المنطقة هادفا إلى نيل تأييدهم. فتصاهر مع ابن قانة، والمقراني، وقسم من قبيلتي فرجيوة زواوة. ولكن أعداءه كانوا هم أولاد فرحات الذين يتنازعون منصب (شيخ العرب) مع أولاد ابن قانة. وقد واجه الحاج أحمد عدوا لدودا في شخص فرحات ابن سعيد عندما عزله الحاج أحمد من منصب شيخ العرب وأعطاه إلى خاله بو عزيز بن قانة. كما واجه الحاج أحمد خصوما في بقية فرجيوة وزواره وفي الحزب الذي ظهر ضده في عاصمة إقليمه. عندما تأكدت الحملة الفرنسية على الجزائر بعث إليه حسين باشا يأمره بالقدوم إلى العاصمة عام 1830 في رحلة (الدنوش) (¬1). وقد أمره الباشا أيضا يتحصين ميناء عنابة وأخطره بالمشروع الفرنسي. وما دام الباشا لم يطلب منه الإتيان بالجيش معه فإنه لم يصحب معه سوى حوالي 400 فارس وبعض أعيان قسنطينة وقوادها. وبعد وصوله إلى العاصمة عرفه حسين بتفاصيل الحملة الفرنسية وطلب إليه أن يستعد لملاقاة الفرنسيين في سيدى فرج. وقد أخطره الباشا بأن له جواسيس في مالطة وجبل طارق وفرنسا يتتبعون أخبار الفزنسيين ويبعثون إليه الرسائل عن كل التفاصيل (¬2). حضر الحاج أحمد مجلسا عسكريا قرب اسطاويلي وحضره أيضا الآغا إبراهيم - قائد الجيش وصهر الباشا، وباي التيطري مصطفى بومزراق، وخليفة باي وهران، وخوجة الخيل وناقشوا وسائل الدفاع. وقد شارك الحاج أحمد في المناقشة الطويلة التي جرت والتي تعارض فيها رأيه مع رأي ¬_____ (¬1) هي الرحلة التقليدية التي يقوم بها البايات كل ثلاث سنوات إلى العاصمة لتقديم تقرير عام عن حالة الإقليم، وتجديد الولاء للباشا، ودفع (اللازمة) أو الالتزام المالي الذي يحمله كل باي معه إلى الباشا والخزينة العامة. (¬2) إذا صحت هذه الأخبار فإنها تؤكد أن حسين باشا كان على علم كامل بأحوال الحملة الفرنسية على الجزائر.

الآغا. وقد حضر المناقشة أيضا حمدان بن عثمان خوجة الذي ترك لنا وصفا حيا (¬1)، لذلك. وبعد معركة اسطاويلي التي حضرها الحاج أحمد وفقد فيها من رجاله حوالي 200. وبعد استيالاء الفرنسيين على قلعة مولاي حسن انسحب الحاج أحمد إلى وادي القلعة ثم إلى عين الرباط (مصطفى باشا الآن) شرقي العاصمة. ثم تابع طريقه شرقا في اتجاه قسنطينة، بينما انضم إليه أكثر من 10600 شخص من الأهالي الفارين من الجيش الفرنسي رجالا ونساء. وفي أولاد زيتون اتصل برسالة من بورمون قائد الجيش الفرنسي يخطره فيها بتوقيع معاهدة الاستسلام ويعرض عليه اعتراف فرنسا به كما هو إذا قبل دفع (اللازمة) (الجزية) التي تعود دفعها إلى الباشا. فكان رده هو أن ذلك متوقف على رضى أهل الإقليم الذي يحكمه، ثم واصل سيره نحو قسنطينة التي وصل ضاحيتها (الحامة) بعد اثنين وعشرين يوما. توقف الحاج أحمد في ضاحية المدينة لأنه عرف أن خصومه الأتراك قد قاموا بانقلاب ضده وعينوا بايا جديدا مكانه يدعى حمود بن شاكر. ولكن أنصاره تحركوا عندما علموا بعودته يقودهم خليفته ابن عيسى وبعض العلماء، وعندما تأكد خصومه من عدم تأييد أهل البلاد لهم قتلوا زعيمهم وأعلنوا توبتهم وولاءهم. وقد عفا عنهم الحاج أحمد في الظاهر ولكنه تخلص منهم واحدا واحدا فيما بعد وحمل منذئذ كرها شديدا ضد الأتراك وأصبح لا يثق فيهم واعتمد على تأييد الجيش العربي الذي أخذ في تكوينه (¬2). ¬_____ (¬1) انظر الفصل الخاص باستعدادات الجزائر لمواجهة الحملة. (¬2) راجع بيليبي دي رينو، ج1، ص 204 وتذكر المذكرات أنه حاكم المنشقين وأمر بقتلهم وجعلهم مثالا لغيرهم. انظر مارسيل إيميري M. EMERIT .(مذكرات الحاج أحمد آخر بايات قسنطينة) (المجلة الأفريقية)، 1949 ص 75.

كان على الحاج أحمد أن يواجه عدة ضغوط دبلوماسية وأن يسيطر على الإقليم. فبعد استقراره في عاصمة إقليمه اتصل برسالة من قائد الجيش الفرنسي الجديد، الجنرال كلوزيل، يطلب فيها منه تعيينه بايا على قسنطينة باسم ملك الفرنسيين شريطة أن يدفع (اللازمة) لفرنسا. ولكن الحاج أحمد الذي كان يعتقد أن سلطاته مستمدة من الشعب ومن السلطان العثماني جمع ديوانه واستشاره. فكان رد الديوان الرفض القاطع. وبينما كان ينتظر رد السلطان محمود الثاني علم أن كلوزيل قد عزله من منصبه وأنه قد وقع مع تونس معاهدة يصبح بمقتضاها سي مصطفى، أخو باي تونس عندئذ، بايا على قسنطينة خلفا للحاج أحمد (¬1). ولكن الحكومة الفرنسية لم توافق على المعاهدة المذكورة، وكان على كلوزيل وخلفائه أن يواجهوا مقاومة شديدة من الحاج أحمد. ويذكر هذا في مذكراته أن خبر توقيع المعاهدة بين كلوزيل وباي تونس لم ينتشر بين سكان الإقليم ولم يعرفه إلا بعض الناس. ولكن فرنسا، ولو لم توافق حكومتها على المعاهدة، نجحت في خلق توتر بين قسنطينة وتونس. فبعد توقيع المعاهدة انتشرت الرسائل في إقليم قسنطينة من باي تونس تدعو الناس إلى الثورة ضد الحاج أحمد، وتعلن انضمام قسنطينة إلى تونس كما كانت في السابق جزءا منها، وتصف الحاج أحمد بالاستبداد والطغيان والخروج عن طاعة السلطان. والغريب أن الرسائل كانت لا تذكر شيئا عن الاتفاق مع الفرنسيين وهكذا كان على الحاج أحمد أن يواجه عدة جبهات: جبهة ضد فرنسا، ¬_____ (¬1) وقعت هذه المعاهدة في 18 أكتوبر 1830. انظر نصها الكامل في (المرآة) لحمدان خوجة، ص 272 - 275. وهناك معاهدة أخرى شبيهة بهذه وقعها الجنرال كلوزيل مع خير الدين، ممثل آخر عن باي تونس، لحكم إقليم وهران. نصها أيضا في نفس المصدر وإلى ص 268 - 272. وفي العدد الخامس من (المجلة التاريخية المغربية) دراسة لاتفاق باي تونس - كلوزيل قام بها عبد الجليل التميمي.

وأخرى ضد تونس، وثالثة ضد إبراهيم الذي أعلن نفسه بايا على عنابة ويطالب بعودته إلى قسنطينة. ورابعة ضد باي التيطري الذي أعلن نفسه (باشا الجزائر)، خلفا لحسين باشا وطالب الحاج أحمد الاعتراف به. وخامسة ضد فرحات بن سعيد شيخ العرب الذي عزله الحاج أحمد وعين بدلا منه خاله بوعزيز بن قانة. بالإضافة إلى المؤامرات التي ولدت ضده داخل عاصمته. جمع الحاج أحمد ديوانه وعرض عليهم دعوى باي تونس فقرر الديوان إرسال رسالة إلى باي تونس محتواها أنه ليس من حقه المطالبة بقسنطينة. وأن السلطان هو المرجع، فكما أن باي تونس يستمد سلطاته منه فكذلك باي قسنطينة، وأن أهل قسنطينة راضون بحكم الحاج أحمد. وتحت صغط الرأي العام، وانتزاعا للمبادرة عن باي التيطري (¬1)، وقطعا لدعاوى باي تونس، تقلد الحاج أحمد لقب (الباشا) وأمر بضرب السكة باسمه وباسم السلطان. وعين مساعده بن عيسى خزناجيا، وأعلن هذه الإجراءات الإدارية التي تخوله ممارسة السيادة إلى الرأي العام. ولكن المعركة بينه وبين باي تونس انتقلت إلى بلاط السلطان. فقد علم الحاج أحمد أن باي تونس قد بعث برسائل إلى السلطان يصف فيها باي قسنطينة بظلم الرعية والخروج عن الطاعة. فلجأ الحاج أحمد إلى إرسال وفد برئاسة سي علي بن عجوز أحد أعيان قسنطينة ومعه أحد ثقاته وهو الحاج مصطفى إلى اسطانبول. وقد حمل الوفد إلى السلطان موقف الإرادة العامة ¬_____ (¬1) أعلن بومزراق نفسه باشا وطلب من الحاج أخمد الاعتراف به لكي يرسل إليه القفطان فلم يرد عليه وقال للوفد (نحن سواء) والبارود هو الذي يقرر بيننا. فعزله بومزراق وعين بدله غريمه إبراهيم. ولكن بومزراق انهزم امام الفرنسيين أسروه في نوفمبر عام 1830 أثناء حملة المدية، واستقر بعد ذلك في الاسكندرية، وهكذا تخلص الحاج أحمد من أحد خصومه. أنظر دي رينو ص 206، والمذكرات ص 79.

التي امتدت على توقيعات رؤساء القبائل وأعيان البلاد، وجميعها تؤيد حكمه وتنقي عنه الاستبداد والظلم. بعد السيطرة على الموقف في قسنطينة التفت الحاج أحمد إلى خصومه الذين تخلص من بعضهم بمساعدة الظروف، ولكن بعضهم ظل كالشوكة في حلقه. فقد خرج لمحاربة إبراهمم وفرحات بن سعيد. فر الأول إلى عنابة عن طريق تونس والثاني إلى أولاد جلال في أعماق الصحراء حيث ظل يحارب بدون هوادة وكان إبراهيم في عنابة قد تواطأ مع الفرنسيين أولا ثم أعلن الحرب عليهم وأخرجهم من المدينة ولكن ابن عيسى مساعد الحاج أحمد حاربه واضطره للهروب. ثم تحولت المعركة على عنابة بين ابن عيسى والفرنسيين. وعندما أيقن ابن عيسى من تغلب الفرنسيين عليه خرج منها هو وسكانها ودخلها الفرنسيون من جديد واستقروا بها بعد سنتين من احتلال الجزائر. وقد كان احتلالهم لعنابة، أهم مواني إقليم قسنطينة، سببا في توتر مستمر بين فرنسا والحاج أحمد. وقد عين الفرنسيون على عناية يوسف المملوك (¬1). أما إبراهيم فقد احتمى بالجبال وواصل مقاومته للحاج أحمد إلى سنة 1834، وكان في نفس الوقت يحارب الفرنسيين. ثم التجأ إلى مدينة المدية حيث مات، ويقال إنه اغتيل من عملاء الحاج أحمد (¬2). وإذا كان الفرنسيون قد خلصوا الحاج أحمد من خصمه بومرزاق حين أسروه ونفوه إلى الاسكندزية (خريف 1830). فان ابنه سي أحمد قد انضم إليه (إلى الحاج أحمد) وأصبح خليفة له ورشحه أن يكون صهرا له. غير ¬_____ (¬1) لعب يوسف هذا دورا هاما في احتلال قسنطينة. وقد ادعى أنه ابن غير شرعي لنابليون الأول وأنه من جزيرة (إلبا)، وقد أصبح جنرالا كبيرا في الجيش الفرنسي بناء على ذالك ولكن مذكرات الحاج أحمد تكشف أنه كان يهوديا مرتدا، وأنه كان أسيرا لدى بايى تونس: وأنه كان عشيقا لابنة هذا الباي. وعندما اكتشف أمره فر إلى الجزائر والتحق بالجيش الفرنسي وأصبح من المغامرين فيه. (¬2) انظر المذكرات ص 81 هامش 15.

