محاضرات في النصرانية

محمد أبو زهرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: محاضرات في النصرانية (تبحث في الأدوار التي مرَّت عليها عقائد النصاري وفي كتبهم ومجامعهم المقدسة وفرقهم) المؤلف: الإمام / محمد أبو زهرة - رحمه الله - الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة الطبعة الثالثة 1381 هـ - 1966 م عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ.

افتتاحية الطبعة الثالثة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ افتتاحية الطبعة الثالثة الحمد لله رب العالمين، الذي بعث رسله ليكونوا حجة على الناس يوم لا تجزى نفس عن نفس شيئاً، والصلاة والسلام على النبي الأمي محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة الذي بعث على فترة من الرسل، بعد أن ضلت الأفهام، وحرفت الحقائق وسيطرت الأوهام، وعلى آله وأصحابه الذين كانوا كالنجوم بين العالمين. أما بعد ... فهذه محاضراتي في النصرانية أعيد طبعها، بعد أن ألح الكثيرون في طلب الإعادة، إذ تعذر على مريدي قراءتها الحصول عليها، حتى أنها عندما قررت دراستها على طلبة معهد الدراسات الإسلامية لم يجد الدارسون ما يراجعون فيه، فلم يكن بد من أن يعيد المعهد طبعها ليعين الدارسين، ولينتشر تلك الحقائق، من غير تهجم على متدين، ولا مضايقة لغير مسلم، لأن البحث الذي يتبع فيه المنهاج العلمي السليم، لا يصح أن تضيق به الصدور، ولا أن تنزوي عنه العقول. وإذا كانت فيه ثغرات يرأبها النقد المنطقي المستقيم، ويعالجها البحث العلمي القويم من غير عوج في القول، ولا التواء في القصد. لقد كتبنا تلك المحاضرات بروح المحقق الذي يجمع الحقائق، ويعرضها، وقد تماسك بعضها ببعض، ليتكون من ذلك مجموعة علمية تهدي ولا تضل. وما كنا نجهد التاريخ لنسيره، ولكنا خضعنا له، وهو الذي كان يسيرنا. . وكنا في ذلك كالقاضي العادل خضع للبيانات التي تكون بين يديه، وهي التي تحكم في الحكم الذي نسجله. لا نغير ولا نبدل، ولا ننحرف بها عن النتائج التي تؤدي إليها مقدماتها. فنسير حيث يسير بنا الدليل من غير انحراف ولا تجريف. وما كانت البيانات التي بين أيدينا من مصادر إسلامية، أو من أعداء المسيحية. بل كانت من كتاب المسيحيين أنفسهم التي سجلوها في

تاريخها، كتبها المتقدمون، ورددها المتأخرون، فهي شهادات من أهلها استنطقناها، فنطقت، واستهديناها، فهدت، واسترشدنا بها فأرشدت، وما ضنت. وإذا كان من إخواننا وعشرائنا من تململ من محاضراتنا. أو تبرم من مخالفتنا لما يؤمن به، فأنا - علم الله - ما قصدنا بكلامنا إحراجاً ولا إيلاماً، إنما أمانة العلم هي التي جعلتنا لا نقدم لتلاميذنا الذين نلقاهم، والذين لا نلقاهم بالخطاب، بل نلقاهم بالكتاب، إلا ما نعتقد أنه الحق الناصع، وقد وجه إلينا نقد من بعض المخلصين من إخواننا المسيحيين في مقالات متتابعة نشرتها إحدى المجلات المسيحية، فما ضاقت صدورنا، بل ذهبنا إلى الناقد في داره، وطلبنا إليه أن يطلعنا على كل الأعداد التي تشتمل على نقد لنا، لنصحح خطأ وقعنا فيه، أو لنبدل حكماً ما أنصفنا فيه، عملاً بقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . ولنا لنحسب أنه ليس من بين إخواننا أقباط مصر من ظلموا، فما كان لنا إلا أن نتقبل النقد بقبول حسن، ونتبعه في كل ما وجه إلينا مستطيبين ذلك، حتى ما كان منه تهجم علينا. فإن المخلص يستمع، ولو كان في كلام مخالفه هجوم، أو تهجم بغير الحق. وما وجدنا في النقد ما يغير حكماًً، ولقد أرسل إلينا بعض أبنائناً المسحيين رسائل نقد قدرناها، فقراناها، وكان كتابها يخرجون عن حد النقد أو الدفاع إلى ما لا يحسن من قول، فما ضاقت صدورنا، وحاولنا أن ننتفع منها، ولكنا ما وجدنا فيها أيضاً ما يبرر لنا تغيير حكم حكمنا به، وإلى هؤلاء وأولئك نعتذر. ولا يصح أن يتبرم أحد من إخواننا وأبنائنا من كلام نسوته لطلابنا، معتقدين أنه الحق الذي لا ريب فيه، فلو كان أهل كل دين تضيق صدورهم بالبحث والدرس، لكان حقاً علينا معشر المشتغلين بالدراسات الإسلامية أن تذهب نفوسنا حسرات مما يكتبه بعض علماء أوروبا عن الإسلام، يفترون على حقائقه ولا يدرسونه دراسة موضوعيه، بل يدرسونه دراسة

ذاتية محرفين الكلم عن مواضعه، ومع ذلك ندرس كلامهم، ونضع الصواب منه في موضعه، ونضع الباطل في مكان سحيق، نأخذهم إلى المنطق ولا ننحرف معهم عن قصد السبيل. وأخيراً نقول لإخواننا أننا نؤمن بالمسيح عليه السلام، ونؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وسائر النبيين {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . محمد أبو زهرة 27 من ذي القعدة سنة 1381 19 من مارس سنة 1966

افتتاحية الطبعة الثانية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ افتتاحية الطبعة الثانية الحمد لله الذي خلق فقدر، وخلق آدم من طين، وعيسى ابن مريم من غير أب ليكون حجة على العالمين. فيثبت أن الخلق بالإرادة لا بالعلية، فتبارك الله أحسن الخالقين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وسائر النبيين، المبعوثين رحمة للناس أجمعين. أما بعد، فقد جاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ثلاثة لهم أجران: "رجل من أهل الكتب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه. ورجل كانت عنده أمه فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران". ويقبس من هذا الروح السمح كتبنا كتاب محاضرات في النصرانية، نرجو به مع إحقاق الحق الهداية، لا نهاجم اعتقاداً، ولا نبطل عقيدة، بل ننير السبيل ونضع المصباح أمام الجادة فيسلكها من يريد الرشاد، ومن يرجو السداد، ولكننا في عصر فهم الناس فيه الدين منزعاً جنسياً، ولم يفهموه حقاً اعتقادياً، ولا تهذيباً نفسياً، ولا خلاصاً روحياً، فكان ذلك حاجزا دون أن تصل الهداية إلى القلوب، ولن تشرق النفوس بنور الحق. وقد كلن الناس في الماضي يوجد من بينهم من يقول {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} أما الآن بالناس جميعاً غلقوا على أنفسهم باب النور باعتبارهم الدين جنسا، والاستمساك به من القومية أو ما يشابهها، فيكون العار على من خالف، وإن كانوا يعلمون أن فيما يعتقدون ما ليس بمفهوم. وبسبب هذه النزعة الجنسية في التدين ظهر نقد لكتابي هذا من بعض بني وطني غير المسلمين، وكنت (علم الله) مستريحاً لظهوره، فجمعت

النقد، وشكرت الناقد، وتغاضيت عن عبارات نالني بها، لأنها من فلتات القلم، ولقد أخذت أدرس ذلك النقد حرفاً حرفاً، لأصحح به خطأ جرى في الكتاب، أو سوء تفسير فسرناه، أو تخريجاً بعيداً عن المعنى خرجناه. ولكني وجدت النقد خالياً من ذلك في جملته، بل هو مهاجمة لقصد الكتاب، يثير اعتبار الدين جنسا، ويدفعه التعصب الشديد، ويحاول توهين المكتوب، حتى أنه في سبيل ذلك يعتبر الكرم المقيد بوصف متناقضا، والمعلق على شرط متضاربا، لأن صدر الكلام غير الوصف، ومقدم القضية الشرطية غير تاليها، وإن كان في النقد ما يفيد أنه أثبت أن بعض أخواننا نألم من عبارات جاءت في كتابنا. فغيرناها إن لم يكن في التغيير ما يمس الجوهر، ويفسد المعنى. وقد كنا بسبب التألم نحجم من إعادة طبع الكتاب، مع الإلحاف من الكثيرين وبعضهم من إخواننا المسيحيين، وأحجمنا عن ذلك نحو ست سنوات، ولكن اشتد الطلب من البلاد الشرقية والمصرية، وزكوا الطلب بأنه لا يليق أن تحول الاعتبارات النفسية دون ظهور ثمرات الفكر، وإن عند إخواننا من سعة الصدر ما يتسع لذلك. وخصوصاً أن الكتاب معروف في أمريكا وأوربا والهند، فقد ترجم إلى الإنجليزية. ولخصته بعض المجلات الأمريكية تلخيصاً كاملاً، وترجم إلى الفرنسية والأردية. فماذا كانت هذه الأمم المسيحية تطوع بعض المسيحيين فيها بترجمته تسجيلاً للآثار العلمية. وإن خالفوها - فإنه من نقص الحرية الفكرية في مصر أن يضيق صدر بعض أبنائها حرجاً بإعادة طبع كتاب سجله المسيحيون في لغاتهم. لهذا أقدمت على إعادة طبع الكتاب بعد طول الأحجام، راجياً من المولى جلت قدرته الهداية والتوفيق والسداد، إنه نعم المولى ونعم النصير. محمد أبو زهرة 9 من رجب المحرم سنة 1368 الموافق 4 من مايو سنة 1949

افتتاحية الطبعة الأولى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ افتتاحية الطبعة الأولى الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم، أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى ابن مريم من النبيين الصديقين، ومن عباد الصالحين وأولى العزم من الرسل. أما بعد. فقد عهد إلي تدريس تاريخ الديانات بقسم الدعوة والإرشاد من كلية أصول الدين فألقيت محاضرات في النصرانية، هذه خلاصتها، وتلك لبابها، ولقد عنيت ببيانها في أدوارها المختلفة متبعاً في بيان المسيحية الحاضرة سلسلة إسنادها المتصلة. فكان أول السلسلة مجمع نيتيه المنعقد سنة 325، وتنتهي بعصرنا الحاضر، هذا مبدأ السند وهذا منتهاه، فالسند إذن ينقطع بين المسيح عليه السلام، والمجمع الأول من المجامع المقدسة، وأن انقطاع السند في هذه الفترة الطويلة سببه الاضطهاد الذي لحق النصارى فيها، حتى كانوا يستخفون ويتعبدون في السر. فلا يعلنون دينهم الذي ارتضوا، ويفرون به فراراً إن كشف أمرهم، قد ينطقون بكلمة الكفر يتقون بها حد السيف أو نار العذاب، وقد اعترف بقطع السند مجادلوهم واختاروا ذلك السبب علة لهذا القطع. وأنا إزاء العجز أو عدم توافر أسباب العلم ابتدأنا بحثنا في دينهم بكتبهم التي ألزم المسيحيون بها بعد قرار المجامع بالإلزام، ثم تتبعنا في البحث سير المجامع. نسير في مسارها، ونتجه في اتجاهاتها، ولكنا لا نكتفي بدراية قرارات مجمع من المجامع، بل ندرس البواعث التي بعثت إلى انعقاده ونفصل بعض التفصيل الخلاف الذي سبقه، والذي جاء المجمع لحسمه، ثم انتهى إلى تشعيبه وتوسيع زاويته. وإن عنايتنا بتفصيل البواعث التي أدت إلى انعقاد المجمع الأول، وبيان قراراته، وكيف تأتي جمهور المسيحيين، وخاصة رجال الدين تلك القرارات، قد أزالت الستار عما أكفته غياهب التاريخ في الفترة التي

كانت بين المسيح وهذا المجمع، بل إن تلك العناية جعلتنا نخترق حجب الظلام التاريخي لنصل إلى ضوء نعشو إليه لنعرف حقيقة دعوة المسيح في عصر الاستخفاء أو عصر الاضطهاد، ولقد ساعدنا على الاستفادة بذلك الضوء موازنات تصدينا لها وازنا فيها بين المسيحية الحاضرة وفلسفة الرومان واليونان في تلك الفترة، وما حاولنا أن نفرض ما استنبطنا على القارئ أو نسبقه إلى الاستنباط، بل القينا إليه بالمقدمات، وتركنا له استخراج نتائجها، ليشاركنا فيما وصلنا إليه باقتناعه، ولكيلا نملأ عقله، وهو خال، فينقص تقديره للدليل ويضعف وزنه للبرهان. ولقد كانت عنايتنا متجهة إلى بيان العقيدة، فجلينا أدوراها، وبينا ما قام حولها من مناقشات وخلافات. وبينا كل فرقة ومنبعثها، والمجمع الذي انبعثت من بعده. وما أحصينا فوقهم عدا، ولا فصلنا آراء كل فرقة تفصيلا، بل عنينا بالفرق الكبرى، وعنينا بتفصيل العقيدة دون سواها. وعلم الله أني لبست رداء الباحث المنصف ونظرت بالنظر غير المتحيز، وتخليت عن كل شيء سواه، لأصل إلى الحق وصول المجتهد الحر، لا المقلد التابع المأسور بسابق فكره، والمأخوذ بسابق اعتقاده، ولكني انتهيت كما ابتدأت، مؤمناً بالله الواحد الأحد، الذي ليس له والد ولا ولد. وإني لأهدي كتابي هذا إلى كل مسيحي طالب للحقيقة يسير في مسالكها لا أبغي به غلباً في جدال، ولا سبقاً في نزال، ولكن أبغي به الحق المجرد {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} محمد أبو زهرة

تمهيد

تمهيد 1- عسير على المرء أن يكتب في رأي يخالف رأيه، ويتحرى مع هذه المخالفة أن يصور الرأي، كما يجول بخاطر صاحبه، وينبعث في نفسه، فيبين دوافعه وغاياته، وإذا كان ذلك واضحاً في رأي مخالف برئاي، فكيف تكون الحال إذا كانت المخالفة في عقدية تعتنق، وتتغلغل في أعماق النفس، وتستكن في اطوائها!! إن الطريق حينئذ يكون أو عث، ومسالكه أضيق، لذلك كان الطريق غير معبد أمام الباحث الذي يريد أن يكتب في النصرانية كمنا يعتقد النصارى، ويصورها أمام القارئ كما تجول بخاطر معتنقيها، ويفرض من نفسه ناظراً غير متحيز، يبين العقيدة، كما عي في نفس أصحابها، لا كما ينبغي أن تكون، أو كما يعتقد هو، لأن الباحث خلع نفسه مما تعتنق وتؤمن به. ويجردها تجرداً تاماً مما قد صار منها بمنزلة الملكات، وخالط الإحساس والمشاعر، واستولى على كل مسالك الآراء إليها، وتصوير المسيحية كما يعتقد أصحابها ليس فقط عسيراً على الكاتب غير المسحي، بل إنه عسير على الكتاب المسيحيين أنفسهم، يستوي في ذلك المختصون بالدراسات الدينية وغير المختصين، ولذلك يستعينون في تصويرها، وإدنائها إلى العقول بضرب الأمثال. والتشبيهات الكثيرة، لتأنيس غريبها بالقريب المألوف، والمشاهد المحسوس ولإدخالها في العقل من الباب الذي يألفه ويعرفه، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. 2- ولكن البحث العلمي يتقاضى الباحث الحر المنصف أن يدرس المسيحية إن أراد أن يعلنها كما يعتقد أهلها مجرداً من نزعاته السابقة على الدراسة، غير جاهل لعقيدته سلطاناً على حكمه، حتى لا تسيره في دراسته، وتتحكم في اتجاهاته، لأن ذلك قد يدفعه لأن يتزيد على القوم، والتزيد ليس من شيمة العلماء، أو يدفعه لأن يتناول كلامهم بغير ما يريدون، وذلك لا يجعل العقل يدرك الأمور كما هي في ذاتها، بل يدركها كما انعكست في نفسه، وكما رسمت على قلبه، وقد يباعد ذلك الأمر في ذاته.

ولذلك سنحاول داعين الله - مبتهلين إليه أن يلهمنا التوفيق - دراسة المسيحية، مجردين من أنفسنا ناظراً غير متحيز عليها، لتصورها كما هي، وكما يعتقد أهلها، ولنتمكن من أن نكتبها بروح الإنصاف، ولقد نضطر في سبيل ذلك الإنصاف أن ننقل عبارات كتبهم المقدسة عندهم وغير المقدسة من غير أن نتصرف بأي تصرف، حتى ما يتعلق بالإعراب وأساليب البيان، لكيلا يدفعنا التصرف في التعبير إلى تغيير الفكرة، أو تحريف القول. عن مواضعه. وسنجتهد ما استطعنا في تصوير تفكيرهم الأمثال، إن لم نجد بدا من ذلك. ولكن من عنايتنا الشديدة بتفهم ما عند القوم، وتعرف غاياته ومراميه لا نترك النقد العلمي النزيه، الذي يستمد قوانينه من بدائه العقول وأحكام المنطق، وخصوصاً ما يتعلق بكتبهم، لأنه إذا كان الإنصاف قد طالبنا بألا نتزيد على ما عندهم، أو نحرفه عن مراده ومرماه، فالإنصاف أيضاً يطالبنا بألا نهمل العقل، وألا خرج بحثنا عن معناه العلمي التاريخي، وصار بحثاً لاهوتيا صرفاً، وذلك ما لا نريد، فلا يصح أن يدفعنا حرصنا على أنصافهم إلى ظلم الحلم والحق والعقل.

المسيحية: كما جاء بها المسيح عليه السلام

المسيحية: كما جاء بها المسيح عليه السلام المسيحية في القرآن: 3- قبل أن نخوض في المسيحية كما هي عند المسيحيين نتكلم في المسيحية التي جاء بها المسيح عليه السلام، وإنا إذا تصدينا للمسيحية التي جاء بها المسيح نجد التاريخ لا يسعفنا بها، إذ بعد العهد، واضطربت روايات التاريخ بالأحداث التي نزلت بالمسيحيين، ويجوز أن تكون قد عملت بد المحو والإثبات عملها، حتى اختلط الحابل بالنابل. وصار من العسير أن نميز الطيب من الخبيث، والحق من الباطل، والصحيح من غير الصحيح، وأننا معشر المسلمين لا نعرف مصدراً صحيحاً جديراً بالاعتماد والثقة من المسلم غير القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، فهما المصدران المعتمدان للمسلم في هذا، وما نكتب هذا لنلزم به المسيحيين، ولا على أنه هو المعتبر عندهم، ولكن نكتبه، ليتسق البحث، ولنتم السلسلة. ينص القرآن الكريم على أن عقيدة المسيح هي التوحيد الكامل، التوحيد بكل شعبه، التوحيد في العبادة، فلا يعبد إلا الله، والتوحيد في التكون، فخالق السماء والأرض وما بينهما هو الله وحده لا شريك له، والتوحيد في الذات والصفات فليست ذاته بمركبة، وهي منزهة عن مشابهة الحوادث سبحانه وتعالى. فالقرآن الكريم يثبت أن عيسى ما دعا إلا إلى التوحيد الكامل، وهذا ما يقوله اللع تعالى عما يكون من عيسى يوم القيامة من مجاوبة بينه وبين ربه: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . فهذا نص يفيد بصريحة أن عيسى ما دعا إلا إلى التوحيد، فغير التوحيد إذن دخل النصرانية من بعده، وما كان عيسى إلا رسول لله رب العالمين.

ولقد نزل على السيد المسيح عليه السلام كتاب هو الإنجيل، وهو مصدق للتوراة، ومحيى لشريعتها، ومؤيد للصحيح من أحكامها، وهو مبشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، وهو مشتمل على هدى ونور وهو عظة للمتقين، وإنه كان على أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل فيه، ولذلك قال الله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . دعوة المسيح: 4- ولقد كانت دعوة المسيح عليه السلام تقوم على أساس إنه لا توسط بين الخالق والمخلوق، ولا توسط بين العابد والمعبود، فالأخبار والرهبان لم تكن لهم الوساطة بين الله والناس، بل كل مسيحي يتصل بالله في عبادته بنفسه، من غير حاجة إلى توسط كاهن أو قسيس أو غيرهما، وليس شخص - مهما تكن منزلته أو قداسته أو تقواه - وسيطاً بين العبد والرب في عبادته، وتعرف أحكام شرعه مما أنزل الله على موسى من كتاب، وما أثر عنه من وصايا، وما اقترنت به بعثته من أقوال ومواعظ. ودعوة عيسى عليه السلام - كما ورد في بعض الآثار، وكما تضافرت عليه أقوال المؤرخين - تقوم على الزهادة والأخذ من أسباب الحياة بأقل قسط يكفي لأن تقوم عليه الحياة، وكان يحث على الإيمان باليوم الآخر، واعتبار الحياة الآخرة الغاية السامية لبني الإنسان في الدنيا، إذ الدنيا ليست إلا طريقاً غايته الآخرة، وابتداء نهايته تلك الحياة الأبدية. ولماذا كانت دعاية المسيح عليه السلام إلى الزهادة في الدنيا، والابتعاد عن أسباب النزاع والعكوف على الحياة الروحية؟ الجواب عن ذلك أن اليهود الذين جاء المسيح مبشراً بهذه الديانة بينهم كان من يغلب عليهم النزعات المادية، وكان منهم من يفهم أن الحياة الدنيا هي غاية بني الإنسان، بل أن التوراة التي بأيديهم اليوم خلت من ذكر اليوم الآخر، ونعيمه أو جحيمه، ومن فرقهم من كان يعتقد أن عقاب الله الذي أوعد به العاصين، وثوابه الذي وعد به المتقين، إنما زمانه في الدنيا لا في الآخرة، وقد قال رينان الفيلسوف الفرنسي في كتابه المسيح: "الفلسفة اليهودية كان من مقتضاها السلطة الفعلية في نفس هذا العالم، فإنه يؤخذ من أقوال

مريم والمسيح في القرآن الكريم:

شيوخهم أن الصالحين يعيشون في ذاكرة الله والناس إلى الأبد، وهم يقضون حياتهم قريبين من عين الله، ويكونون معروفين عند الله، أما الأشرار فلا، هذا كان جزاء أولئك، وعقاب هؤلاء، ويزيد الفريسيون على ذلك أن الصالحين ينشرون في هذه الأرض يوم القيامة ليشتركوا في ملك المسيح الذي يأتي لينقذ الناس، ويصبحوا ملوك العالم وقضاته، وهكذا يتنعمون بانتصارهم، وانخذال الأشرار أعدائهم، وعلى ذلك تكون مملكتهم في هذا العالم نفسه"! أهـ فجاء المسيح عليه السلام مبشرا بالحياة الآخرة، وإنها الغاية السامية لهذا العالم بين أولئك الذين أنكروها، ومن ثم ينكرها بقوله منهم أنكرها بفعله، فكانوا في ذلك الإنكار سواء. مريم والمسيح في القرآن الكريم: 5- وإذا كانت شخصية المسيح هب اللب في المسيحية الحاضرة، وأساس الاعتقاد فيها، وجب أن نبينها كما جاءت في القرآن، كما سنبينها كما جاءت في المسيحية، ليستطيع القارئ أن يوازن بين الشخصيتين، ويعرف أيهما أقرب إلى التصور، والعقل يتقبلها بقبول حسن، ولنبدأ بأمه. يذكر القرآن الكريم مريم أم عيسى عليه السلام، فيقص خبر الحمل بها وولادتها وتربيتها في سورة آل عمران. فيقول تعالت كلماته: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . هذه هي الأحوال التي اكتنفت الحمل بالبتول مريم، وولادتها، وتربيتها، ويلاحظ القارئ أن العبادة والنسك أظلاها، وهي جنين في بطن أمها إلى أن بلغت مبلغ النساء، واصطفاها الله لأمر جليل خطير، فأمها وهي حامل بها نذرت أن يكون ما في بطنها محرراً خالصاً لخدمة بيت الله

وسدانته، والقيام بشئونه، واستمرت مصممة على الوفاء بنذرها، فلما وضعت، وكان نذرها على فرض الذكورة، كما يبدو من أشارات النصوص القرآنية، جددت العزم على الوفاء بالنذر، وقد وجدت مل تسوغه النفس للتحلل من النذر، فكان ذلك الإصرار عبادة أخرى، إذ وجدت في النفس داعيات التردد، والرجوع والتحلل من الوفاء فكان كفها هذه الداعيات والقضاء عليها عبادة أخرى، ثم انصرفت الفتاة الناشئة منذ طراوة الصبا إلى النسك والعبادة، وقام على تنشئتها وهدايتها وتعليمها نبي من أنبياء الله الصديقين الصالحين، فكلفها زكريا، ووجهها إلى العبادة الصحيحة، وتنزيه القلب من كل أدران الشر والإثم، وكان الله سبحانه وتعالى يدر عليها أخلاق الرزق من حيث لا تقدر ور تحتسب، ومن غير جهد ولا عنت، حتى أثار ذلك عجب نبي الله كافلها فكان {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . 6- ولقد كانت تلك التنشئة الطاهرة التي تكونت في ظلها بريئة من دنس الرذيلة - لا يجد الشيطان سبيلاً أو منفذاً ينفذ إلى النفس منها - تمهيداً لأمر جليل قد اصطفاها الله تعالى له دون العالمين، ولذا خاطبتها الملائكة وهي الأرواح الطاهرة باجتباء الله لها: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} . ولقد كان ذلك الاصطفاء هو اختيار الله لها لأن تكون أما لمن لم يولد من غير نطفة آدمية. وكان ذلك لكي تكون آية مشهورة، تحمل فيها حف بها من أحوال التراهن التي تقطع ريب المرتاب، وألسنة كل أفاك، وتغير السبيل أمام المؤمنين إذ أن ولادته من غير أب من أم كانت حياتها للنسك والعبادة. والعكوف على التقوى. وتحت ظل نبي من أنبياء الله تعالى لم تزن بريبة قط - يجعل المؤمن يؤمن بآية الله الكبرى في هذا الكون، ولا يجعل شيئاً يقف أمام مريد الهداية من تطنن بالأم أو ريبة فيها، فحياتها كلها من قبل ومن بعد تنفي هذه الريبة، وتبعدها عن موطن الشبهة.

الحمل بالمسيح وولادته:

الحمل بالمسيح وولادته: 7- حملت العذراء البتول مريم بالسيد المسيح عليه السلام، وهو الأمر الذي اجتباها الله له، واختارها لأجله، ولقد فوجئت به، إذ لم تكن به عليمة، فبينما هي قد انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، أرسل الله إليها ملكاً تمثل لها بشراً سوياً {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} ، حملت السيدة مريم البتول بعيسى من غير أب، ثم ولدته. ولم تبين الآثار النبوية مدة الحمل. فلم يرد في الصحاح آثار تبين تلك المدة، ولو كانت مدة الحمل غريبة لذكرت، فليس لنا إذن إلا أن نفرض أن مدة الحمل كانت المدة الغالبة الشائعة بين الناس. وهي مدة تسعة أشهر هلالية. ولما ولدته وخرجت به على القوم كان ذلك مفاجأة لهم، سواء في ذلك من يعرف نسكها وعبادتها، ومن لا يعرف، لأنها فاجأتهم بأمر غريب، وهي المعروفة بينهم بأنها عذراء ليس لها بعل، فكانت المفاجأة داعية الاتهام، لأنه عند المفاجأة تذهب الروية، ولا يستطيع المرء أن يقابل بين الماضي والحاضر، وخصوصاً أن دليل الاتهام قائم، وقرينته أمر عادي لا مجال للريب فيه عادة، ولكن سبحانه وتعالى رحمها من هذه المفاجأة، فجعل دليل البراءة من دليل الاتهام لينقض الاتهام من أصله، ويأتي على قواعده ويفاجئهم بالبراءة وبرهانها الذي لا يأتيه الريب، ليعيد إلى ذاكرتهم ما عرفوه في نسكها وعبادتها، ولذلك نطق الغلام، وهو قريب عهد بالولادة، أشارت إليه {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} . 8- نطق السيد المسيح في المهد، ليكون كلامه إعلاماً صريحاً ببراءة أمه وإنه لم يكن إلا عبد الله، ولد من غير أب،

الحكمة في كون المسيح ولد من غير أب:

ويروي ابن كثير: "عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كلمهم طفلاً، حتى بلغ ما يبلغ الغلمان ثم انطقه الله بعد ذلك بالحكمة والبيان، فأكثر اليهود فيه، وفي أمه من القول، وكانوا يسمونه ابن البغية، وذلك بقوله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} ، ولم يذكر في الآثار الصحاح عن النبي عليه الصلاة والسلام حال عيسى عليه السلام في مرباه ونشأته، وكيف كان منه مما يكون إرهاصاً بنبوته، فليس لنا إلا أن نقول إنه قد تربى بما كان يتربى به أمثاله الذين ينشئون على التقى والمعرفة في بني إسرائيل، ويغلب على الظن أن يدون في ظهر منه وهو غلام، ما يدل على روحانيته، وما يدعو إليه بعد ذلك من حياة روحية، وسط قوم سيطرت عليهم المادة، وغلبت عليهم نزعاتهم، والاتجاه إليها. الحكمة في كون المسيح ولد من غير أب: 9- لبد من أن نشير هنا أن ننتقل إلى بعثته عليه السلام إلى السبب الذي من أجله ولد عيسى عليه السلام من غير أب. فإنه لابد أن يكون ذلك لحكمه يعلمها الله جلت قدرته، وقد أشار إليها سبحانه في قوله تعالت كلماته: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} . وإنا نتلمس تلك الآية الدالة في ولادة عيسى عليه السلام من غير أب، فنجد أنه يبدو أمام أنظارنا أمران جليان: أحدهما. أن ولادة عيسى عليه السلام من غير أب تعلن قدرة الله سبحانه وتعالى، وإنه الفاعل المختار المريد، وإنه سبحانه لا يتقيد في تكوينه للأشياء بقانون الأسباب والمسببات التي نرى العالم يسير عليها في نظامه الذي أبدعه الله والذي خلقه، فالأسباب الجارية لا تقيد إرادة الله، لأنه خالقها، وهو مبدعها ومريدها، فإن الأشياء لم تصدر عن الله جلت قدرته، كما يصدر الشيء عن علته، والمسبب عن سببه، من غير أن يكون للعلة إرادة في معلولها، بل كانت بفعله سبحانه وبإرادته التي لا يقيدها شيء مهما يكن شأنه، وخلق عيسى من غير أب هو بلا ريب إعلان لهذه الإرادة الأزلية، بين قوم غلبت عليهم الأسباب المادية، وفي عصر ساده نوع من الفلسفة، أساسها أن خلق الكون كان مصدره الأول، كالعلة عن معلولها، فكان عيسى آية

بعثة عيسى عليه السلام ومعجزاته:

الله على إنه سبحانه لا يتقيد بالأسباب الكونية، وأن العالم كله بإرادته، ولم يكن سبحانه بمنزلة العلة من المعلول: {تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} . الأمر الثاني: أن ولادة المسيح عليه السلام من غير أب إعلان لعالم الروح بين قوم أنكروها، حتى لقد زعموا أن الإنسان جسم لا روح فيه، وإنه ليس إلا تلك الأعضاء والعناصر التي يتكون منها، فلقد قيل عن اليهود أنهم كانوا لا يعرفون الإنسان إلا جسماً عضوياً، ولا يقرون إنه جسم وروح، فقد قال رينان في سبب الحقد الذي تغلغل في النفس اليهودية: "لو كان الشعب الإسرائيلي يعرف التعاليم اليونانية التي كان من مقتضاها اعتبار الإنسان عنصرين مستقلين: أحدهما الروح، والآخر الجسد، وإنه تعذبت الروح في هذه الحياة لأنها تستريح في الحياة الثانية، لسرى عنه شيء كثير من عذاب النفس، واضطراب الفكر، بسبب ذله وخضوعه، مع ما كان يراه في نفسه من الامتياز الأدبي والديني عن الشعوب التي كانت تذله". يقرر رينان في هذا أن اليهود ما كانوا يقولون كاليونان أن الإنسان جسم وروح، ولقد يؤيد هذا ما جاء في التوراة التي بأيديهم في تفسير النفس بأنها دم، فقد جاء فيها: "لا تأكلوا دم جسم ما، لأن نفس كل جسد هي دمه"، إذن لم يكن اليهود يعرفون الروح على إنها شيء غير الجسم. فلما جاء عيسى من غير أب. وكان إيجاده بروح من خلق الله، كما قال تعالى {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} كان ذلك الإيجاد الذي لم يكن العامل فيه سوى ملك من الأرواح نفخ في جيب مريم، فكان الإنسان من غير بذرة الإنسان وجرثومته. كان ذلك إعلاناً لعالم الروح بين قوم أنكروها، ولم يعرفوها، فكان هذا قارعة قرعت حسهم ليدركوا الروح، وكان آية معلمة لمن لم يعرف الإنسان إلا إنه جسم لا روح فيه، وهذه آية الله في عيسى وأمه عليهما السلام. بعثة عيسى عليه السلام ومعجزاته: 10- بعث عيسى عليه السلام، ولم يرد في القرآن الكريم، ولا في الآثار الصحاح بيان السن التي بعث عند بلوغها عليه السلام. ولكن ورد في بعض الآثار إنه بعث في سن الثلاثين، وهي السن التي تذكر الأناجيل

المعتبرة عند النصارى إنه بعث على رأسها، ويصح لنا أن نفرض أنه بعث في هذه السن على هذا الأساس. بعث عيسى عليه السلام يبشر بالروح. وعجز الملاذ التي استغرقت النفوس في تلك الأيام، واستولت عليها، ويبشر بعالم الآخرة، ولقد أيده الله بمعجزات، وأن ولادته نفسها معجزة، كما جاء في الملل والنحل للشهرستاني، فقد قال - رحمه الله - في ذلك: "كانت له آيات ظاهرة. وبينات زاهرة، مثل أحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص، ونفس وجوده وفطرته آية كاملة على صدقه، وذلك حصوله من غير نطفة سابقة، ونعلقه من غير تعليم سابق". ومعجزاته التي ذكرها القرآن الكريم تتلخص فيلا خمسة أمور، جاء ذكر أربعة منها في سورة المائدة في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} ... إلى قوله تعالت كلماته: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} . ويستبين من هذه الآيات الكريمة أربع معجزات: الأولى: إنه يصور من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، أي أن الله سبحانه وتعالى خلق على يديه طيراً من الطين، فالخالق هو الله سبحانه وتعالى، ولكن جرى الخلق على يد عيسى، وينفخ من روحه عليه السلام بإذن الله تعالى.

الحكمة من كون معجزاته عليه السلام من ذلك النوع:

الثانية: إحياؤه عليه السلام الموتى بإذن الله جلت قدرته، والمحيي في الحقيقة هو الله العلي القدير، ولكن أجرى الأحياء على يد المسيح عليه السلام، ليكون ذلك برهان نبوته، ودليل رسالته. الثالثة: إبراؤه عليه السلام الأكمه والأبرص، وهما مرضان تعذر على العالم قديمه وحديثه العثور على دواء لهما، والتمكن من أسباب الشفاء منهما، ولكن عيسى بقدرة الله شفاهما، وبرئ المريضان برقيته، فكان ذلك دليلاً قائماً على رسالته عليه السلام. الرابعة: إنزال المائدة من السماء بطلب الحواريين، لتطمئن قلوبهم، وليعلموا أن قد صدقهم. وهناك خمسة ذكرت في سورة آل عمران، وهي أنباؤه عليه السلام بأمور غائبة عن حسه، ولم يعاينها، فقد كان ينبئ صحابته وتلاميذه بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم. وقد ذكر الله تعالى في قوله في قوله تعالى حاكياًً عنه {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . الحكمة من كون معجزاته عليه السلام من ذلك النوع: 11- هذه معجزات عيسى عليه السلام، وهنا يتساءل القارئ: لماذا كانت معجزاته عليه السلام من ذلك النوع؟ يجيب عن ذلك ابن كثير في كتابه البداية والنهاية بقوله: "كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان فذكروا أن موسى عليه السلام كانت معجزاته مما يناسب أهل زمانه، وكانوا سحرة أذكياء، فبعث بآيات بهرت الأبصار، وخضعت لها الرقاب، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر وما ينتهي إليه. وعاينوا ما عاينوا من الأمر الباهر الهائل الذي لا يمكن صدوره إلا ممن أيده الله، وأجرى الخارق على يديه تصديقاً له أسلموا سراعا، ولم يتلعثموا: وهكذا عيسى ابن مريم بعث في زمن طبائعية الحكماء، فأرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها، وإني لحكيم إبراء الأكمه الذي هو أسوا حالاً من الأعمى والأبرص والمجذوم ومن به مرض مزمن، وكيف يتوصل أحد من الخلق إلى أن قيم الميت من قبره، وغير هذا مما يعلم كل أحد إنه معجزة دالة على صدق من قامت به، وعلى قدرة من أرسله،

ما نراه حكمة صحيحة:

وهكذا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعليهم أجمعين بعث في زمن الفصحاء البلغاء، فأنزل الله عليه القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. فلفظه معجزة تحدى به الأنس والجن أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة، وقطع عليهم بأنهم لا يقدمون لا في الحال، ولا في الاستقبال، فلم يفعلوا، ولن يفعلوا، وما ذلك إلا لأنه كلام الخالق - عز وجل -، والله لا يشبهه شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. ما نراه حكمة صحيحة: 12- من هذا الكلام يستفاد أن معجزة المسيح كانت من نوع إبراء المرضى الذين يتعذر شفاؤهم وإحياء الموتى، لأن القوم كانوا على علم بالطب الطبيعي وكانوا فلاسفة في ذلك، فجاءت المعجزة من جنس ما يعرفون، ليكون عجزهم حجة عليهم، وعلى غيرهم ممن هم دونهم في الطب، ولكن رينان الفيلسوف المؤرخ الفرنسي يقرر أن اليهود ما كانوا على علم بالطب الطبيعي فيقول: "كانت صناعة الطب في المشرق في ذلك الزمان كما هي اليوم، فإن اليهود في فلسطين كانوا يجهلون هذه الصناعة التي وضعها اليونان منذ خمسة قرون قبل ذلك التاريخ، وكان قد ظهر قبل ذلك بأربعة قرون ونصف كتاب لأبقراط أبي الطب موضوعه العلة المقدسة يعني الهستريا، وفيه وصف هذه العلة، وذكر دوائها، إلا أن اليهود في فلسطين كانا يجهلون صدور هذا الكتاب، وكان في اليهودية في ذلك الزمان كثيرون من المجانين، وربما كان ذلك ناشئاً من شدة الحماسة الدينية. فاليهود الذين بعث المسيح بين ظهرانيهم لم يكونوا على علم إذن بالطب، أو الطب الطبيعي على رأي ذلك الفيلسوف المؤرخ. وفي الحق أن الذي نراه تعليلاً مستقيماً لكون معجزات السيد المسيح عليه السلام جاءت على ذلك النحو هو مناسبة ذلك النوع لأهل زمانه، لا لأنهم أطباء، فناسبهم لن يكون المعجزة مما يتصل بالشفاء والأدواء، بل لأن أهل زمانه كان قد سادهم إنكار الروح في أقوال بعضهم، وأفعال جميعهم، فجاء عليه السلام بمعجزة هي في ذاتها أمر خارق للعادة،

تلقي اليهود لدعوته:

مصدق لما يأتي به الرسول وهي في الوقت ذاته إعلان صادق للروح، وبرهان قاطع على وجودها، فهذا طين مصور على شكل طير، ثم ينفخ فيه فيكون حياً، ما ذاك إلا لأن شيئاً غير الجسم وبيس من جنسه فاض عليه، فكانت معه الحياة، وهذا ميت قد أكله البلى، وأخذت أشلاؤه في التحلل، وأوشكت أن تصر رميماً، أو صارت, يناديه المسيح عليه السلام، فإذا هو حي يجيب نداء من ناداه، وما ذاك إلا لأن روحاً غير الجسم الذي غيره البلى حلت فيه بذلك النداء، ففاضت عليه الحياة، وهكذا. فكانت معجزة عيسى عليه السلام من جنس دعايته، وتناسب أخص رسالته، وهو الدعوة إلى تربية الروح، والإيمان بالبعث والنشور، وأن هناك حياة أخرى يجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، إن خبرا فخبر، وإن شرا فشر. وهل ترى أن معجزة إحياء الموتى تسمح لمنكر الآخرة بالاستمرار في إنكاره أو تسمح لجاحد البعث والنشور أن يستمر في جحوده. وقد أسلفنا لك القول أن اليهود كان يسود تفكيرهم عدم الاعتراف بوجود الآخرة. وعدم الإيمان باليوم الآخر. إن لم يكن بالقول فبالعمل. فكان إحياء الموتى صوتاً قوياً يحملهم على الإيمان حملاً. ولكنهم كانوا بآيات الله يجحدون. تلقي اليهود لدعوته: 13- بعث عيسى عليه السلام بتلك البينات، وأيد رسالته بتلك المعجزات وإنها باهرة تخرس الألسنة، وتقطع الطريق على منكري رسالته. لو كان الدليل وحده هو الذي يهدي النفوس الضالة، والقلوب الشاردة، ولكن القوم الذين بعث فيهم كانوا غلاظ الرقاب، قساة القلوب فكانت مهمته شاقة، إذ حاول هدايتهم، لأن منهم من علم الديانة رسوماً وتقاليد يتجهون إلى الأشكال والمظاهر منها. دون الاتجاه إلى لبها وغايتها. حتى لقد كان منهم من يحجم عن عمل الخير في يوم السبت زاعماً إنه داخل في عموم النهي عن العمل فيه، فإذا جاء المسيح داعياً إلى أن ينظروا إلى إصلاح القلب، يدل الأخذ بالمظاهر والأشكال فإنه لا شك يصدم هؤلاء فيما يألفون وفيما وجدوا سابقيهم. واليهود قوم عكفوا على المادة، واستغرقتهم، واستولت على أهوائهم ومشاعرهم حتى لقد كان نساكهم وسدنة الهياكل عندهم، وقد

مناوأة اليهود له:

فاتهم العمل على كسب المال من أبوابه الدنيوية - يجمعون المال من نذور الهياكل. والقرابين التي يتقرب بها الناس. ويحرصون على ذلك أشد الحرص. فكانوا يأخذون القرابين من أشد الناس حاجة وأفقرهم. فجاء المسيح وندد بهذا. ولقد أتخذ بنو إسرائيل من تدينهم المزعوم بدين موسى والأنبياء من بعده - وزعمهم أن لهم منزلة دينية لا يساميهم فيها أحد - اتخذوا من هذا ما يصح أن يسمى أرستقراطية دينية؟ فزعموا أن لهم المكانة السامية. ولغيرهم المنزل الدون، ولو اعتنقوا الديانة اليهودية، وآمنوا برسالة موسى. فكانت هناك طائفة يقال لها السامرة، وكان الإسرائيليون يعاملون آحادها، كأنهم المنبوذون. فلما جاء عيسى عليه السلام. وسوى بين بني البشر في دعايته أنكروا عليه ذلك وناصبوه العداء. ولقد كانوا يجعلون لأحبارهم وعلماء الدين فيهم المنزلة السامية والمكانة العالية دون الناس. فجاء المسيح وجعل الناس جميعاً سواء أمام ملكوت الله. مناوأة اليهود له: 14- لكل هذا تقدم اليهود لمناوأة المسيح. وقليل منهم من اعتنق دينه وآمن به. وأخذوا يعملون على منع الناس من سماع دعايته. فلما أعيتهم الحيلة. ورأوا أن الضعاف والفقراء يجيبون نداءه، ويلتفون حوله مقتنعين بقوله - أخذوا يكيدون له. ويوسوسون للحكام بشأنه، ويحرضون الرومان عليه، ولكن الرومان ما كانوا يلتفتون إلى المسائل الدينية. والخلافات المذهبية بين اليهود، بل تركوا هذه الأمور لهم يسوونها فيما بينهم، واليهود يريدون أن يغروا الرومان بعيسى كيفما كان الثمن. فبثوا حوله العيون يرصدونه، ويتسقطون قوله بشأن الحكومة والحكام. عساهم يجدون كلمة له يتعلقون بها وينقلون بها للحاكم الروماني، فلم يجدوا لأن المسيح ما كان يدعو إلا إلى إصلاح الجانب النفسي الخلقي ولم يكن قد اتجه إلى إصلاح الحكومة بعد. ولما ضاقت بهم الحيلة كذبوا عليه، وانتهى الأمر إلى أن تمكنوا من حمل الحاكم الروماني على أن يصدر الأمر بالقبض عليه، والحكم عليه بالإعدام صلباً.

نهاية المسيح في الدنيا:

نهاية المسيح في الدنيا: 15- وهنا نجد القرآن الكريم يقرر أن الله لم يمكنهم من رقبته، بل نجاه الله من أيديهم: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} ، وبعض الآثار تقول أن الله ألقى شبهه على يهوذا، ويهوذا هنا هو يهوذا الاسخريوطي الذي تقول الأناجيل عنه إنه هو الذي دس عليه، ليرشد القابضين إليه، إذ كانوا لا يعرفونه، وقد كان أحد تلاميذه المختارين في زعمهم. ولقد وافق هذا إنجيل برنابا موافقة تامة، ففيه: "ولما دنت الجنود مع يهوذا من المحل الذي كان فيه يسوع - سمع يسوع دنو جم غفير، فلذلك انسحب إلى البيت خائفاً، وكان الأحد عشر نياما، فلما رأى الله الخطر على عبده أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأذريل سفراءه أن يأخذوا يسوع من العالم فجاء الملائكة الأطهار، وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب، فحملوه ووضعوه في السماء الثالثة في صحبة الملائكة التي تسبح الله إلى الأبد ... ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع، وكان التلاميذ نياما، فأتى الله العجيب بأمر عجيب، فتغير يهوذا في النطق وفي الوجه، فصار شبيهاً بيسوع حتى أننا اعتقدنا أنه يسوع، أما هو فبعد أن استيقظ أخذ يفتش لينظر أين المعلم، لذلك تعجبنا، وأجبنا أنت يا سيدي معلمنا، انسيتنا الآن ... إلخ". والأناجيل المعتبرة عند المسيحيين لم تختلف في شيء كاختلافهم في قصة الصلب، فلكل رواية بشأنها. المسيح بعد نجاته: 16- لم يصلب المسيح بنص القرآن، ولكن شبه على القوم، لقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} وقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وإذا كان المسيح عليه السلام لم يصلب، فما هي حاله بعد ذلك؟ اختلف في هذا الشأن مفسرو القرآن، عجلهم على أن الله سبحانه وتعالى رفعه بجسمه وروحه إليه، وأخذوا

موازنة بين المسيح في القرآن الكريم والمسيح في المسيحية الحاضرة:

بظاهر قوله تعالى في مقابل القتل، بل رفعه الله إليه، وببعض آثار قد وردت في ذلك، وفريق آخر من المفسرين، وهم الأقل عدداً، قالوا: إنه عاش حتى توفاه الله تعالى كما يتوفى أنبياءه، ورفع روحه إليه كما ترفع أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء، وأخذوا في ذلك بظاهر قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ومن ظاهر قوله تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ولكل من المختلفين وجهة هو موليها، ولا نريد أن ندخل في تفصيل حجج الفريقين وترجيح أحداهما على الأخرى، فلذلك موضع ليس هذا مقامه. 17- ويزعم بعض الناس أن المسيح عليه السلام قد هاجر إلى الهند، وإنه عاش فيها. حتى استوفى أجله، ومات هناك، وله قبر، ولقد جاء في تفسير المنار ما نصه: "وجد في بلدة سرى نكرا مقبرة فيها مقام عظيم يقال إنه مقام نبي جاء بلاد كثير من زهاء ألف وتسعمائة سنة، ويسمى يوز آسف ويقال أن اسمه الأصلي عيسى، وإنه نبي من بني إسرائيل، وإنه ابن ملك، وأن هذه الأقوال مما يتناقله أهل تلك الديار عن سلفهم، وتذكر في كتبهم، وإن دعاة النصرانية الذين رأوا ذلك المكان لم يسعهم إلا أن قالوا أن ذلك القبر لأحد تلاميذ المسيح أو رسله" هذا ما جاء في تفسير المنار، وقد ذكر أن نقله عن غلام أحمد القديانى الهندي، وهو راو يشك في صدقه. هذا. وإن القرآن الكريم لم يبين ماذا كان من عيسى بين صلب الشبيه ووفاة عيسى أو رفعه على الخلاف في ذلك، ولا إلى أين ذهب، وليس عندنا مصدر صحيح يعتمد عليه، فلنترك المسألة: ونكتفي باعتقادنا اعتقادا جازماً أن المسيح لم يصلب، ولكن شبه لهم. موازنة بين المسيح في القرآن الكريم والمسيح في المسيحية الحاضرة: 18- {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وتلك ديانته كما جاء بها، ودعا إليها، فما الذي عرض لها من بعده، وما الذي أدخل عليها بعد أن رفع إلى ربه؟ ... أول ما أدخل على هذه الديانة

هو ما يتعلق بشخص المسيح عليه السلام، ولنسارع في بيان اعتقادهم في المسيح بإيجاز، ثم بعد ذلك نبين الأدوار التاريخية التي مرت بتاريخ المسيحيين. ومحاولين ما استطعنا أن نبين مصادر هذه الاعتقادات التي تتعلق بالمسيح، ثم بقوانينهم الكنسية. يعتقد المسيحيون أن الله سبحانه وتعالى أوصى آدم بألا يأكل من الشجرة، فأكل منها بإغواء إبليس، فاستحق هو وذريته العذاب، ولكن الله سبحانه وتعالى رحمة منه بعبادة جسد كلمته، وهي ابنه الأزلي تجسداً ظاهراً، ورضي بموته على الصليب، وهو غير مستحق لذلك، لكي يكون ذلك فداء الخطيئة الأولى، ولم يكن في استطاعة أحد أن يقوم بذلك الفداء سوى ابن الله وابن الإنسان معاً، وكان ذلك الابن، وهذا الفداء هو المسيح عيسى ولد مريم العذراء. أرسل الله إليها ملاكه جبريل، وبشرها بأن المسيح مخلص الدنيا يولد منها، وإن الروح القدس يحل فيها، فتلد الكلمة الأزلية، وتصر والدة الإله. وقد ولد ببيت لحم، إذ كان قد ذهب إليها يوسف النجار خطيب مريم الذي لم يتركها بعد أن حملت: لرؤيا رآها في منامه تمنعه من ذلك، لأن بيت لحم بلده، فذهب إليها ومعه مريم ليقيد اسمه في الإحصاء العام الذي أمر به الرومان. ولد المسيح في خان قد نزل فيه يوسف ومريم، ولفقرهما لم يجدا مأوى لهما في الخان سوى مكان الدواب. ولقد قمطته وأضجعته في مذود البقر. وفي ليلة ميلاده ظهر ملاك لجماعة من الرعاة كانوا يحرسون قطعانهم فيلا الحقول المجاورة لبيت لحم، فرأوا بفتة جمهورا من الملائكة مسبحين قائلين "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة" فترك الرعاة القطعان، وذهبوا إلى المكان الذي دلهم عليه الملائكة، فرأوا الطفل في المذود،.... وهو يمجدون الله، ويسبحونه على كل ما سمعوه ورأوا، كما قيل لهم. وقد ختن المسيح لما مرت ثمانية أيام من وقت ولادته، وسمى يسوع. أي المخلص في زعمهم كما سكاه الملاك عند التبشير به.

ولقد حدث بعد ولادته بأيام أن وفد إلى أورشليم جماعة من حكماء المجوس وعلمائهم، قالوا إنه لاح لهم في السماء نجم عرفوا من مرآه بما أوتوا من علمهم وما عندهم من آثار ونبوات إنه نجم مولود جديد هو ملك اليهود المنبأ به فعزموا على الرحيل إليه، ليسجدوا له، وحملوا معهم هدايا من الذهب واللبان والمر. وكانوا في مسيرهم يسيرون والنجم الذي رأوه يهديهم إلى الطريق هم ومن معهم من خدم، حتى جاءوا إلى المدينة، وسألوا عن مكان الملك المولود، فلما علم هيرودس ملك اليهود بأمرهم دعاهم إليه، واستطلع طلعهم، وتعرف أمرهم فقصوا عليه قصصهم وما ابتعثهم إلى الضرب في الأرض. والمجيء إلى أورشليم، فسرى إلى نفسه الخوف على ملكه من هذا الوليد، ثم دعا إليه كهنة اليهود وكتبتهم، وسألهم أين يولد المسيح، فقالوا: في بيت لحم اليهودية حسب النبوءات قتال المجوس. اذهبوا إلى بيت لحم، ومتى وجدتم الصبي فأخبروني لأسجد له، قال ذلك، وأخفى في نفسه أمراً لم يبده، فذهبوا والنجم يتقدمهم، ووجدوا الصبي يسوع وأمه، فسجدوا له، وقدموا هداياهم، وفي هذا الوقت ظهر ملاك الرب في الحلم ليوسف، وقال له قم وخذ الصبي وأمه، وأهرب إلى مصر، لأن هيرودس يطلب الصبي ليقتله، ففعل كما أمر، وخرجت الأسرة المقدسة إلى مصر وسافر المجوس إلى بلادهم من غير أن يعرجوا على هيرودس لأنهم نهوا عن العودة إليه بوحي أوحى إليهم في حلم، فأخذه الغيظ، واندفع فأمر بقتل جميع أطفال بيت لحم والبلاد التي تجاوره ممن لا يتجاوز سنة سنتين. زاعماً أن يسوع لابد أن يكون أحدهم. رحلت الأسرة المقدسة إلى مصر ونزلوا حيث يوجد الدير المحرق، كما يعتقدون، وبعد أن قاموا بضعة أشهر واعتزموا الرحيل، لأن ملك الرب ظهر ليوسف في الحلم، وقال له: قم وخذ الصبي وأمه وعد إلى اليهودية، لأن هيرودوس الذي كان يطلب نفس الصبي قد مات، فقاموا واتجهوا إلى فلسطين، ومروا في طريقهم بالمطرية، واستظلوا بشجرة هناك تسمى شجرة العذراء. وفي بعض الآثار إنه لما دخلت مريم وابنها يوسف أرض مصر، انكفأت أصنامها وتحطمت، وكان ذلك إتماماً لنبوة أشعياء القائلة، "هو ذا الرب راكب على سحابة وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها" سفر أشعياء - 19: 1.

ولما عادوا إلى فلسطين أقاموا في الناصرة. ولما بلغ يسوع الثلاثين من عمره عمد في نهر الأردن، عمده يوحنا المعمدان، ثم صام أربعين يوماً، ولما شرع في التبشير ظهر له الشيطان يجربه. وقال له: أعطيك هذه الدنيا إن خررت وسجدت لي: فأجابه يسوع وقال: أذهب يا شيطان. ثم تركه إبليس. وإذا ملائكة قد جاءت وصارت تخدمه، وبعد هذه التجربة صار في طريق التبشير. فلازمه حواريوه الاثنا عشر، واختار معهم سبعين أرسلهم مثنى مثنى إلى قرى اليهود والجليل للتبشير. ثم أقام ثلاث سنوات يبشر، ويأتي بالمعجزات المثبتة لألوهيته في زعمهم، يشفى المريض ويفتح أعين العميان، ويخرج الأرواح النجسة ... وينهر الرياح إذا ثارت، والبحر إذا اصطخب بالأذى، وقذف بالزبد، فيهدآن. ولما رأى اليهود أن الأمر يكاد يفلت من أيديهم تشاوروا لكي يصطادوه، وتآمروا عليه، وشكوه ظلماً، وكذبوا عليه، ثم أمسكوا به وأسلموه إلى بيلاطس حاكم فلسطين من قبل الرومان. فقضى عليه بالموت صلباً، فصلب في زعمهم ودفن. وبعد أن مكث في القبر ثلاثة أيام قام في الفصح، ومكث أربعين يوماً أرتفع بعدها إلى السماء أمام تلاميذه الذين عينهم لنشر ديانته، إذ قال لهم: "أذهبوا إلى العالم، وكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس".

