مجموع رسائل عبد الرحمن بن وهف القحطاني

عبد الرحمن بن وهف القحطاني

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فهذا مجموع رسائل الشاب الصالح؛ الابن البار: عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني رحمه الله: الرسالة الأولى: سيرة الشاب الصالح، كتبتها بعد وفاته رحمه الله، وكتبت ضمنها سيرة مختصرة للابن الشاب الصغير الصالح عبد الرحيم رحمه الله تعالى، وقد جعلت هذه الرسالة هنا قبل رسائل الابن عبد الرحمن رحمه الله، وقد طبعت مفردة. الرسالة الثانية: الجنة والنار من الكتاب والسنة المطهرة، وقد حققتها، وطبعت مفردة. الرسالة الثالثة: غزوة فتح مكة في ضوء الكتاب والسنة المطهرة، وقد حققتها، وطبعت مفردة أيضاً. الرسالة الرابعة: أبراج الزجاج في سيرة الحجاج، وقد حققتها،

وطبعت مفردة أيضاً. الرسالة الخامسة: مواقف لا تنسى من سيرة والدتي رحمها الله، وقد طبعت مفردة، وأدرجتها هنا مع رسائل الابن عبد الرحمن؛ لقوة العلاقة بين هذه الرسالة ورسائل الشاب الصالح؛ فإن الوالدة رحمها الله هي القابلة عند ولادة حفيدها عبد الرحمن، وعند ولادة حفيدها عبد الرحيم، ثم لتكون هذه الرسالة محفوظة مجموعة مع رسائل حفيد الوالدة رحمهم الله تعالى. والله تعالى أسأل أن ينفع بهذه الرسائل، وأن يجعلها من أعمالهم التي لا تنقطع، وأن ينفع بها من انتهت إليه؛ فإنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله وسلم، وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر بعد صلاة الظهر في يوم الإثنين الموافق 4/ 1/1431هـ.

الرسالة الأولى: سيرة الشاب الصالح

الرسالة الأولى سيرة الشاب الصالح عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني رحمه الله تعالى (1403 - 1422هـ) ونبذة من سيرة شقيقه الصغير الصالح عبد الرحيم رحمه الله تعالى (1410 - 1422هـ) تأليف والده د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فهذه رسالة في ((سيرة الابن: الشاب، البار، الصالح عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني رحمه الله تعالى))، بيّنت فيها سيرته الجميلة على النحو الآتي: أولاً: مولده رحمه الله تعالى. ثانياً: نشأته رحمه الله تعالى. ثالثاً: حفظه للقرآن الكريم. رابعاً: دراسته النظامية. خامساً: شيوخه رحمه الله. سادساً: زملاؤه في كلية الشريعة. سابعاً: طلبه للعلم خارج المدارس النظامية.

ثامناً: مؤلفاته. تاسعاً: تعليقاته المفيدة على بعض كتبه. عاشراً: تلاميذه في حلقات القرآن الكريم. الحادي عشر: الحكم التي كتبها رحمه الله: الشعر، والنثر. الثاني عشر: أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر. الثالث عشر: أخلاقه العظيمة رحمه الله تعالى. الرابع عشر: وفاته مع شقيقه عبد الرحيم رحمهما الله تعالى. الخامس عشر: سيرة مختصرة لشقيقه الابن: البار، الصغير، الصالح عبد الرحيم رحمه الله تعالى. السادس عشر: ما قاله عنه العلماء وطلاب العلم والأساتذة. السابع عشر: ما قاله عنه معلموه. الثامن عشر: ما قاله عنه زملاؤه. التاسع عشر: الفوائد التي اقتطفها من أساتذة كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، خلال ثلاثة أشهر فقط من 13/ 6/1422 إلى 16/ 9/1422هـ. والفوائد التي اقتطفها رحمه الله على النحو الآتي: 1 - الفوائد التي اقتطفها من علوم القرآن. 2 - الفوائد التي اقتطفها من التفسير. 3 - الفوائد التي اقتطفها من مصطلح الحديث.

4 - الفوائد التي اقتطفها من الحديث الشريف. 5 - الفوائد التي اقتطفها من أصول الفقه. 6 - الفوائد التي اقتطفها من الفقه. 7 - الفوائد التي اقتطفها من النظم الإسلامية. 8 - أما الفوائد التي اقتطفها رحمه الله من شرح أساتذة العقيدة، فقد قيّدها على أصل نسخته من شرح العقيدة الطحاوية، ولم يفردها في مذكرة خاصة كما أفرد الفوائد المتقدمة، جعلها الله في موازين حسناته. والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله من العمل المقبول للابن عبد الرحمن، وشقيقه الابن عبد الرحيم رحمهما الله تعالى، وأن يجعلهما شهداء أحياءً عند ربهم يرزقون، وأن يجمعني بهما في أعلى منازل الشهداء في الفردوس الأعلى مع نبينا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ووالدينا، ومشايخنا، وذرياتنا، وأزواجنا، وأحبابنا في الله تعالى جميعاً؛ إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربهم إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن حرر بعد العصر من يوم السبت 21/ 12/1423هـ

أولا: مولده:

* مولد الابن عبد الرحمن رحمه الله، ونشأته، وطلبه للعلم، وأخلاقه، وما قال عنه العلماء، وطلاب العلم، والأساتذة، ومعلموه، وزملاؤه، ووفاته رحمه الله تعالى: أولاً: مولده: ولد رحمه الله قبل صلاة الظهر في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة: 27/ 11/1403هـ في سكن جامع الفاروق بإسكان القوات المسلحة طريق الخرج في مدينة الرياض. ثانياً: نشأته: نشأ بتوفيق الله تعالى ورعايته وفضله وإحسانه على ما نشأ عليه أهل التوحيد، وكان يتّصف بالذكاء منذ الطفولة المبكرة، فلم يدخل المدرسة إلا وهو يحفظ جزء عمّ، ويقرأ الأحرف العربية، وفي السنة الثانية الابتدائية اختبر في الجماعة الخيرية في خمسة أجزاء، فاجتاز بتقدير ممتاز، وكان يدرس في الفترة الصباحية في المدرسة، وفي الفترة المسائية بعد العصر في الجامع في حلقات القرآن الكريم على الشيخ حافظ قاري غلام محمد بن فيض الله، جزاه الله خيراً. وكان الابن عبد الرحمن رحمه الله لا يحب اللعب في طفولته كما يحبه الأطفال، حتى في المدرسة، وقد أخبرني رحمه الله أنه يجلس والطلاب يعلبون في ملعب المدرسة، وقد كان رحمه الله يذهب من البيت في سيارة ويرجع إليه، ثم من البيت إلى المسجد، ولا يختلط مع أبناء الجيران، وكان ملازماً لي مدة حياته إلا إذا سافرت، وكان يحب أن يصلي دائماً خلف الإمام من صغره إلى أن مات رحمه الله تعالى.

المدرسة الابتدائية

* دخل المدرسة الابتدائية في أوائل عام 1410هـ‍ [مدرسة الإمام حمزة لتحفيظ القرآن الكريم] في حي الغبيراء بمدينة الرياض، وكان يثني على كثير من مدرسيها ويخصّ منهم الأستاذ سعيد بن سعد الطيشان، والأستاذ محمد بن سالم الهيشة، جزاهما الله خيراً، وتخرّج من هذه المدرسة عام 1415هـ‍. * ثم درس المتوسطة في المتوسطة الثانية لتحفيظ القرآن الكريم، وختم حفظ القرآن في الخامسة عشرة من عمره في هذه المدرسة [بتقدير ممتاز، وقد أخذ الدرجة كاملة 100%]، وذلك عام 1418هـ‍، وكان رحمه الله يثني على مديرها الشيخ حمّاد بن عبد الرحمن العمر حفظه الله، ويذكر من حسن خُلُقه وتربيته، وعنايته بالطلاب الشيء الكثير، كما يُثني كثيراً على مدرّس القرآن الكريم بهذه المدرسة: الشيخ إبراهيم التويم حفظه الله، ويذكر حرصه على نفع الطلاب واستقامتهم، ويثني على كثير من مدرّسي هذه المدرسة. * ثم اختبر بعد ذلك في الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن فاجتاز بتقدير ممتاز أيضاً ولله الحمد، وذلك عام 1419هـ‍. * ثم انتقل إلى المرحلة الثانوية عام 1419هـ فدرس في ثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم، وتعلّم فيها القراءات السبع مع مراجعة القرآن الكريم، وكان يثني كثيراً على الشيخ عادل بن عبد الله السنيد حفظه الله مدرّس القراءات، وقد أثّر على الابن عبد الرحمن في الإخلاص، وعلى الشيخ بدر بن ناصر العوَّاد حفظه الله مدرّس المواد الشرعية، وقد أثّر على

ثم تخرج من هذه الثانوية

الابن عبد الرحمن في البلاغة والشعر والأساليب الرائعة، ويشكرهما ويقول: ((هذان من العلماء))؛ لتأثره بتربيتهما؛ ولغزارة علمهما، وحرصهما على نفع الطلاب جزاهما الله خيراً، كما يُثني على وكيل هذه المدرسة: الشيخ محمد العوشن ويقول: ((هذا الرجل عليه سمت العلماء))، كما يُثني على كثير من مدرّسي هذه المدرسة جزاهم الله خيراً. * ثم تخرّج من هذه الثانوية عام 1422هـ‍، وكان من العشرة الأوائل على مدارس تحفيظ القرآن الكريم بمدينة الرياض، بتقدير ممتاز. وأخبرني وكيل هذه المدرسة الشيخ محمد العوشن حفظه الله أن الابن عبد الرحمن رحمه الله أوصى بكتابه تقريب المعاني في شرح حرز الأماني في القراءات السبع للصف الثالث ثانوي في مدرسة أبي عمرو، وكان الابن عبد الرحمن قد كتب على هذا الكتاب بخط يده: ((هذا التقريب أُوصي به لطلاب ثالث ثانوي بعد مغادرتي المدرسة على خير إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم)) (¬1). * ثم انتقل إلى المرحلة الجامعية، فدخل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في كلية الشريعة، قسم الشريعة، وذلك في 13 من جمادى الثاني عام 1422هـ‍، فدرّس بها بقيّة جمادى، ورجب، وشعبان، وستة عشر يوماً من رمضان - رحمه الله -. ¬

(¬1) نقل من خطه رحمه الله على الغلاف الداخلي من الكتاب المذكور.

مشايخه في كلية الشريعة قسم الشريعة:

وكان من مشايخه في كلية الشريعة قسم الشريعة: 1 - الشيخ د. عبد الله بن مبارك البوصي يدرسه في الفقه. 2 - الشيخ د. عبد الحكيم العجلان، في الفقه أيضاً. 3 - الشيخ د. محمد المديميغ، في العقيدة ((الطحاوية)). 4 - الشيخ د. ناصر الجديع، في العقيدة ((الطحاوية)). 5 - الشيخ د. عبد العزيز العسكر في العقيدة ((الطحاوية)). 6 - الشيخ د. محمد الدريويش، في العقيدة ((الطحاوية)). 7 - الشيخ د. محمد بن عبد العزيز المبارك، في أصول الفقه. 8 - الشيخ د. إسماعيل بن خليل، في الحديث ((بلوغ المرام)). 9 - الشيخ د. محمد بن عبد الله الفهيد، في مصطلح الحديث. 10 - الشيخ د. فراج الحمد، في النحو ((أوضح المسالك)). 11 - الشيخ د. إبراهيم الفايز، في ((النظم)). 12 - الشيخ د. عبد الله العمرو، في ((النظم)). 13 - الشيخ د. شريف في ((علوم القرآن)). 14 - الشيخ د. جمعة، في ((التفسير)). 15 - الشيخ د. الزناتي، في ((التفسير)) أيضاً.

زملاؤه في كلية الشريعة:

أما زملاؤه في كلية الشريعة قسم الشريعة فهم كثير جداً، لكن من أبرزهم وأحبهم إليه: 1 - عادل بن عبد الله المطرودي، وهو ممن يحفظ القرآن الكريم وصحيح البخاري ومسلم، وحفظ بعد ذلك السنن زاده الله علماً. 2 - عبد الرحمن بن عبد العزيز بن سليمان الشبيب. 3 - * ياسر بن محمد الحقيل، وهو قرين عبد الرحمن في البلاغة والشعر. 4 - تركي بن عبد الله الهويمل. 5 - عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن بجاد القحطاني. 6 - عبد الرحمن بن سعود الدحيم. 7 - عبد العزيز بن سعد بن محمد الحمدِّي. 8 - عبد الحليم بن فاروق الأفغاني. 9 - عبد الحميد بن عبد الله المشعل. 10 - سلمان بن محمد بن ظافر الشهري. 11 - * يزيد بن علي المحسن. 12 - * عبد السلام بن سليمان الربيش. 13 - * عبد الرحمن بن سعد المبارك. 14 - * تركي بن إبراهيم المهنا.

15 - * متعب بن خالد الجندل. 16 - * علي بن محمد المهوس. 17 - * عبد الله بن سليمان الرميان. 18 - * عبد الرحمن بن محمد الحمود. 19 - عبد الرحمن بن حمود البدراني. 20 - * عبد الله بن صالح الهزاني. 21 - * عبد الرحمن بن عبد العزيز الجلعود (¬1). ¬

(¬1) كل اسم أمامه نجمة فهو زميل لعبد الرحمن رحمه الله في ثانوية أبي عمرو لتحفيظ القرآن الكريم، ثم في كلية الشريعة، قسم الشريعة.

ثالثا: طلبه للعلم خارج المدارس النظامية:

ثالثاً: طلبه للعلم خارج المدارس النظامية: راجع القرآن مرات عديدة على شيخه في جامع الفاروق بإسكان أفراد القوات المسلحة، وعلى مجموعة من المدرسين، وكان يحضر معي الدروس الليلية، وفجر الخميس عند سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى، وذلك في السنوات الأخيرة في حياة شيخنا رحمه الله تعالى، ومن أهم طلبه للعلم ما يأتي: 1 - حفظ بعد حفظه القرآن الكريم: الأربعين النووية للإمام النووي رحمه الله. 2 - قرأ كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وذلك على فضيلة الشيخ عبد الله بن صالح القصير حفظه الله عام 1420هـ في مدينة الباحة، ولم يكمله؛ لطول نفس الشيخ في الشرح، ثم قرأ هذا الكتاب عليّ من أوله إلى آخره وذلك عام 1422هـ في مدينة الباحة قبل موته بأشهر، واستمع لشرحه كاملاً، وبدأ يحفظ هذا الكتاب، فحفظ قبل موته سبعة عشر باباً سمَّعها عليَّ واستمع لشرحها، وآخر هذه الأبواب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (¬1). 3 - قرأ القواعد الحسان لتفسير القرآن للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، على فضيلة الشيخ د. عبد الله بن عبد العزيز الخضير حفظه الله، وذلك عام 1420هـ في مدينة الباحة. ¬

(¬1) سورة القصصِ، الآية: 56.

4 - قرأ نخبة الفكر للحافظ ابن حجر على فضيلة الشيخ منصور السماري حفظه الله، وذلك عام 1420هـ‍في مدينة الباحة. 5 - قرأ عليَّ كتاب بلوغ المرام إلى نهاية كتاب الجنائز ثلاث مرات: المرة الأولى مستمعاً في الطائف عام 1420هـ‍، والمرة الثانية قرأه عليَّ بنفسه في الباحة عام 1420هـ‍، والمرة الثالثة في مدينة الرياض، وقد وصل إلى نهاية كتاب الزكاة، وبدأ في الصيام إلى الحديث رقم 676 [حديث حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من لم يُبَيِّت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)) (¬1). 6 - قرأ عليَّ كتاب ((منهاج السالكين وتوضيح الفقه في الدين)) للعلامة السعدي رحمه الله، وصل فيه إلى نهاية كتاب الزكاة قبل موته رحمه الله. 7 - قرأ عليَّ كتاب ((كشف الشبهات)) كاملاً، للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، واستمع لشرحه. 8 - سَمِعَ ثلاثة الأصول للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، خمس مرات، مع شرحها. 9 - قرأ عليَّ ((الدروس المهمة لعامة الأمة)) للإمام ابن باز رحمه الله مرتين، ولم يكمل الثانية؛ لموته رحمه الله. 10 - حفظ عليَّ الرحبية في الفرائض إلى باب الحساب عام 1420هـ‍، ¬

(¬1) رواه الخمسة.

بحوث مفيدة

وراجعها مرات. 11 - قرأ عليَّ ((الفوائد الجلية في المباحث الفرضية)) للعلامة ابن باز رحمه الله إلى باب الحساب. 12 - قرأ عليَّ ((الدرر البهية في المسائل الفقهية)) للإمام الشوكاني إلى نهاية كتاب الحج، وذلك عام 1422هـ‍في مدينة الباحة قبل وفاته رحمه الله بأشهر. 13 - سَمِعَ ((العقيدة الواسطية مع شرحها)) ثلاث مرات: الأولى سمعها من الشيخ الدكتور حمد الشتوي في الطائف عام 1420هـ‍، والثانية والثالثة سمعها في دروسي في الرياض. 14 - سَمِعَ ((القواعد الخمس الكبرى)) من الدكتور علي بن راشد الدبيان، وذلك في الطائف عام 1420هـ‍. 15 - سَمِعَ الفرائض إلى باب الحساب من الشيخ بدر الجويان، وذلك في الطائف عام 1420هـ‍. 16 - له ثلاثة بحوث مفيدة: الأول: الجنة والنار من الكتاب والسنة المطهرة، وقد طُبع ولله الحمد ثلاث طبعات: الطبعة الأولى سبعة آلاف نسخة، والطبعة الثانية عشرة آلاف نسخة، والطبعة الثالثة عشرون ألف نسخة، ولله الحمد. الثاني: غزوة فتح مكة في السنة المطهرة، وقد طبع ولله الحمد. الثالث: أبراج الزجاج في سيرة الحجاج، وقد طبع ولله الحمد.

تعليقات مفيدة على بعض كتبه

17 - وُجد له تعليقات مفيدة على بعض كتبه التي قرأها في الحلقات العلمية - رحمه الله - منها ما وُجد على كتاب منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين للعلامة السعدي رحمه الله، فقد كتب الابن عبد الرحمن - رحمه الله - على مقدمة هذا الكتاب الكلمة المفيدة الآتية: أ - فضل العلم: 1 - العلم إرث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 2 - العلم يبقى والمال يفنى. 3 - العلم لا يتعب صاحبه في الحراسة. 4 - العلم يوصل إلى أن يكون صاحبه من الشهداء على الحق. 5 - أهل العلم أحد صنفي ولاة الأمر. 6 - لم يرغِّب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يغبط أحدٌ أحداً على شيء إلا على العلم [صاحب القرآن الذي يعمل به]،وصاحب المال [الذي ينفقه في الحق]. 7 - العلم طريق إلى الجنة. 8 - من وُفِّق للعلم فقد أراد الله به خيراً. 9 - إن الله يرفع صاحب العلم بعلمه. ب - آداب طالب العلم: 1 - الإخلاص لله سبحانه. 2 - ينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه، وعن غيره. 3 - ينوي بذلك الدِّفاع عن الدين بالعلم.

جـ - عقبات في طريق العلم:

4 - العمل بالعلم. 5 - العبادة مبنية على: الإخلاص، والمتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. 6 - الدعوة إلى العلم. 7 - الصبر على التعلم. جـ - عقبات في طريق العلم: 1 - فساد النية. 2 - حب الشهرة. 3 - التفريط في حلقات العلم. 4 - التذرّع بكثرة الأشغال. 5 - التفريط في طلب العلم في الصغر. 6 - العزوف عن طلب العلم. 7 - تزكية النفس. 8 - عدم العمل بالعلم. 9 - اليأس [واحتقار الذات]. 10 - التسويف في طلب العلم (¬1). أسأل الله بوجهه الكريم أن يجعل العمل بهذه الآداب والفضائل في موازين حسنات الابن عبد الرحمن، فإنه جواد كريم. وهناك تعليقات أخرى على بعض كتبه رحمه الله تعالى. ¬

(¬1) وهذه الفضائل والآداب ملخص لما في كتاب العلم للعلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى.

وكان رحمه الله تعالى يحضر جميع دروسي التي تُلقى في جامع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في إسكان طريق الخرج، وفي جامع الفاروق المذكور آنفاً، وكانت الدروس ولله الحمد في: العقيدة، والحديث، والفقه، والتفسير، وكان يستمع لإذاعة القرآن الكريم، وخاصة قبل أن ينام، وكان من الصغر يحب الاطلاع، وزيارة المكتبات، وشراء الأشرطة والكتيبات النافعة، وقد عُيّن مؤذناً لجامع الفاروق بإسكان أفراد القوات المسلحة في 14/ 6/1421هـ‍، وقد أعطاه الله جمال الصوت وحُسنه في القراءة والأذان، فارتاح الناس له وأحبوه في الله تعالى، وقد أخبرني الثقات من جماعة الجامع أنهم كانوا يخشعون عندما يصلي بهم عبد الرحمن في الصلوات الجهرية؛ لحسن صوته، وذلك عندما أسافر؛ لأني إمام الجامع المذكور. وكان يُدرِّس القرآن الكريم للطلاب في الجامع الذي يؤذّن فيه، حيث كلفه مدير مدرسة جامع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لتحفيظ القرآن الكريم الشيخ خالد بن ضيف الله البلادي حفظه الله، فأسند إليه تدريس حلقة مستقلة [حلقة الإمام الذهبي رحمه الله]. وتلاميذه في هذه الحلقة هم: 1 - إبراهيم بن عبد الله بن حسين القحطاني. 2 - إبراهيم بن محمد بن سعيد القرني. 3 - إبراهيم بن حسن بن محمد عسيري. 4 - أحمد بن فايع بن محمد عسيري.

5 - أحمد بن محمد بن عوضة عسيري. 6 - أحمد بن محمد بن زين الدين. 7 - أحمد بن عبد الرحمن بن سالم السريحي. 8 - ثامر بن مصلح بن عطا الله العنزي. 9 - سلطان بن ناصر بن مسفر الغامدي. 10 - خالد بن علي بن مرعي القرني. 11 - سلطان بن محمد بن علي عسيري. 12 - سلمان بن عبد الله الأسمري. 13 - بدر بن سلمان الشهري. 14 - عبد الله بن علي بن عبد الله العمري. 15 - محمد بن أحمد بن محمد المجرشي. 16 - أنور بن حنتول بن يحيى سرحي. 17 - مجاهد بن صالح بن حمدان العمري. وكان الطلاب يحبونه في الله تعالى ويجلُّونه؛ لحُسن خُلُقه، وإحسانه إليهم. وقد أمَّ الناس في صلاة العشاء والتراويح في مسجد الزبير بن العوام - رضي الله عنه -، بإسكان طريق الخرج، ثلاث سنوات: 1420هـ‍، 1421هـ‍، وسبع عشرة ليلة من رمضان عام 1422هـ‍؛ حيث توفي رحمه الله بعد صلاة التراويح في هذه الليلة.

رابعا: الحكم التي كتبها رحمه الله قبل وفاته:

رابعاً: الحِكَمُ التي كتبها رحمه الله قبل وفاته: رسائل هاتفية أرسلها عبد الرحمن رحمه الله تعالى بهاتفه الجوال إلى جوال: زميله الشاب الصالح، أيمن بن عبد الله العاصمي قبل وفاته بيوم أو يومين 14 - 15 رمضان 1422هـ‍كما يقول: الأخ أيمن، وكانت وفاة عبد الرحمن وأخيه بعد صلاة العشاء والتراويح ليلة الأحد 17/ 9/1422هـ‍. الرسالة الأولى يقول فيها: ((المستأنس بالله: جنته في صدره، وبستانه في قلبه، ونزهته في رضى ربه)). الرسالة الثانية قال فيها: ((اللهمّ إنك أعطيتنا الإسلام من غير أن نسألك فلا تحرمنا الجنة ونحن نسألك)). الرسالة الثالثة: قال: ((فائدة: العزة في القناعة، والذلّ في المعصية، والهيبة في قيام الليل)) (¬1). كما سبق وأن أرسل رسالة مكتوبة بخطّ يده لأيمن العاصمي قبل وفاته بحوالي شهرين تقريباً قال: بسم الله الرحمن الرحيم، الأخ أيمن ... حفظه الله: حسبك خمسة: إذا ما مات ذو علم وتقوى ... فقد ثلمت من الإسلام ثلمة ¬

(¬1) نقلت جميع هذه الرسائل، من جوال الأخ الشاب الصالح أيمن بن عبد الله العاصمي وفقه الله.

وموت الحاكم العدل المولَّى ... بحكم الشرع منقصة ونقمة وموت العابد القوّام ليلاً ... يناجي ربه في كل ظلمة وموت فتى كثير الجود مَحْلٌ ... فإن بقاءه خصب ونعمة وموت الفارس الضرغام هدم ... فكم شهدت له بالنصر عزمة فحسبك خمسة يُبكى عليهم ... وباقي الناس تخفيف ورحمة وباقي الناس هم همج رعاع ... وفي إيجادهم لله حكمه (¬1) وقد وجد مكتوباً على الغلاف الداخلي من كتاب أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك للإمام ابن هشام رحمه الله تعالى، المقرر عليه في كلية الشريعة بخط يده رحمه الله يقول: عرفت أن الحياة رحلة وطريق ... فأحسنت اختيار الرفيق وتوليت القيادة وكان الابن عبد الرحمن يقول الشعر، وقد وجد من شعره بعض الأبيات في جوال زميله الشاب الصالح ياسر بن محمد الحقيل، أرسل إليَّ بها، وهي خمسة وأربعون بيتاً، وهذا نصّ بعضها في رسالة الأخ ياسر إليَّ، قال: بسم الله الرحمن الرحيم هذه الرسائل التي كانت بيني وبين عبد الرحمن - رحمه الله - وقد رمزت للتي كتبها عبد الرحمن بـ (ع)، والتي أرسلتها له بـ (ي). ¬

(¬1) وجدنا هذه الرسالة بخط يد الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى، وعليها توقيعه، وهي محفوظة عند الأخ أيمن العاصمي وفقه الله تعالى.

ي - ألا فَارْدُدْ سَرِيعاً دُونَ خوفٍ ... فخَيْرُ الرَّدِّ عَاجِلُهُ المُبِينا ع - أنا لا أرهب الرَّدَّ المُقَفَّى ... ولا أخشى سُبَابَ الشِّعْرِ فِينا ع - ألا فانْشُرْ سَلامي في رُبَاكُم ... وعَطِّر صحْبَنَا بالياسَمِينا ي - قد انتشَرَ السَّلامُ كَخَيْرِ غَيثٍ ... وعَمَّ العِطْرُ أرْجَاءَ المدينه ع - رأيتُ الوُدَّ يَتْبَعهُ انقِطَاعٌ ... وخَيْرُ الوُدِّ ما يُفشِي السَّكينه ي - ألا فاعمَلْ حِسَاناً ما استطعتَ ... فَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ سَكَنَ المدينه ي - رسولُ الله يُرفلُ في رُبَاهَا ... ومَسْجِدُهُ نَحِنُّ له حَنِينَا ع - ولا تَنْسَ بِمَكَّةَ خَيْرَ بَيْتٍ ... يطُوفُ به صِحَابٌ تابعونا ي - ولا تنسَ بنجدٍ خيرَ قومٍ ... همُ للدِّينِ خيرُ الخَادِمِينا ع - تَمَنَّ الخيرَ تكسَبْ مُجْتَناهُ ... ولوْ طَالَتْ عواقِبُهُ سِنينا ع - رأيتُ العِلْمَ لا يأتي رِجالاً ... همُ في الصُّبْحِ شرُّ النَّائمينا (¬1) ي -ألا فَاغْضُضْ بِطَرْفِكَ عَنْ مَرِيضٍ ... بكُلِّ الَّليلِ إكثارُ الأنِينَا قال الأخ ياسر: من آخر الرسائل التي أرسلها إليَّ عبد الرحمن كانت تهنئة بشهر رمضان وهي (بنسيم الرحمة، وعبير التوبة، ورجاء المغفرة، وبعد الزحمة أقول كل عام وأنت بخير) وكانت بتاريخ يوم الجمعة 1/ 9/1422هـ‍الموافق 16/ 11/2001م. ¬

(¬1) قال الأخ ياسر أرسلها إلي عبد الرحمن رحمه الله عندما كنت غائباً يوماً عن الدراسة في الجامعة بسبب المرض.

كتبه ياسر بن محمد الحقيل بتاريخ 25/ 1/1423هـ‍ زميل عبد الرحمن رحمه الله في ثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم، ثم في كلية الشريعة، والمدرس في مدرسة تحفيظ القرآن الكريم في جامع القدس بحي القدس بالرياض.

خامسا: أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:

خامساً: أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر: * وكان رحمه الله تعالى: يأمر أهل بيتنا بالمعروف وينهاهم عن المنكر إذا رأى شيئاً، وأخبرني بعض الأهل بعد موت عبد الرحمن رحمه الله أنه كان إذا لاحظ عليهم شيئاً أخذهم على انفراد، ونصحهم سراً. * وأخبرتني والدته جبر الله قلبها وربط عليه؛ {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1) أن عبد الرحمن رحمه الله رأى بعض أهل البيت أخطأ فشرب بشماله، فقال: ((هذا لا يجوز، ألا تحبون الجنة، وتخافون من النار؟))، وقد أثر ذلك في نفوسهم بعد موته رحمه الله تعالى. * كما أخبرني الأخ زمراوي محمد خيري السوداني، وفقه الله، أنه كان سائراً مع الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى، فرأى الابن عبد الرحمن رجلاً يقرأ مجلة فيها صور غير مناسبة، فنصحه وقال له: ((ما وجدت شيئاً تقرأه غير هذا؟)). * وأخبرني الشاب سعيد بن أحمد بن سعيد الشهري قال: الله يرحم عبد الرحمن قد نصحني أن أحفظ القرآن عندما سألته عن تفسير آية قبل ثلاث سنوات، فأخبرني بتفسيرها، ثم قال: ((احفظ القرآن)). * وأخبرني زائد بن سعد الدوسري (¬2) بقوله: كنت مارّاً بسيارتي، فمررت بعبد الرحمن رحمه الله وهو أمام باب بيته، يريد أن يذهب إلى ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 10. (¬2) وقد توفي زائد رحمه الله في حادث مروري في أول شهر رجب عام 1423هـ‍.

الصلاة، فسلّمت عليه، وكنت أستمع إلى شريط أغنية في سيارتي، فرد عليَّ السلام ونصحني بقوله: ((الغناء حرام لا يجوز سماعه وأنت في شهر عظيم)). قال الأخ زائد: وكان ذلك في رمضان قبل وفاة عبد الرحمن - رحمه الله - بيومين، وقد تركت الغناء بسبب نصيحة عبد الرحمن، وإذا ملتُ إلى الغناء أخذت شريط أمراض القلوب واستمعت إليه. * كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله - قد رأى رجلاً من المصلين ضرب ولده على وجهه، وكان رجلاً صالحاً، فقال له الابن عبد الرحمن: لا يجوز الضرب على الوجه، فما كان من هذا الرجل إلا أن قال لعبد الرحمن: جزاك الله خيراً، وقبَّل رأس عبد الرحمن، وكنت حاضراً شاهداً. * كان بعض المشايخ يشرح حديث التشهد، فقال الشيخ: ((والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين))، فردّ عليه الابن عبد الرحمن فقال: ((السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)) ليس فيها واو، فقبَّل هذا الشيخ يد الابن عبد الرحمن ودعا له، ولم يخطئ الشيخ مرة أخرى في إضافة الواو. * كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله - يدرِّس في الجامع في تحفيظ القرآن، فرأى كثيراً من طلاب التحفيظ يسبلون الثياب، فأفزعه ذلك، وطلب من مدير المدرسة الشيخ خالد البلادي - حفظه الله - أن ينصح الطلاب عن طريق المكبرات في الجامع، ويحذّرهم من الإسبال، وخاصة لأنهم يتعلمون القرآن الكريم، فأخذ الشيخ خالد المكبّر وحذّرهم من الإسبال، أخبرني بذلك الشيخ خالد البلادي، والأخ هانئ بن نايف الربيعي.

* أخبرني الأخ عبد الله بن علي بن عبد الله القرني أنه طلب من الابن عبد الرحمن رحمه الله أن يكتب له موعظة قصيرة يعظ فيها زملاء الأخ عبد الله غير المستقيمين في الثانوية وفي غيرها، قال الأخ عبد الله: ((فوافق عبد الرحمن رحمه الله إلا أنه كان مشغولاً، ثم ذكَّرته مرات))، فقال عبد الرحمن رحمه الله: ((سأكتبها إن شاء الله، ولكن لا أستطيع أن أطبعها على جهاز الكمبيوتر لأني مشغول، ولكني سأعطيها عبد الرحيم يطبعها لك)). قال الأخ عبد الله: ((فكتبها عبد الرحمن رحمه الله بخطّ يده ثم سلَّمها لشقيقه عبد الرحيم رحمه الله، فطبعها عبد الرحيم رحمه الله على الكمبيوتر ثم سلّمها لي، وهذا نصّها: ((بسم الله الرحمن الرحيم ** أخي الحبيب، حاول أن تجيب على هذه الأسئلة بكل صراحة؟ س/ كم مضى من عمرك؟ وهل الباقي من عمرك أكثر أم أقل؟ وحاول أن تحسب عمرك بالساعات والدقائق حسب المعادلة الآتية: العمر بالسنوات ×360= (العمر بالأيام) × 24 = (العمر بالساعات). س/ ماذا فعلت في هذه الساعات الماضية من عمرك؟ وهل أنت مستعد للقاء الله بهذه الأعمال؟؟)).

سادسا: أخلاقه العظيمة رحمه الله تعالى:

سادساً: أخلاقه العظيمة رحمه الله تعالى: * كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله - لا يقهقه إذا ضحك، وإنما يبتسم ابتساماً بدون قهقهة مدة حياته - رحمه الله -. * كان رحمه الله بارّاً بوالديه لا يعصي لهما أمراً، وكان يخفض جناحه لأمه كثيراً، ويكرمها أكرمه الله بالفردوس الأعلى من الجنة في أعلى منازل الشهداء، وكان إذا نادته أمه أو ناداه أبوه أجاب بقوله: ((لبيك))، وإذا ذهب إلى المدرسة أو الكلية طلب من أمه الدعاء، فإذا دعت له قال أحياناً: هل هذا الدعاء من قلبك؟ ثم يُقبّل رأسها أحياناً إذا ذهب، وإذا رجع من الدراسة، وإذا كنت في مكتبتي الخاصة دخل عليّ وسلّم ثم مدّ يده للمصافحة، وربما قبل رأسي أحياناً. * كان الابن عبد الرحمن سليم الصدر، فلا يحمل الحسد، ولا البغضاء لأحد من الناس، ومن أبرز الأمثلة على ذلك أنه كان يرسل لزميله في الصف الثالث الثانوي محمد حسان بشور بعض الفوائد، ويرسل له محمد عن طريق الناسوخ بعض الفوائد كذلك، ومحمد حسان هذا هو الذي ينافسه على الترتيب الأول في الصف الثالث ثانوي، فشكرتهما على ذلك الخلق الكريم. * كان رحمه الله يبغض الغيبة، ولا ينقل النميمة، وقد قال في مقابلة أجرتها معه ثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم حينما وُجِّه له أسئلة منها: ((كلمة عتاب توجهها لصديق؟))، فقال: ((أولئك

الأصدقاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم، أنصحهم أن يبتعدوا عن ذلك)). * وكان رحمه الله يهتمّ بأمور المسلمين ويرحمهم، وكان يؤلمه ما يحصل للإخوة في فلسطين، والشيشان، وغيرهما من بلدان المسلمين، وقد كان يستمع الأخبار في المذياع من إذاعة القرآن الكريم، وقد قال في المقابلة التي أجرتها معه ثانوية أبي عمرو لتحفيظ القرآن الكريم حينما وُجِّه له أسئلة منها: ((موقف معبِّر أثَّر في حياتك؟))، فقال: ((الحملة الروسية اللعينة على جمهورية الشيشان!)). * كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله تعالى - في المجالس الخاصة والعامّة التي يحضرها لا يتكلّم إلا بخير أو يصمت، ولا يثرثر، بل يلزم السكوت، وإذا أعجبه شيء تبسَّم، وإذا سُئل عن شيء أجاب بهدوءٍ وأدب. * كان إذا سار في طريقه إلى المسجد لا ينظر يمنة ولا يسرة، فلا ينظر في المارِّين ولا في السيارات العابرة، وإنما كان ينظر أمامهُ، ويمضي في سيره، وقد أخبرني الشيخ سالم بن عامر الشهري مؤذِّن مسجد عمر بن عبد العزيز بإسكان أفراد القوات المسلحة، أنه كان يمرُّ على سيارته في الطريق العام، ويرى عبد الرحمن - رحمه الله - يسير إلى الجامع فيحبّ أن يسلّم على عبد الرحمن - رحمه الله - مع الإشارة باليد، ولكن يقول: إن عبد الرحمن - رحمه الله - سائر في طريقه لا ينظر يمنةً ولا يسرةً، لا إلى سيارات ولا إلى غيرها، وهكذا أخبرني الشيخ سالم بن علي الخشرمي

الشهري إمام مسجد خالد بن الوليد بإسكان أفراد القوات المسلحة، يقول: ((إذا مررت مع الشارع العام على سيارتي ورأيت عبد الرحمن في طريقه إلى الجامع، فأريد السلام عليه مع الإشارة؛ لأنه لا يسمعني، ولكنه لا ينظر إليّ، ولا إلى أحد من المارّين، وإنما يمشي وينظر أمامه!)). * وكذلك إذا كان داخل المسجد لا ينظر يمنة ولا يسرة، ولا يكثر الالتفات، بل يؤذن، ثم يصلي تحية المسجد، ثم يقرأ القرآن يراجعه. * كان عبد الرحمن - رحمه الله - يصلي الرواتب كاملة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، ويصلي أربعاً قبل العصر نافلة، ويصلي ركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وكان يحافظ على صلاة الوتر، وركعتين قبل الفجر، وكنت أشاهده يخشع في صلاته ولله الحمد، وقد أخبرني الشيخ حسن بن شريف المشيخي أنه شاهد عبد الرحمن - رحمه الله - يبكي في دعاء القنوت في رمضان خلف الشيخ خلوفة بن محمد الشهري القاضي بمحكمة الطائف الآن، وقد كان الشيخ خلوفة يُؤذِّن في جامع الفاروق، ويُصلِّي بالناس التراويح في غيابي، وكان عُمْرُ عبد الرحمن اثني عشر عاماً آنذاك تقريباً، فقد كان صغير السن، ومع ذلك يحصل له هذا الخشوع رحمه الله تعالى. * وكان رحمه الله يصوم مع رمضان ستّاً من شوال، ويصوم يوم عاشوراء مع يوم قبله ويوم بعده أو يصوم يوماً قبله، ويصوم تسعة أيام من العشر الأول من ذي الحجة.

* كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله - يراجع القرآن كثيراً ولله الحمد، وقد أخبرني أنه يراجع كل يوم جزأين بين الأذان والإقامة للصلوات الخمس؛ لأنه كان يُؤذِّن في جامع الفاروق كما تقدم، أما قبل ذلك فكان يراجع على المدرسين تسميعاً، ويُسمِّع القرآن كاملاً في إجازة الصيف مرات عديدة، وشارك في مسابقات كثيرة، وفاز فيها، جعل الله ذلك كله في موازين حسناته. * كان - رحمه الله - يحافظ على أذكار الصباح بعد صلاة الفجر، وأذكار المساء بعد صلاة المغرب، وخاصة: سيد الاستغفار، وآية الكرسي، والمعوذات الثلاث، ثلاث مرات، و ((بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)) ثلاث مرات، وغير ذلك، كما يحافظ على أذكار أدبار الصلوات ولله الحمد والمنّة. * كان رحمه الله يحب الاطلاع والقراءة والاستماع لسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد اشترى قصص الأنبياء من القرآن الكريم للشيخ حسن أيوب، وهو لا يزال في الصف السادس ابتدائي، وعمره تقريباً اثنا عشر عاماً، وقد كرّر استماع هذه الأشرطة أكثر من مرة، وكانت تشتمل على قصة عشرين نبيّاً في عشرين شريطاً، وقد طلب مني أن اشتري له كتاب الشجرة النبوية في سيرة خير البرية - صلى الله عليه وسلم -، لابن عبد الهادي المقدسي (ابن المبرّد)، 840 - 909هـ‍، فلم يدخل هذا الكتاب مكتبتي لولا الله ثم الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى، وقد اشترى قبل موته بشهر أو شهرين كتاب: استجلاب ارتقاء الغرف بحبِّ

أقرباء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذوي الشرف، للحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي [831 - 902هـ‍] بتحقيق ودراسة خالد بن أحمد الصمِّي بابطين. * وقد أخبرني الأخ هانئ بن نايف الربيعي أنه استمع لعبد الرحمن رحمه الله وهو يشرح لطلاب حلقته التي يُدرِّسُ فيها القرآن الكريم سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسلوب جميل مفيد. * كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله - يتضرع إلى الله ويدعوه، ومن ذلك أني كنت أشاهده يدعو بين الأذان والإقامة أحياناً بعد أن يصلي السنة الراتبة ويرفع كفيه، وكان في كل ليلة من العشر الأواخر من رمضان من كل سنة، قبل الفجر بساعة أو ساعتين، يأخذ كتاب الدعاء من الكتاب والسنة ويرفع كفيه ويستقبل القبلة، ويدعو حتى ينهي هذا الكتاب من أوله إلى آخره، وقد أخبرني الابن عبد العزيز أن عبد الرحمن دعا بكل ما في هذا الكتاب مرتين يوم عرفة حينما حج - رحمه الله - سنة 1420هـ‍، وقد كان مرافقاً لي مع التوعية الإسلامية في الحج في ذلك العام المذكور، وكان قد تولَّى الأذان في مركز التوعية الإسلامية رقم 7 يوم التروية وأيام التشريق، وطلب مني ألا نتعجل بالسفر إلى الرياض، فتأخرنا إلى اليوم الرابع عشر، لرغبته - رحمه الله - وأخيه عبد العزيز. * كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله - كريماً في غير إسراف ولا مخيلة، يظهر ذلك في إكرامه لإخوته، وأمه، وكذلك لزملائه، وقد كان بعض الأهل يقول له في ذلك، ويأمره بالاقتصاد، فكان يردُّ عليهم بقوله:

((الدنيا فانية)). * كان يساعدني رحمه الله، ومن ذلك أنه في صغره وهو يدرس في الصف الثالث المتوسط، وعمره خمسة عشر عاماً، ساعدني في كتابة كثير من مراجع رسالة الدكتوراه، وكان ذلك بالتعاون أيضاً مع الابن عبد العزيز، وذلك عام 1418هـ‍. * كان الابن عبد الرحمن - رحمه الله - فصيح اللسان، قد أعطاه الله - عز وجل - الفصاحة في الكلام والقراءة، حتى إن من سمعه يقرأ يعجب من فصاحته وسليقته العربية، وقد كان يُحضر لي أي حديث أطلب إحضاره من فهارس كتب السنة؛ لذكائه وفطنته - رحمه الله تعالى - وقد كان من أسباب ذلك - بعد توفيق الله تعالى - عنايته باللغة العربية التي يدرسها في المدرسة، ومن أمثلة ذلك أنه عندما حصل على شهادة الصف السادس الابتدائي احتفظ بقواعد اللغة العربية للصف الرابع، والخامس، والسادس، وجعلها في رفٍّ من أرفف مكتبتي الخاصة، فسألته عن ذلك؟ فأجاب: لكي أراجعها، ثم راجعها وأبقاها في موضعها رحمه الله تعالى. * وقد أجرت معه مدرسة ثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم مقابلة عام 1421هـ‍تقريباً هذا نصها: الاسم؟ عبد الرحمن بن سعيد بن علي القحطاني. الصف الدراسي: ثانوي ثانوي / أ.

جدولك اليومي؟ - الاستيقاظ لصلاة الفجر، ومن ثم أرجع للبيت، وأرتّب أمور المدرسة. - الذهاب للمدرسة. - الرجوع للمنزل، وتناول الغداء، ثم النوم قليلاً. - صلاة العصر، ثم مراجعة ما تيسّر من القرآن. - بعد المراجعة قراءة بعض الكتب. - صلاة المغرب، ثم المذاكرة، وحل الواجبات إن وجدت. - صلاة العِشاء، ثم العَشاء وسماع بعض البرامج [مثل برنامج نور على الدرب، والأخبار من إذاعة القرآن الكريم، واستماع قراءة القرآن من الإذاعة، وبعض الخطب]. موقف معبِّر أثَّر في حياتك؟: الحملة الروسية اللعينة على جمهورية الشيشان. رأيك في النشاط غير المنهجي؟: ممتاز بدرجة أولى، ولابد منه والاهتمام به مثل الاهتمام بالحصص الدراسية [يعني رحمه الله العناية بالقراءة في الكتب، والرسائل النافعة غير المواد الدراسية]. كلمة شكر تهديها لعزيز؟: أشكر وزارة المعارف؛ لما يبذلونه من جهد ومن ذلك تطوير الكتب الدراسية، حتى إن شكل الكتاب وتنسيقه وطباعته تفتح نفس الطالب للمذاكرة.

كلمة عتاب توجهها لصديق؟: ((أولئك الأصدقاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم، أنصحهم بأن يبتعدوا عن ذلك)). * لا أعرف أحداً من عباد الله المؤمنين عرف عبد الرحمن إلا أحبَّه في الله تعالى، وقد تأثّر جميع السكان الذين سمعوا أذانه في صلاة الجمعة والصلوات الأخرى وقراءته؛ حتى بعض العمال انصرفت نفسه عن الطعام أياماً لفراق عبد الرحمن وأذانه، وقراءته، وكان هؤلاء السكان يقول لي بعضهم: يا شيخ سعيد لا تظن أنك فقدت عبد الرحمن وحدك؟ بل كلنا فقدناه! كان ذكيّاً، ومن ذلك معرفته بمواقع الكتب في مكتبتي الخاصة، حيث لم تكن مرتبة، فإذا فقدت كتاباً ناديت عبد الرحمن، وطلبت إحضاره، فيبحث عنه فوراً ويخرجه جزاه الله عني خيراً وأسكنه الفردوس الأعلى في أعلى منازل الشهداء، ومن الأمثلة على ذكائه - رحمه الله - أنه عندما وُلد شقيقه عبد الرحيم - رحمه الله - قال عبد الرحمن - وعمره آنذاك ست سنوات - قال: {بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم} ثم سكت وفكَّر، ثم قال: {الرَّحْمنِ} أنا عبد الرحمن، و {الرَّحِيمِ} هذا سمُّوه عبد الرحيم، فسميته عبد الرحيم لهذا السبب. ومما يدل على ذكائه - رحمه الله - أنه كان في صغره قبل أن يحفظ القرآن بعد أن سجّل في السنة الأولى ابتدائي يعدّ سور القرآن عدّاً وسرداً، فيقول: سورة الفاتحة، البقرة، آل عمران، النساء، المائدة .... إلى

أن يصل سورة الناس، فيعدّ مائة وأربع عشرة سورة بدون توقف! * وكان يحب أن تكون كتبه منفردة عن مكتبتي، فاختار لها مكاناً صغيراً في زاوية مكتبتي، وكان يجمع كتبه فيها. وكان قبل موته - رحمه الله - إذا رأى كتاباً جديداً ألفته ثم نشر قال: ((هذا ولد جديد)). * كان يستيقظ وقت الاختبارات في ثالث ثانوي وفي السنة الأولى في كلية الشريعة قبل الفجر بساعتين أو ساعة، ثم يتوضأ ويذهب إلى الجامع ويصلي ما تيسَّر، ثم يذاكر ويراجع، فإذا نادى بالأذان صلى ركعتي الفجر، ثم يقرأ القرآن. * وُجد عنده أشرطة محاضرات علمية في سيارته أثناء الحادث وفي أمتعته، وكان عددها مائة شريط، وكلها نافعة جداً، ووجد مجموعة من المصاحف المسجل عليها القرآن كاملاً لعدة قرّاء، كما وجد في سيارته أثناء الحادث شريط قرع أبواب السماء للشيخ بدر بن نادر المشاري، ونشرة عن التوبة قبل الممات، ونشرات مفيدة أخرى رحمه الله تعالى، وجعل هذا الحادث شهادة له ولشقيقه عبد الرحيم ينالان بها أعلى منازل الشهداء. كما أسأل الله تعالى أن يجزي كل من علَّمه خيراً، وأن يجمعنا وإياه وإياهم وشقيقه عبد الرحيم في الفردوس الأعلى في أعلى منازل الشهداء مع الأنبياء والصديقين والشهداء.