أن سي أحمد كان مغامرا ففر من عنده والتجأ إلى الأمير عبد القادر (وهو خصم آخر للحاج أحمد) (¬1). رغم محاولات الحاج أحمد في الحصول على نجدة عاجلة من السلطان فان جهوده لم تنجح، على الأقل في الوقت المناسب. فقد عاد اليه الوفد الذي أرسله برد غامض من السلطان يحمل توقيع رؤرف باشا. فالسلطان في حالة سلم مع الدول المسيحية ولا يمكنه إعلان الحرب على فرنسا بسبب قضية الجزائر، أو بالأحرى قضية قسنطينة ولكنه طلب من الحاج أحمد أن يستمر في نضاله ضد الفرنسيين وأن لا يوقع أي صلح معهم إلا بعد مشاورته. والجدير بالذكر أن وفد الحاج أحمد قد نزل س البحر في طرابلس ومنها. فيما يبدو، إلى قسنطينة عن طريق الصحراء، لأن باي تونس لم يكن صديقا لباي قسنطينة. ولكن الحاج أحمد لم ييأس وأرسل وفدا آخر إلى السلطان يقوده السيد بلهوان الذي كان يحمل رسالة إلى رؤوف باشا الوزير الأول. وألح الحاج أحمد في رسالته على طلب المساعدة المادية وأعلن أنه مستعد للتضحية من أجل الدين، وأن الفرنسيين يقتربون منه يوما بعد يوم. ولكن رؤوف قد استقبل بلهوان استقبالا باردا ووعده بإرسال مندوب عنه إلى قسنطينة ليتقصى الأمر. فكان هذا لمندوب هو كامل بك (¬2). وقبل وصول كامل بك إلى قسنطينة جرت اتصالات بين الحاج أحمد وبين القائد الفرنسي العام في الجزائر، الدوق دي روفيغو. للتفاوض، فقد حمل إليه حمدان بن عثمان خوجة في صيف سنة 1832 رسالة من الدوق محتواها ¬_____ (¬1) تقول المذكرات إن سي أحمد قد هرب بأموال الحاج أحمد إلى الأمير. وقد أكرمه الأمير ثم كواه بالنار عندما اكتشف انحرافه، ففر من عنده أيضا إلى الفرنسيين. ص 81 - 82. (¬2) يعزو الحاج أحمد في مذكراته برودة الوزير الأول إلى رسائل باي تونس التي كانت تشوه سمعته لدى سلطات استانبول.

الاستسلام لفرنسا ودفع ثلاثة ملايين فرنك ضريبة حرب. ودفع اللازمة السنوية، في مقابل أن تعترف به فرنسا بايا على إقليم قسنطينة. جمع الحاج أحمد أعيان المدينة، بحضور خوجة، وأطلعهم على رسالة الدوق، وبعد المنافثة استقر رأيهم على دفع اللازمة على شرط أن تعيد فرنسا الأراضي التي احتلتها من الإقليم، ولا سيما ميناء عنابة، وإقامة قنصل فرنسي في عنابة، وعدم القدرة على دفع ضريبة الحرب. ولكن ذلك كله كان مرهونا بارادة السلطان الذي يجب أن يتصل به الفرنسيون مباشرة. حمل خوجة رأي أعيان قسنطينة إلى الدوق ثم رجع برسالة أخرى تحمل الشروط التالية: دفع 50،000 دورو، واللازمة السنوية، وتعهدت فرنسا بالحصول على القفطان للحاج أحمد من اسطانبول، ولكنها اشترطت أن تبقى حامية عسكرية في كل من عنابة وقسنطينة، ويظل ميناء عنابة في يدها. ولكن الحاج أحمد لم يقبل هذه الشروط وأحال الفرنسيين على السلطان العثماني (¬1). وصل كمال بك إلى قسنطينة واستقبله الحاج أحمد استقبالا حارا. وفي اجتماع عام لأعيان المدينة ورؤساء القبائل والمسئولين خطب كمال بك وقال بأن السلطان لم ينسهم وأن عليهم بالصبر والإيمان، وقال إن السلطان يعمل على إبقاء إقليم قسنطينة تحت طاعته، وأن عليهم أن لا يقبلوا أي شرط بدون موافقته. وقد وقف كمال بك على تعلق البلاد بالحاج أحمد وعرف أن الرسائل التي ترد إلى اسطانبول من باي تونس لا تستند على الواقع. عاد كمال إلى اسطانبول وكتب إلى الحاج أحمد يعلمه أنه اطلع السلطان على الوضع وأنه يعمل للوصول إلى حل لصالح الباي، ولكنه لم ينجح، ¬_____ (¬1) جاء في المذكرات أن خوجة قد طلب من الحاج أحمد أن يفوضه في الكلام باسمه وأن يعطيه النقوذ ليذهب إلى باريس ويفاوض باسمه وأعطاه الحاج أحمد النقود. وكان خوجة يكتب إليه يطمئنه على النقود وعلى شخصه. انظر ص 86. والواقع أن خوجة قد دافع عنه سواء في باريس أو في اسطانبول. انظر ص 89. راجع فصل (الجزائريون واللجنة الأفريقية).

وطلب منه أن يراسل السلطان عن طريق سي الطاهر باشا الذي أصبح - حاكما لطرابلس (¬1). وليس هناك حاجة للإطالة في موضوع انتصار العرب على الفرنسيين في معركة قسنطينة سنة 1836، فقد علم الحاج أحمد عن طريق جواسيسه باستعداد الفرنسيين في عنابة للقيام بحملة ضد قسنطينة، فخرج لمقابلتهم مسافة نصف يوم وأقام معسكره عند مكان يدعى وادي الكلاب، وكانت قواته 1،500 من الرماة و5،00 فارس. وقد التقى الجمعان في مكان يسمى عقبة العشارى، وحين رأى قوة الجيش الفرنسي تراجع ولكنه استمر في حربهم، ودخل قسنطينة. نصب الفرسيون مدافعهم على جبل المنصورة وسيدى مبروك الذي يشرف على المدينة وبدأوا في قصفها. كان الجيش الفرنسي بقيادة كلوزيل. وكان الثلج والمطر ينزلان بغزارة. وحاول الفرنسيون إرغام المدينة على الاستسلام ولكنهم فشلوا، لذلك تراجعوا عنها، بينما طاردهم جيش الحاج أحمد إلى قالمة. وفي طريق عودته إلى قسنطينة وجد عربات محملة بالمؤونة تركها الفرنسيون خلفهم. وقد كان لهذا الانتصار وقع كبير على الأهالي. كما أدى إلى عزل كلوزيل واستدعائه إلى فرنسا. بعد انتصاره عاد الحاج أحمد إلى المدينة وبدأ في تحصينها لأنه كان يتوقع أن الفرنسيين سيعيدون الكرة. وقد عرف أن هناك أناسا كانوا يريدون التسليم للفرنسيين أثناء قصف المدينة فحكم على بعضهم بالإعدام. ومن ¬_____ (¬1) يبدو أن الحاج أحمد قد ربط صداقه مع كمال بك. وقد طلب إليه أن يرسل إليه بعض الحاجات بعد عودته إلى اسطانبول ففعل كمال. انظر المذكرات ص 87. أما سي الطاهر باشا فيقال إن السلطان قد عينه حاكما على طرابلس يقصد أن يكون واسطة بينه وبين الحاج أحمد. ومما يذكر أن حمدان خوجة كان يقوم بترجمة رسائل الحاج أحمد إلى السلطان من العربية إلى التركية.

جهة أخرى أرسل إلى السلطان يخبره بما جرى. وكان معه قواد مخلصون له أمثال ابن عيسى والبجاوي الذي أصبح خليفة له، وساعده على تصميم المقاومين أن الفرنسيين أرادوا تعيين يوسف المملوك بايا على قسنطينة بينما كان أهل قسنطينة يعلمون أن يوسف لم يكن مملوكا فقط ولكنه كان أيضا يهوديا مرتدا (¬1). وفي نفس الوقت شع الأمل في وجه الحاج أحمد عندما علم أن المساعدات العثمانية قد وصلت إلى تونس في طريقها إليه. فقد جاءه مبعوث من اسطانبول يدعى صراف أفندي وأخبره أن السلطان قد علم بانتصاره عن طريق سي الطاهر باشا حاكم طرابلس. كان ذلك في ربيع سنة 1837 أي بعد عدة شهور من انتصاره على الفرنسيين. وصلت أربع سفن عثمانية إلى ميناء تونس محملة بالجنود الأتراك مع اثنى عشر مدفعا ومائة وخمسين مدفعيا. ولكن باي تونس الذي كان مهددا بالضرب من الأسطول الفرنسي إذا نزل الجنود العثمانيون على أرضه أرسل إلى القبطان العثماني يأذن له بانزال المدافع فقط أما الجنود فقد اعتذر له عن إنزالهم. ومن جهة أخرى أرسل (باي تونس) يعتذر إلى الحاج أحمد عن موقفه لأنه يريد إقامة علاقات ودية مع الفرنسيين، وهكذا عاد الجنود الأتراك بسفنهم من حيث أتوا، أما المدافع فقد استعملها باي تونس في شئونه الخاصة، وبقي الحاج أحمد وحيدا حزينا. وبينما كان الفرنسيون يستعدون لجولة أخرى ضد قسنطينة حاولوا فتح المفاوضات مع الحاج أحمد. اتصلوا أولا باليهودي ابن باجو الذي كان يعمل في دار الحاج أحمد والذي كان يتاجر في تونس. كان القائد العام ¬_____ (¬1) المذكرات ص 96.