المسيحية بعد المسيح

المسيحية بعد المسيح ما نزل بالمسيحيين من اضطهاد: 19- هذا هو المسيح كما جاء في كتبهم وتعاليمهم، ولا نريد أن نخوض في بيان خلافاتهم حوله، ولا بيان اختلافهم في تفسير هذه العقيدة، ولا في تفصيل مجملها قبل أن نبين ما نزل بالمسيحيين بعد المسيح، ولكنا سارعنا إلى بيان اعتقادهم الذي استقروا عليه في السميح ليوازن القارئ بين ما جاء في القرآن الكريم، وما جاء في أناجيلهم وتعاليمهم. ونعود بعد ذلك إلى ما يوجبه البحث العلمي، وهو تتبع العقيدة في نموها، وفي استقامتها أو انحرافها بعد صاحبها، وتمهيداًً لذلك نبين ما نزل بالمسيحيين بعده، لكي يستبين القارئ مقدار السند بين الديانة. وصاحبها مع هذه الأحداث، وليعرف الفلسفة التي عاصرت المسيحية ومقدار اتصالهما اتفقت المصادر شرقية وغربية، دينية وغير دينية: على أن المسيحيين نزل بهم بعد المسيح بلايا وكوارث، جعلتهم يستخفون بديانتهم، ويفرون بها أحياناً ويصمدون للمضطهدين مستشهدين أحياناً أخرى، وهم في كلتا الحالين لا شوكة لهم، ولا قوة تحميهم، وتحمي ديانتهم وكتبهم، وإنه في وسط هذه الاضطهادات يذكرون إنه دونت أناجيلهم الأربعة التي يؤمنون بها، ودونت رسائلهم!! وأول اضطهد نزل بالمسيحيين كان في عهد المسيح، وانتهى بالخاتمة التي بيناها، ولقد نزلت من بعده الشدائد بالمسيحيين بما يتفق مع هذا الابتداء. فلقد جاء قيصران بعد طيباروس الذي عاصر المسيح، كانا شديدين على تلاميذه، وقتلا منهم قتلا ذريعاً، وفي زمن ثانيهما دون متى إنجيله بالعبرية، وترجمه يوحنا صاحب الإنجيل إلى اليونانية، على رواية ابن البطريق كما سنتبين، ولم يكن الاضطهاد في عهد هذين القيصرين من الرومان فقط، بل كان من اليهود أيضاً، وإذا هم أمكن: وتنقيبهم عن

العقيدة أدخل. لأنهم من الشعب ومخالطوهم ومعاشروهم، فهم بداخلهم أعرف. وأشد ما نزل من أذى كان في عهد شيرون (سنة 64م) وتراجان سنة 106م وديسيون (249 - 251م) ودقلديانوس (سنة 280م) ، فنيرون هاج الشر عليهم، وأنزل البلاء والعذاب بهم. واتهمهم بأنهم الذين أحرقوا روما، فأخذهم بجريرتها. وكانت السنوات الأربع الأخيرة عذاباً أليماً لهم. فقد تفنن هو وأشياعه في هذا العذاب، حتى لقد كانوا يضعون بعضهم في جلود الحيوانات ويطرحونهم للكلاب فتنهشهم، وصلبوا بعضهم، وألبسوا بعضهم ثياباً مطلية بالقار، وجعلوها مشاعل يستضاء بها، وكان هو نفسه يسير في ضوء تلك المشاعل الإنسانية. وفي عصر نيرون هذا دون إنجيل مرقس سنة 61 على رواية، وكان بمصر وقد كتبه عنه بطرس وهو برومة وكتب أيضاً لوقا إنجيله في عهد هذا القيصر، وفي ابتداء هذا الإنجيل بنص على إنه يراسل به تاوفيلس، ليؤكد له صحة الكلام، وتاوفيلس هذا رجل من عظماء الروم وأشرافهم، وفي عصر هذا القيصر أو بعده دون يوحنا إنجيله. وفي عهد تراجان نزلت بهم آلم، لأنهم قد جرت عادتهم بالصلاة في الخفاء وهربا من الاضطهاد، وقد آمر تراجان بمنع الاجتماعات السرية، فأنزل بهم الذل والعذاب لذلك، ولأنهم مسيحيون لا يدينون بدين القيصر. جاء في كتاب تاريخ الحضارة "لقد كتب بلين - وكان والياً في آسيا - إلى الإمبراطور تراجان كتاباً يدل على الطريقة التي كان بها المسيحيون، قال" جريت مع من اتهموا بأنهم نصارى على الطريقة الآتية وهو إني اسألهم إذا كانوا مسيحيين فإذا أقروا أعيد عليهم السؤال ثانية وثالثاً مهدداً بالقتل، فإن أصروا أنفذت عقوبة الإعدام فيهم، مقتنعاً بأن غلطهم الشنيع، وعنادهم الشديد، يستحقان هذه العقوبة، وقد وجهت التهمة إلى كثيرين بكتب لم تذيل بأسماء أصحابها، فأنكروا إنهم نصارى، وكرروا الصلاة على الأرباب الذين ذكرت أسماءهم أمامهم، وقدموا الخمور والبخور لتمثال أتيت به عمداً مع تماثيل الأرباب، بل إنهم شتموا المسيح، ويقال إن من الصعب إكراه النصارى الحقيقيين، ومنهم من اعترفوا بأنهم نصارى،

ولكنهم كانوا يثبتون بأن جريمتهم في إنهم اجتمعوا في بعض الأيام قبل طلوع الشمس على عبادة المسيح على إنه رب، وعلى إنشاد الأناشيد إكراماً له، وتعاهدوا بينهم لا على ارتكاب جرم، بل على ألا يسرقوا، ولا يقتلوا، ولا يزنوا، وأن يوفوا بعهدهم، ورأيت من الضروري لمعرفة الحقيقة أن أ'ذب امرأتين ذكروا إنهما خادمتا الكنيسة، بيد إني لم أقف على شيء سوى خرافة سخيفة مبالغ فيها". وهذا الكتاب كاشف كل الكشف عما كان يحدث للنصارى في عهد ذلك القيصر من اضطهاد وتعذيب، وتنقيب عن القلب وخبيئة النفس. ولم ينقطع الاضطهاد بعد موت تراجان، بل استمر، وإن أخذت الرأفة بعض القياصرة، خلف من بعده خلف ينزلون عذاباً مرا يزيل أثر كل رحمة سابقة كانت نسبية حتى جاء ديسيوس فأنزل بهم من البلاء ما تقشعر من هوله الأبدان، ولنترك القلم لبطريرك الإسكندرية، يصف بعض ما عاين من ديسيوس بعد أن ذاق بعض الرحمة من سابقه، فهو يقول: "لم نكد نتنفس الصعداء، حتى حلق بنا الخوف، وحفنا الخطر، عندما بدل ذلك الملك الذي كان أرق جانباً، وأقل شراً من غيره، وجاء مكانه ملك آخر، ربما لا يجلس على كرسي المملكة حتى يوجه أنظاره نحونا فيعمل على اضطهادنا. وقد تحقق حدسنا، عندما أصدر أمراً شديد الوملاة، فعم الخوف الجميع، وفر بعضهم وقد أبعد كل مسيحي من خدمة الدولة، مهما يكن ذكاؤه، وكل مسيحي يرشد عنه يؤتى به على عجل ويقدم إلى هيكل الأوثان، ويطلب منه تقديم ذبيحة للصنم، وعقاب من يرفض تقديم الذبيحة أن يكون هو الذبيحة, بعد أن يجتهدوا في حمله بالترهيب.... ومن ضعاف الإيمان من أنكر مسيحيته, واقتدى به البعض، ومنهم تمسك بأذيال الفرار، أو من زج به في غيابات السجون". وهكذا يقص ذلك القسيس ما نزل بهم مما انتهى به الأمر إلى فراره هو، وقد كتب يعتذر عن ذلك إلى بعض من أبلوا بلاء حسناً، ولم يلوذوا بالفرار.

أثر الاضطهادات في الديانة:

ولم يكن البلاء مقصوراً على مصر، بل كان يتتبع المسيحيين في الدولة الرومانية حيثما ثقفوا، وأينما كانوا. ولي بعد ديسيوس من أوقع البلاء وأنزله بالمسيحيين، ولكن كان أشد هؤلاء وأبلغهم أذى وأنكأهم بطشاً - دقلديانوس الذي جاء إليهم، بعد أن خف العذاب عنهم قليلاً، وقد رجوا فيه خيراً، وأملوا منه أن يكون عوناً، لأن مدير خاصته مسيحي، ولكنه كان أشد من غيره على المسيحيين، وخصوصاً المصريين، وذلك لأن المصريين رأوا أمماً تحللت من حكم الرومان، وذكوا أغلاله، فاقتدوا بهم، ونزعوا إلى السير في طريق الحرية والاستقلال، وساروا فيه، وعقدوا الإمرة لواحد منهم، فجاء دقلديانوس إلى مصر، وأنزل بها البلاء، وأزال استقلالها، وأعاد فتحها، وكانت كثرتها في ذلك الإبان مسيحية، وقد أمر بهدم الكنائس، وإحراق الكتب، وأصدر أمراً بالقبض على الأساقفة والرعاة، وزجهم في غيابات السجن، وقهر المسيحيين وجملهم على إنكار دينهم، وقد استشهد في هذا الوقت عدد كبير من الأقباط تجاوزت عدتهم أربعين ومائة ألف، وعدهم بعض المؤرخين ثلاثمائة ألف، ولكثرة ما استشهد من شهداء وما نزل من بلاء كانت ولاية دقلديانوس حادثاً ذا خطر في شأن مصر فجعلوه مبدأ تقويمهم، وذلك في سنة 284 ميلادية. وقد استمر البلاء ينزل من قياصرة الروم حتى جاء عهد قسطنطين. يمنا وبركة على المسيحيين، لا على المسيحية كما سنبين. أثر الاضطهادات في الديانة: 20- هذه هي الاضطهادات التي قارنت المسيحية في نشأتها وفي تكوينها وليداً وفي تدرجها، وفي عصر تدوينها ورواية كتبها، وهي مع أسباب أخرى جعلت بعض العلماء يبحثون عن قيمة هذه الكتب، وجعلت بعض علماء المسيحيين أنفسهم يعتذرون عن بعض الاضطراب في الأناجيل بأنها دونت في عصور اضطهاد المسيحية الأولى، بل أن مناظريهم يقررون بأن تلك الاضطهادات كانت سبباً في عقد سندها المتصل بصاحب الشريعة. يقول الشيخ - رحمه الله - الهندي في كتابه إظهار الحق: "طلبنا مراراً من علمائهم التحول إلى السند المتصل فما قدروا عليه، وأعتذر بعض القسيسين

الفلسفة الرومانية والمسيحية:

في محفل المناظرة التي كانت بيني وبينهم، فقال: أن سبب فقدان السند عندنا وقوع المصائب والفتن على المسيحيين إلى مدة ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة، وتفحصنا كتب الإسناد لهم، فما رأينا فيها شيئاً غير الظن، يقولون بالظن، ويتمسكون ببعض القرائن. وقد قلت أن الظن في هذا الباب لا يغني شيئاً، فما داموا لم يأتوا بدليل شاف، وسند متصل فمجرد المنع يكفينا, وإيراد الدليل في ذمتهم لا في ذمتنا". وفي الحق أن تلك الاضطهادات جعلت كل عمل يقومون به في شئونهم الدينية - وخاصة ما كان متصلاً ببيان الشريعة يقومون به سراً لا جهراً، وفي خفية من العيون المتربصة، والأعداء المترقبين، والسرية يحدث في ظلمتها ما يجعل العقل غير مطمئن إلى ما يحكى عما يحدث فيها، فيتظنن في كل ما يروى عنها، ولا مانع من أن يدس على اجتماعاتها ما لم يجر فيها، وينقل عن أشخاصهم ما لم يقولوه، ويتسامع الجمهور أموراً ما حدثت في تلك الاجتماعات، ولا قالها حاضروها، فإذا جرى الشك والريب فيما دون من كتب المسيحية التي فقدت سندها بسبب هذا الاضطهاد، والتي كتبت في ظلمة السرية، يكون قد وقع حيث وجدت دواعيه، وقامت شواهده. الفلسفة الرومانية والمسيحية: 21- ولقد كان من المسيحيين من يفرون بدينهم، ومنهم من يظهر الوثنية ويبطن المسيحية، ومنهم من دخل النصرانية وفي رأسه تعاليم الوثنية لم تخلع منه ولم تزايله، وأن زايلها بعقله المدرك فعقله الباطن ما زال مستقراً لها ومكمناً تكمن فيه، وهؤلاء لا شك أثر تفكيرهم في المسيحية التي لم يكن لها قوة تحميها ولا شكيمة تعقل النفوس إلى حظيرتها. وإن التاريخ يروى لنا إنه في القرن الثاني، والثالث، والرابع الميلادي قد دخل الرومان والمصريون أفواجاً أفواجاً في المسيحية. فمن حق العلم أن نحكي ما مان يسيطر على هذه الأمم من أفكار، وما كان يسود تفكيرها من منازع عقلية ودينية، ولا نعتمد في ذلك إلا على ما أثبته تاريخ العلم والفلسفة، وما أجمع عليه المؤرخون. يحكى التاريخ أن مدينة الرومان لم تكن متناسقة تناسقاً اجتماعياً، فلم يكن توزيع الثروة فيها توزيعاً يتحقق معه العدل الاجتماعي، فبينما

ترى ترفا ورخاء لمن أفاءت عليهم الدولة بالغئ والغنائم والأسلاب من الفتوح الرومانية، ترى ألوف الألوف من الناس قد حرموا مل يتبلغون به في حياتهم، فاستولى عليهم الإحساس بالظلم، والسخط على الحياة، والتململ بها، والناس لا يشقون لآلامهم وحرمانهم بمقدار ما يشقون لسعادة غيرهم التي امتنعت عليهم، وكذلك كانت آلام سواد الرومان، ولولا الإيمان بحياة مستقبلية، يستمتعون فيها بما حرموا منه في هذه الحياة، لضاقت الصدور بما يجلجل في القلوب، ولانفجرت في ثورة اجتماعية، لكن توجت هذه النفوس إلى الإيمان بعالم علوي، وأعترف الإنسان بعجزه التام عن معرفة نفسه وإسعادها، إذا اعتمد على تفكيره فقط، لذلك رجعوا إلى الدين. وفي هذا الوقت أراد الفلاسفة أن يحلوا فلسفتهم محل الأديان، إذ أخذت التماثيل والأوثان تفقد قوة تأثيرها، ولم يعد لها سلطان في تصريف سلوك الإنسان، وفقدت معابدها ما كان لها من روعة وقوة، فاعتور النفس الرومانية حينئذ عاملان، كلاهما فيه قوة وبأس، فشعورهم بالبأساء والآلام يجعلهم في حاجة إلى عزاء من الدين، وسلوى باليوم الآخر، وملاذ إلى حياة روحية، والفلسفة - بما لها من سلطان العقل - لما وجدت الأوثان تسقط قيمتها أرادت أن تحل محلها، حينئذ التحمت الفلسفة بالشعور الديني، أو التقت الفلسفة والدين، ولم يكن التقاؤهما عداوة وخصاماً، بل كان محبة وسلاماً، فكانت تلك الحال داعية اتصال بينهما، لا داعية افتراق. قال غندليند في ذلك: "أن الفلسفة استخدمت نظريات علوم اليونان لتهذيب الآراء الدينية، وترتيبها ولتقدم الشعور الديني اللجوج فكرة في العالم تقنعه. فأوجدت نظماً دينية من قبيل ما وراء المادة تتفق مع الأديان المتضادة اتفاقاً يختلف قلة وكثرة". هذه كلمة ذلك الفيلسوف نقلها عنه صاحب كتاب المبادئ الفلسفية، فما هذه الأديان المتضادة التي ألفت بينها الفلسفة، وجعلت من نغماتها المختلفة نغمة واحدة مؤتلفة؟

الأفلاطونية الحديثة وأثرها في النصرانية:

إن التاريخ يقص علينا أن الأديان التي كانت في بلاد الرومان ناشئة: الوثنية الرومانية، واليهودية، والمسيحية الناشئة، فهل علمت الفلسفة على إيجاد ديانة تجمع بين المسيحية واليهودية، وفيها وثنية؟ وهل المسيحية التي تؤمن بالتوراة التي عند اليهود على اختلاف هين، ويؤمن بالتثليث وألوهية المسيح وتقديس الصليب، هي النظام الديني الجامع بين الأديان الثلاثة!! لنترك ذلك الآن. وقد وضعنا أمام القارئ المصباح الذي يرى به الطريق. الأفلاطونية الحديثة وأثرها في النصرانية: 22- ولنتجاوز رومة الرومان ولنعبر للبحر الأبيض، وليمم شواطئه الجنوبية، فهناك تجد مدينة الإسكندرية ومدرستها، وفلسفتها التي كانت تشع على العلم كله بنور العلم، وقد آوى إليها فلاسفة اليونان، وتابعوا الفلسفة اليونانية، والتي تراها تتجه اتجاهاً واضحاً إلى النواحي الدينية، والبحث في منشئ الكون. كان شيخ هذه المدرسة امنيوس المتوفى سنة 242، اعتنق في صدر حياته الديانة المسيحية. ثم ارتد عنها إلى وثنية اليونان الأقدمين، وجاء من بعده تلميذه أفلوطين المتوفى سنة 270 وقد تعلم في مدرية الإسكندرية أولاً، ثم رحل إلى فارس والهند، وهناك استقى ينابيع الصوفية الهندية, وأطلع على تعاليم بوذا وديانته، وبراهمة الهند وديانتهم. وعرف آراء البوذيين في بوذا، والبراهمة في كرشنة، وقد عاد بعد ذلك إلى الإسكندرية، وأخذ يلقي بآرائه على تلاميذه، وجلها يتجه إلى تعرف ما وراء الطبيعة، ومنشئ الكون. ويلخص اعتقاده في منشئ الكون في ثلاث أمور: (أولها) أن الكون قد صدر عن منشئ أزلي دائم لا تدركه الأبصار، ولا تحده الأفكار، ولا تصل إلى معرفة كنهه الإفهام. (ثانيها) أن جميع الأرواح شعب لروح واحد وتتصل بالمنشئ الأول بواسطة العقل. (ثالثها) أن العالم في تدبيره وتكوينه خاضع لهذه الثلاثة، وهو تحت سلطانها، فإنه منشئ الأشياء وهو مصدر كل شيء، وإليه معاده لا ينصف

بوصف من أوصاف الحوادث. فليس بجوهر ولا عرض، وليس فكراً كفكرنا ... ولا إرادة كإرادتنا ولا وصف له، إلا أنه واجب الوجود، يتصف بكل كمال يليق به، يفيض على كل الأشياء بنعمة الوجود، ولا يحتاج هو إلى موجود، وأول شيء صدر عن هذا المنشئ في نظر أفلوطين هو العقل المصدر عنه كأنه يتولد منه، ولهذا العقل قوة الإنتاج، ولكن ليس مكن تولد عنه، ومن العقل تنبثق الروح التي هي وحدة الأرواح، وعن هذا الثالوث يصدر كل شيء ومنه يتولد كل شيء. 23- هذه هي فلسفة المعاصرين لنشأة الديانة المسيحية عندما أريد تحويلها، وترى أن فلسفة الرومان ترمي إلى إيجاد ألفة بين الوثنية واليهودية ومسيحية المسيح عليه السلام، كما ترى أن فلسفة الإسكندرية ترجع العالم في تكوينه وتدبيره إلى ثلاثة عناصر أو إلى ثالوث مقدس هو المنشئ الأول، والعقل الذي تولد منه كما يتولد الولد من أبيه، والروح الذي يتصل بكل حي ومنه الحياة. فإذا عبرنا عن المنشئ الأول بالأب، وعن العقل المتولد عنه بالابن، وعن الروح بروح القدس، كما هو ثالوث النصارى الذي أخذ ببعضه مجمع نيقية، وبكله المجامع التي جاءت من بعده، لما خرجنا في التسمية عن الصواب، وما كان فيها أي تسامح، فذلك الثالوث في معناه هو ثالوث النصارى، وإذا لم يختلف المسمى، فلماذا يختلف الاسم؟. وهنا يرد على النفس سؤال: أيهما أستقر، وأيهما كان الينبوع؟ هل أخذت الأفلاطونية الحديثة من النصرانية، أم النصرانية الحاضرة هي التي أخذت عن الفلسفة؟ إن الجواب عن هذا يقتضي تعرف السابق منهما، فالسابق بلا ريب أستاذ اللاحق، والزمن هو الذي يحكم ويفصل، وسنجد فيما يلي من البحث أن مجمع نيقية هو الذي سار في تقرير هذا الثالوث، ووضع الأساس لمن بعده، أو بعبارة أدق قرر ألوهية الابن، وأن جوهره هو جوهر الأب، وقد جاء في قراره "أن الجامعة المقدسة، والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجوداً فيه، وإنه لم يوجد قبل أن يولد، وإنه وجد من لا شيء، أو من يقول أن الابن وجد

التثليث ليس من المسيحية بل من الفلسفة الإغريقية

من مادة أو جوهر غير جوهر الأب، وكل من يؤمن إنه خلق، أو من يقول إنه قابل للتغير" (1) . ------------ (1) اطلع زميلنا المرحوم الأستاذ الدكتور / محمد يوسف موسى الأستاذ بكلية أصول الدين سابقا على هذا الاستنباط التاريخي فقال: إنه يوافق ما استنبطه بعض المستشرقين، ثم ترجمه، وتفضل فأرسل إلينا نصَّ الترجمة وهاهي ذي، ننشرها مع بحثنا شاكرين له - رحمه الله - فضل تعاونه: التثليث ليس من المسيحية بل من الفلسفة الإغريقية 1- كانت المشكلة الفلسفية التي واجهت أولاً الإغريق هي: "ما مبدأ كل شيء؟ " "وباجتهاد الفلسفة في الإجابة عن هذا السؤال إجابة محدودة ومقنعة شيئاً فشيئاً كان لنا تلك المذاهب الفلسفية التي تتابعت في تاريخ الفلسفة الإغريقية. هذه فلسفة بدأت طبيعية مع الفلاسفة الأيونيين، ثم أخذت فكرة التوحيد في الظهور على أيدي سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، بحيث رأى هؤلاء أن المبدأ الذي صدر عنه العالم هو الله الواحد الذي لم يتغير، على غموض في تعيين هذه الصفات ونحوها مما يصح أن يتصف بها. ولكن بمقدار تبين هذه المعارف والمعلومات عن الله كانت تكبر الصعوبة الأساسية التي اصطدمت بها المذاهب التي سبق سقراط: كيف تصدر الأشياء عن مبدئها؟ كيف يمكن أن يخرج الكثير - أي العلم - من الواحد، والمتغير من الذي لا يتغير؟ وإنه كلما قرب المبدأ الأول من الوحدة الحق بصيرورته روحياً، ومن عدم التغير الحق بصيرورته كاملاً، تتسع الهوة التي نفصله عن العالم وكثرته وتصير أكبر عمقاً، كما يصبح عسيراً فهم كيف يبرز الله العالم للوجود ويحركه. 2- إذا كان الله واحداً وحدة مطلقة كيف يمكن أن يخلق الكثرة المختلفة دون أن يقبل في ذاته كثرة بأي وجه من الوجوه؟ وإذا كان كماله المطلق يقتضي عدم التغير، كيف تفهم إنه في وقت ما أوجد العالم دون أن يلحقه تغير، مع إنه أنتقل من حالة عدم العمل إلى حالة العمل؟ هما تظهر عبقرية العقل الآري! الواحد البريء من التغير لا يمكن أن يصدر عنه العالم المتكثر المتغير مباشرو، يجب إذن أن تتوسط بينهما وسائط أزلية متدرجة حسن نظام ميتافيزيقي. 3- كان أفلاطون أول من أدرك تلك المشكلة وأول من أدرك هذا الحل الذي وجب على العقل الإغريقي فيما بعد - بعد إنضاجه طويلاً - أن يجتمع نهائياً عليه، أعني عقيدة ثلاثة أقانيم أو عقيدة التثليث - ص 70 - 71. 4- هذا المذهب أو هذه العقيدة التي تمثلها عقل أفلاطون، وأن أدركها إدراكاً فيه نوع غموض، ليس إلا عقيدة التثليث المشهورة =

وهذا المجمع كان في سنة 325 بعد الميلاد، والمسيحيون قبله كانوا على اختلاف كبير جداً، ويكفي للدلالة على هذا الاختلاف أن الذين حضروا المجمع نيف وأربعون بعد الألفين، وهم على آراء مختلفة، ولم يجمع أعضاء هذا المجمع على نحلة واحدة، أما عقيدتهم في الابن وقولهم إنه تولد عن المنشئ من غير زمن بينهما كما يقول الفلاسفة، وإنه من جوهر أبيه، كما يقولون لم تسد إلا بعد ذلك المجمع، وسيأتي لذلك فضل بيان إن شاء الله تعالى، وعلى ذلك يكون تثليث المسيحية كحقيقة مقررة متأخرا عن أفلوطين لأن أفلوطين توفى سنة 270 بعد الميلاد كما علمت، والتثليث ------------ = ومن السهل إدراك الغرض منها: الاحتفاظ لله بالكمال المطلق والبراءة من التغير، جعله يضع بينه وبين العالم وسيطين يعتبران دونه خارجين عنه، وعلى نحو ما داخلين فيه، أي تتضمنهما ذاته - صادرين عنه، دون في الكمال، ويجعلانه ممكناً أن يصدر عن الله العالم الكبير المتغير، أو هذين الوسيطين العقل، وثانيهما الروح الإلهية - ص 73 - 74. 5- وهكذا كان التزاوج بين العقيدة اليهودية والفلسفة الإغريقية لم ينتج فلسفة فقط، بل أنتج معها ديناً أيضاًَ، أعني المسيحية التي تشربت كثيراً من الآراء والأفكار الفلسفية عن اليونان. ذلك أن اللاهوت المسيحي مقتبس من نفس المعين الذي كانت فيه الأفلاطونية الحديثة (بريد فلسفة أفلاطون التي كانت المعين الأصلي للفلسفة الأفلاطونية الحديثة) ولذا نجد بينهما (أي اللاهوت المسحي والأفلاطونية الحديثة) . مشابهات كبيرة، وإن افترقا أحياناً في بعض التفاصيل، فإنهما يرتكزان على عقيدة التثليث، والثلاثة الأقانيم واحدة فيهما - ص 93. 6- أول هذه الأقانيم هو مصدر كل كمال، والذي يحوي في وحدته كل الكمالات، وهو الذي دعاه المسيحيون الأب. والثاني أو الابن هو الكلمة. والثالث هو دائماً الروح القدس - ص 92 - 94. وعلى إنه يجب أن يلاحظ (وهذا بعض ما يفرق اللاهوت المسحي عن الأفلاطونية الحديثة) أن الأقانيم الثلاثة ليست في نظر هذا المذهب متساوية في الجوهر والرتبة. بينما هي متساوية عند المسيحية. فالابن الذي يتولد من الأب لا يمكن أن يكون أدنى منه كمالاً. وإلا صار من طبيعة الكامل أن يصدر اضطراب منه غير الكامل. وهذا حط من رتبته. وكذلك الروح القدس مساو للأب والابن - ص 49. كل هذه النقول من كتاب: "مقدمة (أو المدخل لدراسة) الفلسفة الإسلامية" تأليف المستشرق المعروف ليون جوتيه طبع باريس عام 1923.

لم يتكامل إلا في آخر القرن الرابع، والمتقدم أستاذ المتأخر كما يرجح العقل وكما يوجبه الظن الذي لا يعد من الإثم. ولقد ترى ذلك الظن عند بعض علماء أوربا، حتى شك بعضهم في حياة المسيح وقالوا إنه شخص خرافي لم يوجد، أراد بعض فلاسفة الأفلاطونية الحديثة أن يفرضوه، ليجعلوا من آرائهم ديانة يعتنقها العامة، وتسود الكافة، وقد تم لهم ما أرادوا، ولكنا نحن المسلمين لا تقر ذلك كله، لمل فيه من إنكار وجود المسيح الذي نؤمن به، ونزل بخبره الوحي الأمين وإن كنا نصدق لبه.

مصادر المسيحية بعد عيسى - عليه السلام -

مصادر المسيحية بعد عيسى - عليه السلام - 24- الكتاب المقدس لدى النصارى يشمل التوراة والأناجيل، ورسائل الرسل، وتسمى التوراة (أسفارها الموسوية وغيرها) كتب العهد القديم، وتسمى الأناجيل، ورسائل الرسل كتب العهد الجديد، فمن العهد القديم يعرفون أخبار العالم في عصوره الأولى، وأجياله القديمة، وشرائع اليهود الاجتماعية والدينية، وتاريخ نشأتهم، وحكوماتهم وحوادثهم، والنبوات السابقة منذ هبوط الإنسان على هذه الأرض، والبشارات بالنبيين اللاحقين، وبالمسيح، وفيها يجدون أدعية متوارثة تعين على أداء العبادات، والقيام بالطقوس الدينية كمزامير داود، ولنترك الكلام في التوراة وأسفارها فلذلك موضعه من الدراسة للديانة اليهودية، بيد إنه يجب أن يلاحظ أن بعض الأسفار المعتبرة عند اليهود مرفوضة عند المسيحيين، لعدم اعتقادهم بصحة الوحي فيها. الأناجيل: 25- أما كتب العهد الجديد فهي التي تعنينا في هذا البحث، ويهمنا أن نجلي أمرها، ونعرف حقيقتها، وأولها الأناجيل. والأناجيل المعتبرة عندهم أربعة: إنجيل متى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا. ومكان الأناجيل في النصرانية مكان القطب والعماد، وإذا كانت شخصية المسيح وما حاطوها به من أفكار هي شعار المسيحية، فإن هذه الأناجيل هي المشتملة على أخبار تلك الشخصية، من وقت الحمل إلى وقت صلبه في اعتقادهم وقيامته من قبره بعد ثلاث ليال، ثم رفعه بعد أربعين ليلة، وهي بهذا تشتمل على عقيدة ألوهية المسيح في زعمهم، والصلب والفداء، أي إنها تشتمل على لب المسيحية في نظرهم بعد المسيح ومعناها. وهذه الأناجيل الأربعة هي التي تعترف بها الكنائس، وتقرها الفرق المسيحية وتأخذ بها، ولكن التاريخ يروى لنا إنه كانت في العصور الغابرة أناجيل أخرى، قد أخذت بها فرق قديمة، وراجت عندها، ولم تعتنق كل فرقة إنجيلها، فعند كل من أصحاب مرقيون، وأصحاب ديسان

إنجيل يخالف بعضه هذه الأناجيل، ولأصحاب مانى إنجيل يخالف هذه الأربعة، وهو الصحيح في زعمهم، وهناك إنجيل يقال له إنجيل السبعين ينسب إلى تلامس، والنصارى ينكرونه، وهناك إنجيل أشتهر باسم التذكرة، وإنجيل سرن تهس، ولقد كثرت الأناجيل كثرة عظيمة، وأجمع على ذلك مؤرخو النصرانية، ثم أرادت الكنيسة في آخر القرن الثاني الميلادي، أو أوائل القرن الرابع أن تحافظ على الأناجيل الصادقة - في اعتقادها - فاحتارت هذه الأناجيل الأربعة من الأناجيل الرائجة إبان ذلك. ولقد يذكر بعض المؤرخين إنه لم توجد عبارة تشير إلى وجود أناجيل متى ومرقي ولوقا ويوحنا قبل آخر القرن الثالث. وأول من ذكر هذه الأناجيل الأربعة أرينيوس في سنة 209. ثم جاء من بعده كليمنس اسكندريانوس في سنة 216، وأظهر أن هذه الأناجيل الأربعة واجبة التسليم، ولم تكتف الكنيسة باختيار هذه الأناجيل الأربعة، بل أرادت الناس على قبولها لاعتقادها صحتها، ورفض غيرها، وتم لها ما أرادت فصارت هذه الأناجيل هي المعتبرة دون سواها. ولقد كنا نود ونحن ندرس المسيحية وأدوارها في التاريخ أن نعرف هذه الأناجيل التي أهملت، وما كانت تشتمل عليه. مما كان سبباً في رفضها، وحمل الناس على تركها، وخصوصاً أنها كانت رائجة. ويأخذ بها طوائف من المسيحيين ويتدينون هذه الديانة على مقتضاها، فإن الإطلاع عليها يمكننا من معرفة اعتقاد الناس في المسيح، وكيف كان، خصوصا بين أولئك الذين قاربوا عصره، وأدركوا زمانه، ولقوا تلاميذه، ونهلوا من مناهلهم، وإذ ضن التاريخ بحفظ نسخ منها، فقد كنا نود أن تطلعنا الكنيسة على ما اشتملت عليه مما يخالفها، وما كان من سبب رفضها، وترينا حجة الرفض، لتكون دليلاً مغيراً لها على إنها بهذا أقامت ديانة المسيح ولم تغيرها، ولكن ضن التاريخ علينا، فطوى تلك الأناجيل، وضنت الكنيسة فطوت تلك البيانات، فلم يبق لنا إلا أن نكتفي من الدراسة مما بين أيدينا، لعل فيه غناء إن أنعمنا النظر وأمعنا في الاستنباط وجعلنا لقضية العقل سلطاناً، ومن بدهياته برهاناً.

الأناجيل لم يملها المسيح ولم تنزل عليه:

الأناجيل لم يملها المسيح ولم تنزل عليه: 26- وهذه الأناجيل الأربعة لم يملها المسيح، ولم تنزل عليه هو بوحي أوحى إليه، ولكنها كتبت من بعده - كما رأيت - وتشتمل على أخبار يحيى (يوحنا المعمدان) والمسيح، وما كان منه، وما أحاط بولادته من عجائب وغرائب، وما كان يحدث منه من أمور خارقة للعادة، ولا تحدث من سواه من البشر، وما كان يحدث له من أحداث، وما كان يجرى بينه وبين اليهود، وما كان يلقيه من أقوال وخطب وأحاديث وأمثال ومواعظ، وفيها قليل من الشرائع التي تتعلق بالزواج والطلاق، ثم أخبار المؤامرة عليه، واتهامه والقبض عليه، ومحاكمته، سواء أكانت تلك المحاكمة أمام اليهود، ثم أمام الرومان، ثم فيها الحكم عليه بالموت صلباً، وصلبه بالفعل فيما يعتقدون، وفيها أيضاً قيامته من قبره، ومكوثه أربعين يوماً، ثم رفعه إلى السماء. وفي الجملة هي تشتمل على أخبار المسيح وصلواته. وأقواله وعجائبه، كم بدايته إلى نهايته في هذا العالم. وهذا - كما قلنا - لب المسيحية ومعناها، لأن فيها النواة الأولى لألوهية المسيح، وعقيدة النصارى فيه، ولنتكلم على كل إنجيل من هذه الأناجيل تبين تاريخ تدوينه، وتعرف بمؤلفه، ومكانته من المسيح. إنجيل متى: 27- وقد كتبه متى، وهو أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر، ويسميهم المسيحيون رسلاً، وقد كان قبل اتصاله بالمسيح من جباة الضرائب، وكانوا يسمون في ذلك العهد عشارين، ولقد كان جابيا للرومان في كفر ناحوم من أعمال الجليل بفلسطين، وكان اليهود ينظرون للجباية نظر ازدراء، لأنها تحمل صاحبها على الظلم، أو على الأثل تحمله على العنف، والعمل فيها معين للدولة الرومانية المغتصبة التي تحكم البلاد بغير رضا أهلها، ولكن السيد المسيح اختاره تلميذاً من تلاميذه كما جاء في إنجيله، ففي الإصحاح التاسع منه: "وفيما يسوع يجتاز من هناك رأى إنساناً جالساً عند مكان الجباية، واسمه متى، فقال له: اتبعني، فقام وتبعه، وبينما هو متكئ في البيت إذا عشارون وخطاة كثيرون قد جاءوا، واتكئوا مع يسوع وتلاميذه.

فلما نظر الفريسيون قالوا لتلاميذه: لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟ فلما سمع يسوع قال لهم: لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، بل المرضى، فاذهبوا وتعلموا ما هو، إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آت لأدعو أبراراً، بل خطاة إلى التوبة". ولما صعد المسيح إلى ربه جال متى للتبشير بالمسيحية في بلاد كثيرة. ومات في سنة 70 ببلاد الحبشة على أثر ضرب مبرح أنوله به أحد أعوان ملك الحبشة. وفي رواية أخرى إنه طعن برمح في سنة 62 بالحبشة بعد أن قضى بها نحو ثلاث وعشرين سنة داعياً للمسيحية مبشراً بها، فموطن دعايته كما يروي مؤرخو المسيحية هو الحبشة. إنجيل متى كتب بالعبرية ولن يعرف إلا باليونانية وجهل المترجم: 28- وقد اتفق جمهورهم على إنه كتب إنجيله بالعبرية أو السريانية، كما اتفقوا على أن أقدم نسخة عرفت شائعة رائجة كانت باليونانية، ولكن موضع الخلاف في تاريخ تدوينه، ومن الذي ترجمه إلى اليونانية، فمن المتفق عليه منذ أكثرهم أن متى كتب إنجيله بالعبرانية، وذلك لأنه كتبه لليهود ببشر بالمسيحية بينهم، وليقرأه مؤمنوهم بها، قال جيروم: "أن متى كتب الإنجيل باللسان العبري في أرض يهودية للمؤمنين من اليهود" وقال غيره " أن متى كتب الإنجيل باللسان العبري. وهو الذي أنفرد باستعمال هذا في تحرير العهد الجديد". وإذا انتقلنا إلى تاريخ تدوين هذا الإنجيل وترجمته نرى ميدان الخلاف فسيحاً، فنجد ابن البطريق يذكر إنه دون في عهد قلوذيوس قيصر الرومان من غير أن يعين السنة التي كتب فيها. ويذكر أن الذي ترجمه يوحنا، فيقول في ذلك: "في عصر قلوديوس كتب متاوس (متى) إنجيله بالعبرانية في بيت المقدس. وفسره من العبرانية إلى اليونانية يوحنا صاحب الإنجيل". وهنا نجده لم يعين السنة التي كتب فيها الإنجيل، بل عين الملك الذي كتب في عهده، وهذا الملك لم يكن هو الذي عاصر المسيح، ولا الذي يليه. بل الذي عاصر المسيح وصلب - على زعمهم - في عهده طيباريوس،

وولي من بعده غابيوس، وملك أربع سنين وثلاثة أشهر، ثم جاء من بعده قلوديوس وملك أربع عشرة سنة، فيحتمل تدوين هذا الإنجيل أن يكون في آخر العشرة الرابعة من ميلاد المسيح، ويحتمل أن يكون في أول أو آخر العشرة الخامسة أو أوائل السادسة. فكلام ابن البطريق يحتمل كل هذا، وقال جرجس زوين اللبناني فيما ترجمه عن الفرنسية، "أن متى كتب مشارته في أورشليم في سنة 39 للمسيح على ما ذهب إليه القديس أيونيموس، والسبب في ذلك على ما ذهب إليه القديس ابيفانيوس أنه كتبه إما إجابة لليهود الذين آمنوا بالمسيح، أو إجابة لأمر الرسل، ولم يكتب إنجيله باليونانية بل العبرانية على زعم اوسيبيوس في تاريخه، وقد وافق اسيبيوس القديس ايرنيموس، إذ أن بانتيوس قد ذهب ليكرز بالإيمان المسيحي في الهند، فوجد إنجيلاً لمتى الرسول مكتوباً بالعبرانية، فجاء به إلى الإسكندرية، وبقى محفوظاً في مكتبه قيصرية إلى أيامه، لكن هذه النسخة العبرانية قد فقدت، وبعد فقدها ظهرت ترجمتها في اليونانية" أهـ. وفي هذا يعين الكاتب تاريخ السنة الذي دون فيها الإنجيل، ولكن لا يعين المترجم. بل يذكر إنه غير معروف، بينما نرى ابن البطريق يعين إنه يوحنا صاحب الإنجيل المسمى باسمه. ويقول بالنسبة لتاريخ التدوين صاحب كتاب (مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين) : "أن متى بموجب اعتقاد جمهور المسيحيين كتب إنجيله قبل مرقس ولوقا ويوحنا، ومرقس ولوقا كتبا إنجيلهما قبل خراب أورشليم. ولكن لا يمكن الجزم في أية سنة كتب كل منهم بعد صعود المخلص، لأنه ليس عندنا نص إلهي على ذلك". وقال صاحب ذخيرة الألباب: "أن القديس متى كتب إنجيله في السنة 41 للمسيح باللغة المتعارفة يومئذ في فلسطين، وهي العبرانية أو السبروكلدانية ... ثم ما عتم هذا الإنجيل أن ترجم إلى اليونانية. ثم تغلب استعمال الترجمة على الأصل الذي لعبت به أيدي النساخ الأيونيين ومسخته بحيث أضحى ذلك الأصل خاملاً، بل فقيداً، وذلك منذ القرن الحادي عشر". وقال الدكتور بوست في قاموس الكتاب المقدس، مخالفاً جمهور المتقدمين في إنه بالعبرانية أو السربانية: "أن هناك من يقول إنه كتب

أثر جهل تاريخ التدوين والمترجم:

باليونانية، ثم يرجح إنه لف باليونانية مخالفاً بذلك إجماع مؤرخيهم. ثم يقول بالنسبة لتاريخ تدوينه: "ولا بد أن يكون هذا الإنجيل قد كتب قبل خراب أروشليم" ويظن البعض طأن الإنجيل الحالي كتب ما بيم سنة 60 وسنة 65". والحق أن باب الاختلاف في شأن التاريخ لا يمكن سده، ولا يمكن ترجيح رواية، ولا جعل تاريخ أولى من تاريخ بالإتباع، وذلك يقول هورن: "ألف الإنجيل الأول سنة 37 أو سنة 38 أو سنة 41 أو سنة 43 أو سنة 48 أو سنة 61 أو سنة 62 أو سنة 63 أو سنة 64 من الميلاد". ونقول نحن: "يجوز غير ذلك، والجمهور على إنه كتب بغير اليونانية، ولكن لم يعرف غيرها، ولم يعرف جمهرة المؤرخين من يكون المترجم، وفي أي عصر ترجم، وقد علمت أن ابن البطريق يذكر أن يوحنا هو الذي ترجمه إلى اليونانية، ولكن لا نجد أحدا من المؤرخين أيده، بل أن الكثيرين منهم يقولون: "إنه لم يعرف المترجم". أثر جهل تاريخ التدوين والمترجم: 29- لا شك أن جهل تاريخ التدوين، وجهل النسخة الأصلية التي كانت بالعبرية، وجهل المترجم وحاله من صلاح أو غيره، وعلم بالدين واللغتين التي ترجم عنها والتي ترجم إليها، كل هذا يؤدي إلى فقد حلقات في البحث العلمي، ولئن تسامح الباحث في تاريخ التدوين، وتاريخ الترجمة وملابساتها، ليمنعنه المسلم من الاسترسال في التسامح، حتى لا يرى أن السلسلة تكون كاملة إذا لم يعرف الأصل الذي ترجم، فلقد وددنا أن نعرف ذلك الأصل، لنعرف أكانت الترجمة طبق الأصل، أم فيها انحراف، ولنعرف أفهم المترجم مرامي العبارات ومعانيها، سواء أكانت هذه المعاني تفهم بظاهر القول أو بإشاراته، أم بلحن القول وتلويحاته، أم بروح المؤلف وغرضه، ومرماه الكلي من الكلام، ولكن عز علينا العلم بالأصل، ولقد كنا نتعزى عن ذلك لو عرفنا المترجم، وإنه ثبت ثقة أمين في النقل، عالم لا يتزيد على العلماء، ففيه في المسيحية حجة فيها، عارف للغتين فاهم لهما، مجيد في التعبير بهما، فعندئذ كنا نقول: ثقة روي عن ثقة بترجمته، ونسدد الخلة بتلك الرواية، ونرأب الثلمة بتلك النظرة، ولكن قد امتنع هذا أيضاً، فقال جمهرة علمائهم: أن المترجم لم يعرف، فبقيت الثلمة من غير ما يرأبها.

إنجيل مرقس:

إنجيل مرقس: 30- يقول المؤرخين أن اسمه يوحنا ويلقب بمرقس، ولم يكن من الحواريين الاثني عشر الذين تتلمذوا للمسيح، واختصهم بالزلفى إليه، وأصله من اليهود، وكانت أسرته بأورشليم في وقت ظهور السيد المسيح، وهو من أوائل الذين أجابوا دعوته، فاختاره من بين السبعين الذين نزل عليهم روح القدس في اعتقادهم من بعد رفعه، وألهموا بالتبشير بالمسيحية، كما ألهموا مبادئها. ويقول صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية: "وقد أجمعت تقاليد الطوائف المسيحية على أن الرب يسوع كان يتردد على بيته، وإنه في هذا البيت أكل النصح مع تلاميذه، وفي إحدى غرفه حل الروح القدس على التلاميذ". وجاء في سفر الأعمال: "أن الرسل بعد صعود السيد المسيح كانوا يجتمعون في بيته" ولقد لازم مرقس خاله برنابا (وهو من الرسل) وبولس الرسول في رحلتها إلى أنطاكية وتبشيرهما بالمسيحية فيها، ثم تركها بعد ذلك، وعاد إلى أورشليم، ثم التقى مرة أخرى بخاله، واصطحبه إلى قبرص، ثم افترقا، فذهب إلى شمال أفريقية ودخل مصر في منتصف القرن الأول، فأقام بها وأخذ يدعو إلى المسيحية التي كانت أخبارها قد سبقته إليها، وقد وجد في مصر أرضاً خصبة لقبول دعوته، فدخل فيها عدد كبير من المصريين، وكان يسافر من مصر أحياناً إلى رومة وأحياناً إلى شمال أفريقية، ولكن مصر كانت المستقر الأمين له، فأستمر بها إلى أن ائتمر به الوثنيون، فقتلوه بعد أن سجنوه وعذبوه، وكان ذلك سنة 62 من الميلاد، وقد جاء في كتاب مروج الأخبار في تراجم الأبرار أن مرقس كان ينكر ألوهية المسيح هو وأستاذه بطرس الحواري، وقد جاء في ذلك الكتاب عن مرقس: "صنف إنجيله بطلب من أهالي رومية، وكان ينكر ألوهية المسيح". اللغة التي كتب بها إنجيل مرقس وتاريخ تدوينه والاختلاف فيه وفي الكتاب: 31- وقد كتب هذا الإنجيل باللغة اليونانية، ولم نر أحداً من كتاب المسيحيين ناقض ذلك، وقد ذكر الدكتور بوست في كتابه (قاموس الكتاب المقدس) إنه كتب الإنجيل باليونانية، وشرح فيه بعض الكلمات اللاتينية وأخذ من ذلك إنه كتب في رومة. ويجئ مثله في تاريخ ابن البطريق،

إنجيل لوقا:

خفيه: "وعصر تارون قيصر كتب بطرس رئيس الحواريين إنجيل مرقس عن مرقس في مدينة رومية، ونسبه إلى مرقس". ونوجه نظر القارئ إلى ما قاله ابن البطريق من أن الذي كتب الإنجيل هو بطرس عن مرقس، ونسبه إليه، فكان بطرس راوي مرقس، مع أن الأول رئيس الحواريين - كما يقول ابن البطريق - والثاني من تلاميذه، كما جاء في كتاب مروج الأخبار في تراجم الأبرار. وإذا كان ذلك الإنجيل خلاصة علمه بالمسيحية، فإذا رواه عنه أستاذه، فقد روى هذا عن مرقس ما ألقاه عليه وعلمه، وإن ذلك لغريب، ولقج ذكر هذا الأمر صاحب مرشد الطالبين: "قد زعم إنجيل مرقس كتب بتدبير بطرس سنة 61 لنفع الأمم الذين كان ينصرهم بخدمته". وقد ذكر الأمر بلفظ الزعم، كأنه لا يصدقه، وإنه لا يراه مقبولاً، كما نراه غريباً، ولكن هكذا يذكر الرواة. وبجوار هؤلاء الذين يقولون أو يزعمون أن إنجيل مرقس كتب بتدبير من بطرس، وبولس، فقد قرر الكاتب أرينيوس: "أن مرقس كتب إنجيله بعد موت بطرس وبولس". وفي الحق أن ذلك الاختلاف، وإن كان زمنياً في ظاهره، هو في معناه ولبه، اختلاف في شخص المحرر لهذا الإنجيل. فابن البطريق، وهو من المؤرخين المسيحيين الشرقيين يقرر أن الذي كتبه هو بطرس عن مرقس، ونسبه إليه، وأرينيوس يقرر أن الذي كتبه هو مرقس من غير تدبير بطرس، لأنه كتبه بعد موته. فمن الكاتب إذن؟ ليس بين أيدينا ما ترجح به إحدى الروايتين على الأخرى!. ولنتجاوز هذا إلى تاريخ كتابة ذلك الإنجيل، فنجدهم أيضاً قد اختلفوا في زمان تأليفه. وقد قال في ذلك هورن: "ألف الإنجيل الثاني سنة 56 وما بعدها إلى سنة 65 والأغلب إنه ألف سنة 60 أو سنة 63"، ويقول صاحب كتاب المرشد الطالبين: إنه كتب سنة 61. إنجيل لوقا: 32- يقولون: إن لوقا ولد في أنطاكية، ودرس الطب، ونجح في ممارسته ولم يكن من أصل يهودي، ولقد رافق بولس في أسفاره وأعماله،

وجاء في رسائل بولس ما يشير إلى هذه الرفقة، وتلك الأزمة. ففي الإصحاح الرابع من رسالته إلى كولوسي يقول: "ويسلم عليكم لوقا الطبيب الحبيب"، وفي الإصحاح الرابع من رسالته الثانية إلى أهل تيموتاوس يقول: "لوقا وحده معي"، وفي رسالته إلى أهل فليمون يقول: "مرقس وارسترخس وديماس ولوقا العاملون معي". من هذا كله يفهم أن لوقا هذا هو الأنطاكي، الطبيب، ومثل هذا جاء في تاريخ ابن البطريق، ويستنبط القس إبراهيم سعيد من كون بوقا طبيباً معاني كثيرة تسمو بإنجيله، فيقول: "وكان لوقا طبيباً، وهذه المهنة لها قيمتها الخاصة لأنها تلقي على حياة لوقا نورا ساطعاً، فترينا إياه الرجل العلمي العملي المدقق المحقق، الرقيق الأسلوب، الجميل الديباجة، لأن الرومان لم يسمحوا في وقتهم لأحد أن يتعاطى مهنة الطب، إلا لمن جاز امتحانات عدة على جانب عظيم من الصعوبة والدقة والخطورة"، ثم يبين: "أن كونه طبيباً قد سرد ولادة المسيح من غير أب سرداً طبيعياً هادئاً من غير محاولة التدليل على جوازه، يؤخذ منه أن ذلك ليس ضد العلم، وإن كان فوق متناول العالم، وليس ضد الطبيعة، وإنه فوق مجرى الطبيعة". ويرجح - كما قال كثيرون - إنه ولد بأنطاكية، ولكن الدكتور بوست يقرر إنه لم يكن أنطاكيا، ويبين أن الذين يقولون إنه أنطاكي وعموا ذلك أو ظنوه من اشتباهه بلوكيوس، فيقول: ظن بعضهم إنه (لوقا) مولود في أنطاكية إلا أن ذلك ناتج من اشتباهه بلوكيوس. وزعم بوست إنه كان رومانيا نشأ بايطاليا. ومهنة الطب التي نسب إليها ليست أيضاً موضع اتفاق، لأن بين المؤرخين المسيحيين من يقرون إنه كان مصوراً. ومن هذا يتبين أن الباحثين ليسوا على علم يقيني بمولد وصناعة كاتب هذا الأنجيل، فمن قائل إنه انطاكي ولد بانطاكية، ومن قائل إنه روماني ولد بايطاليا، ومن قائل إنه كان طبيباً، ومن قائل إنه كان مصوراً، وكلهم يتفقون على إنه من تلاميذ بولس ورفقائه، ولم يكن من تلاميذ المسيح، ولا من تلاميذ حوارييه. ولبولس هذا شأن خطير في المسيحية كما سنبين. من كتب لهم إنجيل لوقا، ولغته، واختلافهم حوله: ويختلفون أيضاً في القوم الذين كتب لهم أولاً هذا الإنجيل. فالقس إبراهيم سعيد يقول: "إنه كتب لليونان، وإنجيل متى كتب لليهود. وإنجيل

إنجيل يوحنا:

مرقس يقول كتب للرومان، وإنجيل يوحنا كتب للكنيسة العامة". وإنا نجد إنجيل لوقا يبتدئ بهذه الجملة: "إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا. كما سامها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين، رأيت أيضاً، إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به". وثاوفيلس هذا يقول عنه ابن البطريق إنه من عظماء الروم، فيقول في ذلك: "وكتب لوقا إنجيله إلى رجل شريف من علماء الروم يقال له تاوفيلا. وكتب إليه أيضاً الأبركسيس الذي هو أخبار التلاميذ: وهي الرسالة المسماة أعمال السل، وهناك من يقول أن ثاوفيلس هذا كان مصرياً، لا يونانياً، فهو قد كتب للمصريين لا لليونانيين. ويقول الدكتور بوست في تاريخه: " قد كتب هذا الإنجيل قبل خراب أورشليم وقبل الأعمال، ويرجح إنه كتب في قيصرية في فلسطين مدة أمر بولس سنة 58 - 60 من الميلاد غير أن البعض يظنون إنه كتب قبل ذلك". ومن هذا يفهم أن بوست يرجح إنه ألفه وبولس حي في الأسر، ولكن يحقق العلامة لارون إنه حرر إنجيله بعد أن حرر مرقس إنجيله، وذلك بعد موت بطرس، وبولس. والواقع أن باب الخلاف في تاريخ تدوين هذه الإنجيل أوسع من ذلك، فقد قال هورن: ألف الإنجيل الثالث سنة 53 أو سنة 63 أو سنة 64. ولا نترك هذا الإنجيل من غير أن نقول أن الباحثين قد اختلفوا في شخصية كاتبه وفي صناعته، وفي القوم الذين كتب لهم، وفي تاريخ تأليفه، ولم يتفقوا إلا على إنه ليس نمت تلاميذ المسيح ولا تلاميذ تلاميذه. وإلا على إنه كتب باليونانية. إنجيل يوحنا: 33- لهذا الإنجيل خطر وشأن أكثر من غيره في نظر الباحث، لأنه الإنجيل الذي تضمنت فقراته ذكراً صريحاً لألوهية المسيح، فهذه الألوهية يعتبر هو نص إثباتها وركن الاستدلال فيها. ولذلك كان لابد من العناية به، إذا كان التثليث هو شعار المسيحية، وهو موضع مخالفتها لديانات التوحيد، وأساس التباين بين هذه الديانة وتلك الديانات.