سابعا: وفاته مع شقيقه وسيرة عبد الرحيم رحمهما الله

سابعاً: وفاته مع شقيقه وسيرة عبد الرحيم رحمهما الله: توفي رحمه الله تعالى عن عمر يبلغ 18 ثماني عشرة سنة وتسعة أشهر، بعد إمامته للناس، في صلاة العشاء والتراويح، في مسجد الزبير بن العوام - رضي الله عنه -، بإسكان طريق الخرج ليلة الأحد السابع عشر من رمضان عام 1422هـ‍، مرّ على حيِّ العزيزية لقضاء بعض الأغراض، ثم رجع؛ لِيُدْرِكَ حلقته التي يُدَرِّسُ فيها القرآن الكريم للطلاب في مسجده الذي يؤذّن فيه [جامع الفاروق بإسكان أفراد القوات المسلحة بطريق الخرج]، وفي طريقه إلى طلابه الذين يعلّمهم القرآن قدَّر الله الرحيم، الحكيم، العليم، أن يحصل له حادث مروري، وكان بصحبته شقيقه عبد الرحيم الذي وُلد في اليوم السادس عشر من ربيع الأول عام 1410هـ‍، وكان قد صلَّى خلف شقيقه عبد الرحمن صلاة العشاء والتراويح في الليلة نفسها، وكان عبد الرحيم رحمه الله، قد نشأ على ما نشأ عليه أخوه عبد الرحمن - رحمه الله - من التوحيد، وطاعة الله ورسوله، والتأدّب بآداب الإسلام، ولله الحمد والمنّة، وقد درس الابن عبد الرحيم - رحمه الله - في السنة التمهيدية عام 1415هـ‍، وعمره خمس سنوات، ودخل حلقات تحفيظ القرآن الكريم في جامع أفراد القوات المسلحة، ثم دخل في المدرسة الابتدائية [مدرسة الإمام حمزة لتحفيظ القرآن الكريم] في حي الغبيراء بمدينة الرياض في بداية العام الدراسي 1416هـ‍، وتخرّج منها عام 1422هـ‍، وكان يدرس في الفترة الصباحية في المدرسة، وفي الفترة

المسائية بعد العصر في حلقات تحفيظ القرآن الكريم في جامع الفاروق المذكور، على الشيخ: حافظ قاري غلام محمد بن فيض الله - جزاه الله خيراً -. ثم دخل المتوسطة الثانية لتحفيظ القرآن الكريم بمدينة الرياض، وذلك في 13 من جمادى الثاني عام 1422هـ‍، فدرس بها بقية جمادى، ورجب، وشعبان، وستة عشر يوماً من رمضان رحمه الله رحمة واسعة. وكان الابن عبد الرحيم رحمه الله يحفظ من القرآن سبعة عشر جزءاً: من سورة الرعد إلى سورة الناس، ولله الحمد والمنة، وقد راجع هذه الأجزاء مرات كثيرة جداً على شيخه المذكور، وعلى الشيخ زمراوي محمد خيري، والشيخ سخاوة حسين، والشيخ مأمون الرشيد - جزاهم الله خيراً -. وكان الابن عبد الرحيم رحمه الله يحب أن يرافقني، وقد كان يحضر معي الدروس عند سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - ليلة الإثنين وفجر الخميس وليلة الجمعة في الجامع الكبير من كل أسبوع، وذلك في آخر حياة شيخنا - رحمه الله - عام 1418، 1419هـ‍. وكان الابن عبد الرحيم - رحمه الله - يحضر دروسي في جامع الفاروق حتى توفي رحمه الله. وكان الابن عبد الرحيم رحمه الله طائعاً لوالديه، ويرحم أمه كثيراً، ويُحسن إليها، أحسن الله إليه وأنزله الفردوس الأعلى في أعلى منازل الشهداء، وقد أخبرتني والدته - ربط الله على قلبها؛ {لِتَكُونَ مِنَ

الْمُؤْمِنِينَ} (¬1): أن عبد الرحيم إذا رجع إليها من المدرسة يعطيها أحياناً بعض الحلوى هديةً لها؛ لحبه لها جمعه الله وإيَّاها وشقيقه وإيَّايَ ووالدينا وجميع المؤمنين الصادقين المخلصين في الفردوس الأعلى في أعلى منازل الشهداء مع النبيين والصديقين والشهداء. وكان الابن عبد الرحيم كريماً يكرم أمه، وإخوانه، وأخواته من المال الذي أعطيه من أجل الانتفاع به أثناء المدرسة، وأخبرني الشيخ زمراوي محمد خيري أن عبد الرحيم كان يكرمهم بعد انتهاء الدراسة في التحفيظ ببعض العصيرات، ووصفه بالكرم فقال: ((كان عبد الرحيم كريماً رحمه الله)). وكان الابن عبد الرحيم لا يقهقه؛ بل كان يبتسم في وجه كل من قابله، وقد أخبرني بعض الأساتذة في مدرسة الإمام حمزة لتحفيظ القرآن الكريم أن عبد الرحيم وأخاه عبد السلام يبتسمان كثيراً، وقال: قد سمَّيناهما: ((المبتسمان))!. وكان الابن عبد الرحيم قد أخذ زاوية صغيرة من مكتبتي الخاصة، وكلما ألّفت كتاباً أخذ نسخة وجعلها في هذه الزاوية، ومات - رحمه الله - ومؤلفاتي في مكتبته الصغيرة التي تتكون من رفٍّ واحد؛ لحبه للاطلاع على كتبي خاصة، غفر الله له، وجمعنا وإياه في الفردوس الأعلى في أعلى منازل الشهداء مع النبيين والصديقين والشهداء. ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 10.

وكان الابن عبد الرحيم يصوم رمضان منذ السنة السادسة من عمره، ويتبعه ستّاً من شوال، ويصوم يوم عاشوراء ويوماً قبله وربما صام يوماً قبله ويوماً بعده، وكان يصوم مع شقيقه عبد الرحمن - رحمه الله - تسعة أيام من عشر ذي الحجة، وكان يحافظ على السنن الرواتب وصلاة الوتر. وكان الابن عبد الرحيم - رحمه الله - في العشر الأواخر من رمضان من كل عام يأخذ كتاب الدعاء من الكتاب والسنة قبل الفجر بساعة أو ساعتين من كل ليلة، ويستقبل القبلة، ويرفع كفيه، ويدعو حتى ينهي الكتاب من أوله إلى آخره، رحمه الله تعالى. وأخبرني الشيخ حافظ قاري غلام محمد فيض الله الذي كان يُحفِّظ الابن عبد الرحيم القرآن الكريم، وكان مع ذلك يذهب بالابن على سيارته إلى المدرسة أيضاً، قال: كنت واقفاً عند الإشارة المرورية يوماً وعبد الرحيم - رحمه الله - معي في السيارة، فرأى رجلاً يشرب الدخان ففتح عبد الرحيم - رحمه الله - زجاج السيارة وقال: ((الدخان حرام)) أي ينصح شارب الدخان. وأخبرني الأخ أيمن بن عبد الله العاصمي أنه كان يوم جمعةٍ في الجامع، وعبد الرحيم رحمه الله بجانبه، وكل منهما يقرأ سورة الكهف، وبعد أن أنهيا سورة الكهف تكلّم الأخ أيمن مع الابن عبد الرحيم، قال أيمن: فقال عبد الرحيم رحمه الله: ((لم يبق من خروج الخطيب إلا خمس دقائق، دعنا نستغلّها في التسبيح حتى يخرج علينا الخطيب))، قال الأخ

أيمن: ((فسبح عبد الرحيم، وسبّحت حتى خرج الخطيب)). وأخبرتني والدة عبد الرحيم - رحمه الله - وجمع بينها وبينه في الفردوس الأعلى في أعلى منازل الشهداء، فقالت: إن عبد الرحيم يوم الخميس الموافق ثلاثة عشر من رمضان قبل أن يُتوفَّى بثلاثة أيام آلمته أسنانه، فلم يستطع أن ينام، فجاءت إليه والدته بحبوب مهدئة للآلام وماءٍ، فطلبت منه أن يفطر؛ لأنها تعتقد أنه غير مُكلَّفٍ؛ حيث يبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة ونصفاً فقط؛ ولرحمتها له؛ لأنه لم ينم من الألم الشديد في ضرسه، ولكنه امتنع ولم يفطر، فقال له شقيقه عبد الرحمن - رحمه الله -: لا تفطر يا عبد الرحيم، فقال عبد الرحيم - رحمه الله -: ((تُعلِّمني؟)) أي أنا لا أفطر. وقد سَمِعَ مني الابن عبد الرحيم رحمه الله ثلاثة الأصول للإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، وحفظ أهم ما فيها، وسمع الدروس المهمة لعامة الأمة مرتين وحفظ أهم ما فيها؛ لكنه لم يكمل المرة الثانية؛ لموته رحمه الله. وكنت إذا سألته عن شروط لا إله إلا الله أجاب بالأبيات التي نظمها الشيخ حافظ الحكمي - رحمه الله - فإذا قلت: يا عبد الرحيم كم شروط لا إله إلا الله وما عددها؟ فيقول رحمه الله: ثمانية: العلم، واليقين، والقبول ... والانقياد فادرِ ما أقول والصدق، والإخلاص، والمحبة ... وفقك الله لِمَا أحبه

ثم يقول: والكفر بما يُعْبَد من دون الله. وقد أخبرني الابن عبد الله، وعبد السلام، وعبد الرزاق أن الابن عبد الرحيم - رحمه الله - كان يردّد هذه الأبيات قبل موته فيقول: إنما الدنيا فناء ... ليس للدنيا ثبوت إنما الدنيا كبحرٍ ... يحتوي سمكاً وحوت ولقد يكفيك منها ... أيها الطالب قوت فاغتنم وقتك فيها ... قبل ما فيها يموت إنما الدنيا كبيت ... نسجته العنكبوت رحمه الله ورفع منزلته وجمعنا وإياه وشقيقه في الفردوس الأعلى في أعلى منازل الشهداء؛ فإن هذا الاجتماع الذي لا فراق بعده. ولم يكن للابن عبد الرحيم رحمه الله ما لشقيقه عبد الرحمن من المواقف والمناقب؛ لأن الابن عبد الرحيم صغير السن، فقد كان عمره اثنتي عشرة سنة وستة أشهر تماماً بلا زيادة ولا نقص، بينما عمر عبد الرحمن رحمه الله ثمانية عشر عاماً وتسعة أشهر وتسعة عشر يوماً بلا زيادة ولا نقص. وكان عبد الرحيم رحمه الله يَدْرُسُ في التحفيظ في نفس الجامع الذي يُدَرِّسُ فيه شقيقه، ولكنه عند مُدَرِّسٍ آخر، وقد توفي عبد الرحمن وعبد الرحيم في ساعة الحادث المذكور، وهما في طريقهما إلى حلقات

القرآن الكريم: الابن عبد الرحمن؛ ليعلّم في حلقة الإمام الذهبي، وعبد الرحيم يتعلّم في حلقة الإمام ابن ماجه، رحمهما الله. وقد صلَّى عليهما جمع كبير من الناس بعد صلاة الظهر يوم الأحد السابع عشر من رمضان سنة 1422هـ‍، في جامع الراجحي بالربوة بمدينة الرياض، وكان دفنهما بمقبرة النسيم، رحمهما الله تعالى. أسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، الرؤوف، الرحيم، الكريم، المنّان، أن يُدخلهما الفردوس، ويجعل هذا الحادث شهادة لهما، وأن يبلّغهما أعلى منازل الشهداء؛ فإنه - سبحانه وتعالى - على كل شيء قدير، وهو ذو الجود والإحسان، والفضل والامتنان، لا يُسأل عما يفعل تبارك وتعالى. كما أسأله بوجهه الكريم أن يجمع بينهما وبين والديهما في ذاك المكان العظيم؛ فإن هذا هو الاجتماع الذي فراق بعده. والحمد لله على كل حال، وعلى قدره وقضائه، واختياره، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر في يوم الخميس الموافق 26/ 10/1422هـ‍

ثامنا: ما قاله عنه: العلماء، ومعلموه، وزملاؤه:

ثامناً: ما قاله عنه: العلماء، ومعلموه، وزملاؤه: أ - ما قاله العلماء، وطلاب العلم وبعض الأساتذة: 1 - (1) الحمد لله على قدره وقضائه واختياره لعبده بقلم الشيخ العلامة: عبد الله بن صالح القصير. بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. أما بعد: فقد عرفت الأخ في الله عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني - رحمه الله تعالى - من خلال حضوره لدروسي، وقراءته عليَّ في كتاب التوحيد، في دورة الدروس العلمية المقامة في مسجد جامع خادم الحرمين الشريفين في منطقة الباحة عام 1420هـ‍، وقد ظهر لي من الأخ عبد الرحمن رحمه الله تعالى: 1 - الحرص على طلب العلم الشرعي. 2 - التحلي بأخلاق طالب العلم. 3 - ينطبق عليه وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد الأصناف السبعة الذين يظلم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وشاب نشأ في عبادة الله)) (¬1). أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحداً. والحمد لله على قدره وقضائه واختياره لعبده، وأسأل الله تعالى أن ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 1423، ومسلم، برقم 1031.

يتغمده برحمته، وأن يجعله ذخراً لوالديه، وأن يعوضهما خيراً، والحمد لله أولاً وآخراً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. وكتبه الفقير إلى عفو ربه القدير عبد الله بن صالح القصير

2 - (2) علو الهمة وصدق العزيمة

2 - (2) علوُّ الهمةِ وصِدقُ العزيمةِ بقلم الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز بن إبراهيم الخضير الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فإن على كل مسلم أن يعلم - في ضوء الوحي - الغاية التي يريد بلوغها في هذه الحياة، وأن يسلك السبيل الموصلة إليها، ويأخذ بالأسباب المعينة على ذلك. ومن المعلوم أن الحكمة العظمى من خلق الثقلين هي عبادة الله - عز وجل - وحده على بصيرة، ولا سبيل إلى هذا إلا بالعلم النافع، فإنه الهدى الذي أرسل الله به نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم -: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (¬1)، فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، وإدراك هذا يقتضي أن يعتني كل لبيب بتزكية نفسه تَزْكِيةً فِعْليَّة بتلقِّي العلم الموروث عن نبينا عليه الصلاة والسلام، والعمل بمقتضى هذا العلم، وأن يبادر ذلك في سن الشباب حيث تكون قدرته على الأمرين أقوى؛ ولأن الاشتغال بهما في هذا السن من أعظم أسباب الاستقامة والتثبيت، وأهم طرق الوقاية من الطيش والمزالق، وإن المسلم ليغتبط حين يرى عدداً من شباب المسلمين سلَّمهم الله من الوقوع فيما وقع فيه لداتهم، واشتغل به أترابهم من توافه الأمور، وأضاعوا فيه أفضل مراحل الأعمار، ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية 33.

فانصرفت تلك الثُّلة الموفقة إلى الاشتغال بالمعالي، والاجتهاد في تحصيل المكرمات مستعينة بالله تعالى، وناظرة إلى ما يؤول إليه هذا من حسن النتائج، ومحمود العواقب، غير ملتفتة إلى ما تدعو إليه النفس الأمّارة بالسوء، الحرُون عن الخير البطيئة عن فعله، وما تميل إليه من إيثار الراحة والركون إلى الدعة، واستثقال الجد والمثابرة، واستطالة طريق المجد المؤثَّل، ولا عابئة بما يعين النفس الضعيفة على صاحبها من الالتفات إلى اشتغال الناس بالمحقرات، وموافقة مشتهيات النفوس، ولا مكترثة بتخذيل المثبّطين، وثني المخذّلين، بل يحملها توفيق الله وعونه، ثم علوّ الهمة وصدق العزيمة على بذل الأوقات، واستسهال الصعاب، من أجل ما يرضاه الله ويحبه من الاشتغال بالعلم النافع والعمل الصالح، فهمّة هذه الثُّلة عمارة الوقت بمحبوبات الله - عز وجل - المتنوعة، مراعية في ذلك ترتيبها وفقاً لما جاء في الشرع من البداءة بالأهم قبل المهم، وتقديم الواجبات على المستحبات والمندوبات، والله المسؤول أن يأخذ بأيدي هذه الثلة، ويبلغهم مراداتهم الحسنة، ويصلح لنا ولهم المقاصد والنيات والأقوال والأعمال، وأن يوفق سائر شباب المسلمين ليحذوا حذوهم، ويسيروا في ركبهم ليجنوا ثمرات ذلك الحسنة حالاً ومآلاً عاجلاً وآجلاً. هذا وإن من نماذج تلك الثلة - فيما أحسب - الابن عبد الرحمن بن سعيد بن علي القحطاني - يرحمه الله - فقد كان له نصيب من علو الهمة وصدق العزيمة كانا له بعد توفيق الله - ذي الحول والطول، والإفضال والإنعام - عوناً على تحصيل عدد من محابّ الله ومراضيه، أولها بعد أداء

الفرائض حفظ القرآن الكريم وتعاهده ومراجعته، والالتحاق بمدارسه التي تعنى بتعليمه وعلومه، ثم تعليمه الآخرين، يلي ذلك العناية بالعلوم الشرعية الأخرى عن طريق القراءة على والده وعلى غيره، وحضور بعض حلق العلم، والانتظام بكلية الشريعة بالرياض إلى جانب الإسهام في نصح الآخرين وتوجيههم. اشتغل يرحمه الله بما حقَّه أن يكون شاغل كل شاب مسلم يقفو أثر السلف الصالح الذين تخرجوا في مدارس العلم الموروث عن رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، فأدرك طرفاً صالحاً حتى وافاه الأجل وهو في مضمار التنافس في محاب الله، وبقي له من الذكر والخبر ما يحفز نفوس الشباب على التشمير فيما نافس فيه، فإني أراه شاباً نشأ في طاعة الله - عز وجل -، وكان يقرأ عليَّ في القواعد الحسان لابن السعدي، ولئن كان آلمني خبر وفاته يرحمه الله، فقد سرّني ما عرفته عنه من أخبار في مجال الدعوة والمناصحة. وما المرء إلا حديث بعده ... فكن حديثاً حسناً لمن روى أسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته، ويظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يبارك في إخوانه وفي سائر شباب المسلمين، وأن يجعلهم مفاتيح خير لأمة الإسلام، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. قاله الفقير إلى ربه عبد الله بن عبد العزيز بن إبراهيم الخضير

3 - (3) يا فتى الطهر طبت حيا وميتا

3 - (3) يا فتى الطُّهرِ طِبتَ حيّاً وميّتاً بقلم الشيخ: محمد بن أحمد الفراج أخي الكريم/ أبا عبد الرحمن: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وبعد: سمعت كغيري نبأ وفاة ابنيك رحمهما ربهما، وآجرك فيهما، ولا أراك مكروهاً بقية عمرك المبارك، ولا فجعك في نفس وحبيب، وحضرت للعزاء كغيري، ولكن الشيء الذي بقي علمه مطويّاً عني هو هذا التميز الذي كان عليه فقيدك عبد الرحمن منذ صغره، قرأت الأسطر التي كتبتها في مقدمة كتابه، واستعرضت كتابه - رحمه الله - فأوجد لديّ شعوراً هائلاً ترجمت بعضه بهذه الأبيات: 1 - هل لِقَلبٍ مِنَ الهُمُومِ عميدِ ... يُسْعِف الفِكر في عَزاءِ سعيدِ 2 - في مُصَابِ الفتى الهُمام ويوفي ... حقَّ ذي العزم والبيانِ السَّديدِ 3 - يقفُ الشِّعرُ حائراً كلُّ بَحْرٍ ... يُعلِن العَجزَ عن رثاءِ الفقيدِ 4 - إنَّ عبدَ الرَّحمن بدرُ تمامٍ ... فجأةً غابَ عن سماءِ الوجودِ 5 - ودّع الصَّحبَ تاركاً كلَّ جَفنٍ ... يَتَلظَّى مِنْ حرقة التَّسهيدِ 6 - لوْعَةٌ في الُفؤادِ من وَحْشةِ البينِ ... وحُزنٌ ودمْعَةٌ في الخُدودِ 7 - ما دَرَى قَبْرهُ ولا دافِنُوهُ ... أيَّ شهمٍ قد غيَّبُوا في اللحودِ 8 - أيَّ نبلٍ قد ودَّعُوا وذَكاءٍ ... وكريمٍ مِنَ الخِصَال وَجُودِ 9 - وشبابٍ في الرَّوعِ حَامَتْ عليهِ ... حائِماتٌ أظفارُها من حديدِ 10 - ما لقلبي كقطعةٍ من جَليدٍ ... ولعَيني كصخرةِ الجلمودِ

11 - تقصِفُ الحادثاتُ شَرقاً وغَرباً ... وجَنُوباً وشَمالاً كالرُّعُودِ 12 - وأرَانا وكُلّنا في سُباتٍ ... وسُعارٍ على الدَّنايا شديدِ 13 - كلّ يومٍ نرى مُصاباً جديداً ... في حبيبٍ أو والدٍ أو وليدِ 14 - كم رسولٍ قد أرسلَ الموتَ فينا ... ونذيرٍ محذّرٍ وبريدِ 15 - والمنايا لنا بكلِّ طريقٍ ... راصِدات يرمقنَنَا من بعيدِ 16 - وأرانا على الرَّزايا مُكبِّين ... سُكارَى متاعِها المعبودِ 17 - يا فتىً فتَّ موته كلَّ قلبٍ ... إذ مُصاب التُّقاة قرحُ الكُبُودِ 18 - غيرُ مأسوفَة الزَّوالِ حياةٌ ... زلتَ عنها وعيشِها المَنْكُودِ 19 - ما رأينا من أهلها غيرَ لُؤم ... ونفاقِ مخادعٍ وكُنودِ 20 - يذهبُ الصَّالِحونَ عنها وتُبقي ... كلّ نذلٍ وفاجرٍ وبليدِ 21 - في قليلٍ من الصلاحِ عزيز ... في غريبٍ مِنَ الأنامِ شريدِ 22 - يا فتى الطّهر طِبتَ حيّاً ومَيْتاً ... وتسامَيْتَ في مَرَاقي الصُّعُودِ 23 - ناشئاً في عبادةِ الله ترجو ... مِنْحةَ الرّبّ في ظلالِ الوَدُودِ 24 - لكأنّي بالذِّكرِ صارَ أنيساً ... لك في القبرِ والكتابِ المجيدِ 25 - وكأنِّي أرى خيالَكَ طَيفاً ... مُشرقَ الوَجهِ في سَماءِ الخُلودِ 26 - وكأنّي بِكَ ازدَريتَ حياةَ ... الذُّلِّ والعيشَ في رباقِ العبيدِ 27 - فابتدَرتَ الهِلال لله تَعْدُو ... عَدْوَ صَبٍّ لم ينتظِرْ يومَ عِيدِ 28 - أيُّ عيدٍ يُسرُّ فيه ذليلٌ ... لصليبٍ وحفنةٍ من يهودِ 29 - شَرِبوا الذُّلَّ باليدين ونامُوا ... ملء جفنٍ وكلبُهم بالوَصِيدِ

30 - باسِطٌ فوقهم ذِراعيهِ قَهْراً ... غاصبٌ منهم ديارَ الجُدودِ 31 - عائِثٌ في البلادِ قتلاً وأسراً ... محكمٌ قبضةَ العدوّ اللدودِ 32 - فلِهَذا وغيرِهِ وكثير ... يا فتى قد مَلَلْتَ عيش الرّقودِ 33 - فإلى الله والجِنَان وحورٍ ... وقُصُور وظلّها الممدودِ 34 - في رياضٍ من النَّعيم فِساح ... وشُهودٍ من الإلهِ مزيدِ 35 - وجِوَار من النبيين طُوبَى ... لجوارِ الكليم مُوسى وهُودِ 36 - وجِوار النَّبيِّ والصَّحب سَعدٍ ... وعليّ وعامرٍ وسعيدِ أخوك الوادُّ محمد بن أحمد الفراج

4 - (4) أنتم شهداء الله في الأرض

4 - (4) أنتم شهداء الله في الأرض بقلم الشيخ سعيد بن فيصل بن شائع القحطاني الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام، أما بعد: فهذه كلمة مختصرة في بعض ما أعرفه عن الشاب الصالح: عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف - رحمه الله، ورفع درجته في عليين، وجعله وأخاه عبد الرحيم في جنات ونهر في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر -. وجعل والديه ممن قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} (¬1)، وممن قال الله فيهم: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} (¬2). فإن عبد الرحمن عرفته منذ زمن، ورأيت فيه خصالاً عظيمة لم أرها في كثير من شباب هذا العصر. منها أنني كلما زرت والده وجدت عبد الرحمن - رحمه الله - إما في المسجد في حلقة القرآن الكريم، أو في المسجد يراجع حفظه، أو يُدرِّس في المسجد لكتاب الله تعالى، أو ذاهباً إلى المسجد؛ ليؤذن للصلاة، وما رأيته في السفر إلا حاجّاً أو معتمراً مع والده، وما سألت عنه إلا جاءني الخبر بأن عبد الرحمن في حلقة علم، أو دورة علمية مع والده في ¬

(¬1) سورة الطور، الآية: 21. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 75

الإجازات الصيفية، يلازم والده في الدروس والمحاضرات، فكان يسرني ذلك كثيراً، وكان أملي في الله عظيماً أن يكون عبد الرحمن ممن قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة المتفق على صحته: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله))، وذكر منهم: ((شاب نشأ في عبادة الله تعالى)) (¬1). الحديث، وممن قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الطويل الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه: ((ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة)) (¬2) الحديث. وكأنه يتمثل قول القائل: دع التّكاسُل في الخيرات تطلبها ... فليس يسعدُ بالخيرات كسلانُ ومنها أنه كان ذا خُلقٍ حسن رحمه الله، وأملي في الله عظيمٌ أن يكون ممن قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من أحبّكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)) (¬3).وممن قال فيهم - صلى الله عليه وسلم -: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) (¬4). ومنها أنني لم أره يوماً من الأيام يميل إلى ما يميل إليه الصبيان من اللعب، فما رأيته يلعب مطلقاً رحمه الله. ومنها أنني ما سمعت أحداً ذكره صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى إلا ¬

(¬1) متفق عليه، وتقدم تخريجه. (¬2) أخرجه مسلم، برقم 2699. (¬3) أخرجه الإمام أحمد، برقم 6735، الترمذي، برقم 2018، وابن حبان، برقم 485، وحسنه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 791. (¬4) أخرجه الترمذي، برقم 1162)، وقال: حسن صحيح، وابن حبان، برقم 4176)، والبيهقي فى شعب الإيمان، 1/ 61، وقال عنه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 284: ((حسن صحيح)).

5 - (5) صاحب الروح الطيبة والسيرة العطرة

أثنى عليه خيراً: حيّاً وميتاً - رحمه الله -. ومنها أنه كان من خلقه الحياء، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) (¬1). ولمسلم: ((الحياء خير كله)) (¬2). فنصيحتي لإخواني الشباب الرجوع إلى الله، والاستفادة من كتاب عبد الرحمن، ومن أخلاقه وسيرته - رحمه الله - قبل أن يأتي أحدهم الموت وهو على غير طاعة الله تعالى. فبادر مادام في العمر فسحةٌ ... وعَدلك مقبول وصرفك قيم وجد وسارع واغتنم زمن الصِّبا ... ففي زمن الإمكان تسعى وتغنمُ أسأل الله أن يغفر لعبد الرحمن وأخيه، وأن يجعلهما من السعداء ويجمعنا وإياهما ووالديهما في أعلى عليين، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. قاله كاتبه: سعيد بن فيصل بن شايع القحطاني مدرسة الإمام مسلم الثانوية لتحفيظ القرآن الكريم بالحرس الوطني في26/ 1/1423هـ‍ 5 - (5) صاحب الروح الطيبة والسيرة العطرة بقلم د. سعد بن علي بن وهف القحطاني الأستاذ بجامعة الملك سعود ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 6117، ومسلم، برقم 37. (¬2) صحيح مسلم، برقم 37.

إلى أخي الودود أبي عبد الرحمن: وفقه الله، وربط على قلبه، وبرد حرارة مصيبته، وكسانا وإياه حلل الكرامة يوم القيامة. أخي ... حسبك مما فقدت من ثمرات الأفئدة ما أعده الله لك ولأمثالك في بيت الحمد في الجنة إن شاء الله تعالى. وحسبك أيضاً أنهما هجرا ضنك الدنيا إلى جنة عرضها السموات والأرض إن شاء الله تعالى. فإلى جنة الخلد يا عبد الرحمن إن شاء الله تعالى، صاحب الروح الطيبة، والسيرة العطرة، والمواهب المتعددة، التي كانت سرّاً كامناً لم يكتشفها الناس إلا بعد رحيلك، وهذا هو حال العظماء من الرجال، لا تعرف مكانتهم إلا بعد أن يشعر الناس بالفراغ الذي تركه رحيلهم، ولئن كنا اليوم نبكي موتك فسنظلّ نذكر الأثر الطيّب الذي تركته في نفوسنا، حتى يجمع الله بيننا وبينك في الجنة إن شاء الله تعالى، وعزاؤنا فيك أنك متّ عزيزاً، شهماً. أطاب النفس أنك مت موتاً ... تمنته البواقي والخوالي رحلت ولم تر يوماً كريهاً ... تسرُّ النفسُ فيه بالزوال وإلى عبد الرحيم تلك الزهرة التي لم تكد تتفتح، أقول فيك ما قاله المتنبي في ابن سيف الدولة: فإن تك في قبر فإنك في الحشا ... وإن تك طفلاً ففعلك ليس بالطفل

ومثلك لا يُبكى على قدر سنه ... ولكن على قدر العزيمة والأصل اللهم ألهم والديهما الصبر والاحتساب، واجعلهما لهما حجاباً من النار، واجمعنا وإياهم جميعاً في الفردوس الأعلى في أعلى علّيين في جنات ونَهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. كتبه أخوك ومودّك أبو عبد العزيز

ب - ما قاله معلموه:

ب - ما قاله معلموه: 6 - (1) - دمعة على فراق أبي سعيد بقلم الشيخ عادل بن عبد الرحمن السنيد لست من أرباب البيان، ولا روّاد البلاغة حتى أُسطّر كلمات تليق بأبي سعيد، ولكنها نبضات قلب محب ومشاعر أبت إلا أن تخرج في أي قلب كانت. عبد الرحمن: اسم يتجلجل صداه في مسامعي، وتدوي معانيه في خاطري، فلا أملك إلا أن أسترجع بأدمعي، غابت شمسك يا أبا سعيد، وأفل نجمك، وإن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. عبد الرحمن: عندما تتراءى صورته أمامي أذكر معاني: القناعة، الحرص على هداية الناس، لين الجانب، دماثة الأخلاق، صفاء النفس، نقاء السريرة، بذل النصيحة، حمل هم الآخرة، المسارعة إلى خدمة الآخرين. أبا سعيد: يتجاذبني شعوران متناقضان: شعور بالفرحة والسرور؛ لأن ذكرك حَسَنٌ، وسيرتُك عطرَة، ولله الحمد، وأنتم شهداء الله في أرضه. وشعور بالحزن والأسى إذا تذكرت أن عيني لن تكتحل برؤيتك في الدنيا بعد اليوم:

أأحبابنا إن الصحاب كثير ... وأنتم رأس وعين كاهل أسأل الله أن يجمعنا وإياك ووالدينا وجميع المسلمين في الفردوس الأعلى من الجنة، وأن ينزلنا منازل الشهداء آمين، آمين، آمين. أبا سعيد لا أقول وداعاً، ولكن إلى اللقاء في الجنة - إن شاء الله -. أبو عبد الإله: عادل السنيد مدرس القرآن الكريم والقراءات بثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض فجر الأحد 10/ 1/1423هـ‍

7 - (2) ورحل عبد الرحمن!!!

7 - (2) ورحل ... عبد الرحمن!!! بقلم الشيخ بدر بن ناصر العواد ربما كانت هذه الكلمة هي الكلمة الأولى التي صكَّت أذني، فكنتُ على موعد مع الحزن الآسر، لم يَدُرْ في خَلَدِي يوماً ما أن أقفَ في لحظة صمتٍ خاشعةٍ لأستعيدَ شريطَ الذكريات الجميلةِ معه بعدما لحق بركب الموتى. كم عجيب هو الموت، لحظاتٌ فقط ويصبح الإنسان خَبَراً في ذمَّة كان، طرفة عين - لا أكثر - هي الخيط الرقيق الفاصل بين الحياة والموت!!! في مثل هذا الموقف الحزين يضجُّ في أروقة دماغك ألفُ سؤال حائر عن الموت وما بعده، ويتدفّقُ شلالٌ من الحزن في جنبات قلبك، ويلوح أمامَ ناظريكَ إعصارٌ من الأسى، يعصف بأحاسيسك، ويأخذك بعيداً إلى ما وراء الوراء!!! عبد الرحمن ... مَنْ عبدُ الرحمن؟؟؟ وجهٌ يهمي بالطُّهر كإشراقة الفجر النَّدي، وصدرٌ لا مكان فيه لغير المحبة والمصافاة، وثغرٌ سكَنَت فيه ابتسامةٌ عذبةٌ أبَتْ أن ترحلَ عنه! لم يكن عبد الرحمن بالنسبة لمعلميه مجرَّدَ طالب في مدرسة تعجُّ بالمتميزين كهذه، بل كان طالباً من الطراز الأول ... التزامٌ جادٌّ، واهتمامٌ بالتحصيل العلمي، وعزمٌ متوهِّجٌ لم يستطع الكَلَلُ أن يَفُتَّ في عَضُدِه. وليس غريباً أن يكون من تربَّى في محاضنِ القرآن الكريم، ونهل من

ينابيعِ السنة النبوية الشريفة؛ بارّاً بوالديه، مسكوناً بهموم أمته، متميزاً بين لدَاتِه. وإن أنسَ فلا أنسى ما كان يتحلَّى به من أدبٍ رفيعٍ، وروحٍ مرحةٍ داخلَ فصله، ونَهمٍ معرفيٍّ يحدوه في الفُسَحِ إلى إغراقي بوابلٍ من الأسئلة. لقد مضى إلى ربِّه بعدما نقش اسمه بحروفٍ من نورٍ في ذاكرة من عرفوه، وستبقى ذكراه العَبقَة أنشودةً حلوةً على كل الشِّفاه ... و ((الذِّكْرُ للإنسانِ عُمْرٌ ثاني)). بدر بن ناصر العواد مدرس العلوم الشرعية بثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم

8 - (3) ورحل عبد الرحمن

8 - (3) ورحل عبد الرحمن بقلم الشيخ محمد بن عبد العزيز الغامدي سطرت يراع عبد الرحمن - رحمه الله - هذه الكلمات قبل أن يغادر هذه المدرسة متخرجاً بتميز علمي وخُلقي. لقد مضى عبد الرحمن، وبقيت ذكرياته. وما هذه الكلمات إلا جزء من هذه الذكريات، كتبها ولم يكن يدر بخلده حينها أنها ستبقى ذكرى من بعده يقلبها معلموه وزملاؤه. غادرنا عبد الرحمن وهو يقول: (بعد مغادرتي للمدرسة على خير إن شاء الله)، وأقلّ من عام، وإذا به يغادر ليس المدرسة فحسب بل الدنيا كلها، وهو على خير إن شاء الله. مضى عبد الرحمن ... ونحن لم نمض بعد. وغادر عبد الرحمن ... ونحن لم نغادر بعد ... يا ترى ... كيف كانت أمانيه قبل أن يمضي؟ وما آماله وأحلامه قبل أن يغادر؟ لقد مضت تلك الأماني معه وغادرت تلك الآمال والأحلام إلى حيث غادر ... لكن ... قل لي بربك: ما مصير أمانينا وآمالنا؟ هل سندركها؟ أم ستخترمها المنون؟ اسأل نفسك ... والحر تكفيه الإشارة.

اللهم حرِّم وجه عبد الرحمن على النار ... وارفع درجته في دار القرار ... في جنة ونهر ... في مقعد صدق عند مليك مقتدر. محمد بن عبد العزيز الغامدي مدرس العلوم الشرعية في ثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض

ج - قال عنه زملاؤه:

ج - قال عنه زملاؤه: 9 - (1) عاجل بشرى المؤمن بقلم زميله بكلية الشريعة: عادل بن عبد الله المطرودي الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: إلى فضيلة الشيخ د. سعيد بن علي القحطاني - حفظه الله ورعاه - فقد سرّني وأثلج صدري ذلك البحث القيِّم لحميد الشِّيَم ابنكم عبد الرحمن قدَّس الله روحه، ونوّر ضريحه، والذي أسأل الله أن يجعله من الباقيات الصالحات. ثم إني بحكم دراستي مع عبد الرحمن - رحمه الله- لعدّة أشهر في كلية الشريعة أحببت أن أكتب عنه هذه الكلمات، فأقول وبالله أستعين: كان رحمه الله حريصاً على طلب العلم، كثير السؤال لأهل العلم، وقد كنت أمازحه فقلت له ذات مرة: أسئلتُك أسئلةُ فقيه؟ فقال لي: ((الله يسمع منك)). وكان لا يستحيي في السؤال لسان حاله كما قال الشاعر: العلم حربٌ للفتى المتعالي ... كالسيل حربٌ للمكان العالي وكان رحمه الله ينفع إخوانه كثيراً، وكان كثيرٌ من الزملاء يأخذون ما يفوتهم من التعليقات منه رحمه الله.

وقد التقيت به يوماً في أحد ممرات الكلية فقال لي: انظر إلى هذه الرسالة - رسالة وصلت إليه خطأ عن طريق الجوال أُرسلت لشخصٍ، فأخطأ المرسل فوقعت في جوال عبد الرحمن - رحمه الله - فيها عبارات كفرية والعياذ بالله، فقال: ما رأيك فيها؟ فقلت له: إن صاحبها على خطر عظيم، فقال لي: ((إني قد اتصلت به ونصحته فشتمني وسبَّني هداه الله)). وكان رحمه الله على خلق عظيم، ولا أذكر أني شهدت منه خلقاً ذميماً - رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته -. وختاماً أُوصيكم بالصبر والاحتساب وأبشركم بأن عبد الرحمن كان ولا يزال محل ثناء زملائه، وإخوانه في الكلية، وهذا من عاجل بشرى المؤمن، أسأل الله أن يغفر لي، ولعبد الرحمن، ولأخيه، ولوالديه، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، وإنا لله وإنا إليه راجعون. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتبه العبد الفقير إلى رحمة ربه عادل بن عبد الله المطرودي الرياض 15/ 1/1423هـ‍ كلية الشريعة قسم الشريعة

10 - (2) أعظم الأماني الشهادة في سبيل الله تعالى

10 - (2) أعظم الأماني الشهادة في سبيل الله تعالى بقلم: زميله بكلية الشريعة: عبد الرحمن بن عبد العزيز بن سليمان الشبيب الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فهذا بعض ما أعرفه عن أخي وصديقي الأخ الفاضل عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني - رحمه الله - فأقول: كانت بداية معرفتي للأخ عبد الرحمن هي بداية دراستي في الجامعة، ومن العجيب أنه على الرغم من قصر المدة التي تعرَّفت فيها على الأخ عبد الرحمن - رحمه الله - إلا أنه كان بيننا من الألفة والمحبة حتى كأنني أعرفه قبل عدة سنوات، وذلك لما يتحلّى به من حسن الخلق، وبشاشة الوجه، وكان الأخ عبد الرحمن ذا علمية جيدة، وقد عرفت ذلك من مناقشاته الجيدة للمشايخ في قاعة الكلية، وتعليقاته المفيدة على بعض كتبه، وقد كنت يوماً من الأيام أتأمل في شباب القاعة، وأتخرص من هو الذي سيخدم الدين؟ فكنت أنظر إلى الأخ عبد الرحمن، وأتوسّم فيه سمات القضاة، فقد كان حكيماً ذا سمت حسن، وقد كان - رحمه الله - يهتم بأحوال المسلمين، خاصة إخواننا في أفغانستان، وقد كان يخبرني ببعض أخبارهم، ويأتي ببعض المجلات التي تهتم بقضاياهم، وكان يزرع في نفسي أن النصر للمسلمين مهما حصل من الضعف في بعض الأوقات، وكنا نناقش في يوم من الأيام بعض أحوال المسلمين، فقال: ((إن من أعظم الأماني عندي أن أذهب إلى ساحة الوغى ثم أقتل في سبيل الله تعالى)).

فرحم الله الأخ عبد الرحمن، وجعلني وإياه ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فقد كنا متحابين في الله تعالى، فرحمه الله رحمة واسعة، وجعل قبره روضة من رياض الجنة، إنه جواد كريم، وبالإجابة جدير. محبه: عبد الرحمن بن عبد العزيز بن سليمان الشبيب 12/ 1/1423هـ‍ جامعة الإمام - كلية الشريعة - قسم الشريعة - الرياض

11 - (3) الأمر بالمعروف مع سعة الصدر

11 - (3) الأمر بالمعروف مع سعة الصدر بقلم زميله: محمد بن حسان بن محمد بن بشُّور السوري الحمد لله الذي جعل لكل أمر علامة، ولكل شيء نهاية، {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬1) فسبحانه مدبر الأمور، يصرفها كما يشاء وهو العليم الحكيم، والصلاة والسلام على خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام، أما بعد: فهذه النقاط فقط ذكريات صديق حبيب، أمارات النور برقت على جبينه، فكنَّا ندرس سويّاً في المدرسة، فكان - رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة نحن ووالديه ووالدينا وجميع المسلمين - آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، فإذا رأى صديقاً تبدو عليه أمارات السوء أمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، وكان رحمه الله محبّاً للاطلاع يشغل فراغه بما يفيده، فإذا كان لدينا حصة فراغ، أو لم يحضر المعلم، أو شرح الدرس وبقي جزء من الحصة استغلها بما يفيده كمراجعة ما يحفظ من كتاب الله تعالى، أو قراءة كتاب مفيد، أو غير ذلك مما يفيده. وكان رحمه الله واسع الصدر لا يحمل الحقد على أي صديق، ومن أبرز الأمثلة على ذلك، أنه إذا قال له شخص: فلان قال كذا وكذا عنك، ¬

(¬1) سورة يس، الآية: 82.

قال له: لا تظن بأخيك ظنّاً سيئاً، وكنَّا في يوم من الأيام نذاكر مادةً علينا فيها اختبار في الصف الثالث ثانوي، وقبل الاختبار نتبادل المعلومات يُذَكِّرني وأُذَكِّره، وكان يقول لي: يا محمد توكل على الله، ولا تحمل همَّ الاختبار. وكما كان أيضاً طموحاً للأعلى، فقد كان رحمه الله يحب الخط العربي والشعر، فقد كان رحمه الله يسلينا أحياناً في الفصل ببعض أشعاره اللطيفة، وكان يحب الاطلاع في الكتب، فقد كان أيضاً مُثَقَّفاً حريصاً على سماع أخبار المسلمين في الراديو، فكنت أسأله عن بعض ما جرى فيجيبني، وأخيراً كما قال الشاعر: إذا لم نلتقِ في الأرض يوماً ... وفرَّق بيننا كأس المنونِ فموعدنا غداً في دارِ خُلدٍ ... بها يحيى الحنون مع الحنونِ وقد قلت هذه الكلمات في عبد الرحمن - رحمه الله - الآتي نصها: فقدتك والذكرى مُؤرّقة ... من صميم فؤادي فقدتك ومدامعي تلوح ... سيلاً على أجفاني فقدتك والخيال أذكرني ... جوهراً كالياقوت والمرجانِ االله من رجعة نلتقي ... بها في الجناني محبة في الله صادقة ... معلناً بها في صفحاتي اللهم ارحمه رحمةً واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ونحن ووالديه

ووالدينا وجميع المسلمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. محمد بن حسان بن محمد بن بشور حرر في يوم السبت 23/ 1/1423هـ‍ زميله ومحبه في الله تعالى في ثالث ثانوي لتحفيظ القرآن الكريم مدرسة أبي عمرو البصري (سابقاً)

12 - (4) عبد الرحمن لم تمت أخلاقه وبقيت معالمها

12 - (4) عبد الرحمن لم تمت أخلاقه وبقيت معالمها بقلم زميله: ياسر بن محمد بن سليمان الحقيل عندما مات عبد الرحمن تحركت المشاعر، وجاشت القرائح، مات إلا أن أخلاقه لم تمت، وبقيت معالمها واضحة جلية في نفوس زملائه، وأصحابه، وفي نفوس كل من تعامل معه، وكان مما جاشت به القريحة هذه الأبيات: الفاجعة 1 - هَزَّ الجميعَ رَنينُ ذا الجوالِ ... في هجعةِ الليلِِ البهيمِ الخالي 2 - فرَدَدتُ كي تبقى الفجيعة في الورى ... هل مات حقّاً ذا الصديق الغالي 3 - هل مات حقّاً ابن قحطانٍ وما ... عجبٌ هنا فالموتُ ليسَ بسالي 4 - فُجِعَ الجميعُ بموتِهِ ولعلَّهُ ... في موتهِ عظةٌ لغيرِ مبالي 5 - فُجِعَ الصَّحابةُ قبلَنا بمصيبةٍ ... موتِ الرَّسولِ فداهُ كلُّ المالِ 6 - قد ماتَ إلا أن ذكراهُ بقتْ ... رغمَ السنين وعبرَ ذي الأجيالِ 7 - فلَنعمَ ذي الذِّكرى وأيضاً أنْعِمَنْ ... بذوي العقولِ عقولِ خيرِ رجالِ 8 - يا أيُّها العبد لرحمن السَّما ... وسِعَتْكَ رحمةُ ربِّنا المتعالي 9 - فلعلَّ يجمعُنا الإلهُ معاً هناك ... بجنةِ الفردوسِ والإجلالِ 10 - فيها الذي لا شيءَ من عينٍ رأت ... والحورُ فيها ينتظرنَ الغالي 11 - يا من سمعتَ قصيدتي ووعيتَها ... هلاّ اتعظتَ بقاطعِ الآمالِ 12 - الموتُ قد يأتي عليك بغفلةٍ ... فتقول ربي أخِّرَنْ آجالي

13 - تمَّ الكلامُ وبعدهُ صلُّوا على ... خيرِ الخليقة سيدِ الأبطالِ 14 - والآلِ والصَّحْبِ الكرامِ ومن مضى ... في سُنَّةِ الهادي بغيرِ جِدالِ قاله وكتبه أبو عبد الرحمن ياسر بن محمد بن سليمان الحقيل كلية الشريعة بالرياض حرر في يوم الأربعاء 27/ 1/1423هـ‍

13 - (5) يا رب فارحمه ووسع قبره وانشر له نورا بكل مكان

بسم الله الرحمن الرحيم 13 - (5) يا رب فارحمه ووسِّع قبره وانشر له نوراً بكل مكان بقلم زميله بكلية الشريعة: عبد الرحمن بن حمود بن سعد البدراني: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فعندما توفي الزميل العزيز عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني - رحمه الله تعالى - جاشت المشاعر، فكتبت قصيدة طويلة في رثائه رحمه الله تعالى، ولكن قدَّر الله - عز وجل - أن تُفقد هذه القصيدة كلها، وبحثت عنها كثيراً فلم أجدها، فالله المستعان، ولكن يحضرني منها بالمعنى الأبيات الآتية: 1 - ما للهداة قضوا ولاتَ مُخْبرٌ ... عن حالهم بعد المكان الثانِ 2 - كان (ابن وهفٍ) للأذان مرجِّعٌ ... والآن في قبرٍ وفي أكفانِ 3 - يا مرسل البَسَماتِ في القاعات يا ... ذا الهمة العليا من الإخوانِ 4 - نزل القضاءُ عليك بعد تراوُح ... وتروّحٍ هذا خِتامُ مُعانِ 5 - نزل القضاءُ وكان قصدُك حلقةً ... للذِّكرِ والتعليم للقرآنِ 6 - والله لن أبكيك بل أبكي على ... من مات في فِسْقٍ وفي طغيانِ 7 - يا صاحب الدين المتينِ يَزينُهُ ... خُلُقُ الذي قد سار للرحمنِ 8 - ولسانه في عفةٍ عن كل ما ... يأباه ذو تقوى وذو إيمان (¬1) ¬

(¬1) كان يدرسنا في الكلية بعض المدرسين الأجانب، وبعضهم كان قليل تدين، وفي عقيدته أشعرية، فكان الطلاب يبدون تضجرهم منهم، وكنت ألاحظ الأخ عبد الرحمن - رحمه الله - ممسكاً عن الكلام فيهم، ويذكر أن شرحهم حسن، ويدعو لهم، ويأمرنا أن نستفيد مما عندهم مما ينفع، ونترك بدعتهم وضلالاتهم.

9 - ما زلتُ أشهد نطقه ودُعابَه الـ ... الأشياخَ في أدبٍ وفي إحسانِ 10 - قد قلَّ في أقرانه مَنْ شِبْهَهُ ... فالحمد قبلُ وبعد للمنانِ 11 - أرثيه ثم أقول معتذراً له ... وُفِّقْتَ حين تركت دار هوانِ (¬1) 12 - إني أعزِّي والداً فيه وقد ... عزَّيتُ فيه يراعتي وبناني 13 - عزيتُ فيه الصحب ثم إليكمو ... أُهدي نصيحةَ مشفقٍ ولهانِ 14 - يا إخوتي هذي المنايا دأبُها ... فقد الحبيب ومُوْجِعُ الهُجرانِ 15 - هلاّ اعتبرنا في فناءٍ قد سَرَى ... في الناس منذُ الخلقِ للأكوانِ 16 - هذي الحياةُ متاعبٌ ومصاعبٌ ... شَمِّر هُديت إلى ادِّكارِ معانِ 17 - ثم السؤال من الإله بفضلهِ ... أن يرحم الأخَ (عابد الرحمنِ) 18 - فهو الكريمُ كذا الرحيمُ بِخَلْقه ... وهو القديرُ وواسع الغفرانِ 19 - يا ربِّ فارحَمْهُ ووسِّع قَبْرَهُ ... وانشر لَهُ نُوراً بِكُلِّ مكانِ 20 - وافسح له في لَحْدِهِ أُفُقَ المدى ... وافْرُجْ له فُرُجاً من الرضوانِ 21 - رَوْحٌ وريحانٌ عذوقُ ثِمَارِها ... والحورَ أوْلِ زميلنا القحطاني ثُمَّ الصلاةُ على النّبيِّ محمّدٍ ... ما صَوَّتَ القُمْري على الأغصانِ وكتبه: عبد الرحمن بن حمود بن سعد البدراني. ¬

(¬1) اقتبس هذا البيت من بيت لأبي الحسن التهامي.

14 - (6) الخشوع والإخبات لله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم 14 - (6) الخشوع والإخبات لله تعالى بقلم الشيخ المعبِّر حسن بن شريف المشيخي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فلا شك بأنني آخر من كتب من الإخوة المشايخ، والدعاة، وطلبة العلم، وأظن ذلك لحكمة أرادها الله تعالى، فمنذ ساعة وفاة أبناء الشيخ سعيد، وأنا أريد أن أكتب ما أجده من خواطر تجاه عبد الرحمن وعبد الرحيم - رحمهما الله - لكنني لم أتمكن من ذلك للانشغال ببعض البحوث العلمية، فإذا تذكَّرتهما لُمْتُ نفسي على التقصير، ثم أعوضهما بالدعاء والإلحاح على الله - عز وجل - أن يغفر لهما، ويرفع درجاتهما، ولا شك أن ذلك أنفع لي ولهما، وسأكتفي بأحدهما إذ أن الآخر مازال دون التكليف أثناء وفاته، وإن كان قد حفظ ما يقارب سبعة عشر جزءاً، فأسال الله له رفعة الدرجات، وسأقتصر هنا على صاحب هذا المؤلف القيم/ عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني، ففي ليلة الأحد السابع عشر من رمضان لعام ألف وأربعمائة واثنين وعشرين للهجرة ذهل الصغار لما رأوا الكبار جادوا بمدمع وبكاء، رحل ابنا الشيخ سعيد بن وهف في لحظة لا أحد يتوقع ذلك، لكن المولى - جل وعلا - أراد ذلك، فله الحمد على ما قضى وأحكم وأبرم.