الفرنسي عندئذ م داريمون الذي حل بعنابة قادما من الجزائر استعدادا للحملة. رفض الحاج أحمد اقتراحات الفرنسيين وخرج لقتالهم في مكان يدعى بلاد عمر. وهناك أرسل إليه دامريمون يهوديا آخر هو بوجناح (الذي كان في زي فرنسي) عارضا عليه دفع مليونين من الفرنكات ضريبة حرب , وإقامة حامية فرنسية في قصبة قسنطينة، في مقابل أن تعترف به فرنسا بايا على الإقليم فيما وراء مجاز عمار، أي باستثناء الأجزاء التي تحتلها هي. ولكن أعيان قسنطينة ورؤساء القبائل رفضوا الشروط الفرنسية. وأرسل الحاج أحمد رفضه إلى دامريمون عن طريق بوجناح. وعاد بوجناح بشروط أخرى ولكن الحاج رفضها أيضا وأرسل رفضه مع كاتبه هذه المرة لأنه لم يعد يثق في بوجناح. لم يرض الحاج أحمد أن يوقع معاهدة مع الفرنسيين كما فعل الأمير عبد القادر في نفس السنة، بل استعد للقتال من جديد، جمع شيوخ القبائل والقواد وجند منهم 5،000 فارس و2،000 راجل، بالإضافة إلى الجيش النظامي الذي يعمل بأمره شخصيا. ترك حوالي 1،500 جندي في قسنطينة وبدأ الحرب ضد الفرنسييين، فهاجمهم مدة ثلاثة أيام متواصلة في مسكرهم الواقع في مجاز عمار. لكنه فشل هذه المرة في صد زحفهم على المدينة. فقد تمكنوا من نصب الحصار عليها ثم دخلوها بينما كان المراطنون يحاربونهم من دار إلى دار ومن شارع إلى شارع. وأثناء هذه الجولة قتل دامريمون القائد العام للجيش الفرنسي فتولى مكانه الجنرال فاللي. كما قتل البجاوي خليفة الحاج أحمد في قسنطينة. وتكبد الحاج أحمد خسائر كبيرة وهلك أحسن جنده. وقد غنم الفرنسيون أشياء كثيرة لأن الحاج أحمد رفض إخراج الأشياء الثمينة من المدينة، عندما طلب منه ذلك الأعيان، حتى لا يؤثر ذلك على معنوياتهم. كذلك خسر الفرنسيون الجنود والعتاد وكانوا يعانون من

قلة المؤونة. ومن سوء حظ الحاج أحمد أن ابن عيسى الذي كان عضده الأيمن تخلى عنه وعرض خدماته على الفرنسيين. ولكن الحاج أحمد لم يلق السلاح رغم ضياع عاصمته وملكه، عرضت عليه فرنسا الأمان وحمله إلى بلاد إسلامية فرفض (¬1). وضع خطة جديدة لمقاومة الفرنسيين وقطع خط التموين عليهم الرابط بين عنابة وقسنطينة. ولكن صهره اعترض على هذه الخطة وأراد أن يحارب فرحات ابن سعيد أولا ثم الفرنسيين. وهي الخطة التي كان فيها (هلاكى) حسب تعبيره. وقد اجتمعت عليه عدة عوامل سيئة: موت أو تخلى أحد قواده عنه. خلافه مع صهره بوعزيز والتحاق هذا بالفرنسيين الذين عينوه شيخ العرب. محاولة الأمير عبد القادر مد نفوذه إلى إقليم قسنطينة بتوجيه نداء إلى أعيانه وتعيين خلفاء له فيه أمثال حسن بن عزوز. فرحات بن سعيد الذي لم ينس عزله له حتى بعد سقوطه (أي الحاج أحمد) من الحكم. وباي تونس الذي كان يغار منه ويكيد له لدى القبائل المجاورة ولدى السلطان، ثم فرنسا التي كانت ترى في وجوده بين العرب علامة خطر وكانت تؤلب عليه القبائل وتخلق له الصعوبات أينما حل. ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة سلبية السلطان الذي كان الحاج أحمد يعتمد عليه حتى بعد سقوطه (¬2). ظل الحاج أحمد يقاوم كل هذه العوامل من سقوط قسنطينة سنة 1837 إلى استلامه في صيف 1848.كان ينتقل من قبيلة إلى أخرى، ومن الجبل إلى الصحراء. وبينما كان في جبل أحمر خدو اتصلت به السلطات ¬_____ (¬1) أرسلت إليه فرنسا اثنين من أعيان المنطقة وهما ابن العطار والحاج الباي. ويذكر في مذكراته أنه كان يميل إلى قبول العرض لولا اعتراض صهره ابن قانة. ولكن يجب أن نتذكر أنه كان يكتب المذكرات وهو سجين وأن الاعتراض قد يكون منه وليس من صهره. (¬2) جاء في المذكرات أنه كان يكتب إلى السلطان كلما وصل إلى مكان آمن، يذكره بوعوده ويطلب منه المساعدة ويشكو إليه بمرارة.

الفرنسية في باتنة وبسكرة وعرضت عليه الاستسلام وإعادة كل أشيائه إليه وأخذه ليعيش فب بلاد إسلامية. فقبل العرض بعد أن كبرت سنه ووهنت قواه ومن بسكرة ذهب إلى باتنة (في 5 يونيه عام 1848) ومنها إلى قسنطينة عاصة ملكه القديم التي عاد إليها هذه المرة مجردا من السلاح ولكنه كان مشحونا بالذكريات. استقبله أعيانها عند مدخلها ودخل إليها وسطهم في كوكبة من الخيل. وأقام فيها ثلاثة أيام كان فيها محل رعاية خاصة، فكان أهلها يأتون إليه كل يوم بالطعام والملابس والعسل والزبدة والفاكهة وبعض مصنوعاتهم. ولكن السلطات الفرنسية خشيت العاقبة فمنعت الأعيان من فعل ذلك وأحضرتهم أمام المحاكم العسكرية. وعن طريق سكيكده وصل الحاج أحمد إلى العاصمة. وهناك عينت له السلطات الفرنسية دارا له ولأهله وخصصت له مبلغ 12،000 فرنك سنويا. وعينت له أحد المترجمين لمرافقته وهو الضابط دي روزي Rouzé وبدل تنفيذ الوعد بإطلاق حريته ظل سجينا في الجزائر إلى أن مات سنة 1850 ويوجد قبره الآن في زاوية سيدي عبد الرحمن الثعالبي وسط مدينة الجزائر. ولعل موته لم يكن طبيعيا. حاول الحاج أحمد إقامة دولة تعتمد على تأييد السلطان وتأييد الارستقراطية المحلية. فحافظ على النظام العثماني ونشد مساعدة السلطان حتى يعطي لحكمه الشرعية والهيبة. وبعد احتلال الجزائر حاول الحاج أحمد أن يوسع قاعدة حكمه بتأييد الجماهير له، فكان لا يقرر شيئا هاما إلا بالرجوع إلى الأعيان وشيوخ القبائل والعلماء والجيش. وإذا كان في الفترة الأولى قد اعتمد على الجند العثماني فانه بعد الاحتلال قد غير رأيه وتخلص من هذا الجند معتمدا على العرب الذين أراد أن يخلق منهم دولة يكونون هم سادتها (¬1) ¬_____ (¬1) الواقع أن في هذا شيئا من المبالغة لأن الحاج أحمد كان دائما يحكم باسم السلطان العثماني وليس باسم عرب البلاد.

كان هدفه إقامة دولة تفرض الأمن والاستقرار، والدولة في نظره كانت وسيلة للسلطة. وهو هنا يخالف الأمير عبد القادر الذي حاول إقامة سلطته على الجهاد وتأييد الطبقة الأرستقراطية والطرق الدينية (¬1). والحاج أحمد يخالف الأمير. لم يحاول أن يوسع سلطانه حتى يشمل الجزائر كلها. كان مكتفيا، سواء في مفاوضاته مع الفرنسيين أو في مراسلاته مع السلطان العثماني، بحدود إقليمه (قسنطينة) ولسنا ندري ماذا سيكون موقفه لو أنه نجح في خطته واستقر حكمه، ولكن الوثائق التي بين يدينا تدل على أنه كان يحارب من أجل سلطة محلية. حتى مصطفى بومزراق أخذ لقب الباشا وطلب الاعتراف به سيدا على الجزائر كلها، وليس كذلك الحرج أحمد. لم يتفق الحاج أحمد مع الأمير عبد القادر الذي كان يرى فيه دعيا متطاولا على السلطة مستعملا الدين كوسيلة للوصول إلى الحكم. وزاد من شك الحاج أحمد في الأمير أن هذا قد وقع اتفاقات مع الفرنسيين: معاهدة دي ميشال 1834، ومعاهدة التافنة 1837. وبعد اتصال الأمير بأهالي قسنطينة إثر المعاهدة الأخيرة وإخطارهم أنه متفق مع الفرنسيين أحس الحاج أحمد بالشك فيه والخوف منه. وقد هدد الأمير بأنه سيهاجم قسنطينة مع الفرنسيين إذا لم يستسلم له الحاج أحمد (¬2). وزاد من سعة الشقة بينهما أن الفرنسيين كانوا يعملون على إثارة الرجلين ضد بعضهما (¬3). والواقع أن معاهدة التافنة التي جاءت بعد فشل المحاولة الأولى لاحتلال قسنطينة 1836، كانت مساعدة على نجاح الفرنسيين في المحاولة الثانية، فقد أطلقت أيدهم في شرق البلاد. ويذكر الكولونيل تشرشل أن الأمير كان على علم بخطة ¬_____ (¬1) انظر المذكرات (مقدمة إيميري) ص 68 - 69. (¬2) المذكرات ص 111. (¬3) نفس المصدر هامش 2.

الفرنسيين نحو قسنطينة ولم يتدخل لأنه كان يعتقد أن نجاحها سيزيل عنه منافسا خطيرا (¬1). للحاج أحمد رأي في اليهود الجزائريين. فقد قال إنهم هم الذين (عكروا دائما الشئون السياسية التي تدخلوا فيها ... فهم لا يحاربون ولكن مصلحتهم هي دائما في رؤية الآخرين ممزقين. إنهم كالذئاب التي تأتي لتأكل ما خلفه الأسود (¬2). ودافع عن نفسه في التفاوض مع اليهودي القسنطيني ابن باجو لأن الفرنسيين هم الذين أرسلوه إليه. أما بوجناح الذي جاءه في (زي فرنسي) مبعوتا من القائد العام دامريمون فقد قال عنه أنه لم يكن ينتظر منه الخير وأن القائد الفرنسي لم يحسن الاختيار لأن بوجناح قد شكر الحاج أحمد على رفض الشروط الفرنسية وأخذ في ذمهم أمامه لأنهم (يريدون التوسع بكل الإمكانيات، فاليوم يطالبونك بهذا وغدا يطالبونك بشيء آخر) وقد طلب بوجناح النقود من الحاج أحمد ليذهب إلى باريس ويتفاوض باسمه مباشرة مع الحكومة الفرنسية، وكاد الحاج أحمد يضربه، (لولا أنه مبعوث القائد الفرنسي) عندما اقترح عليه ضرب كبار رجاله إذا لم يرضوا بشروط فرنسا (¬3). وقد علم الحاج أحمد أن اليهود قد نهبوا الأشياء الثمينة التي (يعرفون أماكنها السرية) عند دخول الجيش الفرنسي إلى قسنطينة. وقد تعرضنا من قبل إلى موقفه من يوسف المملوك الذي كان يهوديا مرتدا والذي حاول الفرسيون تعيينه بايا على قسنطينة مكان الحاج أحمد. ... ¬_____ (¬1) الكولونيل تشرشل (حياة الأمير عبد القادر)، (لندن 1867) وقد ترجته إلى العربية ونشرته الدار التونسية، تونس، 1974. (¬2) المذكرات ص 102. (¬3) نفس المصدر ص 104.

الفصل التاسع الحالة الاقتصادية

الفصل التاسع الحالة الاقتصادية ليس هناك اتفاق بين المؤرخين عن عدد سكان الجزائر قبل الاحتلال. فالقنصل الأمريكي وليام شيلر الذي كتب قبل حوالي أربع سنوات من الاحتلال قدر سكان مدينة الجزائر بخمسين ألف نسمة، بينما قدرهم كاتب آخر بمائة ألف، من بينهم خمسة آلاف يهودي. وزعم بيلبيسي دي رينو، الذي كان يكتب خلال السنوات الأولى للاحتلال، أن سكان الجزائر كلها كانوا حوالي 250 ألف نسمة. أما حمدان خوجة الجزائري المعاصر للاحتلال فقد قال أن عدد السكان في الجزائر كلها قد بلغ عشرة ملايين (¬1). أما اللجنة الأفريقية الفرنسية التي زارت الجزائر بعد ثلاث سنوات من الاحتلال فقد قدرت عدد السكان قبل الفرنسيين بنحو 35 إلى 40 ألف نسمة في مدينة الجزائر وحدها. واعترفت اللجنة بأن الاحتلال قد تسبب في هجرة كثير من الأسر الجزائرية مما جعل السكان ينخفضون في مدية الجزائر إلى 25 ألف نسمة فقط، رغم وصول 4،000 أوربي (¬2) ويبدو أن الحقيقة توجد وسط هذه الأرقام. كانت الجزائر تتمتع بإمكانيات اقتصادية ضخمة قبل الاحتلال. فقد كانت أرضها خصبة، ولا سيما في الشمال، تدر أنواعا مختلفة من الحبوب والخضر والفواكه. ويوجد فيها، كما لاحظ الرحالة والزائرون غ مناجم الحديد والرصاص والملح، وغابات كثيرة كانت تفيض عن الحاجات المحلية ¬_____ (¬1) حمدان خوجة، المرآة: ص 1. (¬2) راجع اللجنة الأفريقية (تقارير) ج 1 ص 410.