ويقول جمهور النصارى: أن كاتب هذا الإنجيل هو يوحنا الحواري ابن زيدى الصياد الذي كان يحله السيد المسيح، حتى إنه استودعه والدته وهو فرق الصليب، كما يعتقدون، وقد نفى في أيام الاضطهاد الأولى، ثم عاد إلى أفسس، ولبث يبشر فيها، حتى توفى شيخاً هرما. هذه خلاصة ما جاء بكتاب مرشد الطالبين، ولكن بجوار هؤلاء من محققي المسيحيين من أنكر أن يكون كاتب هذا الإنجيل هو يوحنا الحواري، بل كتبه يوحنا آخر لا يمت إلى الأول بصلة روحية، وأن ذلك الإنكار لم يكن من ثمرات هذه الأجيال، بل ابتدأ في القرن الثاني الميلادي، فإن العلماء بالمسيحية في القرن الثاني الميلادي أنكروا نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري، وكان بين ظهرانيهم أرينيوس تلميذ بوليكارب تلميذ يوحنا الحواري، ولم يرد عليهم بأنه سمع من أستاذه صحة تلك النسبة، ولو كانت صحيحة لعلم بذلك حتماً تلميذه بوليكارب، ولأعلم هذا تلميذه ازينيوس، ولأعلن هذا تلك النسبة عندما شاع انكارها. ولقد قال استادلين في العصور المتأخرة: "إن كامنة إنجيل يوحنا تصنيف طالب من طلبة مدرسة الإسكندرية، ولقد كانت فرقة الوجين في القرن الثاني تنكر هذا الإنجيل وجميع ما أسند إلى يوحنا، ولقد جاء في دائرة المعارف البريطانية التي اشترك في تأليفها خمسمائة من علماء النصارى ما نصه: "أما إنجيل يوحنا فإنه لا مرية ولا شط كتاب مزور أراد صاحبه مضادة اثنين من الحواريين بعضهما لبعض. وهما القديسان يوحنا ومتى، وقد ادعى هذا الكاتب الممرور في متن الكتاب إنه هو الحواري الذي يحبه المسيح، فأخذت الكنيسة هذه الجملة على علاقتها، وجزمت بأن الكاتب هو يوحنا الحواري، ووضعت اسمه على الكتاب نصا، مع أن صاحبه غير يوحنا يقيناً، ولا يخرج هذا الكتاب عن كونه مثل بعض كتب التوراة التي لا رابطة بينها وبين من نسبت إليه، وإنا لنرأف ونشفق على الذين يبذلون منتهى جهدهم ليربطوا، ولو بأوهى رابطة، ذلك الرجل الفلسفي - الذي ألف هذا الكتاب فيلا الجيل الثاني - بالحواري يوحنا الصياد الجليل، فإن أعمالهم تضيع عليهم سدى لخبطهم على غير هدى". هذا قول بعض الباحثين من كتابهم: "ومن البدهي أن يعد المتعصبون ذلك القول خروجاً على وجه المسيحية، ولذلك قال أحد هؤلاء المتعصبين،

وهو الدكتور بوست زادا علة هؤلاء: وقد أنكر بعض الكفار قانونية هذا الإنجيل، لكراهتهم تعليمه الروحي، ولاسيما تصريحه الواضح بلاهوت المسيح، غير أن الشهادة بصحته كافيه، فإن بطرس يشير إلى آية منه (2 بط 1: 14 قال يو 21، 18، واغناطيوس وبوليكرس يقتطفان من روحه وفحواه. وكذلك الرسالة إلى ديو كنيتس وباسيلوس وجوستينس الشهيد وتانياس، وهذه الشواهد يرجع بنا زمانها إلى منتصف القرن الثاني، وبناء على هذه الشهادات، وعلى نفس كتابه الذي يوافق ما نعلمه من سيرة يوحنا نحكم بأنه من قلمه، وإلا فكاتبه من المكر والغش على جانب عظيم، وهذا الأمر يعسر تصديقه، لأن الذي يقصد أن يغش العالم لا يكون روحياً، ولا يتصل إلى علم وعمق الأفكار والصلات الموجود فيه، وإذا قابلناه بمؤلفات الآباء رأينا بينه وبينها بونا عظيماً، حتى نضطر للحكم بأنه لم يكن منهم من كان قادراً على تأليف كذا، بل لم يكن بين التلاميذ من يقدر عليه يوحنا إلا يوحنا، ويوحنا ذاته لا يستطيع تأليفه بدون إلهام من ربه". وإذا نظرنا إلى هذا القول نظرة فاحصة كاشفة نقسمه قسمين، قسم يعلن به الكاتب شدة إيمانه وتعصبه بما يشتمل عليه هذا الكتاب وتقديسه. وهو القسم الذي ذكره في عجز قوله، وهو إنه لا يستطيع احد من الآباء، بل لا يستطيعه أحد من الحواريين، بل لا يستطيعه الكاتب نفسه إلا بالهام من ربه، ويلحق بهذا الجزء ما سبقه مما يماثله، فإن من الخطأ لأن يعد ذلك برهنه واحتجاجاً، فإنه ليس فيه أية محاولة لها، أما القسم الثاني فهو مل يصح أن يعتبر محاولة للاستدلال وهو ما ذكر في صدر قوله، فإنه يقرر الاتفاق بين نص جاء فيه، ونص جاء في رسالة بطرس الثانية، فهو يقول: أن الفقرة الرابعة من الإصحاح الأول ونصها مع الفقرة التي قبلها: "13 - ولكني أحسبه حقاً ما دمت في هذا المسكن أن أنهضكم بالتذكرة - 14 - عالماً أن خلع مسكني قريب، كما أعلن ربنا يسوع المسيح أيضاً" موافقة للفقرة الثامنة عشرة من الإصحاح الحادي والعشرين من إنجيل يوحنا ونصها: "الحق الحق أقول لك لما كنت أكثر حداثة كنت تنطق ذلك، وتمشي حيث تشاء، ولكن متى شخت فإنك تمد يدك، وآخر بمنطقك، ويحملك حيث لا تشاء".

تاريخ تدوين هذا الإنجيل وسبب تدوينه:

ونحن لا نجد موافقة بين الفقرتين لا في اللفظ ولا في المعنى، واستولى علينا العجب من إدعاء الموافقة، ولا جامع بينهما، فظننا أن هناك خطأ فيما كتبه الدكتور بوست، وقلنا لعله يريد الرسالة الأولى لا الرسالة الثانية، فرجعنا إلى الفقرة الرابعة عشرة من الإصحاح الأول من الرسالة الأولى، فوجدنا نصها هي وما قبلها هكذا: "لذلك منقطوا أحقاء ذهنكم صاحين فألقوا رجامكم بالتمام على النعمة التي يؤتى بها إليكم عند استعلان يسوع المسيح كأولاد الطاعة، ولا تشاكلوا شهواتكم السابقة في جهالتكم". وهنا نجد بعضا من الموافقة في اللفظ، والموافق في المعنى، فرجحنا إنه أراد هذه الرسالة، وسبق قلمه فدون الثانية بدل الأول، وعلى ذلك نناقش القول على أساسها، وأساس المناقشة ما نعرفه من أن المتأخر إن وافق قوله من سبقه يكون قوله شهادة للسابق، ولا يكون قول السابق شهادة له، وأيهما اسبق تدوينا رسالة بطرس أو إنجيل يوحنا، وقد اتفق مؤرخو النصرانية على أن بطرس قتله نيرون، ويقول في ذلك ابن البطريق: "وأخذ نارون قيصر لبطرس فصلبه منكما وقتله، لأن بطرس قال له: إن أردت أن تصلبني منسكاً لئلا أتشبه بسيدي المسيح، فإنه صلب قائماً" ... وعاش بطرس بعد السيد المسيح اثنتين وثلاثين سنة، فكان بطرس قتل بعد ميلاد المسيح بنحو 65، لأن المسيح صلب في اعتقادهم" وله ثلاث وثلاثون سنة، يضاف إليها اثنتان وثلاثون سنة عاشها بعده بطرس. ومن المؤكد أن إنجيل يوحنا كتب بعد ذلك، فقد كتب سنة 95 أو سنة 98 على ما أعتمد الدكتور بوست، فإذا وجدنا اتفاقاً بين ما كتب في هذا الإنجيل، وما جاء في رسالة بطرس يجب أن يكون كاتب هذا الإنجيل شاهدا لبطرس، لا أن بطرس شاهد له، وشهادة إنجيل يوحنا لا قيمة لها، لأنها شهادة إنجيل في نظر من أنكروه مجهول غير معروف يحتاج إلى دليل، فلا حجة في هذا الأمر، وعلى ذلك يكون الأمر في غيره من الشهادات، وسنبين عند مناقشة كتبهم كثيراً من أوجه النقد فيها. تاريخ تدوين هذا الإنجيل وسبب تدوينه: 34- ولقد اختلف المسيحيون في تاريخ تدوين هذا الإنجيل اختلافاً بينا. فالدكتور بوست يرجح إنه كتب سنة 95 أو سنة 98 وقيل سنة 96، ويقول هرون في تاريخ تدوين ذلك الإنجيل: ألف الإنجيل الرابع سنة 68

ما يستنبط من سبب كتابته:

أو سنة 69 أو سنة 70 أو سنة 89 أو سنة 98 من الميلاد" إذن فليس هناك تاريخ محرر لتدوين هذا الإنجيل، كما إنه ليس هناك بيان قد خلص من الشك بحقيقة كاتبه، وقد علمت ما في ذلك. ولقد قالوا إنه كتب لغرض خاص. وهو أن بعض الناس قد سادت عندهم فكرة أن المسيح ليس إلهاً، وأن كثيرين من فرق الشرق كانت تقرر تلك الحقيقة، فطلب إلى يوحنا أن يكتب إنجيلاً يتضمن بيان هذه الأُلوهية، فكتب هذا الإنجيل، وقد قاله جرجس زوين اللبناني فيما ترجمه: "أن شيرينطوس وأبيسون وجماعتهما لما كانوا يعلمون المسيحية بأن المسيح ليس إلا إنساناً. وإنه لم يكن قبل أمه مريم فلذلك في سنة 96 اجتمع عموم أساقفة آسيا وغيرهم عند يوحنا والتمسوا منه أن يكتب عن المسيح، وينادى بإنجيل مما لم يكتبه الإنجيليون الآخرون، وأن يكتب بنوع خصوصي لاهوت المسيح" قال يوسف الدبس الخوري في مقدمة تفسيره: (من تحفة الجبل) أن يوحنا صنف إنجيله في آخر حياته بطلب من أساقفة كنائس آسيا وغيرها، والسبب إنه كانت هناك طوائف تنكر لاهوت المسيح، فطلبوا منه إثباته وذكر ما أهماه متى ومرقي، ولوقا في أناجيلهم، وقال صاحب مرشد الطالبين: إنه لا يوجد اتفاق بين العلماء بضبط السنة التي فيها كتب يوحنا إنجيله، فإن بعضهم يزعم إنه كتبه في سنة 65 قبل خراب أورشليم، وآخرون ممن يوجد فيهم بعض الأقدمين يرون بكتابته في سنة 98، وذلك بعد رجوعه من المنفى، فالقصد بكتابته إبقاء بعض مسامرات المسيح الضرورية ذات التروي مما لم يذكره باقي الإنجيليين. وأفناء لبعض هرطقات مفسدة، أشهرها معلمون كذبة في شأن ناسوت المسيح وموته، وخاصة ترسيخ النصارى الأوائل في الاعتقاد بحقانية لاهوت وناسوت ربهم وفاديهم ومخلصهم، وقد قيل أن يوحنا لم يؤلف إنجيله إلا بعد صلاة عامة قلبية مع التبعية لأجل أن يوحيه الروح القديس بذلك". ما يستنبط من سبب كتابته: 35- من هذه النقول يستفاد أن كتاب النصارى يجمعون أو يكادون على أن الإنجيل المنسوب إلى يوحنا كتب لإثبات أُلوهية المسيح التي اختلفوا وشأنها، لعدم وجود نص في الأناجيل الثلاثة يعينها، وهنا لا يسع القارئ لتلك النقول إلا أن يستنبط أمرين: (احدهما) صريح وهو أن الأناجيل

هذه الأناجيل لم تزل على عيسى عليه السلام:

الثلاثة الأولى ليس فيها ما يدل على أُلوهية المسيح، أو هي كانت كذلك قبل تدوين الإنجيل الرابع على الأقل، وهذه حقيقة يجب تسجيلها، وهي أن النصارى مكثت أناجيلهم نحو قرن من الزمان ليس فيها نص على أُلوهية المسيح، (وثانيهما) أن الأساقفة اعتنقوا أُلوهية المسيح قبل وجود الإنجيل الذي يدل عليها، ويصرح بها، ولما أرادوا أن يحتجوا على خصومهم، ويدفعوا هرطقتهم في زعمهم لم يجدوا مناصاً من أن يلتمسوا دليلاً ناطقاً يثبت ذلك، فاتجهوا إلى يوحنا، فكتب كما يقولون إنجيله الذي يشتمل على الحجة، وبرهان القضية، والبينة فيها على زعمهم، وهذا ينبئ عن أن الاعتقاد بألوهية المسيح سابق لوجود نص في الكتب عليه، وإلا ما اضطروا اضطراراً إلى إنجيل جديد طلبوه افتقدوه، فلما لم يجدوا طلبوا من يوحنا أن يكتبه. ولكن الواقع أن رسائل الرسل التي كتبت عن قولهم قبل هذا الإنجيل، فيها ما ينبئ عن أُلوهية المسيح، ويعلنها، فلم تكن فيها حجة لا تجعلهم في حاجة ماسة إلى إنجيل جديد، وفيها غناء من البيان يغنيهم عن سواه أم لعل تلك الرسائل المشتملة على هذه الأُلوهية كتبت بعد هذا الإنجيل ليؤيدوه بها، وليثبت ما أتى به، ويرسخ في نفوس المسيحيين، ثم نسبت إلى السابقين. هذا تنبيه مجمل اضطرنا سياق البحث لبيانه قبل أوانه، وفي غير مكانه، وله في البحث موضع، يغني فيه الإجمال عن التفصيل. هذه الأناجيل لم تزل على عيسى عليه السلام: 36- هذه هي الأناجيل التي ذكرناها كما كتب النصارى، لا كما يعتقد غيرهم، وسنلقي عليها نظرة علمية بعد الكلام في بقية الكتب، ولكن يجدر بنا هنا أن ننبه إلى أن هذه الأناجيل ليست نازلة على عيسى عليه السلام في نظرهم، وليست منسوبة له. ولكنها منسوبة لبعض تلاميذه، ومن ينتمي إليهم، وهي تشتمل على أخبار المسيح وقصصه، ومحاوراته، وخطبه وابتدائه ونهايته في الدنيا كما يعتقدون هم. إنجيل عيسى: ولكن هل هناك إنجيل غيرها يعد إنجيل عيسى؟ وهل في كتابات الباحثين من النصارى ما يدل على ثبوت هذا الإنجيل، وإن كنا لا نجده؟

نجد في هذه الأناجيل عبارات تذكر كلمة إنجيل أو بشارة (وهي ترجمة لكلمة إنجيل باليونانية) مضافة أحياناً إلى المسيح على إنه ابن الله، وأحياناً إلى الله، وأحياناً إلى ملكوت الله، فنرى مثلاً في إنجيل متى في الإصحاح الرابع منه ما نصه: "وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفى كل مرض، وكل ضعف في الشعب"، وبشارة الملكوت هي ترجمة كلمة إنجيل باليونانية، ونرى في إنجيل مرقس في الإصحاح الأول منه: "وبعد ما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله، ويقول: قد كمل الزمان، واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" وجاء في رسالة بولس إلى أهل رومية في الإصحاح الأول منها: "أولاً أشكر إلهي يسوع المسيح من جهة جميعكم، إن إيمانكم ينادي به في كل العالم، فإن الله الذي أعبده بروجي في إنجيل ابنه شاهد لي كيف بلا انقطاع أذكركم ... " ويجيء في رسالته الأولى إلى أهل كورنئوس في إصحاحها التاسع: "بصرت الضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء، صرت للكل كل شيء لأخلص على كل حال قوماً، وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل، لأكون شريكاً فيه" ففي هذا كله نجد كلمة إنجيل أو كلمة بشارة (وهي ترجمة كلمة إنجيل باليونانية) مضافة إلى ملكوت الله، كما في إنجيل متى ومرقس، وإنجيل الابن كما في رسالة بولس إلى أهل رومية، وكلمة الإنجيل من غير إضافة كما في إنجيل مرقس، ورسالة بولس إلى أهل كورنئوس الأولى، ولا شك أن الإنجيل المذكور في كل هذا ليس واحداً من هذه الأناجيل لأنها لا تضاف إلا إلى أصحابها باتفاق النصارى، ولأن المسيح قد وعظ بهذا الإنجيل، كما جاء في عبارة متى التي نقلناها، ولم يكن واحداً من هذه الأناجيل قد وجد في عهده بالاتفاق، وليس من المعقول أن يعظ بأقواله تلاميذه، وهم بعد لا يزالون في دور التعلم، ولأن هذا الإنجيل قد ذكر في هذه الأناجيل على إنه كان قائماً في عهد عيسى، ولأنه ذكر من غير نسبة كما في إنجيل مرقس ورسالة بولس الأولى إلى أهل كورنئوس، وليس واحد من هذه الأربعة تنصرف إليه كلمة إنجيل من غير نسبته إلى صاحبه، ولأنه ذكر في رسالة بولس إلى أهل رومية منسوباً إلى المسيح الابن، وليس واحد من هذه الأناجيل يستحق هذا الاسم. لهذا كله نقول: ليس هذا الإنجيل واحداً منها كما تقضى بذلك طبيعة السياق، وكما يقضى بذلك

أقوال علماء النصرانية في إنجيل عيسى:

العقل، وإذا كان الأمر كذلك، فهل لنا أن نفهم أن هناك إنجيلاً أصيلاً نزل على عيسى وكرز به على حد تعبيرهم ووعظ. ويعتبر الأصل لهذه الديانة؟ أقوال علماء النصرانية في إنجيل عيسى: ولقد يمهد لذلك الرأي، ويرشح له - أننا وجدنا من مؤرخي المسيحية الأحرار الذين لم يقيدهم في بحثهم إلا العلم والحقائق التاريخية من يصرحون بأنه كانت في القرن الأول رسالة تعتبر أصلاً لهذه الأناجيل فيما جاء به المسيح، وخلاصة أحواله، وهذا ترجمة ما قاله نارتن في كتاب له: "قال أكهارن في كتابه: إنه كان في ابتداء الملة المسيحية في بيان أحوال المسيح رسالة مختصرة يجوز أن يقال إنها هي الإنجيل الأصلي، والغالب أن هذا الإنجيل كان للمريدين الذين كانوا لم يسمعوا أقوال المسيح بآذانهم، ولم يروا أحواله بأعينهم. وكان هذا الإنجيل بمنزلة القلب، وما كانت الأحوال المسيحية مكتوبة فيه على الترتيب". إذن فهؤلاء الأحرار يقررون أنه كان هناك إنجيل يعد من المسيحية بمنزلة القلب، ولكنه غير موجود، فهل لنا أن نقول أن ذلك الإنجيل هو المشار إليه في أقوال متى، ومرقس، وبولس السابقة، وهو الذي نزل على عيسى، أهو إنجيله وإنجيل الله؟ ليت، وهل ينفع شيئاً ليت، ليت هذا الإنجيل كان قائماً، وحرصت الكنيسة على بقائه، وقامت بحياطته، ليكون فيصلاً بين المختلفين، وحكماً بين الفرق والمفترقين، وليكون قسطاس المجامع القديمة والحديثة التي حكمت حين الانشقاق، وليكون مصدراً علمياً لمن يكتب في المسيحية الأولى، ويتبعها في مدارجها في أحقاب الزمن، وملابسات التاريخ. إنجيل برنابا: 37- لقد كتبنا خلاصة ما بينه المسيحيون في أناجيلهم الأربعة، واستنبطنا من نصوصها ما يدل على وجود إنجيل أصيل، هي منه الفرع من الأصل، على أن في ذلك كلاماً قد طويناه إلى موضعه من القول، وقد أيدنا في استنباطنا بعض الأحرار المسيحيين، واستنبطوا قريناً مما استنبطنا، وقبل أن نغادر الكلام في الأناجيل إلى الكلام في الرسائل يجدر بنا أن نتكلم في إنجيل جديد قد كشف عنه البحث العلمي، وقد حمل

برنابا:

من الأمارات ما يدل على إنه في نشأته يمتد إلى أبعد أعماق التاريخ المسيحي، وأبعد أغواره، وهو يشبه الأناجيل القائمة في إنه قصة المسيح من ولادته إلى اتهامه. ويحكى محاوراته، ومناقشاته وخطبه، ولكن الكنيسة لم تعترف به وأنكرته، فليس معتبراً عند المسيحيين مصدراً دينياً، ولكنه متداول بين علماء الأمم الأوربية، وقد اتجهوا إليه بالبحث والعناية، والاهتمام، ولم يمنعهم من ذلك إنكار الكنيسة له. ذلك الإنجيل هو إنجيل برنايا، ومن الحق علينا أن ندرسه، ونعرف رأي المسيحيين فيه، وما يؤدي إليه النظر العلمي من غير أفتيات عليهم ولا تهجم، ومن غير أن نقحم أنفسنا فيما ليس لنا من إملاء عقيدة على القوم في دينهم. برنابا: 38- جاء ذكر برنابا في رسالة أعمال الرسل التي ينسب تدوينها إلى لوقا. فقد جاء في الإصحاح الرابع من تلك الرسالة: "ويوسف الذي دعى من الرسل برنابا الذي يترجم ابن الوعظ: وهو لاوى قبرصي الجنس، إذ كان له حقل باعه واتى بالدراهم، ووضعها عند أرجل الرسل"، وجاء في الإصحاح التاسع عند الكلام عن إيمان شاول - وهذا هو الذي أشتهر بعدئذ باسم بولس الرسول - إن برنابا هو الذي شهد له بالإيمان، وهو نص ما جاء فيه: "ولما جاء شاول إلى أورشليم حاول أن يلتصق بالتلاميذ، وكان الجميع يخافونه غير مصدقين إنه تلميذ، فأخذه برنابا وأحضره إلى الرسل. وحدثهم كيف أبصر الرب في الطريق. وإنه كلمه، وكيف جاهر في دمشق باسم يسوع" ولقد ذكر ذلك السفر أيضاً إنه كانت ترسله الكنيسة للوعظ والهداية، وفي الإصحاح الحادي عشر: "فسمع الخبر عنهم في آذن الكنيسة التي في أورشليم. فأرسلوا برنابا لكي يجتاز إلى أنطاكية، الذي لما أتى، ورأى نعمة الله فرح ووعظ أن يثبتوا في الرب بعزم القلب. لأنه كان رجلاً صالحاً، وممتلئاً من الروح القدس والإيمان، فانضم إلى الرب جمع غفير ثم خرج برنابا إلى طرسوس ليطلب شاول، ولما وجده جاء به إلى أنطاكية ... "، ويزعمون أن الروح القدس خاطبه واختصه بالخطاب هو وبولس (شاول) من بين الأنبياء والمعلمين، فقد جاء في الإصحاح الثالث عشر من رسالة الأعمال: "وكان في أنطاكية في الكنيسة هناك أنبياء ومعلمون: برنابا وسمعان الذي يدعى نيجر.

ولوكيوس القيرواني، ومنابن الذي تربى مع هيروكس رئيس الربع، وشاول. وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس: افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه، فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا عليهما الأيادي ثم أطلقوهما، فهذا، إذ أرسلا من الروح القدس انحدرا إلى سلوكية، ومن هناك سافرا في البحر إلى قبرص. ولما سارا في سلاميس ناديا بكلمة الله في مجامع اليهود. وكان معهما يوحنا خادماً" وقد استمر برنابا وبولس مصاحبين في التبشير بالديانة المسيحية في قبرص. وحدثت على أيديهما المعجزات، حتى زعم الناس أنهما الهان. وجاء فيه عن بيان وقع الخبر عليهما: فلما سمع الرسولان برنابا وبولس مزقا ثيابهما، واندفعا إلى الجمع صارخين وقائلين: "أيها الرجال لماذا تفعلون هذا؟ نحن بشر تحت آلام مثلكم. نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، الذي في الأجيال الماضية ترك جميع الأمم، مع إنه لم يترك نفسه بلا شاهد". ومن هذا كله يتبين أن رسالة الأعمال تشهد أن برنابا كان من الرسل في اعتقادهم، الذين أخلصوا للدعوة إلى المسيحية، حتى باع كل ما يملك؟ وألقى بثمنه بين أيدي الرسل يتصرفون به في سبيل نشر الدعوة، وينفقونه في حاجات الجميع. وإنه هو الذي شهد لبولس بالإيمان. وإن الكنيسة أرسلتهما مبشرين بالمسيحية في قبرص بعد أن ارسلت برنابا وحده إلى أنطاكية، وأن برنابا كان رجلاً صالحاً ممتلئاً من الروح، وأن الروح القدس خصه بعناية من بين الرسل والمعلمين كما يعتقدون. وينص بولس في رسالته إلى أهل كولوسى في إصحاحها الرابع على أن مرقس صاحب الإنجيل ابن أخت برنابا: فيقول: "يسلم عليكم ارسترخص المأسور معي، ومرقس ابن أخت برنابا الذي أخذتم لأجله أن آتى إليكم فاقبلوه". ولقد كان مرقس هذا يصاحب وبولس قي سفرهما للدعاية والوعظ. ولقد افترقا بسبب إرادة برنابا أن يصحبهما ابن أخته في الطواف في المدن التي سبقت إليها الدعاية، ومخالفة بولس لذلك، ولذلك جاء

هل برنابا من الحواريين الاثني عشر:

في رسالة الأعمال في إصحاحها الخامس عشر ما نصه: "ثم بعد أيام قال بولس لبرنابا: لنرجع ونعتقد إخواننا في كل مدينة في كل مدينة نادينا فيها بكلمة الرب، كيف هم؟ فأشار برنابا أن يأخذ معهما أيضاً يوحنا الذي يدعى مرقس، وأما بولس فكان يستحسن أن الذي فارقهما من بمفيلية، ولم يذهب معهما للعمل لا يأخذانه معهما، فحصل بينهما مشاجرة، حتى فارق أحدهما الآخر، وبرنابا أخذ مرقس وسافر في البحر إلى قبرص، وأما بولس فاختار سيلا، وخرج مستودعاً من الأخوة إلى نعمة الله". ولقد أشرنا إلى الصلة بين برنابا ومرقس صاحب الإنجيل عند الكلام في إنجيل مرقس، ونقلنا من كتب المسيحيين ما يدل على أن مرقس هذا، وهو حجة عندهم باتفاق، كان ينكر أُلوهية المسيح، وهو وأستاذه بطرس، وقد نقلنا عن مروج الأخبار في تراجم الأبرار ما يدل على ذلك. هل برنابا من الحواريين الاثني عشر: 39- هذا هو برنابا. قديس من قديسي المسيحيين باتفاقهم، ورسول من رسلهم، وركن من الأركان التي قامت عليها الدعاية للمسيحية الأولى، وقد وجد إنجيل باسمه يدل على إنه كان من الحواريين الذين أختصهم المسيح بالزلفى إليه، والتقرب منه، وملازمته في سرائه وضرائه، ولكن كتب المسيحيين غير هذا الإنجيل لا نعده من هؤلاء الحواريين وإن كانت تعده من الرسل الذين يبلغون مكانة الحواريين في هذا الدين بعد المسيح، ومهما يكن من شيء في هذا الأمر، وهو كونه من الحواريين أو ليس منهم، فإن برنابا حجة عند المسيحيين، وهو من الملهمين في اعتقاده، فإن صحت نسبة هذا الإنجيل إليه كان ما يشمله حجة عليهم، يدعوهم غلى أن يوازنوا بين ما جاء فيه وما جاء في غيره من كتبهم، ويؤخذ بما هو أقرب إلى التصور والتصديق، وأصح سنداً، وأقرب بالمسيحية الأولى رحماً. فلندرس الآن أقدم نسخة عرفت في العصر الحديث. اتفق المؤرخون على أن أقدم نسخة عثروا عليها لهذا الإنجيل، نسخة مكتوبة باللغة الإيطالية، عثر عليها كريمر أحد مستشاري ملك بروسيا، وذلك في سنة 1709 وقد انتقلت النسخة مع بقية مكتبة ذلك المستشار

الكلام في صحة تسمية هذا الإنجيل:

في سنة 1738 إلى البلاط الملكي بفيينا، وكانت تلك النسخة هي الأصل لكل نسخ هذا الإنجيل في اللغات التي ترجم إليها. ولكن في أوائل القرن الثامن عشر، أي في زمن مقارب لظهور النسخة الإيطالية وجدت نسخة اسبانية ترجمها المستشرق سايل إلى اللغة الإنجليزية، ولكن لم يعلم من تلك النسخة وترجمتها إلا شذرات أشار إليها الدكتور هوايت في إحدى الخطب، وقد قيل إن الذي ترجم النسخة الأسبانية إلى تلك اللغة مسلم نقلها من الإيطالية إلى الأسبانية. ولقد رجح أن النسخة الإيطالية هي الأصل للنسخة الأسبانية، وذلك إنها قد قدمت بمقدمة تذكر أن الذي كشف النقاب عن النسخة الإيطالية التي كانت أصلاً للنسخة الإسبانية راهب لاتيني اسمه فرامينو وإنه قص قصصها، فيقول: "إنه عثر على رسائل لايريانوس وفيها رسالة يندد فيها بما كتبه بولس الرسوا. ويسند تنديده إلى إنجيل برنابا، فدفعه حب الاستطلاع إلى البحث عن إنجيل برنابا. وقد وصل إلى مبتغاة لما صار أحد المقربين إلى البابا سكتس الخامس. فإنه عثر على ذلك الإنجيل في مكتبة هذا البابا، فأخفاه بين أردأنه، وطالعه، فاعتنق الإسلام" ويظهر أن تلك النسخة هي نفس النسخة التي عثر عليها سنة 1709. ويقول في ذلك الدكتور سعادة مترجم الإنجيل إلى العربية: "إذا تحريت التاريخ وجدت أن زمن البابا سكتس المذكور نحو مغيب القرن السادس عشر. وقد علمت مما مر بك بيانه أن نوع الورق الذي سطر فيه إنما هو ورق إيطالي يمكن تعيين أصله من الآثار المائية التي فيه، والتي يمكن اتخاذها دليلاً صادقاً على تاريخ النسخة الإيطالية والتاريخ الذي يحدسه العلماء "من كل ما تقدم بيانه يتراوح بين منتصف القرن الخامس عشر، والسادس عشر، وعليه فمن الممكن أن تكون النسخة الإيطالية هي عينها التي اختلسها فرامينو من مكتبة البابا على ما مرت الإشارة إليه". الكلام في صحة تسمية هذا الإنجيل: 40- أقدم نسخة معروفة إذن هي النسخة الإيطالية التي عثر عليها في فجر القرن الثامن عشر، ولكن وجودها يمتد إلى منتصف القرن

الخامس عشر أو أول القرن السادس عشر، وقد وجدت في جو مسيحي خالص، فلا مظنة لأن تكون مدخولة عليهم. فأول من عثر عليها في خزانة كتبه رئيس ديني خطير. وكاشفها راهب، ولما تداولتها الأيدي انتقلت إلى مستشار مسيحي من مستشاري ملك بروسيا، ثم آلت إلى البلاط الملكي بفيينا فلا مظنة لأن تكون مدخولة عليهم، وهي منسوبة لقديس من القديسين هو برنابا ولم يعرف بهذا الاسم سواه، له مثل مكانته الدينية. ولقد كان وجود إنجيل له أمرا معروفاً بين العلماء بهذا الدين. فهذا فرامينو يقول إنه أطلع على رسالة لاربانوس يستنكر ما كتب بولس مستشهداً على استنكاره بإنجيل برنابا. ويذكر التاريخ أن هناك أناجيل كثيرة حرمت قراءتها الكنيسة - كما أشرنا من قبل، ويقول الدكتور سعادة: "يذكر التاريخ أمراً أصدره البابا جلاسيوس الأول الذي جلس على الأريكة البابوية سنة 492 ميلادية يعدد فيه أسماء الكتب المنهي عن مطالعتها، وفي عدادها كتاب يسمى إنجيل برنابا، ويذهب بعض العلماء المدققين إلى أن أمر البابا جلاسيوس المنوه عنه إنما هو برمته تزوير". ولكن التاريخ اصح وأصدق من قول هؤلاء العلماء، وإن كانوا محققين، فأقول العلماء والمؤرخين تترى في تحريم قراءة أناجيل كثيرة. فإذا فعل ذلك البابا جلاسيوس فقد سار على سنة إسلامه، وجرى على سنته من بعده أخلاف، وإذا صح ذلمك الأمر - كما يشهد التاريخ، وكما تنبئ عنه المقدمات والنتائج، فإن إنجيل برنابا كان معروفاً متداولاً قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من قرنين. وزعم الدكتور سعادة بأنه لو كان معروفاً في ذلك الإبان لعرفه النبي - صلى الله عليه وسلم - واحتج به، أو أخذ منه - زعم باطل - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولم يقم في البلاد التي سادتها المسيحية آمادا تمكنه من المعرفة والإطلاع، ولأن مضى قرنين من الزمان بعد التحريم يجعل التحريم ينتج أثره، فيخفي ما كان ذائعاً، ويدفن ما كان معلوماً مشهوراً فمائتان من السنين تكفي لطمس الموجود، وتعقبه آثار المفقود.

ترجيح صدق النسبة في هذا الإنجيل:

وإن المسيحيين يجدون فيما اشتمل عليه ذلك الإنجيل أخباراً دقيقة عن التوراة حتى لقد يقول الدكتور سعادة: "إنك إذا أعملت النظر في هذا الإنجيل وجدت لكاتبه الماماً عجيباً بأسفار العهد القديم لا تكاد تجد لها مثيلاً بين طوائف النصارى إلا في أفراد قليلين من الأخصائيين الذين جعلوا حياتهم وقفاً على الدين، كالمفسرين، حتى إنه لينذر أن يكون بين هؤلاء أيضاً من له إلمام بالتوراة يقرب من إلمام كاتب إنجيل برنابا". ترجيح صدق النسبة في هذا الإنجيل: 41- هذه بينات شاهدة - وإن لم تبلغ اليقين والجزم - بأن نسبة هذا الإنجيل إلى برنابا نسبة يرجح أن تكون صحيحة، لأنه وجدت نسخته الأولى في جو مسيحي خالص، وكان معروفاً قبل ذلك بقرون أن لبرنابا إنجيلاًَ، وهو يدل على أن كاتبه على المام تام بالتوراة التي لا يعرفها الرجل المسيحي غير الاختصاصي في علوم الدين، بل يندر من يعرفها من المختصين، وإن برنابا كان من الدعاة الأولين الذين عملوا في الدعوة عملاً لا يقل عن عمل بولس، كما تذكر رسالة أعمال الرسل، فلابد أن تكون له رسالة أو إنجيل. هذه بينات تشهد بأن الإنجيل الذي كشف وعرف صحيح النسبة، ليس للمسلمين يد فيه، وإن من ينحله للمسلمين كمن يحمل في يده شيئاً يظن في جملة اتهاماً له. فيسند ملكيته إلى غيره نفياً للتهمة عن نفسه. فهل يقبل منه ذلك النفي من غير حجة ولا دليل سوى أن فيه اتهاماً له؟ وهل يقر القضاء ذلك النفي؟. قد يقول قائل: أن هذه البينات كلها مرجحة وليست يقينية، ونحن نقول أن أكثر مسائل التاريخ ترجيح، وليست يقينية جازمة، فإذا كانت نسبة إنجيل برنابا إليه ظنية تقبل الإحتمال فانا نأخذ بذلك الظن، لأنه المأخذ في أكثر مسائل التاريخ، والاحتمال الذي لا ينشأ عن دليل لا يلتفت إليه، بجوار الاحتمال الناشئ عن دليل، ووجود ذلك الإنجيل بلغة مسيحية وبين ظهراني المسيحيين، وفي مكاتبهم الخاصة دليل على أن المسلمين ليست لهم يد فيه، ولذلك رجح جمهور المحققين إنه بيس لهم يد في إنشائه.

ولكن زعم بعضهم أن أصله عربي، وهو زعم ليس له دليل، وعلى مدعى ذلك الأصل أن يبرزه، ويبين تاريخ تدوينه، ومقدار نسبته. ولكن الدكتور سعادة يزعم أن أصله عربي بدليل إنه وجد على النسخة الإيطالية تعليقات عربية، وإنه صرح في التبشير باسم النبي، مع أن المعهود في البشارات الرمز لا النص. ونحن نرد الأول بأن وجود تعليقات عربية يدل فتخذ على أن بعض من قرأ هذه النسخة يعرف العربية على ضعف فيها لأنه مستقيم التعبير أحياناً قليلة، وسقيم العبارة في أحيان كثيرة، ومن الغريب أن يتخذ من التعليقات العربية دلالة على أصله الإسلامي، ولا يتخذ من صلبه الإيطالي دليلاً على أصله المسيحي. أما كون التبشير بالنبي - صلى الله عليه وسلم - صريحاً فيه وليس بتلميح فنحن لا نسلم بأن كل التبشيرات في الكتب الدينية تلميح. نعم بعضها رمز وتلميح، ولكن معنى ذلك نفي الصريح، وعلى فرض أن كل تبشير تلميح لا تصريح، فالنص الإيطالي الذي بين أيدينا ترجمة لا نص، وعسى أن يكون المترجم فهم المعنى، فلم يسعفه في لغته التلميح، فنطق بالتصريح كما يفعل المسيحيون في كثير مما ترجموا من كتب أصلها عبري. ومن المؤكد أن ذلك الإنجيل لم يكن معروفاً عند المسلمين في غابرهم وحاضرهم، لأن المناظرات بينهم وبين المسيحيين كانت قائمة في كل العصور، ولم يعرف أن أحداً أحتج على مناظرة المسيحي بهذا الإنجيل، مع إنه فيه الحجة الدامغة التي تفلح المسلم على المسيحي، فدعوى وجود نسخة عربية كانت هي الأصل للنسخة الإيطالية، فوق إنها لا دليل عليها مطلقاً، ولو بطريق الوهم هي تناقض أخبار التاريخ الإسلامي مناقضة تامة، وإلا أحتج المجادل عن الإسلام بها. ففيها أقوى دليل، والتاريخ لم يحفظ ذلك، وهذى سجلاته ليستنبطوها. وليعرفوا دخائلها، فلن يجدوا شيئاً يمكن دعواهم ويثبت قضيتهم.

قيمة إنجيل برنابا من حيث ما أشتمل عليه:

قيمة إنجيل برنابا من حيث ما أشتمل عليه: 42- وإنجيل برنابا هذا يمتاز بقوة التصوير، وسمو التفكير، والحكمة الواسعة، والدقة البارعة، والعبارة المحكمة، والمعنى المنسجم، حتى إنه لو لم يكن كتاب دين لكان في الأدب والحكمة من الدرجة الأولى، لسمو العبارة وبراعة التصوير. ولماذا أنكره المسيحيون مع أن قوة النسبة فيه لا تقل عن قوة النسبة في كتبهم الأربعة كما ذكرنا، إن لم تكن أقوى؟ الجواب عن ذلك أن المسيحيين رفضوه لأنه خالف أناجيلهم ورسائلهم في مسائل جوهرية في العقيدة. ولقد كنا نظن أن ظهور ذلك الإنجيل كان يحمل الكنيسة على التفكير من جديد في مصادر الدين، لتعرف أي الكتب أقرب نسياً بالمسيحية الأولى، أذلك الإنجيل بما خالف، أم الرسائل والأناجيل التي توارثتها؟ ولكنهم سارعوا إلى الرفض والإنكار. كما سبق أسلافهم إلى إنكاره من قبل. مخالفة إنجيل برنابا لما عليه المسيحيون: والأمور التي خالف ذلك الإنجيل فيها ما عليه المسيحيون الآن تتلخص في أربعة أمور: أولها: إنه لم يعتبر المسيح ابن الله، ولم يعتبره إلهاً، وقد ذكر ذلك في مقدمته فقال: "أيها الأعزاء أن الله العظيم العجيب قد افتقدنا في هذه الأيام بنبيه يسوع المسيح برحمة عظيمة للتعليم، والآيات التي اتخذها الشيطان ذريعة لتضليل كثيرين بدعوى التقوى، مبشرين بتعليم شديد الكفر. داعين المسيح ابن الله، ورافضين الختان لذي أمر به الله به دائماً، مجوزين كل لحم نجس، الذين ضل في عدادهم أيضاً بولس الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى وهو السبب الذي لأجله اسطر ذلك الحق الذي رأيته". ويقول في آخر الفصل الثالث والتسعين: "أجاب الكاهن أن اليهودية قد اضطربت لآياتك وتعليمك حتى أنهم يجاهرون بأنك أنت الله، فاضطررت بسبب الشعب إلى أن آتي إلى هنا مع الوالي الروماني والملك هيرودس فنرجو من كل قلبنا أن ترضى بإزالة الفتنة التي ثارت بسببك، لأن فريقاً يقول إنك الله. وآخر يقول إنك ابن الله، ويقول فريق إنك نبي. أجاب

يسوع: "وأنت يا رئيس الكهنة. لماذا لم تخمد الفتنة، وهل جننت أنت أيضاً، وهل أمست النبوات، وشريعة الله نسياً منسياً، أيتها اليهودية الشقية التي ضللها الشيطان" ولما قال يسوع هذا عاد فقال: "أني أشهد أمام السماء، وأشهد كل ساكن على الأرض إني برئ من كل ما قال الناس عني من أني أعظم من بشر، لأني بشر مولود من امرأة، وعرضه لحكم الله، أعيش كسائر البشر، عرضه للشقاء العام". ويقول في الفصل السبعين: "أجاب يسوع: وما قولكم أنت في؟ أجاب بطرس: إنك المسيح ابن الله. فغضب حينئذ يسوع. وانتهره بغضب قائلاً: أذهب. وانصرف عني. لأنك أنت الشيطان، وتريد أن تسئ إلى". (الأمر الثاني) : أن الذبيح الذي تقدم به إبراهيم الخليل عليه السلام للفداء هو إسماعيل، وليس بإسحق، كما هو مذكور في التوراة، وكما يعتقد المسيحيون. هذا نص ما جاء في إنجيل برنابا على لسان المسيح عليه السلام: "الحق أقول لكم إنكم إذا أمعنتم النظر في كلام الملاك جبريل تعلموا خبث كتبنا وفقهائنا، لأن الملاك قال: "يا إبراهيم. سيعلم العالم كله كيف يحبك الله ولكن كيف يعلم العالم محبتك لله. حقاً يجب عليك أن تفعل شيئاً لأجل محبة الله. أجاب إبراهيم: ها هو ذا عبد الله مستعد أن يفعل كل ما يريد الله، فكلم الله حينئذ إبراهيم قائلاً: "خذ ابنك بكرك واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة". فكيف يكون إسحق البكر، وهو لما ولد كان إسماعيل ابن سبع سنين. (الأمر الثالث) : هو كما يقال الدكتور سعادة "بك": أن مسيا أو المسيح المنتظر ليس هو يسوع، بل محمد. وقد ذكر محمداً باللفظ الصريح المتكرر في فصول ضافية الذيول، وقال أنه رسول الله، وإن آدم لما طرد من الجنة رأى سطوراً كتبت فوق بابها بأحرف من نور "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ولقد قال المسيح كما جاء في إنجيل برنابا: "أن الآيات التي يفعلها الله على يدي تظهر إني أتكلم بما يريد الله، ولست لحسب نفسي نظير الذي تقولون عنه، لأني لست أهلاً لأن أحل رباطات، أو سيور حذاء رسول الله الذي تسمونه مسياً الذي خلق قبلي. وسيأتي بعدي بكلام الحق. ولا يكون لدينه نهاية" وإنك لتجد في الفصلين الثالث

والأربعين والرابع والأربعين كلاماً وافياً في التبشير بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لأن التلاميذ طلبوا من المسيح عليه السلام أن يصرح لهم به. فصرح بما يطن حقيقته، ويبين ما له من شأن. (الأمر الرابع) : أن هذا الإنجيل يبين أن المسيح عليه السلام لم يصلب، ولكن شبه لهم. فألقى الله شبهه على يهوذا الأسخريوطي، ويقول في ذلك برنابا: "الحق أقول أن صوت يهوذا، ووجهه، وشخصه بلغت من الشبه بيسوع أن أعتقد تلاميذه والمؤمنون به كافة إنه يسوع، كذلك خرج بعضهم من تعاليم يسوع، معتقدين أن يسوع كان نبياً كاذباً، وإنما الآيات التي فعلها بصناعة السحر، لأن يسوع قال إنه لا يموت إلى وشك انقضاء العالم، لأنه سيؤخذ في ذلك الوقت من العالم". ثم يبين أن يسوع طلب إلى الله أن ينزل إلى الأرض بعد رفعه ليرى أمه وتلاميذه، فنزل ثلاثة أيام. ثم يقول: "ووبخ كثيرين ممن اعتقدوا إنه مات" وقام قائلاً: "أتحسبونني أنا والله كاذبون، لأن الله وهبني أن أعيش، حتى قبيل انقضاء العالم، كما قد قلت لكم، الحق أقول لكم إني لم أمت، بل يهوذا الخائن، احذروا، لأن الشيطان سيحاول جهده أن يخدعكم، ولكن كونوا شهودي في كل إسرائيل، وفي العالم كله، لكل الأشياء التي رأيتموها وسمعتموها". 43- هذا هو إنجيل برنابا، وما خالف فيه بقية الأناجيل من مسائل جوهرية، وفي الحق إنه خالف المسيحية القائمة في خصائصها التي امتازت بها فإن تلك المسيحية امتازت بالتثليث، وبنوة المسيح وألوهيته، وكان هذا شعارها الذي بها تعرف، وعلامتها التي بها تتميز، وقد خالف كل هذا، وإذا كانت مخالفته للمسيحية القائمة في ذلك الأمر الجوهري ثابتة - وهو ينسب إلى قديس من قديسيهم - فقد كان من الحق إذن أن يحدث ظهوره وكشفه بين ظهراني المسيحيين في مكاتب من لا يتهمون بالكيد للمسيحية، ومن لا يتهمون بأنهم لا يرجون لها وقاراً - رجة فكرية عنيفة، اهتزت بسببها المشاعر والمنازع، فالكنيسة والمتعصبون من المسيحيين يرفضونه رفضاً باتاً، مادام قد أتى بما لا يعرفونه هم،

ولا يعنون أنفسهم بدراسته دراسة علمية، ينتهون فيها إلى نقضه جملة، أو تبوله جملة، أو قبول بعضه، ورفض بعضه الذي يثبت بالدليل أن فيه مخالفة لتعاليم المسيح الصحيحة الثابتة بسند أقوى من سنده، ومتنها أقرب إلى العقل والفكر من متنه. ولكن العلماء الذين دأبهم التنقيب والبحث عكفوا على دراسته، وموازنة نصوصه بالتوراة والأناجيل ورسائل رسلهم، بل القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وانتهت دراسة جلهم بأنه بعيد أ، يكون قد استقى من القرآن الكريم، ومما هو مشهور عند المسلمين. وإن أجل خدمة تسدى إلى الأديان والإنسانية، أن تعني الكنيسة بدراسته، ونقضه، وتأتي لنا بالبينات الدالة على هذا النقض، وتوازن بين ما جاء فيه وما جاء في رسائل بولس، ليعرف القارئ والباحث أيهما أهدى سبيلاً، وأقرب إلى الحق، وأوثق به اتصالاً.

رسائل رسلهم

رسائل رسلهم 44- انتهينا في كلامنا السابق إلى ذكر الأناجيل وعرضها، كما يقول المسيحيون، وكنا في ذلك ناقلين، ولم نعن في ذلك بالنقد، فإن لذلك موضعه. والآن ننتقل إلى القسم الثالث من مصادر المسيحية، وهو رسائل رسلهم، ويسمونها - ما عدا رسالة أعمال الرسل - الأسفار التعليمية، كما يسمون الأناجيل ورسالة أعمال الرسل الأسفار التاريخية، لأن الأناجيل تعني يشرح حياة السيد المسيح وحكاية أحواله، وبعض أفواله ومواعظه، أما الرسائل فإنها تعني بالناحية التعليمية التي تبين بها الديانة. عدد الرسائل وكاتبوها: والرسائل اثنتان وعشرون رسالة: الأولى، وتسمى أعمال الرسل، وتنسب إلى لوقا صاحب الإنجيل، وأربع عشرة كتبها بولس، وهي رسالة أهل رومية وكورنثوس الأولى والثانية، وغلاطية، وأفسس، وفيلينى، وكولوسى، وتسالونيكى الأولى والثانية، وثيموثاوس الأولى وتيموثاوس الثانية، وتيطس، وفيلمون والعبرانيين، ورسالة كتبها يعقوب، ورسالتان كتبهما بطرس، وثلاث رسائل كتبها يوحنا، ورسالة كتبها يهوذا. وهنا غير الاثنتين والعشرين رسالة أخرى يسمونها السفر النبوي وهي رؤيا يوحنا، وهذه الرسالة في منحاها ومنهجها تخالف الرسائل السابقة، فبينما الرسائل السابقة وعظية وتعليمية في جملتها، وتتعرض كثيراً لذكر بنوى المسيح، وتخليصه للعالم من خطيئته، تجد رسالة رؤيا يوحنا اللاهوتي، تعني ببيان أُلوهية المسيح وسلطانه في السماء وعلمه بحال الكنيسة والقوامين على المسيحية من بعده، وهي تارة تصور الإله في عليائه كشيخ أشبب يشبه المسيح متمنطقا عند ثدييه بمنطقة من ذهب،

وعيناه كلهب نار، وفي يده سبعة كواكب، وسيف ماض ذو حدين يخرج من فيه، (راجع الإصحاح الأول من الرؤيا) . وتارة تصور المسيح خروفاً قائماً كأنه مذبوح له سبعة قرون وسبع أعين، (راجع الإصحاح الخامس) . وتبين أن الناس يعرضون أمام الإله والمسيح "ويخرون ساجدين، ثم تصور الملائكة وأحوالهم وأعمالهم، وهكذا ... ". فهي رسالة تشرح سلطان المسيح في الملكوت وتبين أحوال الملائكة وخضوعهم للمسيح ولله. 45- وهذه الرسائل تشرح المسيحية الحاضرة بأكثر من الأناجيل، وقد كتبت جميعها باليونانية، كما يقول مؤرخوهم، وللباحثين كلام كثير في شأن الرسائل، وقوة سندها، وقيمتها من حيث الاستدلال لهذا الدين، ولكنا نرجئ القول في ذلك إلى الكلام في نقد مصادر المسيحية نقداً علمياً، ونكتفي الآن بعرضها وذكرها، محوطة بهالة من تقديسهم، ومكلوءة بتقديرهم. وقد ذكرنا موجزاً لتاريخ يوحنا، وعرفنا القارئ به، وهو صاحب الرؤيا، وثلاث رسائل، وبينا لوقا، وهو صاحب رسالة أعمال الرسل، فلنعرف الآن بكلمات موجزة القارئ ببطرس صاحب الرسالتين، ويعقوب ويهوذا، ولكل رسالة، وبولس وله أربع عشرة كما ذكرنا. فبطرس من حواريي المسيح، وكان اسمه الأصلي سمعان، وكان صياد سمك وقد جال بعد المسيح للتبشير، فذهب إلى أنطاكية وغيرها، ثم ذهب إلى رومة سنة 65 فقبض عليه وزج في السجن، وحكم عليه بالموت صلباً في زمن نيرون على ما نوهنا. وقد طلب أن يصلبوه منكساً حتى لا يتشبه بالمسيح. وقد علمت أن صاحب يروج الأخبار في تراجم الأبرار يخبر أن بطرس وتلميذه مرقص صاحب الإنجيل الذي كان يعبر عنه بابنه كلاهما كان ينكر ألوهية المسيح.

ترجمة يعقوب صاحب الرسالة:

ترجمة يعقوب صاحب الرسالة: 46- ويعقوب صاحب الرسالة هو يعقوب بن زبدى الصياد، أخو يوحنا، وكان حوارياً كأخيه، ويقولون: إنه أول أسقف لكرسي أورشليم، ويقول صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية: "كان لشهرته بالطهارة يعرف بيعقوب البار، وقد أغتاظ منه رؤساء اليهود، فحكموا عليه بالموت في مجمعهم، فمات رجماً سنة 62 وكان قد كتب رسالته سنة 61م". ترجمة يهوذا: 47- وأما يهوذا، وهو حواري، ويقولون إنه يدعى لباوس، ولقب تداوس وهذا الاسم الذي ذكر في إنجيل متى، ولكن إنجيل برنابا يقرر أن يهوذا غير يهوذا الاسخريوطى الذي شهد على المسيح وخانه، وغير تداوس، ويقولون: إنه أخو يعقوب الصغير، وعلى هذا يكون لزبدى الصياد ثلاثة من الحواريين، ولكن متى لما ذكر يعقوب ويوحنا ذكر أمامها أنهما ولداً زبدى الصياد، ولم يذكر أمام تداوس!! وعلى أية حال فليهوذا هذا رسالة منسوبة إليه، وقد قالوا إنه مات شهيداً ببلاد العجم. ترجمة بولس: 48- بولس: ولننتقل الآن إلى الكلام في بولس والتعريف به، وإن لبولس هذا لشأناً في المسيحية، فهي تنسب إليه أكثر مما تنسب لأحد سواه، فرسالته هي التي شرحتها، وقد كان بنشاطه الجم، وتطوائه في الأقاليم مشرقاً ومغرباً، لا يستقر في مكان على نية الإقامة فيه، بل على قصد في الرحيل إلى غيره - أشد دعاتها، وقد تأثر المسيحيون خطاه، وتعرفوا أخباره وأقواله، ما دونه منها في رسالته، وما ألقاه في الجموع وتناقلوه، وإن لم يدونه هو وتأثروا أعماله فاحتذوا حذوه، وسلكوا مسلكه، واعتبروه القدوة الأولى، فلابد إذن من العناية بتاريخه لنتعرف أكانت منزلته في المسيحية الأولى كمنزلته في المسيحية الحاضرة، حتى يصلح أن يكون حلقة الاتصال بينهما، وناقل الأولى إلى أهل الثانية، ولنتبين إنه صادق النقل، حتى تكون الأولى والثانية شيئاً واحداً، وليستا شيئين مختلفين.