مضى ابن سعيد حيث لم يبق مشرق ... ولا مغرب إلا وله فيه مادح وكنت أعلم عن جميل صفاته ... كما ولكن غيبتها الصفائح وأصبح في لحدٍ من الأرض ميتاً ... وكان به حيّاً تضيق الصحاصح وما نحن من رزءٍ وإن جلَّ نجزع ... ولا بسرورٍ بعد فقده نفرح لقد كان شابّاً صالحاً محبوباً، يعلوه وقار العلماء، وفي مُحيّاه ملامح العظماء، وكما أحبه الصغار والكبار في حياته، فلقد بكى عليه القوم بعد وفاته، ولكن يا ترى هل كان سبب تلك المحبة كتاب الله - عز وجل - الذي قد حواه في صدره حفظاً وإتقاناً وعملاً وتعليماً، فهو وإن كان صغيراً فهو يتمتع بهمَّة الكبار، وبراءة الصغار؛ مما جعله أنموذجاً غريباً يتحيَّر فيه المتأمِّل لتلك الأعمال، فقد بكت السارية التي كان يسند الصغير ظهره عليها، نعم، فقد بكت بحرقة وحسرة وألم ... نعم وما يدريك ... أم يا ترى كان سبب ذلك التحاقه بكلية الشريعة التي قد أجاد معظم مناهجها على يد والده من سنٍّ مبكرٍ، أم أن سبب ذلك تعيينه مُؤذِّناً في ذلك الجامع الذي يؤمُّه والده، والذي يتنافس على ذلك الجامع طلبة العلم، ولقد شاهدت ذلك الصغير يتنافس مع بعض طلبة العلم، وكم كانت دهشتي عندما علمت أنه هو الفائز، لكن كل ذلك وغيره لم يكن هو السبب الرئيس في انشراح صدر ذلك الشاب، وحبه للعلم، وانطلاق لسانه بالشعر، إضافة إلى ما عنده من القرآن والحكمة، ولم يكن سبب ذلك الأذان الذي يصدح في الوقت تماماً، والذي يدفع كل من يصل إليه صوته إلى فتح النوافذ، والاستماع إلى ذلك الأذان العجيب، وأنا من

هؤلاء، وليس سبب حب الجميع له بسبب حضوره المبكر للجامع قبل مواعيد الأذان عندما كان يسلك ذلك الرصيف الطويل من منزل والده إلى الجامع دون أن يلتفت يمنة أو يسرة أبداً، حتى إنني أضطر أحياناً لاستخدام منبه السيارة حتى يلتفت فألقي عليه السلام. ولكن السبب سأورده لكم، ليس إلا خوفاً من الإطالة عليكم، إن السبب هو خشوعه وإخباته لله والرغبة فيما عند الله - جل وعلا - من سن مبكر، وإليكم شاهد على ما أقول: عندما كان عمره اثني عشر عاماً تقريباً، وبالتحديد في شهر رمضان، وكان مؤذن الجامع في ذلك الوقت أحد القضاة، وكان الشيخ يُقدم ذلك القاضي أحياناً في بعض ركعات صلاة التراويح أو القيام، بناءً على طلب القاضي من أجل ترسيخ الحفظ لبعض الأجزاء، وكنت أَصُفُّ أنا وذلك الصغير عبد الرحمن - رحمه الله - ومن معنا من المصلين في صلاة التراويح أو القيام، وفي إحدى الليالي عندما كان يؤمّنا ذلك القاضي، وكنت شارد الذهن في تلك اللحظة، لم يردني إلى استحضار القلب في الصلاة إلا أزيز غريب من جانبي الأيسر، فشردت بالذهن مرة أخرى، ولكن داخل المسجد، وبالتحديد من جانبي الأيسر، وإذا بذلك الغلام الصغير قد أغرق وجهه وصدره ومكان سجوده بالدموع من بداية صلاته، ولكنه في النهاية لم يستطع أن يتمالك نفسه، فغلبه البكاء وارتفاع الصوت، فهل بكيت أخي في مثل هذا الموقف وقد شاب عارضاك؟ وماذا كنت تعمل في ذلك السن؟ رحم الله عبد الرحمن رحمة

واسعة: فلئن حسنت فيه المراثي بذكرها ... فلقد حسنت من قبل فيه المدائح ولهذا ليس بغريب أن يصلي عليه ذلك الجمع العظيم من الناس، ويشيعه إلى القبر أعداد هائلة من الناس، ومنهم العلماء، وأساتذة الجامعات، وطلبة العلم، وقد رأيتهم بعيني يتنافسون للإمساك بالنعش: وليس صرير النعش ما يسمعونه ... ولكنه أصلُب قوم تقصفُ وليس نسيم المسك ريا حنوطه ... ولكنه ذاك الثناء المخلفُ أما لسان حالهم فيقول: ... ... فلن أرتجي في الموت بعدك طائلاً ... ولا أتقي للدهر بعدك من خطب اللهم ما تلا من قرآن فارفع درجته، وزكِّه به، وما صلَّى من صلاة فتقبلها منه، وما تصدَّق أو تُصدِّق عنه بصدقة فنمِّها له، اللهم أقِلْ عثرته، واعفُُ عن زلته، وعده بحلمك، فإنه لا يرجو غيرك، ولا يثق إلا بك، وأنت واسع المغفرة، اللهم أجر والديه في مصيبتهما، وأعقب لهما خيراً منها في الدنيا والآخرة، إنك يا رب ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. قاله وكتبه/ حسن بن شريف المشيخي 11/ 7/1423هـ‍

15 - (7) حكم وفوائد عظيمة

بسم الله الرحمن الرحيم 15 - (7) حكم وفوائد عظيمة بقلم زميله عبد الحليم بن محمد فاروق الأفغاني الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: أما بعد: فإن الأخ الزميل عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني - رحمه الله رحمة واسعة - كان من زملائي الأخيار في كلية الشريعة، وكان خلوقاً قلَّ أمثاله، وكان متواضعاً متمسكاً بالقيم الدينية والمبادئ الإسلامية، وكان ملتزماً في أمور الشرع لا يخاف في الله لومة لائم، وكان هَمُّهُ الأكبر طلب العلم الصحيح النافع، وكان مخلصاً صادقاً وأميناً، وكثير الصمت إلا في موضع الحق، هكذا أحسبه والله حسيبه، وآخر ما قابلته في المسجد الجامع بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وذلك عند صلاته لسنة الراتبة بعد الظهر يوم السبت الموافق 16/ 9/1422هـ‍، وكان من آخر الكلمات التي قالها لي قوله - رحمه الله -: ((إني قد اشتقت إلى الجهاد في سبيل الله تعالى))، ثم استأذن مني وقال: سأحضر غداً إن شاء الله للدرس في الكلية؛ لأن هذا اليوم هو آخر أيام الدراسة للفصل الأول من العام الدراسي، ولكن الله - سبحانه وتعالى - قبضه في اليوم نفسه الذي قابلته فيه بعد إمامته للناس في صلاة العشاء والتراويح، فأسأل الله أن يحقق له أمنيته ويجعله شهيداً في سبيل الله تعالى.

وقد استفدت وسمعت منه الوصايا والفوائد الآتية: 1 - رافقته في سيارته - رحمه الله - مرة، وكان يقرأ عن ظهر قلب حفظاً أثناء قيادته للسيارة، وأظن أنه يقرأ من سورة الفرقان، وبعد القراءة سألني عن حزبي اليومي من القرآن الكريم؟ فأخبرته بأني أقرأ كذا وكذا (¬1)، فقال لي: أنت عندك فراغ كثير كان ينبغي أن تقرأ أكثر من هذا. ومن أقواله الحكيمة التي استفدتها منه - رحمه الله -: 2 - آفة العلم نسيانه. 3 - المرء يقيس على نفسه. 4 - اطلب الرفيق قبل الطريق، والجار قبل الدار. 5 - إن الذنوب تميت القلوب، وتكون سبباً للشقاء. 6 - راحة القلوب في قراءة القرآن، وقرة العيون في الصلاة. 7 - التوكل على الله يسهِّل ويزيل العقبات في طريق الوصول إلى الأمنية. 8 - عن المَرْءِ لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي 9 - ابتغِ فيما أعطاك الله الدار الآخرة. 10 - لا يسع المسلم الناس بماله، ولكن يسعهم ببسط الوجه، وحسن الخلق. ¬

(¬1) وقد سألت الأخ عبد الحليم فاروق عن حزبه الذي قاله للابن عبد الرحمن - رحمه الله - فقال: قلت له: أقرأ في اليوم جزءاً واحداً، وفي رمضان ثلاثة أجزاء في اليوم، ولله الحمد.

11 - احفظ مني ثلاثاً: ثم قال: أ - من سمات الكرام: العفو، والوفاء. ب - ومن سمات الأغنياء الأتقياء: الجود، والسخاء. ج - ومن سمات الأعزاء: احترام الآخرين. وكل هذه الحكم والفوائد استفدتها وكتبتها بالمعنى مما قاله الزميل عبد الرحمن رحمه الله تعالى. اللهم ارحمه، اللهم ارحمه، ونوِّر له في قبره، وافسح له فيه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. كتبه: عبد الحليم بن محمد فاروق الأفغاني 25/ 3/1423هـ‍ زميله في كليّة الشريعة

الفوائد التي اقتطفها الابن عبد الرحمن رحمه الله من أساتذة كلية الشريعة:

الفوائد التي اقتطفها الابن عبد الرحمن رحمه الله من أساتذة كلية الشريعة: 1 - الفوائد المقتطفة من علوم القرآن (تفسير) درس د. شريف * من المتفق عليه بين جمهور الفقهاء أن مصادر التشريع أربعة: 1 - القرآن الكريم. 2 - الحديث الشريف. 3 - الإجماع. 4 - القياس. ومن المتفق عليه أن الحكم الذي يدل عليه واحد من هذه الأدلة الأربعة هو حكم واجب الاتباع، وهناك مصادر مختلف فيها كالعرف، والاستحسان، والمصلحة المرسلة، ونحوها. 1 - القرآن الكريم: هو كلام الله المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل - عليه السلام -، المتعبد بتلاوته، المتحدَّى بأقصر سورة منه، المنقول إلينا بالتواتر، أو هو الموجود بين دفتي المصحف. - نصوص القرآن قطعية. * حجية أحكام القرآن الكريم: لا خلاف بين المسلمين في أن القرآن من عند الله - عز وجل - وأنه تجب له الطاعة، فالقرآن حجة على كل مسلم ومسلمة، وأحكامه واجبة الاتباع

مركز السنة من القرآن:

أيّاً كان نوعها، وأحكام القرآن شرعت للدنيا والآخرة. * أحكام القرآن على نوعين: أ - أحكام يراد بها إقامة الدين: وهذه تشمل أحكام العقائد والمعاملات. ب - أحكام يراد بها تنظيم الدولة والمجتمع والجماعة، وهذه تشمل أحكام المعاملات، والعقوبات، والأحوال الشخصية. وأحكام القرآن على تنوعها وتعددها أنزلت بقصد إسعاد الناس في الدنيا والآخرة. 2 - السنة النبوية: هي ما أُثر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: من قول، أو فعل، أو تقرير، فالسنة ثلاث أنواع: سنة قولية، أو سنة فعلية، أو سنة تقريرية. فالقولية هي: أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي قالها، مثل: ((آية المنافق ثلاث)). والفعلية هي: أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي رواها عنه الصحابة. والتقريرية هي: ما صدر عن بعض أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أقوال وأفعال أقرها الرسول عليه الصلاة والسلام بسكوته وعدم إنكارها. مركز السنة من القرآن: القرآن هو المصدر الأول للتشريع، وأساس هذا التشريع: والسنة هي المصدر الثاني، وتلي القرآن في المرتبة، وأحكام السنة من

الناحية التشريعية لا تعدو أن تكون واحدة من ثلاث: 1 - سنة تقرر وتؤكد حكماً جاء به القرآن، فيكون الحكم مرجعه الكتاب والسنة معاً، كتحريم القتل بغير حق. 2 - وإما أن تكون السنة مفصلة مفسرة لما جاء به القرآن مجملاً. 3 - وإما أن تكون السنة مثبتة حكماً، وهذا الحكم سكت عنه القرآن، مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها)) (¬1). تنقسم السنة بحسب روايتها إلى أقسام ثلاثة: 1 - سنة متواترة. 2 - سنة مشهورة. 3 - سنة آحاد. السنة المتواترة: ما رواه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع يمتنع عادة أن يتواطأ أفراده على الكذب، ومن هذا السنن العملية في أداء الصلاة والصوم. السنة المشهورة: ما رواه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صحابي أو أكثر دون أن يبلغ حد التواتر. مثل ((إنما الأعمال بالنيات)) (¬2). سنة الآحاد: ما رواه عن الرسول عليه الصلاة والسلام آحاد، أو جمع لم يبلغ حد التواتر أيضاً. ¬

(¬1) متفق عليه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، البخاري، برقم 5109، ومسلم، برقم 1408. (¬2) متفق عليه عن عمر - رضي الله عنه -، البخاري، برقم 1، مسلم، برقم 1907.

2 - الفوائد المقتطفة من التفسير.

هل السنة قطعية أم ظنية؟: السنة المتواترة قطعية الورود عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن تواتر النقل يفيد الجزم بصدق الرواة، والسنة المشهورة قطعية الورود عن الصحابي الذي نقلها عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن من تلقاها عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس جمعاً من جموع التواتر، وسنة الآحاد ظنية الورود عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. حجية السنة: لا خلاف أن أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله، وتقريراته التي قصد بها التشريع ونقلت إلينا بسند صحيح يفيد القطع أو الظن الراجح يعتبر حجة ملزمة للمسلمين، ومصدراً تشريعيّاً واجب الاتباع، قال الله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (¬1) الآية. 2 - الفوائد المقتطفة من التفسير. د. جمعة، الأربعاء شهر 6/ 1422هـ‍ * أسباب النزول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ*وَلله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬2). ¬

(¬1) سورة الحشر، الآية: 7. (¬2) سورة البقرة، الآيتان: 164 - 165.

أ - عن ابن عباس رضي الله عنهما ((أن قريشاً منعوا الرسول عليه الصلاة والسلام الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله} الآية (¬1). وفي رواية أخرى: ((عن عبد الرحمن بن زيد أنه قال: هم المشركون حين صدوا رسول الله عن البيت يوم الحديبية)). ب - وعن ابن عمر رَضْيَ اللَّهُ عنْهمَا قال: ((كان النبي يصلي على راحلته تطوعاً أينما توجهت به، ثم قرأ ابن عمر: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬2) ((الآية)). والآية أباحت للمصلي كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام. {وَمَنْ أَظْلَمُ}: هذا الاستفهام للنفي: أي لا أحد أظلم، دلت الآية على هذا الظلم بأنه بلغ نهايته. {أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}: له ثلاثة أوجه في الإعراب. الأول: أنه بدل من مساجد. وتقدير المعنى: ومن أظلم ممن منع مساجد الله بمنع ذكر اسمه فيها. الثاني: أنها مفعول له: ( ... كراهية أن يذكر فيها اسمهُ .. ) أو ( ... من أن يذكر فيها اسمه). ¬

(¬1) متفق عليه، البخاري، برقم 400، ومسلم، برقم 540، وهذا لفظ الترمذي، برقم 2958. (¬2) سورة البقرة، الآية 165.

الثالث: أنها مفعول ثان للفعل (منع)، ومَنَع: تنصب مفعولين: المفعول الأول: مساجد. الثاني: ذكر اسم الله (مصدر محول من مصدر مؤول). {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا}: قال المفسرون: هي أعم من قوله أن يذكر فيها اسمه؛ لأن السعي في خراب المساجد يشمل خرابها وزيادة. {لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}: أي الذل. {تُوَلُّواْ} تتجهوا. {فَثَمَّ}: هناك. أو هنالك. أي: أينما اتجهت. {إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}: وذلك بأنه وسع على عباده بتحليل ذلك لهم. الفوائد والأحكام: 1 - حرمة منع المسلمين من عمارة المساجد، وحرمة السعي في تخريبها. 2 - تعظيم أمر الصلاة ببيان أنها لمَّا كانت أفضل الأعمال وأعظمها أجراً، كان منعها أعظم إثماً. 3 - تعظيم أمر المساجد بالوعيد الشديد لمن يسيء إليها. 4 - وجوب العناية بالمساجد وإعمارها بالصلاة والذكر. 5 - بيان أن المساجد لله، وليست مملوكة لمن يبنيها، وأن من بنى مسجداً على أرض له وجعلها للمسلمين، خرجت الأرض والمسجد عن

جملة أملاكه وصار للمسلمين. 6 - وجوب حماية المساجد من دخول الكفار إليها. 7 - وجوب إظهار شوكة المسلمين وقوتهم؛ لإخافة أعداء الله. 8 - جواز الصلاة النافلة على الراحلة في السفر إلى غير جهة القبلة. 9 - سقوط شرط استقبال الكعبة عند الصلاة المكتوبة عند التباس أمر القبلة على المصلي. 10 - بيان فضل سعة الله وفضله، وأن الشرائع مبنية على التيسير والتخفيف. 11 - اختلف العلماء في صحة الصلاة المكتوبة عند التباس القبلة على المصلي: فذهب الشافعية إلى أنها لا تجزئه، واستدلوا على ذلك بأن القبلة أي استقبال القبلة شرط من شروط الصلاة، فلا يكون الخطأ عذراً في تركها، وذهب الجمهور إلى صحة الصلاة من غير إعادة، مع استحباب [الإمام] مالك الإعادة في الوقت، واستدل الجمهور بما رواه ابن ماجه والترمذي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: ((كنا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فنزل قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله})) (¬1). ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، برقم 2957، وابن ماجه، برقم 1020، وحسنه العلامة الألباني في إرواء الغليل، 1/ 323. والآية 115من سورة البقرة.

وقد أجيب على استدلال الشافعية بأن هذه من حالات الضرورات التي تبيح المحظورات، وقد اتفق العلماء على صحة صلاة المجاهد إلى أي جهة حال المسايفة، وهي الضرب بالسيف، فهذه ضرورة أباحت للمصلي ترك القبلة.

تفسير د. الزناتي قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ*وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1). * القصاص في الاصطلاح: أن يُفعل بالجاني مثل فعله، إن قَتَل يُقتل، وإن جَرحَ يُجرح. {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ}: دلالة على أن القتل أمر عارض على المجتمع؛ لأنه جعلهم إخوة. {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}: إذا عرف الناس أن القاتل يُقتل كفّوا عن القتل، فإذا انعدم القتل كسبنا حياتين: - الحياة الأولى: حياة للمقتول (أو الشخص الذي أريد به القتل) بحيث امتنع عمن أراد القتل عن قتله. - الحياة الثانية: حياة للقاتل بحيث امتنع عن القتل فلا يقتل. حدود الإسلام ستة: وقد شرعت لحفظ ستة حقوق، وهي: ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان: 178 - 179.

1 - حق الحياة: وصيانة لهذا الحق فقد شرع القصاص. 2 - حق الدين: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)) (¬1)، وهم المشركون المتعصبون ضد الإسلام، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدّل دينه فاقتلوه)) (¬2). 3 - حق المال: كفل الإسلام حق الملكية الخاصة، فشرع قطع يد السارق. 4 - حق العرض: شرع حد الزنى لحفظ العرض، وشرع حد القذف. 5 - حق العقل: ولذلك شرع حد الشارب. 6 - حق الأمن العام: لذلك شرع حد الحرابة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} (¬3) الآية. أولاً: حد القصاص: الرأي الأرجح: أن الحدود زواجر وجوابر، بحيث ينزجر فاعله، ¬

(¬1) البخاري، برقم 25، ومسلم، برقم 21، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬2) البخاري، برقم 3017، عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) سورة المائدة، الآية: 33.

وينجبر الخطأ الذي فعله. (زواجر): لمن شاهد. - هل يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي؟ رأيان للعلماء: 1 - لا يجوز قتل الحر بالعبد، ولا المسلم بالذمي، وهو رأي كل من الشافعية، والمالكية، وأحمد. 2 - يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، وهو قول أبي حنيفة. * أدلة الجمهور: 1 - {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (¬1) الآية. قال: فاشترطت الآية المساواة في النوع، وعلى ذلك لا يجوز قتل الحر بالعبد؛ لأن العلماء أخذوا بمنطوق الآية. 2 - قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقتل مسلم بكافر)) (¬2) .. 3 - (بالمعقول): قالوا: إن العبد مثل السلعة، وصاحب السلعة قد يتلفها ولا يضمنها، ثم إن العبد جاء نتيجة الكفر، والقتال، فهو شر الدواب. * أدلة أبي حنيفة: استدل أبو حنيفة بسبعة أدلة: 1 - عموم الآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (¬3)، والجزء الآخر ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 178. (¬2) البخاري، برقم 111، عن أبي جحيفة عن علي - رضي الله عنه -. (¬3) سورة البقرة، الآية: 178.

من الآية هو مقابل ما كان موجوداً في الجاهلية. 2 - الآية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬1) الآية، فشرع من قبلنا شرع لنا إن لم ينسخ. 3 - عموم قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا} (¬2). 4 - قوله عليه الصلاة والسلام: ((المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده)) (¬3). 5 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن خصى عبده خصيناه)) (¬4). 6 - واستدل من السنة بما رواه البيهقي بسنده، وضعفه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلماً بمعاهد. وقال: ((أنَا أَحَقُّ مَنْ أَوْفَى بِذِمَّتِه)) (¬5). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 45. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 33. (¬3) رواه أبو داود، برقم 2753، والنسائي، برقم 4746 عن علي - رضي الله عنه -، وصححه الحاكم، 2/ 141، والألباني في صحيح أبي داود، برقم 2390. (¬4) [رواه أبو داود، برقم 4517، الترمذي، برقم 1414، وحسنه، وابن ماجه، برقم 2663، والنسائي، برقم 4736، والحاكم، 4/ 367، وصححه، ووافق عليه الذهبي. (¬5) مسند الشافعي، 1/ 412، والدارقطني، 3/ 135، والسنن الكبرى للبيهقي، 8/ 30.

7 - استدلال عقلي: إن مال العبد يقطع به، فكذلك روح العبد إذا أزهقت يقتص بها؛ لأن حرمة الروح أولى من حرمة المال، فيقتل من قتل عبده. الراجح هو: [ما ذهب إليه] أبو حنيفة في الشق الأول (الحر بالعبد)؛ لكثرة الأدلة، مع الدليل العقلي. [وما ذهب إليه] الجمهور: هو أرجح في عدم قتل المسلم بالذمي. الحكم الثالث: هل يقتل الوالد إذا قتل ولده؟ 1 - الجمهور: ومنهم مالك في أحد قوليه: لا يقتل والد إذا قتل ولده؛ لقوله - عليه السلام -: ((لا يقتل الوالد بالولد)) (¬1). [رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، عن عمر - رضي الله عنه -]. دليل العقل: (أن الأب كان سبباً في وجود ابنه، فلا يعقل أن يكون الابن سبباً في عدم أبيه (قتله). 2 - يقتل بولده إذا تعمد قتله، وأضجعه وذبحه متعمداً. (قول مالك الآخر). 3 - يقتل به لعموم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (¬2) الآية. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، برقم 1400، وابن ماجه، برقم 2662، وأحمد، برقم 147، والدارقطني، 3/ 141، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 2157. (¬2) سورة البقرة، الآية: 178.

ولعلهم لا يقبلون أخبار الآحاد في مواجهة عموم القرآن، وعلى ذلك فالرأي الراجح هو: رأي الجمهور الذي ينص على عدم قتل الأب بابنه؛ ولأن الشفقة تمنعه من قتل ابنه. الحكم الرابع: هل يقتل الجماعة بالواحد: اختلف الفقهاء رحمهم الله على رأيين: 1 - مذهب الجمهور: أن الجماعة تقتل بالواحد. 2 - رأي أبي داود الظاهري، ورواية عن أحمد: لا تقتل الجماعة بالواحد. الأدلة: دليلان لجمهور أهل العلم: استدل الجمهور: بفعل عمر بن الخطاب، وإجماع الصحابة على ذلك، أنه أمر بقتل سبعة رجال تمالأوا على قتل غلام باليمن. وما روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمنٍ لأكبهم الله في النار)) (¬1). إذا كان هذا جزاءهم في الآخرة، فلماذا لا يعاقبون في الدنيا، إذا اشتركوا في الأخروية، فالدنيوية من باب أولى؟ ثم إن الله شرع القصاص حفاظاً على المجتمع من القتل، فإذا وجد ¬

(¬1) رواه الترمذي، برقم 1398 عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 103.

القتل من واحد يمنعه القصاص، وكذلك الجماعة. استدلال الظاهرية: استدلوا بظاهر {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (¬1)، وظاهر {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬2). والراجح: ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن القصاص شرع لمنع القتل. الحكم الخامس: كيف يقتل الجاني عند القصاص: - على قولين: 1 - مالك، والشافعي، ورواية عن أحمد: القصاص يكون بنفس الطريقة التي قتل بها المقتول. (حرقاً بحرق، ورضخاً برضخ ... ). 2 - أبو حنيفة، ورواية عن أحمد: القتل لا يكون إلا ضربة بالسيف؛ لأن الغرض إتلاف نفس بنفس. أدلتهم: (لا قود إلا بالسيف). و (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المثلة). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قتلتم فأحسنوا القتلة)) (¬3). ولأن القتل بنفس الطريقة لا تضمن المماثلة والتساوي، وعليه فالرأي الثاني هو الراجح لكثرة الأدلة، وصحة الدليل العقلي. الحكم السادس: ما حكم من قتل بعد أخذ الدية؟ أربعة أقوال: ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 178. (¬2) سورة البقرة، الآية: 178. (¬3) رواه مسلم، برقم 1955، عن شداد بن أوس - رضي الله عنه -.

1 - مالك والشافعي: هو كمن قتل ابتداء، يقام عليه القصاص. 2 - عذابه أن يقام عليه القصاص، ولا تؤخذ منه الدية، ولا يمكن الولي من العفو عنه. (عكرمة، والسدي). 3 - أن يرد الدية. 4 - عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام. والثاني: أرجح؛ لأنه على [ظاهر] الآية. الحكم السابع: من الذي يتولى بعد أخذ القصاص. ولي الأمر (بإجماع العلماء) - هل يقتص السلطان من نفسه إذا اعتدى على بعض رعيته؟ نعم. مقاصد أهداف الآيات الكريمة: 1 - تشريع القصاص فريضة من الله لعباده المؤمنين، وذلك لصلاحهم وسعادتهم. 2 - القصاص يقلل الجرائم، ويقضي على الضغائن، ويربي الجناة. 3 - في القصاص حياة النفوس، وحماية الأفراد والمجتمعات البشرية. 4 - الاعتداء على غير القاتل من العصبية الجاهلية التي حرمها الإسلام. 5 - وجوب المماثلة في القصاص، حتى لا ينتشر البغي والظلم. 6 - وجوب دفع الدية على القاتل إذا عفا أهل القتيل، ورضوا بالدية.

7 - تخفيف العقوبة رحمة من الله على أمة الإسلام دون غيرها. قال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ*فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ (¬1)}. * آيات الوصية حكم شرعي جديد توسط حكمين هما: القصاص، والصيام. مناسبة الآيات هذه لما قبلها: لما تحدثت الآيات السابقة عن أحكام القصاص وما يتعلق به، جاءت هذه الآيات بتشريع جديد (حكم جديد) وهو حكم الوصية للوالدين والأقربين. {حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}: حضور الموت: ظهور أسبابه ودواعيه وعلاماته، وقدم المفعول على الفاعل. والآية فيها استعارة مكنية حيث شبه الموتى بشخص يحضر، وحذف المشبه به، وأتي بلازم من لوازمه وهو الحضور. {إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ}: إن: شرطية. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيات: 180 - 182.

ترك: فعل شرط. وجوابه على رأيين: 1 - إن ترك خيراً، فالوصية ... ، ثم حذفت الفاء. 2 - محذوف دل عليه ما قبله، أي جوابه مقدر قبله (كتب الوصية للوالدين والأقربين، إن ترك خيراً). * ختم الله سبحانه الآيات، بحيث جعل في هذه الآيات انسجام بين الحروف والكلمات والفواصل والآيات. * ختم الله بقوله: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. الأحكام الشرعية في الآيات: 1 - هل هذه الآيات محكمة أم منسوخة؟ رأيان للعلماء: أ - الآيات محكمة؛ لأنها وإن كان ظاهرها العموم، إلا أنها تصلح للخصوص. قاله الضحاك، وطاوس والحسن، واختاره الإمام الطبري .. ب - مذهب الجمهور: على أن الآية عامة، وعمل بها مدة زمنية، ثم نسخت بآيات المواريث في سورة النساء، ونسخت بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)) (¬1). ¬

(¬1) رواه أبو داود، برقم 2872، والترمذي، برقم 2120، وابن ماجه، برقم 2713، والنسائي، برقم 3641، عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه -. قاله قتادة، وابن عباس، والحسن. وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 2494.

2 - ما هو مقدار المال الذي تجب فيه الوصية: - لابد أن يكون المال كثيراً. - قيل: قال بعضهم: أقله سبعمائة دينار. وقال بعضهم: هو ما زاد على خمسمائة. والرأي الثاني: أن الوصية واجبة في المال قل أو كثر، والأول أرجح. 3 - هل الوصية تجب على من عليه دين، وله عند الناس ودائع؟ أجمع العلماء أنها تجب عليه. 4 - ما مقدار الوصية؟ [مقدارها الثلث، والثلث كثير]. أهداف ومقاصد آيات الوصية: 1 - حرص الإسلام على صلة الرحم، والحث على صلتها وبرها، ولو بعد الموت. 2 - أحقية الوالدين من بين القرابات في كل بر وصلة، ورحمة، وأنهما الأولى في ذلك. 3 - مشروعية النسخ في أحكام الشريعة من أجل مصلحة الفرد والجماعة. 4 - وقوع إثم التبديل في الوصية على من سمعها من الموصي، قبل موته إن كانت شرعية. 5 - جواز التبديل في الوصية، والإصلاح بذلك إذا كان الخطأ أو الظلم

من الموصي نفسه. 6 - جمال التذييل في الآيات الكريمة يدل على بلاغة ودقة وإحكام آيات القرآن وسوره .. قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ*أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1). * مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: هي آيات تتضمن حكماً شرعيّاً تلي حكماً شرعيّاً آخر، تحدث أولاً عن القصاص، ثم الوصية ثم الصيام. تفسير د. الزناتي، الثلاثاء: 22/ 7/1422هـ‍ {شَهْرُ رَمَضَانَ} (¬2): شهر: أتى مرفوعاً لاعتبارات ثلاث: أ - مبتدأ، وخبر صلة. ب - خبر لمبتدأ محذوف: الشهر الواجب صيامه شهر رمضان. ج - بدل من الصيام في الآية الأولى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان: 183 - 184. (¬2) سورة البقرة، الآية: 185.

وفي قراءة: بالنصب: شهرَ رمضانَ: تقديره: صوموا شهر رمضان، منصوب على الإغراء. {أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}: فيه ثلاثة أقوال: 1 - أي أنزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا. 2 - أي أنزل أول القرآن في رمضان (اقرأ). 3 - أي أنزل في بيان شأنه وعلوه، وبيان أهميته (بيان أهمية رمضان). {هُدًى} حال، أو مفعول لأجله. هناك ارتباط بين القرآن وشهر رمضان، حيث إنه شهر القرآن، فقراءته مضاعفة في هذا الشهر. {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ}: هذه الآية نسخت الآية التي قبلها، أبقت هذه الآية رخصة الصيام والسفر، ونسخت الفدية. {أَوْ عَلَى سَفَرٍ}: فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة .. وهذا تقدير محذوف؛ للإيجاز. {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}: أي يقضي في الأيام الأخرى. {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ}: اليسر لا يأتي إلا مع المشقة الشديدة. * بين كلمة {الْيُسْرَ}، و {الْعُسْرَ} محسِّنان بديعيان: جناس وطباق، وبين {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ}، {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}: مقابلة. الأول: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .. أجزاء الآية معطوفة.

الآخر: * الأحكام الشرعية في هذه الآيات: 1 - ما هو المرض والسفر المبيح للإفطار؟ اختلف العلماء على ثلاثة أقوال: الأول: وهو قول جمهور الفقهاء: ((إن المرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يُؤدِّي إلى ضرر في النفس، أو زيادة في العلَّة، أو تأخر في الشفاء، وكذلك السفر الطويل الذي يؤدي غالباً إلى جهد ومشقة شديدة. وهو قول الأصم: إن هذه الرخصة مخصوصة للمريض الذي لو صام لوقع في أدنى مشقة وجهد، وكذلك المسافر الذي يضنيه السفر ويجهده ولو قليلاً. الظاهرية: إن مطلق المرض والسفر يُبيح لنا الإفطار، حتى ولو كان المرض يسيراً، والسفر قليلاً؛ لأن القرآن أطلقه ولم يُقيِّده. الراجح: بالنظر في هذه الأقوال نرى أن الأول أرجح. سبب الترجيح: لأن هذا القول يقبله العقل بقبول حسن؛ لأن الحكمة التي من أجلها رخص للمريض والمسافر الفطر هو اليسر، ولا يكون ذلك موجوداً إلا عند وجود المشقة الشديدة والسفر الطويل. 2 - ما هي المسافة التي يباح فيها الإفطار للمسافر؟ ثلاثة آراء:

الرأي الأول: قاله الأوزاعي: (إن السفر المبيح للفطر مسافة يوم). وحجته: أن السفر في أقل من يوم قد يتفق للمقيم، والغالب أن المسافر هو الذي لا يمكنه الرجوع إلى أهله في نفس اليوم، فلا بد أن يكون أقل مدة السفر يوم واحد. الرأي الثاني: للشافعي، وأحمد: قالوا إن السفر المبيح للفطر هو: يومان وليلتان، ويقدر بـ16 [ستة عشر] فرسخاً. قال أهل اللغة: البريد الواحد: أربعة فراسخ: فيكون المجموع 16 [ستة عشر] فرسخاً.

3 - الفوائد المقتطفة من مصطلح الحديث

3 - الفوائد المقتطفة من مصطلح الحديث د. محمد الفهيد، الثلاثاء 16/ 6/1422هـ‍ مفردات منهج الحديث أولاً: تقسيم الحديث باعتبار طرقه إلى: متواتر، وآحاد، والآحاد إلى: غريب، وعزيز، ومشهور، ومستفيض، وتعريف كل نوع، وذكر مثال له. ثانياً: تقسيم الآحاد إجمالاً إلى صحيح، وحسن، وموضوع. ثالثاً: تعريف الصحيح، وشرح التعريف، وبيان قولهم: حديث صحيح، أو صحيح الإسناد. رابعاً: جواز التصحيح والتحسين لمن تأهل لذلك. خامساً: أول من صنف في الصحيح المجرد. سادساً: أصحّ كتب الحديث والمفاضلة بين الصحيحين. سابعاً: إفادة ما روياه - أو أحدهما - العلم، وبيان الآراء في ذلك. ثامناً: عدم استيعاب الصحيحين لكل الأحاديث الصحيحة. تاسعاً: حكم المعلّق فيهما، والمنتقد عليهما، أو على أحدهما، والجواب عنه. عاشراً: مصادر الأحاديث الصحيحة في غير الصحيحين، كالسنن الأربع، وصحيح ابن حبان، وابن خزيمة، والمستدركات، والمستخرجات. الحادي عشر: أقسام الحديث الصحيح. الثاني عشر: الخبر المحتف بالقرائن، وأنواعه، وإفادته للعلم.

الثالث عشر: أصحّ الأسانيد، وفائدتها. الرابع عشر: الصحيح لذاته، والصحيح لغيره. [توفي الابن عبد الرحمن رحمه الله قبل إكمال شرح هذه الفوائد في مصطلح الحديث، عوّضه الله خيراً مما فاته وغفر له].

4 - الفوائد المقتطفة من الحديث

4 - الفوائد المقتطفة من الحديث د. خليل، الأحد 21/ 6/1422هـ‍ الحديث الأول: * أخرج أبو داود بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا: أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته)) (¬1). * ترجمة راوي الحديث: أبو هريرة: هو الصحابي الجليل، الحافظ، المكثر من الرواية، اختلف في اسمه، واسم أبيه. قال ابن عبد البر: الذي تسكن النفس إليه من الأقوال أنه عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وبه قال إسحاق وغيره، وقد اشتهر بكنيته حتى لا يكاد يذكر باسمه. أسلم عام خيبر، وشهدها مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولازم الرسول عليه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، برقم 83، واللفظ له، والترمذي، برقم 69، وابن ماجه، برقم 386، والنسائي، برقم 59، وأحمد، برقم 7233، وابن أبي شيبة، برقم 1389، وصححه ابن خزيمة، برقم 111، وأخرجه مالك، 2/ 29، والشافعي، برقم 42، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 76.

الصلاة والسلام. حتى كان أكثر الصحابة حديثاً. قال أبو أحمد الحاكم: ذكر لأبي هريرة في مسند بقي بن مخلد: 5374 حديثاً، وهو أكثر الصحابة حديثاً، فليس لأحد من الصحابة هذا القدر من الرواية، ولا ما يقاربهُ. ويرجع إكثاره إلى أسباب: ومنها: 1 - ملازمة أبي هريرة للرسول - صلى الله عليه وسلم -. 2 - دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام له بالحفظ. 3 - صفاء ذهنه وشدة ذكائه. 4 - حرصه، وتعاهده لمجالس الحديث. 5 - تفرّغه، وانعدام ما يشغله. 6 - تأخُّر وفاته حتى احتاج الناس إليه. وقد كثر تلاميذه، حتى قال الإمام البخاري رحمه الله: رَوَى عن أبي هريرة أكثر من ثمانمائة رجل من صاحب وتابع، وقد استعمله عمر على البحرين ثم عزله، ثم أراده على العمل فامتنع. أخرج له الشيخان 325 حديثاً، وانفرد البخاري بـ93، ومسلم بـ189 حديثاً، وتوفي في المدينة سنة 7، أو 8، أو 59هـ‍رحمه الله، ورضي عنه. قوله: ((هو الطهور)): أي المطهر، قال ابن الأثير: والماء الطهور في الفقه هو الذي يرفع الحدث، ويزيل النجس؛ لأن فعولاً من أبنية المبالغة،

فكأنه كناها في الطهارة، والماء الطاهر غير الطهور هو الذي لا يرفع الحدث، ولا يزيل النجس، كالمستعمل في الوضوء والغسل. وقال الزرقاني: الطهور هو البالغ في الطهارة، ومنه قوله: (الطهور) أي طاهراً في ذاته مُطهِّراً لغيره، قال الصنعاني: ((فأفاد [النبي]- صلى الله عليه وسلم -: أن ماء البحر طاهر مطهر لا يخرج عن الطهورية .. )) ص17 - 18. من سبل السلام. - حلول الميتة في الماء لا تخرجه عن الطهورية، كما هو الحال في البر. قوله عليه الصلاة والسلام: ((ماؤه)) بالرفع: فاعل الطهور، وقوله: ((الحل)): أي الحلال كما في رواية الدارقطني عن جابر، وأنس، وابن عمرو. ((ميتته)): بالرفع فاعل الحل، وقد اختلف أهل العلم في حل غير السمك من دواب البحر. وفيما يلي عرض لأهم أقوالهم: 1 - قال الحنفية: يحرم أكل ما سوى السمك. 2 - قال مالك: يباح كل ما في البحر. 3 - عن الشافعية أقوال ثلاثة، وقد لخّصها ابن حجر: لا خلاف بين العلماء في حِلِّ السمك على اختلاف أنواعه، وإنما اختلفوا فيما كان على صورة حيوان البر: كالكلب، والخنزير، والثعبان، فعند الحنفية، وهو قول للشافعية: يحرم، ما عدا السمك، وعن الشافعية: الحل مطلقاً على الأصحّ المنصوص، وهو مذهب

مالك إلا الخنزير، وحجتهم في ذلك قوله - سبحانه وتعالى -: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ... } (¬1) الآية. ومن السنة حديث أبي هريرة هذا. وعن الشافعية قول ثالث: ما يؤكل نظيره في البر حلال، وما لا فلا. واستثنوا على الأرجح ما يعيش في البر والبحر، وهو نوعان: - النوع الأول: ما ورد في منع أكله شيء يخصه كالضفدع للنهي عن قتله، والتمساح؛ لكونه يعدو بنابه، ومثله القرش، والثعبان، والعقرب، للاستخباث والضرر اللاحق من السم. - النوع الثاني: ما لم يرد في حكمه مانع: فيحل أكله بشرط التذكية، كالبط وطير الماء. وقد أجاب الأحناف عن قوله: ((الحل ميتته)) بأن المراد من الميتة السمك لا غيره. بدليل حديث ابن عمر رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحلت لنا ميتتان ودمان .. )) (¬2) الحديث. يؤخذ من الحديث الأحكام الآتية: 1 - فيه أن الطهور: هو الماء المفطور على خلقته، السليم في نفسه، الخالي من الأعراض المؤثرة فيه. ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 96. (¬2) أخرجه أحمد، برقم 5723، وابن ماجه، برقم 3314، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 2679.

2 - فيه أن العالِم والمفتي إذا سُئل عن شيء وهو يعلم أن للسائل حاجة إلى معرفة ما وراءه مما يتصل بمسألته كان مستحباً له تعليمه إياه، والزيادة في جواب المسألة لأنهم سألوه عليه الصلاة والسلام عن ماء البحر فحسب، فأجابهم عن مائه وطعامه، لعلمه بحاجتهم إلى الماء والطعام. 3 - فيه أن على العالم أن يُزيل ما قد يُشكل بالنسبة للسائل، فقد أخبرهم عليه الصلاة والسلام بأن ميتة البحر حلال، بخلاف سائر الميتات؛ لئلا يتوهموا أن ماء البحر ينجس بحلولها إياه. 4 - فيه دليل على أن السمك الطافي حلال، وأنه لا فرق بين ما كان موته في الماء، وبين ما كان موته خارج الماء. 5 - فيه دليل لمن ذهب إلى حكم جميع أنواع الحيوان التي تسكن البحر إذا مات فيه الطهارة، إلا ما استثني بدليل شرعي. الحديث الثاني: أخرجه الترمذي بسنده عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)) (¬1). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، برقم 66، والترمذي، برقم 66، والنسائي، برقم 325، وأحمد، برقم 2100، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 60.

وقال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد. ترجمة راوي الحديث: هو سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن عبيد (أبو سعيد الخدري) الأنصاري الخزرجي، مشهور بكنيته، وهو من أعلام الصحابة وفضلائهم، وكان من الحفّاظ لحديث رسول الله المكثرين، أول مشاهده الخندق، وغزا مع رسول الله اثنتي عشرة غزوة، وروى عنه من الصحابة: جابر، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وابن عمر، وأنس، وابن الزبير وغيرهم، ومن الأتباع: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة، وعطاء بن يسار، وعُرف أبو سعيد بالاستقامة، والحرص على الحق، وهو الذي روى حديث النهي عن المنكر، وطبَّقه عمليّاً حيث جذب مروان بن الحكم من ثوبه عند تغييره السنة، بتقديم خطبة العيد على الصلاة. روي له في كتب السنة 1170 حديثاً، اتفق الشيخان على 111 حديثاً، وانفرد البخاري بـ16، ومسلم بـ52. توفي بالمدينة سنة 74 وله 86 سنة. (أسد الغابة)، 2/ 451. رحمه الله ورضي عنه.

5 - الفوائد المقتطفة من مقدمة أصول الفقه

5 - الفوائد المقتطفة من مقدمة أصول الفقه د. ثابت، الاثنين 14/ 6/1422هـ‍ المستوى الأول شريعة مقدمة أصول الفقه تعريف أصول الفقه: لفظ أصول الفقه له اعتباران: أحدهما قبل أن يجعل علماً ولقباً على هذا العلم المعروف المخصوص، والآخر بعد جعله علماً ولقباً عليه، فإذا نظرنا بالاعتبار الأول وجدناه مركباً إضافيّاً من كلمتين: هما: أصول - وفقه، وحينئذ يتوقف معرفة أصول الفقه على معرفة هاتين الكلمتين. فلا يعرف معنى هذا اللفظ إلا إذا عرف معنى أصول الفقه، وإذا نظرنا إليه باعتبار الثاني، أي بعد جعله لقباً وعلماً على علم أصول الفقه وجدناه: لفظاً مفرداً لا يدل جزؤه على جزء معناه، فكلمة أصول وحدها لا تدلّ على شيء، وإنما الذي يدلّ على المقصود: هو مجموع الكلمتين، ولهذا لابد من تعريف أصول الفقه بالاعتبارين. أصول الفقه: باعتبار معناه الإضافي (قبل جعله علماً ولقباً). سبق أن ذكرنا أن أصول الفقه قبل جعله علماً ولقباً على هذا العلم: مركب من كلمتين (تركيب إضافي)، هما: (أصول)، و (فقه)، ومعلوم أن معرفة المركب متوقفة على معرفة جميع أجزائه، وحينئذ لابد من معرفة كل جزء على حدة حتى يمكن معرفة هذا المركب.

أصول: جمع أصل، والأصل في اللغة: يطلق على ما يُبنى عليه غيره؛ سواء كان الابتناء حسيّاً أم عقليّاً. فالابتناء الحسي: مثل ابتناء السقف على الحائط. والابتناء العقلي: مثل ابتناء المدلول (وهو الحكم) على الدليل، مثل قوله سبحانه: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} (¬1): فإن هذا الدليل أصل لوجوب الصلاة. (الأصل في الاصطلاح): وهو يختلف باختلاف المصطلحين، فما اصطلح عليه أهل علم غير ما اصطلح عليه أهل علم آخر. فالأصل عند الفقهاء: يطلق على الدليل التفصيلي، فيقولون: الأصل في وجوب الصلاة: قوله سبحانه: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}. (وأما الأصل عند الأصوليين) فيطلق على ما يلي: 1 - يطلق على القاعدة الكلية مثل: كل أمر للوجوب فهو يعتبر قاعدة للوجوب كلية، وأصلاً من أصولهم يعتمد عليه. 2 - يطلق على الدليل الإجمالي، وهو: الكتاب، السنة، الإجماع، القياس، وغيرها من الأدلة المختلف فيها مثل: الاستحسان، المصالح المرسلة، وقول الصحابي، وغير ذلك. 3 - قد يطلق الأصل على المقيس عليه: كقوله: الخمر أصل للنبيذ. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 43.

أي المحل الذي قيس النبيذ عليه. 4 - قد يطلق الأصل على الراجح مثل: الأصل في الكلام الحقيقة، أي الراجح في الكلام الحقيقة دون المجاز. 5 - يطلق الأصل على المستصحب، كقولهم: تعارض الأصل والطارئ: أي تعارض الشيء المستصحب. والراجح من هذه الإطلاقات: أن الأصل يطلق على الدليل الإجمالي؛ لأنه هو الذي يبحث عنه علم الأصول. (والفقه يطلق في اللغة بثلاث إطلاقات): 1 - أن الفقه في اللغة: مطلق الفهم، سواء كان الفهم دقيقاً أم جليّاً، غرضاً لمتكلم أو ليس غرضاً له، وإلى هذا ذهب الآمدي، وهو الراجح. 2 - أن الفقه في اللغة: خاص بفهم غرض المتكلم من كلامه، دقيقاً أم جليّاً (أي الغرض)، فلا يطلق على غيره مما ليس غرضاً، كالطير والحيوان، وإلى هذا ذهب الإمام الرازي. 3 - أنه خاص بفهم الأشياء الدقيقة، سواء أكان غرضاً لمتكلم أم لا، فلا يطلق على الأمور الجلية الظاهرة، فلا يقال: فهمت (فقهت) أن السماء فوقنا، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق المروزي. والراجح من هذه الإطلاقات هو الإطلاق الأول، وهو أن الفقه في اللغة: مطلق الفهم؛ لأنه مؤيَّد بالقرآن، وبكلام العرب.

أما من القرآن: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ} (¬1) الآية وقال: {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (¬2)} وجاء في كلام العرب: (الفقه فهم الشيء). الفقه في الاصطلاح: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية، المكتسب من أدلة الأحكام (أدلتها) التفصيلية. شرح التعريف: قوله: العلم: مطلق الإدراك الشامل للتصور والتصديق، سواء أكان إدراكاً للذات، كالعلم بذات محمد، أم إدراكاً للنسب التامة التي يحسن السكوت عليها، كالعلم بأن محمداً قائم، أو النسب الناقصة، وهي التي لا يحسن السكوت عليها، كغلام محمد. وقوله: بالأحكام: قيد أول، وبدخوله على العلم، انصرف لفظ العلم إلى الإدراك الجازم المطابق للواقع، الناشئ عن الدليل. فيكون العلم بالأحكام تصديقاً لا تصوراً، فإن تصور الأحكام ليس من الفقه، والأحكام: جمع حكم، وهو في العرف اللغوي: ثبوت أمر لأمر آخر أو نفيه عنه، كثبوت الوجوب للصلاة في قولنا: (الصلاة ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 91. (¬2) سورة النساء، الآية: 78.

واجبة)، والحرمة للزنا في قولنا: (الزنى حرام)، أو نفي الحكم عن الشيء مثل (الوتر ليس بواجب). وقوله: الشرعية: أي المأخوذة من الشرع، وهو قيد ثان، والمراد بالشرع: أدلته، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والأدلة المختلف فيها، مثل: الاستحسان، المصالح المرسلة وغيرها. وخرج بقيد الشرعية: أ - الأحكام العقلية، كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين. ب - الأحكام الحسية: كالعلم بأن الشمس محرقة. ج - الأحكام الوضعية اللغوية: كالعلم بأن الفاعل مرفوع. وقوله: العملية: قيد ثالث، والمراد به: الأحكام المتعلقة بالعمل من حيث الكيفية. والعمل يطلق في العرف على ما يشمل أعمال العقلاء، فلا يشمل إذاً البهائم. والمراد هنا: أفعال الجوارح الظاهرة: كالصدقة، والزكاة، والحج. والباطنة: مثل: النية، والرياء، والحسد (والمراد بالباطنة هنا غير الاعتقادية)، فإن هذه الأعمال باطنة، وغير اعتقادية. وقوله: المكتسب: قيد رابع، وهو صفة للعلم؛ ولذلك يقرأ بالرفع، ولا يصح أن يكون مجروراً على أنه صفة للأحكام.