لبناء السفن والتسخين وبناء المنازل. بالإضافة إلى الموانىء الكثيرة الواسعة التي كانت تستقبل وترسل السلع والبضائع من وإلى أوربا والشرق. وإلى جانب ذلك كانت هناك طرق القوافل التي تربط الجزائر الشمالية بالسودان القديم عبر الصحراء، فكانت البضائع الجزائرية تصل باستمرار إلى أفريقية وتعود القوافل محملة بالإنتاج السوداني الذي يستهلك أغلبه محليا ويصدر فائضه إلى الخارج. كانت التجارة الخارجية إذن مزدهرة. وكان التعامل مع أوربا يتضمن تصدير الحبوب الذي غالبا ما كانت تتولاه بعض الدول التي تتمتع بامتيازات معينة. وكانت الجزائر تصدر إلى جانب ذلك الأخشاب، والحوامض والريش، والعسل والحديد، والصوف، والجلود، والشمع، وكانت تستورد الأقمشة والجواهر والسكر والأسلحة. ولكن الحياة الاقتصادية للريف الجزائري في العهد العثماني لم تكن مثالية. فقد كان السكان يعانون من المجاعات والأمراض وقلة المساعدات. وكان الجفاف كثيرا ما يتسبب في نكبات لا تحصى. وكثيرا ما كانت النكبات الطبيعية تنزل بسكان الريف فلا يستطيعون لها ردا ولامواجهة، كما لا تستطيع السدود القليلة الضعيفة التي أقامها الريفيون أن تخفف من هوة النكبات التي تحل بهم. فكانت أغنامهم ومنازلهم وحرثهم عرضة لغضب الطبيعة. وكانت مظاهر ووسائل الزراعة تتمثل في المحراث البسيط، والمنجيل للحصاد، وفرشاة لجمع بقايا الزرع، كما كانت هناك مخابىء تحت الأرض للاحتفاظ بالحبوب من فصل إلى آخر. أما الإنتاج فقد كان يتم سنة بعد أخرى لقلة الوسائل وانعدام السماد. وكانت كل قبيلة تتولى الحراثة والحصاد جماعيا وتتوقف حياتها واستقرارها على وفرة الأرض المزروعة. كانت السهول التلية هي الأرض الخصبة الصالحة للزراعة والإنتاج الزراعي. ولكن سهل وهران على اتساعه وخصوبته وصحة هوائه لم يكن

مستغلا بطريقة حكيمة (¬1). ويرجع ذلك إلى الحروب التي كان مسرحا لها. ففي بداية القرن الثامن عشر، بعد هزيمة الأسبان، حلت قبائل الدوائر والزمالة التي كانت متحالفة مع الحكم العثماني (باي معسكر) محل القبائل التي كانت تتعامل مع الأسبان، مثل بني عامر وفليته، في سهل وهران. وعندما انهزم الأسبان نهائيا وعادت وهران إلى الحكم العثماني عام 1791 أصبحت قبائل الدوائر والزمالة (المخزن) متسلطة على بقية القبائل في منطقة وهران واشتغلت بذلك عن حراثة الأرض والعناية بها. ورغم جودة الأرض في سهل وهران فإن هذا السهل كان مغطى بالأعشاب الطفيلية والأشجار غير المثمرة. وكانت الدولة تملك منه حوالي 78%. وهكذا عاشت قبائل الدوائر والزمالة على سهل وهران. وقد كانوا شبه (نوماد) أو بدو متنقلين. فلم ينتجوا إلا قليلا من القمح والشعير وبعض الغنم والبقر. وكان معاشهم يتكون من الكسرة والحليب والجبن والزبدة، ولكن الأرض لم تكن تكفيهم ما داموا لم يعتنوا بها لذلك كانوا يعتمدون في معاشهم على الغنائم التي ينالونها بعد الحروب مع القبائل المجاورة أو التي يتلقونها من السلطة العثمانية مقابل تحالفهم معها. ولم يكن سهل وهران هو الوحيد، بل كانت هناك سهول اغريس ومستغانم وتلمسان ومعسكر. فكان سهل تلمسان ينتج القمح والزيت بوفرة. وكانت المناطق الساحلية من الحدود المغربية إلى رأس فلكون تنتح الشمع. وكان سهل اغريس المصدر الرئيسي للحبوب في كامل الغرب الجزائري. أما سهل مستغانم فقد كان ينتح القطن والأرز. وكانت الحدائق الجميلة تحوط بالمنازل الساحلية التي كان يملكها الأغنياء من العرب أو التي كان يحتكرها ¬_____ (¬1) تذكر بعض المصادر الجزائرية أن سهل وهران كان يمتاز بالخصوبة وأنه بالمقارنة إلى سهل متيجة كان أصح وأنفى. انظر جواب أحمد بوضربة أمام اللجنة الأفريقية. اللجنة الأفريقية (محاضر) ج 1 ص 39 - 42.

العثمانيون. وهكذا تجد الغرب الجزائري يمتاز بوفرة الإنتاج المتنوع رغم كثرة الحروب وتخلف الوسائل. ويأتي بعد ذلك سهل متيجة الواسع الذي يحيط بالعاصمة والذي يمتد بين البحر وسلسلة جبال الأطلسي. وقد اشتهر بإنتاج البرتقال والعنب وكان إنتاجه يسد حاجات العاصمة، وقليلا من إنتاجه فقط كان يصدر إلى الخارج. وكان سهل متيجة يحتوي على عدة مزارع كبيرة للدولة وأخرى للخاصة. وتذكر بعض المصادر أنه كان للدولة حوالي 13 مزرعة في متيجة يحتوي كل منها على 60 أو 80 زوجا من البقر، وهي التي كانت توفر الحليب والزبدة والجبن إلى العاصمة. وكان هناك عمال زراعيون يأخذون خمس المحصول. ويذكر نفس المصدر أن سهل متيجةكان غير صحي لوجود المستنقعات (¬1). وإذا كانت هضاب قسنطينة قليلة الإنتاج فان سهل عنابة وبلاد النمامشة كانت غنية بالثروات الزراعية وكثيرة الإنتاج، وكانت هذه المنطقة قادرة على تصدير الحبوب والأصواف إلى الخارج. ولكن الحصاد كان غير منتظم، فكان يختلف من سنة إلى أخرى تبعا للأمطار، ولذلك فإن سنوات الرخاء كثيرا ما قابلتها سنوات المجاعة والجفاف، ولم يكن الأهالي يسيطرون على مخازن الحبوب العامة ولا على طواحين المياه التي توجد في ضواحي المدن، ولكن الذي كان يتولى ذلك هم الاعثمانيون. أما الثروة الحيوانية فقد كانت متوفرة ولكنها كانت تواجه بعض المشاكل أيضا. ونلاحظ أنها كانت منتشرة في كامل البلاد. أغلبها كان في الهضاب العليا. ولكن كثرة الجفاف والمعرفة القليلة بالعناية بالحيوانات أدت إلى الإضرار بها، بل واختفائها أحيانا. وكانت البقر تشكل المصدر ¬_____ (¬1) يذكر ذلك أحمد بوضربة في جوابه أمام اللجنة الأفريقية. نفس المصدر. ويتفق حمدان خوجة مع بوضربة في وصف متيجة بعدم الصحية، انظر (المرآة) ص 48 - 57.

الرئيس لرأس مال الأهالي لأنهم لا يستهلكون في الغالب إلا الأغنام. ولكن الأوبئة كثيرا ما أضرت بالماشية فحرمت السكان من رأس مالهم الهام. وبالإضافة إلى الجفاف والأمراض التي كانت بالحيوانات كانت هناك الحروب القبلية والثورات ضد الحكم العثماني التي كثيرا ما تسببت في ضياع قطعان الماشية. وبالإضافة إلى الحبوب والماشية كان هناك إنتاج الخيول. وقد حافظت الجزائر على سلالة نقية من الخيول الجيدة. وكانت بعض المناطق قد امتازت بتأصيل الخيول مثل قبائل اليعقوبية وبني أنجاد وسكان جنوب وهران وسهول وادي الشلف. ولكن معظم الخيول الجيدة كانت تأتي من جنوب وهران وجنوب قسنطينة. وقد أدت الاضطرابات الداخلية إلى وقف التعامل بين سكان الجنوب وسكان التلال مما أضر بإنتاج الخيول، وبالتالي الحالة الاقتصادية عامة. والإبل التي كانت متوفرة في الجنوب، كانت تنتج الوبر الذي منه تصنع الخيام وبعض الملابس المحلية كابرنس و (القشبية). أما الصناعة فقد شهدت بعض التقدم أيضا، حقا إنه لم يكن هناك مناجم بالمعنى الحديث، ولكننا نجد صناعات الحديد وبعض مستخرجات رائجة. كما نجد صناعة الملح في منطقة أرزيو. وتميز سكان منطقة جرجرة بالصناعة. فكانوا يستخدمون الطواحين لصناعة الزيت ويرسلون به إلى مدينة الجزائر عن طريق ميناء بجاية أو عن طريق البر. وكان بنو عباس وبنو يني وفليسة يصنعون البنادق والمكاحل والسيوف والمدافع أيضا. ويذكر حمدان خوجة الذي زارهم أنهم كانوا يصنعون أيضا النقود المزوة ولهم قدرة عجيبة على نقش العملة وتقليد النقود الجزائرية والأسبانية. وكانوا يصنعون مواد البلاتين ويعرفون طرق استخراج الحديد من الأرض ولهم مناجم من الرصاص والقصدير (¬1). وكان بعضهم يصنعون الأشياء الخشبية ¬_____ (¬1) المرآة ص 21 - 22.