وأنا في حكاية بدايته ونهايته نعتمد على المصادر المسيحية وحدها، كسنتنا فيما أسلفنا من القول، حتى لا نتزيد عليهم، ولكي نعرض الرجل كما هو عندهم. في سفر أعمال الرسل تفصيل لحياة بولس، وقد أخذت أعماله من ذلك السفر الشطر الأكبر. وقد جاء فيه أن مولده كان في طرسوس، وتربى في أورشليم، واسمه الأصلي شاول. وهذا نص الفقرة الثالثة من الإصحاح الثاني والعشرين حكاية عنه: "أنا رجل يهودي ولدت في طرسوس كيليكة، ولكن ربيت في هذه المدينة" (أورشليم) . ولقد جاء إنه من الفريسيين الذين يقولون أن هناك قيامة يشاركون فيها ملك المسحي في الدنيا، فقد جاء في الإصحاح الثالث والعشرين: "ولما علم بولس أن قسماً منهم صدوقيون، والآخرون فريسيون" صرح في المجمع: "أيها الرجل الأخوة، أنا فريسي ابن فريسي على رجاء قيامة الأموات, أنا أحاكم". ونجد كتاب المسيحية متفقين على إنه من اليهود، ولكن جاء في سفر أعمال الرسل أيضاً ما يدل على إنه روماني، ففي آخر الإصحاح الثاني والعشرين منه ما نصه: "فلما مدوه للسياط قال بولس لقائد المائة الواقف: أيجوز لكم أن تجلدوا إنساناً رومانياً غير مقضي عليه، فإذ سمع قائد المائة ذهب إلى الأمير وأخبره قائلاً: أنظر ما أنت مزمع أن تفعل، لأن هذا الرجل روماني. فجاء وقال له: قل لي أنت روماني؟ فقال نعم. فأجب الأمير: أما أنا فبمبلغ كبير اقتنين هذه الرعوية، فقال بولس: أما أنا فقد ولدت فيها. وللوقت تنحى عنه الذين كانوا مزمعين أن يفحصوه، واختشى الأمير لما علم إنه رماني، لأنه قيده". وهذان بلا ريب نصان متعارضان، لعل أرجحهما إنه يهودي، لأنه ذكر إنه روماني عندما رأى أن جسمه سيكوى بالسياط. فأعمل الحيلة، عساه يجد مخرجاً، فأدعى إنه روماني لينجو جلده، وقد تم له ما أراد بتلك الحيلة التي احتلها في انتسابه، وأصر عليها عندما روجع فيها. ولكن لو اتخذنا من قرائن الأحوال دليلاً على كذب ادعائه الرومانية،

وإنه قالها خلاصاً واحتيالاً لورد مثل ذلك عندما قال إنه يهودي، لأنه كان يخاطب جمعاً يهودياً عمل للقبض عليه. ولقد صرح في سفر الأعمال إنه قال إنه فريسي ليوقع الخلاف بين الصدوقيين والفريسيين، فقد جاء فيه عند ذكر إقراره بأنه فريسي. ولما علم بولس أن قسما منهم صدوقيون والآخر فريسيون، إلخ. فهو ما صرح بهذا التصريح إلا ليوقع الفرقة بينهم، وينجو من كيدهم بتدبير فريق منهم. وقد تم له بعض ما أراد، فاختلفوا وجرى بينهم نزاع شديد كما دلت على ذلك الفقرات التي ذكرت من بعد في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر الأعمال، وإذن فلا نستطيع أن نستبين جنسه من هذا على وجه تطمئن إليه النفس. 49- ومهما يكن من أمر جنسه، فقد كان بولس هذا في صدر حياته من أشد أعداء المسيحية، وأبلغهم كيداً لها، وأكثرهم إمعاناً في أذى معتنقيها، كما يدل على ذلك ما جاء في سفر الأعمال في مواضع كثيرة منه. ففي الإصحاح الثامن منه: "وحدث في ذلك اليوم اضطهاد عظيم على الكنيسة التي في أورشليم، فتشتت الجميع في كور اليهودية والسامرة ما عدا الرسل، وحمل رجال أتقياء استفانوس، وعملوا عليه مناحة عظيمة، وأما شاول فكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت، ويجر رجالاً ونساء، ويسلمهم إلى السجن". وجاء في أول الإصحاح التاسع: "أما شاول فكان لم يزل ينفث تهدداً وقتلاً على تلاميذ الرب فتقدم إلى رئيس الكهنة وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات حتى إذا وجد أناساًَ في الطريق رجالا أو نساء يسوقهم موثقين إلى أورشليم". ويجئ في ذلك السفر أيضاً اعترافه الصريح بذلك الماضي في مواضع متعددة أيضاً. فمنها ما جاه في الإصحاح الثاني والعشرين مخاطباً اليهود: "كنت

غيوراً لله، كما أنتم جميعكم اليوم، واضطهدت هذا الطريق، حتى الموت، مقيداً ومسلماً إلى السجون رجالاً ونساء، كما يشهد لي أيضاً رئيس الكهنة وجميع المشيخة الذين إذا أخذت منهم رسائل للأخوة إلى دمشق، ذهبت لأني بالذين هناك إلى أورشليم مقيدين لكي يعاقبوا". ولكن سفر الأعمال يقول أن ذلك الرجل الذي كاد للمسيحية هذا الكيد وآذى أهلها ذلك الإيذاء، قد انتقل من الجبت والطاغوت إلى المسيحية فجأة من غير مقدمات تقدمت ذلك الانتقال، ولا تمهيدات مهدت له. فيقول في الإصحاح التاسع: "في ذهابه حدث أنه أقترب إلى دمشق، فبغتة أبرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض، وسمع صوتاً قائلاً له: شاول. شاول. لماذا تضطهدني؟ فقال: من أنت يا سيدي؟ فقال: أنا يسوع الذي أنت تضطهده، صعب عليك أن ترفس مناخس، فقال وهو مرتعد متحير: يا رب ماذا تريد أن أفعل؟ فقال له الرب: قم وأدخل المدينة، فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل". ودخل بولس أو شاول في المسيحية، وحاول أن يتصل بتلاميذ المسيح، ولكنهم أوجسوا منه خيفة، ولم يصدقوا إيمانه، ولكن شهد له برنابا الذي حدثناك عنه بالإيمان، وما حدث له في الطريق. فقد جاء في الإصحاح التاسع أيضاً من السفر المذكور: "ولما جاء شاول حاول أن يلتصق بالتلاميذ، وكان الجميع يخافونه غير مصدقين، فأخذه برنابا، وأحضره إلى الرسل، وحدثهم كيف أبصر الرب، وإنه كلمه، وكيف جاهر في دمشق باسم يسوع". ومن ذلك الوقت صار بولس القوة الفعالة، والحركة الدائبة في الدعاية للمسيحية، كما ندل على ذلك عبارات سفر الأعمال، وقد اصطحب في رحلاته برنابا، حتى اختلفا كما ذكرنا في الكلام على برنابا - فلما اختلفا افترقا، وهناك نجد حلقة مفقودة، فلم يبين لنا سفر الأعمال على من تلقى مبادئ المسيحية التي أخذ يبشر بها، والتي دونها في رسائله الأربع عشرة، والتي يضيف إليها بعض الكتاب سفر الأعمال، وينسبه إليه بدل نسبته إلى لوقا؟ لم تبين لنا الكتب المسيحية على من تلقى مبادئ

صفات بولس:

المسيحية؟ ولعلهم يعتقدون أنه ليس في حاجة إلى التلقي، لأنه انتقل من مرتبة الكافر المناوئ إلى مرتبة الرسل في المسيحية، صار ملهماً ينطق بالوحي في اعتقادهم، فلم يكن في حاجة إلى التعلم والدراسة، لأن الوحي كفاه مؤونة الدرس وتعبه. لقد أخذ بوليس في التطواف في الأقاليم ينشئ الكنائس، ويقوم بالدعاية ويلقي الخطب، وينشئ الرسائل، حتى كانت رسائله هي الرسائل التعليمية بما اشتملت عليه من مبادئ في الاعتقاد، وبعض الشرائع العملية، وقد قالوا أنه قتل في اضطهادات نيرون سنة 66 أو سنة 67 على الخلاف في ذلك. صفات بولس: 50- إن الذي يستخلص من أحوال وأقوال بولس التي دونت في رسائله وأعماله التي ذكرها سفر أعمال الرسل، يتبين له أنه أمتاز بثلاث صفات جعلته في الذروة من الدعاة إلى المبادئ والعقائد: الصفة الأولى: إنه كان نشيطاً دائم الحركة ذا قوى لا تكل، وذا نفس لا تمل. الصفة الثانية: إنه كان المعيا شديد الذكاء بارع الحيلة، قوي الفكر يدبر الأمور لما يريد بدهاء الألمعي، وذكاء الأروعي، يسند السهام لغاياته ومآربه فيصيبها. الصفة الثالثة: إنه كان شديد التأثير في نفوس الجماهير، قوي السيطرة على أهوائهم، قديراً على انتزاع الثقة به ممن يتحدث إليه. وبهذه الصفات الممتازة، وبهذه القدرة البارعة استطاع أن يجعل نفسه محور الدعاة للمسيحية، وقطبهم، وأن يفرض ما ارتآه على المسيحيين، فيعتنقوه ديناً، ويتخذوا قوله حجة زاعمين إنه رسالة أرسل بها، وبهذه الصفات الباهرة استطاع أن يحمل صديقه برنابا على أن يصدقه في رؤيته المسبح، واستطاع أن يحتل المنزلة الأولى بين التلاميذ، وقد كان بلاؤهم، وكيد الشيطان لهم. وبهذه الصفات التوبة استطاع أن يحملهم على نسيان ماضيه، وأن يندغموا في شخصه حتى يصير هو كل شيء،

وهم لا يستطيعون رد قوله في الجماهير، وحتى لقد صارت المسيحية الحاضرة مطبوعة بطابعه، منسوبه إليه، ولقد تعجب الذين أرسلوا الديانات وعرفوا أحوال رجالها، وأدوارهم، فيقولون: كيف ينتقل رجل من كفر بديانة إلى اعتقاد شديد بها طفرة، من غير سابق تمهيد، ولكن ذلك العجب يزول إن كان الانتقال مقصوراً على مجرد الانتقال من الكفر إلى الإيمان، فإن لذلك نظائر وأشباها، بل العجب كل العجب أن ينتقل شخص من الكفر المطلق بدين إلى الرسالة في الدين الذي كفر به، وناواه وعاداه، فإن ذلك ليس له نظير وليس له مشابه، ولم يعهد ذلك في أنبياء ورسل قط، وهذه توراة اليهود وأسفار العهد القديم التي يؤمن بها المسيحيون كما رووها، وكما قالوها ليذكروا لنا رسولاً بعث من غير أن يكون في حياته الأولى استعداد لتلقي الوحي، وصفاء نفس يجعله أهلاً للإلهام؟ ولا يجعل الاتهام والتكذيب يغلبان على رسالته، وإنه إذا لم يكن للرسالة أرهاصات قبل تلقيها، لا يكون على الأقل قبلها ما ينافيها ويناقضها. ولكن بولس أبو العجب استطاع أن يتغلب على ذلك العجب في عصره، وأن يفرض نفسه على المسيحيين من بعده، وأن يحملهم على نسيان العقل عندما يدرسون أقواله وآراءه وتعاليمه. بيد أن العقل يخترق بنوره الحجب، ويزيل بضوئه كل أسداف الظلم، ولو قاوم في سبيل ذلك براعة بولس وذكاءه، ولذل وجد في العصور المسيحية من كانوا يثيرون مناقشات قوية حول أقوال بولس منكرين لها مبطلين، ونسارع فنقول مقالة القس عبد الأحد: "إن بولس يبجل ويعظم رجلاً اسمه عيسى أميت ومات. وحيى فقط، وإن خمس عشرة رسالة من كتب العهد الجديد تحمل اسم الرسول المشار إليه، فلا محمل للحيرة إذا قلت أن المؤسس الحقيقي للمسيحية الحاضرة هو بولس، فإن شاول الشاب الطرسوسي من سبط بنامين. ومن مذهب الفريسيين وتلميذ أحد علماء الدهر عضو مجلس صانهدرين المدعو عمانيل ... الذي كان يجتهد اسم عيسى وأتباعه من الأرض، والذي رأى عدوه الناصرى في السماء لامعاً داخل الأنوار وقت الظهر أمام دمشق. اهتدى وسمى باسم بولس. وهو الذي وضع أساس العيسوية". والقسم الأعظم من أعمال الرسل يبحث من سباحات بولس الطويلة وجهوده ومتاعبه،

كتب العهد القديم والأناجيل والرسائل كتبت بإلهام في اعتقادهم:

فهل هو صادق في النقل عن المسيح، والأخبار عنه؟ للإجابة عن هذا السؤال موضعها عند الكلام في الإلهام الذي نحلوه لرسلهم، ونقد الكتب نقداً علمياً. كتب العهد القديم والأناجيل والرسائل كتبت بإلهام في اعتقادهم: 51- إلى هنا قد بينا الكتب، وذكرنا طرنا من حياة منشئيها، وأحوالهم ومقدار الاختلاف في نسبة الكتب إلى أصحابها، وقبل أن ننتقل إلى نقد هذه الكتب نقداً علمياً في متنها وإسنادها، نقول: إن المسحيين يقولون إن هذه الكتب كلها، كتبت بالإلهام أي بالوحي عن طريق الإلهام، وإنها لذلك لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلقها، فهي حق وصدق، لأنه موحي بها، وسواء ذي ذلك كتب العهد القديم، والعهد الجديد، سواء أكانت أناجيل أم رسائله تعليمية أم رسالة النبوة. ولذا يقول مؤلفو موجز تاريخ الأمة القبطية في شأن الكتاب المقدس: "الكتاب المقدس هو مجموع الأسفار التي كتبها رجال الله القديسيون بإلهام الروح القدس في أوقات مختلفة، وفيها أعلن الله مشيئته ووصاياه، وما قطعه من المواعيد، وما فرضه من المثوبة، وما فيه إرشاد للناس وخيرهم وخلاصهم وما أتمه من عمل الفداء" وبمراجعة ما كتبه شراحهم وعلماؤهم نفهم أن الإلهام عندهم، هو إلهام في المضمون الرئيسي، ولذا يقول هورن: "إذا قيل أن الكتب المقدسة أوحى بها من عند الله لا يراد أن كل الألفاظ والعبارات من إلهام الله، بل يعلم من اختلاف محاورات المصنفين واختلاف بيانهم إنهم قد جوز لهم أن يكتبوا، على حسب طباعهم وعاداتهم وفهومهم واستعمل علم الإلهام على طريقة استعمال العلوم الرسمية، ولا يتخيل إنهم كانوا يلهمون في كل أمر يبينونه، وفي كل حكم كانوا يحكمون به". إذن لم تكن كل الكتب المقدسة ملهمة من حيث أسلوب البيان، ومن حيث التصرف في التعبير، ومن حيث كل ما تشتمل عليه من معان بل موضع الإلهام فقط المعاني الرئيسية أو الرسمية، وبقية الأفكار والمعاني على حسب الطبائع والإفهام والعادات.

نظرة فاحصة

نظرة فاحصة 52- عرضنا على القارئ كلام القوم في كتبهم، وحاولنا أن نكون حاكين ولم نعلق عليها ولم ننقدها، ولم ننبه إلى وهنها، إلا إذا كان ذلك التنبيه قد نسبق إليه علماؤهم، والباحثون منهم، ووجهوا هم النقد إليه، أو كان الأمر من الوضوح بحيث يكون المرور عليه من غير تنبيه إلى موضع الضعف يجعل البحث غير منسق، وبعيداً عن الانسجام الفكري. والآن نريد أن ننتقل من النظرة الحاكية المتغاضية إلى النظرة الفاحصة الكاشفة، ولسنا نريد أن نحصى كل أوجه النقد التي وجهت، فإن ذلك يحتاج بيانه إلى مجلدات ضخام لكثرتها، وتعدد نواحيها، وكثرة دواعيها، ولكنا نكتفي بإيراد بعضها، ونترك الباقي للإطلاع عليه في مصادرة المسيحية وغير المسيحية: ما يجب أن يكون في الكتاب الديني من صفات ليكون حجة: لأجل أن يكون الكتاب الديني حجة - يجب الأخذ به على إنه شريعة الله ودينه، ومجموع أوامره ونواهيه، ومصدر الاعتقاد، وأساس الملة - يجب أن يتوافر في هذا الكتاب أمور: أحدها: أن يكون الرسول الذي نسب إليه قد علم صدقه بلا ريب ولا شك، وأن يكون قد دعم ذلك الصدق بمعجزة، أي بأمر خارق للعادة قد تحدى به المنكرين المكذبين، وأن يشتهر أمر ذلك التحدي وهذا الإعجاز، ويتوارثه الناس خلفاً عن سلف، ويتواتر بينهم تواتراًً لا يكون للإنسان مجال لتكذيبه. ثانيها: إلا يكون ذلك الكتاب متناقضاً مضطرباً يهدم بعضه بعضاً فلا تتعارض تعليماته، ولا تتناقض أخباره، بل يكون كل جزء منه متمماً للآخر ومكملاً له، لأن ما يكون عن الله لا يختلف، ولا يفترق، ولا يتناقض، بل أن العقلاء، في أقوالهم، وفي كتبهم، يتحرون إلا يتناقض قولهم، ولا يختلف بتفكيرهم. ثالثها: أن يدعى ذلك الرسول إنه أوحى إليه به، ويدعم ذلك الإدعاء

تطبيق هذه الشروط على كتب النصارى:

بالبينات الثابتة، وهي المعجزات التي بعث بها الرسول، ودعا إلى كتابه على أساسها، ويثبت ذلك الإدعاء بالخبر التواتر، أو يثبت بالكتاب نفسه. رابعها: أن تكون نسبة الكتاب إلى الرسول الذي نسب إليه ثابتة بالطريق القطعي، بأن يثبت نسبة الكتاب إلى الرسول، بحيث يتلقاه الإخلاف عن الأسلاف، جيلاً بعد جيل من غير أي مظنة للانتحال. وأساس ذلك التواتر أن يروى جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، حتى تصل إلى الرسول بحيث يسمع كل فرد من الجمع الراوي عن الجمع الذي سبقه، والذي سبقه كذلك، حتى يصل إلى الرسول الذي أسند إليه الكتاب، ونسب إليه، ونزل به الوحي عليه. تطبيق هذه الشروط على كتب النصارى: 53- إن الكتب في الدين هي أساسه، فإن لم تكن مستوفيه الشروط السابقة لم يكن الاطمئنان إلى صحتها كاملاً، وتطرق إليها الريب والظن من كل جانب، وبذلك يتهدم الذين من أساه، ويؤتى من قواعده، ولا يكون شيئاً مذكوراً في الأديان، بل يكون طائفة من أساطير الأولين اكتتبها طائفة من الناس، وأدعوها ديناً، ونسبوها لشخص معترف به، لتروج عند العامة، وتدخل في أوهامهم، ويعتمدون على الزمان في تمكينها في نفوسهم وقلوبهم. وهل الكتب المقدسة عند النصارى سواء أكانت من كتب العهد القديم أم العهد الجديد مستوفيه هذه الشروط، فتكون ملزمة للكافة؟. لا يزعم النصارى أن هذه الكتب كتبها المسيح نفسه، حتى ننظر في قوة نسبتها إليه، ولكن يزعمون أن الذين كتبوها رسل من بعده مبعوثون بها، يبشرون الناس بما فيها، فنبحث، هل هؤلاء رسل حقاً وصدقاً قد ثبتت رسالتهم بدليل لا مجال للريب فيه؟. لقد قلنا أن الطريق لذلك أن يدعوا هم هذه الرسالة ويثبتوها بمعجزة يجريها الله على أيديهم، ويتحدوا الناس ليدفعوهم إلى الإذعان أو ليسجلوا عليهم الكفر بعد أن يقوم الدليل عليهم.

مناقشة ادعاء الإلهام في سفر الأعمال:

إننا نبحث في مراجعهم فلا نجد مرجعاً صحيحاً قرر أن هؤلاء أدعوا مثل هذه الرسالة، ودعوا الناس إلى الإيمان بها، ومعهم البرهان عليها، والدليل القائم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. نعد قد نجد في رسالة أعمال الرسل ذكراً لأخبار تلاميذ المسيح، وإن روح القدس تجلى عليهم، وإنهم كانوا يأتون بأمور خارقة للعادة، وسماهم كاتب تلك الرسالة رسلاً، ففيها يذكر أن عدد الأصحاب بعد المسيح أحد عشر، وهو: بطرس، ويعقوب، ويوحنا، وأندراوس، وفيلبس، وتوما، وبرثولماس، ومتى، ويعقوب بن حلفى، وسمعان الغيور، ويهوذا أخو يعقوب، وأن بطرس وقف وألقى في وسط التلاميذ - الذين بلغوا نحو عشرين ومائة - خطبة وأنهم امتلئوا جميعاً بروح القدس، وتكلموا بألسنة غير ألسنتهم. ثم يذكر أن بطرس شفى لأعرج من عرجه، ومات من كذب عليه، بعد أن كشف كذبه واختلاسه، هو وامرأته. ذكر سفر الأعمال هذه وذكر عجائب أتى بها بولس في زعمه في آخر ذلك السفر أيضاًَ. وكذلك نجد في إنجيل لوقا إنه يذكر أن المسيح أرسل سبعين رجلاً ليبشروا باسمه، وإنهم عادوا يقولون له: "حتى الشياطين تخضع لنا باسمك، فقال لهم: رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء، وهاأنذا أعطيكم سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب، وكل قوة العدو، فلا يضركم شيء، ولكن لا تفرحوا بهذا لأن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السموات". مناقشة ادِّعاء الإلهام في سفر الأعمال: 54- ونريد أن نناقش سفر أعمال الرسل وإنجيل لوقا في هذا المقام لنعرف منه من هم هؤلاء الرسل، لم يذكر سفر الأعمال أسماء العشرين والمائة الذي ملئوا من روح القدس، نعم إنه ذكر أسماء الحواريين الأحد عشر، وليس منهم من ينسب إليه كتب أو رسائل، سوى متى وبطرس، ويوحنا ويعقوب ويهوذا.

الرسل غير معروفين:

وقد علمت بعض ما في نسبه إنجيل متى ويوحنا إليهما. وأما بطرس والباقون فلهم رسائل، ولم يكن معترفاً بصحتها هي ورسائل يوحنا إلى سنة 364 حتى إن مجمع نيقية لم يتعرف بصحة نسبتها إلى أصحابها. وقد كان سنة 325. وإذا كان سفر الأعمال لم يذكر أسماء العشرين والمائة، ولم يذكر كذلك إنجيل لوقا أسماء، فكيف تؤمن برسالة لم تعرف أسماؤهم؟ نعم كانت تذكر بعد ذلك أسماء أشخاص، ويوصفون بأنهم رسل، ولكن لم يذكر أهم من العشرين والمائة، أم ليسوا منهم، ومن المؤكد أن بولس لم يكن في العدد الذي ذكر في الأعمال، ولا في العدد الذي ذكر في إنجيل لوقا. إذن لا مقتنع فيما جاء في سفر الأعمال. ولا في إنجيل لوقا، لأنه لم يذكر أسماء هؤلاء معينين بالاسم, ثم من هو مؤلف سفر الأعمال؟ قالوا إنه لوقا صاحب الإنجيل. إذن فالمصدر هو لوقا في الاثنين، ولوقا قد بينا إنه طبيب وقيل إنه مصور، أو هو طبيب مصور، فهل هو كان من تلاميذ المسيح أو كان من تلاميذ تلاميذه؟ لم يثبت شيء من ذلك، وكل ما ثبت من صلته برجال المسيحية إنه كان من أصحاب أو تلاميذ بولس، وإذن فروايته عن هؤلاء وعن المسيح ليست رواية من شاهد وعاين، وعلى ذلك يكون السند غير متصل بين لوقا والمسيح، أو تلاميذ المسيح. الرسل غير معروفين: 55- لم تعرف إذن حقيقة هؤلاء الرسل، ومن هم بسند صحيح، فضلاً عن أن يكون السند قطعياً، وإذا كنا لا نعرف من هم، فكيف نؤمن لهم بمعجزات؟ إن المصدر الذي ذكر المعجزات هو نفس المصدر الذي ذكر الرسل من غير أن يبين من هم، وهو راو لم يعاين ولم يشاهد. وعلى ذلك يكون الكلام في الإلهام، وإنهم رسل ملهمون لم يثبت بسند يصح الاعتماد عليه، والاطمئنان إليه، وبناء عقيد تشرق وتغرب على أساسه. ولكن لا نكاد ننتهي إلى النتيجة حتى نجد من مجادلي القوم، والمناظرين عنهم من يزعمون أن لوقا نفسه، صاحب سفر الأعمال، وصاحب الإنجيل كان من الرسل الملهمين فهو لا يحتاج إلى سند، لأن كل كلامه من الروح القدس الذي ملأه كما ملأ إخوانه الرسل، ولكن أين

لوقا صاحب سفر الأعمال لم يكن ملهما:

معجزته التي تثبت الهامة حتى نصدق كل ما جاء في كتابيه، ويؤمن مؤمن (يحترم الإيمان) بكل ما اشتملا عليه؟ لم يرد عندهم أي شيء يدل على إلهام لوقا، وإنه كان من العشرين والمائة الذين ألقى فيهم بطرس خطبته، وامتلئوا بروح القدس في زعمه، ولم يكن من السبعين الذين أرسلهم المسيح (كما ذكر في إنجيله) واخضعوا الأرواح وأخبرهم أن أسماءهم كتبت في السماء. ولسنا في ذلك إلا مطالبين بأن يثبتوا إلهام لوقا، لنصدق بأخباره عن الرسل وأعمالهم وعن إلهامهم، وامتلائهم بالروح القدس، وأعجازهم. لا يوجد أمانا أي دليل يثبتون به إلهام لوقا فيما كتب، حتى كنا نصدقه في كلامه عن الرسل الذين تجلى عليهم الروح القدس، وامتلئوا به، وإن كنا لا نعرف أشخاصهم، ولا شيئاً عن أسمائهم وأعمالهم. بل لقد وجدنا من كتاب القوم الباحثين من يصرح بأن لوقا لم يكن من الملهمين، وأن إنجيله لم يكن إلهامياً، وبالأولى رسالته لم تكن بإلهام، فقد قال من المحدثين، واطسن في المجلد الرابع من كتابه الإلهام ما ترجمته: "أن عدم كون تحرير لوقا إلهامياً يظهر مما كتب في ديباجه إنجيله ونصها: إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المستيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين، وخداماً للكلمة، رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به". وبمثل هذا القول من أن ما كتب لوقا ليس بإلهامي قال العلماء الأقدمون من المسيحيين، فيقول ارينوس: "أن الأشياء تعلمها من بلغها إلينا". لوقا صاحب سفر الأعمال لم يكن ملهماً: 56- لم يكن إذن لوقا ملهماً، أنه لا يوجد دليل يثبت إلهامه، ولأن مقدمة إنجيله كمقدمة رسالته تدل على إنه لم يكن ملهماً، ولأن الثقات من العلماء الأقدمين والمحدثين يقررون إنه لم يكن ملهماً فيما كتب، بل كتب ما تعلم، ولقن، لا ما أوحى إليه به وإلهم. وإذا كانت رسالة الأعمال هي المصدر المثبت لإلهام الرسل وامتلائهم

دعوى الإلهام ليست محل إجماع المسيحيين:

بالروح القدس، فيكون ذلك المصدر قد فقد صلاحيته للاعتماد عليه، لأنه لم يكن متصل السند بين لوقا والتلاميذ والمسيح، ولأن لوقا لم يكن ملهماً. وهذا كله على فرض صحة نسبة ما أسند إلى لوقا، وفي تلك الصحة كلام سنثبته في موضعه من بحثنا إن شاء الله. ليس عندنا إذن دليل نقلي عندهم يثبت رسالة من يسمونهم رسلاً، ويثبت معهم إنهم كتبوا بالإلهام، حتى يعتبر كلامهم وحياً أوحى به، ويجب تصديقه وقبوله، ولا نجد من الكتب ما يؤيد هذه الدعوى ويثبتها، بل إن راجعنا هذه الكتابات لا نجد أن كتابها يدعون لأنفسهم إنهم رسل، ولا من تلاميذه العشرين والمائة، ولا من السبعين الذين ذكرهم لوقا. وقد رأينا بطرس في رسالتيه يقدمهما بأنه رسول يسوع المسيح، ولم يذكر لنفسه وصف الرسالة المطلقة من الله. ولا نجد في عباراتهم ما يدل على إنهم كتبوا ما كتبوا بالإلهام، إلا رسائل بولس، فهو الذي يذكر في رسالته أنه يتكلم عن الله، وأحياناً يقول إنه يتكلم من نفسه. وإذن قلنا أن نقول أن أصحاب هذه الكتب والرسائل لا يدعون لأنفسهم الرسالة والإلهام إلا بولس الذي كانت صلته بالمسيحية على ما علمتم، وليس في كتبها ما يشهد له بالرسالة والإلهام، بله الإيمان إلا سفر الأعمال، وقد علمت قوة الاستدلال به، والاعتماد عليه في الاحتجاج والإثبات. دعوى الإلهام ليست محل إجماع المسيحيين: 57- وفي الحق أن دعوى إلهام الرسل في كل ما كتبوا لم تكن محل إجماع من كتاب المسيحيين في القديم والحديث، فطائفة من علماء إنجلترا قالوا في مؤلف كتبوه إن الذين قالوا أن كل قول مندرج في الكتب المقدسة إلهامي لا يقدرون أن يثبتوا دعواهم بسهولة، ثم قالوا: "إن سألنا أحد على سبيل التحقيق أي جزء تعتبرون من العهد الجديد إلهامياً، قلنا المسائل، والأحكام، والأخبار بالحوادث الآتية التي هي أصل الملة المسيحية - لا ينفك الإلهام عنها. وأما الحالات الأخرى فكان حفظ الحواريين كافياً لبيانها".

دعوى الإلهام باطلة ممن يدعيها:

وترى من هذا أن بعض العلماء لا يرون إن كل ما في كتب العهد الجديد إلهامي، بل منه الإلهامي وغير الإلهامي. ولكن هناك من يقول: إنه يشك في أصل الإلهام فيها، فهذا عالم مسيحي يقال له ريس يقول ناقلاً حاكياً بعض أقوال المتقدمين: "أن الناس قد تكلموا في كون الكتب المقدسة إلهامية، وقالوا إنه يوجد في أفعال مؤلفي هذه الكتب وأقوالهم أغلاط، واختلافات، فمثلاً إذا قوبلت الآيات 19، 20 من الإصحاح العاشر من متى و11 من الإصحاح الثالث عشر من إنجيل مرقس إذا قوبلت هذه الآيات بالآيات الست التي في سفر الأعمال في إصحاحه الثالث والعشرين يظهر ذلك الاختلاف جلياً. وقيل أيضاً أن الحواريين ما كان يرى بعضهم بعضا صاحب وحي، كما يظهر هذه من مباحثهم في محفل أورشليم، ومن إلزام بولس لبطرس، وقيل أيضاً أن المسيحيين القدماء ما كانوا يعتقدونهم منزهين عن الخطأ، لأنهم في بعض الأوقات تعرضوا له". ولقد قطع بعض العلماء بأن بعض هذه الكتب ليس من الإلهام في شيء فإنجيل متى على قول القدماء من المسيحيين، وقول جمهور المتأخرين الذين قالوا إنه كتب باللسان العبراني كما أسلفنا من القول، قد قالوا أن أصله فقد، وترجمته ليست بالإلهام. ويقول استادلن وغيره أن إنجيل يوحنا ليس بإلهام، وجميع رسائل يوحنا ليست بإلهام على رأي فرقة لوجين، وكذلك الرسالة الثانية لبطرس، ورسالة يهوذا، ورسالة يعقوب، والرسالة الثانية والثالثة ليوحنا، ورؤياه النبوي - كل ذلك عند الأكثرين ليس بإلهام، وكان كذلك إلى سنة 393 ميلادية". دعوى الإلهام باطلة ممن يدعيها: 58- ومهما يكن اختلافهم بالنسبة لكونها ملهمة كلها أو بعضها، وطريق الإلهام، فإدعاء الإلهام على فرض اتفاقهم عليه ليس له من البينات ما يثبته، ولا من الأدلة ما يقيم ادعاءه، ونحن نطالبهم بدليل. وكان يصح لنا أن نقف موقف المانع منعاًً مجرداً، نطالبهم بالدليل حتى يقيموه، ولكن تتميماً للبحث وتعريفاً للحقائق نثبت أن دعوى الإلهام

التضارب بين كتب العهد الجديد:

باطلة من أساسها، ليس لعدم إقامة الدليل عليها، بل لأن البينات قائمة ضدها، ذلك لأنها لو كانت بإلهام من الله كما يقولون لكانت صادقة في كل ما أخبرت به، وما وجد الباطل منفذاً ينفذ منه إليها، ولم يكن ثمة محل لتكذيبها، ولكانت متفقة غير مختلفة، ولم تكن متضاربة بأي نوع من أنواع التضارب، وذلك لوحدة من صدرت عنه، لأنها جميعاً صادرة عن واحد، وإن اختلف الناطقون بها، ولكنا وجدنا بينها اختلافات من أوجه عدة، ووجدنا فيها أخباراً تناقض ما علم في التاريخ وكان مشهوراً فيه، ولنذكر بعض هذه الأمور على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر. التضارب بين كتب العهد الجديد: (أ) أول ما يلقاك من أوجه اختلاف الأناجيل في الأمر الواحد الذي لا يقبل إلا حقيقة واحدة. اختلاف إنجيل متى عن إنجيل لوقا في نسب المسيح، فإن من يقابل بين نسب يوسف النجار متبني المسيح في الأناجيل يجد الاختلاف في ستة أرجه ذكرها الشيخ - رحمه الله - الهندي في كتابه إظهار الحق فقال: 1- في متى أن يوسف بن يعقوب، وفي لوقا أنه ابن هالى. 2- يعلم من متى أن عيسى من أولاد سليمان بن داود عليهم السلام، ومن لوقا أنه من أولاد ناثان بن داود. 3- يعلم من متى أن جميع آباء المسيح من داود إلى جلاء بابل سلاطين مشهورون، ومن لوقا إنهم ليسوا بسلاطين ولا مشهورين غير داود وناثان. 4- يعلم من متى أن سلتاثيل بن بكينا، ومن لوقا أن سلتاثيل ابن نيرى. 5- يعلم من متى أن اسم ابن زربايل أبيهود، ومن لوقا أن اسمه ربسا. والعجب أن أسماء بني زربايل مكتوبة في الباب الثالث من السفر الأول من أخبار الأيام من كتب العهد القديم. وليس فيها أبيهود ولا ريسا فكل منهما غلط.

6- من داود إلى المسيح عليهما السلام ستة وعشرون جيلاً على ما بين متى، وواحد وأربعون على ما ذكر لوقا. هذه أوجه اختلاف ستة في نسب المسيح عليه السلام وهو نسب يوسف النجار، الذي كان رجل مريم كما تذكر الأناجيل، وهذا الاختلاف الذي يعترف به المسيحيون، ولا يجدون مناصاً من الإقرار به يدل على أمرين: أحدهما: أن أحد الإنجيلين لم يكن بإلهام بيقين، إذا فرضنا أن أحدهما صادق والآخر كاذب، فالكاذب لا شك لم يكن بإلهام، وإلا كان الإله الذي أوحى به كاذباً، وذلك لا يليق بحسب بداهة العقل، ولما كان الصحيح منهما غير متعين فالشك يرد على الاثنين، حتى يثبت الصحيح، ويقوم الدليل على صدقه دون الآخر، ومع هذا الشك لا يمكن الاعتقاد بأن ثمة إلهاماً، لأن الشك أن أعترى الأصل زال الاعتقاد. ثانيهما: أن إنجيل متى لم يكن معروفاً للوقا، أي إنه لم يكن متدارسة معروفاً لدى العلماء في المسيحية. مع أن تدوين إنجيل متى يسبق تدوين إنجيل لوقا بأكثر من عشرين سنة على ما عليه جمهورهم، ولو كان لوقا يعرفه لراجعه، وما وقع في الخطأ الذي وقع فيه، أو على الأقل ما خالفه، وإذا لم يكن معروفاً لدى علماء المسيحية، وحوارييها ورسلها، فلابد إنه لم يكن معروفاً قط، أو بعبارة أصرح، ربما لم يكن موجوداً قط. ولا مناص من هذا إلا أن يقول أن لوقا كان يعرفه، وأطلع على حديث النسب فيه، وخالفه على بينه منه، لأنه لم يصدقه، وعلى ذلك لا يكون لوقا معترفاً برسالة متى، والإيحاء إليه، وإن ما كتبه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وإلا ما خالف مع علمه. وخلاصة القول في ذلك أن تلك المخالفة تنتج إحدى اثنتين: أما ألا يكون إنجيل متى معروفاً للرسول لوقا، وذلك يقتضي إلا يكون موجوداً. وأما أن يكون موجوداً يعرفه لوقا، ولكن لا يعترف به مصدراً صادق الرواية. وإحدى القضيتين لازمة حتماً، ولكن لا يعترف المسيحيون بكلتيهما.

(ب) ونجد في الإصحاح الخامس عشر من إنجيل متى إنه بعد مناقشة الفردسيين تقدمت إليه امرأة، ابنتها مريضة بالجنون تطلب شفاءها، ونص الخبر كما جاء في ذلك الإصحاح: "ثم خرج يسوع من هناك، وانصرف إلى نواحي صور صيداء. وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيدي يا ابن داود، ابنتي مجنونة جداً، فلم يجبها بكلمة، فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها، لأنها تصيح وراءنا". تجئ هذه القصة في الإصحاح الثامن من إنجيل مرقص بالنص الآتي: "ثم قام من هناك، ومضى إلى تخوم صور وصيداء، ودخل بيتاً وهو يريد ألا يعلم به أحد، فلم يقدر أن يختفي لأن امرأة كان بابنتها روح نجس سمعت به، فأتت وخرت عند قدميه، وكانت المرأة أممية وفي جنسيتها فينيقية سورية". ففي هذا النص يبين جنس المرأة بأنها فينيقية سورية، وإنها أممية ليست من اليهود، وفي الأولى توصف بأنها كنعانية أي ليست فينيقية، فأيها الأحرى بالقبول؟ لاشك إنه لا يمكن أن تكون الروايتان صادقتين معاً، بل لابد أن تكون أحداهما كاذبة وليست بإلهام من الله، لأن الله لا يكذب، وإذا كانت أحداهما ليست صادقة بيقين، وكاذبة بيقين، ولم يدر أيتهما الكذابة المفتراة، فالشك إذن ملازم الاثنتين لا ينفصل عنهما، حتى نتبين الصدق من الكذب، ولا سبيل إلى ذلك، ولا يمكن أن نثبت لأيهما إلهاماً مع هذا الشك الملازم الذي لا سبيل إلى إزالته. (جـ) وقد اختلف خبر القبض على المسيح لمحاكمته في متى عن يوحنا، ففي متى جاء في ذلك بالإصحاح السادس والعشرين ما نصه: وفيما هو يتكلم، وإذا يهوذا واحد من الاثني عشر قد جاء، ومعه جمع كثير بسيوف وعصى من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب، والذي أسلمه أعطاهم علامة قائلاً: "الذي أقبله هو أمسكوه فالوقت تقدم إلى يسوع؟ وقال السلام يا سيدي وقبله، فقال يسوع يا صاحب لماذا جئت؟ حينئذ تقدموا، وألقوا الأيادي على يسوع وأمسكوه" هذا ما جاء متى، وجاء في يوحنا في هذا المقام ما نصه: "فأخذ يهوذا الجند وخداماً من عند رؤساء الكهنة والفريسيين وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح فخرج يسوع، وهو عالم بكل ما يأتي، وقال لهم: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري،

قال لهم: أني أنا هو، وكان يهوذا مسلمه أيضاً واقفاً معهم، فلما قال لهم إني أنا هو رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض، فسألهم أيضاً من تطلبون؟ فقالوا يسوع الناصري، أجاب يسوع قد قلت لكم: أني أنا هو، فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون ليتم القول الذي قاله: إن الذين أعطيتني لم أهلك أحداً". وترى هنا اختلافاً بينا بين الروايتين، فمتى يقول: أن يهوذا هو الذي أعلمهم بالمسيح بالعلامة التي اتفق معهم عليها، وهي تقبيله، ويوحنا يقول: إن المسيح هو الذي قدم نفسه وكفى يهوذا مئونة التعريف، ولا شك أن ذلك الاختلاف البين في رواية حادثة واحدة يجعل إحدى الروايتين كاذبة والثانية صادقة، والكاذبة ليست بإلهام، فإحداهما ليست بإلهام، ولا سبيل إلى معرفتها فيثبت الشك في الروايتين. وفي الحق أن من يراجع الأناجيل في خبرها عن القبض على المسيح وحبسه، ثم محاكمته وصلبه في زعم النصارى، ثم قيامته من قبره، يجد الاختلاف في أخبارها اختلافاً بينا، ولو كان بعض هذا الاختلاف في شهادة اثنين يشهدان في درهم ما ثبت بشهادتهما دعوى، ولا انتصر بها حق. ولتراجع الأناجيل في هذا المقام لتعرف مقدار الصحة في خبرها، ولتعرف مقدار ما في دعوى الإلهام لكاتبيها عند كتابتها من حق، فلا شك أن ذلك الاختلاف الذي لا يمكن التوفيق بين متناقضة يؤدي إلى أن تلك الأناجيل يأتيهما الشك من كل جانب، يأتيها من بين يديها، ومن خلفها، فلا يمكن أن تكون إلهاماً من حكيم حميد. وإن ذلك الاختلاف فيما أحاط بمسألة الصلب - فوق إنه يفقد الثقة بالأناجيل، هو أيضاً يجعل خبر الصلب عند القارئ الخالي الذهن الذي لم يكن في ذهنه قبل القراءة ما ينفيه أو يثبته موضع الشك الذي يرجح فيه الرد على القبول، والتكذيب على التصديق. (د) وفي موت يهوذا الذي خان المسيح على زعمهم، اختلف رواية متى عن رواية لوقا في سفر أعمال الرسل. فمتى يقول: إنه خنق نفسه ومات، كما جاء في الإصحاح السابع والعشرين.

ولوقا يقول في سفر الأعمال: إنه خر على وجهه، وانشق بطنه، فانسكبت أحشاؤه كلها ومات. ولا شك أن بين الروايتين اختلافاً، لأن الموت بالخنق غير الموت بشق البطن، ولابد أن تكون أحداهما على الأقل كاذبة. ولكنها غير معلومة، فيتطرق الشك إلى الأخرى فيردان معاً، ولا يمكن أن تكونا بإلهام أو لا يمكن مع ذلك الشك الإيمان بأن كلتيهما بإلهام. (هـ) قد اشتمل بعض هذه الكتب على أخبار لو صحت لكانت معلومة مشهورة في التاريخ يعرفها الخاص والعام، ولدونتها كتب التاريخ على إنها حوادث مفردة عجيبة في الدهر. ولكن لم يرد لها ذكر في التاريخ، ولم يعرف الناس أمرها إلا من تلك الكتب. هذا متى يقول عند صلب المسيح وقيامته: فصرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح، وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا لكثيرين. وأما قائد المائة والذين معه يحرسون يسوع فلما رأوا الزلزلة، وما كان، خافوا جداً، وقالوا: حقاً كان هذا ابن الله". وهذه حادثة عظيمة لو صحت لدونها التاريخ العلم الذي لم يشر إلى المسيح بكلمة، ولو صحت أيضاً لآمن الرومان واليهود، الصخور تتشقق، والأرض تزلزل، والأموات ينتشرون، ويسيرون على الأرض، ويراهم الكثيرون، ويبقى بعد ذلك مساغ لإنكار، ولكن لم ترد أخبار بإيمان أحد من اليهود على أثر تلك البينات الباهرات. ولقد جزم العلامة المسيحي نورتن يكذب هذه الحكاية، وقال في تكذيبها: "هذه الحكاية كاذبة والغالب أن أمثال هذه الحكاية كانت رائجة في اليهود بعد خراب أورشليم، فلعل أحداً كتب هذه الحكاية في النسخة العبرانية، وأدخلها الكتاب في المتن، وهذا المتن في يد المترجم فترجمها كما وجدها". ونقول: لعل كثيراً مما في المتن أصله في الحاشية ثم نقل خطأ في المتن، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يكون هذا الكتاب وأشباهه مصدراً

التناقض بينها مبطل لإدعاء الإلهام وبيان إنكارهم لبعضها ثم اعترافهم به:

لاعتقاد جازم، وإيمان بدين، وكيف يزعم زاعم أن هذا الكتاب بحواشيه الدخيلة غير المعلومة من متنه الأصيل، هو بإلهام من الله العلي القدير؟! ولكن في العالم عقول تقبل ذلك. بيد إنه من الإنصاف لهذه العقول أن نقول: أنهم يقيمون غواشي تمنع نورها أن يكشف عن موضع الضعف فيها فهي لا تقبله على نور وبينة، وسلطان مبين. 59- هذه بعض المتناقضات بين هذه الكتب بعضها مع بعض وبعض مناقضتها للعقل والمدون في التاريخ، وإنَّا نحيل القارئ في هذا المقام إلى كتاب إظهار الحق للشيخ - رحمه الله - الهندي: فقد أتى بأكثر من مائة اختلاف بين هذه الكتب، وجبه بما مناظريه، فلم يحيروا جواباً، ولم يستطيعوا خطاباً، ولسنا نريد أن ننقلها برمتها منه فليرجع القارئ إليه، فسيجد الغريب. التناقض بينها مبطل لإدعاء الإلهام وبيان إنكارهم لبعضها ثم اعترافهم به: وإذا كانت هذه الكتب متناقضة متضاربة يلحق الكذب كلها في حملتها وأجزائها عند مناقشتها فهي إذن ليست بإلهام، ويكفي هذا بطلانا لمدعاهم في الإلهام. وإن نسبة هذه الكتب إلى من نسبت إليهم على ما فيها، وعلى إنها في ذاتها ليست حجة، هي موضع شك كثير، فإنه ليس لهم سند متصل يصل هذه الكتب في أقدم العصور التي عرفت فيها - بالكاتبين لها، فهي لم تعرف معرفة كاملة قبل مجمع نيقية الذي كان في سنة 325، ولم يجئ ذكر لها قبل ذلك إلا على لسان أرينيوس سنة 200 وكليمنس سنة 216. بل إن مجمع نيقية لم يعترف بكثير منها، فإن ذلك المجمع لم يعترف بما يأتي: 1- برسالة بولس إلى العبرانيين. 2- ورسالة بطرس الثانية.

3، 4- ورسالة يوحنا الثانية والثالثة. 5- ورسالة يعقوب. 6- ورسالة يهوذا. 7- ورؤيا يوحنا التي تسمى "الكتاب النبوي" ولم يحكم بصحة هذه الكتب إلا في مجمع لوديسيا سنة 364. انقطاع السند في نسبتها لكاتبيها: فقبل سنة 364 لم يعترف بصحة هذه الرسائل السبع، وقبل سنة 325 لم تكن الكتب كلها معروفة أو مختصة بذلك التقديس. وآخر كتاب من هذه الكتب كتب في القرن الأول، فبين آخر كتبهم تدويناً في زعمهم، ومعرفته والاعتراف به أكثر من خمس وعشرين سنة ومائتين لا راوي برويها، وقد وقع بهم من الأحداث في هذه المدة ما يذهب باللب ويضيع الرشد، وينسي المرء معه كل شيء، وإن الكتب نفسها لم تسلم من الاضطهاد. فقد أصدر أحد أباطرة الروم سنة 303 أمراً بهدم الكنائس وإحراق الكتب، وعدم اجتماع المسيحيين لأداء عباداتهم، فتفذ الولاة الأمر، فهدموا الكنائس، وحرقوا الكتب، وأتوا على كل ما للمسيحيين من بيوت عبادة وكتب، هدماً وتحريقاً، ومن سبق إلى ظنهم إنه أخفى كتاباً عذبوه عذاباً شديداً، حتى يعلنه فيحرق. ومن قبل ومن بعد أنزلوا البلاء بعلمائهم، فما تركوا عالماً منهم بالديانة إلا قتلوه، وكان الولاة يتفننون في طرق إبادة المسيحية من الوجود، أبادوا العلماء حتى لا يوجد من يرشد إليها، ويتوارث العلم بها، وأبادوا الكتب حتى لا تحفظ تلك الديانة في الصدور أو السطور. ولا شك أن ذلك الاضطهاد الذي دام إلى صدر القرن الرابع يجعل الكتب التي رويت قبل ذلك موضع شك في نسبتها إلى قائليها، حتى يقوم دليل على صحة تلك النسبة، ولم يقيموا أي دليل، لأن السند منقطع بينها وبين من تنسب إليهم، والحبل بينهم وبينها غير متصل بأوهى أنواع الاتصال، لأن السند المتصل الذي يطمئن معه القارئ لكتاب، فيغلب على ظنه إنه صادق النسبة إن نسب إليه، هو أن يروى ثقة عن ثقة مثله حتى يصل السند إلى من لقي المؤلف فيقول: سمعته منه أو تلقيته عنه،

موازنة قس بين أحاديث الرسول وكتبهم من حيث الرواية:

أو قرأته عليه كما ترى في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويكون كل راو من تلك السلسلة المتصلة حلقاتها عدلاً ثقة، ضابطاً حافظاً، وإذا كان السند غير متصل بين ذيوع هذه الكتب واشتهارها، وبين قائليها، فقد ذاعت بعد سنة 364، ومن نسبت إليهم كتابتها كانوا في وسط وآخر القرن الأول، فالعقل يتشكك في هذه النسبة، ولا يثبت مع الشك كتاب يكون حجة لديانة. هذه كتبهم، اعتقدوا إنها كتبت بإلهام من كتابها، ولم يقيموا أي دليل على دعوى الإلهام، وبدراستها يتبين التناقض بينها، مما يثبت إنها ليست بإلهام من الله، وبدراسة تاريخها يثبت إنها منقطعة السند عمن نسبت إليهم. موازنة قس بين أحاديث الرسول وكتبهم من حيث الرواية: 60- ولقد جرؤ قس اسمه إبراهيم سعيد في شرحه لإنجيل لوقا، فعقد موازنة بين روايته، ورواية أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن الذي يطالع ديباجة بشارة لوقا يستعيد إلى ذاكرته ديباجة الأحاديث في الإسلام، غير إنه إذا تشابهت الديباجتان في بعض الأوجه، فإن أوجه الخلاف تفوق بكثير أوجه الشبه، فمن أوجه الشبه: (أ) أن بشارة لوقا والأحاديث كلاهما ترجمة حياة، وأقوال مؤسس لدين واسع الانتشار. (ب) إن الذين كتبوها أخذوها من أقوال مسلمة إليهم. إلى هنا فقط تنتهي أوجه الشبه، أو تبتدئ زاوية الانفراج تتسع إلى أن تختفي خطوطها مع رسوم الأبد. (أ) فالأحاديث النبوية كتبها أناس أخذوها عن أناس آخرين، وهؤلاء الآخرون أخذوها عن التابعين، وهؤلاء أخذوها عن الصحابة، والتبر متى تنقل بين الأيدي الكثيرة أمتزج بكثير من التراب، أن لم يتحول تراباً، ولكن لوقا أخذها عن شهود عيان ممن رأوا المسيح، وخدموا إنجيله. (ب) نقلت الأحاديث النبوية عن رواة، وما إنه الأخبار إلا رواتها لكن سيرة المسيح سجلها مؤرخون محققون للأمور المتيقنة عندهم.

بيان ما في كلامه من زيف:

(جـ) كانت مهمة كتبة سيرة نبي الإسلام جمع الأحاديث وتكديسها، لكي يظفروا بأكبر عدد ممكن، وكانت مهمة لوقا التمحيص العلمي، إذ كان هو طبيباً عملياً، علمياً دقيقاً. بيان ما في كلامه من زيف: 61- هذا نص ما كتبه ذلك القس في الموازنة بين أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنجيل لوقا، ونحن نقره في أن أوجه الاختلاف تنفرج زاويتها، حتى لا يتلاقى المتشابهان بعدها، وأن شئت الحق الخالص من كل تمويه، والصدق الخالي من كل تزوير فقل إنه لا تشابه بينهما، كخطين متوازيين لم يتلاقيا، ولن يتلاقيا قط. ولكن أذلك الاختلاف يعلى الأحاديث أم يعلى البشارة المنسوبة للوقا؟ هنا نختلف مع القس. فهو يزعم أن ذلك الاختلاف يعلى بشارة لوقا، وبفقد الثقة أحاديث الرسول، وهو لكي يؤيد هذا الزعم يأتي بالمحاسن فيسميها مساوئ، ويعرض لما يوجب الثقة، فيزعمه دليل نقيضها، وهو في هذا كمن يزعم قبح الشمس في نورها الرائع، وضوئها الساطع، وقبح القمر في صفائه، وانبلاجه في ظلمة الليل البهيم، ثم يستعين في تقبيح المحاسن إلى التشبيهات والأخيلة والرموز، كشأن المموهين دائماً، عندما يحاولون طمس المعقول ورد المقبول. ومعارضة ما تنتجه بدائه العقول، والمنطق المستقيم. يقول أن الأحاديث كتبها ناس عن ناس حتى يصلوا إلى التابعين، فالصحابة، وبشارة لزقا أخذها عن شهود عاينوا، ويرى أن رواية بشارة لوقا هي المثلى، ورواية الأحاديث ليست المثلى. ويستدل على ذلك بأن التبر متى تنقل بين الأيدي أمتزج بالتراب أو تحول إلى تراب، فأي دليل هذا؟ ومن أي أبواب الأقيسة المنطقية، ومن أي أشكالها؟ أن ذلك ليس من المنطق في شيء، ولا يمت إليه بنسب، بل لا نستطيع أن نقول أن ذلك قياس خطابي، لأن الأقيسة الخطابية، وإن كانت ظنية لا تناقض العقل، ولا تكذب على البدائه، ولكنا مع ذلك نناقش ذلك الاستدلال. إن أحاديث الرسول رويت بسند متصل، وذلك عيبها في زعم هذا الكاتب، وبشارة لوقا لم ترو بسند متصل، وذلك حسنها، وإذا قال لك

قائل: أين ما تثبت به إنه روى عن شهود عاينوا، ومن هم هؤلاء الذين عاينوا وأخبروه؟ ولماذا لم يتولوا هم التدوين، وهم أولى بذلك، وكلامهم أحرى بالتصديق، فلا جواب عنده بلا ريب. فأيتها العقول المستقيمة، أي الخبرين أحرى بالقبول، خبر من ذكر إنه روى عن فلان العدل المعروف بالصدق والتقوى، وعينه، وعدالته مشهورة، وصدقه معروف، أم خبر من ذكر لك إنه روى عمن عاين ولم يبين من هو، ولم يخبر عنه؟ فلم نعرف أهو ثقة مقبول الرواية أم هو غير ثقة كيهوذا الأسخريوطي؟ إن أقصى ما يقال هو أن لوقا نقل عن بولس، لأنه كان رفيقاً له في بعض أسفاره، ولكن بولس نفسه لم يكن من تلاميذ المسيح الذين عاينوا وشاهدوا بل كان في صدر حياته حرباً عليهم وألباً، أذاقهم البلاء اكؤساً، والشر ألواناً، فهو راو يحتاج إلى من يوثقه، إن أدعى أن لوقا روى عنه، وذلك ما لم يقله حضرة القس. ولننتقل إلى مناقشة تشبيه الذي ذكره دليلاً: أن التبر إذا انتقل إلى أيد تستطيع صيانته وحياطته - تحفظه من التراب، وتصونه من الاختلاط به وتميط عنه كل ما يخالط جوهره، فيزداد بهذا الحفظ بريقاً وصفاء، أن أحاديث الرسول نقلها ثقات صانوها وحفظوها، ولكن يظهر أن القس يأبى في مناقشته إلا أن يخالف كل معقول، حتى يكون كل كلامه متفقاً مع الباعث عليه والداعي إليه، فيزعم أن التبر قد يتحول إلى تراب إذا تناقلته الأيدي. فأيها الناس، ويأيها العرب والعجم، ويأيها الشرق، ويأيها الغرب هل علمتم أن الذهب يتحول إلى تراب، ولكن القس المرشد الرشيد يقول ذلك فصدقوه وكذبوا العقل والحس والمشاهدة. ثم من الذي روى لنا تلك البشارة عن لوقا؟ أن السند يجب أن يكون معروفاً حتى لوقا، قبل أن نتعرف النسبة بين لوقا والمسيح، أن بشارة بوقا كتبت كما يزعم النصارى في العشرة السابعة بعد المسيح من غير أن يعينوا الزمن تعييناً دقيقاً، ولكن لم يرد في التاريخ، ولا على ألسنة الرؤساء والقسيسين أي ذكر لها إلى سنة 200 ثم ذكرت الأناجيل الأربعة على سلن اثنين من العلماء فقط من سنة 200 إلى سنة 325، ولم نعرف أهذه الأناجيل المدونة المسطورة الآن هي التي جاء ذكرها على لسان

عالمين من علمائهم في فترة من التاريخ قدرها خمس وعشرون سنة وثلاثمائة، وهي فترة طويلة. ولكن مع كل هذا يستحسن القس إبراهيم سعيد تلك الحال، فقد زينت له فرآها الأمر الحسن الجدير بالثقة. ورأى غيرها الأمر القبيح الجدير بالرد. وهل نطالب ذا رمد أن يفتح عينية في ضوء الشمس، أو نطالب من فقد حاسة الشم أن يدرك أريج الزهر، وعرف الطيب، أو نطالب من أيفت منه المشاعر أن يكون صادق الحس دقيق الشعور. 62- ولننتقل إلى الفرق الثاني الذي ذكره معلياً لبشارته، ومنزلاً بأحاديث نبيناً عليه الصلاة والسلام يقول: فقلت الأحاديث عن طريق رواة، وما آفة الأخبار إلا رواتها، أما سيرة المسيح فقد سجلها مؤرخون محققون للأمور المتيقنة عندهم. هذا ما ذكره بنصه تقريباً، وهو يبين أرجحية أخبار أناجيله عن سيرة المسيح بأنها رواها التاريخ، أما عن السنة فراوية رواة، وآفة الأخبار رواتها، ولا نريد مناقشة تلك الكلمة العامية التافهة "آفة الأخبار رواتها" فإنها لا تصلح مقدمة لدليل علمي، ولو أن طالباً ممن تلقوا العلم عليما قالها لعركنا أذنه وأسررنا إليه أن رواة الأخبار الذين هم آفاتها إنما هم الكاذبون، وأما الصادقون العادلون، فليسوا آفاتها بل حملتها، وإلا ما صحت شهادة، ولا قبل القضاء بينات، ولا ثبتت حقوق، ولا أدين منهم، ولا برئ بريء. ثم يقول إن أناجيله سجلها مؤرخون محققون، فكيف نسميهم؟ أرواة رووا عن غيرهم؟ إن كانوا كذلك، فقد سجل على سيرته ما عنده قبيحاً عند غيره، وإن كانوا مؤرخين لم يتعرفوه بطريق الرواية، بل بالنقش على الأحجار، أو فيما استبطنته بطون الآثار، فأي أثر هذا وجدوا تلك الأناجيل منقوشة عليه، ومدونة فيه، وأثبت التحقيق العلمي أنها ترجع إلى عصر المسيح، وإنه هو الذي ألقاها، أو أن تلاميذه دونوها عنه؟. إن أخبار التاريخ تثبت بأحد أمرين، أما بالرواة يروون، أو بالآثار ينقبون فيها، ويتعرفونها منها، لم تثبت الأناجيل بواحد من الأمرين، فليست ثمة رواية لها ولا رواة، وهم ينزهونها عن ذلك، ولا آثار تنطق

بها، وتعلن خبرها فهي إذن يرفضها التاريخ، ولا يمكن أن يسجلها مؤرخون محققون قط، وإن التاريخ لا يعرف لها ذكراً إلا من مجمع نيقية أو بعده. فهي مسندة إلى ثمانية عشر وثلاثمائة اجتمعوا في نيقية، وليست محققة النصبة لغيرهم بل بعضها ليس محقق النسبة عندهم، وبين هؤلاء وبين المسيح خمس وعشرون سنة وثلاثمائة!! وبعد هؤلاء المجتمعين تناقلها الرواة عنهم، وأن أغضب ذلك حضرة القس، وأن ذلك المجمع لنا فيه كلام، سنقوله في موضعه. 63- ولننتقل إلى مناقشة الفرق الثالث الذي قلنه رافعاً مؤرخيه إلى مرتبة الثقة، يقول: كما كانت مهمة كتبه سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمع، ليظفروا بأكبر عدد من الأحاديث. وأما مهمة لوقا، فقد كانت التحقيق والتمحيص، وهنا نرى القس أخذ يجد بعد الهزل، ويقول بعد الهذر، ولكنه إذ ابتدأ يجد قد كذب وأعظم الفرية على أحاديث نبينا، وأدعى على بشارة لوقا ما ليس فيها، فأي تحقيق علمي فيها، وأي تمحيص اشتملت عليه؟ إنها لا تفترق عن غيرها من حيث اشتمالها على أمور غريبة، وأشياء عجيبة، ولم يبين لنا رأيه فيها، بل كان قاصاً ككل القصاص، ولا يرفعها إنه كان طبيباً، لأن نسبتها إليه موضع شك كبير، ولم يتفق الكتاب على شخصه كما بينا، ولم يتفقوا على أنه كان طبيباً، بل منهم من قال إ، هـ كان مصوراً، وعلى ذلك تكون دعواه التمحيص في بشارة لوقا لا تؤيدها ما دون فيها، ولا تؤيدها نسبتها إلى لوقا. ولننتقل بعد ذلك إلى رد افترائه، وكذبه على أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن المطلع على أخبار رواتها العدول، وما كتب في صحاحهم يتبين له إنهم ما كان همهم الجمع، بل كان همهم التنقيب والبحث فإنهم ما كانوا يروون كل ما يتلقون، بل يختارون الصادق مما يتلقون، وإن الذي يرفضون كلن أضعاف ما يقبلون وينقلون، لأنهم كانوا يتحرون الصدق ليتميز الخبيث من الطيب، وإن الصحابة كانوا يتهمون من يكثر من الرواية خشية أن يخبر عن الرسول بغير ما رأى وشاهد، فكيف يقول ذلك الرجل على غير علم، أو محرفاً الكلم عن مواضعه: "إن رواة الأحاديث كان همهم الجمع"، كلا إنهم كانوا ينقدون ما يروون، ينقدون السند أولاً، فلا يقبلون إلا من الرواة الذين أشتهر صدقهم وضبطهم وفهمهم

نظرة في الوحي في الإسلام والوحي في المسيحية:

لما يحملون ويروون، وينقدون متن الحديث، فيعرضونه على الكتاب وما أشتهر من السنة واستفاضت به الأخبار، وما علم من هذا الدين بالضرورة فإن لم يخالفها بعد أن روى بسند متصل مكون من عدول كان مقبولاً، وإلا كان مردوداً، ونريد أن نهمس في أذن حضرة القس الرشيد بأن من أسباب ردهم لبعض الأحاديث ورفض نسبتها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام - عدم موافقتها للعقل، فهل له أن يطبق ذلك النقد على أناجيله ورسائله؟ إنا ننصح له أن يفعل، لأنا نريد له الهدى، لا الضلال، والرشد لا الغي، وهي نية نحتسبها عند الله. نظرة في الوحي في الإسلام والوحي في المسيحية: 64- نريد أن نختم مناقشتنا لذلك القسيس بمناقشة كلمة ذكرها: وهي التفرقة بين الوحي في الإسلام والوحي في المسيحية. فيقول عن الوحي في الإسلام: "أن الوحي في الإسلام هو التجرد عن كل شيء إنساني، وتلاوة ما يسمونه اللوح المحفوظ، ولكن الوحي في المسيحية يجمع بين العنصر البشري والعنصر الإلهي، أي الملهمات الإلهية تتجسد في لباس لغوي بشري، لتكون مفهومة لدى الناس الذين تبلغ إليهم، فالكلمة المعلنة المكتوبة في الإنجيل هي رمز لكلمة الله، الوحي المعلن لنا حق الله. من أجل هذا يعتقد المسيحيون أن الوحي بالروح القدس لا يحرم على الموحي إليهم استخدام الوسائل البشرية الاجتهادية الممكنة لديهم ولا يرفع من الكاتب مسئولية الاجتهاد، والتحقيق والتدقيق، هذا بخلاف الإعلانات المحتوى عليها كتاب الوحي التي لا تتدخل فيها مواهب الكاتب الطبيعية، بل هي من الله أولاً وأخراً، كالنبوات المتفرقة في كل أجزاء الكتاب المقدس، وسفر الرؤيا". معنى الوحي: هذه كلمته، ونريد قبل أن نتعرف من تلك الكلمة معنى الوحي في كتبهم أن نسارع إلى بيان وحي الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في الإسلام فنقول: إن وحي الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - قسمان: قسم يوحى به على إنه كلام الله تعالت كلماته، ولهذا يكون المعنى والتعبير لله جلت قدرته، وذلك كما في القرآن الكريم الذي نزل به الروح الأمين.