والأحكام جمع، والمكتسب مفرد؛ ولأن الأحكام مؤنثة والمكتسب مذكر، ولا يصح أن يكون صفة للأحكام؛ لأن الصفة تأخذ حكم الموصوف إفراداً وتذكيراً. والمراد بالمكتسب: الحاصل بعد أن لم يكن، فخرج بذلك علم الله بالأحكام؛ لأن علمه بالأحكام ليس مكتسباً، وإنما هو أزلي قائم بذاته تعالى؛ ولأنه ليس حاصلاً بعد أن لم يكن؛ لأن ذلك يستدعي سبق الجهل، وهو محال في حقه تعالى. ومعنى اكتساب العلم بالأحكام من الأدلة التفصيلية: استنباطها من الدليل التفصيلي، من جهة دلالة الدليل الدال عليها. وقوله: من أدلته (أدلتها) التفصيلية: المراد به أدلة الأحكام، وجيء بهذا القيد بالاحتراز عن العلم المكتسب من غير أدلة، كعلم جبريل، فإنه حاصل من اللوح المحفوظ، ومأخوذ منه، فهو ضروري لا كسبي، وخرج به أيضاً علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأحكام غير اجتهادية؛ فإن علمه بها مأخوذ من الوحي، وخرج به أيضاً علم الصحابة بالأحكام التي تلقوها عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة؛ لأنه مأخوذ بالتلقي، وخرج بالتفصيلية: علم المقلِّد؛ لأنه ليس مكتسباً من الدليل التفصيلي، وخرج به العلم الحاصل للخلافي، وهو من نصَّب نفسه لحفظ أحكام إمامه؛ لوجود ما يقتضيها، وعدم ما يخالفها. وخرج عن هذا التعريف: الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة (كوجوب الصلاة) بالنسبة للعامي؛ فإنه لم يأخذها من دليل تفصيلي،

وإن كانت هذه الأحكام في الأصل مكتسبة من الدليل التفصيلي. تعريف علم أصول الفقه باعتبار معناه اللقبي: عرف العلماء أصول الفقه باعتبار معناه اللقبي: أنه معرفة دلائل الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد. شرح التعريف: قوله: معرفة: المراد بها مطلق الإدراك الشامل للتصور والتصديق، وهو جنس في التعريف، يشمل معرفة الأدلة، ومعرفة غيرها، وبإضافة المعرفة إلى الدلائل علمنا أن المراد: التصديق، لا التصور، وهو الإدراك الجازم المطابق للواقع، الناشئ عن دليل. ودلائل: جمع دليل، والدليل في اللغة: المرشد للشيء والكاشف عن حقيقته، وهو في اصطلاح الأصوليين: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، سواء كان قطعيّاً أو ظنيّاً، وعلى هذا فهو يشمل جميع الأدلة المتفق عليها، والمختلف فيها، كالكتاب، والسنة، والإجماع، والاستصحاب. كما يشمل الأدلة القطعية: كالكتاب، والسنة المتواترة، والأدلة الظنية التي هي أمارات وعلامات على الأحكام. وبإضافة الدليل إلى الفقه (وبإضافة الدلائل إلى الفقه): خرج به معرفة دلائل غير الفقه، كمعرفة دلائل علم الكلام، ودلائل علم النحو، فلا تسمى معرفتها أصولاً؛ لأن الأصول: معرفة دلائل الفقه، وهذا هو

القيد الثاني في التعريف. درس يوم الأحد 21/ 6/1422 هـ‍، د. ثابت. والمراد من معرفة الأدلة: معرفة الأحوال المتعلقة بهذه الأدلة، مثل أن يعرف أن الأمر يفيد الوجوب، وذلك عند عدم القرينة الصارفة عنه، وأن الإجماع يفيد الحكم قطعاً أو ظنّاً، وأن القياس يثبت الحكم ظنّاً. والإجمال لغة: الجمع والخلط. وفي عرف الأصوليين: يطلق على عدم الإيضاح، ومنه المجمل، والمراد به: (الدلائل الإجمالية): الدلائل الكلية غير المعنية بالشخص، كمطلق أمر أو نهي، ومطلق إجماع، ومطلق قياس، هو قيد ثالث: خرج به الأدلة التفصيلية للأحكام الشرعية. وقوله: وكيفية الاستفادة منها: مجرور بالعطف على دلائل، فيكون المعنى: معرفة دلائل الفقه، ومعرفة كيفية الاستفادة منها. وقوله: وحال المستفيد: أي معرفة حال المستفيد، وهذا المستفيد، هو خصوص المجتهد: أي الفقيه الذي يطلب حكم الله، عن دليل تفصيلي، وقيل إن المراد بالمستفيد: هو مطلق طالب حكم الله، فيدخل فيه المجتهد والمُقلِّد، وذلك أن المجتهد يستفيد الأحكام من الأدلة، والمقلد يستفيد الأحكام من المجتهد. والراجح هو الأول، ولا يصح إدخال المقلد في علم الأصول أصلاً.

ما هو موضوع علم أصول الفقه: اختلف العلماء على أقوال في تحديد موضوع علم أصول الفقه: الأول: أن موضوعه هو الأدلة السمعية الإجمالية الموصلة إلى الأحكام بطريق الاجتهاد بعد الترجيح عند تعارضها، وإلى هذا ذهب الجمهور، وعلى هذا فموضوع علم الأصول: هو الأدلة المتفق عليها: كالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والأدلة المختلف فيها بأنواعها، وكذا الترجيح بين الأدلة عند تعارضها، والاجتهاد باعتبار أن المجتهد هو الذي يستنبط الحكم، وكذا البحث عن العوارض الذاتية للأدلة السمعية ومعرفة أنواعها. الثاني: أن موضوعه: الأحكام الشرعية من حيث ثبوتها بالأدلة، وهي الأحكام التكليفية: كالإيجاب، والندب، والتحريم، والإباحة على القول بأنها تكليفية، والأحكام الوضعية: كالسببية، والشرطية، والمانعية، والصحة، أو الفساد، وهو قول بعض الحنفية. الثالث: أن موضوعه الأدلة والأحكام الشرعية، وإلى هذا ذهب صدر الشريعة، ولكل قول من هذه الأقوال ما يدعمه ويقويه، وإن كان أرجحها هو الأول.

6 - الفوائد المقتطفة من الفقه

6 - الفوائد المقتطفة من الفقه د. العجلان، الأربعاء 17/ 6/1422هـ‍ طرق دراسة المسألة: - التصور الصحيح للمسألة على نحو ما ذكره أهل العلم والفقهاء. - معرفة دليل المسألة؛ لأن كل حكم من الأحكام له دليل. - معرفة القول المخالف والراجح في هذه المسألة، وهو ليس مهمّاً لمن هو في بداية الطلب؛ لأنه أمر نسبي يمكن أن يختلف. * من فوائد دراسة المسألة: 1 - معرفة تعليلات المسألة. 2 - إدراكه لشتات المسألة، وجمعها في الباب.

الروض المربع (مع حاشية ابن قاسم)

الروض المربع (مع حاشية ابن قاسم) الأستاذ/ عبد الله البوصي السبت 20/ 6/1422هـ‍. س1: عرف الطهارة لغة واصطلاحاً؟ ج1: لغة: النظافة، والنزاهة عن الأقذار. اصطلاحاً: ارتفاع الحدث وما في معناه، وزوال الخبث. س2: ما المراد بالحدث في الاصطلاح؟ ج2: الوصف القائم بالبدن، المانع من الصلاة ونحوها. س3: ما المراد بقول الفقهاء: (وما في معناه) مع الأمثلة؟ ج3: أي ما يأخذ حكم ارتفاع الحدث، مثل الحاصل بغسل الميت، وما زاد عن الغسلة الأولى في الوضوء. س4: اذكر خلاف العلماء في التطهر بماء البحر مع الاستدلال والمناقشة والترجيح؟ ج4: على قولين: الأول: أنه لا بأس به، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((هو الطهور

ماؤه، الحل ميتته)) (¬1)، وهو قول أهل العلم قاطبة، حكاه غير واحد. الثاني: ما ذكره ابن عمر في ماء البحر: التيمم أعجب إليَّ منه، واستدل بحديث: ((إن تحت البحر ناراً)) (¬2)، وهو ضعيف، والأول أرجح. س5: لماذا عبّر الفقهاء بقولهم: (زوال الخبث) بدلاً من إزالة الخبث؟ ج5: لأنه قد يزول بنفسه، والإزالة يفهم منها تدخل الآدمي، وليس ذلك شرطاً. س6: بيِّن الفرق بين إزالة النجاسة ورفع الحدث؟ ج6: إزالة النجاسة لا تشترط فيها النية، بينما رفع الحدث يشترط فيها النية. س7: اذكر مذهب الحنابلة في تقسيم المياه إجمالاً ثم اذكر الراجح؟ ج7: مذهبهم: 1 - طهور. 2 - طاهر. 3 - نجس. والراجح: 1 - طهور. 2 - نجس. س8: ما هو الطهور عند الحنابلة؟ ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) سنن أبي داود، برقم 2491، والسنن الكبرى للبيهقي، 4/ 334، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، برقم 536.

ج8: هو الطاهر في نفسه، المطهر لغيره، وهو الباقي على خلقته. س9: ما هي النجاسة الحكمية مع التمثيل؟ ج9: ضد العينية، وهي التي يمكن تطهيرها، مثل النجاسة الطارئة على البدن والثوب. س10: ما هي النجاسة العينية مع التمثيل؟ وما حكم تطهيرها على المذهب مع الترجيح؟ ج10: هي التي لا يمكن تطهيرها بحال، كالبول، والعذرة، وحكم تطهيرها على المذهب أنها لا تطهر بحال، ولو بالاستحالة. والراجح: أن النجاسة العينية، تطهر بالاستحالة. س11:عرِّف النجاسة اصطلاحاً، مع ذكر أقسامها ممثلاً لكل قسم؟ ج11: قذر مخصوص، وهي ما يمنع جنسه الصلاة، أو: كل عين يحرم تناولها، لا لضررها كسم، ولا لقذارتها مثل المخاط، ولا لحرمتها كصيد الحرم. وأقسامها: 1 - نجاسة عينية. 2 - نجاسة حكمية.

س12: اذكر خلاف العلماء في الوضوء بغير الماء، مع الاستدلال والمناقشة والترجيح؟ ج12: على قولين: الأول: أنه لا يرفع الحدث غير الماء، وقد حكاه ابن المنذر، والغزالي، وعليه كان الإجماع، ولم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه أنه أو أحدهم توضأ بغير ماء. والثاني: ما روي عن عكرمة مرفوعاً، وأبي حنيفة من جواز الوضوء بالنبيذ، واستدلوا بحديث ابن مسعود: (أنه سئل عن الوضوء بالنبيذ فقال: ثمرة طيبة وطهور) (¬1)، وهو لا يثبت، والأول أرجح. س13: ما الحكم إذا تغير ماء بدهن، مع التعليل والترجيح؟ ج13: لا يسلبه الطهورية؛ لعدم الممازجة، وكره للخلاف في سلبيَّته للطهورية، والراجح أنه لا يكره. س14: ما الحكم إذا تغير ماء بملح مائي مع الدليل والراجح؟ ج14: ذكر المؤلف كراهيته، ولا يسلبه الطهورية؛ لأنه منعقد من الماء، وكره نظراً للتغيير الحاصل به؛ وللخلاف في طهوريته، هل يُطهِّر أم لا؟ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، برقم 84، وابن ماجه، برقم 384، والترمذي، برقم 88، ومسند ابن أبي شيبة، برقم 300. وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي، برقم 65.

والراجح أنه لا يكره؛ لعدم الدليل على الكراهة. س15: ما حكم ما سخن بنجس مع التعليل وذكر القول الراجح؟ ج15: لا يسلبه الطهورية، لكن كره لاحتمال وصول النجاسة، والراجح أنه لا يكره؛ لعدم الدليل على الكراهية. س16: ما حكم استعمال ماء بئر بمقبرة، مع التعليل والتمثيل؟ ج16: يكره، لاحتمال اختلاطه بالنجاسات، ومثل ذلك بقل، وشوك المقبرة. س17: ما حكم استعمال ماء زمزم على المذهب، مع التفصيل والاستدلال؟ ج17: يكره في إزالة الخبث تكريماً له، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إنها طعام طعم وشفاء سقم)) (¬1). ولا يكره في وضوء، ولا غسل، وهو قول الجمهور، وذلك لقول علي: ثم أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا بسجل من ماء فشرب وتوضأ (¬2). س18: ما حكم الوضوء بالماء الآجن، أو بماء تغير بمكثه، مع ذكر ¬

(¬1) رواه مسلم، برقم 2473، والبزار، 9/ 361، والبيهقي، 5/ 147. (¬2) رواه أحمد، برقم 564، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 45.

الدليل؟ ج18: لا يكره؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ((روي عنه أنه تمضمض وغسل وجهه من ماءٍ آجن، لما أُدمي وجهه يوم أحد)) (¬1). س19: ما الحكم إذا تغير الماء بما يشق صون الماء عنه، من نابت فيه وورق شجر مع التعليل؟ ج19: لا يكره، لعدم إمكانية التحرّز منه. س20: ما الحكم إذا تغيّر الماء بمجاورة ميتة مع الدليل؟ ج20: لا يكره، والدليل إجماع العلماء، ولعدم وجود خلاف في المسألة. س21: ما الحكم إذا وضع في الماء قصداً: ورق شجر ونحوه، وغيّره عن ممازجة، اذكر المذهب ثم اذكر الراجح بدليله؟ ج21: - المذهب: أنه يسلبه الطهورية. - الراجح: أنه لا يسلبه الطهورية. - الدليل: عدم وجود الدليل على التفريق. ¬

(¬1) رواه ابن حبان 8/ 62، برقم 6940، والبيهقي، 1/ 269، ونُقل فيه الإجماع عن ابن المنذر سوى ابن سيرين.

س22: ما حكم الماء المشمّس مع ذكر الدليل؟ ج22: لا يكره؛ لأن الصحابة دخلوا الحمّام ورخَّصوا فيه. س23: ما حكم الوضوء بالماء الذي اشتدت حرارته مع ذكر التعليل؟ ج23: كره، وذلك لمنعه كمال الطهارة. س24: ما حكم الماء القليل المستعمل في طهارة مستحبة على المذهب، مع الدليل، وذكر الراجح؟ ج24: مكروه على المذهب، والدليل: الخلاف في سلبه للطهورية. والقول الراجح: أنه لا يكره؛ لعدم وجود الدليل في سلبه الطهورية. س25: ما حكم المسخَّن بطاهر مع الدليل؟ ج25: لا يكره؛ لأن الصحابة دخلوا الحمّام، ورخصوا فيه. س26: ما حكم الماء القليل المستخدم في طهارة غير مشروعة كالتبرد مع الدليل؟ ج26: لا يكره؛ لعدم الخلاف في المسألة (أو الإجماع). س27: بيّن ضابط الماء الكثير عند علماء الحنابلة مع ذكر الدليل؟ ج27: إذا بلغ الماء قلتين فأكثر.

والدليل: قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا بلغ الماء قلتين، لم ينجسه شيء))، وفي لفظ: ((لم يحمل الخبث)) (¬1). س28: بين مقدار الماء الكثير عند الحنابلة بالموازين العصرية؟ ج28: المثقال = 4.25 غرام، والقلتان = 500 رطل عراقي، والرطل العراقي = 90 مثقالاً، فيكون الجواب كالآتي: 4.25 غرام × 90 مثقال = 382.50 جرام × 500 رطل = 191250 جرام يساوي: 191.25 كيلو جرام ويقدر بـ: 57 سم3. س29: ما حكم الماء الكثير الذي خالطته نجاسة، غير بول الآدمي وعذرته المائعة، مع ذكر الدليل؟ ج29: إذا لم تغيّره النجاسة فطهور، والدليل حديث ابن عمر: ((إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء)) (¬2). س30: اذكر القول الراجح في الاختلاط المائعات غير الماء بالنجاسة؟ ¬

(¬1) أخرجه أحمد، برقم 4605، وأبو داود، برقم 63، والترمذي، برقم 67، والنسائي، برقم 328، وابن حبان وصححه، برقم 1249، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 133، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 60. (¬2) انظر: التخريج السابق.

ج30: إن المائعات لا تنجس إلا إذا حصل تغيّر باللون، أو الطعم، أو الريح. س31: ما ضابط الماء الذي يشقّ نزحه عند الحنابلة؟ ج31: الضابط هو: ما يشقّ على الرجل المعتدل القوة نزحه. س32: ما حكم الماء الذي يشقّ نزحه إذا خالطه البول، أو العذرة المائعة مع الدليل؟ ج32: لا ينجس ما لم يتغير، بغير خلاف نعلمه (الإجماع). س33: ما حكم استعمال فضل طهور المرأة في إزالة النجاسة مع الدليل؟ ج33: هو يزيل النجاسة مطلقاً، لمفهوم الخبر، وعدم عقل معناه، فلم يقس عليه، وما تقدم هو قوله: ولا يرفع حدث رجل إلخ. س34: ما الحكم إذا لم يجد إلا ما خلت به المرأة على المذهب، ثم اذكر القول الراجح؟ ج34: على المذهب: يستعمله، ثم يتيمم وجوباً. والراجح: أنه يتوضأ به بدون تيمم. س35: ما حكم الماء الطاهر على المذهب، ثم رجّح؟

ج35: حكمه على المذهب: لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث، على المذهب، والراجح أنه يرفع الحدث، ويزيل الخبث مادام يطلق عليه ماء. س36: بَيّن المذهب في الماء المستعمل الذي رفع بقليله حدث مع ذكر الدليل، ثم اذكر القول الراجح بدليله؟ ج36: حكمه طاهر على المذهب؛ لحديث أبي هريرة: ((لا يغتسلنّ أحدكم في الماء الدائم وهو جنب)) (¬1). وعنه: مطهر، وهو القول الراجح، والدليل: (إن الماء لا يجنب) (¬2)؛ ولأنه ماء طاهر لاقى أعضاء طاهرة، فلم يسلبه الطهورية، أشبه لو تبرّد به. س37: ما حكم الوضوء بماء مستعمل لطهارة مستحبة مع التعليل للمذهب؟ ج37: طهور؛ لأنه لم يرفع به الحدث، لكن يكره للخلاف في سلبه الطهورية. س38: ما حكم الغسل في الماء الراكد؟ ¬

(¬1) أخرجه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، برقم 283. (¬2) [أخرجه أصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما: أبو داود، برقم 68، والترمذي، برقم 65، والنسائي، برقم 325، وابن ماجه، برقم 370، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 61.

ج38: يكره. س39: ما هو الفرق بين الماء الدائم، والماء الراكد؟ ج39: الماء الدائم: يغترف منه، أما الراكد: يغتسل وسطه. س40: ما حكم الماء المستعمل في رفع حدث إذا كان طهوراً كثيراً؟ ج40: هو طهور. س41: ما حكم اغتراف المتوضئ من ماء قليل؟ ج41: لا يضره، ولا يسلبه الطهورية، لمشقة تكرره. س42: ما مدى تأثير اغتراف من عليه حدث أكبر في سلب طهورية الماء على المذهب؟ ج42: يسلبه الطهورية. س43: ما حكم الانغماس في الماء القليل أو الكثير من حيث سلب الطهورية على المذهب، ثم اذكر الراجح؟ ج43: - إذا كان الماء قليلاً فإنه لا يرفع الحدث. - وإن كان كثيراً فإنه يرفع الحدث. - والراجح: طهوريته في كليهما.

س44: متى يصير الماء مستعملاً على المذهب؟ ج44: يصير مستعملاً بانفصاله، لا قبله مادام متردداً على الأعضاء، فمادام متردداً على الأعضاء فطهور. س45: ما حكم الماء المغموس فيه يد القائم من نوم الليل على المذهب مع ذكر الدليل، ثم استدل للقول الراجح، مع مناقشة دليل المذهب؟ ج45: يعتبر (طاهراً) على المذهب غير مطهر، والدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده)) (¬1). والراجح: أنه طهور؛ لأنه ماء قد لاقى أعضاء طاهرة، فكان على أصله، وإنما نهي عنه لوهم النجاسة، والوهم والاحتمال لا تثبت بهما الأحكام، فهو لا يزيل الطهورية كما لا يزيل الطاهرية، وإن كان تعبديّاً اقتصر على مورد النص، وهو مشروعية الغسل. س46: ما الحكم إذا لم يجد المتوضئ إلا الماء المغموس فيه يد القائم من نوم الليل على المذهب، ثم اذكر الراجح؟ ج46: - على المذهب: يستعمل هذا الماء، ثم يتيمم وجوباً. والراجح: يستعمله وهو طهور (الروض: 1/ 87) حاشية (1). ¬

(¬1) متفق عليه؛ البخاري برقم 162، ومسلم، برقم 278.

س47: ما حكم الماء الذي غسل به الذكر والأنثيان؟ ج47: يعتبر طاهراً. س48: ما حكم آخر غسلة زالت بها النجاسة من حيث سلب الطهورية وعدمها؟ ج48: هو طاهر، والراجح أنه طهور، إذا لم يتغير، ولم يحمل صفة من صفات النجاسة. س49: عرف الماء النجس اصطلاحاً مع الاستدلال (على مذهب الحنابلة)، ثم اذكر الراجح في تعريفه؟ ج49: على المذهب: ما تغير بنجاسة أو لاقاها وهو يسير أو انفصل عن محل نجاسة. والدليل: حديث القلتين. والراجح: أنه الماء الذي تغير أحد أوصافه بنجاسة تحدث فيه. س50: ما هو الحكم في الماء اليسير إذا لاقى نجاسة على المذهب؟ ثم اذكر الدليل، ثم رجح مع الدليل؟ ج50: ينجس بمجرد الملاقاة ولو جارياً. والدليل: حديث القلتين. والراجح: الذي دلت عليه السنة، وعليه جمهور السلف أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وإن كان يسيراً؛ لحديث: ((إن الماء طهور لا ينجسه

شيء)) ( ... إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه). س51: اذكر طرق تطهير الماء النجس مع التعليل في كل؟ ج51: 1 - أن يضاف إلى الماء النجس طهور كثير؛ لأن هذا القدر المضاف يدفع النجاسة عن نفسه، وعما اتصل به. 2 - أو زال تغير الماء النجس الكثير بنفسه من غير إضافة ولا نزح؛ لأن علة النجاسة زالت. 3 - أو نزح من النجس الكثير، فبقي بعده كثير غير متغير، فهو يطهر؛ لزوال علة تنجسه، وهي (التغير). س52: ما الحكم إذا أضيف إلى النجس ماء قليل فزالت به النجاسة، اذكر المذهب ثم اذكر الراجح؟ ج52: لا يطهر، ولو زال به التغير؛ لأنه لا يدفع عن نفسه، والراجح: أنه يطهر لأن علة النجاسة زالت. س53: ما حكم الماء القليل إذا زال تغير النجاسة بنفسه على المذهب؟ ج53: لا يطهر؛ لأن المؤلف قيده (بقوله: الكثير). س54: ما حكم الماء النجس الكثير إذا زال تغيره بنفسه مع العلة؟ ج54: يطهر؛ لزوال علة النجاسة.

س55: ما الحكم إذا نزح من الماء فبقي بعده قليل غير متغير على المذهب؟ ج56: لا يطهر؛ لأن الحنابلة قيدوه بالكثرة. س57: ما هو الحكم إذا نزح من الماء فبقي بعده كثير غير متغير على المذهب مع التعليل؟ ج57: يطهر، لزوال علة النجاسة، وهو كثير.

7 - الفوائد المقتطفة من النظم الإسلامية

7 - الفوائد المقتطفة من النظم الإسلامية د. العمرو 15/ 6/1422هـ‍ مبادئ النظم الإسلامية (النظام الأخلاقي) الخلق لغة: الدين، والطبع، والسجية، والعادة. وفي الاصطلاح: له إطلاقان: الأول: يطلق ويراد به الدين كله، (مرادفاً للدين)، ودليله قوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬1). قال ابن عباس: أي على دين عظيم هو الإسلام. ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) (¬2). وجه الاستشهاد: أنه عليه الصلاة والسلام حصر بعثته بتقويم الأخلاق. وفي الحديث: ((البر حسن الخلق)) (¬3). الثاني: يطلق على ما يكون من المعاملة بين الناس، وهذا هو الأغلب إذا أطلق الخلق. ¬

(¬1) سورة القلم، الآية: 4. (¬2) أخرجه البيهقي، 10/ 192، وأحمد، برقم 8953، والحاكم، 2/ 613، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 45. (¬3) رواه مسلم عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه -، برقم 2553.

أدلة: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} (¬1). وحديث: ((إِذا جَاءَكُم من تَرضَون دينه وخُلُقَه فزوجّوه)) (¬2). وحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: ((تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)) (¬3). وجه الاستشهاد: أن تقوى الله تصلح ما بينك وبين الله، وحسن الخلق يصلح ما بينك وبين الناس. وحديث: ((اتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ وَأتْبعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)) (¬4). فقد أوصى الرسول عليه الصلاة والسلام معاذاً: أن يحسن خلقه للناس. ميادين الأخلاق: هي أربعة: ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 58. (¬2) رواه الترمذي، برقم 1084، وغيره عن أبي حاتم المزني - رضي الله عنه -. وحسنه الألباني في إرواء الغليل، برقم 1084. (¬3) رواه الترمذي، برقم 2004، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2004. (¬4) رواه الترمذي، برقم 1987، من حديث أبي ذر ومعاذ رضي الله عنهما.

1 - مع الله. 2 - مع النفس. 3 - مع الناس. 4 - مع غير العاقل. درس يوم الإثنين 15/ 6/1422هـ‍. د. العمرو * أولاً مع الله: أبرز خلق نتعامل به مع الله (تقوى الله وعبادته) والأخلاق التي ترتكز عليها العبادة هي: 1 - المحبة: يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (¬1) الآية. 2 - الخوف والرجاء. * ثانياً: مع النفس: يقول سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ الله} (¬2) الآية. ويقول سبحانه: {لاَ تَخُونُواْ الله وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} (¬3) الآية. ويكون الخلق مع النفس (بأن يحسن إليها ويحملها على ما ينفعها). * ثالثاً: مع الناس: وقد وردت آيات كثيرة منها: قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 54. (¬2) سورة النساء، الآية 64. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 27.

أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬1) الآيات. وقوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (¬2). وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)) (¬3). * رابعاً: التعامل مع غير العاقل: من ذلك في الحديث: ((دخلت النار امرأة في هرة، لا هي أطعمتها ولا سقتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض)) (¬4). أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وكما جاء في قصة الرجل الذي سقى الكلب فشكر الله له، فأدخله الجنة (¬5). وفي حديث أبي رقية: ((وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة .. )) (¬6). درس: يوم 22/ 6/1422هـ‍ * من الأدلة على مكانة الخلق في الإسلام: تعليل الرسالة بإصلاح الأخلاق، حيث ذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام أن أساس بعثته إنما هي لتقويم الأخلاق. ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 23. (¬2) سورة النساء، الآية: 59. (¬3) رواه الترمذي، برقم 1264، وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 36. (¬4) رواه البخاري، برقم 2365، وغيره. (¬5) رواه البخاري، برقم 173، وغيره. (¬6) رواه مسلم، برقم 1955.

* إن الواجب من الأخلاق أفضل من سائر التطوعات مثل: الصدق فهو أفضل من قيام الليل؛ لأن الصدق واجب، وقيام الليل سنة. * إن نافلة الأخلاق أفضل من نافلة العبادة: أن ما كان من الأخلاق مستحبّاً أفضل من العبادات المستحبة، مثل أن تمشي في حاجة أخيك أفضل من الصلاة المستحبة ((ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق)) (¬1). * والأخلاق مع التقوى ميزان يقوم به العباد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام حينما سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) (¬2). أو كما قال عليه الصلاة والسلام. * آثار الأخلاق: للأخلاق الفاضلة آثار خيِّرة عاجلة وآجلة، فمن الآجلة: 1 - سبب في دخول الجنة. 2 - سبب القرب من الرسول عليه الصلاة والسلام. 3 - سبب لتقوية الصلة بالله - عز وجل -. ومن آثار الأخلاق العاجلة: ¬

(¬1) رواه أبو داود، برقم 4799، والترمذي، برقم 2002، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 876. (¬2) رواه الترمذي، برقم 2004،وتقدم تخريجه.

1 - سبب لمحبة الناس لصاحب الخلق. 2 - سبب لطمأنينة القلب وانشراح الصدر، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((الصدق طمأنينة والكذب ريبة)) (¬1). وذكر ابن القيم أن الإحسان إلى الخلق من أسباب انشراح الصدر. 3 - سبب للبركة في العمر والمال؛ لحديث: ((من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه)) (¬2). وحديث: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتم وكذب محقت بركة بيعهما)) (¬3). * آثار الأخلاق في المجتمع: * حصول الألفة والمودة وتقوية أواصر الأخوة بينهم. * تيسر أمور أفراد المجتمع ومصالحه. * إذا سادت الأخلاق الفاضلة يثق بعضهم ببعض. (أي المجتمع). * آثار الأخلاق على غير المسلمين: من أعظم ما تجلب به القلوب للدخول في هذا الدين، والنفس مجبولة على حب من أحسن إليها، ومن هذه الأخلاق: ¬

(¬1) [رواه الترمذي، برقم 2518، من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 2930. (¬2) متفق على صحته من حديث أنس - رضي الله عنه -: البخاري، برقم 2067، ومسلم، برقم 2557. (¬3) رواه البخاري، برقم 2079، ومسلم، برم 1532، من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه -.

1 - الكرم. 2 - البذل، وغيره من الأخلاق الحسنة. * معيار الأخلاق: المعيار: هو الميزان والمقياس، ولا تستقيم أحوال الناس إلا بالموازين؛ ولذلك امتن الله على عباده بأن أنزل الميزان. فقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (¬1). الموازين على قسمين: موازين حسّيّة - موازين معنوية. الموازين الحسية: توزن بها الأشياء المادية. ومن صفات الموازين: أنها واحدة لا تتفاوت، الثبات على اختلاف البيئات، هناك موازين معنوية، والناس بأمسِّ الحاجة إليها؛ لأن من خلالها يحكم على الأقوال والأفعال بأنها خطأ أو صواب، حق أو باطل، حسنة أو قبيحة. العبادة: هل لها ميزان أو ليس لها ميزان؟ نعم لها ميزان: وهو الإخلاص، والمتابعة. والمتابعة هي الميزان الظاهري الذي نستطيع أن نحكم على العبادة من خلاله. * في الأخلاق هناك ميزان نستطيع أن نحكم به على الخلق. ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية: 25.

* إذا كانت هناك معايير أمكن تقارب الحكم. * معيار الأخلاق في الفكر الوضعي: ثلاثة معايير. 1 - العقل: وقال به أصحاب الاتجاه في الغرب، وأخذ به في البيئة الإسلامية المعتزلة، والفلاسفة. * يشترط في المعيار الصحيح أن يكون ثابتاً لا يتغير باختلاف الأزمان أو البيئات أو الأشخاص مثل الميزان الحسي. نوافق على أن العقل يدرك أصول الأخلاق: كالعدل، والصدق، والإحسان إلى الغير، وقبح الظلم، ولكنه لا يدرك تفاصيل الفضيلة الخلقية. الرد على الفلاسفة: العقل يتفاوت بين الناس تفاوتاً كبيراً. إن العقل تعرض له أمور تمنعه من تمام الإدراك، ومنها: الهوى، والشهوة، ومنها: الخطأ، والنسيان، وهي من لوازم البشر، والله رفع المؤاخذة عن الإنسان في حال الخطأ والنسيان. 2 - المنفعة: يقولون: ننظر إلى الأثر المترتب على الخلق، فإن كان الأثر حسناً فالخلق حسن، وإن كان سيئاً فالخلق سيئ، وهذا الاتجاه هو السائد في الغرب، وبالذات في أمريكا ويسمى المذهب العملي (البرجماتي).

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات. [انتهت الفوائد التي اقتطفها الابن البار عبد الرحمن رحمه الله تعالى، وقد كان مجتهداً مجدّاً في التقاط أطايب الفوائد من أساتذته، وفي خلال أيام معدودة في بداية دراسته في كلية الشريعة التقط هذه الفوائد، وكان قصده الاستمرار في هذا المنهج، إلا أن الله توفاه في بداية هذا العمل المبارك، ولم يستمر في ذلك إلا ثلاثة أشهر من 13/ 6/1422هـ‍إلى 16/ 9/1422هـ‍، فأسأل الله بوجهه الكريم أن يتقبل منه هذا العمل، ويجعله في موازين حسناته أضعافاً مضاعفة كثيرة، وأن يعوِّضه خيراً مما فاته من هذا العلم النافع، وأن يسكنه الفردوس الأعلى، وأن يجعل هذا الحادث الذي أصابه شهادة له ولشقيقه عبد الرحيم، شهادة ينالان بها أعلى منازل الشهداء، وأن يجمعني بهما في ذاك المكان العالي مع حبيبنا ونبينا وإمامنا وأسوتنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، ومع والدينا وذرياتنا، وأزواجنا، وأحبابنا في الله تعالى جميعاً؛ فإنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو: ذو الجود، والفضل، والإحسان، والامتنان، ويؤتي فضله من يشاء وهو ذو الفضل العظيم، لا يُسأل عما

يفعل تبارك وتعالى، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله على قدره وقضائه، واختياره، والحمد له على كل حال. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر قبل صلاة العصر من يوم السبت الموافق 21/ 12/1423هـ‍

الرسالة الثانية: الجنة والنار

الرسالة الثانية الجنة والنار من الكتاب والسنة المطهرة إعداد عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني رحمه الله تعالى (1403 - 1422هـ) تحقيق د. سعد بن علي بن وهف القحطاني

مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقق إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فهذه رسالة في ((الجنة والنار من الكتاب والسنة))، كتبها الابن: الشاب، البار، الصالح عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني رحمه الله تعالى، وهي رسالة نافعة جداً بيَّن فيها رحمه الله تعالى: مفهوم الجنة والنار، وإثبات وجود الجنة والنار، وأنهما موجودتان الآن، ومكان الجنة، ومكان النار، وأسماء الجنة، وأسماء النار، ونعيم الجنة النفسي، ونعيمها الحسّي، وذكر من هذا النعيم: إحلال رضوان الله على أهل الجنة، فلا يسخط عليهم أبداً، وذكر عدد أنهار الجنة وصفاتها، والحور العين وصفاتهن، ومساكن أهل الجنة: من الخيام، والغرف، والقصور، وصفاتها، وطعام أهل الجنة، وشرابهم، وصفات أهل الجنة، [جعله من أهلها]. وذكر رحمه الله: عذاب أهل النار النفسي، وعذابهم الحسي، ثم ذكر

الطريق الموصل إلى الجنة، وأسباب دخولها، وأن دخول الجنة برحمة الله تعالى، وذكر الطرق الموصلة إلى النار، وبين أسباب دخولها [أعاذه الله منها]، ثم ختم ذلك: بكيف نقي أنفسنا وأهلينا من النار، ثم الخاتمة، والتوصيات، وإثبات المراجع والمصادر. ولا شك أن أعظم المطالب: الفوز بالجنة والنجاة من النار، قال الله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬1). وعندما رأيت هذا الترتيب الجميل، والاختصار المفيد؛ ولأهمية الموضوع أحببت أن أعتني بإخراج هذه الرسالة التي أسأل الله بوجهه الكريم أن ينفع بها الابن عبد الرحمن، وأن يجعلها له من العمل الذي لا ينقطع، وأن يبلّغه منازل الشهداء؛ فإنه ـ الكريم، الرؤوف الرحيم، ذو الفضل والجود والإحسان والامتنان. وأصل هذه الرسالة بحث أعدّه الابن عبد الرحمن رحمه الله في الصف الثالث الثانوي الفصل الثاني في أوائل عام 1422هـ في ثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض، أشرف عليه الأستاذ محمد السليم حفظه الله تعالى وجزاه خيراً. وعندما توفي الابن عبد الرحمن رحمه الله، ذهبت إلى المدرسة، وطلبت ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 185.

وعملي في هذه الرسالة على النحو الآتي:

هذا البحث، فدفعه إليّ وكيل المدرسة محمد العوشن، جزاه الله خيراً، وفرحت بذلك فرحاً عظيماً، وأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن ينفع به كاتبه، وأن يكون من عمله الصالح الذي لا ينقطع. وعملي في هذه الرسالة على النحو الآتي: 1 - قمت بمطابقة الرسالة على أصلها المخطوط بخط الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى. 2 - خرَّجت جميع الأحاديث، وقابلتها على مصادرها الأصلية من كتب السنة. 3 - إذا أضفت كلمة أو جملة جعلتها بين معقوفين هكذا [ ... ]. 4 - إذا أضفت شيئاً من الفوائد جعلتها في الحاشية؛ لرغبتي في بقاء الرسالة على أصلها، لعلّ الله - عز وجل - أن ينفع بها كاتبها كما حذفت قائمة المصادر والمراجع التي ذكر الابن عبد الرحمن رحمه الله؛ رغبة في الاختصار، ومن أراد الرجوع إليها فهي مكتوبة في الحواشي. أبو عبد الرحمن سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر في يوم الخميس الموافق 26/ 10/1422هـ

مقدمة المؤلف رحمه الله تعالى

مقدمة المؤلف رحمه الله تعالى الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فهذا بحث عن الجنة والنار، جمعته من عدة مراجع، وكتبت ما كان منها مهمّاً، وقد قمت فيه بتعريفٍ، ووصفٍ، و [بيان] طريق الوصول، لكل: من الجنة والنار. وأهمية هذا الموضوع تكمن في أن الإنسان له مصير سواء الجنة أم النار، ولا بد من توضيح العاقبة، ووصفها، نسأل الله الجنة، ونعوذ به من النار. وسبب اختياري لهذا الموضوع: الحث على الأعمال الموصلة للجنة، والترهيب من الأعمال الموصلة للنار. وقد قسمت هذا الموضوع إلى الطريقة البحثية الآتية: الباب الأول: الجنة والنار (تعريف وبيان). الفصل الأول: تعريف الجنة والنار وذكر أسمائهما. المبحث الأول: تعريف الجنة وذكر أسمائها. المبحث الثاني: تعريف النار وذكر أسمائها. الفصل الثاني: هل الجنة والنار موجودتان الآن؟

المبحث الأول: إثبات وجود الجنة. المبحث الثاني: إثبات وجود النار. الباب الثاني: نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار. الفصل الأول: نعيم أهل الجنة. المبحث الأول: النعيم النفسي. المبحث الثاني: النعيم الحسي. الفصل الثاني: عذاب أهل النار. المبحث الأول: العذاب النفسي. المبحث الثاني: العذاب الحسي. الباب الثالث: الطريق إلى الجنة، والنجاة من النار. الفصل الأول: الطريق إلى الجنة، وأسباب دخولها. المبحث الأول: أسبابٌ موصلةٌ إلى الجنة. المبحث الثاني: الدخول إلى الجنة برحمة الله لا بالعمل. الفصل الثاني: الطريق إلى النار، والنجاة منها. المبحث الأول: الأسباب الموصلة إلى النار. المبحث الثاني: كيف نقي أنفسنا وأهلينا من النار؟

ولله الحمد لم تواجهني صعوبات تذكر، بل كان البحث ممتعاً ومفيداً. وأتقدم بالشكر الجزيل بعد شكر الله إلى الأستاذ الفاضل وفقه الله الأستاذ/ محمد السليم، أسعده الله في الدنيا والآخرة على ما قام به من جهود موفقة، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه. الباحث عبد الرحمن بن سعيد القحطاني [حرر في أوائل عام 1422هـ‍]

الباب الأول: الجنة والنار: (تعريف وبيان)

الباب الأول الجنة والنار: (تعريف وبيان) الفصل الأول: تعريف الجنة والنار، وذكر أسمائهما. المبحث الأول: تعريف الجنة، وذكر أسمائها. المبحث الثاني: تعريف النار، وذكر أسمائها. الفصل الثاني: هل الجنة والنار موجودتان؟ وأين مكانهما؟ المبحث الأول: إثبات وجود الجنة والنار. المبحث الثاني: إثبات مكان الجنة والنار.

الفصل الأول: تعريف الجنة والنار، وذكر أسمائهما

الفصل الأول تعريف الجنة والنار، وذكر أسمائهما المبحث الأول: تعريف الجنة، وذكر أسمائها: الجنة لغة: البستان، ومنه الجنان، والعرب تسمي النخيل: جنّة (¬1). وفي مختار القاموس: الجنَّة: الحديقة ذات الشجر والنخل، وجمعها: جنان (¬2). والجنة في الاصطلاح: هو الاسم العام المتناول لتلك الدار [التي أعدها الله لمن أطاعه]، وما اشتملت عليه من أنواع النعيم، واللذة، والبهجة والسرور، وقرة العين (¬3). أما أسماء الجنة، فيقول ابن القيم رحمه الله: في أسماء الجنة ومعانيها واشتقاقاتها: ((ولها عدة أسماء، باعتبار صفاتها، ومسماها واحد باعتبار الذات، فهي مترادفة من هذا الوجه، [وتختلف باعتبار الصفات، فهي متباينة من هذا الوجه]، وهكذا أسماء الرب ـ، وأسماء كتابه، وأسماء ¬

(¬1) محمد بن أبي بكر الرازي. مختار الصحاح، ص48 [وانظر: لسان العرب لابن منظور، 13/ 99، ومفردات القرآن للأصفهاني، ص204]. (¬2) الطاهر أحمد الزاوي، مختار القاموس، 117. (¬3) وأصل اشتقاق هذه اللفظة من: الستر، والتغطية، ومنه سُمِّي الجنين؛ لاستتاره في البطن، ومنه سُمِّي البستان: جنة؛ لأنه يستر داخله بالأشجار، ويغطيه، ولا يستحقّ هذا الاسم إلا موضع كثير الأشجار، مختلف الأنواع. انظر: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، لابن القيم، ص111.

ومن أسماء الجنة:

رسله، وأسماء اليوم الآخر، وأسماء النار)) (¬1). ومن أسماء الجنة: 1 - الجنة: [قال الله تعالى: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}] (¬2). 2 - دار السلام: قال سبحانه: {وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬3). وقال تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬4). [فهي دار سلام من كل بليَّة وآفة] (¬5). 3 - دار الخلد: قال الله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (¬6) (¬7). 4 - دار المقامة، قال الله تعالى: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} (¬8). 5 - جنة المأوى، قال الله تعالى: {عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأوَى} (¬9). ¬

(¬1) العلامة ابن القيم. حادي الأرواح، ص111. (¬2) سورة النحل، الآية: 32. (¬3) سورة يونس، الآية: 25. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 127. (¬5) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، ص113. (¬6) سورة ق، الآية: 34. (¬7) سميت بذلك؛ لأن أهلها لا يظعنون عنها أبداً، قال تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]: والمعنى غير مقطوع، كما قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [ص: 54]. وقال: {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]. (¬8) سورة فاطر، الآية: 35. (¬9) سورة النجم، الآية: 15.

6 - جنات عدن، قال - عز وجل -: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} (¬1) (¬2). 7 - الفردوس، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} (¬3) (¬4). 8 - جنات النعيم، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} (¬5) (¬6). 9 - المقام الأمين، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (¬7) (¬8). ¬

(¬1) سورة مريم، الآية: 61. (¬2) جنات عدن: أي من الإقامة والدوام، يقال: عَدَن المكان إذا أقام به، فهي جنات إقامة. حادي الأرواح، ص114. (¬3) سورة الكهف، الآية: 107. (¬4) والفردوس: هو البستان الذي يجمع كل شيء يكون في البساتين؛ فتح الباري، لابن حجر، 6/ 13، والقاموس المحيط، ص725، والفردوس اسم يقال على جميع الجنة، ويقال على أفضلها وأعلاها، كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنان. حادي الأرواح لابن القيم، ص116، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((والجنة مقبَّبَة أعلاها أوسعها، ووسطها هو الفردوس، وسقفه العرش كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّر أنهار الجنة)) [البخاري، برقم 2790، ورقم 7423]. حادي الأرواح، ص84. (¬5) سورة لقمان، الآية: 8. (¬6) وهذا اسم جامع لجميع الجنات لما تضمنته من الأنواع التي يتنعم بها من المأكول، والمشروب، والملبوس، والصور، والرائحة الطيبة، والمنظر البهيج، والمساكن الواسعة، وغير ذلك من النعيم الظاهر والباطن. حادي الأرواح، ص116. (¬7) سورة الدخان، الآية: 51. (¬8) المقام: موضع الإقامة، والأمين: الآمن من كل سوءٍ، وآفة، ومكروه، وهو الذي قد جمع صفات الأمن كله. حادي الأرواح، ص116.

المبحث الثاني: تعريف النار وذكر أسمائها:

10 - مقعد صدق، قال الله - عز وجل -: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (¬1) (¬2). المبحث الثاني: تعريف النار وذكر أسمائها: النار لغة: [تقال للهب الذي يبدو للحاسة، وللحرارة المجردة، وللحرارة المحرقة، ولنار جهنم المذكورة في قوله تعالى: {النَّارُ وَعَدَهَا الله الَّذِينَ كَفَرُوا}] (¬3)، جمعها: أنوار ونيران، وأنيار (¬4). والنار في الاصطلاح: هي التي أعدها الله سبحانه لمن عصاه، قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬5). وقال تعالى: {إِنَّ الله لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} (¬6). - ومن أسماء النار نعوذ بالله منها: [1 - النار، قال الله تعالى: {النَّارُ وَعَدَهَا الله الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}] (¬7). 2 - جهنم، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا، لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} (¬8). ¬

(¬1) سورة القمر، الآية: 55. (¬2) مقعد صدق: سمى الله الجنة مقعد صدق؛ لحصول كل ما يراد من المقعد الحسن فيها، كما يقال: مودة صادقة: إذا كانت ثابتة تامة. حادي الأرواح، ص117. (¬3) سورة الحج، الآية: 72. (¬4) القاموس المحيط، ص628، 630، والمعجم الوسيط، 2/ 292، ومفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني، ص828. والطاهر الزاوي، مختار القاموس، ص624. (¬5) سورة البقرة، الآية: 39. (¬6) سورة الأحزاب، الآية: 64. (¬7) سورة الحج، الآية: 72. (¬8) سورة النبأ، الآيتان: 21 - 22.

3 - الجحيم، قال الله سبحانه: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} (¬1). 4 - السعير، قال الله سبحانه: {وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (¬2). 5 - سقر، قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ* لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} (¬3). 6 - الحُطمة، قال الله سبحانه: {كَلا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} (¬4). 7 - الهاوية، قال - عز وجل -: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ*فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ*نَارٌ حَامِيَةٌ} (¬5) (¬6). ¬

(¬1) سورة النازعات، الآية: 36. (¬2) سورة الشورى، الآية: 7. (¬3) سورة المدثر، الآيتان: 27 - 28. (¬4) سورة الهمزة، الآية: 4. (¬5) سورة القارعة، الآيات: 8 - 11. (¬6) وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 28، 29] قال ابن كثير رحمه الله في تفسير القرآن العظيم، 2/ 539: ((وأما دار البوار فهي جهنم))، وأشار إلى ذلك الإمام البغوي رحمه الله في تفسيره، 3/ 53.

الفصل الثاني: هل الجنة والنار موجودتان؟ وأين مكانهما؟

الفصل الثاني هل الجنة والنار موجودتان؟ وأين مكانهما؟ المبحث الأول: إثبات وجود الجنة والنار: من ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -[في قصة الإسراء]: ((ثم انطلق بي جبريل حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال: ثم دخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ (¬1) اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك)) (¬2). [وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَمّا خلق الله الجنة والنار أرسل جبرائيل إلى الجنة، فقال: انظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فجاء فنظر إليها، وإلى ما أعد الله لأهلها فيها ... ثم قال: اذهب إلى النار فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضاً .. ] (¬3). ¬

(¬1) الجنابذ: هي القباب، واحدتها جنبذة، ووقع في كتاب الأنبياء من صحيح البخاري كذلك، وفي هذا الحديث دلالة لمذهب أهل السنة والجماعة: أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن الجنة في السماء. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 579. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، برقم 349، وكتاب الأنبياء، برقم 3342، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات، برقم 162. (¬3) الترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في أن الجنة حفّت بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات، برقم 2560، والنسائي، كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بعزة الله، برقم 3772، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 20، وفي صحيح النسائي، 3/ 5.

ومن الأحاديث الدالة على وجود الجنة الآن:

وقال الإمام الطحاوي رحمه الله: ((والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً، ولا تبيدان، فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكلٌّ يعمل لما قد فرغ له، وصائرٌ لما خُلق له، والخير والشر مقدران على العباد)) (¬1). ومن الأحاديث الدالة على وجود الجنة الآن: [حديث] كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما نسمة المؤمن طائرٌ يعْلُقُ في شجر الجنة، حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه)) (¬2) (¬3). ¬

(¬1) أبو جعفر الطحاوي. متن العقيدة الطحاوية، ص12. (¬2) أخرجه أحمد في المسند، 3/ 455، وهو في النسخة المحققة، 25/ 57، برقم 1578 بلفظه، والنسائي، كتاب الجنائز، باب أرواح المؤمنين، برقم 2073 بلفظ: ((إنما نسمة المؤمن طائر في شجر الجنة حتى يبعثه الله - عز وجل - إلى جسده يوم القيامة)). وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، برقم 4271، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 2/ 445، وصحيح ابن ماجه، 2/ 423، والأحاديث الصحيحة، 2/ 720، برقم 995، وقال الإمام ابن كثير في تفسيره، 4/ 302 بعد ذكر إسناد الإمام أحمد عن الشافعي عن مالك عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه: ((وهذا إسناد عظيم، ومتن قويم)). (¬3) وحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وفيه: ذكر الشهداء، وأن: ((أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل))، [مسلم برقم 1887، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة)) [البخاري، برقم 1379، ومسلم، برقم 2866، وذكر الإمام ابن القيم أن عرض المقعد لا يدل على أن الأرواح في القبر، ولا على فنائه، بل على أن لها اتصالاً به يصح أن يعرض عليها مقعدها، فإن للروح شأناً آخر، فقد تكون في الرفيق الأعلى، وهي متصلة بالبدن بحيث إذا سلم المسلم على صاحبه ردّ عليه السلام، وهي في مكانها هناك. شرح السيوطي لسنن النسائي، 4/ 109.

المبحث الثاني: مكان الجنة والنار:

المبحث الثاني: مكان الجنة والنار: [1 - مكان الجنة] يقول الله سبحانه: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} (¬1). قال ابن عباس رضي الله عنهما: الجنة. وقيل: عليون: في السماء السابعة تحت العرش (¬2). وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: ((والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء وارتفع، عَظُم واتسع، ولهذا قال الله ـ معظّماً أمره، ومُفخِّماً شأنه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} (¬3). وقال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (¬4). {رِزْقُكُمْ}: يعني المطر، {وَمَا تُوعَدُونَ} يعني الجنة)) (¬5) (¬6). ¬

(¬1) سورة المطففين، الآيتان: 18 - 19. (¬2) تفسير البغوي، 4/ 460، وتفسير ابن كثير، 4/ 487. (¬3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ‍/ 487. (¬4) سورة الذاريات، الآية: 22. (¬5) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ‍/236. (¬6) وقد تقدم في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه، برقم 2790، و7423، قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن ... )).

مكان النار

[1] مكان النار: يقول الله - سبحانه وتعالى -: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ*كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} (¬1). وقد ذكر [الإمام] ابن كثير، و [الإمام] البغوي، و [الإمام] ابن رجب، آثاراً تبيّن وتذكر أن سجين تحت الأرض السابعة، أي تحت سبع أراضين. [كما أن الجنة فوق السماء السابعة] (¬2). اللهم إنا نسألك الجنة، ونعوذ بك من النار (¬3). ¬

(¬1) سورة المطففين، الآيات: 7 - 9. (¬2) انظر: تفسير البغوي، 4/ 458 - 459، وتفسير ابن كثير، 4/ 485 - 486، والتخويف من النار لابن رجب، ص62 - 63، وكذلك ذكر الإمام ابن القيم في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، ص82 - 84. (¬3) أسأل الله العظيم بوجهه الكريم، أن يستجيب دعوة المؤلف، وأن يبلغه وشقيقه الذي توفي معه أعلى منازل الشهداء؛ فإنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وأن يجمعهما مع والديهما في ذاك المكان العظيم.