والأساور وآخرون يصنعون الأقمشة القطنية، وكان بعضهم يجلبون الحديد وآخرون يصهرونه. وهناك من يصنع أحجار الطواحين ومن يجلب الملح من الجبال ومن يصنع البارود. واشتهر بالصناعة بنو سليمان، وبنو موهالي وبنو منقلات، الخ. ولكن منطقة جرجرة كانت فقيرة بالقياس إلى بعض المناطق الأخرى التي تمتاز بخصوبة الأرض. وكانت الحروب الداخلية والفتن تؤدي بالسكان إلى الهجرة نحو مناطق أخرى ريفية أو إلى المدن. فكان أهل جرجرة يعملون أجراء في مزارع متيجة أو حمالين في الموانىء، أو دباغين أو بنائين، أو تجارا في البقر، أو محاربين في الجيش العثماني ثم الفرنسي باسم (الزواف) (الزواويون). وكانت السلطات العثمانية تمنحهم رخصا خاصة للخروج من منطقتهم إلى مناطق أخرى، فاذا أحدثوا اضطرابا فانها تسحب منهم هذه الرخص كعقاب لهم. لذلك كانوا حريصين على إبقاء الأمن. أما سكان الأطلس الصحراوي فقد كانوا يصنعون البرانس والزرابى والحصر التي كانت تأتي بدخل طيب لهم وللدولة. وكانت منسوجات منطقة شلالة مطلوبة لشهرتها وجودتها. وكانت بعض القبائل لا تصنع إلا ما يكفيها وتبيعه في الأسواق المحلية. وكانت الأسواق تقام في العادة أسبوعيا ويأتي إليها الناس للبيع والشراء. وأهم ما يباع فيها العسل والزبدة والصوف والحيوانات والحبوب والخيام. وكانت منسوجات المدن عادة أجود من مصنوعات البادية. وأهم المدن الصناعية هي العاصمة وتلمسان ومستغانم وقسنطينة. فكانت تلمسان مركزا هاما لصناعة الصوف كالأغطية والزرابي والمحازم الحمراء، وكانت مستغاتم تصنع الزرابي، أما العاصمة فقد كانت تمتاز ببعض الحرف

ولا سيما المصنوعات التقليدية كالأساور المصنوعة من قرون الغنم. وكثيرا ما تأتي المواد الأولية لمنتجات العاصمة من مناطق أخرى كمنطقة عنابة. وكانت مصنوعات العاصة تباع في منطقة التيطري ومنطقة متيجة. أما قسنطينة فقدكان إنتاجها شبيها بإنتاج العاصمة (¬1). ومع ذلك فإن مصنوعات الجزائر لم تكن تستطيع منافسة المصنوعات الأوربية ولا حتى المغربية والتونسية والذين يتولون الصناعة التقليدية في المدن الجزائرية كانوا عادة من الحضر النازحين من الأندلس. أما اليهود فقد كانوا محتكرين لصناعة الأحجار الكريمة. وكانت تونس تمول السوق الجزائرية بالشاشية وبعض المنتوجات الأخرى (¬2). أما المغرب فقد كانت تمول السوق المحلى بالأحذية والأقمشة الحريرية والمصنوعات الجلدية. وقد كان هناك تجار مغاربة في الغرب الجزائري كما كان هناك تجار تونسيون في الشرق. ومن ناحية أخرى كان هناك تجار جزائريون في كل من تونس والمغرب. أما بالنسبة للتجار فنلاحظ أن معظم التجارة الخارجية كانت في أيدي أجنبية. ففي إقليم قسنطينة كانت بعض الشركات الفرنسية تتمتع بامتياز تصدير الحبوب والصوف والجلود والشمع. وكانت مرسيليا هي أهم مدينة تستقبل المنتوجات الجزائرية. كما كانت بعض الشركات الفرنسية تتمتع برخص صيد المرجان في ساحل إقليم قسنطينة. وكانت هذه الشركات بدورها تبيع الرخص إلى الصيادين الطليان والأسبان. ولكن الامتيازات الفرنسية قد مرت ببعض العقبات، فكان يزاحمها التجار اليهود: بكري وبوشناق اللذان حصلا أثناء توتر العلاقات بين فرنسا والجزائر، على احتكار تصدير الحبوب. ¬_____ (¬1) تذكر بعض المصادر أن الجزائريين كانوا يصنعون أيضا الصابون، والشموع، والجلود - والتبغ. انظر اللجنة الأفريقية (محاضر)، ج 1 ص 386. (¬2) نعرف من رحلة ابن حمادوش الجزائري أن الشاشية كانت شائعة في الجزائر. وقد حمل منها هو إلى المغرب. انظر دراستي (ابن حمادوش ... ورحلته ...) في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، أبريل 1975.

كانت الجزائر تصدر الصوف والقمح والطيور والأبقار. وكانت تستورد البضائع الكمالية من فرنسا، والمصنوعات الحديدية من إيطاليا، والفخار الملون (النرليج) من تونس وإيطاليا وهولندا، والمواد البحرية من البلاد الاسكندينافية، والرصاص والأقمشة الصوفية من أسبانيا. ومنذ أواخر القرن الثامن عشر أصبحت دار بكري وبوشناق تسيطر على التجارة الخارجية الجزائرية ولا سيما في مينائي وهران والجزائر , فكانت هذه الدار تتمتع بثقة الحكام العثمانيين وتشرف على ثلثي التجارة الخارجية. وكان هؤلاء اليهود يتبعون نظاما محكما في الدفع عن طريق التعويض. وتذكر المصادر الفرنسية أن دار بكري وبوشناق قد صدرت سنة 1793 وحدها، أكثر من مائة باخرة قمح من ميناء وهران فقط إلى فرنسا. غير أنه كان لاستيلاء اليهود والفرنسيين على التجارة الخارجية ومحاولة المسيحيين السيطرة على البحر عواقب وخيمة على الجزائر. ذلك أن القرصنة التي قام بها الطرفان كانت تنتهي بأسر المواطنين من الجانبين. وكان على الجزائر، كما كان على المسيحيين، أن تدفع أمولا طائلة لفدية أسراها. وقد كان الوسطاء، سواء كانوا مسيحيين أو يهودا، يحصلون على 40 % من المبلغ المعين لفدية الأسرى (¬1). وكان الفلاح الجزائري هو الضحية، لأن الباشا يشتري إنتاجه بأرخص الأثمان، ويبيعه بثمن مربح لليهود الذين يبيعونه بثمن عال في مرسيليا، فتكون النتيجة ثراء الباشا واليهود على حساب الفلاح. وعلى أية حال فقد كان دفع الجزية السنوية من الدول الكبرى للجزآئر يشكل مصدرا هاما من مصادر الاقتصاد والدخل المحلي (¬2) ¬_____ (¬1) يذكر بعض المؤرخين أن الجزائريين قد التجأوا إلى القرصنة بالضرورة لا بالمهنة: ففرضوا على الدول المسيحية أن تشتري أمنها بدفع جزية سنية إلى الجزائر. (¬2) كانت السفن الفرنسية تعامل في الجزائر كما تعامل السفن الجزائرية في فرنسا. أما أسبانيا فقد كانت تعتبر كل ضباط السفن الجزارية مرتدين. أنظر أيضا حول هذا الموضوع العربي الزبيري (التجارة الخارجية للشرق الجزائري)، الجزائر 1974، وكذلك أطروحة ناصر الدين سعيدوني (الجهاز المالي للإيالة الجزائرية)، كلية الآداب، جامعة الجزائر، 1974. وكلا العملين من إشرافي بالكلية المذكورة.

أما التجارة الداخلية فقد كانت في أيدي الجزائريين إلى بداية القرن التاسع عشر. ولكن في هذا التاريخ استولى اليهود، بإذن من الباشا، على التجارة الداخلية أيضا. فقد استغلوا حروب الثورة الفرنسية، وحاجة أوربا إلى القمح وعملوا على تحويل التجارة إلى أرباحهم الخاصة. وقد كان عملاء اليهود يذرعون البلاد من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها سائلين القوافل عما تحمل وعما يريد أصحابها أن يشتروا، ثم يشترون منها البضاعة ويصدرونها للخارج على سفن تحمل أعلاما مختلفة. وتذكر الوقائع التاريخية أن اليهود قد صدروا من مرسى وهران 75،000 قنطار من القمح و 60،000 قنطار من الشعير وأنهم باعوا مثلها إلى عربان الصحراء. ومن الطبيعي أن الروح التجارية قد تغلبت على هؤلام المصدرين فكانوا لا يهتمون بحاجة البلاد، فحتى في وقت المجاعات كانت الفائدة هي رائدهم. وكانت الأسعار تختلف من المدينة إلى الريف. فالأسواق في المدن كانت مراقبةكما كانت الأسعار: لذلك لم يكن الاستغلال كبيرا. أما في الريف فالمراقبة ضعيفة ولذلك غرق الفلاحون في الشقاء وكانوا هدفا للاستغلال، كما أن إنتاجهم الضعيف كان يستهلك في الضرائب. وبينما لا تدفع قبيلة المخزن المتحالفة مع السلطة الحاكمة سوى 10% نجد قبيلة الرعية تدفع عدة أنواع من الضرائب. (العشور، الزكاة، الحكور، وهو نوع من الغرامة الثقيلة التي تصل أحيانا إلى 28 رأسا من الغنم). وقد أدت حالة النزاعات القبلية، وثورات الرعية على السلطة، وكثرة السكان في بعض القبائل إلى حالة من الفقر التي كانت الجزائر تعاني منها أثناء الحكم العثماني. ولكنه فقر يعود إلى طبيعة الحكم وليس إلى موارد البلاد. ولكن حالة الفلاح لم تتحسن بعد سيطرة الفرنسيين. بالعكس فقد جرد من الأرض، ومنعته الحروب التي شنها ضد المستعمرين من الاستقرار

وسيطر الفرنسيون على التجارة الداخلية والخارجية. وهكذا لم يكن حال الفلاح تحت الحكم الفرنسي بأحسن منه نحت الحكم العثماني. وإذا كانت الجزائر العثمانية قد وجدت طبقة من الجزائريين الحضر الذين كانوا يشتغلون بالتجارة ولهم بعض رؤوس الأموال فإن هذه الطبقة قد اختفت أثناء الحكم الفرنسي. وقد أصبح المسيطرون على رأس المال المحلي هم المستوطنون (الكولون) (¬1). ... ¬

_ (¬1) أهم مراجع هذا البحث محاضر وتقارير اللجنة الأفريقية (باريس 1834) التي تحتوي على تفاصيل هامة عن الوضع الاقتصادي عشية وعند الاحتلال. ثم مقال مارسيل إيميري (الوضع الاقتصادي للجزائر سنة 1830) المنشور في Information Historique (المعلومات التاريخية) (نوفمبر - ديسمبر عام 1952) ص 169 - 172، وهناك أيضا بعض الفصول في كتاب (المرآة) لحمدان خوجة (باريس، عام 1833)، وكتاب بيير بوايتى (الحياة اليومية في مدينة الجزائر) باريس 1963، بالإضافة إلى عملي الزبيري وسعيدوني المذكورين قبل قليل.

الفصل العاشر الحياة الثقافية

الفصل العاشر الحياة الثقافية عرف العهد العثماني في الجزائر بالركود الثقافي شأنه في بقية البلاد العربية، فلم تكن هناك حركات تجديد فكرية ولا انتفاضات علمية ذاتية أو متأثرة بالبلاد الأوربية. ورغم أن العربية ظلت لغة التعليم ولغة الشعب فإن الدولة قد اتخذت التركية لغة رسمية. ومن جهة أخرى سيطرت اللغة الخليط (لغة فرانكا) على التبادل التجاري. فكان إنتاج اللغة العربية يكاد ينحصر في الموضوعات الدينية والتعليمية وقليل من الشعر. وقد ترك العهد التركي بعض الشعراء وكتاب التاريخ والرحالة وحتى بعض المتطببين، ولكن مكانتهم ما زالت في حاجة إلى تقييم ودراسة في ضوء الوثائق التي يعثر عليها الباحثون من وقت لآخر (¬1). وفي الوقت الذي كان يمكن فيه للثقافة العربية أن تتحرر وتنتج نتيجة اتصالها بأوربا في فاتح القرن الماضي واجه الجزائريون الاحتلال الفرنسي الذي نزل عليهم كما يقول حمدان خوجة كحمل من رصاص. فنزح الأدباء والعلماء إلى المشرق وبعثرت الأسر والمكتبات. وحوربت لغة التعليم وأغلقت المدارس العربية. وهكذا شهدت الجزائر نكسة عميقة أدت إلى تأخر الدراسات العربية فيها. وتشهد كتب الرحالة الأجانب الذين زارو الجزائر خلال العهد العثماني أن التعليم كان منتشرا وأن كل جزائري تقريبا كان يعرف القراءة والكتابة. وقد كان التعليم حرا من سيطرة الدولة ومن سيطرة الحكام العثمانيين، فكان سكان كل قرية ينظمون بطرقهم ووسائلهم الخاصة تعليم القرآن والحديث والعلوم العربية والإسلامية، لأن دراسة هذه العلوم هي السبيل ¬_____ (¬1) بعض الآراء الواردة في هذا الفصل تحتاج إلى إعادة نظر ومع ذلك تركتها على حالها. فقد كتبت الفصل قبل ما تتضح لي معالم الثقافة في العهد العثماني. وسأبز هذه المعالم في كتابي (تاريخ الجزائر الثقافي) الذي أحرره الآن.