القسم الثاني، الأمور الشرعية التي كان يوحي الله بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليبينها للناس، فالمعنى فيها بوحي من الله تعالى والعبارة فيها للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وإذن فكلامه عن الوحي في الإسلام لم يكن صحيحاً في عمومه، وكان عليه أن يتحرى قبل أن يكتب، ولكنه لن يفعل. ولننتقل إلى الوحي بالكتب عندهم، وهذا ما نريد أن نأخذ العلم به عنه، وعساه يهدينا إلى ما نعرف به محض الحق المبين. هو يقول إن كلمات الإنجيل ليست هي كلمات الروح القدس، التي ألهمها رسلهم، سواء في ذلك كل كتبهم، فالعبارة فيها للكاتب، وليست الروح القدس الذي يلهم رسلهم بما يكتبون فيما يزعمون، ثم تنقسم كتبهم بعد ذلك إلى قسمين: قسم هو وحي لا تدخل فيه المواهب الطبيعية بالتصرف فيه بأي نوع من أنواع التصرف، وهو ما يسمى بالنبوات عندهم. والقسم الثاني تتصرف فيه مواهب الكاتب، وفي هذا القسم لا يرفع عن الكاتب ما يوجبه عليه التحقيق والتدقيق والاجتهاد. ونظرة فاحصة إلى هذا القول ترينا أن الإلهام قد أخذ يضؤل أمره، وتتواضع دعواه، خصوصاً بالنسبة للأناجيل، لأنها ليست بكتب نبوة كالرؤيا، ولم يتخللها كلام الله، كنا يفعل بولس في رسائله، إذ كان يزعم أحياناً إنه يتكلم عن الله، وأحياناً يقول إنه يتكلم من عنده، فالأناجيل ليست فيها إذن تلك النبوات، وعلى ذلك يكون للمواهب الطبيعية البشرية دخل في كتابتها، ويتحملون تبعة الاجتهاد فيها والتدقيق والتمحيص. ومن يتحمل تبعة عمل ينسب إليه. وعلى ذلك قد يتوارد الخطأ على اجتهادهم وتدقيقهم وتمحيصهم، فيكون من أخبارهم ما صادف التحقيق فيه الصواب، وما عرض له الخطأ، وكيف تكون بعد ذلك بإلهام أو وحي؟ وكيف تكون مقدسة لا يأتيها الباطل من يديها ولا من خلفها؟ وإذن فقد أتوا على دعوى الإلهام بالنقض فلا إلهام في الأناجيل إذن. هذه كلمتنا في كتبهم تحرينا فيها أن نكتبها كما كتبها المسيحيون، ونوجه من النقد ما وجهوا، وذلك لكي ننصف القوم. ولقد القينا عليها نظرة فاحصة لنوائم بين أخبارها المختلفة، ونجمع

بين الأقوال المتضاربة، ونشير إلى حكم العقل المستقيم عليها، أهي صالحة لأن تكون مصدر دين بتدين به ألوف من البشر وأهل العلم، أم غير صالحة؟. إن كتاب كل دين هو الأصل والدعامة والأساس، فإذا كان غير صحيح السند، أو غير مقبول لدى العقول كان ثبوت الدين فيه نظر، بل إنه انهار، وفقد أصله، ولم يعد شيئاً في الأديان مذكوراً. ولننتقل بعد ذلك إلى عقيدة المسيحيين، وبعض شرائعهم كما جاءت بها تلك الكتب التي علمت أمرها.

النصرانية كما هي عند النصارى وفي كتبهم

النصرانية كما هي عند النصارى وفي كتبهم العقيدة: 65- جاء في كتاب سوسنة سليمان، لنوفل بن نعمة الله بن جرجس النصراني أن "عقيدة النصارى التي لا تختلف بالنسبة لها الكنائس، وهي أصل الدستور الذي بينه المجمع النيقاوى هي الإيمان بإله واحد أب واحد، ضابط واحد، خالق السماء والأرض، كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد، يسوع الابن الوحيد المولود من الأب قبل الدهور من نور الله. إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر، الذي به كان كل شيء والذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خطايانا نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء تأنس، وصلب عنا على عهد بيلاطس، وتألم وقبر، وقام من الأموات في اليوم الثالث على ما كتب. وصعد إلى السماء وجلس على يمين الرب، وسيأتي بمجد، ليدين الأحياء والأموات، ولا فناء لملكه، والإيمان بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب، الذي هو مع الابن يسجد له، ويمجد، الناطق بالأنبياء". هذا هو جوهر العقيدة ولبها الذي لا اختلاف فيه، وفي هذا الكلام إيهام يحتاج إلى فضل بيان، وإنا مستعينون في توضيحه بما كتبوه هم، حتى لا نزيد عليهم بقول، ولا نفرض عليهم فهمنا، ولكي نكون صادقي الحكاية لكل أقوالهم من غير أي تحريف، والذي يستفاد من هذا أن أساس العقيدة يقوم على ثلاثة عناصر: العنصر الأول: التثليث والإيمان بثلاثة أقانيم. والعنصر الثاني: صلب المسيح فداء عن الخليقة وقيامه من قبره، ورفعه. والعنصر الثالث: إنه يدين الأحياء والأموات. ولنتكلم عن كل واحد من هذه العناصر.

عقيدة التثليث:

عقيدة التثليث: 66- قال الدكتور بوست في تاريخ الكتاب المقدس: "طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية: الله الأب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن الفداء، وإلى الروح القدس التطهير". ويفهم من هذا أن الأقانيم الثلاثة عناصر متلازمة لذات الخالق. التوراة والتثليث: وقد فسر هذا المعنى القس بوطر في رسالة صغيرة، سماها الأصول والفروع، وإليك ما جاء فيها: "بعد ما خلق الله العالم، وتوج خليقته بالإنسان لبث حبنا من الدهر لا يعلن له سوى ما يختص بوحدانيته، كما يتبين ذلك من التوراة، على إنه لا يزال المدقق يرى بين سطورها إشارات وراء الوحدانية، لأنك إذا قرأت فيها بإمعان تجد هذه العبارات: "كلمة الله، أو حكمة الله، أو روح القدس" ولم يعلم من نزلت عليهم التوراة ما تكنه هذه الكلمات من المعاني، لأنه لم يكن قد أتى الوقت المعين الذي قصد الله فيه إيضاحها على وجه الكمال والتفصيل، ومع ذلك فمن يقرأ التوراة في ضوء الإنجيل يقف على المعنى المراد، إذ يجدها تشير إلى أقانيم في اللاهوت. " ثم لما جاء المسيح إلى العالم أرانا بتعاليمه وأعماله المدونة في الإنجيل أن له نسبة سرية أزلية إلى الله، تفوق الإدراك، ونراه مسمى في أسفار اليهود: "كلمة الله" وهي ذات العبارة المعلنة في التوراة، ثم صعد إلى السماء أرسل روحاً، ليسكن بين المؤمنين، وقد نبين أن لهذا الروح أيضاً نسبة أزلية إلى الله فائقة، كما للابن، ويسمى الروح القدس، وسر ذات العبارة المعلنة في التوراة كما ذكرنا، ومما تقدم نعلم بجلاء أن المسمى بكلمة الله والمسمى بروح الله في نصوص التوراة هما المسيح والروح القدس المذكوران في الإنجيل، فما لمحت إليه التوراة صرح به الإنجيل كل التصريح، وإن وحدة الجوهر لا يناقضها تعدد الأقانيم، وكل من أنار الله ذهنه وفتح قلبه فهم الكتاب المقدس لا يقدر أن يفسر الكلمة بمجرد أمر من الله أو قول مفرد، ولا يفسر الروح بالقوة التأثيرية، بل لابد له أن يعلم أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم متساوين في الكمالات الإلهية، وممتازين

الابن لا يعني به الولادة البشرية:

في الاسم والعمل، والكلمة والروح القدس اثنان منهم، ويدعى الأقنوم الأول الأب ويظهر من هذه التسمية إنه مصدر كل الأشياء ومرجعها، وأن نسبته للكلمة ليست صورية بل شخصية حقيقة، وبمثل للإلهام محبته الفائقة، وحكمته الرائعة، ويدعى الأقنوم الثاني الكلمة، لأنه يعلن مشيئته بعبارة وافية، وإنه وسط المخابرة بين الله والناس، ويدعى أيضاً الابن، لأنه يمثل العقل نسبة المحبة، والوحدة بينه وبين أبيه، وطاعته الكاملة لمشيئته، والتمييز بين نسبته هو إلى أبيه، ونسبة كل الأشياء إليه، ويدعى الأقنوم الثالث الروح القدس، الدلالة على النسبة بينه وبين الأب والابن، وعلى علمه في تنوير أرواح البشر، وحثهم على طاعته". الابن لا يعني به الولادة البشرية: وبناء على ما تقدم يظهر جلياً أن عبارة الابن لا تشير كما فهم بعضهم خطأ إلى ولادة بشرية، ولكنها تصف سرية فائقة بين أقنوم وآخر في اللاهوت الواحد، وإذا أراد الله أن يفهمنا تلك النسبة لم تكن عبارة أنسب من الابن للدلالة على المحبة والوحدة في الذات، والأمانة للمشورة الإلهية، وأما من حيث الولادة البشرية فالله منزه عنها، لأجل هذه الإيضاحات علم خدام الدين المسيحي واللاهوتيون حسب ما قررته الكلمة الإلهية أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم، حسب نص الكلمة الأزلية، ولكل منهم عمل خاص في البشر أ. هـ. بنصه تقريباً. ونجد كاتب هذا الكلام يحاول ثلاث محاولات: أولاها: إثبات أن التوراة وجد فيها أصل التثليث، لوحت به ولم تصرح، وأشارت إليه، ولم توضح. وثانيها: أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم، وهي في شعبها متغايرة وأن كانت في جوهرها غير متغايرة. وثالثها: إن العلاقة بين الأب والابن ليست ولادة بشرية، بل هي علاقة المحبة والإتحاد في الجوهر. ولقد كان بيان ذلك المعنى أوضح من هذا البيان في قول القس إبراهيم سعيد في تفسير بشارة لوقا، فقد جاء فيه تفسير معنى كلمة ابن العلى

الثالوث أشخاص متغايرة، وإن كان وجودها متلازما:

التي جاءت في إنجيل لوقا ما نصه: "يليق أن نوضح بكلمات موجزة المعنى المراد" "بابن العلي" أو "ابن الله" علم يقصد بها ولادة طبيعية دانية من الله وإلا لقيل ولد الله، ولم يقصد بها ما يقال عادة عن المؤمنين جميعاً إنهم أبناء الله، لأن نسبة المسيح لله هي غير نسبة المؤمنين عامة الله، ولم يقصد بها تفرقة في المقام من حيث الكبر والصغر ولا الزمنية ولا في الجوهر، لكنه تعبير يكشف لنا عمق المحبة السرية التي بين المسيح والله، وهي محبة متبادلة، وما المحبة التي بين الأب والابن الطبيعيين سوى أثر من آثارها، وشعاع ضئيل من بهاء أنوارها، ويراد بها إظهار المسيح لنا إنه الشخص الوحيد الذي جاز رضا الله، وأطاع وصاياه، فقبل الموت موت الصليب، لذلك يقول الله فيه: "هذا ابني الحبيب الذي به سررت، له اسمعوا" وقد تكررت هذه العبارة عدة مرات مدة خدمة المسيح على الأرض لأنه تمم إرادة الله في الفداء، ويراد بها إظهار التشابه والتماثل في الذات، وفي الصفات وفي الجوهر، كما يكون بين الأب والابن الطبيعيين، فقيل عن المسيح إنه بهاء مجد الله، ورسم جوهره، وقال هو عن نفسه: من رآني فقد رأى الأب، إنا والأب واحد، ويراد بها دوام شخصية المسيح باعتباره الوارث لكل شيء الذي منه وبه له كل الأشياء، وقد يراد بها معان كثيرة غير معدودة بقصر دون إدراكها العقل". الثالوث أشخاص متغايرة، وإن كان وجودها متلازماً: 67- وفي هذا التفسير، والتفسير الذي سبقه يبدو بجلاء أن شخصية الابن غير الأب، وكذلك روح القدس، ولمن هل يدخل في الأقنوم الثاني جسده وروحه؟ جاء في كتاب خلاصة تاريخ المسيحية في مصر: "كنيستنا المستقيمة الرأي التي تسلمت إيمانها من كيرلس وديسقوروس. ومعها الكنائس: الحبشية، والأرمنية والسريانية والأرثوذكسية تعتقد أن الله ذات واحدة مثلثة الأقانيم. أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الروح القدس، وأن الأقنوم الثاني أي أقنوم الابن تجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء، مصيراً هذا الجسد معه واحداً وحدة ذاتية جوهريي منزهة عن الاختلاط والامتزاج والاستحالة، بريئة من الانفصال، وبهذا الإتحاد صار الابن المتجسد طبيعة واحدة من طبيعتين، ومشيئة واحدة".

وتعتقد الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية بأن للأقنوم الثاني طبيعتين ومشيئتين، ومن هذا نرى أن الكنائس كلها تعتقد التثليث، وهذا هو موضع اتفاق. ولكن موضع الخلاف بينها هو العنصر الإلهي في المسيح، أهو الجسد الذي تكون من الروح القدس ومن مريم العذراء الذي باختلاطه بالعنصر الإلهي صار طبيعة واحدة ومشيئة واحدة أم أن الأقنوم الثاني له طبيعتان ومشيئتان؟. 68- ومن هذا كله يفهم أن المسيحيين على اختلافهم يعتقدون أن في اللاهوت ثلاثة يعبدون، وعباراتهم تفيد بمقتضاها إنهم متغايرون وإن اتحدوا في الجوهر والقدم، والصفات، والتشابه بينهم كامل، ولكن كتابهم يحاولون أن يجعلوهم جميعاً أقانيم لشيء واحد، وبعبارة صريحة يحاولون الجمع بين التثليث والوحدانية، ولكن عند هذه المحاولة تستغلق فكرة التثليث، وتصير بعيدة عن القصور، كما هي في ذاتها مستحيلة التصديق، وإن كتابهم أنفسهم يعتقدون أنها بعيدة التصور عند هذه المحاولة، لأن من أصعب الأشياء الجمع بين الوحدانية والتثليث. فنرى صاحب رسالة الأصول والفروع بعد بيان عقيدة التثليث، يقول: "قد فهمنا ذلك على قدر طاقة عقولنا، ونرجو أن نفهمه فهماً أكثر جلاء في المستقبل، حين ينكشف لنا الحجاب عن كل ما في السموات وما في الأرض، وأما في الوقت الحاضر ففي القدر الذي فهمناه كفاية" أي أن عقيدة التثليث لا يمكن أن تنكشف للنفس على وجهها إلا يوم تتجلى كل الأشياء لها يوم القيامة، وذلك حق، فإنهم لا يعلمون حقيقتها إلا يوم يحاسبهم الله عليها. لماذا يحاولون الجمع بين الوحدانية والتثليث: ولماذا شغف النصارى بذكر التوحيد بجوار التثليث، أو على الأقل يجتهد بعضهم في بيان إنه لا منافاة بينهما؟ لعل الذي يدفعهم إلى ذلك هو اعتبارهم التوراة كتاباً مقدساً عندهم، وهي تصرح بالتوحيد، وتدعو إليه، وتحث عليه، وتنهي عن الشرك بمل شعبه، وكل أحواله، بل تدعو إلى البراءة من المشركين أينما كانوا، وحيثما تقفوا.

فهم يجتهدون أولاً في أن يستنبطوا من نصوصها ما يحملونه على الإشارة إلى التثليث، كعبارة "كلمة الله" أو عبارة "روح القدس". وثانياً: يحاولون أن يرجعوا التثليث إلى الوحدانية، لتلتقي التوراة مع الإنجيل فيقربوا التوراة إليهم بتحميل عباراتها ما لا تحتمل، ويقربوا عقائدهم من التوراة بتضمين ثالوثهم معنى التوحيد، وإن كان هو أيضاً لا يحتمل ذلك، ولعل ذلك تتميم للفلسفة الرومانية التي كانت تحاول الجمع بين مسيحية المسيح عليه السلام، ووثنية الرومان، وتوراة اليهود بما تحمل من وحدانية ظاهرة لا شبة فيها، إلا التجسيد، لو ما يوهمه في بعض عباراتها. 69- ولقد يجتهد كتاب المسيحية في إثبات أن عقيدة التثليث وأُلوهية المسيح قد وردت بها كتبهم المقدسة، ويسندونها إلى آياتها، سواء أكانت من كتب العهد القديم، أم من كتب العهد الجديد، فيقول صاحب كتاب الأصول والفروع: "أما لآيات الإلهية التي تثبت لاهوت المسيح فهي كثيرة جداً، ولضيق المقام نكتفي باقتباس شيء يسير، فمن أقواله تعالى بلسان أشعياء النبي: "ها العذراء تحبل، وتلد ابناً، وتدعو اسمه عمانوئيل (أي الله معنا) " وقوله: "كأنه يولد لنا ولد ونعطي أبناً، وتكون الرياسة على كتفه: ويدعى اسمه عجيباً، مشيراً إلها قديراً، أبا أبدياً رئيس السلام": أشعيا 7: 94 و9: 6 -. وعند عماده وتجليه على الجيل شهد له الله من السماء بصوت مسموع قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" متى 3: 18 و17، ص 5. ويشهد له يوحنا الرسول قائلاً: في البدء كان كلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله ... كل شيء به كان. وبغيره لم يكن شيء، والكلمة صار جسداً، وحل بيننا، ورأينا مجده مجداً، كما للوحيد من الأب مملوءا نعمة وحقاً. يوحنا 1: 1و 3و 4. وقال المسيح نفسه: أنا والأب واحد، يوحنا 10: 30، وقال له أحد تلاميذه: "ربي وإلهي" يوحنا 20: 28 وقبل منه السجود. ولم يوبخه على دعوته إلهاً، ولما سأله رئيس الكهنة، وقال له: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله؟ أجابه المسيح على الحلف: "أنا هو" قال

متى 26: 63 بمرقس 14: 62، وحينما ركب البحر الجليل أظهر طبيعتي لاهوته وناسوته الكليتين، وذلك بينما كان نائماً هاجت الرياح، واضطربت الأمواج، فقام من النوم وأسكتها، فصار هدوء عظيم، متى 8: 23 - 27 فبنومه أظهر ناسوته، وبتسكينه الأمواج والرياح أظهر لاهوته". ويقول صاحب ذلك الكتاب في أقنوم روح القدس: "ومن حيث أقنومية الروح القدس فظاهر من كلمة الله، لأن أشعياء يقول: "ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه، فتحول لهم عدواً، وهو حاربهم"، أشعياء 6: 10. ويقول الرسول بولس: لا تحزنوا روح الله القدس، ومن المعلوم أنه إن كان للروح قوة، أو صفة، أو شيء من الأشياء غير العاقلة لا يمكن أن يحزن، أو يفرح أبداً، فلابد أن يكون أقنوماً. ثم نقرأ في سفر الأعمال أن الروح قال للرسول: "أفرزوا إلى برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه". وهكذا يسترسل في أمثال هذا الاستدلال إلى أن يقول: "وقيل عن أعمال الله إنها أعمال الروح هو الذي خلق العالم، ويجدد النفوس، والمولود منا مولود من الله، ويحيى أجسادنا الميتة، وهو على كل شيء قدير". وفضلاً عما ذكر تجد في الكتاب أن الحقوق والصفات الإلهية تنسب على سواء إلى كل من الأب والابن والروح القدس. ولكل منهم نقدم العبادة وهم متساوون ومتحدون، كما نرى في دستورية المعمودية: "عمدوا باسم الأب والابن وروح القدس". متى 18: 19، "والبركة الرسولية نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة وبركة الروح القدس مع جميعكم. 70- هذه هي استدلالاتهم من كتبهم لإثبات عقيدة التثليث، والإبراء عليها، وإثبات سندها من تلك الكتب، قد أطلنا في نقلها عنهم، واقتطعناها من عباراتهم بنصها، ولم نتصرف فيها بأي نوع من أنواع التصرف في البيان خشية التزيد عليهم، وخشية أن يؤدي التصرف في التعبير إلى التغير في الفكرة، وترى إنهم لم يعتمدوا في إثبات تلك العقدية على

صلب المسيح فداء عن الخليقة:

أي دليل عقلي، بل كل اعتمادهم على ما عندهم من نقل يحملونه من أثقال المعاني ما تنوء به العبارات، ولا تحتمله أبعد الإشارات، وإنهم إذا حاولوا أن يربطوا قضية التثليث بالعقل حاولوا جهد الطاقة أن يجعلوا العقل يستسيغها في تصوره، ويحسون أن العقل لا يكاد يستسيغ ذلك التصور، وقد نقلنا لك من عباراتهم ما يفيد ذلك، فارجع إليه. وإذا كانت محاولاتهم تصور القضية قد أجهدتهم، وكلفتهم ما لا يطيقون، فكيف يستطيعون أن يجعلوا من بدائه العقل ما يحمله على تصديق ما يدعون والاقتناع بما يقولون، لذلك لم يحاولوا أن يتجهوا إلى العقل لإثبات قضيتهم من بدهياته، فإن ذلك ليس في قدرة أحد، إذ ليس في قدرة أحد من البشر جميع النقيضين في قرن، والتوفيق بين الأضداد، وقضيتهم والبدهيات العقلية نقيضان لا يجتمعان. ونرى أن اعتمادهم على النقل لا يغني من الحق شيئاً، لأن شروط الإنتاج في استدلالهم غير مستوفاة، إذ ترى أن تلك العبارات التي عثروا عليها في كتبهم لا تفيد على وجه القطع ما يريدون، بل قد تفيد بأبعد أنواع الاحتمالات، أو باحتمال قريب، ومن المعلوم في قواعد الاستدلال أن الاحتمال إذا دخل الاستدلال أبطله، وكل أدلتهم ينفذ الاحتمال إليها من كل جانب. هذا وان الاستدلال بكتبهم يفيد من يصدقها وهي ذاتها يعروها النقد العلمي في سندها، وفي متنها من كل ناحية، فهي في ذاتها في حاجة إلى دفاع طويل لإثباتها، وقد بينا ذلك كله في موضعه من بحثنا. صلب المسيح فداء عن الخليقة: 71- ولنترك الآن الحديث في عقيدة التثليث، ولكن يجب قبل تركها مؤقتاً أن نشير إلى أن التثليث لم يرد دفعة واحدة على المسيحية، بل تورد عليها شيئاً فشيئاً، إلى أن أعلن نهائياً عند غالبتهم في نهاية القرن الرابع الميلادي، وسنبين ذلك كله فضل بيان في تاريخ المجامع المسيحية، وأساب انعقادها، وقراراتها، ومدها في موضعه من هذا البحث، ولنتكلم الآن في العنصر الثاني من عناصر العقيدة المسيحية، وهو صلب المسيح فداء عن الخليقة، وقد أشرنا إليه أجمالاً من قبل. يقولون في هذا: أن الله من صفاته المحبة، حتى لقد جاء في الكتب

المقدسة عندهم: "الله محبة" ومحبة الله ظهرت في تدبيره طريق الخلاص للعالم، لأن العالم من عهد سقوط آدم في الخطيئة، وهبوطه هو وبنيه إلى الدنيا، مبتعد عن الله بسبب تلك الخطيئة، ولكن الله من فرط محبته وفيض نعمته رأى أن يقربه إليه بعد هذا الابتعاد، فأرسل لهذه الغاية ابنه الوحيد إلى العالم، ليخلص العالم، وقد جاء في إنجيل لوقا: "وإن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب، ويخلص ما قد هلك" فبمحبته ورحمته قد صنع طريقاً للخلاص، لهذا كان المسيح هو الذي يكفر عن خطايا العالم، وهو الوسيط الذي وفق بين محبة الله تعالى، وبين عدله ورحمته، إذ أن مقتضى العدل أن الناس كانوا يستمرون في الابتعاد عن الله بسبب ما اقترف أبوهم، ولكن باقتران العدل بالرحمة، وبتوسط الابن الوحيد وقبوله للتكفير عن خطايا الخلق قرب الناس من الرب بعد الابتعاد، وقد كان التكفير الذي قام به المسيح هو الصلب، لهذا صلب، ورضي الله عن صلبه، وهو ابنه، ودفن بعد الصلب، ولكنه قام بعد ثلاثة أيام من قبره، ويقولون إنه كان قد أنبا بذلك قبل صلبه. جاء في إنجيل متى في الفقرة التي بعد بيان الصلب: "اجتمع رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس قائلين: يا سيد، قد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حي: إني بعد ثلاثة أيام أقوم، فمر بضبط القبر إلى اليوم الثالث، لئلا يأتي تلاميذه ليلاً، ويسرقوه، ويقولوا للشعب إنه قام من الأموات فتكون الضلالة الأخيرة أشر من الأولى، فقال لهم بيلاطس: عندكم حراس، اذهبوا، واضبطوه كما تعلمون، فمضوا وضبطوا القبر بيد أن ظهوره كان من بين تلاميذه. وقد قام من القبر بعد ثلاثة أيام كما ذكرت أناجيلهم، ولكنها اختلفت في تفصيل القيام، فمتى ذكر إنه ظهر في الجليل، ولوقا ذكر إنه ظهر في أورشليم، ويوحنا ذكر إنه ظهر في اليهودية والجليل معاً، ومرقس بين أن ظهوره بين تلاميذه. وقد ذكر القس إبراهيم سعيد توفيقاً بين هذا الاختلاف فقال: "أجمع البشيرون الأربعة على تقرير هذه الحقيقة. ليس المسيح في القبر، لأنه قام كما قال، لكن كلاً منهم كتب عن القيامة وظهور المسيح للتلاميذ من وجهة نظره الخاصة، متى كتب عن ظهور المسيح في الجليل، لأنه كتب

عن المسيح الملك، ولوقا كتب عن ظهوره في أورشليم، لأنه كتب عن المسيح مخلص جميع الأمم مبتدئاًَ من أورشليم، ويوحنا كتب عن ظهوره في اليهودية والجليل لأنه كتب عن المسيح ابن الله الأبدي صخر الدهر، ومرقس كتب عن ظهور المسيح للتلاميذ في فترات منقطعة، ليشدد عزائمهم للقيام بالخدمة التي تنتظرهم، لأنه كتب عن المسيح الذي جاء ليخدم البشرية، ويرفعها إلى مستوى الكمال. كل هذا لكي يوقع البشيرون الأربعة نعمة مشعبة متنوعة العناصر لانشودة القيامة المجيدة فلئن تنوعت روايتهم إلا أنها لا تتناقض". وهذا أشبه بالتعلات التي لا تناقش، ولا تقوى أمام النظر المنطقي المستقيم، ولكنها تقبل في الخطابيات، فهي كالزهرة ترى وتشم، ولكن لا تعرك، وذلك لأن هذا التوفيق يقوم على قضيتين: أحداهما: أن كل إنجيل كتب لغرض معين لا يشمل في عمومه ما كتب له الإنجيل الآخر. وثانيهما: أن كلاً ذكر المكان الذي يتفق مع غرضه، وإذن فلا اختلاف في الخبر. وهذا الكلام فيه نظر في مقدمته ونتيجته، وذلك لأنه لو كان متى كتب يخبر عن المسيح الملك، ولوقا عن المسيح المخلص، وهكذا لكان كل إنجيل مغايراً للأناجيل الأخرى تمام المغايرة، مبايناً له تمام المباينة، لأنه يكتب في موضوع يخالف ما يكتب فيه الآخر، وإن كان الشخص واحداً، كان يكتب كتاب عن شخص بارز في السياسة والقانون. فكانت يكتب عنه سياسياً، وآخر يكتب قانونياً فالموضوع يختلف، وإن كان الشخص متخذا، ولكنا لا نجد في الأناجيل في مجموعها ذلك التغاير، وعلى فرض تسليم تلك القضية لا نستطيع أن نسلم القضية الثانية، وهي أن الجليل يناسب المسيح الملك، وأورشليم تناسب المسيح المخلص، وهكذا. فلماذا اختصت هذه بالملك وتلك بالخلاص؟ إن ذلك التخصيص تحكم لا يعتمد على منطق، وعلى فرض صحة المقدمتين، فإن النتيجة لا تنبني عليهما، أن النتيجة اختلاف ذكر الأمكنة في حادثة معينة والشهادة بها، فأحد الشهود يقول: إنه رآه في الجليل، وآخر يشهد بوجوده بين التلاميذ في فترات متقطعة، وثالث يشهد بوجوده في أورشليم، وإذا اختلف الشهود

المسيح يدين ويحاسب:

في مكان حادثة معينة كان اختلافهم سبباً للظنة في الشهادة واتهام الشهود فيها، ولئن قيل أن المسيح ظهر في الأمكنة التي ذكرت، بيد أن كلاً ذكر ما رأى، ولم يكن رآه فيها جميعاً كان الكلام مستقيماً، ولكن يكون معناه أن كل إنجيل لم يذكر حال المسيح كاملة، ويحتمل أن يكون الجميع لم يذكروها كاملة على هذا الأساس، ويكونون قد نسوا حظاً مما ذكروا به. المسيح يدين ويحاسب: 72- لم يمكث المسيح بعد قيامته هذه التي يعتقدها المسيحيون إلا أربعين يوماً، ثم ارتفع بعدها إلى السماء وجلس بجوار الرب في زعمهم، وسيأتي ليدين الناس يوم القيامة، يحاسب كل إنسان على ما فعل وقال: إن خيراً فخير، وإن شراً فشرا، وله بهذا الملك الأبدي، فلا فناء لملكه، فهم يقولون: إن الله قد أقام يوماً سيدين فيه سكان هذه الأرض بيسوع المسيح، لأن الأب في زعمهم لا يدين أحداً، بل قد أعطى ذلك للابن، فأعطاه سلطان أن يدين الإنسان، لأنه ابن الإنسان أيضاً ولابد أن يظهر الناس جميعاً أمام كرسي المسيح، لينال كل واحد جزاء ما كان قد صنع، خيراً أو شراً، هذه عقيدتهم. فقد جاء في إنجيل يوحنا: "الحق أقول لكم، إنه تأتي ساعة، وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله، والسامعون يحيون، لأنه كما أن الآن له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أن تكون له حياة في ذاته، وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً، لأنه ابن الإنسان، لا تعجبوا من هذا فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة: أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً، كما أسمع أدين، ودينونتي عادلة لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الأب الذي أرسلني". راجع الإصحاح الخامس. وجاء في رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس: "لابد أننا جميعاً نظهر أمام كرسي المسيح، لينال كل واحد منا ما كان بالجسد، بحسب ما صنع، خيراً كان أم شراً" (راجع الإصحاح الخامس من هذه الرسالة) . وجاء في رسالة بولس إلى أهل تسالونيكى: "إن الذين يضايقونكم

تقديس الصليب:

يجازيهم ضيقاً، وإياكم الذين تتضايقون - راحة معنا، عند استعلان الرب يسوع مع ملائكة قوته، في نار لهيب معطياً نقمته للذين لا يعرفون الله والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح الذين سيعاقبون بهلاك أبدي من وجه الرب، ومن مجد قوته. متى جاء ليتمجد في قدسيته، ويتعجب منه في جميع المؤمنين". فهذه النصوص جميعها تبين بجلاء أن الذي سيحاسب الناس، ويجازيهم بما فعلوا، الخير بمثله والشر كذلك، إنما هو المسيح في نظرهم. تقديس الصليب: مقام الصليب في المسيحية: 73- لا يرتفع تقديس الصليب إلى مرتبة العقائد السابقة، لأن تلك العقائد أساس المسيحية، أما الصليب فليس له ذلك الحظ. وإن كان شعارهم، وموضع تقديس الأكثرين، ولذا كان حمله علامة على اتباع المسيح. جاء في إنجيل لوقا: "وقال للجميع إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه، ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني". وحمل الصليب كما يقول كتابهم، أشعار بإنكار النفس، واقتفاء أثر المسيح في هذا الإنكار، والسير وراء مخلصهم، وتأديهم. جاء في شرح بشارة لوقا للقس إبراهيم سعيد: "إن آثار قدمي المعلم تعين طريق خطوات التلاميذ لأنه وإن كان المسيح قد صلب عنا فقال في صلبه: "قد أكمل" لكنا قد أصبحنا بحكم صلبه عنا تحت التزام شرعي لأن نكون شركاء المسيح المتألم، إن شركتنا الشرعية مع المسيح المصلوب ينبغي أن ترافقها وتدعمها شركة اختيارية فعلية معه، إن صلب المسيح معناه مات عنا، ولكن صليب كل مؤمن معناه: "موت النفس عن الأنانية وحب الذات" وخلاصة هذه الذات هي النفس الأمارة بالسوء، هي تلك الإرادة المتمردة التي ينبغي أن نخضعها" ونستأسرها لطاعة المسيح، فقول كل واحد ليس ما أريد أنا بل ما تريد أنت يا رب، إنه من أوجب واجبات كل مسيحي أن يحمل صليبه مختاراً طائعاً لأن التعبير بحمل صليبه

عبادتهم:

مستعار من العادة التي قضت بها الأنظمة الرومانية على المحكوم عليه بالصلب لأن يجمله كل يوم، وهذه العبارة انفرد لوقا بذكرها، فهو صليب يتجدد كل وبم، كما تجددت الآمال والآلام في الحياة اليومية العملية، فلابد إذن لحمل الصليب من خطوة تسبقه، وخطوة تعقبه، أما الخطوة السابقة له فهي إنكار النفس، بمعنى أن يقول تلميذ المسيح لنفسه الأمارة بالسوء، لا، لأن حمل الصليب هو حمل العار مضافاً إلى ألم الموت، وهذا عمل يستلزم إنكار النفس، لأن الرومان لم ينفروا من الصليب فقط، بل فزعوا من ظله، كذلك كان شعور اليهود بأن حمل الصليب هو حمل اللعنة، لأنه مكتوب في ناموسهم: "ملعون كل من علق خشبه"، والخطوة اللاحقة لحمل الصليب بل الخطوات هي اقتفاء آثار المسيح كقوله: "ويتبعني"، إذن ليس حمل صلينا غاية لكنه وسيلة لهذه الغاية، وهي إتباع المسيح حيث "يمضي" أ. هـ. فحمل الصليب إذن عندهم ليس غاية، وليس مقصوداً لذاته، ولكنه مقصوداً لغاية أخرى أسمى عندهم، واهي اقتفاء خطوات المسيح في إنكار الذات، والرضا بالفداء في زعمهم وإتباع تعاليمه. عبادتهم: 74- عند النصارى عبادتان: هما الصلاة، والصوم، أما الصوم فإنهم يقولون إن شرعه عليهم اختياري لا إجباري، وميقاته قد تتخالف فيه الفرق، فلنتركه إلى الكلام في الفرق والكنائس إن كان للقول متسع، ولنتكلم الآن عن صلاتهم. والصلاة عندهم ركن من أركان الدين، وهي من زعمهم تقربهم إلى الله عن طريق المسيح. ولقد جاء في كتاب الأصول والفروع: "إن الدين قلب مقتنع بوجود الله الخالق والحافظ والفادي، فتكون الصلاة ترجمان ذلك القلب، يعبر بها عما يخالجه من الأشواق والعواطف، فبالنظر لاقتناعه بقداسته تكون الصلاة كلمات التعظيم والتسبيح له، وبالنسبة لاقتناعه بجهوده وإحسانه تكون الصلاة عبارات الشكر والحمد، وبالنسبة لوقوعنا في الخطيئة، تكون الصلاة كلمات التذلل والتواضع والاستغفار، وبالنسبة للاحتياج إليه تعالى تكون الصلاة طلباً ودعاء".

والصلاة عندهم لها شرطان أساسيان لا توجد بدونهما، هما منها بمنزلة الدعامة: الشرط الأول: أن تقدم باسم المسيح، فقد جاء في الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا: "الحق أقول لكم إني ما طالبتم من الأب باسمي يعطيكم، إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي، أطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً". ويعللون ذلك بأن الإنسان بسبب خطاياه أبعد عن رضا الله، ولكن بدم المسيح زال هذا البعد، وأصبح قريباً إليه. فقد جاء في رسالة بولس إلى أهل أفسس في الإصحاح الثاني: "لكن الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً، ونقض حائط السياج المتوسط". ويقول صاحب كتاب الأصول والفروع: "للصلاة باسم المسيح معنى أدق من ذلك، وهو أن الاسم يمثل دائماً المسمى. فتكون صلاتنا باسم المسيح تمثل وحدته معنا، بحيث تكون طلباتنا طلباته. وصلاحنا صلاحه، وحياتنا حياته، وبالجملة كأنه يحيا فينا ولأجلنا". الشرط الثاني: أن يسبق الصلاة الإيمان الكامل بما عندهم، فقد جاء في الإصحاح الحادي عشر من إنجيل مرقس ما نصه: "لذلك أقول لكم كل ما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوه، فيكون لكم". وجاء في رسالة يعقوب: "وليكن الطلب بإيمان غير مرتاب البتة، لأن المرتاب يشبه موجاً من البحر تخبطه الريح وتدفعه، فلا يظن ذلك الإنسان إنه ينال شيئاً من الرب". وليست للصلاة عندهم عبارات خاصة معلومة يجب أن يتلوها بل ترك لهم أن يتلوا العبارات التي يختارونها بشرط ألا تخرج عن قاعدة الصلاة التي علمهم إياها المسيح لكي يصلوا على منوالها، وهي المسماة بالصلاة الربانية، وهي التي جاءت في صدر الإصحاح عشر من إنجيل يوحنا، ففيه عن المسيح: "وإذ كان يصلي في موضع لما فرغ قال واحد من تلاميذه: يا رب علمنا أن نصلي، كما علم يوحنا أيضاً تلاميذه،

فقال لهم: متى صليتم، فقولوا أبانا الذي في السموات ليتقدس أسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك في السماء كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا أعطنا كل يوم، وأغفر لنا خطايانا، لأننا نحن أيضاًَ نغفر لكل من يذنب إلينا، ولا تدخلنا في تجربة، ولكن نجنا من الشر. ولديهم أمثلة كثيرة للصلوات يختارون منها على ما يسهل عليهم: وأشهر الأسفار المشتملة على نماذج للأدعية والصلوات سفر المزامير. ويقول صاحب كتاب الأصول والفروع: "إنه خزانة ذهبية لصلوات داود النبي وغيره من الأنبياء عملوا بها في أحوالهم الخاصة، مسوقين من الروح القدس، وكثيراً ما يعرض علينا ذات أحوالهم، فنقتبس من أقوالهم ما يطابق حالنا واحتياجنا للاستعانة على التعبير عما بنا من ملمات الأمور، كما إذا كنا في حال الحزن والأسى على خطايانا نقتبس في صلاتنا من مزمار - 51 - لأنه يشتمل على أشد العبارات تأثيراً بصدد التوبة والاعتراف، والاستغفار من الله، وكما إذا كنا في حال الشعور برحمة الله علينا ونعمته نقتبس من مزمار - 103 - للتعبير عن شكر قلوبنا، وشعورها بالمحبة والنعمة، انتهى بتصرف. وليس عليهم عدد معين من الصلوات كل يوم، كما إنه ليس لها مواقيت معلومة، بل كل ذلك قد وكل إلى نشاط المصلين، ورغبتهم في العبادة ولكن لأن اليهود كانوا يعبدون الله في هياكلهم في صباح كل يوم ومسائه استنبطوا إنه تلزم الصلاة مرتين، أحداهما في الصباح، والأخرى في المساء. ويقولون في حكمة ذلك في الصباح: "نطلب بركة الرب علينا سحابة اليوم، وأن يهدينا إلى عمل ما فيه رضاؤه، وأن يحفظنا من السوء، وفي المساء نشكره على إحسانه علينا كما إننا نعترف بما فرط منا في اليوم من الزلات، ونطلب منه المغفرة ودوام نعمته علينا وفوق ذلك لا لفتاً نذكر فضله ونشعر بجميله دائماً". وإذا لم يكن للصلاة عدد محدود عندهم، فالمستحسن الإكثار، ويخالفون اليهود في زعمهم أن الإكثار من الصلاة يجعل الله يمل. جاء في إنجيل لوقا في صدر الإصحاح الثامن عشر ما نصه: "قال لهم مثلاً إنه ينبغي أن يصلي كل حين، ولا يمل قائلاً: كان في مدينة قاض

من شعائر المسيحية:

لا يخالف الله ولا يهاب إنساناً، وكان في تلك المدينة أرملة، وكانت تأتي قائلة أنصفني من خصمي وكان لا يشاء إلى زمان، ولكن بعد ذلك قال في نفسه: وإن كنت لا أخاف الله ولا أهاب إنساناً، فإني لأجل أن هذه الأرملة تزعجني أنصفها لئلا تأتي دائماً فتقمعني. وقال الرب اسمعوا ما يقول قاضي الظلم، أفلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً وهو متمهل عليهم، أقول لكم إنه ينصفهم". يقول القس إبراهيم سعيد في شرح الجمل في إنجيل لوقا: "ينبغي أن يصلي كل حين ولا يمل" من هنا ترى أن صلاة المثابرة واللجاجة ليست من الأمور الممكنة فقط، ولكنها من الأمور الواجبة، فهي فرض عين لا فرض كفاية، وهذا عن خلاف ما علم به التلمود، محظور على الإنسان أن يصلي أكثر من ثلاث مرات في النهار، لأن الله يمل الصلاة كل ساعة، ولقد أوصى المسيح بالصلاة من غير ملل لعلمه أن صلاة الروح تعب على الجسد، سيما إذا تأخرت الإجابة، فالروح نشيط والجسد ضعيف". وجاء في آخر رسالة بولس إلى أهل تسالونيكي: "صلوا بلا انقطاع". وبين معنى صاحب رسالة الأصول والفروع فيقول: "معنى هذا أن نساحضر في أذهاننا روح الصلاة على الدوام، وكلما خطر على البال ذكر الله ومحبته نرفع قلوبنا إليه، سواء أكان بالقول أو بالتوجهات القلبية بدون كلام، والله يعلم ما في القلوب. من شعائر المسيحية: 75- للمسيحية شعائر يجب القيام بها، لا يصح التخلي عنها، ويقولون فيها إنها فرائض مقدسة وضعها المسيح، وهي أعمال جليلة تشير إلى بركات روحية غير منظورة عندهم، ومن الشعائر الواجب اعتقادها والعمل بها التعميد والعشاء الرباني. التعميد والعشاء الرباني: وقد جاء في إنجيل متى عن التعميد: "تقدم يسوع وكلمهم قائلاً دفع إلى كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فأذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس، وعلموهم جميع ما أوصيكم به".

من تنظيم الأسرة:

وجاء بالنسبة للعشاء الرباني في رسالة بولس لأهل كورنثوس ما نصه: "أن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها نفسه أخذ خبراً، وشكر، فكسر وقال: خذوا وكلوا، هذا هو جسدي المكسور لأجلكم، أصنعوا هذا لذكري". كذلك ذكر الكأس أيضاً بعد ما تعشوا قائلاً: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، أصنعوا هذا كلما شربتم لذكري، فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذا الكأس تخبزون بموت الرب إلى أن يجئ". بهذه النصوص ثبت التعميد، والعشاء الرباني، والتعميد يقول فيه صاحب كتاب الأصول والفروع: فريضة مقدسة يشار فيها الغسل بالماء باسم الأب والابن والروح القدس إلى تطهير النفس من أدران الخطيئة بدم يسوع المسيح، وهي ختم عهد النعمة كما كان الختان في الشريعة الموسوية، والمعمودية تدل على اعترافهم العلني بإيمانهم وطاعتهم للأب والابن والروح القدس كالههم ومعبودهم الوحيد، ولا يجوز أن يعمدوا إلا إذا اعترفوا بإيمانهم جهارا أمام كنيسة الله" ويقول في العشاء الرباني: "وهو فريضة رسمها المسيح في الليلة التي أسلم فيها الجسد، ويستعمل في هذه الفريضة قليل من الخبز والخمر، فيأخذ كل من المؤمنين لقمة من الخبز، وقليلاً من الخمر على المثال الذي رسمه المسيح تذكاراً لموته، فالخبر يشير إلى جسده المكسور، والخمر إلى دمه المسفوك، فالمؤمنين الذين يشترطون في هذا العشاء يقبلون المسيح بالإيمان كالخبز الذي نزل من السماء وكل من يأكل منه لا يجوع، ولكنهم لا يقبلونه طعاماً جسدياً بل طعاماً روحياً لحياة روحية لأجل النمو في النعمة والإيمان" ويقول أيضاً: "ويشير العشاء الرباني إلى مجيء المسيح الثاني، كما يشير إلى موته فيكون تذكاراً للماضي والمستقبل". من تنظيم الأسرة: 76- في الأناجيل ورسائل من يعتقدون أنهم الرسل في المسيحية ذكر للزواج والطلاق، ففيها بيان لبعض شريعة الأسرة مختصرة، وخلاصة ما جاء في كتبهم المعتبرة أن الزواج قد سن للإنسان وشرع له، بل أن الزواج شرعه الله للإنسان وهو في جنة عدن، فخلق لآدم من ضلعه حواء،

لأنه كما في سفر التكوين: "ليس جيداً أن يكون آدم وحده، فأصبح له معيناً نظيره". على أن المسيح في إنجيل متى قد أجاز العزوبة في حال عدم القدرة التناسلية، وذلك بدهي. وجاء في رسالة بولس لأهل كورنثوس إنه تجوز العزوبة إذا استطاع الرجل أو المرأة أن يضبط نفسه، ويتوقى الزنى، فقد جاء في الإصحاح السابع من هذه الرسالة: "ولكني أقول لغير المتزوجين، وللأرامل: إنه حسن لهم إذا لبثوا كما إنا، ولكن إذا لم يضبطوا أنفسهم فيتزوجون، لأن التزوج أصلح من الخرق". وشريعة الزواج عندهم لا تحل للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة وإن لم يوجد نص في ذلك، ولا يطلق، وقد فهموا تحريم الطلاق من إنجيل متى، ففي الإصحاح التاسع عشر منه: "قال له تلاميذه: إن كان هكذا أمر الرجل من المرأة فلا يوافق أن يتزوج؟ فقال: ليس الجميع يقبلون هذا الكلام. بل الذي أعطى لهم، ولا يفترق الزوجان إلا بالموت، وبعد موت أحدهما يحل للحي أن يتزوج غيره". وهذا نص ما جاء في رسالة بولس لأهل رومية: "أن الناموس يسود على الإنسان مادام حياً، فإن المرأة التي تحت رجل هي مرتبطة بالناموس بالرجل الحي، ولكن إن مات الرجل، فقد تحررت من ناموس الرجل، فإذا ما دام الرجل تدعى زانية إن صارت لرجل آخر وقبل موت أحدهما لا يحل لهما الطلاق". وهذا نص ما جاء في متى في الإصحاح التاسع عشر منه: "جاء إليه للفريسيون ليجربوه قائلين: هل يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب؟ فأجاب وقال لهم: أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكراً وأنثى؟ وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسداً واحداً، إذ ليس بعد اثنين، بل جسد واحد، فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان. قالوا: فإذا أوصى موسى أن يعطي كتاب طلاق، فنطلق؟ قال لهم: أن موسى من أجل قساوة قلوبكم إذن لكم أن تطلقوا نساءكم، ولكن من البدء لم يكن هذا، وأقول لكم أن من طلق امرأته إلا بسبب الزنى، وتزوج بأخرى بزني، والذي يتزوج بمطلقة يزني.

شرائع التوراة والمسيحية:

الطلاق إذن لا يجوز ولا يقع، ولكن استثنيت حالان يجوز فيهما الافتراق: الحال الأولى: حال زنى أحد الزوجين، فللآخر أن يطلب التفريق، ويجاب في هذه الحال إن ثبت الزنى. الثاني: إذا كان أحد الزوجين غير مسيحي فيصبح التفريق عند تهاجرهما وعدم الألفة بينهما، ولذا جاء في رسالة بولس إلى أهل كورنثوس: والمرأة التي لها رجل غير مؤمن، وهو يرتضي أن يسكن معها فلا تتركه، لأن الرجل غير المؤمن مقدس في المرأة، والمرأة غير المؤمنة مقدسة في الرجل، وإلا فأولادكم نجسون، وأما الآن فهم مقدسون، ولكن إن فارق غير المؤمن فليفارق". ولقد أمرت المسيحية في وصايا رسلهم بأن يحب الرجال نساءهم. فقد جاء في إحدى رسائل بولس: "أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة، وأسلم نفسه لأجله" وفيها أيضاً: وأما أنتم أيها الأفراد فليحب كل واحد امرأته، هكذا كنفسه، وأما المرأة فلتحب رجلها. شرائع التوراة والمسيحية: منزلة شرائع التوراة في المسيحية: 77- ولقد كان المفهوم من أن المسيحية تعتبر التوراة وأسفار النبيين السابقين كتباً مقدسة تسميها كتب العهد القديم، أن تأخذ بكل الشرائع التي نصت عليها التوراة إلا ما خالفه المسيح بنص قد أثر عنه، ويظهر أن المسيحيين استمروا على ذلك نحواً من اثنتين وعشرين سنة من بعد المسيح، وهم في هذا كانوا يسيرون على المنهاج الذي سنه والطريق الذي بينه. ولكن التلاميذ اجتمعوا بعد مضي اثنتين وعشرين سنة من تركه لهم، وخطب يعقوب فيهم، مقترحاً عليهم أن يحصروا المحرم على الأمم في أربعة، وهي: الزنى، وأكل المخنوق والدم، وما ذبح للأوثان، وكان ذلك لأنهم وجدوا أن الختان يشق على بعض من يدعونهم إلى النصرانية فيفرون منها بسببه. وهذا نص ما جاء في الإصحاح الخامس عشر من سفر الأعمال بعد

بيان خلاف التلاميذ بشأن الختان، واجتماعهم لأجل الفصل في شأنه حينئذ رأى الرسل والمشايخ أن يختاروا رجلين منهم، فيرسلوها إلى أنطاكية مع بولس وبرنابا، وهما يهوذا الملقب برسابا، وسيلا، رجلين متقدمين في الأخوة، وكتبوا بأيديهم هكذا: الرسل والمشايخ يهدون سلاماً إلى الأخوة الذين هم من الأمم في أنطاكية وسورية وكيليكية، إذ قد سمعنا أن أناساً خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال مقلبين أنفسكم، وقائلين أن تختنوا وتحفظوا الناموس، من الذين نحن لم نأمرهم، وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين، ونرسلهما إليكم مع حبيبنا برنابا، وبولس، رجلين قد بذلا أنفسهما لأجل اسم ربنا يسوع المسيح، فقد أرسلنا يهوذا وسيلاً، وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاها، لأنه قد رأى الروح القدس، ونحن - ألا نضع عليكم ثقلاً أكثر، غير هذه الأشياء الواجبة أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق، والزنى التي أن حفظتم أنفسكم منها، فنعماً تفعلون، كونوا معافين". في هذا الخطاب يتبين أن المشايخ والتلاميذ يحللون للناس كل ما حرمه الناموس، أي التوراة وكتب النبيين السابقين، ولا يجعلون محرماً عليهم ألا أربعة أمور، والامتناع عنها هو الأمر الواجب فقط. وبذلك حل لهم كل شيء حرمته التوراة، حل لهم الخمر والخنزير، وكل ما كانت التوراة وشرائع النبيين قد حرمته. وبأي شيء أعطى هؤلاء القدرة على التحليل والتحريم؟ قد قالوا أن ذلك بإلهام من روح القدس وتجليه. وقد ذكر صاحب سفر الأعمال عن لسان بطرس، إنه قال في افتتاح ذلك الاجتماع الذي أصدر ذلك القرار مل نصه: "أيها الرجال الأخوة أنتم تعلمون أنه منذ أيام قديمة اختار الله بيننا إنه بلمي يسمع الأمم كلمة الإنجيل ويؤمنون. والله العارف للقلوب شهد لهم معطياً لهم روح القدس، كما لنا أيضاًَ، ولم يميز بيننا وبينهم بشيء، إذ طهر بالإيمان قلوبهم، فالآن لماذا تجربون الله بوضع نير على عنق التلاميذ لم يستطيع آباؤنا ولا نحن أن نعمله ولكن بنعمة الرب يسوع المسيح نؤمن أن نخلص، كما أولئك أيضاً". فمن هذا النص يستفاد أن الذي سوغ لهؤلاء أن ينصرفوا جهراً عما كانوا عليه، وعما تركهم المسيح عليه، هو أنهم ينزل عليهم الروح القدس، كما كان ينزل على النبيين والصديقين، وذلك في اعتقاد كتاب المسيحية، وقد بينا حقيقة ذلك في موضعه من كلامنا عن الكتب.