الباب الثاني نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار

الباب الثاني نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار الفصل الأول: نعيم أهل الجنة. المبحث الأول: النعيم النفسي. المبحث الثاني: النعيم الحسي. الفصل الثاني: عذاب أهل النار. المبحث الأول: العذاب النفسي. المبحث الثاني: العذاب الحسي.

الفصل الأول: نعيم أهل الجنة

الفصل الأول نعيم أهل الجنة المبحث الأول: النعيم النفسي: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟! فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربِّ، وقد أعطيتنا ما لم تُعطِ أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟! فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحلُّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً)) (¬1) (¬2). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم 6549، ومسلم، كتاب الجنة ونعيمها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة، فلا يسخط عليهم أبداً، برقم 2829. (¬2) ومن النعيم النفسي ما جاء في حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أنه ((يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبّون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، ويقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبّون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، فيُؤمَر به فيُذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت))، [مسلم، برقم 2849]، وفي حديث عبد الله بن عمر نحوه، وقال: ((فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم))، [مسلم، برقم 1850]. ومن أعظم النعيم النفسي النظر إلى وجه الله الكريم؛ لقول الله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم، وقوله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35]. والمزيد هو النظر إلى وجه الله الكريم، وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]. وفي الحديث: ((فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل -)) [مسلم، برقم 181].

المبحث الثاني: النعيم الحسي لأهل الجنة:

المبحث الثاني: النعيم الحسي لأهل الجنة: [1 - أنهار الجنة] يقول الله - سبحانه وتعالى -: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (¬1). تفسير الآية: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}: أي صفتها. {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [أي غير متغير ولا مُنتن]. {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ}: لذيذة للشاربين لم تدنسها الأرجل ولم تدنسها الأيدي. {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ}: أي مَن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار؟؟ (¬2) (¬3). ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 15. (¬2) تفسير البغوي، 4/ 181، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/ 177. (¬3) ومن أنهار الجنة: نهر الكوثر الذي أُعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: حافتاه قباب اللؤلؤ، [وفي رواية: حافتاه قباب الدُّر المجوّف] [البخاري، برقم 4964، و6581]. أما حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو في عرصات القيامة: عرضه مسيرة شهر، وطوله مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وطعمه أحلى من العسل، عدد آنيته كنجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً [البخاري، برقم 6579، ومسلم، برقم 2292]. وسوف يأتي اليوم الذي يُذاد عن هذا الحوض من يُذاد، نسأل الله العافية، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ليردنَّ عليّ أناس من أصحابي))، وفي رواية: ((أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يُحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحقاً سُحقاً لمن غيَّر بعدي))، وقال ابن عباس: سُحقاً: بُعداً [البخاري، برقم 6583، ومسلم، برقم 2292].

[2، 3] الحور العين، ومساكن أهل الجنة:

[2، 3] الحور العين، ومساكن أهل الجنة: يقول الله سبحانه: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} (¬1). ويقول الله سبحانه: {وَحُورٌ عِينٌ*كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ*جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2). ويقول سبحانه: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} (¬3). ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً، في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن)) (¬4). ¬

(¬1) سورة الرحمن، الآية: 56. (¬2) سورة الواقعة، الآيات: 22 - 24. (¬3) سورة الطور، الآية: 20. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، سورة الرحمن، برقم 4879، ومسلم، كتاب الجنة ونعيمها، باب في صفة خيام أهل الجنة، برقم 2838، وفي رواية لمسلم: ((إن للمؤمن في الجنة لخيمةً من لؤلؤة واحدةٍ مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً))، ولا منافاة بين طولها وعرضها في الروايتين، فعرضها في مساحة أرضها ستون ميلاً، وطولها في السماء ستون ميلاً في العلو، فطولها وعرضها متساويان. [شرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 175].

ويقول الله سبحانه في وصف مساكن وغرف الجنة: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ الله لا يُخْلِفُ الله الْمِيعَادَ} (¬1). قال ابن كثير رحمه الله: ((أخبر - عز وجل - عن عباده السعداء أن لهم غرفاً في الجنة، وهي القصور الشاهقة، {مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ}، طباق فوق طباق، مبنيات محكمات، مزخرفات، عاليات)) (¬2). وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرُها من باطنها، وباطنُها من ظاهرها، أعدّها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وأفشى السلام، وصلّى بالليل والناس نيام)) (¬3). وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: [أنهم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بناء الجنة؟ ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 20. (¬2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ‍/672. (¬3) أحمد في المسند، 5/ 343، وابن حبان (موارد)، برقم 641، والترمذي عن علي - رضي الله عنه - في كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة غرف الجنة، برقم 2527، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 7، وفي صحيح الجامع، 2/ 220، برقم 2119.

فقال] عليه الصلاة والسلام: ((لَبِنةٌ من فضة، ولَبِنةٌ من ذهب، ومِلاطها (¬1) المسك الأذفرُ، وحصباؤها اللؤلؤُ والياقوتُ، وتُربَتُها الزعفران، من يدخلها: ينعم ولا يبأس، ويخلدُ ولا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم)) (¬2). ويقول ابن القيم رحمه الله في نونيته [في صفة عرائس الجنة وحسنهن]: يا من يطوف الكعبة الحصن التي ... حُفَّت بذاك الحجر والأركان ويظل يسعى دائماً حول الصفا ... ومحسر مسعاه لا العلمان ويروم قربان الوصال على منى ... والخيف يحجره عن القربان إلى أن قال رحمه الله: من قاصرات الطرف لا تبغي سوى ... محبوبها من سائر الشبان وقصرت عليه طرفها من حسنه ... والطرف في ذا الوجه للنسوان إلى أن قال رحمه الله: هذا وليس القاصرات كمن غدت ... مقصورة فهما إذاً صنفان يا مطلق الطرف المعذب في الألى ... جردن عن حسن وعن إحسان إلى أن قال رحمه الله: فاسمع صفات عرائس الجنات ثم ... ¬

(¬1) مِلاطها: الطين الذي يملط به الحائط: أي يخلط به. انظر: النهاية في غريب الحديث، 4/ 357. (¬2) الترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها، برقم 2526، وأحمد، 2/ 305، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 311.

اختر لنفسك يا أخا العرفان حور حسان قد كملن خلائقاً ... ومحاسناً من أجمل النسوان (¬1) يقول الشارح رحمه الله: قال الله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} (¬2) الحور: جمع حوراء وهي: المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء، شديدة سواد العين، التي يحار الطرف فيها من رقَّة الجلد، ومن صفاء اللون، [قاله: مجاهد، والصحيح أن الحور مأخوذ من الحور في العين، وهو شدة بياضها مع قوة سوادها، فهو يتضمّن الأمرين))] (¬3) (¬4). ¬

(¬1) شرح قصيدة ابن القيم لأحمد بن عيسى، ‍/542 - 548. (¬2) سورة الطور، الآية: 20. (¬3) أحمد بن عيسى، شرح قصيدة ابن القيم، ‍/548. (¬4) ولا شك أن صفات الحور العين في الأحاديث كثيرة، وكذلك صفات مساكن أهل الجنة ومن ذلك على وجه الاختصار ما يأتي: - أما صفات الحور العين، فقد جاء فيها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دُرِّيّ في السماء إضاءة، لكل امرئٍ منهم زوجتان اثنتان يُرى مُخُّ سُوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب))، [البخاري، برقم 3246، 3254، 3327، ومسلم، واللفظ له، برقم 2834]، وجاء في حديث أنس - رضي الله عنه -: ((ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطّلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولَنَصِيفُها على رأسها - يعني خمارَها - خير من الدنيا وما فيها))، [البخاري، برقم 6568، ورقم 2796]، وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أول زمرة يدخلون الجنة كأنّ وجوههم ضوء القمر ليلةَ البدر، والزمرة الثانية على لون أحسن كوكب دُرّيّ في السماء، لكل رجل منهم زوجتان من الحور العين، على كل زوجة سبعون حُلّة، يُرى مُخُّ سُوقهما من وراء لحومِهِما، وحُللهما، كما يُرى الشَّرابُ الأحمرُ في الزجاجة البيضاء))، [الطبراني في المعجم الكبير، 1/ 160، برقم 10321، وقال ابن القيم في كتابه حادي الأرواح، ص346: ((وهذا الإسناد على شرط الصحيح))، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 411: ((وإسناد ابن مسعود صحيح)) بعد أن نسبه إلى معجم الطبراني الأوسط فقط ((برقم 4897 مجمع البحرين))] وغير ذلك كثير في السنة المطهرة. - وأما مساكن أهل الجنة وقصورهم فقد جاء فيها أحاديث كثيرة، منها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى امرأة وقصراً من ذهب لعمر في الجنة، [البخاري، برقم 3242، ورقم 7024، ومسلم، برقم 2394 - 2395]. وجاء جبريل - عليه السلام -، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يبشّر خديجة ببيت في الجنة من قصبٍ، لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ)) [البخاري، برقم 3820، ومسلم، برقم 2432] وقوله: ((من قصب: أي من لؤلؤة مجوّفة واسعة كالقصر المنيف، وقيل: بيت من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت [فتح الباري لابن حجر، 7/ 138]. وثبت عن عثمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من بنى مسجداً لله بنى الله له بيتاً في الجنة)) [مسلم، برقم 533، واللفظ له، والبخاري، برقم 450]. وثبت في حديث أم حبيبة رضي الله عنها: ((ما من مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة، أو إلا بُنِيَ له بيت في الجنة)) [مسلم، برقم 728]، وفسرها الترمذي بأنها السنن الرواتب. وأصحاب الغرف لهم مكانة عالية في الجنة، ولهذا جاء في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدرّي الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم))، قالوا: يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء، لا يبلغها غيرهم، قال: ((بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله، وصدّقوا المرسلين))، [مسلم، برقم 2831].

[4، 5] أكل أهل الجنة، وشرابهم:

[4، 5] أَكلُ أهل الجنة، وشرابهم: يقول الله - سبحانه وتعالى -: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 25.

كما قال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ*وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ*كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ} (¬1). وقال سبحانه: {وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ} (¬2). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يتغوّطون، ولا يمتخّطون، ولا يبولون، ولكن طعامهم ذاك جشاء كرشح المسك، يُلهَمون التسبيح والتحميد كما يُلهَمون النَّفَس)) (¬3) (¬4). ¬

(¬1) سورة المرسلات، الآيات: 41 - 44. (¬2) سورة الواقعة، الآيتان: 20 - 21. (¬3) مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب صفات الجنة وأهلها، وتسبيحهم فيها، برقم 2835. (¬4) ونعيم أهل الجنة لا يحصيه إلا الله - عز وجل -، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرأوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ})) [البخاري، برقم 3244، ومسلم، برقم 2824، والآية: 17 من سورة السجدة]. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشدّ كوكب دُرّيٍّ في السماء إضاءة: لا يبولون، ولا يتغوّطون، ولا يتفلون، ولا يمتخّطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوّة الأنجوم عود الطيب، وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء))، وفي لفظ: (( ... ولكل واحد منهم زوجتان، كل واحدة منهما يُرى مخُّ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد))، [البخاري، 3245، 3246، 3254، 3327، ومسلم، برقم 2834]. - وأبواب الجنة ثمانية، ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام [مسلم، برقم 234، ورقم 2967]. - وأول من يدخل الجنة فيستفتح فتفتح له أبوابها محمد - صلى الله عليه وسلم -، [مسلم، برقم 196، 197]. - درجات الجنة أعلاها الوسيلة، وهي للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي أقرب الدرجات إلى العرش، وهي أقرب الدرجات إلى الله تعالى [مسلم، برقم 384، وحادي الأرواح لابن القيم، ص99] والفردوس؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن))، [البخاري، 2790، 7423]، وفي حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: أنه يقال لصاحب القرآن يوم القيامة إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه)) [أحمد في المسند، 3/ 40]، وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارقَ، ورتِّل كما كنت تُرتّل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)) [الترمذي، برقم 3003، وأحمد، 2/ 192، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 10]. - والخلاصة أن أهل الجنة: لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ويقال لأدناهم منزلة: ((ولك ما اشتهت نفسك، ولذّت عينك)) [انظر: سورة الزخرف، الآيات: 70 - 73، ومسلم، برقم 189]. وأعظم النعيم نظر المؤمنين إلى وجه الله تعالى؛ لحديث صهيب - رضي الله عنه -: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبيِّض وجوهنا، وتدخلنا الجنة وتنجِّنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل -)) [مسلم، برقم 181].

الفصل الثاني: عذاب أهل النار

الفصل الثاني عذاب أهل النار المبحث الأول: العذاب النفسي: يقول الله - سبحانه وتعالى -: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1) (¬2). ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 22. (¬2) وأحال الابن عبد الرحمن رحمه الله على كتاب الفوز العظيم للاستفادة من آيات أخرى، ومنها قول الله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ*قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ*رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ* قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ*إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ*فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ*إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 105 - 111]. وقال - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ*قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ*ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لله الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 10 - 12]، وقال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ*قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} [غافر: 49، 50]، وقال سبحانه: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ*لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77، 78]. وقال الله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44]. وقال الله - عز وجل -: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قَالُواْ إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ*الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 50، 51].

المبحث الثاني: العذاب الحسي لأهل النار:

[و] من أعظم عذاب أهل النار حجابهم عن ربهم - سبحانه وتعالى -، قال سبحانه: {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ*ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ*ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} (¬1). المبحث الثاني: العذاب الحسي لأهل النار: من أعظم عذابهم، العذاب المتواصل للكفار والمنافقين، قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ*لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} (¬2). وقال - سبحانه وتعالى -: {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} (¬3). [و] قال - سبحانه وتعالى -: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (¬4). قال الشيخ السعدي رحمه الله: ((وسقوا فيها ماءً حميماً)) أي حارّاً جدّاً (¬5). ¬

(¬1) سورة المطففين، الآيات: 15 - 17. (¬2) سورة الزخرف، الآيتان: 74 - 75. (¬3) سورة النبأ، الآية: 30. (¬4) سورة محمد، الآية: 15. (¬5) تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص786.

من عذاب أهل النار: الجحيم، والزقوم:

ومن عذاب أهل النار: الجحيم، والزقوم: يقول - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ*طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ*كَغَلْيِ الْحَمِيمِ*خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ*ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ*ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (¬1). قال السعدي رحمه الله: ((لَمَّا ذكر يوم القيامة، وأنه يفصِلُ بين عباده فيه، ذكر افتراقهم إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير، وهم الآثمون بفعل الكفر والمعاصي، وأن طعامهم {شَجَرَةَ الزَّقُّومِ}، شرّ الأشجار، وأفظعها، وأن طعامها {كَالْمُهْلِ}، أي كالصديد المنتن، خبيث الريح والطعم، شديد الحرارة، يغلي في بطونهم. {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}: ويُقال للمعذَّب: {ذُقْ} هذا العذاب الأليم، والعقاب الوخيم، {إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} أي بزعمك أنك عزيزٌ ستمتنع من عذاب الله، وأنك الكريم على الله، لا يصيبك بعذاب، فاليوم تبيّن لك أنك أنت الذليل المهان الخسيس (¬2) (¬3). ¬

(¬1) سورة الدخان، الآيات: 43 - 49. (¬2) تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص774. (¬3) ولا شك أن عذاب النار أكثر الله من ذكره في كتابه، وبيّنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - إنذاراً للناس، وتحذيراً لهم، قال الله تعالى: {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]. وقال تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى*لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى*الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 14 - 16]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أنذر وحذّر من النار، ومن ذلك قوله: ((أنا آخذ بحُجَزكم عن النار، هلمَّ عن النار هلمَّ عن النار، فتغلبوني تقحمون فيها)) [مسلم، 2284]. - ومن تحذير الله - عز وجل - بيانه لأبوابها بقوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ*لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} [الحجر: 43 - 44]. - وبيَّن أن أهل النار يلعن بعضهم بعضاً، وكلما دخلت أمة لعنت أختها، وبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عمق النار في دركاتها سبعون عاماً يقول: ((هذا حجر رُمي به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها)) [مسلم، برقم 2844]. - وبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحداً أشدّ منه عذاباً. [مسلم، برقم 213]. - وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه: يُؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف مَلَك يجرّونها [مسلم، برقم 2842]. - وأهل النار {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: 19، 20]. {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ*سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 49، 50]. - والله - عز وجل - جعل جسم الكافر في النار عظيماً؛ ليزداد عذابه، ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع)) [البخاري، برقم 6552، ومسلم، برقم 2852]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغِلَظُ جلده مسيرة ثلاث))، [مسلم، برقم 2851]. - وأهل النار يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وهذا هو الخسران المبين. نعوذ بالله من ذلك. - ومن عذاب أهل النار قوله الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ الله كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56]، وقوله سبحانه: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرَّسُولاْ} [الأحزاب: 66]. - وقال الله - عز وجل -: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48]. - وفي الحديث: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم، يُسمَّى بولس، تعلوهم نارُ الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخَبَال)) [الترمذي، برقم 2623، وأحمد، 2/ 189، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 304]. - وفي حديث عبد الله بن قيس - رضي الله عنه - يرفعه: ((إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت، وإنهم ليبكون الدم)) يعني مكان الدمع، [الحاكم، 4/ 605، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في الأحاديث الصحيحة، 4/ 245، برقم 1679]. وعذاب أهل النار أكثر الله من ذكره في كتابه، وأكثر رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته كذلك. نسأل الله الفردوس، ونعوذ به من النار.

الباب الثالث: الطريق إلى الجنة، والنجاة من النار

الباب الثالث الطريق إلى الجنة، والنجاة من النار الفصل الأول: الطريق إلى الجنة، وأسباب دخولها. المبحث الأول: الأسباب الموصلة إلى الجنة. المبحث الثاني: الدخول إلى الجنة برحمة الله لا بالعمل. الفصل الثاني: النجاة إلى النار، وأسباب دخولها. المبحث الأول: الأسباب الموصلة إلى النار. المبحث الثاني: كيف نقي أنفسنا من عذاب الله.

الفصل الأول: الطريق إلى الجنة، وأسباب دخولها

الفصل الأول الطريق إلى الجنة، وأسباب دخولها المبحث الأول: أسباب دخول الجنة: 1 - الطريق إلى الجنة: هو طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله سبحانه: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬1). 2 - طلب العلم النافع ((علم الكتاب والسنة)). 3 - الإيمان والعمل الصالح. ومن الأعمال الصالحة: أ - القيام باركان الإسلام [وأركان الإيمان] على الوجه الأكمل. ب - حسن الخلق، وصلة الأرحام، والصدقة على الفقراء والمساكين، وإكرام الضيف، إلى غير ذلك من الأعمال الصالحة. ومن الأسباب الموصلة للجنة: - برّ الوالدين. - ذكر الله تعالى. - الرحمة. - إفشاء السلام. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 13.

المبحث الثاني: دخول الجنة برحمة الله لا بالعمل

رحمة الضعفاء والمساكين، ومساعدة الناس في الدَّين (¬1). المبحث الثاني: دخول الجنة برحمة الله لا بالعمل [عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قاربوا وسدِّدوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله)) قالوا: يا رسول الله، ولا أنت؟ قال: ((ولا أنا إلاّ أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل)) (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سدِّدوا، وقاربوا، وأبشروا؛ فإنه لا يُدخِل أحداً الجنة عملُهُ)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلاّ أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة)) وفي لفظ: ((واعلموا أن أحبّ العمل إلى الله أدومه وإن قلّ)) (¬3). ¬

(¬1) ويجمع أسباب دخول الجنة: طاعة الله ورسوله كما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى. ومن ذلك: الصدق في القول والعمل، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، والإحسان إلى الجيران، واليتامى، وتخفيف الكرب عن المكروب من المسلمين، والتيسير على المعسر، وستر المسلم وإعانته، والإخلاص لله، والتوكل عليه، والمحبة له ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وخشية الله، ورجاء رحمته، والتوبة إليه، والصبر على حكمه، والشكر لنعمه، وقراءة القرآن، ودعاء الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله للكفار والمنافقين، وأن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عن من ظلمك، والعدل في جميع الأمور، وعلى جميع الخلق، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام، والدعوة إلى الله، والنصيحة: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، وغير ذلك من أمثال هذه الأعمال التي هي أعمال أهل الجنة، وبرحمة الله ثم بها يصل العبد إلى جنات النعيم، وذلك الفوز العظيم. [انظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 10/ 422 - 423]. (¬2) مسلم، كتاب صفات المنافقين، باب لن يدخل الجنة أحد بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم 2816. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، برقم 6464، و6467، ومسلم، كتاب صفات المنافقين، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى، برقم 2818.

قال الإمام النووي رحمه الله: ((وفي ظاهر هذه الأحاديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته، وأما قوله تعالى: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬1)، {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬2)، ونحوهما من الآيات الدالة على أن الأعمال يدخل بها الجنة، فلا يعارض هذه الأحاديث بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال، والهداية للإخلاص فيها، وقبولها برحمة الله تعالى وفضله، فيصحّ أنه لم يدخل بمجرد العمل وهو مراد الأحاديث، ويصحّ أنه دخل بالأعمال بسببها، وهي من الرحمة، والله أعلم] (¬3). ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 32. (¬2) سورة الزخرف، الآية: 72. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 116.

الفصل الثاني: النجاة من النار، وأسباب دخولها

الفصل الثاني النجاة من النار، وأسباب دخولها المبحث الأول: الأسباب الموصلة إلى النار: الأسباب الموصلة إلى النار، والعياذ بالله، كثيرة جداً، وجامعها: ((معصية الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -)). [قال الله تعالى: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}] (¬1)، ومنها على وجه الإيجاز: 1 - الإشراك بالله تعالى. 2 - التكذيب بالرسل. 3 - الكفر. 4 - الحسد. 5 - الظلم. 6 - الخيانة. 7 - قطيعة الرحم. 8 - البخل والشح. 9 - الرياء. 10 - النفاق. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 14.

المبحث الثاني: كيف نقي أنفسنا وأهلينا من النار؟

11 - الأمن من مكر الله. 12 - اليأس من روح الله. 13 - جميع كبائر الذنوب التي وردت في الكتاب والسنة، وغير ذلك (¬1). المبحث الثاني: كيف نقي أنفسنا وأهلينا من النار؟ قال الله - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬2). [قال العلامة السعدي رحمه الله: ((أي يا مَنْ منَّ الله عليهم بالإيمان قوموا بلوازمه وشروطه، و {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} موصوفة بهذه الأوصاف الفظيعة، ووقاية الأنفس بإلزامها أمر الله، والقيام بأمره ¬

(¬1) ومن ذلك أيضاً: الفجور، وعمل الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والغدر، والجبن عن الجهاد، والفخر، والبطر عند النعم، واعتداء حدود الله، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، ورجاء المخلوق دون الخالق، والتوكل على المخلوق دون الخالق، ومخالفة الكتاب والسنة، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، وعمل السبع الموبقات، وإعطاء الرشوة، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، وشرب الخمر، والكبر، والخيلاء، والسرقة، واليمين الغَموس، وتشبّه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، والمنّ بالعطية، وإنفاق السلعة بالحلف الكاذبة، وتصديق الكاهن والمنجم، والتصوير لذوات الأرواح، واتخاذ القبور مساجد، والنياحة على الميت، وإسبال الإزار، ولبس الحرير أو الذهب للرجال، وأذى الجار، وإخلاف الوعد، وغير ذلك من أمثال هذه الأعمال [وانظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 10/ 423 - 424، والكبائر للذهبي، وتنبيه الغافلين لابن النحاس]. (¬2) سورة التحريم، الآية: 6.

امتثالاً، ونهيه اجتناباً، والتوبة عما يسخط الله ويوجب العذاب، ووقاية الأهل، والأولاد بتأديبهم، وتعليمهم، وإجبارهم على أمر الله، فلا يسلم العبد إلاّ إذا قام بما أمر الله به في نفسه وفيما يدخل تحت ولايته من الزوجات، والأولاد، وغيرهم ممن هو تحت ولايته، وتصرّفه، ووصف الله النار بهذه الأوصاف؛ ليزجر عباده عن التهاون بأمر الله)) ... ] (¬1). وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬2) ثم ذكر سبحانه: 1 - {تُؤْمِنُونَ بِالله وَرَسُولِهِ}. 2 - {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}. إذن فهذان سببان لدخول الجنة بإذن الله، والنجاة من عذابه، نعوذ بالله من عذابه، ونسأله الجنة. [قال العلامة السعدي رحمه الله في تفسير هاتين الآيتين الكريمتين: ((هذه وصيّة، ودلالة وإرشاد، من أرحم الراحمين لعباده المؤمنين؛ لأعظم تجارة، وأجلّ مطلوب، وأعلى مرغوب، يحصل بها النجاة من العذاب الأليم، والفوز بالنعيم المقيم، وأتى بأداة العرض الدالة على أن هذا أمر يرغب فيه ¬

(¬1) تفسير السعدي، ص874. (¬2) سورة الصف، الآيتان 10 - 11.

من الأسباب الواقية من النار:

كل متبصر، ويسمو إليه كل لبيب، فكأنه قيل: ما هذه التجارة التي هذا قدرها؟ فقال: {تُؤْمِنُونَ بِالله وَرَسُولِهِ} ومن المعلوم أن الإيمان التام هو التصديق الجازم بما أمر الله بالتصديق الجازم بما أمر الله بالتصديق به، المستلزم لأعمال الجوارح، ومن أجلِّ أعمال الجوارح: الجهاد في سبيل الله؛ فلهذا قال: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} بأن تبذلوا نفوسكم ومهجكم لمصادمة أعداء الإسلام، والقصد نصر دين الله، وإعلاء كلمته، وتنفقون ما تيسّر من أموالكم في ذلك المطلوب؛ فإن ذلك ولو كان كريهاً للنفوس، شاقّاً عليها؛ فإنه: {خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}] (¬1). ومن الأسباب الواقية من النار: العمل بطاعة الله، والابتعاد عن ما يغضبه ـ: فإذا أطاع الإنسان ربّه، وابتعد عما يُنهى عنه، فإنه قد عمل الأسباب [والقبول والتوفيق بيد الله]- سبحانه وتعالى -، نسأل الله الكريم من فضله. وللاستزادة من الأسباب الواقية انظر كتب أهل العلم التي كتبوها في ¬

(¬1) تفسير السعدي، ص860.

ذلك. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه (¬1). ¬

(¬1) من أعظم أسباب الوقاية من النار: العمل بأسباب دخول الجنة، والابتعاد عن أسباب دخول النار، وقد تقدّمت في الفصلين السابقين كما ذكرها الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى. والله أسأل أن يتقبل منه هذا البحث، وأن يرفع به درجاته في الفردوس في أعلى درجات الشهداء؛ فإنه سبحانه أكرم الأكرمين، وهو ذو الجود والإحسان بمنّه وكرمه، وإحسانه ورحمته. وصلى الله وسلّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله أولاً وآخراً، وله الحمد من قبل ومن بعد، لقد انتهيت من إعداد هذا البحث وهو يحتوي على الجنة والنار بين تعريف وذكر أسمائهما وذكر نعيم الجنة وعذاب النار، والأسباب الموصلة إليهما. ومن أبرز النتائج التي توصلت إليها: هي جمع بعض الأدلة والتعاريف وصفة الجنة والنار بشكل مختصر؛ ليسهل على القارئ الوصول [إلى ما يريده من الترغيب في الجنة، والترهيب من النار] بشكل سريع. وأما التوصيات والاقتراحات فهي: أولاً: الوصية بتقوى الله تعالى؛ للحصول على جنته والنجاة من ناره. ثانياً: أوصي بالكتابة في موضوع الجنة والنار بشكل أوسع من هذا؛ لكي يتيح لمن أراد التوسع في [العلم النافع: الاستزادة من الخير والفضل العظيم]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة [والسلام] على نبينا محمد [وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين].

الرسالة الثالثة: غزوة فتح مكة

الرسالة الثالثة غزوة فتح مكة في ضوء الكتاب والسنة إعداد عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني رحمه الله تعالى 1403هـ - 1422هـ تحقيق د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني

مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقق إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فهذه رسالة في ((غزوة فتح مكة)) كتبها الابن: عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني رحمه الله تعالى، وهي رسالة نافعة جداً، بيَّن فيها رحمه الله تعالى: الأسباب التي دعت إلى غزوة الفتح، وتاريخ غزوة فتح مكة، وعدد الجيش النبوي، وذكر قصة قدوم أبي سفيان إلى المدينة للمفاوضات مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيّن إعداد النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - لغزوة الفتح، وتجهيز الجيش لذلك، وأوضح ما حصل من محاولة نقل خبر الغزو من قبل الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه -، وحكمة النبي الكريم أمام هذا التصرف، ثم بيّن توزيع النبي - صلى الله عليه وسلم - للجيش، وعمل لذلك جدولاً منظماً، بيّن فيه أسماء قبائل كل كتيبة، وعدد أفرادها، وعدد الألوية، وأسماء من يحملها، ثم ذكر صفة زحف الجيش، وما حصل من إفطار النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة في رمضان عندما قرب من مكة، وأمره

أصحابه بذلك، ليتقووا على الجهاد، وذكر رحمه الله خروج أبي سفيان للاستطلاع، ثم إسلامه، والعرض العسكري الذي عمله النبي - صلى الله عليه وسلم - أمام أبي سفيان، ثم بيّن الترتيبات التي عملها النبي - صلى الله عليه وسلم - لدخول مكة، وما حصل من بعض المشابكات مع خالد بن الوليد، ثم نجاحه - رضي الله عنه - في ذلك، وذكر رحمه الله صفة دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد الحرام، وتحطيمه للأصنام، وإهداره - صلى الله عليه وسلم - لدماء فئة قليلة من الناس قد آذوا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمنين، ومع ذلك عفا عن بعض هؤلاء - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر رحمه الله الآثار الاستراتيجية للفتح، والدروس المستفادة من الفتح، ومقومات الانتصار في الفتح، ثم ذكر الخاتمة، ثم التوصيات، ثم قائمة المراجع التي رجع إليها رحمه الله. وعندما رأيت هذا الترتيب الجميل، والاختصار المفيد؛ ولأهمية الموضوع، أحببت أن أعتني بإخراج هذه الرسالة التي أسأل الله بوجهه الكريم أن ينفع بها الابن عبد الرحمن، وأن يجعلها له من العمل الذي لا ينقطع، وأن يبلّغه وشقيقه عبد الرحيم منازل الشهداء؛ فإنه ـ الكريم، الرؤوف الرحيم، ذو الفضل والجود والإحسان والامتنان. وأصل هذه الرسالة بحث أعده الابن عبد الرحمن رحمه الله في الصف الثالث الثانوي - الفصل الأول في العام الدراسي 1421 - 1422هـ في ثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض، أشرف عليه الأستاذ محمد السليم حفظه الله تعالى، وجزاه خيراً.

وعندما توفي الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى، ذهبت إلى المدرسة، وطلبت هذا البحث، فدفعه إليَّ وكيل المدرسة الشيخ محمد العوشن، جزاه الله خيراً، وفرحت بذلك فرحاً عظيماً؛ لعل الله - عز وجل - أن ينفع به كاتبه الابن عبد الرحمن رحمه الله، وأن يكون له من العمل الذي لا ينقطع. وعملي في هذه الرسالة على النحو الآتي: 1 - قمت بمطابقة الرسالة على أصلها المخطوط بخط الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى. 2 - خرَّجت جميع الأحاديث، وقابلتها على مصادرها الأصلية من كتب السنة. 3 - إذا أضفت كلمة أو جملة جعلتها بين معقوفين هكذا [ ... ]. 4 - إذا أضفت شيئاً من الفوائد جعلتها في الحاشية؛ لرغبتي في بقاء الرسالة على أصلها، لعل الله أن ينفع بها كاتبها. 5 - ذكرت في الحاشية جميع الأحاديث في غزوة فتح مكة التي أوردها البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه [الكتب الستة]، التي ذكرها ابن الأثير رحمه الله في جامع الأصول من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد قسمتها في حواشي الكتاب تحت الأبواب المناسبة لها من البحث، رغبة في أن

يكون البحث مدعوماً بالأدلة من السنة النبوية المطهرة. والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله من العمل المقبول للابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربهم إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر في شعبان، 1423هـ

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فإن موضوع السيرة النبوية من أهم الموضوعات في التاريخ الإسلامي، ومن أهم تلك الموضوعات: غزوة فتح مكة (¬1). وقد اخترت هذا الموضوع لكثرة ما كتب فيه، فأردت أن ألخصه وأختصره اختصاراً مفيداً. وقد كتبت هذا البحث على شكل أبواب أربعة. كل باب له فصلان ولكل فصل مبحثان على النحو الآتي: الباب الأول: الأسباب التي دعت إلى فتح مكة والإعداد له. الفصل الأول: الأسباب التي دعت إلى فتح مكة. المبحث الأول: سبب الفتح. المبحث الثاني: أبو سفيان يقصد المدينة للمفاوضات. الفصل الثاني: الإعداد للفتح. ¬

(¬1) ((الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه، ورسوله، وجنده، وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده، وبيته الذي جعله هُدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضُربَتْ أطنابُ عِزِّه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجاً، خرج له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتائب الإسلام، وجنود الرحمن سنة ثمانٍ لعشرٍ مضين من رمضان، واستعمل على المدينة أبا رُهْم كُلثوم بن حصين الغِفاري، وقال ابن سعد: بل استعمل عبد الله بن أمّ مكتوم)). [زاد المعاد، لابن القيم، 3/ 394].

المبحث الأول: عزم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على التجهز والحشد. المبحث الثاني: محاولة نقل نبأ الغزو. الباب الثاني: مسيرة الجيش النبوي. الفصل الأول: توزيع الجيش، وزحفه، وتحركه، والوضع المكي. المبحث الأول: توزيع الجيش عسكرياً. المبحث الثاني: زحف الجيش، وتحركه، والوضع المكي. الفصل الثاني: تجسّس قريش للأخبار. المبحث الأول: إسلام العباس، وتجسّس قريش للأخبار النبوية. المبحث الثاني: إسلام أبي سفيان، والعرض العسكري أمامه. الباب الثالث: دخول مكة المكرمة. الفصل الأول: ترتيبات العسكر الإسلامي في الدخول. المبحث الأول: ترتيبات الدخول. المبحث الثاني: مشابكات مع فرسان خالد بن الوليد. الفصل الثاني: دخول المسجد الحرام. المبحث الأول: دخول المسجد الحرام، وتحطيم الأصنام. المبحث الثاني: أخبار المهدرة دماؤهم. الباب الرابع: الآثار الاستراتيجية للفتح، ومقومات النصر.

الفصل الأول: الآثار الاستراتيجية للفتح، ودروس منه. المبحث الأول: الآثار الاستراتيجية للفتح. المبحث الثاني: دروس من الفتح. الفصل الثاني: مقومات الانتصار في الفتح. المبحث الأول: الهدف. المبحث الثاني: الوسيلة. والحمد لله أولاً وآخراً لم [تقابلني أي] صعوبة في إعداد هذا البحث، وأشكر الله، ثم أشكر أستاذ البحث الأستاذ الفاضل صاحب الفضائل والشمائل: محمد السليم الذي كانت له يد الفضل بعد الله في إعداد هذا البحث جزاه الله خيراً، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الباحث عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني

الباب الأول: الأسباب التي دعت إلى فتح مكة والإعداد له

الباب الأول الأسباب التي دعت إلى فتح مكة والإعداد له الفصل الأول: الأسباب التي دعت إلى فتح مكة. المبحث الأول: سبب الفتح. المبحث الثاني: أبو سفيان يقصد المدينة للمفاوضات. الفصل الثاني: الإعداد للفتح. المبحث الأول: عزم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على التجهز والحشد. المبحث الثاني: محاولة نقل نبأ الغزو.

الفصل الأول: الأسباب التي دعت إلى فتح مكة

الفصل الأول: الأسباب التي دعت إلى فتح مكة المبحث الأول: سبب الفتح في السنة الثامنة من الهجرة نقضت قريش عهدها (عهد صلح الحديبية)، فأصبح لاغياً؛ لأنها ظلت جامدة على كفرها وعنادها، غير واعية للأحداث الخطيرة في جزيرة العرب التي غيَّرت الأحداث والأحوال، وتوشك أن تغير العالم كله، [و] في ذلك العام اعتدت قبيلة بني بكر (حلفاء قريش) على خزاعة (حلفاء المسلمين) (¬1)، فقتلوا منهم ¬

(¬1) قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ((وكان السبب الذي جرَّ إليه وحدا إليه، فيما ذكر إمامُ أهل السير والمغازي والأخبار محمد بن إسحاق بن يسار، أن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عَدَتْ على خزاعة، وهم على ماء يُقال له: الوتير، فبيَّتوهم وقتلوا منهم، وكان الذي هاج ذلك أن رجلاً من بني الحضرمي يقال له: مالك بن عبَّاد خرج تاجراً، فلما توسّط أرض خزاعة، عَدَوْا عليه فقتلوه، وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من بني خُزاعة فقتلوه، فعدت خُزاعة على بني الأسود، وهم سَلْمى، وكلثوم، وذُؤيب، فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم [حجارة تجعل علامات بين الحل والحرم]، هذا كله قبل المبعث، فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء الإسلام، حجز بينهم، وتشاغل الناس بشأنه، فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش، وقع الشرط: أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهده، فَعَلَ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم، فعل، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خُزاعة في عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهده، فلما استمرت الهدنة، اغتنمها بنو بكر من خزاعة، وأرادوا أن يصيبوا منهم الثأر القديم، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في جماعة من بني بكر، فبيت خُزاعة وهم على الوتير، فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا، واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل مستخفياً ليلاً، ذكر ابن سعد منهم: صفوان بن أمية، وحُويطب بن عبد العزى، ومِكْرز بن حفص، حتى حازوا خُزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه، قالت بنو بكر: يا نوفل! إنا قد دخلنا الحرم، إلهك، إلهك. فقال كلمة عظيمة: لا إله له اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرِقُون في الحرم، أفلا تُصيبون ثأركم فيه؟! فلما دخلت خزاعة مكة، لجؤوا إلى دار بُديل بن ورقاء الخُزاعي، ودار مولى لهم يقال له: رافع، ويخرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قَدِمَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني أصحابه، فقال: يا ربِّ إني ناشدُ محمّداً ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا ... )) [زاد المعاد لابن القيم، 3/ 395 - 396]، وذكر الأبيات الكاملة، ويأتي ذكرها بعد قليل.

عدداً كبيراً، وقريش تمدهم بالسلاح وتعينهم على البغي في الحرم سراً. وعلى الرغم من أن العقلاء من بني بكر حذّروا زعيمهم من القتال في الحرم، وقالوا: إلهك، إلهك، إلا أنه تمادى، وقال: لا إله لي اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فَلَعَمْري إنكم لتسرقون فيه، أفلا تُصيبون ثأركم فيه (¬1)؟ واستمرت المقاتلة في الحرم باشتراك رجال من قريش، وفزعت خزاعة مما حلّ بها، وبعثت وفداً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنشد عمرو بن سالم قصيدة أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، [فَذُكِرَ عنه أنه - صلى الله عليه وسلم -] قال: ((نُصرتَ يا عمرَو بنَ سالمٍ)) (¬2). ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، 4/ 46 - 47، ط مكتبة المنار، والفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لابن كثير، ص173، ط مكتبة المعارف، وط دار الصفا، ص122، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، 7/ 519 - 520، ط مكتبة المعارف، دار الفيحاء، وزاد المعاد لابن قيم الجوزية، 3/ 395، ط مؤسسة الرسالة. (¬2) ذكر ابن هشام في السيرة، 4/ 10 - 11 الأبيات التي قالها عمرو بن سالم الخزاعي أمام رسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ... يا ربّ إني ناشد محمّداً ... حلفَ أبيه وأبينا الأتلدا قد كنتم وُلداً وكنا والِدا ... ثَمَّت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر هداك الله نصر اً أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجرّدا ... إن سِيم خسفاً وجهه تربَّدا في فيلق كالبحر يجري مُزبداً ... إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكَّدا ... وجعلوا لي في كَدَاءٍ رُصَّدا وزعموا أن لست أدعو أحداً ... وهم أذلّ وأقلّ عددا هم بيَّتونا بالوتير هُجَّدا ... وقتَّلونا ركَّعاً وسُجَّدا وذكر هذه الأبيات أيضاً ابن القيم في الزاد، 3/ 396، وأضاف للبيت الرابع: أبيض مثل البدر يسموا صُعُدا، وجعل عجز البيت الرابع صدر البيت الخامس، وهكذا حتى نهاية الأبيات، فجاء عجز البيت الأخير في سطر مستقل، كما ذكر أن صدر البيت الأول: فانصر هداك الله نصراً أبداً. قال الأرنؤوط في تحقيقه لزاد المعاد لابن القيم، 3/ 396: في قصة عمرو بن سالم وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نصرت يا عمرو بن سالم)) أخرجه ابن هشام عن ابن إسحاق بلا سند، ووصله الطبراني في الصغير، ص 222 من حديث ميمونة بنت الحارث رَضْيَ اللَّهُ عنْهَا بإسناد ضعيف)). كما أن الحافظ ابن حجر ذكر الأبيات مختصرة، وفيها تقديم وتأخير، انظر: الفتح، 7/ 519 - 520، وانظر أيضاً: عمر بن عبد العزيز العبيدي، من معارك المسلمين في رمضان، ص27، 28. شرح الكلمات الغريبة: * ومعنى ناشد: طالب، ومذكّر. * والأتلد: القديم. * ونصراً أعتداً: أي حاضراً. * والمدد: العون. * وتجرّدا: شمّر، وتهيّأ لحربهم. * وسيم خسفاً، معناه: طلب منه، وكلفه. * وتربدا: تغيرا [حاشية سيرة ابن هشام، 4/ 11].

المبحث الثاني: قصود أبي سفيان المدينة للمفاوضات

المبحث الثاني: قصود أبي سفيان المدينة للمفاوضات أحست قريش بخطأٍ فادح وقعت فيه، غير واعية للأحداث التي

غيّرت مجرى الأحوال، وذلك بعدد أن أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليها بقبول أحد الشروط الآتية: أ - إما أن تدفع ديات من قتل من خزاعة. ب - إما أن تحلّ نفسها من عهد بني بكر. ج - إما أن تعلن أن صلح الحديبية أمسى لاغياً. فردّت قريش بقبول الشرط الأخير. وقد أسرع أبو سفيان للمدينة، يحاول أن يصلح ما وقع فيه القرشيون من النقض الصارخ للصلح (¬1)، بيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يغفل ¬

(¬1) قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وقد بعثته قريش [يعني أبا سفيان] إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليشدّ العقد، ويزيد في المدّة، وقد رهبوا الذي صنعوا، ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، طوته عنه، فقال: يا بُنيّة، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ فقالت: بل هو فِراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت مشركٌ نجسٌ، فقال: والله لقد أصابك بعدي شرّ [لا والله بل أصابها الخير]. ثم خرج حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلّمه، فلم يردّ عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلّم له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلَّمه، فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فوالله لو لم أجد إلا الذِّرَّ لجاهدتكم به، ثم جاء فدخل على عليٍّ بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسنٌ غلام يدبّ بين يديهما، فقال: يا عليّ، إنك أمسُّ القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعنَّ كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمر ما نستطيع أن نكلّمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: ((هل لك أن تأمري ابنك هذا، فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدّت عليَّ، فانصحني، قال: والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجِرْ بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً، قال: لا والله ما أظنه، ولكني ما أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس! أني قد أجرتُ بين الناس، ثم ركب بعيره، فانطلق، فلمّا قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلَّمته، فوالله ما ردَّ عليّ شيئاً، ثم جئت ابن أبي قُحافة، فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أعدى العدو، ثم جئت عليّاً فوجدته ألين القوم، قد أشار عَليَّ بشيء صنعته، فوالله ما أدري، هل يغني عني شيئاً، أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بن الناس، ففعلت، فقالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك، والله إن زاد الرجل على أن لعب بك. قال: لا والله، ما وجدت غير ذلك)) [زاد المعاد، 3/ 397 - 398].

المكيدة، فلم يقبل المساومة (¬1). ¬

(¬1) قال ابن كثير في الفصول، ص174 - 175: وذهب أبو سفيان حتى قدم المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورَضْيَ اللَّهُ عنْهَا، فذهب ليقعد على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمنعته، وقالت: إنك رجل مشرك نجس. فقال: والله يا بنيّة لقد أصابك بعدي شرٌّ. ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرض عليه ما جاء له، فلم يجبه - صلى الله عليه وسلم - بكلمة واحدة، ثم ذهب إلى أبي بكر - رضي الله عنه -، فطلب منه أن يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأبى عليه، ثم جاء إلى عمر - رضي الله عنه -، فأغلظ له، وقال: أنا أفعل ذلك؟! والله لو لم أجد إلا الذّرّ لقاتلتكم به، وجاء علياً - رضي الله عنه -، فلم يفعل، وطلب من فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورَضْيَ اللَّهُ عنْهَا أن تأمر ولدها الحسن أن يجير بين الناس، فقالت: ما بلغ بني ذلك، وما يجير أحد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشار عليه علي - رضي الله عنه - أن يقوم هو فيجير بين الناس، ففعل، ورجع إلى مكة، فأعلمهم بما كان منه ومنهم، فقالوا: والله ما زاد – يعنون علياً – أن لعب بك. وانظر: السيرة النبوية لابن هشام، 4/ 55 - 56، وزاد المعاد لابن القيم، 3/ 397 - 398، وانظر أيضاً: أحمد السايح، معارك حاسمة في حياة المسلمين، ص88، و89.

الفصل الثاني: الإعداد للفتح

الفصل الثاني: الإعداد للفتح المبحث الأول: عزم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على التجهز والحشد لما خاب أمل أبي سفيان، انقلب إلى مكة خائب الرجاء، وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالاستعداد والتهيؤ للمسير، ودخل - صلى الله عليه وسلم - على عائشة، وقال: جهِّزينا، وأخفي أمرك (¬1)، ودخل أبو بكر على ابنته وهي تجهز الرسول عليه الصلاة والسلام، تعمل دقيقاً وسويقاً. وسألها الأب الصَدِّيق عن عزم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ فقالت: ما أدري، واستعجمت عليه حتى دخل رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال له: يا رسول الله: أردت سفراً؟ قال: نعم، قال: أفأتجهز؟ ¬

(¬1) روى البخاري، ومسلم عن ابن عباس رَضْيَ اللَّهُ عنْهمَا: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا غزوة الفتح في رمضان)). قال الزهري: وسمعت سعيد بن المسيب يقول: مثل ذلك. وفي رواية له ولمسلم: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج [في رمضان] من المدينة، ومعه عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة، يصوم ويصومون، حتى بلغ الكديد - وهو ما بين عُسفان وقُديد - أفطر وأفطروا ((إلا أن لفظ البخاري أتم وأطول)). [أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان، برقم 4275، وفي كتاب الصوم، باب إذا صام أياماً من رمضان ثم سافر، برقم 1944، وفي كتاب الجهاد، باب الخروج في رمضان، برقم 2953، ومسلم، كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في نهار رمضان، برقم 1113، وانظر الأحاديث برواياتها في صوم النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح: صحيح البخاري برقم 1944، و1948، و2953، 4275، و4276، و4277، و4278، و4279].

قال: نعم. قال أبو بكر: فأين تريد يا رسول الله؟ قال: قريشاً، وأخفِ ذلك يا أبا بكر. وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بالجهاز، وأخفى عنهم الوجه الذي يريده. واستمع المسلمون لأمر القيادة العليا، فمضوا يعبئون قواهم ويستعدون للسير مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، ولما كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد كتم النبأ، فقد ظن بعض أصحابه أنه كان يُخطّط لغزو الروم، ومنهم من اعتقد أنه يُخطط لهوازن وثقيف وهكذا. وفي تكتمه ذلك أرسل عليه الصلاة والسلام لسكان البادية ومن دخل في الإسلام من حوله بالقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة، وقد لاقت دعوته قبولاً واستجابة. وقد عقد الرسول عليه الصلاة والسلام مجلساً مع خاصة أصحابه، ¬

(¬1) قال ابن هشام في السيرة، 4/ 56 - 57: وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجهاز، وأمر أهله أن يجهّزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رَضْيَ اللَّهُ عنْهَا وهي تحرك بعض جهاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أي بنيّة أأمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تجهّزوه؟ قالت: نعم، فتجهّز. قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا، والله ما أدري. ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال: ((اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها)) فتجهز الناس. انظر: زاد المعاد، 3/ 398، والفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ص175، وحديث: ((اللهم خذ العيون)) صححه محقق سيرة ابن هشام، وانظر أيضاً: أحمد السايح، معارك حاسمة في حياة المسلمين ص89.

المبحث الثاني: محاولة نقل نبأ الغزو

فأشار عليه أبو بكر بما كان يرغب فيه من التأني، في حين كان عمر بن الخطاب يرى ضرورة المضي بقرار فتح مكة؛ لأنه لا وسيلة لضم القبائل الوثنية إلا بضم قريش للمعسكر الإسلامي. وقد التزم بالكتمان عن الجند، رغم التشاور مع خاصة أصحابه، علماً بأنه جمع عشرة آلاف مقاتل وأكثر، وهم لا يعلمون مكان اتجاههم إلا عندما وصلوا إلى (مرّ الظهران) (¬1) حيث علموا فقط بأن وجهتهم مكة؛ لإنهاء الوجود الوثني إلى الأبد. كما أنهم أمِروا بالتكتم، وزيادة على ذلك فقد تمّ التخطيط للتعمية على العدو، وقد أرسل - صلى الله عليه وسلم - سرايا إلى نجد وغيرها للتعمية على قريش. ويُروى أنه بالحراسة المكثفة على الطرق المؤدية إلى مكة فقد تم النجاح في خطة الكتمان إلى أقصى حد (¬2). المبحث الثاني: محاولة نقل نبأ الغزو عندما قرر عليه الصلاة والسلام المسير أخبر صحابته بأن وجهته مكة، فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى ثلاثة من قريش، وهم: سهيل بن عمرو، صفوان بن أمية، عكرمة بن أبي جهل. كتب إليهم؛ ليخبرهم بالذي أجمع عليه الرسول عليه الصلاة والسلام ¬

(¬1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح، 8/ 7: مَرَّ الظهران: بفتح الميم وتشديد الراء: مكان معروف. والعامة تقول له بسكون الراء وزيادة الواو. والظهران: بفتح المعجمة وسكون الهاء بلفظ تثنية الظهر. (¬2) زاهية الدجاني. فتح مكة نصر مبين، ص47 - 51.