إلى معرفة وفهم أسرار الدين والقرآن والسنة. ولذلك كان القرآن أساسا للتعليم في الجزائر سواء كان تعليما ابتدائيا أو ثانويا أو عاليا. وكانت المدارس على مختلف مستوياتها تمول وتغذى بالأوقاف التي يحبسها أهل الصلاح والخير من الرجال والنساء، وفي بعض الأحيان كان يحبسها موظفون سامون في الدولة كعمل من أعمال الخير. فكان هناك أملاك خاصة وعقارات وأراض يذهب ريعها لبناء المدارس وتوظيف المعلمين وتوفير المساكن للطلبة. فالأوقاف كانت الأساس في تدعيم التعليم وحماية الطلبة والمعلمين. والواقع أنه ليست كل الأوقاف مخصصة للتعليم فقد كانت هناك أوقاف لعدة مصالح أخرى مثل العناية بالحج، وتسمى أملاك مكة والمدينة. وهناك أوقاف لإقامة العيون وحماية الثكنات، وهناك أوقاف أخرى لبناء واستصلاح المساجد والزوايا كأوقاف (سبل الخيرات) وهي عبارة عن جمعية كانت تشرف على ثمانية مساجد في العاصمة. وقد بلغ دخلها سنة 1837 حوالي 13،639 فرنكا. وكانت هناك أوقاف خاصة بالجامع الكبير بالعاصمة أيضا. وقد بلغ دخلها 12،000 فرنك. بالإضافة إلى أوقاف أخرى كانت منتشرة في مختلف مدن الجزائر. وإلى جانب أوقاف التعليم والحج كانت هناك أوقاف مخصصة للصدقة وأعمال البر. ففي سنة 1837 بلغ دخل أوقاف مكة والمدينة في العاصمة 122،503 فرنك. وكانت هذه الأوقاف مخصصة لإيواء فقراء مكة والمدينة مجانا، وكان الفائض منها يذهب إلى فقراء الأماكن المقدسة سواء كانوا في المشرق أو في الجزائر (¬1). وقد استولت السلطات الفرنسية ¬_____ (¬1) استولت فرنسا على هذه الأوقاف عند احتلال الجزائر. وقد أدى ذلك إلى خلافات وخصومات شديدة مع الأهالي وظهرت في كتابات السياسيين أمثال حمدان خوجة. انظر (المرآة)، ولا سيما الفصل الذي عنوانه: (الأملاك الدينية المسمات بالوقف) ص 276. وقد عثرنا على وثيقة بمكتبة باش تارزي بقسنطينة تشهد على ما كان أهل هذه المدينة يرسلونه من نقود إلى الحرمين ليوزع على الفقراء هناك، وفي الوثيقة قائمة بأسمائهم (ومعظمهم من فئة العلماء) وهي تعود إلى أوائل القرن 19.

على هذه الأملاك فأحدث ذلك رد فعل عنيف لدى السكان وقاد إلى نفى القاضي والمفتي وإلى طرد عدد من الزعماء من الجزائر. وكان هناك أيضا أوقاف سيدي عبد الرحمن التي كانت تدخل حوالي 600 فرنك سنويا توزع على فقراء مدينة الجزائر بمعدل حوالي 3 فرنكات للفرد. وهناك أوقاف أهل الأندلس التي كانت مخصصة إلى النازحين من الأندلس ومساعدة المنفيين المسلمين من أسبانيا. وكان دخل هذه الأوقاف حوالي 5،000 فرنك سنويا. وقد استفادت منها عند دخول الفرنسيين بعض العائلات التي كانت من أصل أندلسي. ولكن هذه الأوقاف لم تكن دائما لأغراض خيرية. ففي أحيان كثيرة كان الناس يوقفون لحماية أملاكهم من الضياع أو لحمايتها من يد السلطة. ومن حقهم أن ينصوا على أن يستفيد منها الأحفاد والفقراء. وكانت النساء تستفيد من هذه الأوقاف، ولا سيما عند الولادة أو اليتم أو الفقر. وكثيرا ما كانت الأسر تلجأ إلى طريقة الوقف لعدم ثقتها في صلاح الورثة. ولكن كل هذه الأغراض كانت ثانوية إلى جانب الغرض الرئيسي من الأوقاف وهو خدمة العلم ومساعدة الفقراء والمساكين. وقد كان هناك قيم أو وكيل على كل مؤسسة خيرية. وكانت مهمته العناية بالأوقاف ومراقبة الدخل. وكانت الأوقاف لا تباع إلا في الأحوال النادرة وعندما يخشى عليها التلف. فإذا كانت الأوقاف عامة فإن الدولة تعين عليها موظفا رسميا. أما إذا كانت خاصة فإن هناك مجلسا يقوم بتعيين رجل صالح يراقبه المجلس. وهناك أخطاء قد ارتكبت ولا سيما في الأحوال العامة حيث الرقابة ضعيفة إلا من الضمير. أما التعليم الذي كانت ترعاه هذه الأوقاف فقد كان على ثلاثة مستويات: الابتدائي والثانوي والعالي. فبالنسبة للتعليم الابتدائي كان كل طفل بين السادسة

والعاشرة يذهب إلى المدرسة. والملاحظ أن هذا بخصوص الأطفال الذكور. أما الإناث فلا يذهبن إلى المدارس إلا نادرا، ولكن أصحاب البيوتات الكبيرة كانوا يجلبون أستاذا معروفا بصلاحه وعلمه لتعليم البنات. وفي كل قرية صغيرة (أودوار) كانت هناك خيمة تدعى (الشريعة) خاصة بتعليم الأطفال ويشرف عليها مؤدب يختاره سكان القرية لهذا الغرض. أما في المدن والقرى الكبيرة فقد كانت هناك مدارس تدعى (مسيد) أو مكتب، وكانت غالبا ملحقة بالوقف، وإلى جانب ذلك كان كل جامع تقريبا يضم مدرسة للتعليم أيضا. كان لكل مؤدب أجره خاصة ولكنها كانت غير قارة، فهي تختلف حسب حالة أولياء التلاميذ المادية: كانت كل أسرة تدفع على قدر حالها، وفي الأعياد وعندما يحفظ الطفل القرآن يأخذ المؤدب أجرا إضافيا. وكثيرا ما يجمع المؤدب إلى وظيفة تحفيظ القرآن وظيفة أخرى كالإمامة والأذان. وكان المؤدب محل احترام سواء كان في القرية أو المدينة ويعيش بالمقارنة عيشة طيبة. ونذكر بعض المصادر أن أحد المؤدبين في قسنطينة كان يتقاضى حوالي ثلاثين فرنكا سنويا على الطفل الواحد من الهدايا والتعويض عند حفظ القرآن والأجرة المعينة. وكان لدى المؤدب حوالي 25 طفلا. فكان يناله حوالي فرنكين في اليوم بالإضافة إلى دخله من بعض الوظائف الأخرى (¬1). ولم يكن هناك رقابة رسمية على المؤدب ولكن أولياء التلاميذ يستطيعون عزله إذا أرادوا. وكان يكفي في المؤدب أن يعرف جيدا القراءة والكتابة. أما أهل البادية فكانوا يرسلون أطفالهم للتعليم في المدن حيث يقيمون عادة مع عائلات صديقة أو يصرف عليهم مجانا من الأوقاف. ¬_____ (¬1) انظر: مارسيل إيميري (الحالة العقلية والمعنوية في الجزائر سنة 1820)، (مجلة التاريخ الحديث والمعاصر R.H.M.C يوليه وسبتمبر من عام 1954) ص 202.

وتذكر بعض المصار أنه كان في كل قرية مدرستان (¬1). وكانت المدن تختلف في عدد المدارس. فقسنطينة في عهد الباي الحاج أحمد كانت تضم 86 مدرسة ابتدائية. وكان يختلف إليها حوالي 1.350 تلميذا وكان في تلمسان في حوالي نفس الفترة 50 مدرسة ابتدائية. ومدة التعليم الابتدائي حولي أربع سنوات يتعلم الطفل خلالها مبادىء القراءة والكتابة ويحفظ القرآن وأركان الإسلام وشعائر الدين. وإذا كان الفقراء يكتفون بهذا القدر من التعلم فان الأغنياء يواصلون تعلمهم. وبذلك يدخلون المرحلة الثانوية. ويذكر بعضهم أن عملية الحفظ كانت صعبة على الطفل لأن العربية الكلاسيكية تعتبر (لغة أجنبية، (¬2). والواقع أن الصعوبة لا ترجع إلى كون اللغة أجنبية ولكن إلى طريقة التعلم نفسها. وأن كثيرا من الألفاظ التي يحفظها الطفل في هذه المرحلة لم تكن موجودة في البيت وفي الشارع. كان التلميذ يستطيع أن يواصل تعليمه الثانوي في الجامع أو في مدرسة ملحقة بالأوقاف. وكان التعليم الثانوي مجانا. وكان الباي هـ الذي يسمي المدرس باقتراح من الناظر، ويتلقى المدرس أجرته من الأوقاف وهي تبلغ بين مانة إلى مائتين من الفرنكات سنويا. وكان يسكن مجانا. وغالبا ما يجمع إلى وظيفة المدرس وظائف أخرى كالقضاء أو الإفتاء. وكان يسود الاعتقاد أن المدرس يقضي وقته يعد الدروس، ولذلك يأتيه الناس بالضروريات كالماء والزيت للمصباح. كما كانوا يأتونه يوميا بحلويات رمضان وملابس العيد، والطعام. ومن جهة أخرى كان التلاميذ أيضا يحصلون من الأهالي على الحلوى والزيت للمصباح وعلى السكن مجانا والماء. ¬_____ (¬1) حديث بوضربة أمام (الجنة الأفريقية) ص 39 - 43. ولزيادة التفاصيل راجع: كتابي (الحركة الوطنية الجزائرية) ص 73 - 75. (¬2) إيميري ص 202 - 202.

وكان في العاصمة وقسنطينة وتلمسان جوامع ومدارس وزوايا لإيواء التلاميذ. ففي قسنطينة، حيث كان 35 جامعا و7 مدارس، كان 150 تلميذا من 700 يحصلون على أجرة سنوية من دخل الأوقاف تبلغ 36 فرنكا. وكان معظم هؤلاء التلاميذ من سكان الأقاليم وقد أعدت لهم زوايا خاصة لسكناهم بلغت ست عشرة زاوية. وقد كان في العاصمة ست زوايا لهذا الغرض: ثلاث لعرب الغرب واثنتان لعرب الشرق. أما الأخيرة فقد أعدت لإيواء المدرسين في العاصمة، والذين ليس لهم عائلات مقيمة (¬1). أما تلمسان فقد كان فيها عدد كبير من هذه الزوايا. كما كان فيها مدرستان إحداهما مدرسة الجامع الكبير والأخرى مدرسة أولاد الإمام. وفي ضاحية تلمسان كانت أيضا مدرسة قرية عين الحوت. والزوايا لم تكن مقصورة على المدن، بل كانت هناك زوايا في الأرياف تقام تخليدا لأحد المرابطين ويقام بجانبها جامع للصلاة وبئر للشرب والوضوء. وتخصص الأرض لهذه الزوايا الريفية فيحرثها الأهالي ويستعمل دخلها لمساعدة المدرسين والطلبة. ويخصص أهل الخير جزءا من محصولهم السنوي للزاوية التي توجد في منطقتهم. وكانت هذه الزوايا منتشرة، ولا سيما في الغرب الجزائري، وكان في منطقه تلمسان وحدها أكثر من ثلاثين زاوية، وهناك أخريات منتشرات في جهات الونشريس ومعسكر وسيدي بلعباس ومستغاتم. أما متيجة ومنطقة جرجرة فقد كانت تضم أكثر من ثماني زوايا أشهرها زاوية البركاني قرب شرشال، وزاوية ابن علي الشريف في أقبو، وزاوية النميلي في بني موسى، الخ. ¬

_ (¬1) من ذلك ما رواه ابن حمادوش الجزائري في رحلته من أن الشيخ أحمد الورززي التيطواني قد نزل في مدرسة الجامع الكبير بالعاصمة، وكان ذلك حوالي منتصف القرن 18.