تحليل لحم الخنزير مع تحريمه في التوراة:

تحليل لحم الخنزير مع تحريمه في التوراة: ولقد أحلوا فيما أحلوا من محرمات التوراة لحم الخنزير وكان المعروف إنه حرام في النصرانية التي تأخذ بكتب العهد القديم، وعلى رأسها التوراة. ويروى ابن البطريق في هذا المقام أن اليهود لما دخلوا في النصرانية بسبب اضطهاد قسطنطين لهم بعد تنصره تشكك النصارى في إيمانهم، فأشار بطريرك القسطنطينية على قسطنطين أن يخبرهم بحملهم على أكل لحم الخنزير وقال له: "أن الخنزير في التوراة حرتم، واليهود لا يأكلونه، فتأمر أن تذبح الخنازير، وتطبخ لحومها ويطعمون منها هذه الطائفة، فمن لم يأكل علمت إنه مقيم على اليهودية" عندئذ آمن قسطنطين بتحريم الخنزير، إذ نصت على التحريم التوراة المقدسة في نظر النصارى، كما هي مقدسة في نظر اليهود، وقال: "أن الخنزير في التوراة محرم فكيف يجوز لنا أن نأكل لحمه، ونطعمه للناس" ولكن البطريرك مازال به حتى حمله على الاعتقاد بأنه حلال، فقد قال له: "أن سيدنا المسيح قد أبطل سائر ما في التوراة، وجاء بتوراة جديدة هي الإنجيل، وقال في إنجيله المقدس أن كل ما يدخل الفم ليس ينجس الإنسان، إنما ينجس الإنسان كل ما يخرجه من فيه" يعني السفه والكفر، وغير ذلك مما يجري مجراه. ويقص قصة عن بولس رسولهم بأن بطرس رأى رؤيا تفيد التحليل، وبذلك يحللون الخنزير.

المجامع المسيحية تاريخها - وأسبابها - وقراراتها

المجامع المسيحية تاريخها - وأسبابها - وقراراتها 78- قد شرحنا فيما اسلفنا من القول العقائد المسيحية، كما هي فس كتبهم ولم نتجه إلى ألان لدراستها دراسة نقيدة لأننا نجدهم يجتهدون في تصويرها ويشعرون بعظم المشقة في ذلك، حتى إذا يئسوا قالوا أنها فوق العقل، وأن العقل لا يستطيع تصويرها تصويراً كاملاً، وأنها ستنجلي يوم القيامة، ولذلك نجد من الظلم لأنفسنا أن نناقشها، لأن العقل لا يستسيغها باعترافهم فكيف نناقشها؟ وهم يلقنون الصبية بأن يجتهدوا في تصورها وتصديقها، لا في البرهنة لها وإثباتها، ولذلك نترك الآن مناقشتها بالعقل، ونحيل القارئ الكريم على ما كتب الذين ناقشوها من فطاحل العلماء، ونخص بالإشارة كتاب إظهار الحق للشيخ - رحمه الله - الهندي، وكتاب الفارق فيما بين المخلوق والخالق، والقول الصحيح لابن تيمية، بلل الله ثراهم، فإن هؤلاء لم يتركوا مقالاً لقائل. ويهمنا الآن في بحثنا التاريخي أن نبين الأدوار التي مرت عليها هذه العقيدة، فإنه من المقرر في تاريخ المسيحية بالبداهة أن التثليث بالشكل الذي يعتقده جماهير المسيحيين، أو الكثرة الغالبة فيهم، لم يعلن للناس دفعة واحدة، بل في أزمان متفاوتة مختلفة، وكان بإعلان المجامع التي كانت تعقد من الأساقفة، وفيها يقرر المجمع رأيا معيناً، ولا يهمنا مما كانت تقرره تلك المجامع ألا ما يتعلق بالعقيدة وإن كنا سنعرض أحياناً لما كان يجئ في ثنايا قراراتها من بعض النظم. كيف وجدت فكرة جمع المجامع: والمجامع في المسيحية هي كما يقول علماؤهم جماعات شورية في المسيحية، قد رسم رسلهم نظامها في حياتهم. حيث عقدوا المجمع بأورشليم بعد ترك المسيح لهم باثنتين وعشرين سنة، وقرر ذلك المجمع، كما علمت قريباً، عدم التمسك بمسألة الختان، بل زاد فقرر عدم التمسك بشرائع التوراة، وكا وليها من سائر أسفار العهد القديم المقدس عندهم

المجامع العامة والمجامع الخاصة:

فيما يتعلق بالتحريم، إلا تحريم الزنى، وأكل المخنوق، وأكل الدم وأكل ذبائح الأوثان، فقد قالوا أن التلاميذ والمشايخ بهذا المجمع الذي بينه سفر الأعمال في إصحاحه الخامس قد سنوا للمسيحيين سنة جمع المجامع لدراسة ما يتعلق بالعقيدة والشريعة. المجامع العامة والمجامع الخاصة: والمجامع عندهم قسمان: مجامع عامة أو على حد تعبيرهم مجامع مسكونية، أي تجمع رجال الكنائس المسيحية في كل أنحاء المعمورة، والمجامع المكانية وهي التي تعقدها كنائس مذهب أو أمة في دوائرها الخاصة من أساقفتها وقساوستها" أما لإقرار عقيدة، أو لرفض عقائد أخرى. ويقسم المجامع صاحب كتاب سوسنة سليمان إلى ثلاثة أقسام فيقول: "وهذه المجامع تنقسم بالنظر إلى عدد أربابها ودرجاتهم وشوكتهم إلى ثلاثة أقسام وهي: مجامع عامة، ويقال لها مسكونية، ومجامع ملية، أي خاصة بطائفة دون غيرها، ومجامع إقليمية، أي خاصة بإقليم مخصوص. لكن مقاصد كلامنا لا تحتاج إلا إلى ذكر المجامع التي تعتبر عامة، سواء صادق عليها الجميع أو إنكرها بعضهم على بعض، لما في ذلك من معرفة النتائج التي تولدت عنها". هذا كلام صاحب ذلك الكتاب المسيحي، وإذا كان هو لا يعني في تاريخ ديانته إلا بالمجامع العامة، فنحن كذلك لا نعني إلا بها، وقد أحصى المجامع العامة من القرون الأولى للمسيحية إلى سنة 1869 فكانت عدتها عشرين مجمعاً، وقد ذكرها جميعاً بالإجمال، وذكر قراراتها بالإشارة وسنحذو حذوه في بعضها، وسنترك الإجمال إلى بعض التفصيل في بعضها الآخر، وخصوصاً في المجامع التي كانت في القرون الأولى للمسيحية لأنها التي حددت للأخلاق حدود العقيدة المسيحية في نظر مقريها، وهي التي رسمت المسموح والتقاليد الكنسية القائمة في الكنائس، أو بعضها الكثير إلى الآن، وهي التي فلحت الأرض لتبذر هذه المسيحية التي سادت أفكار المسيحيين في الأجيال من بعد. ونبدأ بأعظم هذه المجامع، وأبعدها أثراً، وأكبها شأناً، وأولها وجوداً وأعظمها ذكراً وهو مجمع نيقية.

1- مجمع نيقية سنة 325

1- مجمع نيقية سنة 325 سبب انعقاده العام الاختلاف بينهم في شخص المسيح: 79- أشتد الاختلاف بين الطوائف المسيحية الأولى، وتباعدت مسافات الخلف تباعداً شديداً، لا يمكن أن يكون معه وفاق، وكان الاختلاف يدور حول شخص المسيح، أهو رسول من عند الله فقط، من غير أن تكون له منزلة أكثر ممن له شرف السفارة بين الله وخلقه، أم له بالله صلة خاصة أكبر من رسول، فهو من الله بمنزلة الابن، لأنه خلق من غير أب، ولكن ذلك لا يمنع إنه مخلوق لله، أنه هو كلمته، ومن قائل إنه ابن الله، له صفة القدم، كما لله تلك الصفة، وهكذا تباينت نحلهم، واختلفت، وكل يزعم أن نحلته هي المسيحية الصحيحة التي جاء بها المسيح عليه السلام، ودعا إليها تلاميذه من بعده، ويظهر أن ذلك الاختلاف، وتلك النحل المتباينة المتنازعة، وقد ظهرت بعد أن دخلت طوائف مختلفة من الوثنيين من الرومان، واليونان، والمصريين، فتكون في المسيحية مزيج غير تام التكوين، غير تام الإتحاد والامتزاج، وكل قد بقى عنده عن عقائده الأولى ما أثر في تفكيره في دينه الجديد، وجعله يسير على مقتضى ما اعتنق من القديم من غير أن يشعر أو يريد. وممن دخل في ذلك الدين فلاسفة لهم آراء فلسفية أرادوا أن يفهموا ما اعتنقوه جديداً على ضوئها، وعلى مقتضى منطقها وتفكيرها. ولقد كانت تلك الاختلافات كامنة لا تظهر مدة الاضطهادات الرومانية، لأنهم شغلوا بدفع الأذى، ورد البلاء واستقبال المحن والكوارث، وكانوا يستسرون بدينهم ولا يظهرونه، ويخفون عقائدهم، ولا يعلنونها، حتى إذا رزقوا الأمان، ونزلت عليهم سحائب الاطمئنان ظهرت الخلافات الكامنة، وإذا هم لم يكونوا متفقين إلا في التعلق باسم المسيح، والاستمساك بالانتساب إليه، من غير أن يتفقوا على شيء في حقيقته، ولذا لما منحهم قسطنطين عطفه، واعتزم الدخول في النصرانية، ووجد هذا الاختلاف الشديد، أمر بعقد مجمع نيقية.

الاختلاف الخاص الذي انعقد المجمع بعده:

الاختلاف الخاص الذي انعقد المجمع بعده: 80- هذا هو السبب في عقد مجمع نيقية بشكل عام، لكن له سبباً خاصاً يتعلق بنوع من هذه الخلافات، وهو ما يسمونه في تاريخهم بدعة أريوس، كان هذا الرجل في مصر داعية قوى الدعاية، جريئاً فيها، واسع الحيلة، بالغ الأدب، قد أخذ على نفسه مقاومة كنيسة الإسكندرية فيما تبثه بين المسيحيين من أُلوهية المسيح وتدعو إليه، فقام هو محارباً ذلك، مقراً بوحدانية المعبود، منكراً ما جاء في الأناجيل مما يوهم تلك الأُلوهية. كلام أريوس: وقد قال في بيان مقالته ابن البطريق: "كان يقول أن الأب وحده الله والابن مخلوق مصنوع، وقد كان الأب إذ لم يكن الابن". ولم يكن بدعاً في القول بهذه الفكرة بين المسيحيين، بل إنها كانت معروفة مذكورة مشهورة من قبله، كما يقول المسيحيون أنفسهم. ولقد جاء في كتاب تاريخ الأمة القبطية ما نصه: "الذنب ليس على أريوس بل على فئات أخرى سبقته في إيجاد هذه البدع. فأخذ هو عنها. ولكن تأثير تلك الفئات لم يكن شديداً كما كان تأثير أريوس الذي جعل الكثيرين ينكرون سر الأُلوهية، حتى أنتشر هذا التعليم وهم". انتشار رأي أريوس وطرق محاربته: ولقد كان لرأي أريوس في اعتبار المسيح مخلوقاً لله مشايعون كثيرون، فقد كانت الكنيسة في أسيوط على هذا الرأي، وعلى رأسها ميليتوس، وكان أنصاره في الإسكندرية نفسها كثيرين من حيث العدد، أقوياء من حيث المجاهرة بما يعتقدون، كما كان لهذا الرأي مشايعون في فلسطين ومقدونية، والقسطنطينية. وقد أراد بطريرك الإسكندرية أن يقضي على هذه الفكرة، فلم يعمد إلى المناقشة والجدل، حتى لا يتسع الخرق على الراقع، وحتى لا يلحن بالحجة عليه أريوس، ولكنه عمد إلى لعنه وطرده من حظيرة الكنيسة. ويبنى ذلك على إنه رأي المسيح يتبرأ من أريوس وبلعنه، نفي من الكنيسة مرتين لهذا الرأي، وبحجة تلك الرؤى المنامية، ومن أمثلتهم قول

تدخل قسطنطين وجمع مجمع نيقيا:

البطريرك بطرس الذي أمر بنفيه: "أن السيد الكسيح لمن أريوس هذا فاحذروه، فإني رأيت المسيح في النوم مشقوق الثوب، فقلت له يا سيدي من شق ثوبك؟ فقال لي: أريوس، فاحذروا أن تدخلوه معكم". ولم يجد النفي وإعلان الرؤى والأحلام في القضاء على رأي أريوس وجمع الناس حول قوة الكنيسة، حتى إذا ولي أمر الكنيسة البطريرك إسكندر أخذ يعالج المسألة بنوع من الحيلة والصبر، فكتب إلى أريوس وزعماء هذا الرأي يدعوهم إلى رأي كنيسة الإسكندرية، ولكن محاولته لم تجد أيضاً، فعقد مجمعاً في كنيسته بالإسكندرية وحكم على أريوس بالحرمان منها فلم يخضع لهذا ولم يخنع، وغادر الإسكندرية إلى فلسطين. وقد كان مذهب عدم أُلوهية المسيح ذائعاً منتشراً، وكان أسقف مقدونية على مذهب أريوس أيضاً، ويعظ على أساسه، وفي الحق أننا نجد أن أسقف مقدونية وأسقف فلسطين، وكنيسة أسيوط، كل أولئك على رأي أريوس، وكنيسة الإسكندرية وحدها هي التي تحاربه، فالخلاف محصور إذن بين أريوس، ومعه أسيوط وفلسطين، ومقدونية وبين بطريرك الإسكندرية. تدخل قسطنطين وجمع مجمع نيقيا: 81- وقد تدخل قسطنطين إمبراطور الرومان في الأمر. فأرسل كتاباً إلى أريوس والإسكندر يدعوهما إلى الوفاق، ثم جمع بينهما، ولكنهما لم يتفقا، فجمع مجمع نيقية سنة 325. ويقول ابن البطريق المسيحي في وصف المجتمعين وعددهم ما نصه: "بعث الملك قسطنطين إلى جميع البلدان، فجمع البطاركة والأساقفة فأجتمع في مدينة نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة. وكانوا مختلفين في الآراء والأديان، فمنهم من كان يقول أن المسيح وأمه إلهان من دون الله، وهم البربرانية، ويسمون المريميين، ومنهم من كان يقول أن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها، وهي مقالة سابليوس وشيعته، ومنهم من كان يقول: لم تحبل به مريم تسعة أشهر، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب، لأن الكلمة دخلت في أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهي مقالة البيان وأشياعه".

ومنهم من كان يقول أن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وإن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصطفى ليكون مخلصاً للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمى ابن الله، ويقولون: الله جوهر قديم واحد، وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس، وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية وأشياعه، وهم البوليقانيون. ومنهم من كان يقول أنهم ثلاثة آلهة لم تزل: صالح، وطالح، وعدل بينهما، وهي مقالة مرقيون اللعين وأصحابه، وزعموا أن مرقيون رئيس الحواريين، وأنكروا بطرس، ومنهم من كان يقول بأُلوهية المسيح وهي مقالة بولس الرسول ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً" أ. هـ. المراد منه. موقف قسطنطين من المتناظرين: اجتمع أولئك المختلفون، وسمع قسطنطين مثال كل فرقة من ممثليها، فعجب أشد العجب مما رأي وسمع، فأمرهم أن يتناظروا لينظر الدين الصحيح مع من، وأخلى داراً للمناظرة، ولكنه جنح أخيراً إلى رأي بولس، وعقد مجلساً خاصاً للأساقفة الذين يمثلون هذا الرأي وكانت عدتهم ثمانية عشر وثلاثمائة. انحيازه لرأي مؤلهي المسيح مع إنهم ليسوا الكثرة: ويقول في ذلك ابن البطريق: "وضع الملك للثلاثمائة والثمانية عشر أسقفاً مجلساً خاصاً عظيماً، وجلس في وسطهم وأخذ خاتمه، وسيفه، وقضيبه. فدفعه إليهم وقال لهم: قد سلطتكم اليوم على مملكتي، لتصنعوا ما ينبغي لكم أن تصنعوا مما فيه قوام الدين، وصلاح المؤمنين، فباركوا الملك، وقلدوه سيفه، وقالوا له: أظهر دين النصرانية، وذب عنه، ووضعوا له أربعين كتاباً فيها السنن والشرائع، منها ما يصلح للملك أن يعلمه ويعمل به، ومنها ما يصلح للأساقفة أن يعملوا به". العقيدة التي فرضها المجمع: وضع هذا المجمع المحدود من الأساقفة قرارات في العقدية والشرائع، ليقيدوا بها المسيحيين، ولا يهمنا إلا بيان العقيدة التي قررها المجمع وفرضها على المسيحيين.

قراراته تؤيد برهبة السلطان:

وقد ذكرها صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية، فقال عنها ما نصه: "إن الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجوداً فيه، وإنه لم يوجد قبل أن يولد، وإنه وجد من لا شيء. أو من يقول أن الابن وجد من مادة أو جوهر غير الله الأب، وكل من يؤمن إنه خلق، أو من يقول إنه قابل للتغيير، ويعتريه ظل دوران". قراراته تؤيد برهبة السلطان: 82- إذن قرر المجمع أُلوهية المسيح، وإنه من جوهر الله، وإنه قديم بقدمه، وإنه لا يعتريه تغيير ولا تحول، وفرضت تلك العقيدة على المسيحيين قاطبة مؤيدة سلطان قسطنطين، لاعنة كل من يقول غير ذلك والذين فرضوا هذا القول 318 أسقفاً، ويخالفهم في ذلك نحو سبعمائة وألف أسقف، وأن لم يكونوا متفقين فيما بينهم على نحلة واحدة، فهل ذلك المجمع لم يخل من نقد؟ إن باب النقد فيه متسع. النقد الموجه إلى المجمع: (أ) وأول ما يلاحظه الناقد أن الذين دعوا إليه، وجابوا الأمصار ووصلوا إلى نيقية بدعوة من قسطنطين، وبتفاهم البطارقة فيما بينهم بلغوا ثمانية وأربعين وألفين من الأساقفة، ولكنا نجد العدد ينزل إلى ثمانية عشر وثلاثمائة أسقف، فما هي آراء الباقين؟ ولماذا أهملت كل هذا الإهمال؟ أكانوا جميعاً مختلفين في النحل والآراء، حتى أن نحلة لم يصل عددها إلى 318، فلما تعذر الأخذ بالكثرة المطلقة التي يزيد عددها على النصف، ولو واحداً، اتجهوا إلى الأخذ بالكثرة النسبية، وهو اعتناق الر أي الذي يأخذ به أكبر عدد في الأصوات وإن لم يصل النصف أو يقاربه؟ إن المروي غير ذلك، لأن ابن البطريق يقول: أن قسطنطين هو الذي أختار أن يعقد أولئك الأساقفة الذين يبلغون 318 مجلساً خاصاً بهم، وحضر هو المجلس، وأعطاهم شارة الملك والسلطان لأنهم أفلحوا على أخوانهم في زعم ابن البطريق المسيحي التثليثي، ولأن الرواة يقولون أن أريوس لما اجتمع بهم وألقى بدعوته ونحلته إليهم أنضم إلى آرائه أكثر من سبعمائة أسقف، وذلك العدد هو أكبر عدد نالته نحلة من تلك النحل المختلفة، فلو كانت النصرة بالكثرة النسبية، لكان الواجب إذن أن يكون الغلب لأريوس الذي

أمره بتحريق ما يخالفه:

احتج بما تحت أيديهم من أناجيل، فلما عارضوه بنصوص أخرى تدل على ألوهية المسيح قرر تحريفها. الرغبة والرهبة من السلطان لهما دخل في القرارات: ويظهر أن عصا السلطان ورهبة الملك كان لهما دخل في تكوين رأي الذين رأوا أُلوهية المسيح، فلقد يروى أن أولئك الـ 318 لم يكونوا مجمعين على القول بألوهية المسيح، ولكن تحت سلطان الإغراء بالسلطة الذي قام به قسطنطين بدفعه إليهم ثارة ملكه ليتحكموا في المملكة اجمعوا. فقد دفعهم حب السلطان إلى أن يوافقوا هوى قسطنطين الذي ظهر في عقده مجلساً خاصاً بهم دون الباقين، لاعتقاده إمكان إغرائهم، فأمضى أولئك ذلك القرار تحت سلطان الترهيل أو الترغيب، أو هما معاً. وبذلك قرروا أُلوهية المسيح، وقسروا الناس عليه بقوة السيف، ورهبة الحكام. المجمع فرض لنفسه سلطاناً كهنوتياً على الناس: (ب) أن المجمع فرض نفسه حكومة وجماعة كهنوتية تلقى على الناس أوامر الدين وعليهم أن يطيعوا راغبين أو كارهين، وقرر أن تعاليم الدين لا يتلقونها من كتب المسيحية رأساً، بل لابد من تلقيها من أفواه العلماء ورجال الكهنوت، وإن أقوالهم في ذاتها حجة، سواء أخالفت النصوص أم وافقت، وسواء أكانت الصواب، أم جافت الحق، وإن ذلك كان له ما بعده في المسيحية. وهو مخالف كل المخالفة لما جاء في تعاليم المسيح المنصوص عليها، حتى كتبهم التي يقرءونها ويعترفون بها، فقد جاء في الإصحاح العشرين من إنجيل متى ما نصه: "رؤساء الأمم يسودونهم، والعظماء يسلطون عليهم، فلا يكن فيكم هذا" ولكن العلماء تسلطوا على إخوانهم المسيحيين لما أعطاهم قسطنطين خاتمه وسيفه وقضيبه، وبذلك خالفوا المسيح عليه السلام ليطيعوا قسطنطين. أمره بتحريق ما يخالفه: (جـ) أن المجمع أمر بتحريق الكتب التي تخالف رأيه، وتتبعها في كل مكان، وحث الناس على تحريم قراءتها، فهو بهذا يمنع أن يصل إلى الناس علم بأي أمر من الأمور التي تخالف رأيه، وهو بهذا يحاول التحكم في القلوب، والسيطرة على النفوس بحملها على قراءة ما وافق رأيه، ومنعها

منعاً بأنا جازماً من أن يقرأ غيره، ويسد عليها منافذ النور للاهتداء إلى ما يخالفه، ولعل المجمع مخطئ في ذلك التحريم، وآثم في ذلك التحريف، بل إن المجامع العامة من بعد قد خطأته، فأعادت إلى حظيرة التقديس كتباً حرمها، وأخرجت من البلى كتباً حرفها" قد حرم كتباً من العهد القديم، ولم يعترف بها فاعترفت بها المجامع المسيحية من بعده، وحرم من كتب النصارى المعتبرة الآن: رسالة بولس إلى العبرانيين، والرسالة الثانية لبطرس، والرسالة الثانية والثالثة ليوحنا، ورسالة يعقوب، ورسالة يهوذا، ومشاهدات يوحنا، ولكن المجامع من بعد أقرتها، وأجمعت عليها. إذن لم يكن المجمع مصيباً من كل الوجوه، وإن أخطأ في معرفة الصحيح من الكتب، فآراؤه الأخرى أكثر عرضة للخطأ وأكثر استهدافاً للنقد، لعل أشدها صلة بالباطل، وأقربها به رحماً، وأدناه إليه هو ما يتعلق بالعقيدة. قسطنطين يتدخل ذلك التدخل وهو لم ينتصر: (د) بقى أمر نشير إليه إشارة خفيفة، وهو مقام قسطنطين في المسيحية عند انعقاد ذلك المجمع، أكان مسيحياً عاما بالمسيحية في ذلك الإبان، حتى ساغ له أن يحكم لبعض المجتمعين، وإن لم يكونوا الكثرة على أي اعتبار كانت الكثرة، أكثرة مطلقة أو كثرة نسبية؟. يقول المؤرخ أبوسيبوس الذي تقدس كلامه الكنيسة، وتسميه سلطان المؤرخين: "أن قسطنطين عمد حين كان أسير الفراش، وأن الذي عمده هو ذلك المؤرخ نفسه، وقد كان له صديقاً". والتعميد إعلان دخول المسيحية، إذن فقسطنطين ما كان مسيحياً في أبان انعقاد ذلك المجمع، وما كان من حقه أن يحكم بفلج هؤلاء، ويسوغ لنا أن نقول إنه كان له في هذا أرب خاص، وهو تقريبها من وثنيته، أو على الأقل عندما رجح رأي فريق على فريق كان يرجح ما هو أقرب إلى وثنيته، وأدنى إلى ما يعرفه من عقيدة، فلم تكن الحجة القوية في جانب ترجيحه على هذا الاعتبار، أو كان متهماً في ترجيحه بناء على الاعتبار الأول، وسواء أكان هذا أم ذاك، فهو قد رجح ما هو أقرب إلى الوثنية لوثنيته.

تلقى المسيحيين لقرارات المجمع:

تلقى المسيحيين لقرارات المجمع: 83- ولكن هل أمات ذلك الرأي الوحدانية التي كان يجاهر بها أريوس، وهل قضي ذلك المجمع القضاء المبرم عليها؟ إنه لو فرض أبعد الفروض عن الحق، وكانت كثرة المجمع العلم على غير رأي أريوس ما انتصروا عليه ولا قضوا على ما يدعو إليه لأن الآراء لا تنتصر بكثرة العدد بل بقوة الدليل وقوة تصور العقيدة، وقوة الاقتناع بها، وسهولة دخولها إلى العقل، واستساغته لها، ولذلك لم يقض المجمع على فكرة الوحدانية. بل ربما كانت المحاولة للقضاء عليها سبباً في شدة الاستمساك بها، والمبالغة في المحافظة عليها مما يراد بها. ولذلك أخذ البطارقة الذين لعنوا لاعتناقها يعملون الحيلة للاحتفاظ بها وحياطتها، واتخذوا الخديعة سبيلاً لذلك. فتقربوا من قسطنطين وأظهروا له الإقلاع عما كانوا عليه ليعودوا إلى ما كان لهم من مناصب. ويستطيعوا مناصرة فكرتهم. ولينالوا ثقة قسطنطين. ومن طريق هذه الثقة ينفذون إلى نفسه. ويقنعونه هو بالتوحيد. ليستطيع أن يخدمه بسلطانه قوته. كما خدم أُلوهية المسيح، أو على الأقل ليقف موقف الحياد ويترك الآراء تسير في مجراها الطبيعي. ولنقص عليك محاولة من محاولات الموحدين. مجمع صور يرفض بالإجماع قرار مجمع نيقية: يذكر ابن البطريق أن أوسابيوس أسقف نيقومدية كان موحداً من مناصري أريوس في المجمع العام قبل أن تبعده عنه كثرته. ولعن من أجل هذا وأراد أن يتقرب من قسطنطين "فأظهر إنه وافق على قرار الثمانية عشر والثلاثمائة فأزال عنه اللعنة قسطنطين. وجعله بطريرك القسطنطينية، فما أن ولى هذه الولاية حتى صار يعمل للوحدانية في الخفاء فلما أجتمع المجمع الإقليمي في صور حضره هو وبطريرك الإسكندرية الذي كان يمثل فكرة أُلوهية المسيح ويدعو إليها، وينفرد من بين البطاركة في المبالغة في الدعوة إليها، والحث عليها، ولعن كل من يقاومها. وانتهز أوسابيوس فرصة ذلك الاجتماع وأثار مقالة أريوس، ورأيه في المسيح وإنكار ألوهيته. وكان في ذلك المجمع كثيرون من الموحدين المستمسكين به، إذ لم يحتاطوا بإبعادهم، كما فعلوا في المجمع العام

ما يستنبط من هذا:

بنيقية. وأشتد النقاش بين رئيس كنيسة الإسكندرية، وبين المجتمعين، ولم يكتفوا بالنقاش القولي بل امتدت الأيدي إلى بطريرك الإسكندرية وعمدت إلى رأسه لإخراج الوثنية منها، فضربوه حتى أدموه، وكادوا أن يقتلوه، ولم يخلصه من أيديهم إلا ابن أخت الملك الذي كان حاضراً تلك الاجتماع، ولكن لما بلغ ذلك قسطنطين كرمه. ما يستنبط من هذا: وما سقنا ذلك القصص لرضانا عن تأييد الرأي بالعصا وجمع اليد، ولكن سقناه ليتبين منه القارئ مقدار حماسة الموحدين من أهل المسيحية الأولى لعقيدة التوحيد، وإنهم في تلك الحماسة لا يأبهون لشيء، ولا يهمهم إغضاب ذوي السلطان أو إرضاءهم، وسقناه لتعلم أن الموحدين كما يظهر من رواية الكتب المسيحية، وكما يستنبط كانوا الكثرة الغالبة في المسيحيين، ففي مجمع نيقية كانوا الكثرة، وفي مجمع صور الخاص كانوا الجميع ما عدا رئيس كنيسة الإسكندرية. وإذا كانوا الكثرة في المؤتمرات خاصة وعامة، فلابد أن يكونوا الكثرة في جمهور المسيحيين. وإذن تكون فكرة أُلوهية المسيح هي العارضة والأصل هو التوحيد كما يستنبط القارئ من المصادر المسيحية نفسها. وسقناه لتعلم أن قسطنطين كان يشجع دائماً المخالفين للتوحيد. وإن كان لا يظهر السخط على غيرهم أحياناً. وسقناه لتعلم أن مجمع صور كان يخالف كل المخالفة مجمع الثمانية عشر والثلاثمائة. وأخيراً سقناه لتعلم أن موطن الدعاية لألوهية المسيح كانت كنيسة الإسكندرية وحدها، فهي التي حاربت أريوس. وهي التي لعنته مرتين، ورئيسها هو الذي خالف في صور، ونال عقاب المخالفة جزاء وفاقا. فهل لنا أن نقول أن التثليث الذي اشتملت عليه فلسفة الإسكندرية كان يعلن على السنة بطاركتها. وإنهم كانوا يمثلون تلك الفلسفة بآرائهم أكثر من تمثيلهم لمسيحية المسيح عليه السلام؟ إن ذلك هو مفتاح التاريخ الصحيح فمن أراد أن يعرف كيف حالت المسيحية من توحيد إلى تأليه للمسيح، فليستعن به. نشاط الموحدين: 84- ولم ين الموحدون عن إعلان الاستمساك بعقيدتهم، وتخطئة

الذين أعلنوا أُلوهية المسيح، ومعهم في ذلك الكثرة العظمى من المسيحيين، كما يدل على ذلك ما سننقله من تاريخ ابن البطريق، فلقد حاولوا أن يجذبوا قسطنطين ابن قسطنطين إلى رأيهم بعد أن مات أبوه، فاجتمعوا به. وحسنوا رأي الموحدين له، وبينوا له إنه صميم المسيحية، وأن الأساقفة الذين ناقضوه خالفوا وجه الحق، ولم يكونوا آخذين بتعاليم السيد المسيح التي بشر بها بين الأنام، ولكنه لم يعمل على نصرتهم، ولم يعاونهم في دعايتهم، مع أن أكثر المسيحيين في ذلك العصر كانوا موحدين. يقول ابن البطريق: "في ذلك العصر غلبت مقالة أريوس على القسطنطينية، وأنطاكية وبابل، والإسكندرية". وأسيوط قد علمت أن كنيستها كانت موحدة. ويقول في بيان الإسكندرية ومصر بعد الإجمال السابق "فأما أهل مصر والإسكندرية فكان أكثرهم أريوسيين، فغلبوا على كنائس مصر والإسكندرية وأخذوها، ووثبوا على اثناسيوس بطريرك الإسكندرية ليقتلوه، فهرب منهم واختفى". وقد كان على كثير من الكنائس رؤساء موحدون يستمسكون بالتوحيد ويحثون على الاستمساك به، وكلما ولي أسقف غير موحد ثاروا به، وهموا بقتله، وهذا ابن البطريق يقص علينا أن بطريق بيت المقدس لم يكن موحداً فيثور عليه الموحدين، ويهمون بقتله فيهرب منهم، فيقول في ذلك "وثب أهل بيت المقدس، من كان منهم أريوسيا على كورلس أسقف بيت المقدس ليقتلوه، فهرب منهم، فصيروا أراقليوس أسقفاً على بين المقدس، وكان أريوسيا". وهكذا نجد مغالبة قوية بين التوحيد وألوهية المسيح، الأولى تغالب بالكثرة وقوة الإيمان، وسعة الحيلة، والثانية بقوة السلطان، وبقايا الوثنية والذين كانوا متأثرين بها، ووجدوا مواءمة بينهما وبين ما يألفون، فابتغوها لقربها مما ألفوا وغرفوا. وأمكنته التقاليد من نفوسهم. ولكن قوة السلطان طمست نور المذهب الأول. إذ أنها احتاطت فجملت كل الأساقفة ممن لم يكونوا موحدين. واحتاطت أشد الاحتياط في ذلك، وأخذ أولئك يسيطرون على قلوب العامة بالرؤى والأحلام والهامات يزعمونها، حتى اختفى المذهب الحق في لجة التاريخ، ولم يبد على السطح ألا أُلوهية المسيح.

2- المجمع القسطنطيني الأول سنة 381

2- المجمع القسطنطيني الأول سنة 381 سبب انعقاده: 85- تقرر في مجمع نيقية أن المسيح إله، وإنه ابن الأب وإنه جوهر قديم من جوهر الأب، ولم يتعرض للروح القدس أهو إله أم روح مخلوق، وليس باله. ولم يكن مجمع نيقية قد أصدر قراراً في هذا الأمر، لذلك ظهرت أفكار بين المسيحيين لا تعترف له بألوهيته، ويظهر أن الإسكندرية التي كانت مهداًَ للأفلاطونية الحديثة التي تقول بالتثليث وأن المسيطر على العالم ثلاث قوى مؤثرة فيه، قوة المكون الأول، والعقل (الابن) والنفي العامة (الروح القدس) - تريد أن تفرض ذلك فرضاً على المسيحيين، كما كانت العامل القوي في إعلان ألوهية المسيح. عدد المجمع والطعن في كونه عاماً: أخذ يجاهر رجل اسمه مقدونيوس بأن الروح القدس ليس بإله، ولكنه مخلوق مصنوع، وشاعت مقالته بين الناس، ولم يجدوا فيها نكراً ولا أمراً لا يقره العقل أو تأباه المسيحية. فأجتمع إلى ذلك ذوو الأمر من وزرائه وقواده، وبلغوه أن العامة قد فسدوا، فهم مازالوا متأثرين بوحدانية أريوس، واعتنقوا مذهب مقدونيوس في أن الروح القدس ليس بإله قديم، بل هو مخلوق مصنوع، وحرضوه على أن يجمع جمعاً من الأساقفة يثبتون عقيدة المجمع النيقوى ويدحضون قول مقدنيوس. فاجتمع في القسطنطينية خمسون ومائة أسقف وكان المقدم فيها بطريرك الإسكندرية، ويظهر أن ذلك العدد لم يكن ممثلاً لكل الكنائس. ولكل الأقاليم، ولذلك كان اعتباره مجمعاً عاماً من الأمور التي ثارت حولها الأقوال. فيقول في ذلك صاحب كتاب سوسنة سليمان: "قال الرهبان البندكيتيون أن المجمع الذي لم يكن أربابه إلا مائة وخمسين أسقفاً لا ينظم في سلك المجامع المسكونية إلا بعد أن تقره جميع الكنائس".

بطريرك الإسكندرية هو الذي يقرر أُلوهية روح القدس: اجتمع هذا المجمع في القسطنطينية، وتذاكر المجتمعون فيمن هو أولى بالرياسة فقر رأيهم على أن تكون الرياسة لأسقف القسطنطينية، وبذلك نحى عنها رئيس كنيسة الإسكندرية. وكان لذلك أثره في نفوس تابعي تلك الكنيسة كما جاء في كتاب تاريخ القبطية. ولكن مع إبعاد ممثل كنيسة الإسكندرية عن مكان الرياسة، وموضع الزعامة الذي كان فلسفة في مجمع نيقية كان هو المقدم في المناقشة، وتقرير الرأي الذي أجمع عليه المؤتمر بعد ذلك، وهذا ما نقله ابن البطريق عنه بنصه: (قال ثيموثاوس بطريق الإسكندرية: ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله، وليس روح الله شيئاً غير حياته. فإذا قلنا أن روح القدس مخلوق، فقد قلنا أن حياته مخلوقة وإذا قلنا أن حياته مخلوقة، فقد زعمنا إنه غير حي، وإذا زعمنا إنه غير حي فقد كفرنا به، ومن كفر به وجب عليه اللعن) . قرار المجمع يوافق رأي بطريرك الإسكندرية: واتفقوا على لعن مقدونيوس، فلعنوه هو وأشياعه، ولعنوا البطاركة الذين يكونون بعده، ويقولون بمقالته، إذن كان الإسكندرية فضل الصدارة في القول، والقيادة في الرأي العام، وأن لم تكن لها الرياسة. نظرة فاحصة: ونريد أن نستطرد استطراده صغيرة عاجلة، وهي أن ننظر في تلك السلسلة الفكرية التي ساقها في شكل دليل شرطي كثرت مقدماته وكثرت تالياته، وأن نظرة سريعة فاحصة إلى الأساس الذي قامت عليه السلسلة ترينا إنه جعل روح القدس هي روح الله، وهذا لا يسلمه له مخالفه. ولا يستطيع هو أن يقيم عليه دليلاً. أن روح القدس خلقه الله، وأتخذه ليكون رسولاً بينه وبين من يريد أن يلقى عليه وحياً من خلقه أو أمراً كونياً، فهي ليست روح الله المتعلقة

بذاته، وليس عنده من دليل على ما قال، ولكن هكذا ساق السلسلة، وهكذا اقتنع سامعوه. وبذلك تم له الثالوث الذي يتشابه تماماً مع فلسفة الإسكندرية، وقد أعلنها بطريرك الإسكندرية، وزادوا بذلك على مجمع نيقية هذا الأقنوم الثالث. ويقول ابن البطريق في بيان قرارهم: "زادوا في الأمانة التي وضعها الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفاً الذين اجتمعوا في نيقية الإيمان بروح القدس الرب المحي المنبثق من الأب الذي هم مع الأب والابن مسجود له، وممجد وثبتوا أن الأب والابن وروح القدس ثلاثة أقانيم، وثلاثة وجوه، وثلاث خواص، وحدية في تثليث، وتثليث في وحدية، كيان واحد في ثلاثة أقانيم. إله واحد، جوهر واحد، طبيعية واحدة". إذن تقرر التثليث، وتمت أقانيمه، ولكن ما زال للمؤتمرات العامة والمجامع العامة موضع، فإن طبيعية المسيح الإنسانية والإلهية، كيف تجتمعان؟ هذا موضع الخلاف. ولهذا تجتمع المؤتمرات.

3- مجمع أفسس الأول سنة 431

3- مجمع أفسس الأول سنة 431 سبب انعقاده: 86- أول اختلاف بينهم بعد تقرير الثالوث أن بطريرك القسطنطينية نسطور رأي أن هناك أقنوماً وطبيعة، فأقنوم الأُلوهية من الأب. وتنسب إليه. وطبيعية الإنسان وقد ولدت من مريم. فمريم أم الإنسان، وليست أم إله. ويقول في المسيح الذي ظهر بين الناس وخاطبهم، كما نقله عنه ابن البطريق: "أن هذا الإنسان الذي يقول إنه المسيح. بالمحبة متحد مع الأب، ويقال إنه الله وابن الله ليس بالحقيقة، ولكن بالموهبة". ويظهر من هذا أن المسيح الذي ظهر بين الناس لم يكن إلهاً بحال من الأحوال، ولكنه مبارك بما وهبه الله من آيات وتقديس. ولذا جاء في تاريخ الأمة القبطية عن نحلته ما نصه: النسطوريون ينكرون أُلوهية المسيح: "أما هرطقة نسطور هذه فلم تكن كغيرها نشأت عن اختلاف في عقائد الآباء والأحبار، بل هي جوهرية تختص بأعظم موضوعات الإيمان والأركان في الدين المسيحي، ذلك أن نسطور ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلهاً في حد ذاته، بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة، أو هو ملهم من الله، فلم يرتكب خطيئة، وما أتى أمراً آدا". على هذا التخريج يكون نسطور لا يعتقد بألوهية المسيح. وإن كان يعتقد إله فوق الناس، وليس مثلهم، ولقد جهر بهذا الرأي، ونادى به، وهو رئيس لكنيسة القسطنطينية، ولها مكانتها، ولكن خالفه غيره من الأساقفة، فكان أسقف روما يعلله برأيه المخالف له، مع ما عند نسطور فيما رآه من بينات، وأدلة. ولقد بلغت مقالة نسطور بطريرك الإسكندرية، وجرت المراسلات بين أسقف الإسكندرية وأساقفة أنطاكية ورومة وبيت المقدس، فاتفقوا على عقد مجمع أفسس للنظر في هذا الرأي، وإعلان صاحبه بالتبرؤ منه،

ولعنه أن أصر على رأيه، ودعوه ليسمع حكمهم في رأيه. ويظهر إنه عرفه قبل أن يجتمع المجمع. وإنهم مصرون على ما أعلنوه، كما إنه مصر على رأيه، فلم يجد كبير فائدة في حضور المجمع، فلم يحضر لا هو ولا بطريرك أنطاكية. وانعقد المجمع وعدده نحو مائتين من الأساقفة، وقرروا ما نصه كما جاء في تاريخ ابن البطريق: "أن مريم العذراء والدة الله، وأن المسيح إله حق وإنسان معروف بطبيعتين، متوحد في الأقنوم" ولقد لعنوا نسطور. قرار المجمع والاحتجاج عليه: فلما بلغ ذلك القرار يوحنا بطريرك أنطاكية غصب، وأحتج على المجمع، فأختلف المجتمعون على رأيين، وأصر المشرقيون على الرأي الذي أعلنه المجلس أولاً، وكتبوا صحيفة فيها "أن مريم القديسة العذراء ولدت إلهناً وربنا يسوع المسيح الذي مع أبيه في الطبيعة، ومع الناس في الناسوت والطبيعة" وأقروا بطبيعتين، ووجه واحد وأقنوم واحد، خالفهم بطريرك الإسكندرية أولاً، ولكن يقول ابن البطريق إنه وافق بعد ذلك وكتب إليهم: "أن أمانتي التي في صحيفتكم". انتشار النسطورية في الشرق: ولكن لم يخضع نسطور لذلك القرار. فنفى إلى مصر. ولم يندرس مذهبه بذلك النفي، ولقد وجد أرضا صالحة لها في الشرق، فلقد نهضت النسطورية في نصيين، ويقول ابن البطريق: "تكاثرت النسطورية في المشرق والعراق والموصل والفرات والجزيرة".

4- مجمع خليكدونية سنة 451

4- مجمع خليكدونية سنة 451 كنيسة الإسكندرية تعلن أن المسيح إله قد اتحد فيه اللاهوت والناسوت وصارا طبيعة واحدة: 87- ولم يحسم ذلك المجمع الخلاف في مسألة اجتماع العنصر الإنساني والعنصر الإلهي في المسيح، فلم يقض على نحلة نسطورس قضاء ببرما، وإن كان قد نفاه وآذاه، بل نمت نحلته بعد ذلك في المشرق، وذاعت في البلاد التي ذكرها ابن البطريق، ولم يتم الخلاف في ذلك عند نسطور وأتباعه، بل أن كنيسة الإسكندرية قد خرجت هي الأخرى برأي جديد عرضته على الملأ من الأساقفة وجمعوا له جمعاً قرروه فيه، وذلك الرأي أن للمسيح طبيعة واحدة اجتمع فيها اللاهوت بالناسوت، وانعقد لأجل هذا مجمع أفسس الثاني الذي تسميه الكنيسة الكاثوليكية مجمع اللصوص، وفي هذا المجمع أعلن ذلك الرأي. فلما عارضه بطريرك القسطنطينية وأعلن انسحابه من المجلس، وعدم احترامه، أمرهم رئيس المجلس بإعلام حرماته، وحدث خارج المجلس صخب شديد، وضجة كاد أن يقتل فيها رئيس كنيسة القسطنطينية وقد أشتد الاختلاف بعد ذلك حول هذا المجمع، أهو صحيح محترم السلطان، أم هو مجمع غير عام لا تلتزم بآرائه الكنائس كلها، وأشتد الاختلاف في قرارات الحرمان التي أصدرها، أهي محترمة واجبة التنفيذ، أم هي باطلة، لأنها صادرة من غير سلطة؟ حتى جاءت ملكة على الرومان تخالف ذلك الرأي، وتميل لغيره. فلتنفيذ رأيها في هذا الخلاف الشديد حول مجمع أفسس الثاني وقراراته - أمرت، هي وزوجها، بعقد مؤتمر عام، فاجتمع في مدينة خليكدونية عشرون وخمسمائة أسقف، وكان الاجتماع تحت إشراف زوج الملكة، واجتمع في شهر أكتوبر سنة 451. طلب انسحاب بطريرك الإسكندرية ورفض الطلب: وتقول مؤلفة تاريخ كتاب الأمة القبطية: "وكان أول اقتراح طلبه مندوبو رومية انسحاب ديسقورس بطريرك الإسكندرية من المجلس.

الشغب في المجمع:

فسأل الرئيس عن الباعث لهذا الانسحاب وعن الأسباب التي تلجئ المجمع إلى إخراج هذا البطريرك من قاعته؟ فكان اعتراض هؤلاء أن ديسقورس شكل مجمعاً دون أن يستأذن الكرسي الرسولي، ويقصدون بالكرسي الرسولي بابا القسطنطينية ... فلم يصادق مندوبو الحكومة على هذا الرأي السقيم، وقرر المجمع بقاء ديسقورس، ولكن على غير كرسي الرياسة، كما كان في المجمع السابق لأنها أصبحت في يد رجال الإمبراطورة، وقد حدث ضجيج وصخب ومنازعات في أثناء الاجتماع مما جعل مندوبي الحكومة يصبحون فيهم قائلين بلسان أحدهم: "إنه لا يجدر بالأساقفة وأئمة الدين أن يأتوا مثل هذه الأعمال الشائنة من صياح، وصراخ، وسب، وقذف، وضرب ولكم. بل يجب عليهم أن يكونوا قدوة للشغب في الهدوء وتسيير الأمور على محور الحكمة والسداد، ولذلك نرجوكم أن تستعملوا البرهان بدل المهاترة، والدليل عوضاً عن القول الهزاء، وأميلوا آذانكم إلى سماع ما سيتلى عليكم". الشغب في المجمع: وسارت المناقشة بعد ذلك في جو عنيف متعصب وانتهى المجمع إلى أن قرر، أن المسيح فيه طبيعتان لا طبيعة واحدة، وأن الأُلوهية طبيعة وحدها، والناسوت طبيعة وحده. التقتا في المسيح. قرار المجمع أن المسيح له طبيعتان: وقد قال ابن البطريق في بيان قرار المجمع: "قالوا أن مريم العذراء ولدت إلهناً، ربنا يسوع المسيح الذي هو مع أبيه في الطبيعة الإلهية، ومع الناس في الطبيعة الإنسانية، وشهدوا أن المسيح له طبيعتان، وأقنوم واحد، ووجه واحد، ولعنوا نسطورس، ولعنوا ديسقورس، ومن يقول بمقالته، ونفوه ولعنوا المجمع الثاني الذي كان بأفسس وقد نفى ديسقورس إلى فلسطين". الانشقاق ومداه: 88- هنا نرى انشقاقاً بين المسيحية المثلثة، واختلافاً يكون بعبد المدى في الأجيال المقبلة، وهو أساس اختلاف الكنائس إلى يومنا الحاضر

فهذا المجمع يرى أن المسيح له طبيعتان أحداهما إنسانية يشارك فيها الناس والأخرى لاهوتية، وأقنوم الابن مكون من الطبيعتين، وهو بذلك يخالف النسطوريين. لأنهم يقولون: أن أقنوم الابن لم يكن من العنصرين، بل من العنصر الإنساني وحده، ويخالف قرار أفسس الثاني الذي يقول أن المسيح طبيعة واحدة تجسد فيها العنصر اللاهوتي من الروح القدس، ومن مريم العذراء مصيرا هذا الجسد معه واحداً وحدة ذاتية جوهرية منزهة عن الاختلاط والاستحالة، بريئة من الانفصال، وبهذا الإتحاد صار الابن المتجسد طبيعة واحدة من طبيعتين، ومشيئة واحدة، وقد بدت آثار ذلك المجمع سريعة واضحة. فإن المصريين عندما بلغهم ما نزل برئيس كنيستهم غضبوا، وأجمعوا أمرهم على عدم الاعتراف بقرارات ذلك المجمع. عدم اعتراف المصريين بقرار المجمع: وتقول مؤلفة كتاب تاريخ الأمة القبطية: "ولما طرق مسامع المصريين ما لحق ببطريركهم من الحرمان والعزل هاجوا وغضبوا، واتفقوا على عدم الاعتراف بقرار المجمع الذي أصدر هذا الحكم، وأعلنوا رضاهم ببقاء بطريركهم رئيساً عليهم، ولو إنه محروم مشجوب، وأن إيمانه ومعتقده هو عين إيمانهم ومعتقدهم، ولو خالفه فيهما جميع أباطرة القسطنطينية، وبطاركة رومية، ولقد أعتبر المصريون أن الحكم الذي صدر ضد بطريركهم ماس بحريتهم الوطنية، مجحف بحقوقهم السياسية، ولو إنه حكم ديني صرف". ولقد أشتد النزاع بسبب هذا بين المصريين والرومان فثار المصريون وغضبوا عندما رأوا بطريركا يعين على غير مذهبهم، وعلى غير رغبتهم، واستمروا على غضبهم، فصاروا ينتقضون الحين بعد الحين، كلما لاحت لهم الفرصة، وديسقورس لم يمنعه النفي من أن يدعو المسيحيين إلى اعتقاده في منفاه. ويقول ابن البطريق: "لما نفي سار إلى فلسطين، وبيت المقدس، فأفسد دين كل من بفلسطين وبيت المقدس، حتى قالوا بمقالته".

المصريون يرفضون تعيين بطريرك على غير مذهبهم:

المصريون يرفضون تعيين بطريرك على غير مذهبهم: 89- ولقد كان الاختلاف يشتد كلما عين الرومان بطريركا، فإن المصريين يرفضونه محتجين بأنه على غير مذهبهم ومن غير جماعتهم، ويجب أن يكون بطريركهم بعد هذا الاختلاف من المذهب الذي ارتضوه ديناً، وباختيارهم، فكان بعض الأباطرة يأخذهم بالعنف، وأولئك هم الأكثرون، وبعضهم يأخذهم بحسن السياسة ولطف الكياسة، فيترك لهم الحرية في اختيار بطريركهم، والاطمئنان إلى مذهبهم، وكانت الأيام والسنون هكذا تسير أحياناً على نهج من الهوادة والرفق، وأحياناً كثيرة على شطط وعنف. يعقوب البرادعي ونسبة المذهب المصري إليه: وفي هذه الأثناء يتغلغل في ربوع الدولة الرومانية الدعاة إلى المذهب المصري والدعاة إلى المذهب الروماني أو مذهب رومية مقر الأباطرة أو المذهب الملكي كما سماه العرب من بعد. ولقد ظهر للمذهب المصري داعية قوي الشكيمة قوي العارضة، بليغ الأثر، أسمه يعقوب البرادعي، قد أخذ يجول في وسط القرن السادس الميلادي في البلاد الرومانية إلى مصر، يدعو الناس إلى اعتناق مذهب الكنيسة المصرية، ويبث ذلك المذهب في نفوسهم، ويدخله في قلوبهم، وسلك في سبيل ذلك المخاطرة والجرأة، لا يأبه بقوة مهما تكن، ولا لذي خطر مهما يكن شأنه. وتقول صاحبة كتاب تاريخ الأمة القبطية: "قيل إنه رسم 98 أسقفاً، وألوفا من الكهنة والقسوس، ومن ذلك الحين أطلقت كلمة يعقوبيين على جميع الذين يذهبون إلى أن للمسيح طبيعة واحدة اشتقاقاً من اسم يعقوب البرادعي زعيم هذا الحرب. ولكن من الخلط الكبير، والخبط الذي يدل على الجهل إطلاق لفظ يعقوبيين على الكنيسة القبطية المصرية، لأن مذهبها نشأ قبله، وهو تبعه إذ لا علاقة لها بيعقوب، أما إذا سميت الكنيسة الرومانية بالكنيسة الملكية فأنت مصيب غير مخطئ، لأن هذا الاسم صار علماً للكنيسة

انفصال الكنيسة المصرية نهائيا:

المذكورة من بعد الفتح الإسلامي، وهو اسم عربي الأصل مشتق من كلمة ملك، ومعناها الذين ينحازون إلى الملك، أو الإمبراطور الروماني مذهباً وسياسة". انفصال الكنيسة المصرية نهائياً: 90- ولقد كان قرار مجمع خليكدونية هو السبب في انقسام الكنائس، أو بعبارة أدق هو السبب في انفصال الكنيسة المصرية عن الكنيسة الغربية، ولقد لخص صاحب كتاب تاريخ المسيحية في مصر عقيدة الكنيسة المصرية فقال: "كنيستنا المستقيمة الرأي التي تسلمت إيمانها من كيرلس، وديسقورس ومعها الكنائس الحبشية والأرمنية، والسريانية الأرثوذكية تعتقد بأن الله ذات واحدة مثلثة الأقانيم، أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الروح القدس، وأن الأقنوم الثاني أي أقنوم الابن تجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء، فصير هذا الجسد معه واحداً وحدة ذاتيه جوهرية منزهة عن الاختلاط، والامتزاج والاستحالة، بريئة من الانفصال، وبهذا الإتحاد صار الابن المتجسد طبيعة واحدة من طبيعتين، ومشيئة واحدة". هذه هي قرارات تلك الكنيسة، وهي تخالف ما تقرر في مجمع خليكدونية كما علمنا.