من الأمر في المسير إليهم، ثم أعطاه لامرأة مشركة اسمها: سارة، وجعل حاطب لسارة جُعلاً على أن تبلغه قريشاً، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، وقال لها: أخفيه ما استطعتِ، ولا تمرّي على الطريق، فإنّ عليه حراساً (¬1). ¬

(¬1) روى البخاري ومسلم وأبو داود، والترمذي قصة حاطب - رضي الله عنه -، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال عٌبيد الله بن أبي رافع - وكان كاتباً لعلي - سمعت علياً - رضي الله عنه - يقول: ((بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنا والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ - هي بين مكة والمدينة، بقرب المدينة - فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها، فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرِجِنَّ الكتاب، أو لنلقينَّ الثياب، فأخرجته من عقاصها، قال: فأتينا به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا حاطب، ما هذا؟ فقال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرأ ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسهم [في نسخ البخاري ومسلم المطبوعة: من أنفسها] فكان من معك من المهاجرين لهم قرابة يحمون بها أموالهم وأهليهم بمكة، فأحببت - إذا فاتني ذلك من النسب فيهم - أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفراً، ولا ارتداداً عن ديني، ولا رضى بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه قد صدقكم))، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم))، قال: فأنزل الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (الممتحنة: 1). وفي رواية أبي عبد الرحمن السلمي [عن علي] قال: ((بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والزبير بن العوام وأبا مرثد - وكلنا فارس .. ثم ساقه بمعناه))، ولم يذكر نزول الآية، ولا ذكرها في حديث عبيد الله بعض الرواة، وجعلها بعضهم من تلاوة سفيان، وقال سفيان: لا أدري الآية في الحديث، أو من قول عمرو - يعني ابن دينار. وفي رواية نحوه، وفيه: ((حتى أدركناها حيث قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسير على بعير لها، فقلنا: أين الكتاب الذي معك؟ قالت: ما معي من كتاب فأنخنا بعيرها، فابتغينا في رحلها، فما وجدنا شيئاً، فقال صاحباي: ما نرى معها كتاباً، فقلتُ: لقد علمنا ما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما كذبَ، والذي يُحلف به لتخرِجنّ الكتاب، أو لأجرِّدنَّك، فأهوت إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجت الصحيفة من عِقاصها، فأتينا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وذكر الحديث)). أخرجه البخاري، ومسلم، وأخرج أبو داود، والترمذي الرواية الأولى، رواه البخاري، 7/ 400 في المغازي، باب فتح مكة، وباب فضل من شهد بدراً، وفي الجهاد، باب الجاسوس، وباب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة والمؤمنات إذا عصين الله وتجريدهن، وفي تفسير سورة الممتحنة في فاتحتها، وفي الاستئذان، باب من نظر في كتاب من يحذر من المسلمين ليستبين أمره، وفي استتابة المرتدين، باب ما جاء في المتأولين، ومسلم، برقم 2494 في فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر - رضي الله عنهم -، وقصة حاطب بن أبي بلتعة، وأبو داود، برقم 2650، و2651 في الجهاد، باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلماً، والترمذي، برقم 3302 في تفسير القرآن، باب ومن سورة الممتحنة. شرح الغريب: * (الظعينة) في الأصل: المرأة ما دامت في الهودج، ثم جُعلت المرأة إذا سافرت ظعينة، ثم نقل إلى المرأة نفسها، سافرت أو أقامت، وظعن يظعن: إذا سافر. * (عقاصها): العقاص: الخيط الذي تعقص - أي تشد - به المرأة أطراف ذوائبها، وأصل العقص: الضفر والليُّ، هكذا شرحه الحميدي في غريبه، وفيه نظر، فإن العقاص: جمع عقصة أو عقيصة، وهي الضفيرة من الشعر إذا لويت وجعلت مثل الرمانة، أو لم تلو، والمعنى: أخرجت الكتاب من ضفائرها المعقوصة. * (مُلصقاً): الملصق: هو الرجل المقيم في الحي، وليس منهم بنسب. * (ابتغينا): الابتغاء: الطلب. * (حجزة) احتجز الرجل: شدّ إزاره على وسطه، والحجزة: موضع الشدّ. [جامع الأصول لابن الأثير 8/ 361]. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: ((كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، فأطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فبعث عليّاً والزبير في أثر الكتاب، فأدركا المرأة على بعير، فاستخرجاه من قرونها، فأتيا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إلى حاطب، فقال: يا حاطب، أنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: فما حملك على ذلك؟ قال: يا رسول الله، أما والله إني لناصح لله ولرسوله، ولكني كنت غريباً في أهل مكة، وكان أهلي بين ظهرانيهم، وخشيت عليهم، فكتبت كتاباً لا يضر الله ورسوله شيئاً، وعسى أن يكون منفعة لأهلي، قال عمر: فاخترطت سيفي، ثم قلت: يا رسول الله، أمكني من حاطب، فإنه قد كفر، فأضرب عنقه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا ابن الخطاب، ما يدريك؟ لعل الله قد اطّلع على هذه العصابة من أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد)، 9/ 303، و304، ونسبه لأبي يعلى في (الكبير)، والبزار، والطبراني في (الأوسط)، وقال الهيثمي: ورجالهم رجال الصحيح. * (ظهرانيهم): فلان بين ظهراني القوم بفتح النون: أي بينهم وعندهم.

وجاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء، فبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب، والزبير وقال لهم: أدركوا المرأة، قد كتب معها حاطب كتاباً إلى قريش، يحذّرهم ما قد أجمعنا من أمرنا. فخرجوا حتى أدركوها، وحاولت إخفاء الكتاب، لكنهم أرغموها بإخراجه، فأخرجته من ضفائرها. وعاتب الرسول - صلى الله عليه وسلم - حاطب [بن أبي بلتعة - رضي الله عنه -] على ما فعله، وقال: ((وما يدريك يا عمر! لعلّ الله قد اطّلع على أصحاب بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم)) (¬1). ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 4274، ومسلم، برقم 2494، وتقدم تخريجه، وانظر: شوقي أبو خليل: الفتح الأعظم، ص39 - 43.

الباب الثاني: مسيرة الجيش النبوي

الباب الثاني مسيرة الجيش النبوي الفصل الأول: توزيع الجيش، وزحفه، وتحرّكه، والوضع المكي. المبحث الأول: توزيع الجيش عسكرياً. المبحث الثاني: زحف الجيش، وتحرّكه، والوضع المكي. الفصل الثاني: تجسّس قريش للأخبار. المبحث الأول: إسلام العباس، وتجسّس قريش للأخبار النبوية. المبحث الثاني: إسلام أبي سفيان، والعرض العسكري أمامه.

الفصل الأول: توزيع الجيش، وتحركه، والوضع المكي

الفصل الأول: توزيع الجيش، وتحركه، والوضع المكي المبحث الأول: توزيع الجيش عسكرياً [نأخذ] بالرواية التي تقول بأن جيش الرسول - صلى الله عليه وسلم - الزاحف إلى مكة بلغ عشرة آلاف مقاتل (¬1)، فقد يكون التوزيع كالآتي: - أربعة آلاف مقاتل من الأنصار. - سبعمائة مقاتل من المهاجرين. - ألف مقاتل من قبيلة مزينة. - أربعمائة مقاتل من أسلم. - ثمانمائة مقاتل من قبيلة جهينة. - خمسمائة مقاتل من بني كعب. - أما الفرسان [فـ] يقال: إنهم شكلوا ألفين وثمانين فارساً (¬2). وهذا توزيع مجدول مختصر لجيش الرسول عليه الصلاة والسلام ¬

(¬1) انظر صحيح البخاري، برقم 4275، ورقم 1944، و2953، ومسلم، برقم 1113، وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن هشام، 4/ 60. (¬2) قال ابن هشام في السيرة، 4/ 60: قال ابن إسحاق: ثم مضى حتى نزل مرّ الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، فسبَّعت سليم، وبعضهم يقول ألَّفت سليم. وألّفت مزينة. وأوعب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المهاجرون والأنصار، فلم يتخلف عنه منهم أحد. وانظر: الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ص175، وزاد المعاد، 3/ 400، وانظر أيضاً: زاهية الدجاني، فتح مكة نصر مبين، ص55.

القبيلة أو الكتيبة ... أفرادها ... عدد الألوية ... حاملو الألوية بنو سليم بقيادة خالد بن الوليد ... 700 - 1000 ... 2 ... العباس بن مرداس خفاف بن ندبة المهاجرون بقيادة الزبير بن العوام ... 700 + 300 فرس ... 1 ... الزبير بن العوام بنو غفار ... 400 ... 1 ... أبو ذر الغفاري أسلم ... 400 + 30 فرساً ... 2 ... بريدة بن الحصيب ناجية بن الأعجم خزاعة (بنو كعب بن عمرو) ... 500 ... 1 ... بشير بن سفيان مزينة ... 1003 + 100 فرس ... 3 ... النعمان بن بشير، عمرو بن عوف، بلال بن الحارث جهينة ... 800 + 50 فرساً ... 4 ... معبد بن خالد، سويد بن صخر، رافع بن مكيث، عبد الله بن بدر كنانة، بنو ليث، ضمرة، سعد بن بكر ... 200 ... 1 ... أبو واقد الليثي أشجع ... 300 ... 2 ... معقل بن سنان، نعيم بن مسعود قضاعة، بنو تميم، بنو فزارة، سعد بن هزيم ... 1000 ... عدة ألوية ... عدة أبطال الكتيبة الخضراء: كبار المهاجرين + الأنصار ... 4000 + 500 فرس ... عدة ألوية ... عدة أبطال (¬1) ¬

(¬1) قال ابن هشام في السيرة/ 4/ 91: ... قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف. من بني سليم سبعمائة. ويقول بعضهم: ألف. ومن بني غفار أربعمائة. ومن أسلم أربعمائة. ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد. وانظر أيضاً: شوقي أبو خليل، فتح مكة، الفتح الأعظم، ص52 - 53.

المبحث الثاني: زحف الجيش، وتحركه، والوضع المكي

المبحث الثاني: زحف الجيش، وتحركه، والوضع المكي هذا وتحرك الجيش، وقد وصل إلى منطقة تابعة لثقيف، ناحية الطائف، وهذا يعني أنه انحرف ذات اليمين تاركاً مكة عن يساره بعض الوقت، ثم عاد واستوى على الطريق الرئيس متجهاً إلى مكة عبر وادي الظهران، ولما كانوا بمنطقة العرج، يقال بأن وحدة عسكرية تابعة لطلائع الجيش الإسلامي ألقت القبض على جاسوس كان يعمل لحساب قبيلة هوازن، ولدى استجوابه عُلِمَ أن هوازن كانت تُعدُّ لحربه. وقد أسلم ذلك الجاسوس، مع العلم بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد خاض لاحقاً معركة مع هوازن، وهي حنين (¬1). ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم، والناس صيام، حتى كانوا بالكديد، فأفطر، وأفطر الناس، ووصل الجيش الإسلامي إلى مرّ ¬

(¬1) عن أبي إسحاق أنه سمع البراء وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين؟ فقال: لكنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفر. كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم فاستُقبلنا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها، وهو يقول: أنا النبي لا كذب. أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} برقم 4317. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح، 8/ 27: ((ولأبي داود بإسناد حسن من حديث سهل ابن الحنظلية أنهم ساروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين فأطنبوا السير، فجاء رجل فقال: إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم، ونعمهم، وشائهم قد اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله تعالى)). وانظر: زاهية الدجاني، فتح مكة نصر مبين، ص56، 57.

الظهران (¬1). وقد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام جميع العسكر بأن يوقدوا النار في كل خيمة ومعسكر، وهذا فيه أثر نفسي على المكيين (¬2). ¬

(¬1) عن ابن عباس رَضْيَ اللَّهُ عنْهمَا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار هو ومن معه من المسلمين إلى مكة، يصوم ويصومون، حتى بلغ الكديد – وهو ماء بين عسفان وقديد – أفطر وأفطروا. أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان، برقم 4276، ومسلم في كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، برقم 1113، وانظر: عبد العزيز العبيدي، من معارك المسلمين في رمضان، ص29. (¬2) قال ابن القيم في زاد المعاد، 3/ 401: فلما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ الظهران نزله عشاء، فأمر الجيش فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار. وانظر: أحمد السايح، معارك حاسمة في تاريخ المسلمين، ص93.

الفصل الثاني: تجسس قريش للأخبار

الفصل الثاني: تجسس قريش للأخبار المبحث الأول: إسلام العباس، وتجسسات قريش للأخبار النبوية وقد أسلم جمع من قريش بعدما عمَّى الله الأخبار عنها، ومنهم العباس بن عبد المطلب، وعياله (¬1). وما إن توصل زعماء قريش إلى الأخبار حتى رأوا ضرورة استقصاء ما يجري، أو ما قد جرى من جانب المسلمين. ويروى أن أبا سفيان اجتمع مع حكيم بن حزام (¬2)، بإضافة إلى بديل بن ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 3/ 440، وانظر أيضاً: عبد العزيز العبيدي، من معارك المسلمين في رمضان، ص29. (¬2) روى البخاري عن عروة بن الزبير رَضْيَ اللَّهُ عنْهمَا قال: ((لما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، فبلغ ذلك قريشاً، خرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبُديل بن ورقاء، يلتمسون الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبلوا يسيرون، حتى أتوا مرَّ الظهران، فإذا هم بنيران، كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنها نيران عرفة، فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال: أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأدركوهم فأخذوهم، فأتوا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال للعباس: احبس أبا سفيان عند خطم الجبل، حتى ينظر إلى المسلمين، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان، فمرت كتيبة، فقال: يا عباس، من هذه؟ قال: هذه غفار، قال: ما لي ولغفار، ثم مرت جهينة، فقال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم، فقال مثل ذلك، ثم مرت سُليم، فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان ((اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس، حبذا يوم الذمار، ثم جاءت كتيبة، وهي أجل الكتائب، فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وراية النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الزبير، فلما مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي سفيان، قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: ما قال؟ قال: قال كذا وكذا، فقال: كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة، [ويوم تكسى فيه الكعبة] قال: وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تركز رايته بالحجون، قال عروة: فأخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير [بن العوام]: يا أبا عبد الله، أهاهنا أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تركز الراية؟ قال: نعم، قال: وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء، ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من كُدى، فقُتل من خيل خالد بن الوليد يومئذ رجلان: حبيش بن الأشعر، وكرز بن جابر الفهري))، [أخرج البخاري في المغازي، باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح، برقم 4280]، قال الحافظ في (الفتح)، 8/ 10: قوله: وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء، أي: بالمد، ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من كُدى، أي: بالقصر، قال الحافظ: وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية أن خالداً دخل من أسفل مكة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - من أعلاها، وكذا جزم ابن إسحاق أن خالداً دخل من أسفل مكة، ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعلاها، وضربت له هناك قبة، وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقاً واضحاً، فقال: وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم، وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة، وأمره أن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيره وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وأن يغرز رايته أدنى البيوت، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرهم أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم. [وقد جاءت الأحاديث الصحيحة الكثيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم فتح مكة من أعلاها من كداء، انظر: البخاري، برقم 4290، و1575، و1577 - 1581، ومسلم، برقم 1257 - 1260]. شرح الغريب: * (خطم الجبل) هذه اللفظة قد جاءت في كتاب الحميدي (خطم الجبل)، وفسرها في غريبه فقال: الخطم والخطمة: رعن الجبل، وهو الأنف النادر منه، والذي جاء في كتاب البخاري - فيما قرأناه - وفي غيره من النسخ (حطم الخيل) مضبوطاً هكذا، وذلك بخلاف رواية الحميدي، فإن صحت الرواية، ولم تكن خطأ من الكتاب، فيكون معناه - والله أعلم - أنه يقف به في الموضع المتضايق الذي تتحطم فيه الخيل، أي: يدوس بعضها بعضاً، ويحطم بعضها بعضاً، فيراها جميعاً، وتكثر في عينه، بكونها في ذلك الموضع الضيق، بخلاف ما إذا كانت في موضع متسع، وكذلك أراد بوقوفه عند خطم الجبل على ما شرحه الحميدي، فإن الأنف النادر من الجبل يضيق الموضع الذي يخرج فيه، والله أعلم. * (كتيبة) الكتيبة: واحدة الكتائب، وهي العساكر المرتبة. * (الملحمة): الحرب والقتال الذي لا مخلص منه. * (الذمار): ما لزمك حفظه، يقال: فلان حامي الذمار: يحمي ما يجب عليه حفظه. * (بالحجون): الحجون: أحد جبلي مكة من جهة الغرب والشمال. * (من كداء) كداء بالفتح والمد: ثنية من أعلى جبل مكة، مما يلي المقبرة، وكُدى - بالضم والقصر - ثنية من أسفل مكة. [جامع الأصول، 8/ 366]. وعن عبد الله بن عباس رَضْيَ اللَّهُ عنْهمَا قال: ((لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ الظهران، قال العباس: قلت: والله، لئن دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه، إنه لهلاك قريش، فجلست على بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: لعلِّي أجد ذا حاجة يأتي [أهل] مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخرجوا إليه، فيستأمنوه، فإني لأسير [إذا] سمعت كلام أبي سفيان، وبديل بن ورقاء، فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟ قلتُ: نعم، قال: ما لك فداك أبي وأمي؟ قلت: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس، قال: فما الحيلة؟ [قال]: فركب خلفي، ورجع صاحبه، فلما أصبح غدوت به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم، قلتُ: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئاً، قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، قال: فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد)). وفي رواية مختصرة: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءه العباس بن عبد المطلب بأبي سفيان بن حرب، فأسلم بمرّ الظهران، فقال له العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فلو جعلت له شيئاً؟ قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن)) أخرجه أبو داود، برقم 3021، و3022 في الخراج والإمارة، باب ما جاء في خبر مكة، ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - برقم 3024، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 256.

ورقاء، في دار الندوة، وامتثلوا لاقتراح أبي سفيان، وهو الخروج إلى الصحراء لترصد الطرق واستقصاء الأخبار (¬1). ¬

(¬1) قال ابن القيم في زاد المعاد، 3/ 400: ((ثم مضى حتى نزل مرّ الظهران، وهو بطن مرِّ، ومعه عشرة آلاف، وعمَّى الله الأخبار عن قريش، فهم على وجل وارتقاب، وكان أبو سفيان يخرج يتحسّس الأخبار، فخرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار، وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، فلقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجحفة، وقيل: فوق ذلك)). وانظر: سيرة ابن هشام، 4/ 60 - 61، والفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ص175 - 176.

وخرجوا، وبخروجهم ذلك، فقد ساروا حتى أشرفوا على معسكر المسلمين في سهل مرّ الظهران، فرأوا نيراناً عظمية، وقباباً كثيرة تشير إلى كثافة النازلين هناك، وهنا قال أبو سفيان: ما رأيت كالليلة نيراناً قط. فقال بديل: هذا والله خزاعة حمشتها الحرب (¬1). فقال أبو سفيان: خزاعة أقلّ وأذلّ (¬2) أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، وفي تلك الأثناء، وصل العباس نحو مكان يقرب منهم: فسمع ما كان يدور من كلام، وتعرف على صوت أبي سفيان، فناداه، فردّ أبو سفيان: لبّيك، فداك أبي وأمي، فما وراءك؟! قال العباس: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورائي قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به، بعشرة آلاف مقاتل من المسلمين (¬3). ¬

(¬1) قوله: حمشتها الحرب: معناه أحرقتها. ومن قال: حمستها بالسين المهملة فمعناه: اشتدت عليها، وهو مأخوذ من الحماسة وهي الشدة والشجاعة. نقلاً من حاشية السيرة النبوية، 4/ 63. (¬2) عن هشام عن أبيه قال: لمّا سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح فبلغ ذلك قريشاً، خرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مرَّ الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة. فقال: أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنها نيران عرفة. فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو. فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك .. الخ. أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح؟، برقم 4280. (¬3) انظر الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - (ص176 - 177)، وزاد المعاد (3/ 401 - 402)، والسيرة النبوية، 4/ 63، وانظر أيضاً: زاهية الدجاني، فتح مكة نصر مبين، ص58، 59.

المبحث الثاني: إسلام أبي سفيان، والعرض العسكري أمامه

المبحث الثاني: إسلام أبي سفيان، والعرض العسكري أمامه عرض العباس على أبي سفيان أن يركبه معه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسارا على بغلته البيضاء، لا يعترضها المسلمون، وفي الصباح قابل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان فقال له: ((ويحك يا أبا سفيان، أما آن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟)). - فقال أبو سفيان: بأبي أنت ما أكرمك، وما أوصلك، لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً. - فقال عليه الصلاة والسلام: ((ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟!)). - فقال: أما هذه، فإن في النفس شيئاً منها حتى الآن. - فقال له العباس: ويحك أسلم!! فأسلم، وشهد شهادة الحق. فقال أبو الفضل (العباس): يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً. قال: نعم: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن)) (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، برقم 4280 مختصراً، وغيره، ويأتي تخريجه، وانظر: عبد العزيز العبيدي، من معارك المسلمين في رمضان، ص31، 32.

وقد تم العرض العسكري أمام أبي سفيان. يقول العباس: فخرجت بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي، فكلما تمر قبيلة يقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول قبيلة كذا وكذا، فيقول: ما لي ولبني فلان (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري كما تقدم، ويأتي تخريجه، وانظر: أحمد السايح، معارك حاسمة في حياة المسلمين، ص94، 95. قصة العباس مع أبي سفيان أخرجها البخاري مختصرة في كتاب المغازي في باب: أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح؟، برقم 4280. بينما ساق هذه القصة بطولها الحافظ ابن حجر في المطالب العالية، 4/ 418 - 420، وقال: ((هذا حديث صحيح)). وقال محقق المطالب: ((قال البوصيري، 7/ 39، برقم 5251: رواه إسحاق بن راهويه بسند صحيح. ورواه أحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم، وأبو داود في سننه مختصراً، ولم يسقه أحد من الأئمة الستة، وأحمد بن حنبل بتمامه، والسياق الذي هنا حسن جداً)).

الباب الثالث: دخول مكة المكرمة

الباب الثالث دخول مكة المكرمة الفصل الأول: ترتيبات العسكر الإسلامي في الدخول. المبحث الأول: ترتيبات الدخول. المبحث الثاني: مشابكات مع فرسان خالد بن الوليد. الفصل الثاني: دخول المسجد الحرام. المبحث الأول: دخول المسجد الحرام وتحطيم الأصنام. المبحث الثاني: أخبار المهدرة دماؤهم.

الفصل الأول: ترتيبات العسكر الإسلامي في الدخول

الفصل الأول: ترتيبات العسكر الإسلامي في الدخول المبحث الأول: ترتيبات الدخول في ذي طوى، المنطقة التي تدعى اليوم في مكة بـ (الزاهر) قسم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجيش إلى خمس فرق، وقد ترأس الفرقة الأولى عليه الصلاة والسلام، أما الفرق الأخرى فهي على النحو الآتي: 1 - الزبير بن العوام، ومهمة فرقته السيطرة على البقعة الشمالية من مكة. 2 - خالد بن الوليد، كلفت مجموعته دخول مكة من الناحية الجنوبية (¬1). 3 - أبو عبيدة بن الجراح، وقد أعطيت فرقته السيطرة على الجهة الشمالية الغربية. 4 - قيس بن سعد بن عبادة، وقد كلفت مجموعته بالدخول إلى مكة من الناحية الجنوبية الغربية. وقد تحركت الفرق بالوقت المطلوب على النحو الآتي: 1 - الزبير بن العوّام: تحرّك رتله من الشمال، وقد أمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتوقّف بفرقته، ويركز رايته عند الحجون (¬2). ¬

(¬1) قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير بن العوام على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي)) مسلم، كتاب الجهاد، باب فتح مكة، برقم 86 - (1780، والبياذقة: هم الرجَّالة. (¬2) أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تركز رايته عند الحجون، قال عروة: وأخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله، هاهنا أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تركز الراية. أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح؟، برقم 4280.

2 – بالنسبة لخالد بن الوليد فقد تحرّك بمجموعته المكونة من المشاة، لكي يدخل مكة من الجنوب (المسفلة) اليوم. 3 – أما أبو عبيدة، فقد تحرّك بمجموعته المكونة من المشاة؛ لكي يدخل مكة من زاويتها الشمالية الغربية. 4 – أما قيس بن سعد، فقد اندفع ليدخل مكة من غربها (¬1) الجنوبي (¬2). ¬

(¬1) قال ابن كثير في الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، 178: وقد جعل - صلى الله عليه وسلم - أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - على المقدمة، وخالد بن الوليد - رضي الله عنه - على الميمنة، والزبير بن العوّام - رضي الله عنه - على الميسرة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القلب، وكان أعطى الراية سعد بن عبادة - رضي الله عنه -، فبلغه أنه قال لأبي سفيان حين مرّ عليه: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحلّ الحرمة، والحُرمة: هي الكعبة، فلما شكا أبو سفيان ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بل هذا يوم تعظَّم فيه الكعبة))، فأمر بأخذ الراية من سعد، فتعطى علياً، وقيل: الزبير، وهو الصحيح. اهـ. وانظر: زاهية الدجاني، فتح مكة نصر مبين، ص71 - 73. (¬2) روى الإمام مسلم، وأبو داود عن عبد الله بن رباح، قال: وفدت وفود إلى معاوية، وذلك في رمضان - فكان يصنع بعضنا لبعض طعاماً، فكان أبو هريرة - رضي الله عنه - مما يكثر أن يدعونا إلى رحله، فقلت: ألا أصنع طعاماً فأدعوهم إلى رحلي؟ فأمرت بطعام يُصنع، ثم لقيت أبا هريرة من العشي، فقلت: الدعوة عندي الليلة، فقال: سبقتني؟ فقلت: نعم، فدعوتهم، فقال أبو هريرة: ألا أُعلِمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار؟ ثم ذكر فتح مكة، فقال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قدم مكة، فبعث الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالداً على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحُسَّر، فأخذ [وا] بطن الوادي، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبةٍ، قال: فنظر فرآني، فقال: أبو هريرة؟ قلت: لبيك يا رسول الله، فقال: اهتف، لا يأتيني إلا أنصاري – ومن الرواة من قال: اهتف لي بالأنصار، قال: فأطافوا به، ووبشت قريش من أوباش لها وأتباع، وفي رواية: ووبشت قريش أوباشها وأتباعها، فقالوا: نقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سلبنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم؟ ثم قال بيديه – إحداهما على الأخرى – ثم قال: حتى توافوني بالصفا، قال: فانطلقنا، فما شاء أحد منا أن يقتل أحداً إلا قتله، وما أحد منهم يوجه إلينا شيئاً، قال: فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته، قال أبو هريرة: وجاء الوحي – وكان إذا جاء [الوحي] لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ينقضي الوحي – فلما قضي الوحي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر الأنصار، قالوا: لبيك يا رسول الله، قال: قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته؟ قالوا: قد كان ذلك، قال: كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم، فأقبلوا إليه يبكون، ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضنّ بالله وبرسوله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله ورسوله يصدقانكم، ويعذرانكم، قال: فأقبل الناس إلى دار أبي سفيان، وأغلق الناس عليهم أبوابهم، قال: وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل إلى الحجر فاستلمه، ثم طاف بالبيت قال: فأتى على صنم إلى جانب البيت كانوا يعبدونه، قال: وفي يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوس، وهو آخذ بسية القوس، فلما أتى على الصنم جعل يطعن في عينه، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} فلما فرغ من طوافه أتى الصفا، فعلا عليه حتى نظر إلى البيت، ورفع يديه، فجعل يحمد الله، ويدعو ما شاء أن يدعو)). وفي رواية بهذا الحديث، وزاد في الحديث: ((ثم قال بيديه، إحداهما على الأخرى: احصدوا حصداً)) قال: وفي الحديث: ((قالوا: ذاك يا رسول الله، قال: فما اسمي إذاً؟ كلا، إني عبد الله ورسوله)). وفي رواية أخرى قال: ((وفدنا إلى معاوية بن أبي سفيان، وفينا أبو هريرة، وكان كل رجل منا يصنع طعاماً يوماً لأصحابه، فكانت نوبتي، فقلت: يا أبا هريرة، اليوم يومي، فجاءوا إلى المنزل، ولم يدرك طعامنا، فقلت: يا أبا هريرة، لو حدثتنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يدرك طعامنا؟ فقال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي، فقال: يا أبا هريرة، ادع لي الأنصار، فدعوتهم، فجاءوا يهرولون، فقال: يا معشر الأنصار، هل ترون أوباش قريش؟ قالوا: نعم، قال: انظروا إذا لقيتموهم غداً: أن تحصدوهم حصداً، وأحفى بيده، ووضع يمينه على شماله، وقال: موعدكم الصفا، قال: فما أشرف لهم يومئذ أحد إلا أناموه، قال: وصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفا [وجاءت الأنصار، فأطافوا بالصفا]، فجاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله، أُبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، قال أبو سفيان: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، فقالت الأنصار: أما الرجل: فقد أخذته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته، ونزل الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: قلتم: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته؟ ألا فما اسمي إذا؟ – ثلاث مرات – أنا محمد عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم، قالوا: والله، ما قلنا إلا ضناً بالله ورسوله، قال: فإن الله ورسوله يصدقانكم، ويعذرانكم)). أخرجه مسلم. وفي رواية أبي داود عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة سرَّح الزبير بن العوام، وأبا عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد على الخيل، وقال: يا أبا هريرة، اهتف لي بالأنصار، فلما اجتمعوا قال: اسلكوا هذا الطريق، فلا يشرفنّ لكم أحد، إلا أنمتموه، فنادى منادٍ: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من دخل داراً فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، فعمد صناديد قريش فدخلوا الكعبة، فغص بهم، وطاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى خلف المقام، ثم أخذ بجنبتي الباب، فخرجوا، فبايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام)). [رواه مسلم، برقم 1780 في الجهاد، باب فتح مكة، وأبو داود رقم 3024 في الخراج والإمارة باب ما جاء في خبر مكة]. شرح الغريب: * (المجنبتين) المجنبة: جانب العسكر، وله مجنبتان: ميمنة، وميسرة. * (على الحُسَّر) جمع حاسر، وهو الذي لا درع عليه، ولا مغفر، وقد روي في كتب الغريب (الحُبَّس) وهم الرَّجَّالة، سموا بذلك لتأخرهم عن الركبان، قال: وأحسب الواحد حبيساً، فعيل بمعنى مفعول، ويجوز أن [يكون] حابساً، كأنه يحبس من يسير الركبان بمسيره. قال الحميدي: والذي رأيناه من رواية أصحاب الحديث (الحسَّر)، والله أعلم. * (وبَّشت أوباشها) الأوباش: الجموع من قبائل شتى، والتوبيش: الجمع، أي: جمعت لها جموعاً من أقوام متفرقين في الأنساب والأماكن. * (أُبيدت خضراء قريش) أي: استؤصلت وأُهلكت، وخضراؤها: سوادها ومعظمها، والعرب تعبر بالخضرة عن السواد، وبالسواد عن الكثرة. * (الضِّنُّ): البخل والشحّ، ضَنِنْتُ، وضَنَنْتُ أَضِنُّ. * (فاستلمه): استلام الحجر الأسود: لمسه باليد. * (سِيَة القوس) مخفقاً: طرفها إلى موضع الوتر. * (زهق الباطل) أي: اضمحلّ، وذهب ضائعاً. * (البياذقة): الرَّجًّالة، سموا بذلك لخفة حركتهم، وأنهم ليس معهم ما يثقلهم، وهذا القول ما يعضد رواية أصحاب الغريب في (الحُبَّس) موضع (الحُسَّر)، فإن الحبَّس: هم الرجَّالة على ما فسروه، فقد اتفقت الروايتان في المعنى، فقال مرة: (الحبَّس)، وقال مرة: (البياذقة) أراد بهما: الرَّجَّالة، بخلاف (الحسَّر)، وقد يمكن أن يجمع بين (الحسر)، و (البياذقة)، فإن (الحسر) هم الذين لا سلاح معهم، أو لا درع عليهم، ولا مِغفر، والغالب من حال الدَّارعين: أنهم الفرسان، وأن الرَّجَّالة: لا يكون عليهم دروع، لأمرين: أحدهما: أن الراجل يثقله الدرع، والآخر: أن الراجل لا يكون له درع لضعفه ورقة حاله، والله أعلم. * (احصدوهم) الحصد: كناية عن الاستئصال، والمبالغة في القتل. * (أحفَى) قال الحميدي: أحفى بيده: أشار بحافَّتِها، وصفاً للحصد والقتل. * (أناموه) أي: قتلوه، ومنه سُمّي السيف مُنيماً، أي: مُهلكاً. [جامع الأصول، 8/ 373].

المبحث الثاني: اشتباك مع فرسان خالد بن الوليد:

المبحث الثاني: اشتباك مع فرسان خالد بن الوليد: تمكّن كل قائد من القادة تنفيذ السيطرة على منطقته بسلام، إلا خالد بن الوليد، إذ تجمع جنوبي مكة يومئذ فئة من القرشيين المتطرفين برئاسة صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، واختاروا من أجل ذلك مضيقاً سيطروا عليه من مرتفعات تشرف على الموقع، وهو الطريق الرئيس لمجموعة خالد. واسم هذا المضيق الخندمة. ولما وصلوه تلقّوا وابلاً من السهام، وإزاء ذلك أصدر خالد أوامره بالتوقف، لعلّه أن يتمكّن من إقناع المهاجمين بإلقاء السلاح، بيد أن هؤلاء المهاجمين رفضوا من خالد، فقاومهم، وقتل منهم ثمانية وعشرين،

وتمكن خالد من سحقهم (¬1). ¬

(¬1) انظر في ذلك فتح الباري، 8/ 10 - 11، وسيرة ابن هشام، 4/ 70 - 72، وزاد المعاد، 3/ 404 - 405، وقيل في يوم الخندمة شعر، قال حماس بن قيس بن خالد البكري، قال ابن هشام: ويقال هي للرعاش الهذلي يخاطب امرأته حين لامته على الفرار من المسلمين: إنِكِ لو شهدتِ يوم الخندمة ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمة وأبو يزيد قائم كالموتمة ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمة ... ضرباً فلا يسمع إلا غمغمة لهم نهيت خلفنا وهمهمة ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة وانظر: زاهية الدجاني، فتح مكة نصر مبين، ص73، 74.

الفصل الثاني: دخول المسجد الحرام، وتحطيم الأصنام

الفصل الثاني: دخول المسجد الحرام، وتحطيم الأصنام المبحث الأول: دخول المسجد الحرام، وتحطيم الأصنام بعد إكمال السيطرة على مكة، والتقاء القادة بعامة جنودهم؛ حيث كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - معسكِراً هناك، وقد تحرّكوا نحو المسجد الحرام، ووصلوا الحجون، ومن هناك توجّهوا صوب الكعبة لإنهاء الوجود الوثني، وبرؤية الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكعبة كبّروا عدة تكبيرات ارتجَّت لها مكة، ثم سكتوا بإشارة من الرسول الكريم (¬1) - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، وحول الكعبة ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]. {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]. أخرجه البخاري، في المغازي، باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح، وفي المظالم، باب هل تكسر الدنان التي فيها الخمر، أو تخرق الزقاق، وفي تفسير سورة بني إسرائيل، باب {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}، ومسلم، برقم 1781 في الجهاد، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة، والترمذي، برقم 3137 في التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل. شرح الغريب: * (نُصُب) النصب بضم الصاد وسكونها: الصنم، وجمعها أنصاب. [جامع الأصول، 8/ 377]. وعن جابر بن عبد الله رَضْيَ اللَّهُ عنْهمَا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عمر بن الخطاب زمن الفتح وهو بالبطحاء، أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى محيت كل صورة فيها، [أخرجه أبو داود، برقم 4156 في اللباس، باب في الصور، وإسناده حسن]. قال في بذل المجهود: والظاهر أن ما أمره - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب كان مختصّاً بما نقش من الصور في الجدران، فأمره بمحوها، وأما الأصنام وذي الأجرام منها فبقيت فيها حتى دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكعبة، فأزالها بنفسه، كما ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخلها وفيها ثلاثمائة وستون نصباً، فيطعن فيها ويقول: جاء الحق، وزهق الباطل.

المبحث الثاني: أخبار المهدرة دماؤهم

بيد أنه مع دخول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - فكان أول ما بدأ به الطواف حول الكعبة، [وحطم الأصنام - صلى الله عليه وسلم -] (¬1). المبحث الثاني: أخبار المهدرة دماؤهم كان قد عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أمرائه حين أمَّرهم أن يدخلوا مكة، أن لا يقاتلوا إلا من قاتَلهم، إلا أنه عهد في نَفَرٍ سمّاهم، أمر بقتلهم وإن وجدوا ¬

(¬1) قال ابن القيم في زاد المعاد، 3/ 406 - 407: ثم نهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت، وفي يده قوس، وحوله البيت، وعليه ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]. {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]. والأصنام تتساقط على وجوهها. وكان طوافه على راحلته، ولم يكن محرماً يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت فدخلها، فرأى فيها الصور، ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام فقال: ((قاتلهم الله، والله إن استقسما بهما قط)). ورأى في الكعبة حمامة من عيدان فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت، ثم أغلق عليه الباب، وعلى أسامة وبلال، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبينه قدر ثلاثة أذرع وقف وصلى هناك، ثم دار في البيت، وكبّر في نواحيه، ووحَّد الله، ثم فتح الباب، وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع، فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته، فقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ... )) إلى أن قال: ((يا معشر قريش: ما ترون أني فاعل بكم؟))، قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: ((فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء)). وانظر السيرة النبوية، 4/ 77 - 78، وفتح الباري، 8/ 18،، والفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ص180، وانظر أيضاً: زاهية الدجاني، فتح مكة نصر مبين، ص74، 75. والحديث أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح؟ برقم 4287، و 4288.

متعلقين بأستار الكعبة (¬1). ¬

(¬1) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: ((اقتلوه)) أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام، برقم 1846، ومسلم، برقم 1357 بغير هذا اللفظ. وانظر: خليل هنداوي، يوم فتح مكة، ص 94. وقال في الموطأ: ولم يكن فيما نرى يومئذ – والله أعلم – محرماً، وقال أبو داود: اسم ابن خطل: عبد الله، وكان أبو برزة الأسلمي قتله. وروى أبو داود، والنسائي عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: ((لما كان يوم فتح مكة أمَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلا أربعة نفر، وامرأتين، فسمّاهم، وابن أبي سرح، فذكر الحديث، قال: وأما ابن أبي سرح، فإنه اختبأ عند عثمان، فلما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا نبي الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثاً، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه، فقال: ما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ قالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)). قال أبو داود: وكان عبد الله أخا عثمان من الرضاعة، هذه رواية أبي داود. و [في] رواية النسائي قال: ((لمّا كان يوم فتح مكة أمَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلا أربعة، وامرأتين، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح، فأما عبد الله بن خطل، فُأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر، فسبق سعيدٌ عماراً – وكان أشب الرجلين – فقتله، [وأما مقيس بن صبابة، فأدركه الناس في السوق فقلتوه]، وأما عكرمة [بن أبي جهل] فركب البحر، فأصابتهم عاصف، فقال أهل السفينة: أخلصوا: فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً هاهنا، فقال عكرمة: والله، لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص، لا ينجيني من البر غيره، اللهم لك عهد إن عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً، حتى أضع يدي في يده، فلأجدنَّه عفوّاً غفوراً كريماً، فجاء فأسلم، وأما عبد الله بن أبي سرح، فإنه اختبأ عند عثمان، فلما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله ... وذكر الحديث إلى آخره مثل أبي داود، رواه أبو داود، برقم 2683 في الجهاد، باب قتل الأسير، ولا يعرض عليه الإسلام، والنسائي، 7/ 105، و106 في تحريم الدم، باب الحكم في المرتد، وهو حديث حسن. [انظر: جامع الأصول بتحقيق الأرنؤوط، 8/ 376]. شرح الغريب: * (رشيد) رجل رشيد، أي: لبيب عاقل، له فطنة. * (خائنة الأعين) كناية عن الرمز والإشارة، كأنها مما تخونه العين، أي: تسرقه، لأنها كالسرقة من الحاضرين. * (عاصف) ريح عاصف، أي: شديد الهبوب. [جامع الأصول، 8/ 376]. عن عمرو بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي قال: حدثني جدي عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال يوم فتح مكة: ((أربعة لا أؤمنهم في حِلٍّ ولا حرم – وسمّاهم – وقال: وقينتين كانتا لمقيس بن صبابة، فقتلت إحداهما، وأفلتت الأخرى، فأسلمت)). [أخرجه أبو داود، برقم 2684 في الجهاد، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، من حديث محمد بن العلاء، عن زيد بن الحباب، عن عمرو بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي، وعمرو بن عثمان لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات، قال أبو داود: لم أفهم إسناده من ابن العلاء كما أحب، قال في بذل المجهود: ولعله أقام له إسناد هذا الحديث بعض تلامذة الشيخ محمد بن العلاء] قال في بذل المجهود في حلّ سنن أبي داود: ((هذا الذي رواه أبو داود من أنهما كانتا لمقيس مخالف كما قال أهل السير، فإنهم قالوا: إن القينتين اللتين أهدر دمهما كانتا لابن خطل، فيمكن أن يكون كلاهما شركاء فيهما، أو كانتا أولاً في ملك أحدهما، ثم في ملك الآخر، والله أعلم.

وكان ممن أمر بقتله: عبد الله بن سعد؛ لأنه أسلم وكتب الوحي ثم ارتدّ، فأتى به عثمان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ابن سعد وقال للرسول عليه الصلاة والسلام أمِّنه، فأمَّنه. ومن المهدرة دماؤهم: صفوان بن أمية، وقد هرب، ولما رجع أمنه الرسول عليه الصلاة والسلام على نفسه. وغير ذلك، ارجع لكتب التاريخ لمعرفة من هم المهدرة دماؤُهم (¬1). ¬

(¬1) قال ابن القيم في زاد المعاد، 3/ 411: ولما استقرّ الفتح أمَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس كلهم إلا تسعة نفر، فإنه أمر بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، وعبد العزى بن خطل، والحارث بن نفيل بن وهب، ومقيس بن صُبابة، وهبَّار بن الأسود، وقينتان لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسارة مولاةٌ لبعض بني عبد المطلب. وانظر: الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ص179، ط مكتبة المعارف، وص128، دار الصفا، وجاء في الطبعتين: الحويرث بن نقيذ بدل الحارث بن نفيل. وانظر خليل هنداوي. يوم فتح مكة، ص105.

الباب الرابع: الآثار الاستراتيجية للفتح ومقومات الانتصار

الباب الرابع الآثار الاستراتيجية للفتح ومقومات الانتصار الفصل الأول: الآثار الاستراتيجية للفتح ودروس منه. المبحث الأول: الآثار الاستراتيجية للفتح. المبحث الثاني: دروس من الفتح. الفصل الثاني: مقومات الانتصار في الفتح. المبحث الأول: الهدف. المبحث الثاني: الوسيلة.

الفصل الأول: الآثار الاستراتيجية للفتح، ودروس منه

الفصل الأول: الآثار الاستراتيجية للفتح، ودروس منه المبحث الأول: الآثار الاستراتيجية للفتح 1 - تحقيق الدرع الدفاعي (¬1): وهو النظرية الاستراتيجية للحرب في ¬

(¬1) أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر رَضْيَ اللَّهُ عنْهمَا ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته، مردفاً أسامة بن زيد، ومعه بلال، ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة، حتى أناخ في المسجد، فأمره أن يأتي بمفتاح البيت - زاد في رواية رزين: فذهب عثمان إلى أمه، فأبت أن تعطيه المفتاح، فقال: والله لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي، قال: فأعطته إياه، ثم اتفقا - فجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [زيادة رزين هذه رواها مسلم كما سيأتي في تخريج الحديث، وعبد الرزاق، وأحمد في المسند، 6/ 15]. [ففتح] ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت، ومعه أسامة، وبلال، وعثمان، فمكث فيه نهاراً طويلاً، ثم خرج فاستبق الناس، فكان عبد الله أول من دخل، فوجد بلالاً وراء الباب قائماً، فسأله أين صلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فأشار إلى المكان الذي صلى فيه، قال عبد الله: فنسيت أن أسأله كم صلى من سجدة؟)) أخرجه البخاري، 6/ 92 في الجهاد، باب الردف على الحمار، وفي القبلة، باب {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، وفي المساجد، باب الأبواب والغلق للكعبة والمساجد، وفي سترة المصلي، باب الصلاة بين السواري في غير جماعة، وفي التطوع، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، وفي الحج، باب إغلاق البيت، وباب الصلاة في الكعبة، وفي المغازي، باب حجة الوداع، ورواه أيضاً تعليقاً 8/ 15 في المغازي، باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - رايته يوم الفتح، ورواه أيضاً مسلم بروايات مختلفة، برقم 1329 في الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة فيها، والدعاء في نواحيها كلها. وأخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود عن أبي هريرة رَضْيَ اللَّهُ عنْهمَا ((أن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة، بقتيل منهم قتلوه، فأُخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فركب راحلته، فخطب، فحمد الله وأثنى عليه. وفي رواية قال: لما فتح الله - عز وجل - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مكة قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحلّ لأحد كان قبلي، وإنها إنما أحلّت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحلَّ لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يُختلى شجرها، ولا تحلّ ساقطتها إلاّ لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يُعقل، وإما أن يقاد أهل القتيل، فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إلا الإذخر، فقال رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اكتبوا لأبي شاه)) قال الأوزاعي: يعني هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه البخاري، ومسلم. [ويأتي تخريجه]. وأخرجه أبو داود، وأسقط من أوله حديث (القتيل)، وأول حديثه قال: ((لما فتح الله على رسوله مكة قام فيهم، فحمد الله، وذكر الحديث))، وأسقط منه أيضاً: ((ومن قُتل له قتيل - إلى قوله: أهل القتيل)). رواه البخاري، 1/ 183، و184 في العلم، باب كتابة العلم، وفي اللقطة، باب كيف تعرف لقطة أهل مكة، وفي الديات، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، ومسلم، برقم 1355 في الحج، باب تحريم مكة وصيدها، وأبو داود، برقم 2017 في المناسك، باب تحريم مكة. شرح الغريب: * (الحجبة): جمع حاجب، وهو سادن البيت. * (ولا يُختلى) الخلا: العشب، واختلاؤه: قطعه. * (ساقطتها إلا لمنشد) الساقطة: هي اللقطة، وهو الشيء الذي يُلقى على الأرض لا صاحب له يعرف، وقوله: ((لا تحل إلا لمنشد)) يعني لمعرّف، وهو من نشدت الضالة: إذا طلبتها، فأنت ناشد، وأنشدتها: إذا عرّفتها، فأنت منشد، واللقطة في جميع البلاد لا تحل إلا لمن أنشدها سنة، ثم يتملكها بعد السنة، بشرط الضمان لصاحبه إذا وجده، فأما مكة فإن في لقطتها وجهين، أحدهما: أنها كسائر البلاد، والثاني: لا تحل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحلّ لقطتها إلا لمنشد))، والمراد به: منشد على الدوام، وإلا فأي فائدة لتخصيص مكة بالإنشاد؟ * (بخير النظرين) خير النظرين: أوفق الأمرين له، فإما أن يدوا، أي: يعطوا الدية، وهي العقل، وإما أن يقاد، أي: يُقتل قصاصاً، فأي الأمرين اختار ولي الدم كان له، وهو مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: من وجب له القصاص لم يجز له تركه وأخذ الدية. [جامع الأصول، 8/ 378 - 380]. وأخرج أبو داود عن وهب بن منبه قال: ((سألت جابراً: هل غنموا يوم فتح مكة شيئاً؟ قال: لا))، أخرجه أبو داود، برقم 3023 في الخراج والإمارة، باب ما جاء في خبر مكة، وإسناده حسن. [جامع الأصول، تحقيق الأرنؤوط، 8/ 381]. وأخرج الترمذي وأبو داود عن جابر بن عبد الله رَضْيَ اللَّهُ عنْهمَا ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة ولواؤه أبيض))، رواه أبو داود، برقم 2592 في الجهاد، باب الرايات والألوية، والترمذي، برقم 1679 في الجهاد، باب ما جاء في الألوية، من حديث يحيى بن آدم عن شريك بن عبد الله النخعي القاضي، عن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر، وشريك يخطئ كثيراً، تغيّر حفظه منذ ولي القضاء، وقد قال الترمذي: ((هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن آدم عن شريك، وقال: حدثنا غير واحد عن شريك، عن عمار، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة وعليه عمامة سوداء، قال: (يعني البخاري) والحديث هو هذا، أي الحديث المحفوظ هو هذا الحديث (دخل مكة وعليه عمامة سوداء)؛ لأنه رواه غير واحد عن شريك، وأما حديث يحيى بن آدم عن شريك بلفظ: دخل مكة ولواؤه أبيض، فليس بمحفوظ لتفرّد يحيى بن آدم به، ومخالفته لغير واحد من أصحاب شريك. [جامع الأصول، تحقيق الأرنؤوط، 8/ 381]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين أراد حُنيناً: ((منزلنا غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا الكفر)). وفي رواية: ((منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله الخيف، حيث تقاسموا على الكفر)). أخرجه البخاري، 8/ 12، و13 في المغازي، باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب النزول بالمحصب يوم النفر، والصلاة به، برقم 1314.

الإسلام. 2 – تحقيق الهدف الاستراتيجي بلا خسائر. 3 – مقومات نجاح الردع الإسلامي. أ – تملك عنصر المبادأة. ب – تملك القدرة الهجومية. ج – استغلال عنصري الحركة والمفاجأة. د – تجريد إرادة العدو المقاومة والقتال.