وكان يتلقى العلم في المرحلة الثانوية حوالي 3،000 تلميذ في كل إقليم من الأقاليم الثلاثة. وكانت الدروس تشتمل على النحو والتفسير والقرآن، وينال الطالب في النهاية (إجازة) تشهد له بأنه قد درس جميع العلوم التي تدخل في نطاق تخصصه: والإجازة ليست شهادة مكتوبة ولكنها تعبير شفوي من المدرس إلى التلميذ. ومتى حصل التلميذ على الإجازة يصبح (طالبا) يستطيع قراءة القرآن في الجامع ويتولى وظيفة مؤدب أو كاتب. وليس هناك فصل واضح بين التعليم الثانوي والعالي. والأستاذ الذي يدرس في العالي يسمى (عالما). أما عدد الطلبة فقد كانوا بين 600 إلى 800 في كل إقليم يواصلون تعليمهم العالي. وكان الأساتذة في هذا المستوى يتقاضون أجورهم من الأوقاف أيضا، وكانت الدروس العالية تعطى في الزوايا وأهم الجوامع. ففي إقليم وهران كان الجامع الكبير في تلمسان وجامع سيدي العربي والزاوية القادرية (التابعة لأسرة الأمير عبد القادر). وفي إقليم الجزائر كانت زاوية ابن المبارك بالقليعة، وزاوية مليانة، وزاوية بني سليمان، وزاوية ابن محيي الدين. أما في إقليم قسنطينة فهناك الجامع الأخضر، وجامع سيدي عقبة، وزارية ابن علي الشريف في جرجرة (¬1). وأهم مواد التعليم العالي هي النحو والفقه الذي يشمل العبادات، والمعاملات، والتفسير، والحديث، والحساب والفلك، بالإضافة إلى التاريخ والتاريخ الطبيعي والطب. لكن كان يغلب على الدراسة طابع العصور الوسطى وقلة التجديد، والحفظ , وهناك عدد من الجزائريين درسوا وتخرجوا بهذه الطريقة في العهد العثماني. ولكنهم اختفوا في بداية الاحتلال. وقد كان حمدان خوجة ووالده من الذين درسوا على هذه ¬_____ (¬1) لم يكن في الجزائر مؤسسة ثقافية عريقة كالأزهر في مصر والزيتونة في تونس: ولذلك كان علماء الجزائر يهاجرون بحثا عن الاستزادة من التعليم في العواصم الإسلامية.

الطريقة. ولكن الجزائريين المنتجين كانوا قلة. وكانت الدراسة في شكلها الذي وصفناه تساعد على إخراج الموظفين في المجال الديني والكتابة ولكنها لا تساعد على إخراج المنتجين في ميدان الفكر والأدب (¬1). فإذا رجعنا إلى الحياة الفكرية والأدبية فإننا نجد بعض المحاولات الطيبة ولكنها لا تدل على نهضة ثقافية. فقد شهد القرن الثامن عشر حملين من كتابة الرحلات أحدهما لمفتي الجزائر المالكي، أحمد ابن عمار، الذي سجل ملاحظاته أثناء رحلته إلى مكة، وثانيا حسين الورتلاني الذي كتب أيضا رحلته إلى المشرق. وشهدت علوم الفقه وأصول الدين تقدما على يد عبد الرحمن باش تارزي القسنطيني والشيخ عبد العزيز الثميني الميزابي. أما الأدب فإننا نجد الشيخ محمد أبوراس الناصري يخلد شعرا ونثرا انتصار محمد الكبير، باي وهران، على الأسبان سنة 1791، ويسجل فرحة المسلمين بعودة وهران إلى الحكم الإسلامي. ونتيجة لضعف العربية الفصحى بين الناس شاع الأدب الشعبي الذي أصبح ميدانا للتعبير عن خلجات الشعب في السراء والضراء. وقد لمعت أسماء ابن مسايب التلمساني وسيدي ابن علي في هذا الميدان. وكلاهما في القرن الثامن عشر، أما في القرن التاسع عشر فنجد شعراء سجلوا بعض خواطرهم في الأحداث الهامة كما فعل الشيخ عبد القادر الجزائري في قصيدته عن احتلال الجزائر. والشيخ قدور ولد محمد الذي كان يهاجم الأمير عبد القادر بينما كان الشيخ الطاهر بن حواء يمدحه (¬2). وقد وجد الروائيون في أبطال الإسلام والجاهلية. كعنتر ابن شداد. شخصيات يقولون على لسانها ¬

_ (¬1) رجعت في هذا الجزء من البحث إلى مقال إيميري المذكور وإلى تقارير هامة عن التعليم الجزائري التقليدي محفوظة في دار المحفوظات (الأرشيف) الوطنية في باريس، تحت رقم 1723، 80 F. (¬2) راجع: حول هذا الموضوع. أ. كور A. Cour (الشعر الشعبي السياسي في عهد الأمير عبد القادر)، في (المجلة الأفريقية) عام 1948، ص 458 - 493.

أشياء كثيرة. كما وجدوا في شخصية جحا وسيلة للتعبير عما لا يمكن أن يعبروا عنه واقعيا. أما في ميدان الشعر الفصيح فهناك الأمير عبد القادر الذي سجل معاركه وانتصاراته بشره، وله ديوان مطبوع في هذا الموضوع وقد كان حمدان خوجة يقرض الشعر أيضا، ولكن شعره الذي وصل إلينا ضعيف ومتصنع (¬1). أما الأعمال التاريخية فلم نجد أشياء هامة، ولكن يمكن أن نذكر بعض الأمثلة. من ذلك الرسالة التي كتبها عبد القادر المشرقي بعنوان (بهجة الناظر في أخبار الداخلين تحت ولاية الأسبانيين بوهران من الأعراب كبني عامر) والعنوان يدل على المحتوى. والرسالة في حوالي 24 صفحة (¬2). وقد كتب حمدان خوجة كتابه (المرآة) ونشر منه الجزء الأول ووعد بنشر الجزء الثاني ولكنه لم يظهر. ورغم أن الكتاب مترجم عن المربية فإنه إلى الآن لم يعثر الباحثون على الأصل العربي. والغالب أنه ضاع. و (المرآة) عمل تاريخي هام يعتبر من أهم الوثائق المعاصرة لاحتلال، وقد كتب من وجهة نظر جزائرية. ولا نريد الآن تقييم الكتاب من الوجهة التاريخية، ويكفي أن نقول إنه مصدر ضروري لفهم ردود الفعل التي أحدثها الاحتلال الفرنسي في سنواته الأولى. كما أنه لا يمكننا أن نقيم منه أسلوب خوجة لأنه مترجم، ولكن يمكننا أن نحكم على أسلوب المؤلف من عمله الآخر المكتوب بالعربية، وهو (اتحاف المنصفين والأدباء) وخوجة يظهر في هذا الكتاب عصري الروح، طليق العبارة، واسع الاطلاع على ¬

_ (¬1) نجد له قصيدتين في كتابه (اتحاف المنصفين والأدباء) إحداهما في شكل إهداء إلى السلطان محمود اثاني والآخر في شكل خاتمة للكتاب. والكتاب كان قد نشر بالعربية والتركية، بناء على معجم سركيس، في النصف الأول من القرن الماضي. وقد حققه ونشره. (¬2) ترجمها ونشره بودان Boudin في (المجلة الأفريقية) (1924) ص 192 - 260. وقد نشرها أيضا محمد بن عبد الكريم في تاريخ لا أذكره بلبنان.

أحوال بلاده وعصره. وفي هذا المجال (التاريخ) كتب أيضا الحاج أحمد ابن المبارك (تاريخ قسنطينة) كما كتب محمد صالح العنتري (تاريخ بايات قسنطينة). أما العلوم فقد كانت ضعيفة. وكان باشوات الجزائر يوظفون الأجانب للعناية ببعض الأشياء الدقيقة أو الفنية. من ذلك توظيف أحد الفرنسيين للعناية بالساعات الكبيرة التي كانت الدول الأوربية تهديها إلى الباشا، وتوظيف أجانب آخرين للعناية بالمدفعتة، وبناء السفن، ونحو ذلك. وبدل الاهتمام بتكوين الجزائريين من الوجهة الفنية اعتمد الباشوات والمسئولون العثمانيون على بعض الأرقاء المسيحيين الذين كانوا يلبون حاجات الباشا. ومع ذلك فإن الجزائريين قاموا بمساعدة بعض الأجانب، ببناء قنطرة وادي الشلف سنة 1814 التي اشترك فيها حوالي 300 من الجزائريين و167 من اليونانيين، وهناك قنطرة وادي الرمل في قسنطينة التي بنيت في عهد صالح باي والتي أشرف عليها بارثولوميو الأسباني. وقد أظهر الجزائريون مهارة فائقة في بناء المنازل الجميلة والقصور البديعة، وشبكات المياه والفوارات والعيون. وظهر في العهد العثماني تأثير العثمانيين في المساجد، كما ظهر التأثير البيزنطي (¬1). ولكن الجزائريين أهملوا الطب سواء القديم أو الأوربي المعاصر، فلم يكن هناك مستشفيات باستثناء الزوايا التي كانت تأوي العجزة والمرضى، وكان المرجع في هذا الميدان هي كتب الأقدمين كابن سينا. وقد كانت فوائد ¬_____ (¬1) راجع: بيير بوايي (الحياة اليومية في مدينة الجزائر)، ص 205. أنظر أيضا أبو العيد دودو (مذكرات بفايفر)، الجزائر، 1974.

الأعشاب معروفة للناس. فألف الشيخ عبد الرازق الجزائري كتابا في فوائد الأعشاب (¬1). ولم يكن هناك امتحان ولا مهنة للأطباء. والذين يقومون بالعلاج هم غالبا مرابطون يداوون بالجن والأرواح وليس بالعلم. وكان هناك بعض حملة الشهادات الذين يعالجون مرضاهم في دكاكين تشبه دكاكين أصحاب الحرف الأخرى. أما أعمال الجراحة فكان يقوم بها الحلاقون الذين يلجأون أيضا إلى استعمال الكي. ومنذ القرن السادس عشركان في مدينة الجزائر مستشفى أسباني خاص بالمسيحيين. ولم يكن للسلطة العثمانية أي تدخل في مهنة الطب ما عدا تعيين (جراح باشى) الذي كان من الجنود الانكشاريين، والذي كان يصحب الجيش في الحملات الكبيرة للعناية بالجرحى. وفي بعض الأحيان كانت السلطة تستفيد من خبرة الأطباء الأجانب الذين يؤخذون أسرى. فالألماني بفايفر أصبح سنة 1825 الطبيب الخاص ورئيس الطباخين في القصر. وعند دخول الفرنسيين سنة 1830 كان بفايفر هو الطبيب الوحيد الذي كان يعالج الجرحى الأتراك والأهالي. وقد ترك مذكرات عامة تسجل دخول الفرنسيين وتصف حالة الجزائر عندئذ (¬2). ومن جهة أخرى كان لبعض القنصليات الأوربية أطباء خاصون. ولعل ضعف الطب هو الذي يفسر ارتفاع نسبة موت الأطفال في الجزائر وانتشار بعض الأمراض المعدية كمرض الزهري الذي جاء به الأوربيون خلال القرن السادس عشر (¬3). ¬_____ (¬1) انظر دراستنا عنه في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، أبريل 1975. (¬2) ترجم بعضها الدكتور أبو العيد دودو (أضواء على تاريخ احتلال الجزائر) الجيش (يناير - فبراير 1969). (¬3) يجب أن نذكر هنا كتاب (إتحاف المنصفين) الذي لم يكن صاحبه (خوجة) =