المجامع الباقية

المجامع الباقية المجامع السابقة تقرر المسيحية الحاضرة: 91- عنينا ببيان المجامع الأربعة السابقة ببعض التفصيل، ولم نضن على القرطاس فيها ببعض الأطناب، لأنها المجامع التي قررت بها العقيدة المسيحية الحاضرة. فأولها قرر أُلوهية المسيح، وثانيها قرر أُلوهية الروح القدس، وثالثها قرر أن المسيح اجتمع فيه الإنسان والإله، لا الإنسان فقط، وإن مريم ولدت الاثنين، ورابعها قرر أن المسيح ذو طبيعتين منفصلتين، لا طبيعة واحدة متحدة، والمجامع الثلاثة الأولى اتفقوا على أنها مجامع عامة تلزم بأحكامها المسيحيين أجمعين، أما المجمع الرابع فهو ليس مجمعاً عاماً في نظر المصريين، والكنائس التي تنهج نهج كنيستهم. والمجامع الآتية بعد ذلك ليس فيها مجمع قد أجمع عليه المسيحيون قاطبة بأنه مجمع عام مسكوني كما يعبرون، فكل هذه المجامع لم تمثل فيها الكنيسة المصرية بعد انشقاقها على كنيسة رومة، أو انشقاق كنيسة روما عليها. وإنا نشير إلى هذه المجامع إشارة، ولا نعرج عليها بتفصيل لذلك، ولأن قراراتها كانت في فروع جزئية لا تتصل بلب التثليث إلا في بعض المجامع، وبقدر يسير، لا يمس الجوهر، ولا يتغلغل في صميمه، وقد نعرض لهذا بقليل من التفصيل. ولقد كان المجمع الخامس بالقسطنطينية سنة 553، ويسمى المجمع القسطنطيني الثاني. المجمع القسطنطيني الثاني وسبب انعقاده: ويذكر ابن البطريق أن ذلك المجمع انعقد بسبب أن بعض الأساقفة اعتنق فمرة تناسخ الأرواح، وساء فيها إلى أقصى مداها. حتى لقد قال إنه ليس هناك قيامة، وبسبب أن بعض الأساقفة قد زعموا أن شخص المسيح لم يكن حقيقة، بل كان خيالاً، فاجتمع لذلك هذا المجمع، وكانت عدة الحاضرين فيه أربعين ومائة، فقرروا حرمان هؤلاء الأساقفة، ولعنهم

وطردهم من زمرة المسيحيين، ولم يكتفوا في اجتماعهم بإصدار قرارهم في هذه الأمور، بل ثبتوا قرارات المجامع السابقة، ومنها قرار مجمع خليكدونية، وبذلك ثبتوا عقيدة كون المسيح ذا طبيعتين، وأكدوا إنكار الطبيعة الواحدة التي اعتنقتها كنيسة مصر. ومن والاها من المسيحيين. المارونية: 92- وقد ظهر رجل اسمه يوحنا مارون في القرن السابع الميلادي سنة 667 كان يقول أن المسيح ذو طبيعتين، ولكن ذو مشيئة واحدة لالتقاء الطبيعتين في أقنوم واحد، ولكن يظهر أن هذه المقالة لم ترق في نظر البطارقة لذلك، فأوعزوا إلى الإمبراطور أن يجمع جمعاً علماً في زعمهم، ليقر بأن المسيح ذو طبيعتين، وذو مشيئتين، بعد أن استوثقوا من أن الإمبراطور، واسمه يوغاقوس على رأيهم، بمكاتبات تبادلوهم معه. فقد جاء في أحد كتبه: "نحن نقر، وتؤمن بطبيعتين، ومشيئتين، وفعلين لسيدنا المسيح، وأقنوم واحد، ونلعن من خالف هذا". مجمع القسطنطينية الثالث: اجتمع كذلك المجمع السادس بمدينة القسطنطينية سنة 680 م وقد كان من عمله لعن وطرد كل من يقول بالمشيئة الواحدة. كما لعن وحرم وكفر من قال بالطبيعية الواحدة، وكان مؤلفاً من نحو تسعة وثمانين ومائتي أسقف. ويعد أن قروا لعن وطرد من يخالفهم كشأنهم دائماً. قالوا: "إننا نؤمن بأن الواحد من الثالوث الابن الوحيد الذي هو الكلمة الأزلية الدائم المستوى مع الأب الإله في أقنوم واحد، ووجه واحد، يعرف تماماً بناسوته، تماماً بلاهوته في الجوهر الذي هو ربنا يسوع المسيح بطبيعتين تامتين وفعلين ومشيئتين في أقنوم واحد، وشهدوا كما شهد المجمع الخلقيدوني أن الإله الابن في آخر الأزمان أخذ من العذراء السيدة مريم القديسة جسداً إنسانياً بنفس ناطقة عاقلة، وذلك برحمة الله محب البشر، ولم يلحقه في ذلك اختلاط ولا فساد، ولا فرقة ولا عمل، ولكن هو واحد يعمل ما يشبه الإنسان أن يعمله في طبيعته، وما يشبه الإله أن يعمله في طبيعته، الذي هو الابن الوحيد، الكلمة الأزلية المتجسدة التي صارت

مجمع تحريم اتخاذ الصور:

لحته لحماً كما يقول الإنجيل المقدس من غير أن تنتقل من مجدها الأزلي وليست بمتغيرة، ولكنها بفعلين، ومشيئتين وطبيعتين إله وإنسان، وبهما يكمل قول الحق، وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبتها، فتعملان بمشيئتين غير متضادتين". هذا بعض قرار ذلك المجمع كما جاء في تاريخ ابن البطريق، وقد أطلنا في النقل، ليكون كلام القوم مبيناً لفكرهم كما يريدون، فنقلناه خشية أن نحرف كلامهم عن معناه، أو نحيد به عن مرماه. ولقد كان من آثار هذا القرار أن خرج من جماعة كنيسة روما والقسطنطينية طائفة المارونيين، كما خرج من قبل الأقباط وكنيستهم، ومعهم الأحباش والأرمن والسريان. مجمع تحريم اتخاذ الصور: 93- وقد جاء مجمع غير علم بإقرار الجميع انعقد بأمر قسطنطين الخامس سنة 754 وفيه جمهور من الأساقفة، وفدوا إليه من جهات مختلفة وقد قرر تحريم اتخاذ الصور والتماثيل في العبادة، وحرم طلب الشفاعة من العذراء، ولأجل هذا انعقد المجمع السابع بأمر الملكة إيريني بمدينة نيقية، ويسمى المجمع النيقاوي الثاني سنة 787 وكان أعضاؤه

انفصال الكنيسة الشرقية عن الغربية وسببه:

377 أسقفاً وأصدروا القرار بتقديس صور المسيح والقديسين، لا بعبادتها، وجاء في هذا القرار: "إنا نحكم بأن توضع الصور ليس في الكنائس والأبنية المقدسة، والملابس الكهنوتية فقط، بل في البيوت، وعلى الجدران في الطرقات، لأننا إن أطلقنا مشاهدة ربنا يسوع المسيح ووالدته القديسة والرسل، وسائر القديسين في صورهم شعرنا بالميل الشديد إلى التفكير فيهم، والتكريم لهم، فيجب أن تؤدى التحية والإكرام لهذه الصور، لا العبادة التي لا تليق بالطبيعة الإلهية". هذا هو المجمع السابع قد وافق عليه عدد كبير من الكنائس فاعتبرته عاماً، وخالفته أخرى، فلم تعتبره كذلك. انفصال الكنيسة الشرقية عن الغربية وسببه: 94- ولننتقل بعد ذلك إلى المجمع الثامن، وهو أساس انفصال الكنائس الشرقية التي ترأسها كنيسة القسطنطينية عن الكنائس الغربية التي ترأسها كنيسة روما. وقد علمت أن المجامع الماضية التي انفصلت بسببها فرق مسيحية كان أساس الخلاف فيها طبيعية المسيح، ولم يتعرض أحد للروح القدس، ومن أي شيء انبثق، حتى أثار بطريرك القسطنطينية كيف كان انبثاقه، فحكم بأن انبثاق الروح القدس كان من الأب وحده، فعارضه في ذلك بطريرك رومة قائلاً: "أن انبثاق الروح القدس كان من الأب والابن معاً، ولم يكن من أحدهما، وكل فريق عاضد رأيه بجمع قد جمعه، وكلاهما قد أعتبر هو ومشايعوه مجمعه عاماً ملزماً للأخر" ومجمع الأخر خاصاً غير ملزم، وكل لعن الآخر وطرده، وأعتبره محروماً مطروداً من حظيرة المسيحية، كشأنهم عند كل اختلاف. أعلن بطريرك القسطنطينية رأيه، وهو أن الروح القدس انبثق من الأب فقط، وفوق ذلك قد أولى هذا للبطريرك كرسيه من غير إرادة رئيس الكنيسة بروما، وبعد أن دس لسلفه ما أبعده عن كرسيه. فاجتمع في القسطنطينية مجمع بعد عزل البطريرك الذي ناوا روما سنة 869، وأصدر قراراً يتضمن البت في ثلاثة أمور: أولها: كون انبثاق الروح القدس من الأب والابن.

الكنيسة الغربية أو الكنائس:

ثانيها: أن كل من يريد المحاكمة في أمر يتعلق بالمسيحية وعقائدها يرفع دعوى إلى الكنيسة بروما. ثالثها: أن جميع المسيحيين خاضعون لكل المراسيم التي يقوم بها رئيس كنيسة روما. وتلك القرارات كانت مع قرار آخر يعتبر عندهم سنة متبعة، وهو لعن ذلك البطريرك المعزول واسمه فوسيوس، وحرمانه هو وأتباعه. استطاع فوسيوس هذا أن يعود إلى منصبه، فلما عاد إليه كان أول ما صنعه أن عقد مجمعاً آخر في القسطنطينية سنة 879، ويسمى هذا المجمع الشرقي اليوناني، كما يسمى الأول الغربي اللاتيني، وقد قرر فيه رفض كل ما قرره المجمع الأول، وقرر أن انبثاق الروح القدس من الأب فقط، وقد صار كل مجمع يعتبر عاماً عند مشايعيه. كما يعتبرون الآخر خاصاً، بل باطلاً غير ملزم، وكل يكفر أو يفسقه و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . 95- كان هذان المجمعان هما السبب في انقسام الكنيسة إلى شرقية يونانية، وغربية لاتينية، ورئيس هذه الكنيسة الغربية هو البابا، وهو مستقل بسياستها وله السلطان على كل الطوائف المنقادة إلى تعاليمها. الكنيسة الغربية أو الكنائس: وتسمى الكنيسة البطرسية لكون مشايعيها يعتقدون أن مؤسسها الأول هو بطرس الرسول في زعمهم، ويزعمون إنه كبير الحواريين ورئيسهم، ويقولون إنه رأس هذه الكنيسة، والبابوات خلفاؤه من بعده. وتسمى الغربية لكون سلطانها في بلاد الغرب، ويقول صاحب كتاب سوسنة سليمان: "وهي تدعى إنها أم الكنائس، ومسلمتهن، وربما حق لها ذلك لجهة التفاسير التي تبنى عليها أصول التعاليم التقليدية، ونظامات المجامع، وترتيبها، وهي أيضاً التي تأمر بها. وتمتد شوكتها على الخصوص في بلاد إيطاليا وبلجيكا، وفرنسا، وأسبانيا، والبرتغال، وشعوبها منتشرة في أقطار الأرض.

المجامع اللاحقة كلها غير مسكونية إلا في نظر الكنيسة الغربية:

وأما الكنيسة اليونانية، ويقال لها أيضاً كنيسة الروم الأرثوذكسية أو الكنيسة الشرقية، فأكثر مشايعيها في الشرق وسلطانها فيه، وهي تشترك مع الكنيسة الكاثوليكية في كثير من التقاليد المسيحية، ولكنها تخالفها في انبثاق الروح القدس. فتقول إنه من الأب فقط، كما بينا، ولا تعترف إلا بالمجامع السابقة على المجمع الذي أوجد الانفصال، كما لا تعترف لبابا رومة بالسيادة أو الرياسة. ولكن لمرور الزمن، وما أحيط به من تقديس بين مشايعيه، وعند الملوك، ولكثره معتنقي مذهبه، تتساهل الكنيسة الشرقية فتعترف له بالتقدم لا بالسلطان، ويليه في الرتبة بطريرك القسطنطينية، والمشايعون لها في بلاد روسيا واليونان والصرب، وكثير من جزر البحر الأبيض وغير هؤلاء. المجامع اللاحقة كلها غير مسكونية إلا في نظر الكنيسة الغربية: 96- قد انفصلت الكنيسة الشرقية عن الغربية كما عملت، والمجامع الآتيه كلها مجامع غير عامة في نظر الكنيسة الشرقية، لأن الأساقفة الذين كانوا يجيبون الدعوة فيها من أتباع الكنيسة الغربية فقط، ولذلك لا تعتبر تلك المجامع عامة إلا في نظر الغربية. فالمجمع التاسع انعقد في رومة سنة 1123، وأعظم قراراته شأناً الحكم بأن تعيين الأساقفة، ليس من شأن الحكم، بل من عمل البابا وحده. محاولة تقريب بين الكنيستين: والمجمع العاشر انعقد في رومة أيضاًَ سنة 1139، وكان أعضاؤه 1000 عضو، وقد حاول هذا المجمع إزالة الفرقة بين الكنيستين، فلم ينجح. والمجمع الحادي عشر الذي انعقد في رومة سنة 1179 كان لوضع نظام التأديب الكنسي، وفيه تقرر انتخاب البابوات بثلثي عدد الكرادلة. وكان في هذا العصر قد شاع القول باستحالة الخبز والخمر في العشاء الرباني إلى جسد المسيح ودمه، ولكن لم يقرر ذلك المبدأ.

حتى جاء المجمع الثاني عشر سنة 1315 وفيه تقرر ذلك المبدأ نهائياً ومبدأ آخر سيكون له خطر مع سابقه، وهو مبدأ أن الكنيسة البابوية تملك الغفران وتمنحه لمن تشاء. وتتوالى بعد ذلك المجامع الكاثوليكية لأغراض عامة أو إقليمية، وفي بعضها تتجدد محاولة توحيد الكنيستين المتصلين، وفي بعضها يتقرر التنقيب عن القلوب، ومحاربة الخارجين عن التعاليم المسيحية. وأهم هذه المجامع وأعظمها أثراً، وأقواها عملاً المجمع التاسع عشر الذي انعقد في تريدنتو والذي دام انعقاده من سنة 1542 إلى سنة 1563، وفيه الرد على البروتستانتية. وختام هذه المجامع هو المجمع المتمم العشرين المنعقد في رومة سنة 1869 وقد أثبتوا فيه العصمة للبابا. وقد قال في ذلك صاحب سوسنة سلميان: "وقد نشأ في ذلك انقسام في الطوائف الكاثوليكية ببلاد أوربا والشرق، والذين خالفوا هذه العقيدة من أهالي أوربا سموا أنفسهم الكاثوليكيين القدماء، ونهاية ذلك لم تزل مجهولة".

الفرق المسيحية

الفرق المسيحية 97- من البيان الذي سقناه في المجامع، وما انعقدت بسببه من خلافات يظهر لنا أن المسيحية قد أتى عليها حين من الزمن كان التوحيد هو السائد بين معتنقيها، والغائب على كل نحلة سواه من نحلها. وإنك لترى ذلك واضحاً فيما بيناه من أن أريوس عندما ظهر مقاوماً فكرة أُلوهية المسيح، ومنازعاً كنيسة الإسكندرية في ذلك المبدأ الذي كانت تبثه في النفوس وهو أُلوهية المسيح وتنادى به على رؤوس الأشهاد، بينما كان أتباعه في مصر وفلسطين والقسطنطينية، (وهذه مواطن المسيحية في ذلك الإبان) أكثر عدداً وأقوى مكانة، فكثير منهم أساقفة ورؤساء كنائس، وكل ذلك مع أن قسطنطين الإمبراطور الحاكم بأمره الذي لا معقب لحكمه كان يشايع فكرة أُلوهية المسيح ويناصرها، ويحميها ويؤيدها، كما بينا عند الكلام في مجمع نيقية إذ حمى القائلين أن المسيح فيه أُلوهية بحمايته، ووضعهم تحت ظله، وأمدهم بالجاه والسلطان. وإذا كان قد أتى حين كان فيه التوحيد هو السائد، فيصح لنا أن نقسم عصور المسيحية إلى قسمين: عصر التوحيد: ونجعل نهايته الزمن الذي انعقد فيه مجمع نيقية. أو ما ولي ذلك الزمن بقليل. إذ غالب التوحيد فكرة أُلوهية المسيح ردحاً غير قصير من الزمن بعد مجمع نيقية. والعصر الثاني: عصر تأليه المسيح، وذلك العصر يبتدئ بعد مجمع نيقية، وبعد أن استطاع أباطرة الرومان أن يطمسوا نور التوحيد في وسط المسيحيين، ويمنعوا الموحدين من نشر دعاياتهم. وإذن فمن الحق علينا أن نراعي هذا التقسيم عند الكلام في الفرق القديمة عند المسيحية، فنقسم تلك الفرق إلى قسمين: فرق ظهرت في عصر التوحيد، وربما كان وجود بعضها قبل مجمع نيقية إرهاصاً لعهد التثليث. وفرق ظهرت في عصر تأليه المسيح وعصر التثليث.

الفرق التي ظهرت في عصر التوحيد:

ونقصد بالفرق القديمة الفرق التي ظهرت قبل عصر النهضة في أوربا أي قبل القرن الثالث عشر الميلادي، وتقصد بالفرق الحديثة الفرق التي ظهرت بعد عصر النهضة، وهي التي ظهرت في عهد الإصلاح الديني، وما والاه. الفرق التي ظهرت في عصر التوحيد: 98- والفرق التي ظهرت في عهد التوحيد كثيرة، وبعضها كان مستمسكاً بالتوحيد، ومعه الكثرة الغالبة من المسيحيين كما استنبطنا من السياق التاريخي وكما يستفاد من ثنايا التاريخ، وبعضها كان قد انحرف عن التوحيد، حتى كان وجوده تمهيداً للتثليث أو سيراً ببعض الخطوات في سبيله. وأظهر الموحدين أريوس وأتباعه، وقد كانوا كثيرين. فقد شرحنا إنه قد كان يأخذ بمذهبه بطريرك القسطنطينية وغيره من البطاركة، وكان رأيه منتشراً في مصر والشام ومقدونية، وهي مواطن المسيحية كما علمت. فرقة أريوس: يقول ابن حزم في بيان فرقة أريوس: "والنصارى فرق، منهم أصحاب أريوس، وكان قسيساً بالإسكندرية، ومن قوله التوحيد المجرد، وأن عيسى عليه السلام عبد مخلوق، وإنه كلمة الله تعالى التي بها خلق السماوات والأرض، وكان في زمن قسطنطين الأول باني القسطنطينية، وأول من تنصر من ملوك الروم، وكان على مذهب أريوس. وهذا الكلام يحتاج جزؤه الأخير إلى نظر، فهو يزعم أن قسطنطين كان على مذهب أريوس، وقد بينا عند الكلام في مجمع نيقية، إنه هو الذي تدخل بنفوذه وسلطانه، فعزل أنصار لاهوت المسيح، وأعتبر المجمع مكوناً منهم دون سواهم، وقد كان المجتمعون أول الأمر أكثر من ألفين، فرفض رأي الكثير، وعقد مجمعاً مؤلفاً من ثمانية عشر وثلاثمائة، بينما يذكر الثقات من المؤرخين إنه قد صرح بنصرة أريوس من المجتمعين أكثر من سبعمائة.

أصحاب بولس الشمشاطي:

نعم لن الأريوسيين قد حاولوا بعد ذلك جذبه إلى رأيهم، وضمه إلى مذهبهم ليستفدوا منه قوة وسلطاناً، فمال إليهم أخيراً، أو أظهر الميل، وأن كان لم يعمل على نصرة مذهبهم، ولم يعقد مجمعاً ليقرر رأيهم، كما فعل بالنسبة لغيره، وأقصى ما عمله إنه رد المحرومين إلى حظيرة المسيحية، وأعاد المنفيين من منفاهم، ومكنهم من الاستمتاع بنعمة الحرية. ولعل ذلك كان كياسة منه وسياسة، إذ رآهم كثرة المسيحيين الغالبة. وأقوالهم هي الشائعة الرائحة، فأظهر الميل إليهم حتى لا ينقضوا عليه. أصحاب بولس الشمشاطي: 99- ومن الموحدين الذين أظهروا أصحاب بولس الشمشاطي، ويقول فيه ابن حزم: "كان بطريركا بأنطاكية، وكان قوله التوحيد المجرد الصحيح، وأن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهم السلام، خلقه الله في بطن مريم من غير ذكر، وإنه إنسان لا إلهية فيه. وكان يقول: لا أدري ما الكلمة، ولا روح القدس. ومن هذا يتبين أن مذهب بولس هذا كان توحيداً خالصاً، وأن عيسى ليس إلا رسولاً من رب العالمين، وإنه كان إذا عرض له البحث في كلمة الله، وروح القدس أمسك عن ذلك، ولم يخض فيه، وتوقف واعتصم بذلك. ويقول ابن البطريق في بيان مذهب بولس هذا: " أن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وأن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصطفى ليكون مخلصاً للجوهر الإنسي، صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمي ابن الله، ويقولون أن الله جوهر واحد، وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة. ولا بروح القدس، وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية، وهم البوليقانيون". هذا ما قاله ابن البطريق في معتقد بولس الشمشاطي، وهو لا يختلف في جوهره عن كلام ابن حزم الأندلسي فيه، وإن اختلفت العبارات، فالاصطفاء لتخليص الجوهر الإنسي هو ما عبر عنه ابن حزم بالرسالة،

دخول الوثنية على التوحيد:

والنعمة الإلهية التي حلت فيه هي الوحي واختياره ليكون رسول الله إلى الناس يهديهم، والنبوة التي جاءت في عبارة ابن البطريق حكاية لقول بولس هذا كناية عن المحبة، ولعل بولس لم يجرها على لسانه، أو لم تجئ في بيانه، ولكن ابن البطريق المسيحي المثلث تكلم عن الموحدين بمنطقه وتعبيره، وإن كان المراد غير موافق للمثلثين. دخول الوثنية على التوحيد: 100- وكان بجوار الموحدين الذين كانوا أقوالهم السائدة المنتشرة في ربوع المسيحيين، وجدت آراء كثيرين ممن دخلوا في المسيحيين وفيهم بقايا الوثنية، ولا تزال رؤوسهم مملوءة بها درسوه، ففهموا المسيحية على ضوء ما عرفوه أولاً. واهتضموا المسيحية متمثلة في نفوسهم بما أستكن في تلك النفوس من آراء ومعتقدات سابقة، وإن ذلك ليشبه من بعض الوجوه تلك النحل المختلفة الني ظهرت في المسلمين في إبان الغرفة التي تلت مقتل الخليفة الثالث والرابع. وما أدخل من آراء ونحل في عصر يزيد ومن وليه. ولكن الإسلام بنور القرآن الكريم وحفظه، وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما استحفظه عليه المسلمون من كتاب وسنة، وما كلاً الله به هذا الدين المتين - قد نفى عنه الدخل، وذهب الزبد جفاء، وبقى الدين، كما بعث نبيه عليه الصلاة والسلام صافياً من غير رنق ولا تكدر. أما في المسيحية فلأن الكتب قد عراها ما بيناه في الكلام عليها، وأختلط فيها الغث والسمين والطيب بالخبيث، وضلت العقول، فلم تستطيع أن تميز بين الصحيح وغير الصحيح، وذاهب الكوكب الساري الذي يضئ وسط الدجنة الحالكة، وهو كتاب مبين لا يأتيه الباطل، ولا يتطرق إليه الريب، يكون فيصل التفرقة بين المسيحية ألحقه، والأساطير الباطلة التي أفسدتها. أتباع مرقيون: دخلت تلك الأوهام على المسيحيين الموحدين وبرزت بينهم، كما تبرز رءوس الشياطين وسط أرض قد كسيت بالسندس الأخضر من الزرع

البربرانية:

وجاءت على نحل مختلفة، وأهواء متباينة، ونزعات متضاربة، وبأسماء كثيرة. فمنهم من كان يقول أن هناك آلهة ثلاثة: صالح، وطالح، وعدل بينهم، وهم أتباع مرقيون، ولعل هذه النحلة من آثار المجوس، لأنهم هم الذين يقولون بإله الخير وبإله الشر. ولقد قال ابن البطريق في هذه النحلة وأصحابها: "وزعموا أن مرقيون هو رئيس الحواريين، وأنكروا بطرس" فالمنتحلون لهذه النحلة يزعمون أن مرقيون داعيتها والمنادي بها حواري من حواريي عيسى عليه السلام، بل كبير الحواريين وشيخهم، والمقدم فيهم ورئيسهم. البربرانية: ومنهم فرقة تسمى البربرانية كانت تقول أن المسيح وأمه إلهان، ولعل هؤلاء هم الذين ذكرهم الله تعالت كلماته في قوله تعالى مبيناً ما يكون بينه سبحانه وتعالى وعيسى عليه السلام من قول يوم القيامة، قال تعالت كلماته: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . ولعل فريقاً منهم كان موجوداً عند نزول القرآن الكريم. نحل أُخر: ويقول ابن البطريق في بيان بعض فرق كانت موجودة قبل مجمع نيقية: ومنهم من كان يقول أن المسيح من الأب بمنزلة شعلة من نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية، وهي مقالة بابليدوس وشيعته، ومنهم من كان يقول: لم تحبل مريم تسعة أشهر، وإنما مر في بطنها، كما يمر الماء من الميزاب لأن الكلمة دخلت في أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعته وهي مقالة اليان وأشياعه.

ضياع التوحيد بسبب تحريف الكتب:

ضياع التوحيد بسبب تحريف الكتب: 101- هذه هي بعض المقالات والأهواء والنحل التي جاءت في عصر التوحيد ونفت صفاءه، وكانت نكتاً سوداء في وسط المسيحية الحق النضرة ولقد كان من الممكن أن تزول تلك الأمور العارضة، ويبقى الأصل سليماً نقياً، لم يتأشبه شيء من المفاسد، ولكن شرط ذلك أن يكون ثمة كتاب محفوظ لا يعتريه الشك من أي جانبي، ولا يتطرق إليه الظن والاحتمال، ليكون ميزاناً للحق والباطل، وليكون مقياساًَ تقاس به الآراء، وليكون مرجعاً يرجع إليه المختلفون. ولكن الاضطهادات التي نزلت بالمسيحيين، ومصادرة الكتب وتحريفها بأمر الرومان، والأيدي العابثة المفسدة، كل هذا جعل مصادر المسيحية يعتريها الشك والريب، ومن وراء ذلك نفذت الأهواء والأساطير إلى القلوب، وأخذت تنال من المسيحية وصميمها من غير أن يعقب معقب بنص قاطع معتمد، وكتاب ثابت السند. فكل نحلة تدعى لا تجد رداً لها من نص، وهي تروج لدى العامة لا بقوة الدليل أو النص، بل بقوة الداعي ومقدار لحنه بالحجة الباطلة والصحيحة، مقدار نشاطه وبيانه وسعة حيلته ودهائه، ودربته على جذب الجماهير. ولقد كان جمهور المسيحيين يقدس المسيح أبلغ تقديس، فكانت مهارة الدعاة وقوتهم البيانية متجهة إلى هذه الناحية، يزيدون في تقديس المسيح فيزيدون كلامهم قبولاً لدى العامة، ثم انتقلوا من التقديس المعقول إلى الغلو المرذول، فغالوا حتى عدوه إلهاً. وهكذا أخذت العقيدة تفسد، وكان العامة بين حبلين قويين، وكل حبل في يد عصبة من أولى القوة، فحبل التوحيد، ومعه العقل، ومعه الأصل ومعه السيادة للتوحيد، وحبل آخر قد أخذ يجتذب العامة إليه بقوة، وعمل على أخذهم بعاملين. عامل الاستهواء جاء من الناحية التي يحبونها، وأرضى شهوتهم فيها، وهي ناحية تقديس المسيح عليه السلام، وأخذ يلقي تعاليمه في النفوس، وقد وضعها في ذلك اللون الشهي، وذلك الطعم المستساغ.

العامل الثاني: عامل السلطان والجاه بتقريب من يقول مقالة تأليه المسيح وإدنائه من ذوي السلطان، وتمكينه من الرقاب، وتغريب من لا يقول هذه المقالة، واضطهاده، وإبعاده عن حظيرة المسيحية، ولعنه وطرده وتصويره للناس بصورة من لا يقدس المسيح، ولا يرجو له وقاراً وإجلالاً. كان العامة بين هذين العاملين مع فقد الكتب المسيحية القاطعة في الاستدلال والتي تقف المغالين عند حد الاعتدال. وقد كانت كفة التوحيد هي الراجحة، حتى بعد مجمع نيقية، ولكن جاءوا بعد ذلك، وأخفقوا صوت المنادين بالتوحيد وحيل بينهم وبين ما يدعون إليه. ولم يمكنوهم من أن تصل دعوتهم إلى العامة فصار العامة بعد ذلك لا يسمعون إلا جانباً واحداً، وخاضعين لعامل واحد، وهو الخروج عن نطاق التوحيد، فتم للحكام والقسيسين ما أرادوا واختفى تين المسيح عليه السلام. وقام دين البطارقة والقسيسين.

الفرق القديمة في عهد التثليث

الفرق القديمة في عهد التثليث 102- بعد مجمع نيقية أبعد التوحيد رسمياً عن الديانة المسيحية، وإن كان أتباعه أكثر عدداً، وأعز نفرا، ولم تستطيع الحكومة الرومانية أن تقضي على التوحيد بذلك المجمع، ولكنها أخذت تبعد الموحدين عن مكان الرياسة في الكنائس، ولا تجعل صوتهم يصل إلى الشعب بالنفي والتشريد، وكل ذرائع الأذى والاضطهاد، حتى حيل بين العامة وبين سماع صوت التوحيد، وفعل الزمن فعله، وتغلبت الظلمة على النور، وأخفى ظلام الليل نور النهار الساطع. وعندئذ كانت الفرق التي تظهر بعد ذلك في ظل أُلوهية المسيح في الجملة أن استثنينا مقدنيوس وفرقته. فرقة مقدونيوس: وأول فرقة ظهرت في ذلك العصر فرقة مقدونيوس هذا، فقد أنكرت أن يكون روح القدس إلهاً، وقاومت ما ترمي إليه الكنيسة العامة من فرض تلك الأُلوهية، ودعوة الناس إليها، وحثهم على اعتناقها، ولعل مقدونيوس هذا كان من الموحدين الذين لا يزالون يعتنقون التوحيد، ويتابسون في ذلك أريوس وسائر الموحدين. وإن كانت الغلبة لغيرهم، فهاله أن يبدأ الأساقفة بتأليه المسيح ويثنون بتأليه الروح القدس، فجاهر بإنكار الثاني، لأنه لم يعد في قوس الصبر منزع. يقول ابن البطريق: "وفي عشر سنين من ملكه (قسطنطين ابن قسطنطين الثاني) صبر مقدونيوس بطريركا على القسطنطينية، وكان يقول: إن روح القدس مخلوق، وأقام عشر سنين ومات". لكن مقالته لم تمت بموته، بل كان له أشياع وأتباع وخصوصاً من بين الموحدين الذين لم يزولوا من المملكة الرومانية، وإن أصبحوا في الجملة لا سلطان لهم. لأجل ذلك انعقد مجمع القسطنطينية سنة 381، وقد ذكرنا بعضاً من قراراته، وكان المقرر والمناظر والمجادل في هذا المقام بطريرك الإسكندرية مهد الأفلاطونية الحديثة، كما نوهنا آنفاً، ويسمى المقدونيين الأبولنياريين فقد جاء في كتاب سوسنة سليمان في بيان المجمع القسطنطيني:

النسطوريون:

"المجمع القسطنطيني المنعقد سنة 381 بأمر ثيودوس الملك ضد الأبولنياريين، وهم المقدونيون المنكرون للاهوت الروح القدس". ويعتقد الكنسيون أن إنكار أُلوهية الروح القدس وليد من مذهب الموحدين، فيقول صاحب تاريخ الكنيسة، وقد انبعث من جوف هذه الأرطقة (رأي أريوس) أرطقة أخرى لم تكن أقل مناقضة للثالوث الأقدس فكانت تنكر أُلوهية الروح القدس، وكان منشئها مقدونيوس، وهو نصف أريوسي قد أختلس كرسي القسطنطينية واحتجب مدة سنين عديدة تحت رداء المذهب الأريوسي، ولم تكن له شهرة خصوصية في بهوة الاسجاسي التي أحدثها الأريوسيون". وهذا زعم له نصيب من الواقع، لأن الذين ينكرون أُلوهية المسيح، ويعتقدون التوحيد الصحيح لا يقرون بألوهية الروح القدس. ولكن يجب أن يلاحظ إنه في الوقت الذي أنكر فيه مقدونيوس لم تكن عقيدة التثليث قد أعلنت في مجمع عام، وقد يكون موضع حديث البطاركة وتعاليم بعضهم كون الروح القدس إلهاً، فتصدى مقدونيوس لإنكار ذلك، وتلقى الناس كلامه بالقبول، ولذا لم ينعقد المجمع للرد عليه إلا بعد أن مات بعدة سنين. النسطوريون: 103- هذه النحلة تنسب إلى نسطور، وقد كان بطريرك القسطنطينية ومكث في هذا المنصب أربع سنين وشهرين، وقد رأى أن مريم العذراء لخم تلد إلهاً، بل ولدت فقط الإنسان، وهو بذلك يرى أن الاقنوم الثاني، وهو الابن لم يتجسد وتلده مريم كما يرى غيره من المثلثين، بل كان يرى أن مريم ولدت الإنسان فقط، ثم اتحد ذلك الإنسان بعد ولادته بالاقنوم الثاني، وليس ذلك الإتحاد بالمزج وجعلهما شيئاً واحداً، أو ذلك الإتحاد لي إتحاداً حقيقياً، بل إتحاد مجازياً. لأن الإله منحه المحبة، ووهبه النعمة، فصار بمنزلة الابن، وهذا التخريج لا شك يؤدي إلى أن المسيح الذي خاطبهم وكلمهم، وحوكم وعوقب في زعمهم، لم يكن فيه عنصر إلهي قط، فلم يكن إلهاً ولا ابن الإله. وقد نقلنا فيما مضى عند الكلام على المجمع الثالث أن صاحبة كتاب

تاريخ الأمة القبطية تقرر أن كلام نسطور معناه، أو يلزم منه حتماً، إنكار ألوهية المسيح. ولما قال نسطور ذلك القول كاتبه كيرلس بطريرك الإسكندرية ويوحنا بطريرك أنطاكية في ذلك الإبان، ليعدل عن رأيه، فلم يصغ إليهما، ولم يجب طلبهما، فانعقد مجمع أفسس سنة 431، وقرر لعنه وطرده، وإثبات أن مريم العذراء قد ولدت الإنسان والإله. وقد بينا ذلك القرار ببعض التفصيل عند الكلام على ذلك المجمع. ولقد أبعد ذلك نسطور عن منصبه ونفى، فصار إلى مصر وأقام في أخميم إلى أن مات. ويقول ابن البطريق: "كانت مقالة نسطور قد اندثرت، فأحياها من بعده بزمان بوصوما مطران نصيبين في عهد قباذ بن نيروز ملك فارس، وثبتها في الشرق، وخاصة أهل فارس، ولذلك تكاثرت النسطورية في الشرق، "في العراق والموصل والجزيرة". ولا يزال إلى الآن في الأماكن التي يذكرها ابن البطريق نسطوريون ينتحلون هذه النحلة ويأخذون بهذا المذهب. ويقول صاحب سوسنه سليمان: "أن النسطوريين في هذا العصر يسمون الكلدان يسكنون خاصة فيما بين النهرين، والبلاد المجاورة لهما، ولهم تعاليم كثيرة مختصة بهم، غير إنهم يمتازون عن باقي المذاهب باعتقادهم أن نسطوريوس حرمه مجمع أفسس ظلماً. أضف إلى ذلك اعتقادهم بأنه لم يكن في المسيح طبيعتان بل اقنومان أيضاً، وكان يحسب هذا المعتقد في الزمن القديم ضلالاً مبيناً، وأما في هذا الزمان فيحسب العلماء، حتى الكاثوليك الرومانيون، غلطاً لفظياً لا معنوياً، لأن هؤلاء الكلدانيين يعتقدون أن في المسيح أقنومين، كما أن فيه طبيعتين، ويقولون أيضاًَ بأن هذين الأقنومين، وهاتين الطبيعتين قد التصقا حتى صار منهما رؤية واحدة". وهذا الكلام يدل على أمرين: أحدهما أن الكنيسة الرومانية التي كانت تشدد في القرون الخالية في طرد كل من يخالف معتقدها، وتعده كافراً لا يلج الإيمان قلبه قد تساهلت في هذه الأعصر، فوسعت صدرها للمخالفين لها، وتأولت لهم، لتدخلهم في حظيرتها بعد سابق الحرمان والطرد واللعن والتكفير.

اليعقوبيون:

ثانيهما: أن النسطوريين قد انحرفوا عن مبادئ نسطور، لأن نسطور كمل قررت صاحبة كتاب تاريخ الأمة القبطية، وكما قرر ابن البطريق لا يرى أن الأقنوم الثاني مازج المسيح قط، بل هو يرى أن بنوة المسيح بالموهبة والمحبة لا بالحقيقة، واستنبطنا كما استنبط غيرنا أنه يرى أن المسيح خال من العنصر الإلهي خلواً تاماً، وهو يصرح بأن مرين ولدت الإنسان فقط، بينما غيره يقرر أنها لودت الإله والإنسان، وهذا اختلاف جوهري في الحقيقة والمعنى لا في الشكل واللفظ، وإذا كان النسطوريون في هذا الزمان قد قالوا بامتزاج اللاهوت في الناسوت كما يقول غيرهم، فقد انحرفوا عن مقالة نسطور. والنسطوريون يقيمون كما ذكرنا في بلادهم بلاد العراق والموصل، ومنهم طائفة تقيم في الهند، وأخرى تقيم في بلاد العجم، وهم جميعاً يلتزمون بتقاليد وطقوس دينية مما يلتزم به عند غيرهم من الكنسيين، وليس عندهم من تقليد إلا أن أساقفتهم يلتزمون التبتل، والامتناع عن الزواج، وذلك منذ سنة 1830م وهذا كما جاء في كتاب سوسنه سليمان. اليعقوبيون: 104- هم أتباع يعقوب البراذعي، وهم الذين يقولون بأن المسيح ذو طبيعة واحدة قد امتزج فيه عنصر إله بعنصر إنسان وتكون من الإتحاد طبيعة واحدة جامعة بين اللاهوت والناسوت، ونسبة ذلك المذهب إلى يعقوب البراذعي لأنه من أنشط الدعاة إليه، لا لأنه مبتدعه ومنشئه، فإن ذلك المذهب أسبق من يعقوب هذا، فإن أول من أعلنه بطريرك الإسكندرية في منتصف القرن الخامس الميلادي. وبسبب ذلك الإعلان أنعقد مجمع خليكنونية، وقرر أن المسيح ذو طبيعتين لا طبيعة واحدة، وبسبب ذلك القرار انفصلت الكنيسة المصرية عن الكنيسة الرومانية. أما يعقوب فقد وجد في القرن السادس الميلادي، ويقرر صاحب سوسنة سليمان في إطلاق اسم اليعقوبيين على أصحاب هذا الرأي "يطلق عليهم اسم يعقوبيين نسبة إلى يعقوب البراذعي الذي أعاد هذه الشيعة، ورتبها في القرن السادس للتاريخ المسيحي، بعد أن كادت تتلاشى". وقد فصلنا الكلام في هذه النحلة والأدوار التي مرت عليها عند الكلام في مجمع أفسس الثاني الذي تسميه الكنيسة الكاثوليكية مجمع اللصوص.

المارونية:

وفي مجمع خليكدونية فلا نعيد ما ذكرناه، حتى لا نقع في التكرار الممل. والذين يقولون أن المسيح ذو طبيعية واحدة، ينقسمون إلى آسيويين وأفريقيين، ولكل قسم رياسة دينية خاصة به. فرئيس الآسيويين هو بطريرك السريان، ومن هؤلاء الأسيويين من اعترفوا برياسة الكنيسة الكاثوليكية، فقبلهم وان استمروا على رأيهم. ورئيس الأفريقيين هو بطريرك القبط المقيم بالقاهرة، ويتبعه في هذه الرياسة سكان الحبشة المسيحيون، فهم خاضعون لبطريرك الكنيسة القبطية، وهو يعين أسقفاً يسوسهم. ومن الذين يعتقدون أن المسيح ذو طبيعية واحدة - ويتحدون مع الكنيسة القبطية في ذلك الاعتقاد، ولكن لهم تقاليد دينية وطقوس، ولهم بطاركة يرأسونهم، ولا يندمجون في كنيسة القبط، ولا كنيسة السريان بآسيا - الأرمن. المارونية: 105- هم أتباع يوحنا مارون، وقد أشتهر يوحنا هذا برأيه سنة 667، ودعا إليه وشايعه بعض القسيسين فيه، ومعهم بعض من مسيحيي آسيا، وهو أن المسيح ذو طبيعتين، ولكنه ذو إرادة أو مشيئة واحدة، ومن أجل هذه النحلة الجديدة أجتمع المجمع العام السادس بمدينة القسطنطينية سنة 680 من بعد الميلاد، وقرر حرمان مارون، ولعنه وتكفيره وكل من يذهب مذهبه، وينتحل نحلته، وقد أشرنا إلى ذلك المجمع، ونقلنا لك قراره في المذهب، فلا نعيد نقله. ويظهر أن المنتحلين لهذا الرأي لم يكونوا ذوي شوكة وقوة حتى يكونوا بمنجاة من الأذى والاضطهاد، فقد نزلت بهم اضطهادات شديدة لم يكن لهم من يدفعها عنهم إلا الفرار، فلم يجدوا لهم مأمناًَ يعتصمون به إلا بعض البلاد في جبل لبنان، فاعتصموا بها، وقد استمروا على اعتصامهم وبعدهم، حتى لدنتهم إليها الكنيسة الرومانية وقربتهم منها، وأعلمت الحيلة والسياسة، حتى أعلنوا الطاعة للكنيسة الكاثوليكية والإتحاد معها على أن يبقوا على رأيهم، ولقد كان اتحادها مع الكنيسة الرومانية سنة 1182 بعد الميلاد، ومازالت هذه الطائفة متوطنة بجيل لبنان، ولها بطريرك خاص، وإن كانت تقر بالرياسة لبطريرك روما.

الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية

الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية أساس انقسام الكنيسة إلى شرقية وغربية: 106- كان فيما ذكرناه أعظم الانقسامات القديمة شأناً، وأبعدها أثراً، أن استثنينا الكنيسة القبطية، انقسام الكنيسة إلى يونانية ولاتينية وما يتبع ذلك الانقسام من انشقاق في المسيحية كلها، وما تفرع عن الأولى من فروع وفرق، وإنا نكتفي بهذا القدر من القول في الفرق القديمة التي مازال منها بقايا إلى أيامنا الحاضرة، ونختم القول فيها بانقسام الكنيسة إلى يونانية شرقية ولاتينية غربية، وقد نوهنا إلى الانقسام عند الكلام في المجامع، وأشرنا إلى أسبابه بالإجمال. وقد تبين من هذا أن أساس الخلاف بين كنيسة القسطنطينية التي آلت إليها رياسة الكنيسة الشرقية اليونانية قاطبة، وكنيسة رومة التي آلت إليها رياسة الكنيسة الغربية اللاتينية أمران: أحدهما - يتعلق بالاعتقاد - وهو أن كنيسة القسطنطينية ومن والاها من بعد اعتقدوا أن الروح القدس من الأب وحده، لا من الأب والابن، وكنيسة روما ومن والاها قد اعتقدوا أن الروح القدس منبثق من الأب والابن معاً، وعقد كل فريق مجمعاً تابع اعتقاده وتابعه فيما اقتنع به، وكان المجمع المتابع لرومة سنة 869، والمشايع للأخرى بعده بعشر سنوات سنة 879. ثانيهما - لا يتعلق بالاعتقاد - ولكن يتعلق بالرياسة الكهنوتية، أهي لكنيسة القسطنطينية أم لكنيسة رومة؟ لقد قرر المجمع الذي شايع رومة أن تكون لرومة، فرئيس كنيستها هو الحبر الأعظم والرئيس الروحي للمجمع، وقرر المجمع الذي شايع القسطنطينية رفض تلك الرياسة وعدم الاعتراف بها، ويعتبرون رئيس القسطنطينية رئيساً عاماً للكنيسة. ولقد تبع الاختلاف في هاتين المسألتين الرئيسيتين خلاف في مسائل أخرى أوجدها تتابع السنين واستمرار الشقاق، فقد كثرت أوجه الاختلاف في مسائل فرعية منها:

محاولة إزالة الخلاف:

ولقد كان يأتي الفينة بعد الأخرى صوت يدعو إلى الوحدة والالتئام بدل الاستمرار غلى الفرقة والانقسام، فتعقد لأجل هذا مجامع، وترسل الوفود، ولكن ما أن يتلاقى المتخاصمان، حتى تعاد أسباب النزاع جذعاً، إذ كل واحدة ترغب في أن تنزل الأخرى عن رأيها، فتلاحى كل واحدة عما تعتقد، فيشتد الجدل، ويحمى وطيس القول، فتفترقان، وقد زادت القطيعة قوة واحتداماً. محاولة إزالة الخلاف: حاول أحد بطارقة روما في منتصف القرن الحادي عشر أن يجمع الشتات، ويلم الشمل، وعرض مبادئ تكون أساساً للمصلحة، رفضها بطريرك القسطنطينية، وأصدر الأول قراراً بحرمان الثاني، فأصدر هذا قراراً بحرمان الوفد الذي أعرض عليه الشروط. وهكذا ازدادت الفرقة بسبب ذلك التلاقي، وأغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، ويظهر أن السبب في ذلك ما تعتقده كل واحدة منها أن الأخرى خارجة على الدين، ورغبة كل واحدة في أن تجتذب الأخرى إليها كما بينا. انتقاد مسيحي للكنيسة الغربية: ويقول في ذلك صاحب سوسنة سليمان: "أن الكنيسة الرومانية تدعى أن كل المذاهب المسيحية على وجه الإطلاق هي شيع هرطوقية خارجة منها، ومنفصلة عن شركتها. وهذه الدعوى تصح لأية كنيسة أمكنها أن نتبت لذاتها الأقدمية في الثبات على المعتقدات الصحيحة الأصلية. أما كنيسة رومة، فليس لها في هذه الدعوى إلا الاستيلاء على أمانة صندوق التقليدات. غير أن سلامة الذوق تقتضي بأنه كلما قلت التقاليد في كنيسة من الكنائس دل على اقدميتها بالنسبة التي تزيد عليها فيما هو من هذا القبيل، لأن التقاليد على ما يستبين من مجريات رومة قابلة للزيادة، والزيادة أحداث، والأحداث في الدين لا ريب في إنه بدعة، والإبداع هو عين ما يسميه المسيحيون هرطقة".

انتقاد مسيحي للكنيسة الغربية:

ولقد كان يأتي الفينة بعد الأخرى صوت يدعو إلى الوحدة والالتئام بدل الاستمرار غلى الفرقة والانقسام، فتعقد لأجل هذا مجامع، وترسل الوفود، ولكن ما أن يتلاقى المتخاصمان، حتى تعاد أسباب النزاع جذعاً، إذ كل واحدة ترغب في أن تنزل الأخرى عن رأيها، فتلاحى كل واحدة عما تعتقد، فيشتد الجدل، ويحمى وطيس القول، فتفترقان، وقد زادت القطيعة قوة واحتداماً. محاولة إزالة الخلاف: حاول أحد بطارقة روما في منتصف القرن الحادي عشر أن يجمع الشتات، ويلم الشمل، وعرض مبادئ تكون أساساً للمصلحة، رفضها بطريرك القسطنطينية، وأصدر الأول قراراً بحرمان الثاني، فأصدر هذا قراراً بحرمان الوفد الذي أعرض عليه الشروط. وهكذا ازدادت الفرقة بسبب ذلك التلاقي، وأغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، ويظهر أن السبب في ذلك ما تعتقده كل واحدة منها أن الأخرى خارجة على الدين، ورغبة كل واحدة في أن تجتذب الأخرى إليها كما بينا. انتقاد مسيحي للكنيسة الغربية: ويقول في ذلك صاحب سوسنة سليمان: "أن الكنيسة الرومانية تدعى أن كل المذاهب المسيحية على وجه الإطلاق هي شيع هرطوقية خارجة منها، ومنفصلة عن شركتها. وهذه الدعوى تصح لأية كنيسة أمكنها أن نتبت لذاتها الأقدمية في الثبات على المعتقدات الصحيحة الأصلية. أما كنيسة رومة، فليس لها في هذه الدعوى إلا الاستيلاء على أمانة صندوق التقليدات. غير أن سلامة الذوق تقتضي بأنه كلما قلت التقاليد في كنيسة من الكنائس دل على اقدميتها بالنسبة التي تزيد عليها فيما هو من هذا القبيل، لأن التقاليد على ما يستبين من مجريات رومة قابلة للزيادة، والزيادة أحداث، والأحداث في الدين لا ريب في إنه بدعة، والإبداع هو عين ما يسميه المسيحيون هرطقة".

بطارقة الكنيسة الشرقية:

ونرى من هذا أن صاحب هذا الكتاب ينتقد الكنيسة الغربية بكثرة ولعل السبب في ذلك النقد ليس مجرد الحق، بل كونه ليس من مذهبا وإلا كان كل ما تقوله مقدساً لا بدعة فيه. 108- وقد بينا البلاد التي تتبع الكنيسة الغربية، وكانت فيما مضى كل أوربا تقريباً، وبعض طوائف آسيا. بطارقة الكنيسة الشرقية: أما البلاد التي تتبع الكنيسة الشرقية، فأكثرهما في الشرق كما أسلفنا من القول، ولها بطاركة. وأولهم بطريرك القسطنطينية، وهو كبيرهم ويضيئون إلى لقبه وصف إنه البطريق المسكوني، ويقول صاحب سوسنة سليمان: "إنه ليس إلا لقباً تشريفياً فقط، فليس له تسلط على غيره من البطارقة أو الأساقفة المستقلة بوجه قانوني أصلاً". ويليه في الرتبة والمكانة الدينية بطريرك الإسكندرية للأورام الأرثوذكس ثم بطريرك أنطاكية، ثم بطريرك أورشليم، ثم المجمع الروسي، ثم عدة مجامع لأسقفيات مستقلة أخرى كأسقفية أثينا، وأسقفية قبرص وغيرهما. وقد ظهرت في روسيا التي كانت تسودها هذه الكنيسة شيع وفرق كثيرة بلغ عددها نحو مائتي نحلة، وتعداد أصحاب هذه الفرق الجديدة مجتمعة لا يزيد عن خمسة عشر مليوناً. فمنهم فرقة لا ترى تعميد الأطفال، ومنهم شيعة تحسن للنصراني أن يقتل نفسه في حب المسيح، ومنهم شيعة يحرقون أنفسهم لتعمدهم النار، فيتطهروا بها، ومنهم شيعة تلتزم الختان باعتباره كان المسيحية الأولى، وفي التوراة التي تعتبر النصرانية مجددة لها، وهكذا تختلف النحل وتتباين، وكل واحدة تعتقد أن رأيها هو محض الحق المبين.

الإسلام يظلل الكنائس الشرقية بالحرية الدينية:

الإسلام يظلل الكنائس الشرقية بالحرية الدينية: 109- ذكرنا أن العلاقة بين الكنيستين على أشد ما يكون الخلاف، كل تعد الأخرى قد خرجت عن نطاق الدين، وقد كانت الحال من قبل كذلك بين كنيسة القبط بمصر والكنائس الأوربية. ونزل بمصر أشد البلاء. ولم ينقذهم إلا الفتح الإسلامي، فمن وقت حكم المسلمين لمصر والشام إلى الآن شعر المصريون بحريتهم التي لم يستمتعوا بها من قبل، حتى أهداها إليهم الإسلام السمح الكريم. ولما اختلفت الكنيسة الغربية مع الكنيسة الشرقية كان من المنتظر أن تنزل أحداهما بالأخرى أشد البلاء، ولكن ذلك لم يتم أول الأمر لانقسام الدولة الرومانية إلى شرقية وغربية، واعتصام كل واحدة منهما بدولة، لذلك لم تتمكن واحدة منهما من رقبة الأخرى. فلم تقبض على ناصيتها. ولكن ما أخذت الدولة الشرقية في الانحلال، وخلفها المسلمون على بعض أملاكها، وأخذوا يقصونها من أطرافها، أخذت ترجح إحدى الكفتين على الأخرى فقويت الغربية، وصارت لها السيادة. واعترف بطريرك القسطنطينية له بالتقدم عليه في الجلسة. وإن لم يعترف بأنها على حق فيما يختلفان فيه، وما اختلفا فيه من قبل، والبلاد التي اقتطعها المسلمون كانت تنعم بالحرية الدينية كشأن المسلمين في معاملتهم لغيرهم. ولما جاءت الحروب الصليبية، استولى الصليبيون على أورشليم التابعة كنيستها للكنيسة الشرقية وغيرها من المدن الإسلامية التي يعيش في ربوعها المسيحيون آمنين مطمئنين، لا يزعجهم اضطهاد، ولا يرتق صفاءهم ضغط، ثم ثنى أولئك الصليبيون أتباع الكنيسة الغربية، فاستولوا على دولة الرومان الشرقية نفسها، فأنزلوا بأخواتهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون. ولنترك الكلمة للمسيحي صاحب سوسنة سليمان، فهو يقول: "حرك البابا أتوسنت الثالث قواد الصليبيين لنزع المملكة الشرقية من يد اليونان، فافتتحوا القسطنطينية سنة 1204، وداموا متسلطين عليها إلى سنة 1261 م فاستعملوا ما أمكنهم من البربرية في الأراضي التي

امتلكوها من بلاد سورية وفلسطين، ليخضعوا بطارقة أورشليم، وجميع الأكليرس اليوناني بواسطة الحبس وإقفال الحبس وإقفال الكنائس إلى أن أحوجوهم أن يفضلوا مودة العرب حكام البلاد الأصليين على موادتهم ويختاروا تسلط شعب يرضى بجزية على أن يتسلط عليهم ملك روحي طعمه وطمع قصاده لا يشبعان". حينئذ أحس أولئك المسيحيون بنعمة الإسلام عليهم، ونعمة حكم المسلمين لهم، فقد سامتهم الكنيسة الغربية وملوكها الخسف والهوان، ونقبوا عن قلوبهم، وبحثوا عما تكنه الصدور، ولكن نعمة الإسلام كانت تلاحقهم، فلم ينقض زمن طويل، حتى جاءهم الإسلام في القسطنطينية وأعطاهم الأمن والدعة والقرار والاطمئنان، حتى لقد قالوا كما حكي صاحب السوسنة: "عمامة السلطان محمد الفاتح، ولا تاج البابا المثلث". وهكذا كان الإسلام رحيماً تسع رحمته المخالفين.

الفرقة الحديثة "البروتستانت"

الفرقة الحديثة "البروتستانت" أو الإصلاح الديني حال الكنيسة قبل الإصلاح: شدة الكنيسة على الناس والعلماء: 110- اشتد ضغط الكنيسة الكاثوليكية على المسيحيين، وبالغت في فرض آرائها عليهم مبالغة تجاوزت حد الغلو، ولم تسلك في ذلك سبيل الموعظة الحسنة، والدعوة الصالحة، والإرشاد القويم، ومخاطبة الأرواح والنفوس، وتمكينها من أن تتبعها، وهي حرة مريدة مختارة، بل سلكت سبيل العنف وركبت متن الشدة، فجعلت كل رأي في العلوم الكونية يخالف رأيها كفراً، ولا تدعو معتنقيه إلى الهداية، وترشده إلى الرشاد، كما يليق برجال الدين مع من يرونه ضالاً، بل تكفر لأوهى الأسباب، وتحرق أو تعذب من تراه كافراً بلا رفق ولا هوادة. فهذا المجمع الثاني عشر من مجامعه الكنيسة وهو المجمع المسمى بالاتيراني الرابع المنعقد سنة 1215 يقرر استئصال الهراطقة، ويعنون بذلك كل من يرى رأياً مخالفاً للكنيسة، ولو كان رأياً في الكون أو طبائع الأشياء، ولم تكتف الكنيسة بقتل من يجهرون بآراء تخالف آراءها، بل أخذت تنقب على القلوب وتستكنه خبايا النفوس، وتكشف عن سرائر الناس بما أسماه التاريخ محاكم التفتيش، التي دنست تاريخ الأديان بما ارتكبت من آثام، وما أزهقت من أرواح، وما سفكت من دماء، وما عذبت من أحياء.