المبحث الثاني: دروس من الفتح

4 – الردع الإسلامي يؤدي إلى السلام الدائم. 5 – الإسلام دين قوة وسلام (¬1). المبحث الثاني: دروس من الفتح 1 – حركة المسلمين وفعاليتهم مع الدعوة المتحركة التي لا تعرف الجمود والخمول والكسل. 2 – التفاف الجنود حول القيادة دافع قوي من دوافع الخير التي يطمئن إليها القائد. 3 – حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على سرِّيَّة حركة الجيش الإسلامي. 4 – التخطيط الدقيق القائم على الوعي، واليقظة دليل على كبر الهمة، وبعد النظر. 5 – أول ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين دخول مكة هو: تحطيم الأصنام. 6 – الإسلام دين السلام، وهو يسعى إليه، ويعمل من أجله (¬2). ¬

(¬1) اللواء ركن محمد محفوظ، ((الآثار الاستراتيجية لفتح مكة))، مجلة كلية الملك خالد العسكرية، ع17، (شعبان 1407هـ) ص91 - 95. (¬2) قال ابن القيم في زاد المعاد، 3/ 419 - 464: فصل في الإشارة إلى ما في الغزوة من الفقه واللطائف: 1 – كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به. 2 – أن أهل العهد إذا حاربوا من هم في ذمة الإمام وجواره وعهده صاروا حرباً له بذلك. 3 – انتقاض عهد جميعهم بذلك ردئهم ومباشريهم إذا رضوا بذلك وأقروا عليه ولم ينكروه. 4 – جواز صلح أهل الحرب على وضع القتال عشر سنين. ويجوز فوق ذلك للحاجة والمصلحة. 5 – الإمام وغيره إذا سئل ما لا يجوز بذله أو لا يجب فسكت، لم يكن سكوته بذلاً له. 6 – أن رسول الكفار لا يقتل. 7 – جواز تبييت الكفار ومباغتتهم في ديارهم إذا بلغتهم الدعوة. 8 – جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلماً. 9 – جواز تجريد المرأة وتكشيفها للحاجة والمصلحة العامة .. 10– أن الرجل إذا نسب المسلم إلى النفاق والكفر متأولاً وغضباً لله ورسوله ودينه، لا لهواه وحظه، فإنه لا يكفر بذلك، بل لا يأثم به، بل يثاب على نيته وقصده. 11 - أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفَّر بالحسنة الكبيرة الماحية. 12 - جواز مباغتة المعاهدين إذا نقضوا العهد. 13 - جواز، بل استحباب كثرة المسلمين وقوتهم وشوكتهم وهيئتهم لرسل العدو إذا جاءوا إلى الإمام كما يفعل ملوك الإسلام. 14 - جواز دخول مكة للقتال المباح بغير إحرام، كما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون. 15 - مكة فتحت عنوة كما ذهب إليه جمهور أهل العلم، ولا يعرف في ذلك خلاف إلا عن الشافعي وأحمد في أحد قوليه. 16 - مكة لا تملك، فإنها دار النسك، ومتعبد الخلق، وحرم الرب تعالى الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، فهي وقف من الله على العالمين، وهم فيها سواء. [هكذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، وسمعت الإمام ابن باز يقول أثناء تقريره على ذلك على زاد المعاد، 3/ 345: ((والصواب أنها تملك، وتورث، وتباع أصلها ونفعها وأرضها وبناؤها وهذا هو الصواب، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -]. 17 - أن مكة حرّمها الله ولم يحرّمها الناس، ولا يحلّ لأحد أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجر، ولا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا يلتقط ساقطتها إلا من عرَّفها، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل وإما أن يأخذ الدية. 18 - جواز قطع الإذخر للانتفاع به. 19 - الإذن في كتابة العلم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اكتبوا لأبي شاه)). 20 - كراهة الصلاة في المكان المصور فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل البيت ولم يصلِّ فيه حتى مُحيت الصور منه. 21 - جواز لبس الأسود أحياناً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة وعليه عمامة سوداء. 22 - جواز متعة النساء في غزوة الفتح، ثم حرّمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل خروجه من مكة، فهي حرام إلى يوم القيامة بإجماع المسلمين. 23 - جواز إجارة المرأة وأمانها للرجل والرجلين [وأكثر من ذلك على الصحيح]. 24 - جواز قتل المرتد الذي تغلظت ردته من غير استتابة. 35 - استحباب صلاة ثمان ركعات بعد الفتح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها بعد الفتح، ضحى في بيت أم هانئ، وكان أمراء الإسلام إذا فتحوا بلداً صلوا عقب الفتح هذه الصلاة، وهي شكراً لله تعالى [والحديث متفق عليه] [زاد المعاد، 3/ 410]. 26 - القضاء على آثار الشرك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث السرايا إلى الأصنام التي حول الحرم، فكسرها كلها [زاد المعاد، 3/ 413 - 416]. 27 - استحباب الصلاة داخل الكعبة والتكبير في نواحيها، ومن صلى داخل الحجر فقد صلى داخل البيت؛ لأنه من البيت. انتهى مخلصاً من زاد المعاد. وانظر: أحمد السايح، معارك حاسمة في حياة المسلمين، ص100 - 109.

الفصل الثاني: مقومات الانتصار في الفتح

الفصل الثاني: مقومات الانتصار في الفتح المبحث الأول: الهدف 1 - الكعبة مهبط [الوحي]. 2 - الكعبة [رمز الوحدة الإسلامية]. 3 - الكعبة [حرماً آمناً]. 4 - فتح مكة: فتح للقلوب. المبحث الثاني: الوسيلة 1 - إعداد القوة قدر الاستطاعة. 2 - نقض العهد إيذان بالفتح. 3 - ولاء الطاعة، وحفظ السر. 4 - السلام والعفو (¬1). ¬

(¬1) محمد فهمي عبد الوهاب، مقومات الانتصار في بدر الكبرى، وفتح مكة، ص65 - 80.

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، هذا البحث يحتوي على أبرز موضوعات السيرة وهو (فتح مكة)، وهو شامل للإعداد لها، والتجهز للفتح، ودخول مكة، بالإضافة إلى الدروس المستفادة من الفتح. ومن أبرز نتائج البحث: اكتساب معلومات لم تكن معلومة من قبل، وكذلك معرفة الصحيح من الأخبار، ونبذ الضعيف منها. وأهم التوصيات التي أوصي بها: 1 - [تقوى الله في السر والعلن]. 2 - أوصي الأخوة الباحثين بالبحث في الغزوات الأخرى على هيئة هذا البحث من حيث الالتزام بالقول الصحيح. هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين (¬1). ¬

(¬1) اللهم اغفر لابني عبد الرحمن، وارفع منزلته في الفردوس الأعلى، ووالديه، وجميع المسلمين، يا رب العالمين، فإنك سميع مجيب، رحيم ودود.

الرسالة الرابعة: أبراج الزجاج في سيرة الحجاج

الرسالة الرابعة أبراج الزجاج في سيرة الحجاج إعداد عبد الرحمن بن سعيد بن علي بن وهف القحطاني رحمه الله تعالى 1403هـ - 1422هـ تحقيق د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني

مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقق إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فهذه رسالة مختصرة مفيدة في سيرة الحجاج بن يوسف أمير العراق، كتبها الابن الشاب، وقد سمّاها رحمه الله: ((أبراج الزجاج في سيرة الحجاج))، وهي رسالة نافعة جداً، بيَّن فيها رحمه الله تعالى: نسب الحجاج، ومولده، وأسرته، وعدد أولاده، وزوجاته، وأخباره معهنّ، وبداية إمارته، وحال الحجاج قبل الإمارة، وقصة قتله لعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وكيف تولى إمارة العراق، وفتوحات الحجاج، وصفات الحجاج، وإصلاحاته، وما قيل فيه من مدح، وما قيل فيه من ذم وهجاء، وخطابة الحجاج، ورسائله، ونقد الحجاج، وأقوال العلماء فيه، وما ذكر فيه من أحلام ورُؤىً بعد موته، وذكر وقت وفاته، وأثر وفاته على بعض الناس، ثم ذكر الابن عبد الرحمن رحمه الله خاتمة البحث، ثم التوصيات، ثم قائمة المراجع التي رجع إليها في سيرة الحجاج، وعندما رأيت هذا الترتيب الجميل، والاختصار المفيد، أحببت أن أقوم بإخراج هذه الرسالة التي توضح الحقيقة في شأن الحجاج، والله أسأل أن ينفع

بها الابن عبد الرحمن، وأن يجعلها له من العمل الصالح، وأن ينفعه بها، وأن يبلغه أعلى منازل الشهداء؛ فإنه - سبحانه وتعالى - الكريم المنان، الرؤوف الرحيم، ذو الفضل والجود والإحسان. وأصل هذه الرسالة بحث أعده الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى في الصف الثاني الثانوي، الفصل الثاني في العام الدراسي 1420 - 1421هـ في ثانوية أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن الكريم بمدينة الرياض، أشرف عليه الأستاذ محمد السليم حفظه الله تعالى، وجزاه خيراً. وعندما توفي الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى ذهبت إلى المدرسة وطلبت هذا البحث، فدفعه إليّ وكيل المدرسة الشيخ محمد العوشن، جزاه الله خيراً. وعملي في هذه الرسالة على النحو الآتي: 1 - قمت بمطابقة الرسالة على أصلها المخطوط بخط الابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى. 2 - أحلت إلى أماكن ومواضع فصول البحث ومباحثه في أصول كتب التأريخ والسير؛ لتوثيق معلومات البحث في مراجعه الأصلية. 3 - إذا أضفت كلمة أو جملة جعلتها بين معقوفين هكذا: [ ... ]. 4 - إذا أضفت شيئاً من الفوائد جعلتها في الحاشية؛ لرغبتي في بقاء الرسالة على أصلها، لعل الله أن ينفع بها كاتبها. 5 - أضفت مواقف أعلام التابعين مع الحجاج، ومواقفه معهم. والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن

يجعله من العمل المقبول للابن عبد الرحمن وشقيقه الابن عبد الرحيم رحمهما الله تعالى، وأن يجعلهما شهداءَ أحياءً عند ربهم يرزقون، وأن يجمعني بهما في أعلى منازل الشهداء في الفردوس الأعلى مع نبينا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ووالدينا، ومشايخنا، وذرياتنا، وأزواجنا، وأحبابنا في الله تعالى جميعاً؛ إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على دربهم إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن حرر ضحى يوم الجمعة 7/ 8/ 1424هـ.

المقدمة

المقدمة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: فإن دراسة التاريخ أمر مهم في المجتمعات، حيث إن له تأثيراً في النواحي السياسية والاجتماعية وغير ذلك. وهذا البحث يدرس جانباً من جوانب الدولة الأموية، ذلكم هو أمير العراق: الحجاجُ بن يوسف الثقفي، ولقد اخترت هذا الموضوع؛ نظراً للحاجة الماسة للمعرفة التأريخية، وقلة مصادر المعلومات. وكانت طريقتي في البحث تقسيمه إلى أربعة أبواب، [وتحت] كل باب فصول ومباحث، وقد تكون المباحث اثنين أو أكثر حسب المعلومات التأريخية. وإليك سردها مرتبة: الباب الأول: من هو الحجاج؟ الفصل الأول: نسبه، ومولده، وأسرته. المبحث الأول: نسبه، ومولده. المبحث الثاني: أسرته. الفصل الثاني: أولاده وزوجاته. المبحث الأول: أولاده. المبحث الثاني: زوجاته. الباب الثاني: الحجاج وبداية الإمارة. الفصل الأول: ما قبل الإمارة، وقتل ابن الزبير - رضي الله عنه -. المبحث الأول: ما قبل الإمارة. المبحث الثاني: قتل ابن الزبير - رضي الله عنه -.

الفصل الثاني: الحجاج وإمارة العراق. المبحث الأول: إمارة العراق. المبحث الثاني: فتوحات الحجاج. المبحث الثالث: صفاته وإصلاحاته. الباب الثالث: الحجاج والأدب العربي. الفصل الأول: الشعر العربي. المبحث الأول: ما قيل فيه من مدح. المبحث الثاني: ما قيل فيه من هجاء. الفصل الثاني: الخطب والرسائل. المبحث الثالث: صفاته، وإصلاحاته. الفصل الثاني: الخطب، والرسائل. المبحث الأول: الحجاج والخطابة. المبحث الثاني: الرسائل. الباب الرابع: نقد الحجاج، ونهايته. الفصل الأول: نقد الحجاج. المبحث الأول: آراء العلماء وأهل الحديث فيه. المبحث الثاني: الرُّؤى والأحلام في الحجاج. الفصل الثاني: نهاية الحجاج. المبحث الأول: موته، ووقته. المبحث الثاني: آثار وفاته. وقد تعبت كثيراً في تحديد مصادر المعلومات، لكن الفائدة العلمية سهَّلت عليَّ كثيراً، وأحب أن أشكر والدي، والأستاذ خالد الحسن على ما بذلاه، والله أعلم.

الباب الأول: من هو الحجاج؟!

الباب الأول من هو الحجاج؟! الفصل الأول: نسبه، ومولده، وأسرته. المبحث الأول: نسبه، ومولده. المبحث الثاني: أسرته. الفصل الثاني: أولاده، وزوجاته. المبحث الأول: أولاده. المبحث الثاني: زوجاته.

الفصل الأول: نسبه ومولده، وأسرته

الفصل الأول نسبه ومولده، وأسرته المبحث الأول: نسبه، ومولده: هو: الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف (¬1). وأمه: الفارعة بنت همام بن عروة (¬2). ¬

(¬1) قال الذهبي في تاريخ الإسلام، 6/ 314 - 315: الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود الثقفي، أمير العراق، أبو محمد. ولد سنة أربعين أو إحدى وأربعين. وقال أيضاً رحمه الله في سير أعلام النبلاء، 4/ 343: الحجاج أهلكه الله في رمضان سنة خمس وتسعين كهلاً، وكان ظلوماً جباراً ناصبيّاً خبيثاً سفاكاً للدماء، وكان ذا شجاعة، وإقدام، ومكر، ودهاء، وفصاحة، وبلاغة، وتعظيم للقرآن، قد سقت من سوء سيرته في تاريخي الكبير، وحصاره لابن الزبير بالكعبة، ورميه إياها بالمنجنيق، وإذلاله لأهل الحرمين، ثم ولايته على العراق والمشرق طيلة عشرين سنة، وحروب ابن الأشعث له، وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله، فنسبُّه ولا نحبُّه، بل نبغضه في الله، فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان. وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله، وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء. (¬2) وقال ابن كثير في البداية والنهاية (12/ 509): قال ابن خلكان: واسم أمه الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي، وكان زوجها الحارث بن كَلَدَة الثقفي طبيب العرب، وذكر عنه هذه الحكاية في السواك. وذكر صاحب ((العقد)): أن الحجاج كان هو وأبوه يعلمان الغلمان بالطائف، ثم قدم دمشق فكان عند روح بن زنباع وزير عبد الملك، فشكا عبد الملك إلى روح أن الجيش لا ينزلون لنزوله، ولا يرحلون لرحيله، فقال روح: عندي رجل توليه ذلك. فولى عبد الملك الحجاج أمر الجيش، فكان لا يتأخر أحد في النزول والرحيل، حتى اجتاز إلى فسطاط روح بن زنباع وهم يأكلون، فضربهم وطوّف بهم، وأحرق الفسطاط، فشكا روح ذلك إلى عبد الملك فقال للحجاج: لم صنعت هذا؟ فقال: لم أفعله، إنما فعله أنت، فإن يدي يدك، وسوطي سوطك، وما ضرَّك إذا أعطيت روحاً فسطاطين بدل فسطاطه، وبدل الغلام غلامين، ولا تكسرني في الذي وليتني؟ ففعل ذلك وتقدم الحجاج عنده.

المبحث الثاني: أسرته:

ومعتب بن مالك: هو الجد الأعلى للحجاج. المبحث الثاني: أسرته: * وجدُّ الحجاج الأعلى وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * ووالد الحجاج: يوسف بن الحكم: كان من أشهر رجالات الطائف، ومن أشهر المعلمين بها، وقد كان ذا وجاهة عند الخليفة الأموي، قبل أن يتولى الحجاج الإمارة. * أما والدة الحجاج: الفارعة، فقد كانت عند المغيرة بن شعبة (¬1)، وقيل: كانت عند طبيب العرب: الحارث بن كلدة، وذلك قبل أبيه. الفصل الثاني أولاده وزوجاته المبحث الأول: أولاد الحجاج: تزوج الحجاج زوجات كثر، لكنه لم ينجب كثيراً، وخاصة من البنات، أما أولاده المشهورين فخمسة: ¬

(¬1) قال ابن كثير في البداية والنهاية، 12/ 508 - 509: قال الشافعي: سمعت من يذكر أن المغيرة بن شعبة دخل على امرأته وهي تتخلل - أي تخلل أسنانها ليخرج ما بينها من أذى - وكان ذلك في أول النهار، فقال: والله لئن كنت باكرت الغداء إنك لرغيبة دنيئة، وإن كان الذي تخللين من شيء بقي في فيك من البارحة، إنك لقذرة. فطلقها، فقالت: والله ما كان شيء مما ذكرت، ولكنني باكرت ما تباكره الحرة من السواك، فبقيت شظية في فمي منه، فحاولت لأخرجها. فقال المغيرة ليوسف أبي الحجاج: تزوجها، فإنها لخليقة أن تأتي برجل يسود. فتزوجها يوسف أبو الحجاج قال الشافعي: فأخبرت أن أبا الحجاج لما بنى بها واقعها فنام، فقيل له في النوم: ما أسرع ما ألقحت بالمبير. وانظر: تاريخ دمشق لابن عساكر، 12/ 115 - 116.

* وللحجاج ذرية في دمشق، منهم:

1 - محمد: وبه يكنى. توفي في زمن أبيه.2 - عبد الملك. 3 - أبان.4 - سليمان.5 - عبد الله: وهو الذي استخلفه أبوه على الصلاة حين وفاته. * وللحجاج ذرية في دمشق، منهم: 1 - عمر بن عبد الملك بن محمد بن الحجاج: ولي الولايات في عهد الوليد بن يزيد. 2 - عبد الصمد بن محمد بن الحجاج: ولي دمشق للوليد بن يزيد أيضاً. 3 - عبد الله بن عبد الملك بن الحجاج. 4 - عبد الله بن محمد بن الحجاج. * كما أن للحجاج في باجه بالأندلس ذرية: منهم بنو المنذر بن الحارث بن عيشون بن العلاء بن العجلان بن عبد الله بن محمد بن الحجاج. المبحث الثاني: زوجات الحجاج، وأخباره معهن: ومنهن: 1 - أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: يقال: إن عبد الملك بن مروان لما علم بزواجه منها، أمره أن يفارقها قبل أن يدخل بها، ولم يقطع عنها الحجاج رزقاً حتى ماتت (¬1). ¬

(¬1) قال ابن كثير في البداية والنهاية، 12/ 517: وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، ثنا حماد بن سلمة عن ابن أبي رافع، عن عبد الله بن جعفر أنه زوَّج ابنته من الحجاج بن يوسف، فقال لها: إذا دخل بك فقولي: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين. وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حزبه أمر قال هذا. قال حماد: فظننت أنه قال: فلم يصل إليها. قال الشافعي: لما تزوج الحجاج بنت عبد الله بن جعفر قال خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك بن مروان: أتمكنه من ذلك؟ فقال: وما بأسٌ بذلك؟ قال: أشد البأس والله. قال: وكيف؟ قال: والله يا أمير المؤمنين لقد ذهب ما في صدري على آل الزبير منذ تزوجت رملة بنت الزبير. قال: فكأنه كان نائماً فأيقظه، فكتب إلى الحجاج يعزم عليه في طلاقها فطلقها. وانظر: تاريخ دمشق لابن عساكر، 12/ 125.

2 - أم البنين بنت المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي. 3 - أم سلمة بنت عبد الرحمن بن سهل بن عمرو، وقد طلقها الحجاج تنازلاً للوليد بن عبد الملك، وخلفه عليها أخوه سليمان، ثم هشام. 4 - أم الجلاس بنت عبد الرحمن بن أسيد. 5 - هند بنت المهلب بن أبي صفرة. 6 - هند بنت أسماء بن خارجة. 7 - أمة الرحمن بنت جرير البجلي. * وقد كان الحجاج يفخر بأزواجه فيقول: عندي أربع نسوة: هند بنت المهلب، وهند بنت أسماء، وأم الجلاس بنت عبد الرحمن، وأمة الرحمن بنت جرير البجلي؛ فأما ليلتي عند هند بنت المهلب، فليلة فتى بين الفتيان، يلعب ويلعبون، وأما ليلتي عند هند بنت أسماء فليلة ملك بين الملوك. وأما ليلتي عند أم الجلاس، فليلة أعرابي مع الأعراب في حديثهم وأشعارهم. وأما ليلتي عند أمة الرحمن فليلة عالم بين العلماء والفقهاء. ا. هـ.

الباب الثاني: الحجاج وبداية الإمارة

الباب الثاني الحجاج وبداية الإمارة الفصل الأول: ما قبل الإمارة، وقتل ابن الزبير. المبحث الأول: ما قبل الإمارة. المبحث الثاني: قتل ابن الزبير. الفصل الثاني: الحجاج وإمارة العراق. المبحث الأول: إمارة العراق. المبحث الثاني: فتوحات الحجاج. المبحث الثالث: صفاته، وإصلاحاته.

الفصل الأول: ما قبل الإمارة، وقتل ابن الزبير

الفصل الأول ما قبل الإمارة، وقتل ابن الزبير المبحث الأول: ما قبل الإمارة: كان الحجاج بن يوسف قد لحق بروح بن زنباع الجذامي وزير عبد الملك بن مروان، فكان في عديد شرطته، إلى أن رأى عبد الملك انحلال عسكره، وأن الناس لا يرحلون برحيله، ولا ينزلون بنزوله، فشكا ذلك إلى روح بن زنباع، فقال له: إن في شرطتي رجلاً لو قلده أمير المؤمنين أمر عسكره، لأرحل الناس برحيله، وأنزلهم بنزوله، يقال له الحجاج بن يوسف، قال: فإنا قد قلدناه ذلك، فكان لا أحد يقدر على أن يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان روح بن زنباع ... (¬1). قال الزركلي: ومازال يظهر الحجاج حتى قلده عبد الملك أمر عسكره، وأمره بقتال ابن الزبير، فزحف بجيش كبير، وقتل عبد الله، وفرّق جموعه، فولاّه عبد الملك: مكة، والمدينة، والطائف (¬2). المبحث الثاني: قتل ابن الزبير: بعد قتل عبد الملك لمصعب بن الزبير، بعث الحجاج إلى أخيه عبد الله بمكة، فحاصره بها، وأقام للناس الحج عامئذٍ، ولم يتمكن [الحجاج ومن معه من الطواف بالبيت، ولا تمكّن] ابن الزبير ومن عنده من الوقوف [بعرفة]، ولم يزل مُحاصره حتى ظفر به ... ثم ¬

(¬1) ابن خلكان، وفيات الأعيان، 2/ 30، وانظر: البداية والنهاية، 12/ 509. (¬2) خير الدين الزركلي، الأعلام، 2/ 175.

استنابه عبد الملك على مكة والمدينة والطائف واليمن (¬1) (¬2). * وقصة قتل ابن الزبير هي (¬3): ¬

(¬1) ابن كثير، البداية والنهاية، 9/ 125. (¬2) قال ابن عساكر في تاريخه، 12/ 117: أخبرتنا أم البهاء فاطمة بنت محمد، قالت: أنبأنا أبو طاهر ابن محمود الثقفي، نبأنا أبو بكر ابن المقرئ، أنبأنا أبو الطيّب الزَّرَّاد، نبأنا عبيد الله بن سعد قال: قال أبي: ودخل عبد الملك الكوفة، وبعث الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن الزبير، ورجع عبد الملك إلى دمشق، فحج الحجاج على الموسم سنة اثنتين وسبعين فلم يطف بالبيت، وحصر ابن الزبير قريباً من سبعة أشهر، انتهى. (¬3) قال ابن كثير في البداية والنهاية، 12/ 177 - 184: ((فلما استهلت هذه السنة (أي سنة 73) استهلت وأهل الشام محاصرون أهل مكة، قد نصب الحجاج المنجنيق على مكة ليحصر أهلها، حتى يخرجوا إلى الأمان والطاعة لعبد الملك. وكان مع الحجاج خلق قد قدموا عليه من أرض الحبشة، فجعلوا يرمون بالمنجنيق فقتلوا خلقاً كثيراً، وكان معه خمسة مجانيق، فألحّ عليها بالرمي من كل مكان وحبس عنهم الميرة، فجاعوا، وكانوا يشربون من ماء زمزم، وجعلت الحجارة تقع في الكعبة، والحجاج يصيح بأصحابه: يا أهل الشام، الله، الله في الطاعة. فكانوا يحملون على ابن الزبير وليس معه أحد حتى يخرجهم من باب بني شيبة، ثم يكرّون عليه فيشدّ عليهم، فعل ذلك مراراً، وقتل يومئذ جماعة منهم، وهو يقول: خذها وأنا ابن الحواري. وقيل لابن الزبير: ألا تكلمهم في الصلح؟ فقال: والله لو وجدوكم في جوف الكعبة لذبحوكم جميعاً، والله لا أسألهم صلحاً أبداً. وذكر غير واحد: أنهم لما رموا بالمنجنيق، جاءت الصواعق والبروق والرعود، حتى جعلت تعلو أصواتها على صوت المنجنيق، ونزلت صاعقة فأصابت من الشاميين اثني عشر رجلاً، فضعفت عن ذلك قلوبهم عن المحاصرة، فلم يزل الحجاج يشجعهم، ويقول: إني خبير بهذه البلاد، هذه بروق تهامة ورعودها وصواعقها، وإن القوم يصيبهم مثل الذي يصيبكم، وجاءت صاعقة من الغد، فقتلت من أصحاب ابن الزبير جماعة كثيرة أيضاً، فجعل الحجاج يقول: ألم أقل لكم: إنهم يصابون مثلكم، وأنتم على الطاعة وهم على المخالفة؟ وكان أهل الشام يرتجزون وهم يرمون بالمنجنيق يقولون: خطَّارة مثل الفنيق المزبد ... نرمي بها عُوَّاد هذا المسجد فنزلت صاعقة على المنجنيق فأحرقته، فتوقف أهل الشام عن الرمي والمحاصرة، فخطبهم الحجاج فقال: ويحكم ألم تعلموا أن النار كانت تنزل على من قبلنا فتأكل قربانهم إذا تقبل منهم؟ فلولا أن عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته، فعادوا إلى المحاصرة. ومازال أهل مكة يخرجون إلى الحجاج بأمان، ويتركون ابن الزبير، حتى خرج إليه قريب من عشرة آلاف فأمّنهم، وقل أصحاب ابن الزبير جداً، حتى خرج إلى الحجاج حمزة وخبيب ابنا عبد الله بن الزبير، فأخذا لأنفسهما أماناً من الحجاج، فأمنهما، ودخل عبد الله بن الزبير على أمه، فشكا إليها خذلان الناس له، وخروجهم إلى الحجاج حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير، ولم يبق لهم صبر ساعة، والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت: يا بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق، وتدعو إلى حق، فاصبر عليه، فقد قتل أصحابك، ولا تُمكّن من رقبتك يلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا، فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك، وإن كنت على حق، فما وهن الدين، وإلى كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن. فدنا منها فقبل رأسها، وقال: هذا والله رأيي. ثم قال: والله ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتيني بصيرة على بصيرتي، فانظري يا أماه، فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتدّ حزنك، وسلّمي لأمر الله، فإن ابنك لم يتعمّد إتيان منكر، ولا عمل فاحشة قط، ولم يَجُرْ في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمّد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عامل فرضيته، بل أنكرته، ولم يكن عندي آثر من رضا ربي - عز وجل -،اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي، اللهم أنت أعلم بي مني ومن غيري، ولكني أقول ذلك تعزيةً لأمي؛ لتسلو عني، فقالت أمّه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسناً إن تقدمتني أو تقدمتك ففي نفسي، اخرج يا بني حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمرك، فقال: جزاك الله يا أمه خيراً فلا تدعي الدعاء قبل وبعد لي. فقالت: لا أدعه أبداً، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبرّه بأبيه وبي، اللهم إني قد سلمته لأمرك، ورضيت بما قضيت، فقابلني في عبد الله بن الزبير بثواب الصابرين الشاكرين. ثم قالت له: ادن مني أودعك. فدنا منها، فقبّلته ثم أخذته إليها فاحتضنته لتودعه، واعتنقها ليودعها، وكانت قد أضرت في آخر عمرها فوجدته لابساً درعاً من حديد، فقالت: يا بني ما هذا لباس من يريد ما تريد من الشهادة. فقال: يا أماه، إنما لبسته لأطيّب خاطرك وأسكّن قلبك به. قالت: لا يا بنيّ، ولكن انزعه، فنزعه، وجعل يلبس بقية ثيابه، ويتشدّد، وهي تقول: شمّر ثيابك. وجعل يتحفّظ من أسفل ثيابه لئلا تبدو عورته إذا قتل، وجعلت تذكره بأبيه الزبير، وجدّه أبي بكر الصديق، وجدّته صفيّة بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترجّيه القدوم عليهم إذا هو قتل شهيداً. ثم خرج من عندها فكان ذلك آخر عهده بها رَضْيَ اللَّهُ عنْهَا وعن أبيه وأبيها، ثم قالت: امضِ على بصيرتك، فودّعها وخرج وهو يقول: لست بمبتاع الحياة بسُبَّةٍ ... ولا مرتقٍ من خشية الموتِ سُلّماً قالوا: وكان يخرج من باب المسجد الحرام، وهناك خمسمائة فارس وراجل، فيحمل عليهم فيتفرقون عنه يمناً وشمالاً، ولا يثبت له أحد، وهو يقول: إني إذا أعرف يومي أصبره ... إذ بعضهم يعرف ثم ينكر ويقول أيضاً: الموت أكرم من إعطاء منقصةٍ ... من لم يمت غبطة فالغاية الهَرَمُ وكانت أبواب الحرم قد قلّ من يحرسها من أصحاب ابن الزبير، وكان لأهل حمص حصار الباب الذي يواجه الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، وعلى كل باب قائد ومعه أهل تلك البلاد، وكان الحجاج، وطارق بن عمرو في ناحية الأبطح. لو كان قرني واحداً كفيته فيقول ابن صفوان وأهل الشام أيضاً: إي والله، وألف رجل. ولقد كان حجر المنجنيق يقع على طرف ثوبه فلا ينزعج بذلك، ثم يخرج إليهم فيقاتلهم كأنه أسد ضارٍ، حتى جعل الناس يتعجبون من إقدامه وشجاعته، فلما كان ليلة الثلاثاء السابع عشر من جمادى الأولى من هذه السنة، بات ابن الزبير يصلي طول ليلته، ثم جلس فاحتبى بحميلة سيفه فأغفى، ثم انتبه مع الفجر على عادته، ثم قال: أذِّن يا سعد. فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير ثم صلّى ركعتي الفجر ثم أقيمت الصلاة، فصلى الفجر فقرأ سورة ((ن)) حرفاً حرفاً، ثم سلّم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال لأصحابه: ما أراني اليوم إلا مقتولاً، فإني رأيت في منامي كأن السماء فرجت لي فدخلتها، وإني والله قد مللت الحياة، وجاوزت سني اثنتين وسبعين سنة، اللهم إني أحبّ لقاءك فأحب لقائي. ثم قال: اكشفوا عن وجوهكم حتى أنظر إليكم، فكشفوا عن وجوههم وعليهم المغافر، فحرّضهم وحثّهم على القتال والصبر، ثم نهض بهم فحمل وحملوا حتى كشفوهم إلى الحجون، فجاءته آجُرَّةٌ فأصابته في وجهه، فارتعش لها، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه تمثّل بقول بعضهم: فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما ثم رجع فجاءه حجر منجنيق من ورائه فأصابه في قفاه فوقذه، ثم وقع إلى الأرض على وجهه، ثم انتهض فلم يقدر على القيام، وابتدره الناس، فشدّ عليه رجل من أهل الشام، فضرب الرجل فقطع رجليه وهو متكئ على مرفقه الأيسر، وجعل يضرب وما يقدر أن ينتهض، حتى كثروا عليه، فابتدروه بالسيوف، فقتلوه - رضي الله عنه -، وجاءوا إلى الحجاج فأخبروه، فخر ساجداً قبَّحه الله، ثم قام هو وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه وهو صريع، فقال طارق: ما ولدت النساء أذْكَرَ من هذا. فقال الحجاج: تمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذر لنا، إنا محاصروه، وليس هو في حصن ولا خندق ولا منعة ينتصف منا، بل يفضل علينا في كل موقف، فلما بلغ ذلك عبد الملك صوّب طارقاً. وانظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير، 4/ 348 - 357، وتاريخ الطبري، 6/ 187 - 192، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي، 6/ 124 - 127.

بعد أن استعاد عبد الملك بن مروان العراق، بعث الحجاج بن يوسف الثقفي في جيش كبير من أهل الشام لاستعادة الحجاز، ومقابلة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وكتب معه أماناً لأهل مكة إن هم أطاعوه، وكان ذلك في سنة 72هـ‍، وعندما وصل الحجاج إلى مدينة الطائف، نزل بها، ثم سار إلى مكة المكرمة، وحاصرها، ودافع ابن الزبير وأصحابه عن مكة دفاعاً جيداً، وضربوا مثلاً رائعاً في البطولة، إذ استطاعوا أن يصمدوا أمام هذا الجيش المحاصر لهم، ومنعوه من أن يستولي على مكة قرابة سبعة أشهر. لكن لطول الحصار من ناحية، وكثرة الجيش من ناحية أخرى، أضعف قوة المدافعين، فقلَّت المؤن، وأصابت أهلَ مكةَ مجاعةٌ شديدة اضطر معها المحاصرون إلى القتال، وقد صمد ابن الزبير في المعركة حتى قتل - رضي الله عنه - وعن والديه، وذلك سنة 73هـ‍ (¬1). ¬

(¬1) قال ابن عساكر في تاريخ دمشق، 12/ 120: ((عن معاذ بن العلاء أخي أبي عمرو بن العلاء قال: لما قتل الحجاجُ بن يوسف ابنَ الزبير ارتجت مكة بالبكاء، فأمر الناس فاجتمعوا في المسجد، ثم صعد المنبر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال بعقب حمد ربه: يا أهل مكة بلغني إكباركم واستفظاعكم قتل ابن الزبير، ألا وإن ابن الزبير كان من خيار هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة، ونازع فيها أهلها، فخلع طاعة الله، واستكنّ بحرم الله، ولو كان شيء مانع العصاة لمنعت آدم حرمة الجنة، لأن الله تعالى خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأباحه كرامته، وأسكنه جنته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته، وآدم على الله تعالى أكرم من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة، اذكروا الله يذكركم. وانظر البداية والنهاية لابن كثير))، 12/ 513 - 514. وقال ابن عساكر أيضاً، 12/ 121: ((عن عطاء بن زياد قال: كنت مع ابن الزبير في البيت فكان الحجاج إذا رمى ابن الزبير بحجر وقع الحجر على ابن الزبير على البيت، فسمعت للبيت أنيناً كأنين الإنسان: أوه)). وقال ابن كثير في البداية والنهاية، 12/ 514: ((وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، ثنا عوف عن أبي الصديق الناجي أن الحجاج دخل على أسماء بنت أبي بكر بعدما قتل ابنها عبد الله، فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل به وفعل، فقالت: كذبت، كان بارّاً بوالديه، صوّاماً قوّاماً، والله لقد أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يخرج من ثقيف كذابان: الآخر منهما شر من الأول. وهو مبير ... وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المثلة، وسمعته يقول: ((يخرج من ثقيف رجلان: كذاب ومبير، قالت: فقلت للحجاج: أما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت هو يا حجاج)). وفي صحيح مسلم، رقم 2545/ 229 أن أسماء قالت: ((أما إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومبيراً، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه، فقام عنها ولم يراجعها)). انظر: البداية والنهاية، 12/ 513 - 515، وتاريخ ابن عساكر، 12/ 121 - 122، وتاريخ الإسلام للذهبي، 6/ 316 - 317.

وعلى إثر ذلك دخل الحجاج مكة، فبايع أهلها لعبد الملك بن مروان، ثم سار إلى المدينة المنورة فدانت له، وبذلك يكون الحجاج قد أدخل الحجاز في طاعة الدولة الأموية (¬1). ¬

(¬1) وزارة المعارف، التاريخ الإسلامي، ص13.

الفصل الثاني: الحجاج وإمارته على العراق

الفصل الثاني الحجاج وإمارته على العراق المبحث الأول: إمارة العراق (¬1): اشتعلت الفتن في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وذلك في العراق وازدادت الاضطرابات والثورات فيه بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان ¬

(¬1) قال ابن جرير الطبري في تاريخه، 6/ 202: ((وفي هذه السنة (أي سنة 75هـ‍) ولّى عبد الملك الحجاج بن يوسف العراق دون خراسان وسجستان، وفيها قدم الحجاج الكوفة، فحدثني أبو زيد قال: حدثني محمد بن يحيى أبو غسان، عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: خرج الحجاج بن يوسف من المدينة حين أتاه كتاب عبد الملك بن مروان بولاية العراق بعد وفاة بشر بن مروان في اثني عشر راكباً على النجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار فجاءة، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الحرورية، فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة خز حمراء، فقال: عليّ بالناس، فحبسوه وأصحابه خارجه، فهمّوا به حتى إذا اجتمع إليه الناس قام فكشف عن وجهه، وقال: أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني أما والله إني أحمل الشر محمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله، وإني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى. ثم قال: وإني والله يا أهل العراق ما أغمز كتغماز التين ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد فررت من ذكاء، وجريت إلى الغاية القصوى. إن أمير المؤمنين عبد الملك نشر كنانته، ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرّها عوداً، وأصلبها مكسراً، فوجّهني إليكم، فإنكم طالما أوضعتم في الفتن، وسننتم سنن الغي. أما والله لألحونّكم لحو العود، ولأعصبنّكم عصب السّلَمة، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل، إني والله لا أعِد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت، فإياي وهذه الجماعات وقيلاً وقالاً، وما يقول: وفيه أنت وذاك؟ والله لتستقيمُنّ على سبل الحق، أو لأدعنّ لكل رجل منكم شغلاً في جسده. من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه، وأنهبت ماله. ثم دخل منزله، ولم يزد على ذلك. وانظر أيضاً: البداية والنهاية لابن كثير، 12/ 243 - 247، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 4/ 374 - 376، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 6/ 149 - 152.

- رضي الله عنه -، ولكن قتل الحسين، وقوة عبيد الله بن زياد جعلت الهمم الثورية في العراق تصاب ببعض الإحباط والسكينة تجاه الأمويين في دمشق. وحينما استطاع عبد الملك بن مروان السيطرة على العراق بمقتل ابن الزبير (مصعب)،تمّ إخماد الفتن التي تلت هذا بوجود أخيه بشر بن مروان أميراً على العراق، ووجود كثير من القواد وكبار وجوه العرب من حوله، كما عزّزه بحامية عسكرية شامية كبيرة لحفظ الأمن والنظام، ولإرهاب الأقوام الذين يحاولون زعزعة ركن الدولة، ويبدو أن هذا الاستقرار المزعزع لم يدم طويلاً، إذ عاد الخوارج إلى الثورة من جديد، فهدّدوا أمن الدولة الأموية، وذلك حين توفي بشر بن مروان، ولولا الله، ثم مقارعة القائد الأموي المشهور، المهلَّب بن أبي صُفرة لهم، ومطاولته حروبهم؛ لسيطروا على البصرة، والكوفة، وحوّلوا وجه الحوادث إلى غير ما يريده الأمويون، وأضف إلى ذلك: أن العراق يقطنها أقليات عدة، كلها تتجمّع على كره الأمويين. وربما اجتمع كثير منها على كره المسلمين بصفة عامة، والعرب بصفة خاصة (¬1). فبعث عبد الملك بن مروان الوالي تلو الوالي إلى العراق، ولكن العراقيين كلما جاءهم والٍ استخفّوا به، وإذا صعد المنبر رموه بالحصا، وازدادت البلوى بأن فر كثيرٌ من الجند ولحقوا بأهلهم، الأمر الذي جعل حامي العراق من الخوارج المهلّب يغضب، ويكتب إلى عبد الملك أن يبعث إليه بشخصية قوية، تستطيع أن ترغم الجند على الصمود أمام الخوارج، عند ذلك نثر عبد الملك كنانته فيمن يوليه العراق، ويستطيع إخماد الشر الملتهب، ويصارع ¬

(¬1) هزاع الشمري، الحجاج، ص23.

المبحث الثاني: فتوحات الحجاج:

كل الأعداء في هذا الجزء المهم من الدولة، فلم يجد إلا أمير المدينة: الحجاج بن يوسف، فكتب إليه بخطه: أما بعد يا حجاج: فقد وليتك العراقين صدقة، فإذا قدمت الكوفة فطأها وطأة يتضاءل منها أهل البصرة، وإياك وهوينا الحجاز؛ فإن القائل هناك يقول ألفاً، ولا يقطع بهن حرفاً، وقد رميت العرض الأقصى، فارمه بنفسك، وأرد ما أردته بك، والسلام. فلما قرأ الحجاج الكتاب، ترك المدينة إلى العراق، فقدم الكوفة في اثني عشر راكباً على النجائب، فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة حمراء، فقال: عَليَّ بالناس، فحسبه أصحابه خارجيّاً فهموا به، حتى إذا اجتمع عليه الناس، قام فكشف الغطاء عن وجهه وقال: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني أما والله إني لأحمل الشر محمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله، إلى آخر الخطبة (¬1). وبهذه الخطبة حدّد الحجاج سياسته تجاه أهل العراق، ووضَّح لهم نهجه فأخافهم (¬2) (¬3). المبحث الثاني: فتوحات الحجاج: اختار الحجاج وجهتين لسير العمليات العسكرية: أ - الوجهة الأولى: وجهة خراسان، وما وراء النهر. ¬

(¬1) الإمام الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 6/ 202. (¬2) هزاع الشمري، الحجاج، ص24. (¬3) البداية والنهاية، لابن كثير، 12/ 243 - 247، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 4/ 374 - 376، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 6/ 149 - 152.

المبحث الثالث: صفات الحجاج وإصلاحاته:

ب - الوجهة الثانية: وجهة مكران، وبلاد السند. والآن ندرس العمليات بالتفصيل: أ - خراسان، وما وراء النهر: وقد عقد الحجاج لواءها للقائد: قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي نقله الحجاج من إمارة الري جنوب قزوين، وعيَّنه على خراسان. ب - مكران وبلاد السند (باكستان) كان عليها محمد بن القاسم الثقفي، فقد اختاره الحجاج رغم صغر سنه التي لا تتجاوز السابعة عشرة. ولم يزل محمد بن القاسم في فتح نصر حتى أكمل بلاد السند، وأتاه نعي الحجاج (¬1). المبحث الثالث: صفات الحجاج وإصلاحاته: أ - من صفات الحجاج: 1 - حفظه للقرآن وفقهه: قال بعض السلف: كان الحجاج يقرأ القرآن كل ليلة (¬2). 2 - الصدق: اشتهر الحجاج بالصدق وانعدم لديه الكذب والغدر، فكان حازم الرأي، لا يداجي ولا يماري (¬3). 3 - عقليته وسياسته: قال الدارقطني: ذكر سليمان بن أبي منيح، عن صالح بن سليمان قال: قال عقبة بن عمرو: ما رأيت عقول الناس إلا قريباً بعضها من ¬

(¬1) هزاع الشمري، الحجاج، ص35، 37، 39. (¬2) ابن كثير، البداية والنهاية، 9/ 119. (¬3) هزاع الشمري، الحجاج، ص46.

4 - قبوله للنصح:

بعض إلا الحجاج، وإياس بن معاوية، فإن عقولهما كانت ترجح على عقول الناس (¬1). 4 - قبوله للنصح: فقد كان الحجاج يقبل النصح، ويأخذ به، ويتقبل الآراء من الآخرين، وخاصة أولئك الناس القادرين على إسداء النصح (¬2). أما إصلاحات الحجاج فمنها: 1 - تعجيم القرآن، وتنقيط الحروف الهجائية. 2 - تحويل الدواوين من الفارسية إلى العربية. 3 - بناء القوة العسكرية في الخليج، وبحر الهند. 4 - إصلاح السفن. 5 - تنظيم الإصلاح الزراعي. 6 - العناية الفائقة في الكيان الاقتصادي (¬3). ¬

(¬1) ابن كثير، البداية والنهاية، ‍/ 119. (¬2) هزاع الشمري، الحجاج، ص51. (¬3) هزاع الشمري، الحجاج، ص57.

الباب الثالث: الحجاج والأدب العربي

الباب الثالث الحجاج والأدب العربي الفصل الأول: الشعر العربي. المبحث الأول: ما قيل فيه من مدح. المبحث الثاني: ما قيل فيه من هجاء. الفصل الثاني: الحجاج والخطابة. المبحث الأول: الخطب. المبحث الثاني: الرسائل.

الفصل الأول: الشعر العربي

الفصل الأول الشعر العربي المبحث الأول: ما قيل فيه من مدح: قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج: أحجاج لا يفل سلاحك إنما الـ ... منايا بكفّ الله حيث براها أحجاج لا تعطِ العصاة مناهُم ... والله لا يعطي العصاة مناها إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العُضال الذي بها ... غلام إذا هزّ القناة سقاها سقاها فروّاها بشرب سجالة ... دماء الرجال حيث قال خشاها إذا سمع الحجاج زفَّ كتيبةٍ ... أعدّ لها قبل النزول قِراها أعدّ لها مسمومة فارسية ... بأيدي رجال يحلبون صداها فما ولد الأبكار والعون مثله ... ببحر ولا أرض يجف ثراها (¬1) وقالت تمدحه أيضاً: حجاج أنت شهاب الحرب إن لقحت ... وأنتَ للناس نور في الدجى يقدُ (¬2) وقد قال الفرزدق يمدح الحجاج: أمير المؤمنين وقد بلونا ... أمورك كلها راشداً صواباً تعلم إنما الحجاج سيفٌ ... تجذبه الجماجم والرقابا ¬

(¬1) هزاع الشمري، الحجاج، ص85، 86. (¬2) هزاع الشمري، ص86.

المبحث الثاني: ما قيل فيه من هجاء:

هو السيف الذي نصر ابن أروى ... ويوم الدار أسهلت انسكاباً عشية يدخلون بغير إذن ... على متوكّل وفّى وطابا خليل محمد، وإمام حقّ ... ورابع خير من وطئ الترابا فليس بزايل للحرب منهم ... شهاب يطفئون به شهابا إلى أن قال: رأيتك حين تعترك المنايا ... إذا المرعوب للغمرات هابا وأذلقه النقاق وكاد منه ... وجيب القلب ينتزع الحجابا فمن يمننْ عليك النصر يكذب ... سوى الله الذي رفع السحابا ثم قال بعد عدة أبيات: فعفوك يا ابن يوسف خير عفوٍ ... وأنت أشد منتقم عقاباً رأيت الناس قد خافوك حتى ... خشوا بيديك أو فرقوا الحسابا (¬1) المبحث الثاني: ما قيل فيه من هجاء: قال الفرزدق يهجوه بعد موته: وما نصر الحجاج إلا بغيره ... على كل يوم مستحر الملاحم بقوم أبو العاصي أبوهم توارثوا ... خلافة مهدي وخير الخواتم ولا رد مذ حطَّ صحيفة ناكثاً ... كلاماً ولا باتت له عين نائم ولا رجعوا حتى رأوا في شماله ... كتاباً لمغرور لدى النار نادم (¬2) ¬

(¬1) هزاع الشمري، الحجاج، ص94، 95. (¬2) هزاع الشمري، الحجاج، ص98.

الفصل الثاني: الحجاج والخطابة

الفصل الثاني الحجاج والخطابة المبحث الأول: الخطب: منها خطبته يوم قتل ابن الزبير: قال بعد حمد الله والثناء عليه: ((يا أهل مكة، بلغني إكباركم قتل ابن الزبير، ألا وإن ابن الزبير كان من خيار هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة، ونازع فيها أهلها، فنزع طاعة الله، واستكنّ بحرم الله، ولو كان شيءٌ مانع العصاة، لمنعت آدم حرمة الجنة، إن الله خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأباح له كرامته، وأسكنه جنّته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئة، وآدم أكرم على الله من ابن الزبير، والجنة أعظم من حرمة الكعبة، اذكروا الله يذكركم)) (¬1). المبحث الثاني: الرسائل: من رسائل الحجاج: كان الخليفة في دمشق قد أرسل جيشاً شاميّاً عليه سفيان بن الأبرد الكلبي إلى العراق، للمساعدة في حرب الخوارج، فأرسل لهم الحجاج رسالة يحثّهم فيها على السرعة: ((أما بعد، فإذا حاذيتهم هيت، فدعوا طريق الفرات والأنبار، وخذوا على عين التمر، حتى تقدموا الكوفة، إن شاء الله، وعجّلوا السير، والسلام)) (¬2). ¬

(¬1) ابن كثير، البداية والنهاية، 12/ 513 - 514، وتاريخ دمشق، 12/ 120. (¬2) الإمام الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج‍، ص580.

الباب الرابع: نقد الحجاج ونهايته

الباب الرابع نقد الحجاج ونهايته الفصل الأول: نقد الحجاج. المبحث الأول: آراء العلماء وأهل الحديث فيه. المبحث الثاني: آراء المؤرخين وأصحاب الشأن. الفصل الثاني: نهاية الحجاج. المبحث الأول: موته، ووقته. المبحث الثاني: آثار وفاته.

الفصل الأول: نقد الحجاج

الفصل الأول نقد الحجاج المبحث الأول: آراء العلماء وأهل الحديث فيه: قال الإمام الذهبي: الحجاج بن يوسف الثقفي عن أنس، قال أحمد والحاكم: ((أهلٌ ألا يُروَى عنه. وقال النسائي: ليس بثقة ولا مأمون. قال الإمام الذهبي: يحكي عنه ثابت، وحميد، وغيرهما، فلولا ما ارتكبه من العظائم والفتك والشر لمشى حاله)) (¬1). وقال ابن حجر: ((حجاج بن يوسف ... (من الثالثة) وقع ذكره وكلامه في الصحيحين، وليس بأهل أن يُروى عنه، ولي أمر العراق 20 سنة، ومات سنة 95هـ‍)) (¬2). المبحث الثاني: الرُّؤى والأحلام في الحجاج: حكى عمر بن عبد العزيز: أنه رأى الحجاج بعد موته في المنام، قال: فرأيته على شكل رماد، فقلت له: أحجاج؟ قال: نعم، قلت: ما فعل الله بك؟ قال: قتلني بكل من قتلته مرة مرة، وبسعيد بن جبير سبعين مرة، وأنا أرجو ما يرجوه الموحِّد (¬3). ¬

(¬1) الإمام الذهبي، ميزان الاعتدال، ‍/ 26، 27. (¬2) ابن حجر، تقريب التهذيب، ص225. (¬3) زكريا القزويني، آثار البلاد، ص100.