ورغم القيود الدينية في المجال الفني فإن هناك بعض الفنون قد شهدت تقدما ملحوظا، من ذلك فن العمارة في تلمسان وقسنطينة وبعض مساجد العاصمة. وهناك بعض الصور التي حملها أصحابها من الشرق إلى الجزائر وقيدها السكان. وقد تقدم فن تزيين البيوت من الداخل (الديكور) وظهر فيه الذوق المحلي. وكانت الجزائر تستورد الرخام من إيطاليا كما كانت تستورد الفسيفساء من تونس وأسبانيا وإيطاليا أيضا. وامتاز قصر مصطفى باشا بأعمال الزينة المستوردة من هولندا. وقد ظهرت براعة الجزائريين في الأعمال الخشبية كالأبواب المنقوشة والشرفات ذات الأعمدة الجذابة. وبالإضافة إلى ذلك امتازوا بأعمال الزرابي ذات الذوق الرفيع، والفخار الملون الجميل، والطرز بالذهب والفضة. وفي ميدان الموسيقى كان الريفيون يستعلمون آلات محليةكالبندير والطبلة والقصبة. وكان عرب المدن يستعملون آلات أخرى أكثر دقة كالربابة والقانون والعود والدربوكة والجواق. وكانت الألحان إما أندلسية وإما محلية متأثرة بها. وكانت هناك فرق موسيقية متعددة تجد مجالها في المقاهي وفي المناسبات الاجتماعية والدينية: الزواج، الطهارة، المولد، ورمضان. وكان للأتراك فرق موسيقية خاصة، كما كان للشخص الميسور فرقة خاصة به، وهناك فرق موسيقية خاصة بالحملة أو الحملامت العسكرية، وكان للباشا نوعان من الموسيقى: موسيقى العشية وموسيقى الصباح. أما آلات الموسيقى التركية فقد كانت الناي والغيطة والطبل. حتى الزنوج كانت لهم ¬

_ = طبيبا ولكنه ضمن كتابه معلومات هامة عن الطب والحماية من بعض الأمراض من الناحية التاريخية والعلمية. ويجب أن نشير أيضا إلى كتاب ابن العنابي (السعي المحمود في نظام الجنود) الذي دعا فيه إلى الأخذ بالعلوم الأروبية، ولا سيما العلوم العسكرية. أنظر دراستنا عنه في الكتاب التذكاري المهدى إلى الدكتور أحمد عزت عبد الكريم، القهرة، 1976.

موسيقى خاصة وآلات تكاد تكون خاصة مثل الطبلة الكبيرة والقراقب والغنبرى. وكان الرقص أيضا شائعا ولكن لدى الممتنين فقط سواء كانوا رجالا أو نساء. فالرجل المحترم وكذلك المرأة المحترمة لا ترقص على الأقل أمام الناس وكان الرقص عملا فرديا. وقد كان الرقص في المدن متأثرا بالرقص الشرقي. أما الرقص في الريف فقد كان يمتاز بطابع محلي. وفي أحيان كثيرة كانت الراقصة مغنية أيضا (¬1). وقد عرف عن الأمير عبد القادر أنه رجل حرب وفكر في نفس الوقت. وإذا كان لا يهمنا هنا الجانب العسكري فإن الجانب العقلي كان هاما. فقد ألف الأمير بعد خروجه من الجزائر عدة أعمال فلسفية وتاريخية ودينية. فكتابه (المواقف) سار فيه على نهج ابن عربي في التصوف وما زال رأيه فيه يحتاج إلى تقييم المختصين. وكتابه (ذكرى العاقل وتنبيه الغافل) (¬2) يحتوي على آراء فلسفية دينية لا تخلو من نقد ولكنها لا تخلو من جدة، رغم أن بعضهم قد انتقده بشدة على أفكاره الدينية المتحجرة في (عصر رينان وكلود بيرنار)، المليئة بالتقاليد العربية المتأخرة (¬3). وللأمير بعض الكتب التي لم تنشر بعد والتي يذكرها ابنه في (تحفة الزائر) أمثال (الصافنات الجياد)، و (المقراض الحاد) (¬4). كما أن له كتابا نسب إليه خطأ، بينما هو لكاتبه قدور بن رؤيله عنوانه (وشاح الكتائب) (¬5). ولمصطفى بن التهامي ¬

_ (¬1) اظر بوايبي، الفصل الخاص بالفنون والعلوم. (¬2) ترجمة: ج. دوغا G. Dugat إلى الفرنسية (عام 1858). (¬3) إيميري (الحالة العقلية ...) ص 205 - 206. (¬4) رأيت هذا الكتاب منشورا أيضا. (¬5) نشره وترجمه باتورني patorni، الجزائر عام 1890، وحققه ونشره محمد بن عبد الكريم الجزائر عام 1967.

كتاب آخر عن الأمير، يذكر فيه آراء للأمير في التصوف والدين والتاريخ والسياسة. وما زال هذا الكتاب مخطوطا، وليس له عنوان (¬1). ليس الهدف من هذا البحث استقصاء جميع مظاهر الثقافة الجزائرية: ونعتقد أنه يكفي للإلمام بالخطوط العامة لهذه الثقافة في الفترة الانتقالية التي شهدت انتقال الجزائر من أيدي العثمانيين إلى أيدي الفرنسيين. وقد غير الفرنسيون نظام التعليم وأنشأوا المدارس الخاصة بهم والمشتركة التي يختلف إليها الجزائريين أيضا. وبنوا المستشفيات وكونوا الصحف، وخلقوا المسرح وأدخلوا فنونهم وآدابهم وأفكارهم إلى الجزائر. وقد بقي على الباحث أن يقيم هذا العهد الفرنسي من الوجهة الثقافية ويرى ماذا استقادت منه الثقافة العربية وماذا خسرت. وقد حاولنا أن نفعل ذلك في (الحركة الوطنية الجزائرية). ومع ذلك فما يزال الموضوع يحتاج إلى تفصيل، وتعميق (¬2). ¬

_ (¬1) كان يقوم بتحقيقه المستشرق الفرنسي هنري تيسيي، وقد أطلعني على نسخة منه. كما أهدى نسخة منه إلى المكتبة الوطنية الجزائرية السيد جاك شوفاليي الفرنسي خلال مارس عام 1970. وقد اطلعت على هذه االنسخة واستفدت منها. (¬2) نود أن نلفت النظر إلى البحث الذي نشره المرحوم سعد الدين بن شنب عن الثقافة الجزائرية في القرن التاسع عشر ونشره في العدد الأول من (مجلة كلية الأداب) (الجزائر) سنة 1964 وإلى بحث الدكتور محمد طه الحاجري عن (جوانب من الحياة العقلية والأدبية في الجزائر)، محاضرات معهد البحوث والدراسات العربية بجامعة الدول العربية القاهرة (1968) ص 29 - 101.

بعض المصادر

بعض المصادر (ننبه إلى أن المصادر التالية لم تظهر في كتابي (الحركة الوطنية الجزائرية). فمن أراد زيادة الاطلاع فعليه بالرجوع إلى مصادر الكتاب المذكور). ـ[أ - مصادر بالعربية أو مترجمة منها]ـ 1 - ابن أبي شنب، سعد الدين: بحث عن الثقافة الجزائرية منشور في العدد الأول من مجلة كلية الآداب (الجزائر)، 1964. 2 - ابن المبارك، الحاج أحمد. كتاب تاريخ قسنطينة، نشره نور الدين عبد القادر، حوالي 1952 وترجمه دور نون في المجلة الإفريقية 1913 3 - تشرشل، العقيد هنري شارل، حياة الأمير عبد القادر ترجمة أبو القسام سعد الله، الدار التونسية للنشر، تونس في 1974. 4 - التميمي، عبد الجليل: (ثلاث رسائل من الحاج أحمد باي قسنطينة إلى الباب العلي) في مجلة الغرب الإسلامي (بالفرنسية)، 1967. 5 - الحاج أحمد ; باي قسنطينة: (مذكرات الحاج أحمد)، نشر مارسيل إيمري، المجلة الإفريقية (1949). 6 - الحاج أحمد أفندي: احتلال الجزائر يرويه جزائري (باريس 1863) والكتاب بالتركية والفرنسية. 7 - الحسني، أبو بكر بن أحمد: روضة الأخبار ونزهة الأفكار، الجزائر، 1901. 8 - خوجة، حمدان بن عثمان: إتحاف المنصفين والأدباء، اسطانبول، حوالي 1854، نشره محمد بن عبد الكريم، الجزائر، 1968.

9 - خوجة، علي أفندي بن حمدان خوجة: ذكريات رحلة من الجزائر إلى قسنطينة عبر الجبال، ترجمة دي سولسي، (ميتز، 1838). 10 - دار المحفوظات الوطنية بباريس: (1) رسائل الآغا محيي الدين وبعض أعيان الجزائر، زقم B 1670 و 80 F. (2) مذكرات ورسائل الحاج أحمد، باي قسنطينة، وآخرين، رقم 1673 و 80 F. (3) تقارير عن التعليم التقليدي والأدب الجزائري رقم 1723 و 80 F. 11 - مذكرة مترجمة عن العربية وجهها أعيان الجزائر، (باريس 1833). 12 - المشرفي ; عبد القادر: بهجة الناظر في أخبار الداخلين تحت ولاية الأسبانيين بوهران من الأعراب كبني عامر، نشر وترجمة بودان، المجلة الإفريقية (1924). ونشرها حديثا محمد بن عبد الكريم. 13 - مجهول: علاج السفينة في بحر قسنطينة (مخطوط)؛ من مؤلفات القرن 19. (اسم مؤلفه أحمد الانبيري - انظر دراستنا عن هذا الكتاب في مجلة كلية الآداب (الجزائر) العدد (2) 1970). 14 - عريضة أعيان الجزائر إلى البرلمان (الفرنسي)، الجزائر 30 مايو 1833. 15 - العنترى، محمد الصالح: الأخبار المبية في استيلاء الأتراك على قسنطينة ترجمة دورنون، قسنطينة، 1930. 16 - غونزاليز، جواخيم أخبار مشاهير المسلمين في مدينة الجزائر، الجزائر 1886. 17 - فانسون: (أشعار عن احتلال الجزائر)، المجلة الآسيوية (عدد 8) 1839.

ـ[ب - مصادر بالفرنسية]ـ 1 - Boyer, Pierre, La Vie Quotidienne à Alger, Paris, 1963. 2 - La Commisson d'Afrique, Procés-Verbeaux et Rapports Paris, 1834, 2 vols. 3 - Cour, A. «La Poésie populaire politique au temps de l'emir Abdelquader» Revue Africaine, (1918), pp. 458 - 493. 4 - Emirit, Marcel, «La Situation Economique de la Regence d'Alger en 1839» Information Historique, (Nov. Dec. 1952). pp. 169 - 72. 5 - Esquer, Gabriel, La Prise d'Alger 1839, Paris, 1929, Nouvelle édition. 6 - Grammont, H.D. de, Histoire d'Alger sous la Domination Turque, 1515 - 1830, Paris 1887. 7 - Isnard, H. «l'Etat économique et Social de la Mitidja en 1830,» A.N. (Rabat, 1938, T. II), pp. 715 - 725. 8 - Mercier E. Histoire de Constantine, Constantine 1903. 9 - Reynaud, Pellissier de, Annales Algériennes, Paris 1854. 3 vols. 2 ed. 10 - Saint-Calbre. «Constantine et quelques auteurs Arabes Constantinois» Revue Africaine (1913), pp. 70 - 95. 11 - Voulx, A. de. Tachrifath, Recueil de Notes historiques sur l'administration de l'ancienne Regence d'Alger, Paris 1852. 12 - ........................... Les édifices religieux de l'ancien Alger, Alger, 1870. 13 - Yacono, X. «Peut-on évoluer la population de l'Algérie Vers 1830», Revue Africaine (1954), pp. 277 - 307.

§1/1