فرض سلطانها على الملوك:

وإن جهر رجل من رجال الدين بالدعوة إلى الإصلاح، داعياً رجال الكنيسة إلى أخذ الناس برفق، وحاثاً رجال الدين على الأخذ بهدية كان عقابه الحرمان والقتل. حدث في أوائل القرن الخامس عشر أن أحس أساقفة فرنسا بوجوب إصلاح حال البابوات، فانعقد لذلك مجمع مؤلف من 150 أسقفاً، و1800 من رجال الدين، ولكن هذا المجمع انتهى في قراراته بالأمر بإحراق يوحنا هوس مصلح كنيسة روما بوهيميا ورفيقه جيروم. ولقد حرق وعذب في هذا السبيل علماء استشهدوا في سبيل العلم بسبب مظالم تلك الكنيسة، وضيق صدر القوامين عليها. ومما يذكر في هذا أن أحد العلماء واسمه ابيلارد كان له رأي في تكفير المسيح عن خطيئة آدم خالف به رأي الكنيسة فقال: ليست حياة المسيح وصلبه وما لاقى في ذلك من تعذيب سبيلاً لإرضاء الله وإنزال عفوه عن خطيئة الإنسان، فعفو الله أيسر من ذلك وأقرب، وإنما لاقى المسيح ما لاقى إعلاناً لما يكنه قلبه من حب الله، وعسى أن يثير في الناس عاطفة الشكر وعرفان الجميل، فيعيدهم إلى طاعة الله. ولكنه ما أن قال ذلك القول حتى انعقد مجلس لمحاكمته، فكان نصيب كتبه التحريق، ونصيبه السجن الدائم، حتى وافته منيته. وجاليليلو يرى رأيا في الكون فيسجن لذلك الرأي، مع أن رأيه ليس من أمور الدين في شيء. فرض سلطانها على الملوك: 111- بالغت الكنيسة في شدتها، كما رأيت، ولم ينج حتى الملوك من طغيانها، فقد كان انقسام الدولة الرومانية الغربية إلى ممالك مختلفة، واعتبار كل مملكة وحدة سياسة لا تتصل بالأخرى إلا اتصال محبة وسلام، أو حرب وخصام - كان ذلك سبباًَ في أن صار البابا لا سلطان لأحد من ولاة الأمر عليه، وقد تقرر هذا من بعد كما صار تعيين البابوات باختيار المجامع، لا بتعيين ملك أو أمير، مهما تكن قوته وسطوته وصال البابوات بعد تعيينهم غير خاضعين بأي نوع من أنواع الخضوع لأي ملك من الملوك، وعلى النقيض من ذلك لهم هم السلطان الذي لا يرد على

قرارات الحرمان تنال الملوك:

كل مسيحي، مهما تكن مكانته، يستوي في ذلك الأمير والخفير، والراعي والرعية، فليس لأي ملك سلطان على الباب، والبابا له سلطان على كل ملك، لأنه مسيحي، وله السلطان الكامل على كل المسيحيين، ولأن البابا خليفة لبطرس الرسول وبطرس الرسول أقامه المسيح رئيساً على الحواريين من بعده، فالبابا على هذا الأساس خليفة للمسيح ينطق باسمه، ويتكلم بخلافته، وينفذ بسلطانه، ومن خرج عن طاعته فقد خرج عن طاعة المسيح، وحارب دينه. قرارات الحرمان تنال الملوك: وبهذا المنطق فرضوا أوامرهم على الملوك، كما فرضوها على سائر الناس، ولذا لم ينج بعض الملوك من قرارات المجامع بحرمانهم، وطردهم من حظيرة المسيحية، ولعنهم، فقد جاء في كتاب سوسنة سليمان: "المجمع الثالث عشر انعقد في ليون من أعمال فرنسا سنة 1245 بأمر البابا اينوسنت الرابع لأجل عزل فردريك ملك فرنسا وحرمانه، وهذا المجمع لم تسلم كنيسة فرنسا حتى الآن بصحته أو بسلطانه مطلقاً". لم ينج إذن الملوك من قرارات الحرمان والطرد، وإن لذلك أثره في نفوس شعوبهم، كما إنه يحفز الملوك على العمل من جانبهم على حماية أنفسهم، وهم في ذلك لا يتمنعون عن أن يثيروا القالة في رجال الكهنوت، ويكبروا صفائرهم، ويروجوا عنهم ما يحط من قداستهم، حتى ينفردوا بالاحترام، ولا يكون سلطان لأحد غيرهم. 112- هذه هي الكنيسة في معاملتها للناس، عنف وزجر وقسوة، لا إرشاد وهداية وإصلاح، وهي تضرب كل من يعترض طريقها. لا تفرق بين سائس ومسوس، وحاكم ومحكوم، وراع ورعية. وقد احتكمت لهذا بذوي السلطان، فكان لابد من مغالبة بينهما. ولم يكن الأمر مقصوراً على الأذى البدني تنزله بمن يخالفها، ولو فيما ليس بينه وبين الدين نسب، ولا يتصل به بسبب. بل تجاوز ذلك إلى إرهاق المسيحيين باتاوات ماليه يفرضونها، وضرائب كبيرة يأخذونها، وعلى ذلك صار المسيحيون قاطبة يئنون تحت نير ثقيل، سواء في ذلك من خالف ومن وافق، فالمخالف بالعذاب يهرأ به جسمه، والموافق بالمال ينقل به، وتفرض عليه ضرائب لأسباب غير معقولة وغير مقبولة أحياناً وما يجمع

استبداد الكنيسة بفهم الكتب المقدسة:

من أموال الفقراء والمحدودين التي حصلوا عليها بالكد واللغوب يتوزعه رجال الدين بينهم، وينفقونه إسرافاً وبداراً في سبيل تحقيق رغباتهم، وبذلك كانوا يجمعون المال من غير حله، وينفقونه في غير حله أيضاً، وبذلك انغمسوا في شر ما في هذه الدنيا، وتركوا لب الدين. استبداد الكنيسة بفهم الكتب المقدسة: 113- ولقد احتجزت الكنيسة لنفسها الحق في فهم الكتب المقدسة عندهم، واستبدت بتفسيرها دون سائر الناس، ولا معقب لما تقول في هذا التفسير، أو في رأي تبديه، أو أمر تعلنه، وعلى الناس أن يتلقوا قولها بالقبول وافق العقل أو خالفه، وعلى المسيحي إذا لم يستسغ عقله قولاً قالته أو مبدأ دينياً أعلنته أن يروض عقله على قبوله، فإن لم يستطع، فعليه أن يشك في العقل، ولا يشك في قول البابا. لأن البابا خليفة لسلسلة الخلافة التي بيناها. ولقد كانت تعلن أموراً ما جاء بها الكتاب المقدس عندهم، وما تعرض له المسيحيون الأولون، لا المجامع الأولى، وهي أمور غريبة جد الغرابة، بعيدة عن القبول في أحكام العقل جد البعد، وتلزم المسيحيين بها، وتفرضها عليهم فرضاً، ومن قال كلمة فيها فالويل له، ينزلونه به في الدنيا ولا ينتظرون حساب الديان في الآخرة. ونذكر القارئ على سبيل المثال مسألتين كان لهما أثر في الفكر المسيحي، وبسببهما هما وغيرهما تقدم المصلحون في جرأة، داعين إلى إصلاح الكنيسة بالحسنى أو بغير الحسنى، هاتان المسألتان هما مسألة الاستحالة، ومسألة الغفران. مسألتا الاستحالة والغفران: 114- أما مسألة الاستحالة فالأساس فيها ما علمت في شرح الشعائر النصرانية، من أن المسيحيين يأكلون يوم الفصح خبزاً ويشربون خمراً، ويسمون ذلك العشاء الرباني، ولقد زعمت الكنيسة أن ذلك الخبز يستحيل إلى جسد المسيح، وذلك الخمر يستحيل إلى دم المسيح المسفوك فمن أكلها وقد استحالا هذه الاستحالة فقد أدخل المسيح في جسده بلحمه ودمه، وذلك أمر غريب في العقل، لا يستطيع أن يستسيغه أحد

إفراط الكنيسة في استعمال حق الغفران:

بيسر وسهولة، بل لا يستطيع أن يستسيغه قط, إذ كيف يتحول الخبز لحماً، وكيف يصير لحد شخص معين معروف. وكيف يتحول الخمر دماً. وتصير دم شخص معين معروف؟ ذلك غريب. بل مستحيل التصور والقبول في العقل، ولكن الكنيسة فرضت على الناس قبوله ومنعتهم من مناقشته، وإلا عرضوا للطرد والحرمان. وهل ورد هذا الأمر في الكتب المقدسة، حتى يجب الأخذ به من غير تفسير أو تأويل. إنه أمر استقلت به الكنيسة وأعلنته وأبدته في أحد مجامعها، غير معتمدة في ذلك على نص صريح من الكتب المقدسة عندهم. ولقد خالفت في بعض شأنه الكنيسة الكاثوليكية غيرها من الكنائس، فالكنيسة الشرقية ترى أن العشاء الرباني لا يكون بالفطير، بينما تراه الكنيسة اللاتينية، ووجد من أحرار الفكر من ينكرون هذه الاستحالة، ويعتقدون أنها غير ممكنة في العقل ولا سائغة في الفكر. 115- أما المسألة الثانية فهي مسألة امتلاك الكنيسة حق الغفران للمسيء في الدنيا، فقد قررته الكنيسة حقاً لنفسها في المجمع الثاني عشر أيضاً. وقد جاء في كتاب تاريخ الكنيسة في بيان قرار المجمع في هذا الشأن: "أنهى المجمع تعليمه فيما يتعلق بأمر الغفران فقال: "أن يسوع المسيح ما كان قد قلد الكنيسة سلطان منح الغفرانات. وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلا منذ الأيام الأولى، قد أعلم المجتمع المقدس، وأمر بأن تحفظ للكنيسة في الكنيسة هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي، المثبتة بسلطان المجامع". ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون أن الغفرانات غير مفيدة، أو ينكرون على الكميسة سلطان منحها، غير إنه قد رغب في أن يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراز حسب العادة المحفوظة قديماً، والمثبتة في الكنيسة، لئلا يمس التهذيب الكنسي تراخ بفرط التساهل. إفراط الكنيسة في استعمال حق الغفران: هذا قرار المجمع، وفيه تمكين للكنيسة من سلطان قوي جبار، وهو سلطان مسح الذنوب، وغفرانها مهما يكن مقدارها، ومهما تكن

صورة من صك الغفران:

قد دنست النفس، واركست القلوب، ولكنه قد أوصى الكنيسة بالاعتدال والاحتراس، حتى لا يؤدي الإفراط في منح الغفران إلى ترك التهذيب الديني، وهجر تعاليم الكنيسة، والعبث بهدي الدين، فها أخذت الكنيسة بما أعطاها المجمع، وراعت حق الرعاية ما أوصاها به من عدم الإفراط في الإعطاء والمنح؟ لقد أتى حين من الدهر من بعد أن أعطى رجال الدين أنفسهم ذلك الحق، أن أفرطوا في أعطائه إفراطاً شديداً وأنشأوا له صكوكاً تباع وتشترى، فباعوها كأنها عرض من أعراض الدنيا، ومتعة من متعتها، وبذل العصاة في سبيلها المال، وما كان عليهم من حرج في أن يرتكبوا ما شاءوا من الموبقات، وينالوا ما تهوى الأنفس من معاص. مادام ذلك يفتدى بمال قل أو جل، وهذا نص صك الغفران الذي يباع بيع السلعة. صورة من صك الغفران: "ربنا يسوع المسيح يرحمك يا فلان، ويحلك باستحقاقات آلامه الكلية القداسة، وأنا بالسلطان الرسولي المعطي لي أحلك من جميع القصاصات، والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها، وأيضاً من جميع الإفراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة، ومن كل علة، وإن كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا، والكرسي الرسولي، وأمحو جميع أقذار المذنب وكل علامات الملامة التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة، وأرفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر وأردك حديثاً إلى الشركة في أسرار الكنيسة وأقرنك في شركة القديسين، وأردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا عند معموديتك، حتى إنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطاة إلى محل العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح، وإن لم تمت سنين مستطيلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة، حتى تأتي ساعتك الأخيرة باسم الأب والابن والروح القدس". هذه صورة من صور صك الغفران تذكر إنها تمحو الآثام، وتغفر ذنوب العاصي ما تقدم منها وما تأخر، تغسله من ذنوبه الماضية حتى يصير طاهراً، ثم لا يصير قابلاً لأن تؤثر فيه الذنوب مهما يرتكب من خطايا، ومهما ينغمس في المعاصي. كان ذلك الصك جواز المرور إلى النعيم المقيم، لا يعوق حامله عائق، ولا يرده عن الوصول خازن أو حارس.

سلوك رجال الدين الشخصي:

هذا ما يدل عليه الصك، وهذا ما كانت تحاول الكنيسة أن تلقيه في روع الناس تمكيناً لسلطانها، ورغبة في نقودهم التي يبذلونها للكنيسة في سبيل الحصول على ذلك الصك الذي يكون سر الأمان، وطريق الوصول إلى الغاية. لقد ابتدأت الكنيسة صك الغفران بمسألة الاعتراف بالذنوب عند الموت والتوبة، ثم تولى القسيس مسح هذه الذنوب والشخص لم يودع الدنيا. ثم انتقلت من ذلك إلى أن جعلت لنفسها الحق في الغفران، والشخص قوي يستقبل الحياة، ولا يودعها ويقبل على متعها، ولا يدبر عنها، وغالت فجعلت لنفسها غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب، ثم أغرقت في المغالاة فأتخذها رجال الدين بابا من أبواب الكسب للكنيسة. ثم إنهم ينفقون ما يجمعون من مال فيما يحله الدين والأخلاق، وما قد بحرمانه، وبذلك طم السيل، حتى جاوز الحزام الطبيين. سلوك رجال الدين الشخصي: 116- وهل كان رجال الدين في سلوكهم الشخصي، وفي استمساكهم بعروة الأخلاق، وهدى الدين يستحقون أن يبذل الناس في طاعتهم ما يبذلون ويروضوا أنفسهم عل الخضوع لآرائهم، وقبولها بقبول حسن، متهمين العقول إن حاولت التمرد والعصيان، لأن حال رجال الدين بعيدة عن الظنة، منزهة عن الريبة، قد سموا بأنفسهم، حتى ساموا في العلو القديسين والشهداء والصالحين، وجعلوا أنفسهم عنوان العفة، وبخع النفس عن الشر، وافتدوا الفضيلة بأنفسهم أو عرضوا أنفسهم للفداء كما كانوا يرون أن المسيح قد فعل من قبل؟ لقد كانت حال رجال الدين تحوطها الريب من كل جانب، وتأخذهم الأنظار المتعقبة من كل ناحية من نواحي الحياة. حرموا على أنفسهم الزواج إذ سادت الرهبانية وسيطرت على نفوسهم، فجعلوا زواجهم حراما، لينصرفوا لخدمة كنيسة الرب، ويقوموا على سدانتها، ويرعوها حق رعايتها، ولكن ما أن توردت عليهم الأموال، وكثرت أمامهم أسباب النعيم، حتى فكهوا فيها مترفين وانغمسوا في الملاذ يستطيبون أطيبها، ويطلبون أشدها، ولما مكنوا لأنفسهم من السلطان، انتفع بعضهم في طلبها اندفاعاً، ومنهم من استهتر في سبيلها استهتاراً، وخرجت حال بعض أولئك المنغمسين في الخطايا من

ابتداء الإصلاح:

السر إلى الجهر، ومن التستر إلى التفحش، ومن الخفية إلى الإعلان، واتصل بعضهم بالنساء اتصال سفاح، بعد أن حرموا على أنفسهم النكاح؟ ولم تتمنع النساء المتصلات بهم من أن يعلن ذلك مفاخرات به، وجاء من ذلك الاتصال الآثم أولاد لا آباء لهم، ولكن لهم حظوة، لأن بعض رجال الدين عرفوا آباءهم، كما يعرفون أبناءهم، فيمكنون لهم بسلطانهم الديني سلطاناً دنيوياً. ولقد كانت تلك الحياة اللاهوتية العابثة الفاسقة ميزة أختص بها بعض رجال الطبقة العالية الدينية أنفسهم، أما التحوت من رجال الدين ففي فقر مدقع، وفي حياة هي أقرب إلى الدين المسيحي من حياة كبرائهم، وذوي السلطان فيهم وفي الشعب. ابتداء الإصلاح: 117- هذا سلطان الكنيسة، وتلك حال رجالها، يتدخلون في كل شيء، ينقبون عن القلوب، وقد سترها علام الغيوب، ويرهقون من يتهمونهم بأقصى أنواع العذاب، ويفرضون سلطانهم على الراعي والرعية، حتى يتململ من تحكمهم الملوك والأمراء، وذوو الفكر من الشعوب ويجبون الإتاوات ويفرضون الضرائب حتى كأنهم الحياة العشارون لا رجال الدين المهذبون، ويعطون أنفسهم حق مسح الخطايا بعد اعتراف المذنب في آخر أيامه في الدنيا، وأول أيامه في الآخرة، ثم يغالون، فيمنحون أنفسهم حق غفران الذنوب السابقة واللاحقة للقوي الصحيح، ويكتبون في ذلك صحوكاً يبيعونها بثمن قليل أو كثير، ثم يقضون أو بعضهم حياة كلها لهو، وحولهم الناس ينظرون. ولقد بلغ السيل الزبى في العصر المشهور في التاريخ الأوربي بعصر النهضة، وفيه نهضت الإرادة الإنسانية، والعقل الإنساني يفرضون وجودهما، وفيه استطاع الأوربيون أن يروا نور الله في الإسلام، والتدين الحقيقي فيما يدعو إليه هذا الدين، إذا اتصل الشرق بالغرب فيما قبس الغرب من دراسات يلقاها على أساتذة من المسلمين بشكل خلص، ومن الشرقيين بشكل عام، وفيه أعلم أن لا سلطان لأحد من رجال الدين على القلب، وأن لا وساطة بين الله والعبد، وأن الله قريب ممن يدعوه، ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه.

دعوة بعض رجال الدين إلى الإصلاح:

دعوة بعض رجال الدين إلى الإصلاح: حينئذ أخذت الأنظار المتربصة تحصى على رجال الدين ما يفعلون، ووجد من بينهم من استنكروا حالهم، وأخذوا يدعون زملاءهم إلى إصلاح حالهم، ليردوهم إلى حكم دينهم قبل أن يفوت الوقت، وقبل أن ينفض الناس، وقبل أن يحملهم العامة على الإصلاح. ولقد جاهر بذلك جيروم وهوس، ولكن كان نصيبها أن أعدما حريقاً بالنيران، وكان ذلك بقرار من مجمع كونستانس الذي انعقد من سنة 1414 إلى سنة 1418، ولقد قرر ذلك المجمع قتل هذين العالمين حرقاً بالنار، لأنهما دعوا الكنيسة إلى عدم الأخذ بما يسمى سر الاعتراف، مبينين أن الكنيسة ليس لها سلطان في محو الإثم أو تقريره، وإنما التوبة مع رحمة الله حتى تمحو الآثام، وتطهر النفس من الخطايا، وقد تقدم إلى المجمع يوحنا هوس ليدافع عن آرائه، وهذا ما قاله كاتب متعصب للكاثوليك في ذلك الدفاع: "لدى دخوله أخذ يعلن غواياته قبل انتظاره حكم المجمع على تعليمه فقر الرأي على إلقاء القبض عليه، وفوض المجمع إلى بعض أعضائه أن يفحصوا مؤلفاته وألحوا عليه أن يقلع عنها، ولكنهم لم يستفيدوا شيئاً ووجدوا في مؤلفاته فصولاً كثيرة تتضمن أضاليل، وقد خولوه الحرية ليوضح أقواله في كل منها، وحرضوه على الخضوع لحكم المجمع، وعرضوا عليه صورة الرجوع عن ضلاله، فأبى أن يمضيها، وبقى مصراً على غيه، ولم يشأ المجمع أن يتوصل معه إلى المضايقة الأخيرة، بل حاول مراراً أن يرده عن عناده فحكموا أولاً على كتبه بالتحريق رجاء أن يخيفوه بذلك، لكنه لبث مصراً على عناده، فحينئذ حطوه عن الدرجات المقدسة حطاً احتفالياً، وأسلموه لحكومته فحكمت عليه بالحرق حياً بمقتضى نواميس المملكة ثم نال جيروم تلميذه وقرينه في العناد هذا العقاب نفسه. أما المجمع فلم يطلب قط هذا العقاب بل ترك للقضاء المدني أن يعمل بموجب شرائع المملكة التي كانت تعطي الملك حقاً في أن يعاقب من يفسدون النظام المدني بينهم بتعاليم سيئة تقلق راحة الجمهور؟.

ابتداء الإصلاح من غير رجال الدين:

هذا ما يقوله الكتاب المدافعون عن الكنيسة، ومهما يكن قولهم في براءتها من ثم أولئك الذين حاولوا من رجال الدين إصلاحاً، فمما لا شك فيه أنها لم تصغ إلى أقوالهم، بل عاقبتهم عليها بالحرمان، فسلبتهم المنصب الديني، ثم عاونت بذلك على قتلهم أفظع قتلة، إن لم تكن هي الفاعلة. ابتداء الإصلاح من غير رجال الدين: 118- كانت ارهاصات الإصلاح تبدو الوقت بعد الآخر، ويظهر به رجال استعدوا للفداء زمناً بعد زمن، وكانت البلاد التي تظهر فيها آراء الإصلاح في شمال أوربا وإنجلترا، وفرنسا، لأن فرنسا قد ذاق بعض ملوكها أذى الحرمان من الكنيسة، وأحس الفرنسيون بشدتها، وإنجلترا رأت من سلطان البابا عليها تدخلاً في شئونها، ولأن أمم شمال أوربا قد اقترنت حضارتها بالدين فكانت شديدة الغيرة عليه، قوية الرغبة في فهمه على وجهه، جاعلين قبلتهم الكنيسة ورجالها، فعثروا بما أوتوا من رغبة دينية وعقل فاحص على عيوبهم، فأرادوا أن يصلحوها من غير أن يهدموها، لذلك ظهرت حركات الإصلاح ووجدت آذاناً مصغية في تلك البقاع، ولم ينبثق فجر القرن السادس عشر حتى انبثقت معه أصوات قوية جريئة تدعو إلى إصلاح الكنيسة، وتنقد حالها وتندد بأعمالها، وتنشر عيوب القوامين عليها، وعساهم يصلحون أمرهم، ويعودون إلى آداب الدين وتهذيبه. الدعوة الهادئة: وقد ظهر في فجر القرن السادس في أزمان متقاربة أصوات رجال مصلحين، ومن أشدها ظهوراً صوت أرزم، وقد ظهر بالأراضي المنخفضة، وعاش من سنة 1465 إلى سنة 1536. وقد أخذ يدعو الناس إلى قراءة الكتاب المقدس عندهم، وإلى تهذيب عقولهم، وتنمية مداركهم، ليستطيعوا فهمه، والانتفاع به، وإدراك مراميه وغاياته، وأخذ يدعو إلى إصلاح الكنيسة، وظهر إنه لم يوجه دعوته إلى الشعب، بل وجهها إلى الحكام المستنيرين، وإلى رجال الكنيسة أنفسهم، فقدان البابا ليو العاشر صديقه، وكان ممن يقدرون آراءه، ويعجبون بتفكيره ويوافقون بالأولى على وجهة نظره، وقد سار في طريق الإصلاح السلمي مجتهداً الاجتهاد

النقد العنيف:

كله في أن يحافظ على مركز البابا وقداسته، حريصاً على ألا ينال أحد منهما، وإلا يخلط دعاة الإصلاح بين إصلاح الكنيسة ومراكز رجالها، وما يستحقون من إجلال وتقديس، فهو يرى أن الإصلاح واجب على أن تقوم به الكنيسة في داخلها، أو يعاونها الحكام على إصلاح نفسها، ولذلك عندما رأى ثورة لوثر العنيفة، وما أدت إليه من مس سلطان الكنيسة ونقص ما لها من قداسة، نبذ آراءه ولم يعاونه. وظهر كذلك في هذا الإبان تومس مور من 1478 إلى 1535، وقد ظهر بإنجلترا، ودعا إلى إصلاح الكنيسة أيضاً بالطريق السلمي، ولذلك دعا بنفسه إلى وجوب احترام سيادة البابا، وأن يكون له السلطان الديني على الجميع. النقد العنيف: 119- ولكن دعوات أولئك السلمية لم تفد فائدتها، ولم تنتج ثمراتها، وإن شئت فقل أنة تحول الأفكار وانتقال الفكرة إلى الشعوب، واصطدام الكنيسة بالمفكرين وبعض الأمراء جعل نقد الكنيسة عنيفاً، وجعل خطوات الدعاة أسرع مما يريد أولئك السلميون. وأشد من ظهر من أولئك تأثيراً وأقوالهم نفوذاً: مارتن لوثر وزونجلي، وكلفن، ولنتكلم عن كل واحد من هؤلاء بكلمة موجزة. لوثر: أما مارتن لوثر، فقد ولد سنة 1482 من أبوين فقيرين، ولكن أباه أجهد نفسه، وأراد أن يصل به إلا أقصى درجات الثقافة، ومكن له ليكون قانونياً، فأرسله إلى الجامعة، ولكنه عجز عن إتمام دراسته القانونية، وعكف على دراسة اللاهوت، وانصرف إليها لأنه أحس بنزعة دينية قوية تدفعه إلى الانقطاع لذلك، وقد كان شديد التورع، مبالغاً في تقدير سيئاته، قد سيطرت على مشاعره نفسه اللوامة، حتى لقد قال بنفسه إنه لن ينجو من عذاب الجحيم إلا برحمة الرب الرحيم، وكان لهذا الإحساس الديني الدقيق، وذلك النزوع اللاهوتي موضع رعاية رجال الكنيسة، حتى لقد أوصوا به خيراً أولى الأمر من رجال الدنيا، فعين مدرساً للفلسفة، وظل عاكفاً على هذه الدراسة التي كان يشك

في صلاحيتها، إذ كان يدرس فلسفة أرسطو، وما كان في نظره إلا من عبدة الأوثان، ويجب أن يلاحظ أن دراسة الفلسفة في ذلك العصر كانت تحت ظل الدين، وفي خدمته، ويقوم بها رجال الدين أنفسهم، ولذلك لم تكن دراسته الفلسفية مبعدة عن دراسته الدينية، بل كانت تتميماً لها. ولقد دفعته نزعته الدينية الخالصة، وإجلاله للكنيسة ورجالها إلى أن يحج إلى روما، ليتيمن بلقاء رجال الدين، ولكي تحل عليه بركات روما موطن المسيحية ومقر الكنيسة المقدسة، ولكنه ما أن وطنت قدماه أرض روما حتى رأى ما صدم حسه، وأزعج نفسه، لقد توقع أن يرى النسك والعبادة والزهادة، فوجد مدينة لاهية عابثة، ووجد رجال الدين قد دنست بعضهم المفاسد، وحاطت بهم الريب، وظنت بهم الظنون، وجد جرأة على الخطايا، واستهانة بأحكام الدين. ووجد الذين تخيلهم قديسين صالحين، وإنهم ملائكة الله تسير على الأرض، قد انغمسوا في الرذيلة، ورتعوا في حماها زاعمين أن سحائب الرضوان قد نزلت عليهم، وغفر لهم سابق ذنوبهم ولاحقها، وأن بيدهم مفاتيح الملكوت في السماوات والأرض وسر التوبة، وأبواب الغفران، يغفرون لمن شاءوا ما تقدم من ذنبه وما تأخر. رأى لوثر كل هذا وه مرهف الحس الديني، ذو النفس اللوامة، الذي يرى أن خطايا الإنسان أكبر من أن يمحوها هو، وإنه لا سبيل لغفرانها ألا أن تسعها رحمة الله. لذلك شدة من هول ما رأي، وتحير بين ما تخيله في رجال الدين من زهادة، والواقع المستقر الذي صدمه صدمة عنيفة، ولكنه لم يلبث إلا قليلاً حتى أنتقل من الحيرة إلى الاستنكار، لذلك عاد إلى ألمانيا حانقاً مستنكراً بعد أن ذهب راضياً مقدساً. ولقد أخذ يعلن من ذلك الإبان أن التبرك بالمقدسات، والحج إليها وتكرار الصلاة لا يجدي العاصي، ولا يغنيه عن توبة نصوح، وقدم مطهر، ورجاء رحمة الرحيم، وأن أحداً من الخلق مهما تكن قدسيته لا يملك لأحد غفراناً، ولا يستطيع أن يستر ذنباً قد ارتكب.

ثورة لوثر على الكنيسة:

120- كان لوثر بعد عودته مأخوذاً بهذه الأفكار، قد استولت على نفسه، وسوغ له كل هذا إنه قد عرا ثقته برجال الدين ضعف، وإن لم يعتزم الثورة عليهم أو على آرائهم، ولكن الحوادث كانت تدفعه إلى أن يعلن استنكار آراء رجال الدين، والجهر بذلك. وذلك لأن البابا ليو أراد أن يعيد بناء كنيسة بطرس في روما، وذلك يحتاج إلى مقدار من المال غير يسير. فقرر أن يجمعه من صكوك الغفران ببيعها، فذهب الراهب تنزل إلى ألمانيا، ومعه تلك الصكوك التي نقلنا لك نموذجاً منها فيما أسلفنا من القول. وأخذ يعلن من أمرها. ويبالغ في قدسها وسرها. عندئذ ثار لوثر الذي لا يعرف أن شيئاً يستر الذنوب إلى الندم على ما كان، والإقلاع عنه فيما يكون، ورجاء رحمة الديان، والذي رأى في رجال الدين ما رأى، ثار لوثر على تلك الصكوك وكتب في بطلانها احتجاجاً علقه على باب الكنيسة. ولقد كان لذلك أثره في العامة والخاصة، ولم يكن من المعقول أن تقابل الكنيسة ذلك بالصمت أو الإغضاء، فقد أرسلت إليه تدعوه إلى الحضور لمحاكمته أمام محكمة التفتيش التي كانت تدبيراً اتخذته المجامع ذريعة للقضاء على مخالفيها. ثورة لوثر على الكنيسة: وهنا نجد أن بعض الأمراء يتدخل فيوصيه بألا يجيب طلبها، فلم يرَ البابا بدَّا من أن يصدر قراراً بحرمانه، ويعده زائفاً، وهنا تأخذ الحمية لوثر، ويشتد في دعوته، ويجاهر بالاستهانة بأمر الحرمان، حتى إنه ليحرق في وسط وتنبرج - والجموع حاشدة - حرمان البابا وقرار زيفه، ولم يبق إلا أن تنفذ السلطة المدنية قرار الحرمان، فتحرمه من الحقوق القانونية والمدنية، أثراُ لقرار الحرمان الديني، فاجتمع مجمع ورمز سنة 1521 لمحاكمته، ولكنه طالب البابا بأن يقنعه بخطئه فيما أرتأى. فلم يجب إلى ما طلب، فانفض المجمع من غير نتيجة في هذا، ولكن الإمبراطور أعلن حرمانه من الحقوق المدنية إلا أن أمير سكسونية حماه. ومن هذا الوقت أخذت تخضع دعوة لوثر لحكم الأحداث السياسية، فتجد سلماً من الدولة، إذا كان الإمبراطور مشغولاً بحرب، ولا يريد

لوثر لم يرد هدم الكنيسة:

إثارة فتنة. وتجد حربا إذا خلا الإمبراطور فهم، وفي كلتا الحالتين تزداد الدعوة حدة ويزداد أتباعها عددا، ويشتد ساعدهم بموالاة أمراء أعزاء في النفرة. وفي سنة 1529 حاول الإمبراطور أن ينفذ قرار الحرمان الصادر سنة 1521 ولكن أنصار لوثر يحتجون على ذلك، ومن ذلك الحين سموا البروتستنت أي المحتجين، ثم جرت الأمور سلما فحربا متداولين، حتى إذا مات لوثر، وكان الإمبراطور قد خلص من كل الحروب التي تشغله أنزل بالبروتستنت أقصى العذاب وأشده بلاء، ثم يعقب ذلك صلح بين الفريقين. لوثر لم يرد هدم الكنيسة: 121 - لم يكن لوثر من الغلاة الذين يرمون إلى هدم الكنيسة، ولا إلى محاربة سلطانها، بوصف كونها مرشدة وواعظة ومبينة للناس شئون دينهم، ولكنه كان يريد إصلاح حال الكنيسة ورجالها، وحملهم على الحادة وإعطاءهم من الحق ما أعطته الكتب المقدسة، ووصايا رسلهم، والمأثور عنهم، وهو لم ينظر إلى الباب على أنه خليفة المسيح لا يخطئ، ولا يأتي الباطل إلى قوله، بل نظر إليه على أنه كبير المرشدين الواعظين. ولما أراد لهم الصلاح - وكان يائسا من أن يقوموا هم بذلك - دعا الأمراء إلى أن يتدخلوا، وقرر أن لهم عليهم سلطانا، وأن لهم الحق في عزل رجل الدين إذا لم يقم بما يأمره به الدين، ووجد أن جزءا من فساد رجال الدين يرجع إلى عدم الزواج. ورأى أن المنع منه لم يكن في المسيحية في عصورها الأولى، فقرر حقهم في الزواج، وتزوج هو فعلا مع أنه من رجال الدين. وكان زواجه من راهبة. ووجد أن الكنيسة تحتفظ لنفسها بحق فهم الإنجيل، وذلك من أسباب غلوها وفقدها الرقيب، فجعل لكل مسيحي مثقف الحق في فهمه، واشتغل بترجمته إلى الألمانية ليقرأه كل ألماني. وأنكر أن المسيح يحل في بدن من يأكل العشاء الرباني. فقد أنكر

زونجلي وأعماله:

استحالة الخبز إلى عظام المسيح المكسورة. وأنكر استحالة الخمر إلى دم المسيح، وحلولهما في جسم الآكل. واكتفى بكون العشاء الرباني تذكيرا لما قام به المسيح من فداء للخليقة في زعمهم. وأن يعتقد المسيحي أن المسيح معه بجسده عند تناول هذا العشاء. هذا كله مع إنكاره حق الكنيسة في الغفران، ذلك الحق الذي كان عود الثقاب الذي أشعل ثورة لوثر، وكانت منها تلك النيران التي لم تستطع الكنيسة لها إطفاء. زونجلي وأعماله: 122 - وفي الوقت الذي كان يغالب فيه لوثر الكنيسة وأنصارها من ذوي السلطان، كان في سويسرة صوت قوي أخر ينادي بما يقارب ما نادى به لوثر، ذلك هو زونجلي (1484 - 1531) فقد ألمته حال الكنيسة ودعا إلى مثل ما دعا إليه لوثر في مسائل الدين. وقد ابتدأت ثورته بالثورة على صكوك الغفران كما ابتدأ لوثر، وقد مات أثناء صراع وقع بين أنصاره المعتنقين لمبادئه وأنصار الكاثوليك. وآراؤه في الحملة تتقارب من آراء لوثر، ولقد كان يرى أن العشاء الرباني مناولة تذكارية لموت المسيح وفدائه لخطيئة الخليقة في زعمهم، وأن المسيح يحضر ذلك العشاء بروحه فقط. ويفسر ما جاء خاصا بالعشاء الرباني في إنجيل متى بمعناه المجازي. وهذا نص ما جاء في ذلك الإنجيل في إصحاحه السادس والعشرين: وفيما يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك. وكسر، وأعطى للتلاميذ، وقال: "خذوا، كلوا هذا هو جسدي" وأخذ الكأس وشكر، وأعطاهم قائلا: "اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا". ودعوة زونجلي هذه، وإن كانت تتلاقى في مبادئها في الجملة مع مبادئ لوثر كانت منفصلة عنها، فلم تتوحد الدعوتان، بل كانت كلتاهما تعمل في محيط إقليمها، بيد أن حركة لوثر كانت أوسع دائرة وأسرع انتشارا، لسعة الإقليم الذي نشأت فيه، ولرعاية بعض الأمراء لها، بل لاعتناقهم مبادئها، ولأن الأحوال السياسية في ألمانيا كانت تسمح لمثل هذه الدعوة بالذيوع والانتشار.

كلفن وأثره في الإصلاح:

كلفن وأثره في الإصلاح: 123 - في الوقت الذي كان فيه هذان الرجلان يعملان ويجاهدان كل بطريقته، فلوثر بطريقته السلمية التي خالطها العنف، وزنجلي بطريقة الصراع والمنازلة، حتى مات فيه. في هذا الوقت كان رجل آخر ظهر في فرنسا وهو كلفن (1509 - 1564) قد ولد بفرنسا، ونشأ بها، وتثقف ثقافة قانونية، ولكنه مال بعد تخرجه في القانون إلى الدراسات الدينية، وقد كانت حركة لوفر قد ذاعت وشاعت في ربوع أوربا، وما أن أعلن كلفن آراءه حتى أضطر إلى الفرار بعقيدته إلى جنيف في سويسرا، وهناك ألف وكتب، وأخذ يعمل على نشر مبادئ المذهب البروتستنتي، وينظمها بعد موت لوثر، فتنظيمها على الشكل الأخير يرجع إلى كلفن أكثر مما يرجع إلى أي رجل آخر، وإن كان باذر البذرة سواه، بل إن بذور ذلك المذهب قد كانت أقدم تاريخيا من لوثر نفسه، وقد نوهنا إلى بعض هذا الكلام في المجامع. ويرى كلفن أن الكنيسة يجب أن تحكم نفسها بنفسها، وعلى الحاكم المدني مساعدتها ومعاونتها وحمايتها، وذلك ليكون السلطان الديني غير خاضع لحكم الحكام، وهو يرى أن المسيح لا يحضر لا بشخصه ولا بروحه في العشاء الرباني، ويعتبر تناول العناصر المادية رمزا للإيمان, ويقول كما يقرر صاحب كتاب الأصول والفروع في العشاء الرباني: "يشير العشاء الرباني أيضا إلى مجيء المسيح، كما يشير إلى موته، فيكون تذكارا للماضي والمستقبل، فالعبرة في العشاء الرباني للذكرى، لا حضور المسيح مادياً أو روحياً". إنشاء كنائس للمصلحين: 124 - كانت جهود هؤلاء القادة وأتباعهم، وعيوب الكنيسة، وسوء حالها وحال القوامين عليها، وشدة ضغطهم سبباً في ذيوع الآزاء التي تخالف رأي الكنيسة، وقد ابتدأت الحركة بطلب إصلاح الكنيسة على أن يقوم بالإصلاح رجال الكنيسة أنفسهم ولكنهم أنقضوا رءوسهم، وأصروا واستكبروا استكباراً، ورفضوا كل دعوى للإصلاح، وقابلوا أصحابها بقرارات الحرمان أحياناً كثيرة، والإهمال أحياناً قليلة.

أهم مبادئ الإصلاح:

فلما استيأس مريدو الإصلاح من أن يقوم الكنسيون بإصلاح حالهم، وأن يرعوا الديانة حق رعايتها اتجهوا إلى الحكام طالبين أن يتدخلوا لإصلاح الكنيسة، كما حاول لوثر، فقد أعطى الحكام حق الهيمنة على الكنيسة ليصلحوها، ولكن الحكام تقاعسوا، ومنهم من لم يحاول إصلاح الكنيسة، بل حاول القضاء على طلاب إصلاحها، وأنزل بهم اضطهادات وبلايا وشدائد ومذابح، كما حدث لبروتستنت فرنسا، وكان ذلك إما تعصبا للكنيسة، وإما ما جملة، وإما كراهة للمصلحين، لأن منهم من كانت لهم آراء إصلاح نظم الحكم بجوار آرائهم في إصلاح الكنيسة، وقد كان الحكم استبداديا مطلقا، بلا نظام يقيد الحاكم، ويلزم المحكوم. فلما يئس طلاب الإصلاح من الحكام ويئسوا من رجال الكنيسة اتجهوا إلى أن يجعلوا لآرائهم جماعة، ووحدة دينية منفصلة عن الكنيسة وآراؤها غير خاضعة للكنيسة. وراغضة كل ما لها من سلطان، وأنشأوا لهم كنائس ليست معترفة لروما بأي سلطان، وسلطة رجال الدين فيها محدودة، ولرجال الدين من الحقوق ما قرروا من مبادئ، وسميت كنائسهم كنائس إنجيلية أي أنها لا تخضع إلا لحكم الكتاب المقدس، ويقيد بأحكامه رجل الدين أمام رجل الشعب، وجميعهم مسئول أمام ذلك الكتاب، وليس لرئيس الكنيسة خلافة تجعل كلامه مقدسا، مساويا لأحكام الكتاب المقدس في الرتبة والاعتبار. وقد انتشر المذهب الجديد في ألمانيا والدانمرك والنرويج وهولندا وإنجلترا وأمريكا الشمالية وسويسرا، وإن لم تصر كلها على المذهب. أهم مبادئ الإصلاح: 125 - والآن نلخص المبادئ التي أتى بها ذلك المذهب الجديد، نكتفي بذكر أصولها التي يرجع إليها غيرها من الفروع، وأعظم تلك الأصول شأنا:

(أ) جعل الخضوع التام الواجب على المسيحي لنصوص الكتاب المقدس وحدها وجعله الحكم وحده الذي لا ترد حكومته، ولا ترفض أوامره، وقياس كل أوامر الكنيسة القديمة وقرارات المجامع على ما نص عليه في ذلك الكتاب فما وافقه قبل على أن الكتاب قد ورد به، وما خالفه رفض، ولو كان قد صدر عن أكبر رجال الكنيسة شأناً في الماضي أو الحاضر. ولذلك يقول صاحب كتاب سوسنة سليمان في ذلك: "إنهم جميعاً متفقون في المعتقدات على مجرد ما في الكتاب المقدس فقط، فلا يخضعون لشيء من التقاليد التي لا يوجد لها فيه رسم أصلاً، ولا إلى أقوال أحد من الآيات أو المجامع إلا إذا كان موافقا لنصوصه لفظا ومعنى، أما تفسير الآيات الغامضة والتي لم يوضحها الوحي الإلهي، فلا يمارون أحداً فيها إلا إذا كان التفسير ينافي ما كان معناه واضحاً في غيرها من تعاليم الكتاب". فهم لا يعترفون بسلطان لغير الكتاب وقد كان تحكيم الكتاب وحده سبباً في جعل رجل الدين غير مطاوع إلا فيما ورد في الكتاب.

وقد كان جعل سلطان الكتاب شاملاً لرجل الدين، ولرجل الشعب سبباً في أن حق التفسير والفهم لم يعد مقصوراً على رجال الدين، فأزيل ذلك الحجاب الذي أقيم بين المسيحي وبين كتابه. إذ أقامه رجال الدين ليحتجزوا حق تفسير الكتاب لأنفسهم. وبذلك يكون الدين ما تنطق به أفواههم وليس لأحد أن يعقب على قولهم، لأن باب التفسير قد أقفل دون غيرهم فلا يستطيعون إزالة رتاجه، ولا فتح إغلاقه، فألغى المذهب الجديد ذلك الحجاب وفتح باب التفسير لكل مثقف ذي فهم، وإذا كان ثمة نص لم يفهم توقفوا عن فهمه، فإن أبدى رجل الدين رأياً في فهمه قبلوه إلا إذا خالف نصاً ظاهراً لا مجال للتأويل فيه. عدم الرياسة في الدين: (ب) ليس لكنائسهم من يترأس عليها رياسة عامة، بل لكل كنيسة رياسة خاصة بها، والرياسة الكنسية التي تستمد الخلافة من أحد الحواريين أو من المسيح نفسه لا وجود لها عندهم، بل إن الكنيسة في كل مكان ليس لها إلا سلطان الوعظ والإرشاد، والقيام على تأدية الفروض والتكاليف الدينية وبيان الدين لمن لا يستطيع معرفته من تلقاء نفسه، ولم يكن عنده من الثقافة ما يمكنه من ذلك. ليس لرجل الدين الغفران: (جـ) وإذا كانت الكنيسة لها سلطان إلا البيان لمن لا يستطيع بياناً والإرشاد لمن لا يستطيع معرفة أوامر الدين من تلقاء نفسه، فليس لها سلطان في محو الذنب أو ستره. أو تلقى الاعتراف بالذنوب ومسحها سواء أكانت تلك هي المسحة الأخيرة عن الاحتضار. أم كانت قبل ذلك. فكل ذلك ليس لها فيه سلطان. لأنه من عمل الديان. وقد علمت أن صكوك الغفران وحق الكنيسة فيه كانت الثقاب الذي اندلعت منه الثورة على الكنيسة، وتبعها تقصى عيوبها، وتتبع نقائصها. وقد ذكرنا ببعض التفصيل ما كانت تفعله الكنيسة، وبينا أنها غالت فيما زعمته لنفسها في ذلك من حق، والأساس في رفض الكنيسة في هذا: كل نفس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

وكما أن ذلك الأساس أدى إلى سلب الكنيسة ما زعمته لنفسها من حق الغفران أدى إلى أمر آخر. وهو منع الصلاة لأجل الموتى، واعتبار أن ذلك لا يفيدهم لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سيحاسب عليه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وأدى أيضاً إلى أن طلب شفاعة القديسين لا قيمة له، لأنه لا يغير عمل الشخص من صالح إلى طالح. وفي الجملة أنهم اعتبروا غفران الذنوب يرجع إلى عمل الشخص وعفو الإله، وتوبة العاصي وندمه على ما فات ولومه نفسه على ما كان وكل قول يجعل غفران الذنب أساسه غير ذلك رفضوه، ولم يلتفتوا إليه. عدم الصلاة بلغة غير مفهومة. (د) ولقد كان ذلك المبدأ الذي يجعل الإنسان يدين بعمله وحده، ومبدأ أن لا سلطان للكنيسة على القلب والعبادة، كان هذان المبدآن سبباً في أن رفض أولئك المسيحيون الصلاة بلغة غير مفهومة للمتعبد، لأن الصلاة دعاء من العابد للمعبود وانصراف القلب إليه، والقيام بالخضوع الكامل له، والنطق بما يدل على الخضوع والالتجاء إلى المعبود، فوجب أن تكون بألفاظ يفهمها العابد ليردد معانيها ويقصد مراميها، وقد كانت صلاة القسيس بلغة لا يفهمها المصلون مقبولة لدى الكاثوليك. لأن أساس ذلك أن عبادة القسيس عبادة لمن هم تحت سلطانه. رأيهم في العشاء الرباني: (هـ) انتهى البروتستنت بالنسبة للعشاء الرباني إلى إنه تذكار بغداء المسيح للخطيئة التي ارتكبها آدم، وتحملت الخليقة من بعد وزرها، وتذكار لمجيئه لدين الناس، فهو تذكار للماضي والمستقبل كما جاء في بعض الرسائل، وهم ينكرون أن يتحول الخبز إلى جسد المسيح. والخمر إلى دمه. والكنيسة قد أصرت على ذلك إصراراً. وهذا قرارها في المجمع الترنديتى في ذلك الشأن، فهي تقول بلسان أعضائه.. "قد اعتقدت كنيسة الله دائماً بأنه بعد التقديس يوجد جسد ربنا الحقيقي ودمه الحقيقي مع نفسه ولاهوته تحت أعراض الخبز والخمر، وأن كلاً من الشكلين يحتوي ما يحتوى كلاهما، لأن يسوع المسيح هو بكماله تحت شكل الخبز، وتحت أصغر أجزاء هذا الشكل، كما إنه هو كله أيضاً تحت شكل الخمر وجميع أجزائه،

وقد اعتقدت الكنيسة أيضاً اعتقاداً ثابتاً بأنه بتقديس الخبز والخمر يستحيل كامل جوهر جسد ربنا. وكامل جوهر الخمر إلى جوهر دمه تعالى، وهذا التعبير قد دعى بكل صواب. فيلتزم إذن جميع المؤمنين بأن يعدوا هذا السر المقدس العبادة المستوجبة للإله الحقيقي. لأننا نعتقد بأنه يوجد فيه الله نفسه الذي عبدته الملائكة على أمره تعالى. حينما أتى على العالم، وهو نفسه الذي سجدت له المجوس خارين على أقدامه، وله نفسه سجدت الرسل في الجليل". هذه عقيدة الكنيسة في العشاء الرباني، لم يستسفها لوثر وأشياعه، وخلفاؤه من بعده، وانتهى أمرهم إلى أن رفضوا ذلك التحول الذي تفرضه الكنيسة، وتلتزم به، وإن كان بعيداً عن المعروف المألوف، وبعد أن رفضوا ذلك قر قرارهم الأخير على اعتبار العشاء الرباني تذكاراً بالغذاء وتذكاراً للمجيء وفي ذلك عظة واستبصار. إنكار الرهبنة: (و) أنكر أولئك المصلحون لزوم الرهبة التي يأخذ رجال الدين أنفسهم بها ويعتبرونها شريعة لازمة. يفقد رجل الدين صفته الكهنوتية أن تخلى عنها، ولقد رأوا ما أدى إليه ذلك الحظر من كبت للجسد الإنساني، وتعذيب له من غير ضرورة، ولا نص من الكتب قديمها وجديدها يفيد ذلك، بل قد رأوا ما إليه ذلك الكبت من انفجار غريزة الإنسان في رجل الدين فانطلق يكرع اللذة من شقتها الحرام بعد أن حرم على نفسه الحلال، وطفق يغترف من ورد معتكر بالآثام، مرنق بالمفاسد، وترك المنهل العذب الذي حللته الشرائع، ويتفق مع ناموس الاجتماع الإنساني. عدم اتخاذ الصور والتماثيل: (ز) منع البروتستنت اتخاذ الصور والتماثيل في الكنائس والسجود لها، معتقدين أن ذلك قد نهي عنه في التوراة، فقد جاء في سفر التثنية: "لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة مما في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي، وأصنع إحساناً إلى ألوف من محبي، وحافظي وصاياي".

المسيحيون لم يسيروا في منطقهم إلى أقصى مداه:

ولا شك أن ما نهت عنه التوراة يجب الأخذ به مادام الجميع يؤمنون بالتوراة، وكتب العهد الجديد، وما دام لم يرد عن المسيح أو عن الرسل ما يبطل ما جاء في التوراة. ولقد أثبت الأستاذ أمين الخولي بالسند التاريخي أن ذلك التحريم قد قبسه النصارى المصلحون من نور الإسلام. المسيحيون لم يسيروا في منطقهم إلى أقصى مداه: 126- هذه أعظم المسائل التي خالف بها المصلحون في المسيحية ما عليه الكنيسة، وهي لا شك خلع لسلطان الكنيسة على النفوس وقضاء على سلطان المجامع، وإذا كان للحوادث منطق تسير عليه، فهل لنا أن نستنبط منطق تلك الحوادث، وما كان عساه يكشف عنه لو سار في طريقه إلى أقصى مداه؟ لقد علمت في سياقنا التاريخي الذي بيناه عن أدوار المسيحية أن ذلك السياق يعلن في عباراته وفي فحواها أن تلك الديانة كانت ديانة توحيد، حتى جاءت المجامع، فقررت أُلوهية غير الله، وطردت من حظيرة المسيحية المستمسكين بعروة التوحيد الذين رفضوا دعوى أُلوهية المسيح، وناصرتهم الشعوب المسيحية في الإبان. فإذا كان المصلحون قد قرروا أن يأخذوا مذهبهم الديني من الكتب الصحيحة، وقرروا أن يرفضوا سلطان المجامع والكنيسة معاً، فإن المنطق الذي يسيرون عليه كان يوجب عليهم أن يرفضوا أقوال المجامع القديمة، ومنها أُلوهية المسيح، وألوهية الروح القدس. وقد كنا نود أن يدرسوا قرارات هذه المجامع، وينظروا إلى سندها وقوتها فإن لم يروا السند قوياً رفضوا ذلك القرار، ولكنهم لم يسيروا في منطقهم إلى أقصى مداده، فرفضوا آراء الكنيسة في أمور، أعظمها شأناً ما بيناه، ولم يتجهوا إلى لب العقيدة، وهو لم يتجاوز إنه قرار مجمع فيدرسوه من جديد على ضوء ما فتحوه لأنفسهم من نور مبصر، وهو أن يكون لكل شخص له قدرة على فهم الكتاب حق في تفسيره، واستخراج الأوامر والنواهي منه من غير أن يتخذوا الأحبار والقسيسين وسائط في فهمه، ويحكموا بذلك في ضمائرهم واعتقاداتهم.

عقول مسيحية تنكر ألوهية المسيح:

عقول مسيحية تنكر ألوهية المسيح: 127- ولكنا وقد يئسنا من أن يسير البروتستنت في طريقهم إلى أقصى مداه وجدنا العقول المسيحية قد تنبهت، والدراسة العلمية والفلسفية قد سارت ونور الإسلام قد انبلج، فوجدنا علماء كثيرين قد صرحوا في قوة بأن المسيح لم يكن إلا رسولاً، وإنه لم يكن أكثر من بشر، قد قبسوا ذلك من الأناجيل نفسها، فهذا رينان قد جهر بذلك في قوة وجرأة ولم يمنعه حرمان الكنيسة له من الإصرار على رأيه والذود عنه، وهذا تولستوى ينكر على المسيحيين أُلوهية المسيح، وتنتهي نتائج بحثه إلى أن بولس لم يفهم تعاليم المسيح، بل طمسها، والكنيسة زادت تعاليم المسيح بالنسبة للاعتقاد غموضاً وإخفاء. ولنترك الآن الكلمة لذلك الفليسوف، فهو يقول: "إنه ينبغي لفهم تعليم يسوع المسيح الحقيقي، كما كان يفهمه هو أن نبحث في تلك التفاسير والشروح الطويلة التي شوهت وجه التعليم المسيحي، حتى أخفته عن الأبصار تحت طبقة كثيفة من الظلام، ويرجع بحثنا إلى أيام بولس الذي لم يفهم تعليم المسيح، بل حمله على محمل آخر، ثم مزجه بكثير من تقاليد الفريسيين، وتعاليم العهد القديم، وبولس كما لا يخفى كان رسولاً للأمم، أو رسول الجدال والمنازعات الدينية، وكان يميل إلى المظاهر الخارجية الدينية، كالختان وغيره فأدخل أمياله هذه على الدين المسيحي فأفسده، ومن عهده ظهر التلمود المعروف بتعاليم الكنائس، وأما تعليم المسيح الأصلي الحقيقي فخسر صفته الإلهية الكمالية، بل أصبح إحدى حلقات سلسلة الوحي التي أولها منذ ابتداء العالم، وآخرها في عصرنا الحالي، والمستمسكة بها جميع الكنائس، وأن أولئك الشراح والمفسرين يدعون يسوع إلهاً دون أن يقيموا على ذلك الحجة، ويستندون في دعواهم على أقوال وردت في خمسة أسفار: موسى، والزبور، وأعمال الرسل، ورسائلهم، وتأليف آباء الكنيسة، مع أن تلك الأقوال لا تدل أقل دلالة على أن المسيح هو الله. هو إذن ينكر أُلوهية المسيح، وينكر أُلوهية روح القدس، ويعتقد بأن الله واحد أحد فرد صمد، وينكر أن تكون كتب النصارى كتبت بإلهام،

ويعلن في جرأة إنها حرفت وحراها التغير والتبديل، فيقول في صراحة المستمسك بالعروة الوثقى: "أن المسيحيين واليهود والمسلمين يعتقدون جميعهم بالوحي الإلهي، فالمسلمون يعتقدون بنبوة موسى وعيسى ولكنهم يعتقدون كما أعتقد بأنه دخل التحريف والتشويه على كتب الديانة النصرانية، وهم يعتقدون بأن محمداً خاتم الأنبياء، وإنه قد أوضح في قرآنه تعاليم موسى وعيسى الحقيقية، كما قالاها دون زيادة ولا نقص، وأن كل مسلم أمامه القرآن يقرؤه، ويتمسك به ويسير بموجب أحكامه، ولا يعترف بغيره من الكتب مهما اشتهر واتسموها بالتقوى والصلاح، ويسمى المسلمون ديانتهم بالمحمدية، لأن محمداًَ وضعها بخلاف الكنيسة المسيحية التي تسير الآن بموجب تأليف الآباء الذين يدعون بأن ما كتبوه هو من روح القدس، فكان الأحرى بالمسيحيين أن يسموا كنيستهم بالروحية القدسية أولى من تسميتها بالمسيحية".

خاتمة

خاتمة 128- قد ظهر إذن مسيحيون يدعون إلى التوحيد، وإنك لترى بريق الإسلام يلمع بين السطور التي دونوها والأقوال التي نشروها، ولكن قد طردتهم المسيحية الحاضرة من حظيرتهم كما فعلت المجامع من قبل، ولقد كان الأمر لا يسترعي النظر لو كان مقصوراً على العلماء. بل إنك لترى المسيحيين الذين تجادلهم أو تخالطهم بالمودة - إن استثنيت رجال الدين منهم - يصرحون في بهرة المجالس وفي جهر من غير أسرار بإنهم لا يستطيعون أن يتصوروا المسيح إلا رجلاً عظيماً رسولاً من عند الله، وليس هو الله، وليس ابن الله وليس ذا صلة بالألوهية إلا صلة الرسول بمن أرسله. فهل لنا أن نعتقد أن شيوع هذا على ألسنة أولئك المثقفين يؤدي إلى إصلاح كامل للعقيدة، يكون شاملاً للأصل، ولا يكون مقتصراً على الفرع كما فعل الإصلاح السابق واقتصر عليه؟. إن الأجدر لهذا أن يتجه أولئك المثقفون إلى دراسة دينهم، وأن يتجه الذين يحاولون إرشادهم - إلى بيان الأدوار التاريخية التي مرت بدينهم، وإلى ما أحدثته المجامع من أحداث، وكل حدث في الدين هو بدعة فيه، فإن دراسة تلك الأدوار تريهم الحقائق عاية، وتكشفها لهم غير مستورة برسوم وطقوس كنسية أو غير كنسية، وقد حاولنا في أثناء بحثنا أن نبين أن أُلوهية المسيح وألوهية الروح القدس فكرتان عرضتا على العقل المسيحي، ولم تكونا في المسيحية الأولى، وذكرنا السند التاريخي في ذلك وإنه لمسيحي خالص، وإنه بهذه المحاولة نريد أن ندعو الذين يهمهم رد العالم المسيحي إلى التوحيد - إلى العناية بدراسة تاريخ المسيحية وإعلانه لأهلها، ونريد أن ندعو الذين يريدون نشر الإسلام بين ربوع المسيحيين إلى إعلان ذلك التاريخ، فإنهم إن دخلوا في التوحيد، دخلوا في الإسلام بأيسر مجهود، لأن الخطوة التالية لا تحتاج إلى أكثر من الإعلام، والحمد لله رب العالمين. (تم بحمد الله وتوفيقه)

§1/1