الفصل الثاني: نهاية الحجاج

الفصل الثاني نهاية الحجاج المبحث الأول: موته، ووقته: توفي الحجاج سنة 95هـ‍يوم الجمعة، لتسع بقين من رمضان، وقيل: مات في شوال وهو ابن أربع وخمسين سنة، وقيل: ثلاث وخمسين سنة (¬1). المبحث الثاني: أثر وفاته: لما توفي قال خادم الوليد: إني لأوضئ الوليد يوماً للغداة، فمد يده فجعلت أصب عليه الماء وهو ساهٍ، والماء يسيل، فلا يستطيع أن يتكلم، ثم نضح الماء في وجهي وقال: ما تدري ما جاء الليلة؟ فقلت: لا، قال: ويحك مات الحجاج (¬2) (¬3). [مواقف الحجاج مع التابعين ومواقفهم معه (¬4): 1 - موقفه مع الحسن البصري: للحسن البصري مواقفه الشجاعة الباسلة في وجه الحجاج، تشهد له بعلوّ كعبه، وسبقه في هذا الأمر، فقد تصدّى لطغيانه، وجهر بين العامة بسوء أفعاله، وصدع في وجهه بكلمة الحق والصدق. ولا ¬

(¬1) ميزان الاعتدال للذهبي، 2/ 226 - 227، وتقريب التهذيب لابن حجر، ص225. وانظر: هزاع الشمري، الحجاج، ص22. (¬2) روى أبو حنيفة عن حماد قال: بشرت إبراهيم (النخعي) بموت الحجاج فسجد وبكى من الفرح. ذكره الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ، 1/ 73. (¬3) هزاع الشمري، الحجاج، ص22. (¬4) هذه المواقف أضفتها للفائدة [المحقق].

أدلّ على ذلك من موقفه القوي الشجاع حين بنى الحجاج بناءً في واسط - وهي مدينة متوسطة بين البصرة والكوفة -، ونادى الحجاج الناس أن يخرجوا لينظروا إلى روعة البناء، فسارع الحسن البصري وخرج في وسط الجموع الغفيرة وهم يطوفون بهذه البناية، فوقف فيهم خطيباً يعظ الناس ويقلل الدنيا في أعينهم، فقال: لقد نظرنا فيما ابتنى أخبث الأخبثين، فوجدنا أنّ فرعون شيّد أعظم مما شيَّد، وبنى أعلى مما بنى، ثم أهلك الله فرعون، وأتى على ما بنى وشيّد، ليت الحجاج يعلم أنّ أهل السماء قد مقتوه، وأن أهل الأرض قد غرّوه، فلما سمع الحجاج مقالة الحسن البصري امتقع لونه، وخرس لسانه، وغاص في جلده، ولم يتكلّم ببنت شفة، غير أنه اقتصر على قوله: حسبك يا أبا سعيد. . . حسبك. فرد عليه الحسن البصري بثبات جنان، ورباطة جأش: لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبينّنه للناس، ولا يكتمونه. ولم يملك الحجاج أن يفعل للحسن شيئاً وانصرف، وفي اليوم التالي عاتب جنده وحراسه، ووبّخهم، وعنّفهم قائلاً لهم: تبّاً لكم وسحقاً! يقوم عبد من عبيد أهل البصرة، ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يرده أو ينكر عليه، والله لأسقينّكم من دمه يا معشر الجبناء. واستدعي الحسن لينكّل به الحجاج في وسط حرسه وجنوده، وجاء الحسن، ولما رأى النّطع والسيف والسيّاف دعا ربه أن يكفيه شرّ الحجاج، وأن يجعل نقمته برداً وسلاماً، كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم الخليل - عليه السلام -، فدخل الحسن على الحجاج،

2 - موقفه مع سعيد بن المسيب:

ولم يعبأ بما رأى، ولم يهزهّ منظر السيف والنّطع والسيّاف، بل كان في عزّة المؤمن، ووقار الداعي إلى الله، فهابه الحجاج، وأقبل عليه يرحب به، ويدنيه من مجلسه، ويوسّع له، هذا ما حدث في وسط دهشة واستغراب الحرس والجنود. وطفق الحجاج يسأل الحسن عن بعض أمور الدين، والحسن يجيبه عن كل مسألة بثقة العالم الرباني، لا يتتعتع، ولا يهتزّ، حتى انفضّ المجلس، وأحسن الحجاج للحسن، وطيَّبه (¬1). 2 - موقفه مع سعيد بن المسيّب: وهذا الحجاج الحاكم الظالم الغشوم، لا يقف أمامه أحد لظلمه وجبروته، فقد قيل لسعيد بن المسيّب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك، ولا يهيجك، ولا يؤذيك؟! قال سعيد: لا أدري، غير أن صلّى ذات يوم مع أبيه صلاة، فجعل لا يتمّ ركوعها ولا سجودها، فأخذت كفّاً من حصباء، فحصبته بها. قال الحجاج: فما زلت بعد ذلك أحسن الصلاة. ولما عقد عبد الملك لابنيه الوليد وسليمان بالعهد، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان فبايع الناس إلا سعيد بن المسيّب، فضربه هشام [أمير المدينة وقتذاك] ستين سوطاً، وطاف به في تبان من شعر حتى بلغ به رأس الثنية، فلما كروا به قال سعيد: أين تكرّون بي؟ قالوا: إلى السجن. قال سعيد: والله لولا أنني ظننته الصلب ما لبست هذا التبان أبداً. (أي حتى لا تكشف عورته إذا قتل) فردوه إلى السجن فحبسه. وكتب إلى عبد الملك يخبره بخلافه، فكتب إليه عبد الملك ¬

(¬1) سير أعلام التابعين، ص13 - 15. وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 563 - 588، والطبقات الكبرى، 7/ 157 - 177، وتهذيب الكمال، 6/ 102 - 125.

3 - خروج ابن الأشعث على الحجاج:

يلومه فيما صنع بسعيد وقال: سعيد كان والله أحوج أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عنده خلاف (¬1). 3 - خروج ابن الأشعث على الحجاج: قدر الله أن تمرّد على الحجاج أحد قوَّاده، وهو عبد الرحمن بن الأشعث، فقد سيّر الحجاج قائده ابن الأشعث بجيش ليغزو رتبيل ملك الترك في بلاده ما وراء سجستان، وكان ابن الأشعث معروفاً بشجاعته، وبسالته، وقوّته، وبالفعل تمّ له - بفضل الله - فتح هذه البلاد والنصر على رتبيل، فأرسل ابن الأشعث خُمس الغنائم إلى الحجاج، ليودعها في بيت مال المسلمين، واستأذنه في التوقف عن القتال ريثما يتبين له أمر تلك البلاد، ويقف على معالمها ومداخلها ومخارجها حتى لا يعرّض جيشه لصعوبات ومواقف حرجة، قد تؤدي به في النهاية إلى الهزيمة والهلَكة، فاستشاط الحجاج غيظاً، واعتبر ذلك منه تمرداً على أوامره، أو خنوعاً، وخوفاً وجبناً، وكتب الحجاج لابن الأشعث كتاباً يهدده، وينذره، ويلوح عليه باللائمة والنقمة، فغضب لذلك ابن الأشعث، وانتهزها فرصة، خاصة وأن الجيش ناقم على الحجاج، غير راض عنه وعن حكومته، ولا عن سياسته. فاستشارهم ابن الأشعث فيما يفعل بعد أن أطلعهم على الكتاب، فصادف ميلاً في قلوبهم، وحانت الفرصة التي يتخلّصون من حكمه، وبطشه، وجبروته، فدعوا ابن الأشعث إلى الخروج عليه، ولما استوثق ابن الأشعث من رغبتهم هذه، أخذ منهم البيعة على ذلك، فبايعه الجند على قتال الحجاج، ودارت بينهما معارك ¬

(¬1) سير أعلام التابعين، ص55، 56، وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 217 - 246، برقم 88، والطبقات الكبرى، 5/ 89 - 109، برقم 683، وتهذيب الكمال، 11/ 66 - 75، برقم 2358.

4 - موقفه مع سعيد بن جبير:

طاحنة، كان النصر فيها حليفاً لابن الأشعث، فاستولى على سجستان، وأكثر بلاد فارس، مما شجع ابن الأشعث على مواصلة حربه وقتاله، وتخليص الكوفة والبصرة من بطش الحجاج وعتوّه، ولكن مالت كفّة النصر، وأصبحت من نصيب الحاكم الظالم الغشوم الحجاج بن يوسف الثقفي. وانهزم ابن الأشعث هزيمة منكرة، فر على إثرها لينجو بنفسه، واستسلم الجيش المتمرّد، وأمر الحجاج بتجديد البيعة له، والانطواء تحت عباءته، فاستجاب الكثير، وفرّ البعض، وكان من أمر الذين استجابوا له واستسلموا أن خيّرهم الحجاج بين أمرين: أحلاهما مرّ، وأخفّهما تأباه النفس الأبيّة، وتلفظه الفطرة السويّة، خيّرهم الحجاج بين أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر بنقض البيعة لوالي أمير المؤمنين، وبين أن يُقتلوا، فاختار بعضهم القتل على أن يتكلم بكلمة الكفر، وبعضهم استعمل التَّقيَّة، وأخذ بالرخصة، وشهد على نفسه بالكفر كرهاً واضطراراً (¬1). 4 - موقفه مع سعيد بن جبير: ونجَّى الله سعيد بن جبير من هذه الورطة، فكان ممن فرّ واختفى عن أعين الحجاج عشر سنوات، ولكن قدر الله لابدّ نافذ، فعندما تولّى خالد بن عبد الله القسري ولاية مكة من قبل الحجاج، وكان سيّئ السيرة، فخاف أصحاب سعيد على سعيد، فألحّوا عليه بالفرار والخروج من مكة، ولكن سعيداً أبى الخروج، وقال لأصحابه: والله ¬

(¬1) سير أعلام التابعين، ص68، 69، وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 321 - 342، برقم 116، والطبقات الكبرى، 6/ 267 - 277، برقم 2317، وتهذيب الكمال، 10/ 358 - 376، برقم 2245.

لقد استحييت من الله مما أفرّ، ولا مفرّ من قدر الله. وكان والي المدينة من قبل الحجاج عثمان بن حيان بدل عمر بن عبد العزيز، فجعل يبعث من بالمدينة من أصحاب ابن الأشعث من العراق إلى الحجاج في القيود، فتعلّم منه خالد بن عبد الله القسري، فعيّن من عنده من مكة: سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وعمرو بن دينار، وطلق بن حبيب، فبعث خالد بهؤلاء إلى الحجاج، ثم عفا عن عطاء، وعمرو بن دينار؛ لأنهما من أهل مكة، وبعث بأولئك الثلاثة، فأما طلق فمات في الطريق قبل أن يصل، وأما مجاهد فحبس، فمازال في السجن حتى مات الحجاج، وأما سعيد بن جبير ذلك العابد القانت التقي الورع الطاهر، وصل مدينة واسط وهو مقيّد في الأغلال، فأدخلوه على الحجاج، وهو ثابت القلب، هادئ النفس، رابط الجأش، قوي الحِجَاج، فصيح اللسان، لم يتزعزع، ولم يهن، راسخ رسوخ الجبال، ودار بينهما حوار طويل يكشف عن عظمة الرجل، وحسن توكله على ربه، وقوّة إيمانه، وصبره، ويقينه، رجل فريد لم تلن له قناة، ولم يفتّ في عضده تهديد أو وعيد، فأقبل على عدوّه بما يسوؤه وهو في قبضته، والسيف مصلت على رقبته، فلم يعبأ به، وهو يعلم أنه مقتول لا محالة. وعن الحسن قال: لما أُتي الحجاج بسعيد بن جبير، قال: أنت الشقي ابن كسير؟ قال: بل أنا سعيد بن جبير، قال: بل أنت الشقي ابن كسير، قال: كانت أمي أعرف باسمي منك، قال: ما تقول في محمدٍ؟ قال: تعني النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: نعم، قال: سيد ولد آدم؛ النبي المصطفى خير من بقي، وخير من مضى، قال: فما تقول في أبي

بكر؟ قال: الصديق؛ خليفة الله، مضى حميداً، وعاش سعيداً، مضى على منهاج نبيه - صلى الله عليه وسلم - لم يغير، ولم يبدل، قال: فما تقول في عمر؟ قال: عمر الفاروق خيرة الله وخيرة رسوله، مضى حميداً على منهاج صاحبيه، لم يغيّر، ولم يبدّل، قال: ما تقول في عثمان؟ قال: المقتول ظلماً، المجهّز جيش العسرة، الحافر بئر رومة، المشتري بيته في الجنة، صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابنتيه، زوَّجه النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي من السماء، قال: فما تقول في علي؟ قال: ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأول من أسلم؛ زوج فاطمة، وأبو الحسن والحسين، قال: فما تقول في معاوية؟ قال: أنت أعلم ونفسك، قال: بت بعلمك، قال: إذاً يسوؤك ولا يسرّك، قال: بت بعلمك، قال: اعفني، قال: لا عفا الله عني إن أعفيتك، قال: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله - تعالى -، ترى من نفسك أموراً تريد بها الهيبة، وهي تقحمك الهلكة، وسترد غداً فتعلم، قال: أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك، ولا أقتلها أحداً بعدك، قال: إذاً تفسد عليّ دنياي، وأفسد عليك آخرتك، قال: يا غلام، السيف والنطع، قال: فلما ولّى ضحك، قال: أليس قد بلغني أنك لم تضحك؟ قال: وقد كان ذلك، قال: فما أضحكك عند القتل؟ قال: من جرأتك على الله، ومن حلم الله عنك، قال: يا غلام اقتله، فاستقبل القبلة وقال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، فصرف وجهه عن القبلة، قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله}، قال: اضرب به الأرض، قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}، قال: اذبح عدو الله، فما أنزعه لآيات القرآن منذ اليوم. وقبل أن ينزل السيف على رقبة سعيد دعا ربه قائلاً: اللهم لا

5 - مواقفه مع الشعبي:

تسلط الحجاج على أحد بعدي. وسقط رأس سعيد على الأرض، الرأس التي كانت تحوي علوماً كثيرة، وتضم تفسير كلام رب العالمين، سقطت على الأرض، وذكر أهل التاريخ أن رأسه هلّلت ثلاث مرات: لا إله إلا الله، يفصح في الأوليين، ولم يفصح في الثالثة. ومات سعيد الإنسان والجسد، ولكن لم تمت ذكراه، ولم يمت اسمه وعلمه وفقهه، ومات أيضاً الحجاج بعده بقليل شرّ ميتة، فاشتدّت عليه آلام المرض، وغصص الموت، فكان يهبّ مذعوراً وهو يقول: ما لي ولسعيد بن جبير، ويكرّرها، حتى أهلكه الله، وخلّص العباد والبلاد من شرّه وطغيانه، ورؤي الحجاج في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني الله بكل امرئ قتلة واحدة وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة (¬1). 5 - مواقفه مع الشعبي: يقال إن الحجاج بن يوسف الثقفي قال للشعبي يوماً: كم عطاءك في السنة؟ فقال الشعبي: ألفين. فقال الحجاج: ويحك! كم عطاؤك؟ فقال الشعبي: ألفان. قال الحجاج: كيف لحنت أولاً؟! قال الشعبي: لحن الأمير فلحنت. فلما أعرب أعربت، وما أمكن أن يلحن الأمير وأعرب أنا. فاستحسن ذلك منه وأجازه. وعن الشعبي قال: لما قدم الحجاج سألني عن أشياء من العلم، فوجدني بها عارفاً، فجعلني عريفاً على قومي الشعبيين، ومنكباً على جميع همدان، وفرض لي، فلم أزل عنده بأحسن منزلة، حتى كان ¬

(¬1) سير أعلام التابعين، ص70 - 72. انظر: المراجع السابقة.

شأن عبد الرحمن بن الأشعث، فأتاني قُرّاء أهل الكوفة، فقالوا: يا أبا عمرو، إنك زعيم القرّاء، فلم يزالوا حتى خرجت معهم، فقمت بين الصفين أذكر الحجاج، وأعيبه بأشياء، فبلغني أنه قال: ألا تعجبون من هذا الخبيث أما لئن أمكنني الله منه لأجعلن الدنيا عليه أضيق من مَسْكِ جمل. قال: فما لبثنا أن هُزمنا، فجئت إلى بيتي، وأغلقت عليّ، فمكثت تسعة أشهر، فندب الناس لخراسان، فقام قتيبة بن مسلم، فقال: أنا لها، فعقد له على خراسان، فنادى مناديه: من لحق بعسكر قتيبة فهو آمن، فاشترى مولى لي حماراً، وزوّدني، ثم خرجت، فكنت في العسكر، فلم أزل معه حتى أتينا فَرْغانة؛ فجلس ذات يوم وقد برق؛ فنظرت إليه فقلت: أيها الأمير، عندي علم (ما تريد) فقال: ومن أنت؟ قلتُ: أعيذك ألا تسأل عن ذلك، فعرف أني ممن يخفي نفسه؛ فدعا بكتاب فقال: اكتب نسخة. قلت: لا تحتاج إلى ذلك، فجعلت أملي عليه وهو ينظر، حتى فرغ من كتاب الفتح. قال: فحملني على بغلة، وأرسل إلي بسرق من حرير، وكنت عنده في أحسن منزلة، فإني ليلة أتعشى معه، إذا أنا برسول الحجاج بكتاب فيه: إذا نظرت في كتابي هذا، فإن صاحب كتابك عامر الشعبي، فإن فاتك، قطعت يدك على رجلك وعزلتك. قال: فالتفت إليّ، وقال: ما عرفتك قبل الساعة، فاذهب حيث شئت من الأرض، فوالله لأحلفن له بكل يمين؛ فقلت: أيها الأمير، إن مثلي لا يخفى، فقال: أنت أعلم. قال: فبعثني إليه وقال: إذا وصلتم إلى خضراء واسط فقيّدوه، ثم أدخلوه على الحجاج. فلما دنوت من واسط، استقبلني ابن أبي مسلم، فقال: يا أبا عمرو، إني لأضنُّ بك عن القتل، إذا دخلت على الأمير فقل كذا،

6 - ابن سيرين يذب عن الحجاج ويدفع غيبته:

وقل كذا، فلما أُدخلت عليه ورآني قال: لا مرحباً، ولا أهلاً، جئتني ولست في الشرف من قومك، ولا عريفاً ففعلت وفعلت، ثم خرجت عليَّ؟ وأنا ساكت فقال: تكلّم. فقلت: أصلح الله الأمير، كلّ ما قلته حقّ، ولكنّا قد اكتحلنا بعدك السهر، وتحلَّسنا الخوف، ولم نكن مع ذلك بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، فهذا أوان حقنت لي دمي، واستقبلت بي التوبة. قال: قد فعلت ذلك (¬1). 6 - ابن سيرين يذب عن الحجاج ويدفع غيبته: سمع ابن سيرين رجلاً يسبّ الحجاج، فأقبل عليه فقال له: مهْ أيها الرجل، فإنك لو قد وافيت الآخرة، كان أصغر ذنب عملته قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج، واعلم أن الله تعالى حَكَمٌ عَدْلٌ، إن أخذ من الحجاج لمن ظلمه، فسوف يأخذ للحجاج ممن ظلمه، فلا تشغلن نفسك بسب أحد (¬2). 7 - مواقفه مع محمد ابن الحنفية: عن الحسن بن علي بن محمد ابن الحنفية عن أبيه قال: لما صار محمد بن علي إلى الشعب سنة اثنتين وسبعين، وابن الزبير لم يقتل، والحجاج محاصره، أرسل إليه أن يبايع لعبد الملك، فقال ابن الحنفية: قد عرفت مقامي بمكة، وشخوصي إلى الطائف وإلى الشام، كل هذا إباءً مني أن أبايع ابن الزبير أو عبد الملك، حتى ¬

(¬1) سير أعلام التابعين، ص101، 103، وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 294 - 319، برقم 113، والطبقات الكبرى، 6/ 259 - 267، برقم 2316، وتهذيب الكمال، 14/ 18 - 40، برقم 3042. (¬2) سير أعلام التابعين، ص 114، وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 606 - 622، برقم 246، وحلية الأولياء، 2/ 298 - 320، برقم 193.

يجتمع الناس على أحدهما، وأنا رجل ليس عندي خلاف، لما رأيت الناس اختلفوا اعتزلتهم حتى يجتمعوا، فأويت إلى أعظم بلاد الله حرمة، يأمن فيه الطير، فأساء ابن الزبير جواري، فتحولت إلى الشام، فكره عبد الملك قربي، فتحوّلت إلى الحرم، فإن يقتل ابن الزبير، ويجتمع الناس على عبد الملك أبايعك، فأبى الحجاج أن يرضى بذلك منه حتى يبايع لعبد الملك، فأبى ذلك ابن الحنفية، وأبى الحجاج أن يقرّه على ذلك، فلم يزل محمد يدافعه حتى قتل ابن الزبير. فلما اجتمع الناس على عبد الملك، وبايع ابن عمر، قال ابن عمر لابن الحنفية: ما بقي شيء فبايع، فكتب ابن الحنفية إلى عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين من محمد بن علي أما بعد، فإني لما رأيت الأمة قد اختلفت اعتزلتهم، فلما أفضى هذا الأمر إليك، وبايعك الناس كنت كرجل منهم، أدخل في صالح ما دخلوا فيه، فقد بايعتك، وبايعت الحجاج لك، وبعثت إليك ببيعتي، ورأيت الناس قد اجتمعوا عليك، ونحن نحب أن تؤمّننا، وتعطينا ميثاقاً على الوفاء، فإن الغدر لا خير فيه، فإن أبيت فإن أرض الله واسعة. فلما قرأ عبد الملك الكتاب قال قبيصة بن ذؤيب وروح بن زنباع: ما لك عليه سبيل، ولو أراد فتقاً لقدر عليه، ولقد سلّم وبايع، فنرى أن تكتب إليه بالعهد والميثاق بالأمان له، والعهد لأصحابه. ففعل فكتب إليه عبد الملك: إنك عندنا محمود، أنت أحب وأقرب بنا رحماً من ابن الزبير، فلك العهد والميثاق وذمة رسوله أن لا

تهاج، ولا أحد من أصحابك بشيء تكرهه، ارجع إلى بلدك، واذهب حيث شئت، ولست أدع صلتك وعونك ما حييت، وكتب إلى الحجاج يأمره بحسن جواره وإكرامه، فرجع ابن الحنفية إلى المدينة. وعن زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: وفدت مع أبان بن عثمان على عبد الملك بن مروان وعنده ابن الحنفية، فدعا عبد الملك بسيف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتي به، ودعا بصيقل فنظر إليه فقال: ما رأيت حديدة قط أجود منها. قال عبد الملك: ولا والله ما أرى الناس مثل صاحبها، يا محمد هبْ لي هذا السيف، فقال محمد: أينا رأيت أحقّ به فليأخذه. قال عبد الملك: إن كان لك قرابة، فلكلٍّ قرابة وحق، قال: فأعطاه محمدٌ عبدَ الملك، وقال: يا أمير المؤمنين إن هذا - يعني الحجاج وهو عنده - قد آذاني، واستخفّ بحقي، ولو كانت خمسة دراهم أرسل إليّ فيها، فقال عبد الملك: لا إمرة لك عليه. فلما ولّى محمد، قال عبد الملك للحجاج: أدركه فسُلّ سخيمته. فأدركه فقال: إن أمير المؤمنين أرسلني إليك لأسلّ سخيمتك، ولا مرحباً بشيء ساءك. فقال محمد. ويحك يا حجاج، اتقّ الله، واحذر الله، ما من صباح يصبحه العباد إلا لله في كل عبد من عباده ثلاثمائة وستون لحظة، إن أخذ أخذ بمقدرة، وإن عفا عفا بحلم، فاحذر الله. فقال له الحجاج: لا تسألني شيئاً إلا أعطيتكه، فقال له محمد: وتفعل؟ قال له الحجاج: نعم. قال: فإني أسألك صَرم الدهر. قال فذكر الحجاج ذلك لعبد الملك، فأرسل عبد الملك إلى رأس الجالوت، فذكر له الذي قال محمد، وقال: إن رجلاً منا ذكر حديثاً ما سمعناه إلا منه. وأخبره بقول محمد، فقال رأس الجالوت: ما

8 - شقيق بن سلمة يدعو على الحجاج ثم يعتذر، ويدفع غيبته:

خرجت هذه الكلمة إلا من بيت نبوة. وعن إبراهيم أن الحجاج أراد أن يضع رجله على المقام، فزجره ابن الحنفية ونهاه (¬1). 8 - شقيق بن سلمة يدعو على الحجاج ثم يعتذر، ويدفع غيبته: عن عاصم قال: ما رأيت أبا وائل ملتفتاً في صلاة، ولا في غيرها، ولا سمعته يسب دابة قط، إلا أنه ذكر الحجاج يوماً فقال: اللهم أطعم الحجاج من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع. ثم تداركها، فقال: إن كان ذاك أحبَّ إليك، فقلت: وتستثني في الحجاج؟ فقال: نعدها ذنباً. وعن الزبرقان قال: كنت عند أبي وائل، فجعلت أسبّ الحجاج وأذكر مساوئه، فقال: لا تسبه، وما يدريك لعله قال: اللهم اغفر لي، فغفر له. وعن ابن عون قال: ذهب بي رجل إلى أبي وائل فقال: يا أبا وائل أي شيء تشهد على الحجاج؟ قال: أتأمرني أن أحكم على الله؟ وعن عاصم عن أبي وائل قال: أرسل إليّ الحجاج فأتيته فقال: ما اسمك؟ قلت: ما أرسل إليَّ الأمير إلا وقد عرف اسمي. قال: متى هبطت هذا البلد؟ قلت: ليالي هبطه أهله. قال: كأين تقرأ من القرآن؟ قال: قلت: أقرأ منه ما إن اتبعته كفاني، قال: إنا نريد أن نستعملك على بعض عملنا. قال: قلت: على أي عمل الأمير؟ قال: السلسلة. قال: قلت: إن السلسلة لا يُصلحها إلا رجال يقومون عليها، ويعملون عليها، فإن تستعن بي تستعن بشيخ أخرق ضعيف ¬

(¬1) سير أعلام التابعين، ص224، 227، وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 110 - 128، برقم 36، والطبقات الكبرى، 5/ 67 - 87، برقم 680، وتهذيب الكمال، 26/ 147 - 152، برقم 5484، وحلية الأولياء، 3/ 204 - 210، برقم 234.

9 - مواقفه مع سالم بن عبد الله بن عمر:

يخاف أعوان السوء، وإن يعفني الأمير فهو أحبَ إلي، وإن يقحمني الأمير أقتحم، وايم الله، إني لأتعارَ من الليل فأذكر الأمير فما يأتيني النوم حتى أصبح، ولست للأمير على عمل، فكيف إذا كنت للأمير على عمل؟ وايم الله، ما أعلم الناس هابوا أميراً قط هيبتهم إياك أيها الأمير. قال: فأعجبه ما قلت. قال: أعد عليّ، فأعدت عليه فقال: أما قولك: إن يعفني الأمير فهو أحبّ إليَّ، وإن يُقحمني أقتحم، فإنا إن لا نجد غيرك نقحمك، وإن نجد غيرك لا نقحمك، وأما قولك: إن الناس لم يهابوا أميراً قط هيبتهم إياي، فإني والله ما أعلم اليوم رجلاً على ظهر الأرض هو أجرؤ على دم مني، ولقد ركبت أموراً كان هابها الناس، فأخرج لي بها. انطلق يرحمك الله. قال شقيق: فخرجت من عنده وعدلت من الطريق عمداً كأني لا أنظر. قال الحجاج: أرشدوا الشيخ، أرشدوا الشيخ. حتى جاء إنسان فأخذ بيدي، فأخرجني، فلم أعد إليه بعد (¬1). 9 - مواقفه مع سالم بن عبد الله بن عمر: عن عطاء بن السائب، قال: دفع الحجاج إلى سالم بن عبد الله سيفاً، وأمره بقتل رجل، فقال سالم للرجل: أمسلم أنت؟ قال: نعم، امض لما أمرت به. قال: فصليت اليوم صلاة الصبح؟ قال: نعم، قال: فرجع إلى الحجاج، فرمى إليه السيف، وقال: إنه ذكر أنه مسلم، وأنه قد صلَّى صلاة الصبح، فهو في ذمّة الله، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صلّى ¬

(¬1) سير أعلام التابعين، ص317، 320، وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 161 - 166، برقم 59، والطبقات الكبرى، 6/ 154 - 159، برقم 1984، وتهذيب الكمال، 12/ 548 - 554، برقم 2767، وحلية الأولياء، 4/ 106 - 120، برقم 253.

صلاة الصبح فهو في ذمّة الله)) (¬1). قال الحجاج: لسنا نقتله على صلاة الصبح، ولكنه ممن أعان على قتل عثمان، فقال سالم: هاهنا من هو أولى بعثمان مني، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال: ما صنع سالم؟ قالوا: صنع كذا وكذا، فقال ابن عمر: مكيس (¬2) مكيس (¬3)] (¬4). ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير، 8/ 381، برقم 8188، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم 6345. (¬2) الكَيْسُ: بوزن الكيل ضد الحمق، والرجل كَيِّسٌ مُكَيَّسٌ: أي ظريف. [مختار الصحاح، 586). (¬3) سير أعلام التابعين، ص 381. وانظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 457 - 466، برقم 176، وتهذيب الكمال،10/ 145 - 154،برقم 2149،وحلية الأولياء،2/ 221 - 226، برقم 177. (¬4) هذه المواقف كلها أضفتها للفائدة [المحقق].

الخاتمة

الخاتمة نحمد الله أولاً وآخراً، حيث أنعم علينا بنعم [لا تُعدّ ولا تُحصى]، منها إكمال هذا البحث، ويحتوي البحث على سيرة ملخصة من سير الحجاج، فقد ذكرت: أسرته، وحروبه، ومعاملاته، وأدبه إلى غير ذلك من كلام العلماء والمؤرخين فيه، وذكر وفاته، وأثرها على الخليقة. ومن أهم نتائج البحث: تمييز الصادق من الكاذب، [والمظلوم من الظالم]، وذلك من أخباره، والتعرف على علاقة الحاكم بالمحكوم، والتعرف على بعض العقليات السياسية للحاكم. ومن أهم التوصيات والاقتراحات: أن يكتب البحاثون في سيرته، [والتحذير من الاقتداء به في الظلم والعدوان، وسفك الدماء بدون حق]، وأوصيهم أن يتجنبوا الكذب من أخبار الرواة عنه، والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الرسالة الخامسة: مواقف لا تنسى من سيرة والدتي رحمها الله

الرسالة الخامسة مواقف لا تنسى من سيرة والدتي رحمها الله تعالى 1345 هـ- 1428هـ تأليف الفقير إلى الله تعالى د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً، أما بعد: فهذه كلمات مختصرات من سيرة والدتي الغالية العزيزة الكريمة: نشطا بنت سعيد بن محمد بن جازعة: آل جحيش من آل سليمان، من عبيدة، قحطان، رحمها الله تعالى، ورفع منزلتها، بينت فيها سيرتها الجميلة، ومواقفها الحكيمة التي لا تنسى إن شاء الله تعالى، لعلّ الله أن يشرح صدر من قرأها إلى أن يدعوَ لها، ويستغفر لها، ويترحَّم عليها. والله تعالى أسأل أن يجعل هذه الكلمات اليسيرات خالصةً لوجهه الكريم، وبِرّاً بوالدتي الغالية، وسبباً للدعاء لها، وأن يغفر لها، ويُعلي درجتها، وأن يجزيها عنِّي خير ما جزى والدة عن ولدها، وأن يجمعنا بها في الفردوس الأعلى مع نبيّنا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، ووالدينا، ومشايخنا، وذرّياتنا، وأزواجنا، وأحبابنا في الله جميعاً، وكل من قرأ هذه الرسالة من المؤمنين الصادقين؛ إنه تعالى على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، لا إله إلا هو، ولا ربّ سواه، ولا

حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم. وصلّى الله على عبده، ورسوله، وخليله، وأمينه على وحيه، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. قاله وكتبه ابنها: أبو عبد الرحمن سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر بعد ظهر يوم الأحد الموافق 4/ 9/ 1428هـ

أولا: ولادتها:

* أولاً: ولادتها: وُلِدَتْ رحمها الله تعالى في ضواحي العرين التابع لأبها، يبعد عن أبها شرقاً 125 كيلو تقريباً في البادية، وكان والدها من أهل الأغنام الذين يتتبّعون مواقع القطر، وشعف الجبال في هذه البلاد المذكورة، وكان زمن ولادتها على حسب إخبار كبار السن من أقربائها عام 1345هـ تقريباً. * ثانياً: نشأتها: نشأتْ بتوفيق الله تعالى ورعايته، وفضله، وإحسانه على ما نشأ عليه أهل التوحيد، وكانت في مجتمع أمّيّ لا يقرأ، ولا يكتب، إلا أنهم على فطرة التوحيد، فلا يعرفون في الرخاء ولا في الشدة الالتجاء إلاَّ إلى الله وحده، ولا يصرفون شيئاً من العبادات إلا له وحده لا شريك له. وَتَربَّتْ مع والدها، وكانت ترعى البهم ((صغار الأغنام)) في طفولتها، وكان والدها رحمه الله رجلاً صالحاً، كريماً، شجاعاً، من الذاكرين الله كثيراً، وقد عُرف بالإصابة في الرمي، فلا يُخطئ في رميه، سواء كان ذلك في رمي الصيد أو غيره، وقد ثبت عندي أنه: أثناء اصطياده للصيد قيل له: اجعل طلقة البندقية في أسفل قرن الغزال، فرماه فوقعت في المكان الذي حُدِّد له أسفل قرنها. وقد عُرِفَ عنه إجابة الدعوة في مواقف كثيرة، منها: أن الوالدة نشطا رحمها الله كانت ذات يوم في صغرها تأكل من قطعة لحم قد وضعتها في يدها، فجاءت حدأةٌ فاختطفت قطعة اللحم من يدها، فأغضب ذلك والدها؛ لأن اللحم في ذاك الوقت كان عزيزاً، وربما لا

ثالثا: زواجها:

يأكلون اللحم إلا من عيد الأضحى إلى عيد الأضحى لقلّة ما في اليد، وشدّة الحال عند أهل البادية، فعند ذلك دعا والدها على الحدأة، فقال: ((اللهم إن كان أجلها في السماء فأنزله عليها، وإن كان في الأرض فابعثه إليها))، أو كما قال في دعائه رحمه الله، وفوراً وقعت الحدأة قريباً من بيت الشَّعْر الذي كانوا يسكنونه في ذلك الوقت، وإذا هي قد قُتلت، ونظروا فإذا الذي قتلها صقر هجم عليها، وضربها ضربة قضت عليها؛ من أجل قطعة اللحم التي كانت معها، استجابةً لدعوةِ والد الطفلة الصغيرة التي أخذت قطعة اللحم من يدها، وكانت أغلى ما تملك، وأحبَّ إليها من الحلوى للأطفال في عصرنا هذا. * ثالثاً: زواجها؛ بعد أن أمضت مع والدها خمساً وعشرين سنة في حدود عام 1370هـ تقريباً، زوّجها من ابن أخته علي بن وهف بن محمد رحمه الله، وكانت أمُّه مهرة بنت محمد بن جازعة عمة الوالدة، رحم الله الجميع رحمةً واسعة، وكانت الوالدة هي الزوجة الثانية للوالد رحمه الله، حيث كان قد تزوج قبلها بنت عمه صالحة بنت دغش بن محمد رحمة الله على الجميع، وختم لزوجة أبي صالحة بخير. وبقيت الوالدة لم تحمل عند الوالد علي بن وهف لمدة سنتين تقريباً، وكانت ترعى الأغنام عند زوجها: الوالد علي، كما كانت ترعاها عند والدها، فيسرحون بالأغنام من بيوت الشعر إلى الجبال والأودية بعد ارتفاع الشمس، وبعد ما يحلبون الأغنام، ويُرضعون البهم ((صغار

رابعا:

الأغنام))، ثم يعودون قبل غروب الشمس، ويسمّونه الرّواح، فيقولون: راحت الأغنام إذا وصلت البيوت بعد الرعي مساءً، ويقولون: سرحت إذا ذهبت صباحاً. * رابعاً: بعد سنتين من زواجها تقريباً حملت بابنها الأكبر، وهو بكرها: سعيد، كاتب هذه الأسطر: عفا الله عني، وتجاوز، وغفر، وعن والدتي الغالية، ووالدي العزيز، وعن ذريتهما، وجميع المؤمنين المخلصين. وكانت ولادتها ببكرها سعيد في شهر الفطر 25/ 10/ عام 1372 تقريباً، كما أخبرتني الوالدة رحمها الله، وكانت حالة الوضع صعبة جداً، فقد أخبرتني الوالدة رحمها الله أنها سرحت بالأغنام في ذلك اليوم من شهر الفطر من ذلك العام، وكان الوقت صيفاً، وفي حرٍّ شديد، فكانت تُطْلَقُ طلقاً شديداً في الرّمضاء الحارّة الشديدة في منتصف النهار، فدخلت رحمها الله تحت سدرة تستظلّ، ويسمّون السّدْر ((العِلْب))، فوضعت تحت شجرة السدرة وقت الظهر تقريباً، وهي عند الأغنام، وليس معها أحد إلا الله - عز وجل -، وقد جَهَّزَت سكّيناً معها؛ لتقطع السرَّ للمولود، وفعلاً قطعت السرّ، وقد كانت بكراً لا تُحسن القطع للسرِّ رحمها الله، فلم تربط السرّ، بل قطعته، وتركته ينزف دماً، وحملت الطفل الغالي عندها جداً، بعد أن لَفَّته في خرقة، وقامت تسوق الغنم حتى وصلت بيت الشعر قبل غروب الشمس، وعندما رأتها عمّتها أخت أبيها، وهي أمُّ زوجها، مهرة بنت محمد بن جازعة استقبلتها، ودعت لها وبرّكت، وهالها ما

رأت من الدماء المتدفّقة من سرِّ المولود، فما كان من عمّتها مهرة إلا أن ربطت السرّ، فوقفت الدماء، وقد كاد الطفل أن يموت لولا رحمة الله تعالى، وأنه تعالى جعل جدتي مهرة المذكورة سبباً في حياة الطفل، رحمها الله، وقد كانت جدتي مهرة من الذاكرات الله كثيراً، وخاصة في آخر حياتها، ومما سمعته من ذكرها في طفولتي: أنها كانت تستغفر الله كثيراً، وتسبّح، وتهلِّل، وتكبّر، ومن ذلك أنها كانت تقول: ((أستغفر الله ألفاً في ألف، عدد حروف القرآن حرفاً حرفاً، والملائكة تكتب، والله يعفو ... ))، وكنت أسمع دويَّ صوتها بالذكر في غرفتها كدويّ صوت النحل، وكانت إذا شربت لبناً أو حليباً قالت بعد الشرب: ((الحمد لله الذي أخرجه لي من بين فرثٍ ودمٍ))، أو: ((الحمد لله الذي سقاني هذا من بين فرثٍ ودمٍ)). وقد كانت لا تقرأ ولا تكتب، ولكن دعاءها هذا مقتبس من قول الله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} (¬1)، وقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (¬2). وكان مكان حادثة الولادة المذكورة -كما أخبرتني الوالدة رحمها الله، وكما أخبرتني أمي من الرضاعة زوجة أبي صالحة بنت دغش أحسن الله لنا ولها الخاتمة - في جبال السّود شرق وادي العلوبي أسفل العرين، في ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 66. (¬2) سورة المؤمنون، الآية: 21.

ظهر جبال السّود، في شِعبٍ يُقال له شوحطة، وَسَيْلُه يقع في وادي الإسلي، ووادي الإسلي في الجهة الغربية الجنوبية لوادي الأمواه، وسيل الإسلي يقع في وادي العَوَص غرب الأمواه، وسيل وادي العَوَص يقع في تثليث. واستمرَّت الوالدة مع الوالد، ومع أمي من الرضاعة زوجة أبي صالحة، ومع عمتها أخت أبيها أم زوجها مهرة، يتنقَّلون من شِعبٍ إلى شِعبٍ يتتبعون مواقع القطر، وشعف الجبال بأغنامهم، وكانوا يحملون الماء على الحمير في القِرَب، وربما حملوها على الإبل، لكن الجمال في الغالب يحملون عليها الأثاث وبيوت الشَّعْر، ويركبون عليها، أما الماء فيحملونه على الحمير في الغالب. ولم تحمل الوالدة بعد ولدها الأول إلا بعد سنتين تقريباً، ثم حملت بالأخ الشقيق حسين أبي عليّ، مؤذّن الجامع الكبير بطريب، ومغسِّل الأموات هناك، أمدَّ الله في عمره على طاعته، ووضعت حملها في أسفل وادي العلوبي، وهو وادٍ في أسفل وادي العرين، يبعد عنه ثلاثين كيلو تقريباً، وسيله يصبُّ في وادي عرقة، وسيل عرقة يصبُّ في وادي تثليث، وقد كان مكان ولادة الأخ حسين شمال شرق وادي العلوبي، في شِعبٍ يقال له كُرَيْشة، وبداية سيل شعب كريشة تبدأ من أعلى جبال السود، ونهايته تصبُّ في وادي عرقة، وهي معروفة الآن بعرقة آل سليمان. وكان ذلك ليلاً، حين جاء الوالدة الطلقُ، فتركتني في وسط الغنم،

وأمرت راعيةً عندنا أن تُشْغِلَني عنها ((والراعية هي رفعة بنت جبران بن محمد بن جازعة، وهي بنت عم الوالدة، وهي أم زوجتي أم عبد الرحمن))، فوضعت الوالدة في الجبل، وكان من عادة النساء إذا أردن الوضع أن تذهب إحداهن لأعلى الجبل، لتستتر عن الناس، وتبتعد عنهم حتى لا يسمعوا ما يحصل عند الوضع، والله أعلم. وكان ذلك الزمن يُعرَف بخريف كويع، وهو سيل شديد قلع الأشجار، وأهلك كثيراً من الناس، وحصل به دمار عظيم، ومات فيه خلق كثير، منهم رجل يقال له: كويع، فأرّخوا به هذه الحادثة، وهو عام 1375هـ. ثم لم تحمل الوالدة بعد الأخ حسين مدة ست سنين تقريباً، واستمرّوا على ما هم عليه من رعي الأغنام، والتنقلات من مكان إلى مكان على حسب الأمطار، ومواقع القطر، وشعف الجبال، والأودية، والشعاب. وفي عام 1382هـ وضعت الوالدة الأخ الشقيق الدكتور سعداً أبا عبد العزيز، الأستاذ المشارك بجامعة الملك سعود، أمدَّ الله في عمره على طاعته. وكنت على علمٍ بما يحدث، وكانت الولادة آنذاك في شعبٍ يقال له قرضة، في حدباء يُقال لها: البيضاء، وشِعب قرضة وحدباء البيضاء بداية سيلهما من جبال السود جنوب شعب شوحطة الذي وُلِدْتُ فيه، فإذا ذهب الذاهب إلى جبال السود من أعلى قرضة، وتجاوز الجبل، وقع في

شعب شوحطة. وشعب قرضة مع حدباء البيضاء يقع سيلهما في وادي العلوبي الذي سبق ذكره. وفي يومٍ من الأيام من عام 1382هـ وَلَدت أمي رحمها الله الأخ سعداً داخل بيت الشَّعْر، وليس معها أحدٌ إلاّ الله تعالى، وأظن أن الأغنام كانت محيطة بها في ذلك البيت، وأظن أن ذلك كان وقت العصر، ومن شدة التعب الذي حصل لها خرج الطفل أسود، والله المستعان. ولكن أخبرني الأخ الشقيق حسين أنه كان عند الوالدة في ذلك اليوم، وكان في السابعة من عمره قال: ذهبتَ أنتَ يا أخي سعيد عند الغنم ترعاها في الجبال صباحاً، وبقيتُ أنا عند الوالدة في بيت الشعر، وفي الضحى أخرَجَتْني من البيت، فامتنعتُ، فأخذت ترميني بالحجارة حتى خرجتُ، وحينما كنتُ خارج البيت سمعتُ صوت الطفل يصرخ صُراخاً عظيماً، فجئتُ مسرعاً، وجاء الكلب من خارج البيت ينبح نُباحاً عظيماً لشدة صياح الصبي، وكاد الكلب أن يخطف الطفل من بين يدي الوالدة، فرمتْه رحمها الله بالتراب حتى خرج من البيت، ثم جئتَ أنت يا أخي سعيد بالأغنام وقت العصر. وقد أخبرتني الوالدة رحمها الله أنها عندما وضعت الأخ سعداً، وسمع الأخ حسين صياح الطفل، ونباح الكلب، ورأى الكلب يقترب وينبح، فزع الأخ حسين فزعاً شديداً، وجاء إليها وقال: يا أمي لا تعطيهِ

خامسا:

الكلب، وذكرت رحمها الله: أنها طلبت من الأخ حسين أن يعطيها السكين؛ لتقطع سرّ الطفل، ففزع وقال: يا أمي، لا تذبحيه، اتركيه معنا! فقالت له: لا، يا ولدي إنما أريد أن أقطع سرّه، فأعطاها السكين، فقطعت سرّه!. وهذا يدلّ على أن الأخ حسين كان في سنِّ التمييز، ويدلّ على شدّة الحال، وعلى صبر الوالدة رحمها الله تعالى. واستمرت الوالدة مع الوالد في رعي الأغنام، والانتقال من مكان إلى مكان. * خامساً: في عام 1384 أو 1385هـ تقريباً حصل الوالد على قطعة أرض زراعية في وادي الغرس، وهو وادٍ في أعلى وادي العرين، في شعب يقال له البقلة، فحفر هناك بئراً، وغرس نخلاً، وفي هذا الزمن حملت الوالدة بالأخ هادي أبي سعد، أمدَّ الله في عمره على طاعته، ووَضَعَتْه في عام 1386هـ تقريباً، وأذكر أن حالة الوضع كانت وهي عند والدها سعيد بن محمد بن جازعة المذكور، وعند والدتها نورة بنت حسن، وكانت جدتي نورة من النساء الصالحات، الذاكرات لله تعالى، رحم الله الجميع. وبعد إنجاب الأخ هادي استمرت الوالدة مع الوالد في حياة قرويّةٍ جديدة، في قرية البقلة بالغرس، وشاركت الوالدة الوالد علي بن وهف في بناء قصر من الطين، واستمرّت الوالدة تزرع في هذه المزرعة: البر،

سادسا:

والشعير، والذرة، والطماطم، أما أمِّي من الرضاعة زوجة أبي صالحة بنت دغش فبقيت في البادية عند أغنامها وأغنام الوالد أحياناً. * سادساً: في عام 1400هـ انتقلت الوالدة نشطا رحمها الله إلى الرياض معي أنا ولدها: سعيد، وانتقل معها الأخ هادي، وقبله الأخ سعد، وبقي الوالد في مزرعةٍ له أخرى في وادي العلوبي المذكور آنفاً يسكن فيها، ويخدم أمَّه: مهرة بنت محمد بن جازعة، حيث بلغت من الكِبَرِ عتِيّاً، فكان الوالد لا يفارقها أبداً، ولا يسافر مطلقاً، بل رابط عندها عدد سنين، وجعل نفسه لها مقام الخادمة في كل شيء، حتى اشتهر بذلك بين الناس في برِّ أمه، فلا يرون أن أحداً منهم يبلغ منزلته في خدمة أمِّه وبرِّها، وكان يسرُّه أن يخدمها سروراً كثيراً، وآثر خدمتها، ولم يرغب أن يخدمها غيره، لا خادمة ولا غيرها، حتى ماتت في الشهر السادس من عام 1406 هـ عن عمر يقارب 150 مائة وخمسين سنة كما يذكر أخوها جدي لأمي سعيد بن محمد بن جازعة الذي توفي عام 1419هـ، وهو ممن بايع الملك عبد العزيز رحمه الله بعد عام 1319هـ، فقد ذكر: أنه أصغر من أخته مهرة، وقال: عمرها 150 سنة تقريباً، وقال: ((بايعت الملك عبد العزيز رحمه الله وأنا قد تزوّجت ثم طلّقت، وقد بلغت من العمر خمسين سنة تقريباً))، وقد مات رحمه الله عن عمر يقارب مائة وعشرين سنة تقريباً. وبعد أن ماتت أمُّ الوالد علي رحمه الله، صار يتنقَّل بين الرياض وبين مزرعته المذكورة، وكان رجلاً صالحاً، من الذاكرين الله تعالى، ومن ذلك أنه كان يستيقظ آخر الليل، ويصلي، ويذكر الله إلى طلوع الفجر، وكان من ذكره قبل الفجر: أنه

كان يقول: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) مائة مرة كل يوم قبل الفجر، وقد قال له بعض أبنائه: ((ألا تجعل هذا التهليل بعد طلوع الفجر؟))، فردَّ عليه قائلاً: يا ولدي أخاف أن أنشغل عنه، وكان يقول في هذا الوقت: ((سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) مائة مرة، ويقول: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)). وقد كان رحمه الله أُمّيّاً لا يقرأ، ولا يكتب، ولكنه يحفظ من القرآن ما تصحُّ به صلاته، وبعض قصار السور، والحمد لله. ثم منَّ الله تعالى عليه بعد السبعين من عمره، فدرس في مدرسة مكافحة الأمية الليلية بالعلوبي، لمدة سنة تقريباً، وذلك عام 1405هـ تقريباً، فحفظ أكثر سوَر جزء عمّ يتساءلون تلقيناً من بعض المدرسين في هذه المدرسة، وكنت أسمعه كثيراً يكرر في قراءته عن ظهر قلب من سورة الأعلى إلى سورة الناس، وخاصّةً في خَلَواتِهِ، أو إذا كان جالساً في المسجد، وأحياناً يطلب من بعض أولاده، أو أحفاده: أن يسمِّعوا له ما يحفظ؛ ليثبِّت حفظه، رحمه الله تعالى. وكان يحفظ مختصراً للأصول الثلاثة، فإذا قلنا له: من ربك؟ قال: ربي الله الذي رباني وربَّى جميع العالمين بنعمه، وهو معبودي، ليس لي معبود سواه. وإذا قلنا: ما دينك؟ قال: ديني الإسلام: وهو الاستسلام لله

بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. وإذا قلنا له: من نبيك؟ قال: نبيي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة، وأتمُّ التسليم، نُبّئ بـ (اقرأ)، وأُرسل بـ (المدثر)، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة، وبها توفي، لا خير إلا دلّ أمّته عليه، ولا شرَّ إلا حذّرها منه، من أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار. وكان بعد أن توفيت والدته يعتمر كل سنة في رمضان، إلا سنة واحدة - على ما أظن -، وآخر حجّة حجّها عام 1416هـ، ثم رجع إلى مزرعته، وتوفي رحمه الله بسبب حادث مروري وهو يقود سيارته في سوق المضه على طريق الرياض، في يوم السبت 27/ 3/ 1417هـ عن ثلاث وثمانين سنة تقريباً؛ لأنه أخبرني رحمه الله أن والده وهف رحمه الله حضر فتح أبها حينما فتحها الملك عبد العزيز رحمه الله بقيادة ابنه الملك فيصل، وكان ذلك عام 1342هـ تقريباً، وكانوا يقولون: ضربة أبها، أي: فتح أبها، ويذكرون أن الجيش اجتمع في حِجلى بين مدينة أبها وخميس مشيط. قال الوالد رحمه الله: ((رجع إلينا والدي وهف رحمه الله من ضربة أبها فأصابه مرض الجدري، وأصابني، فمات، وشفاني الله، وعمري ثمان سنوات تقريباً)). فعلى هذا يكون ميلاد الوالد علي بن وهف رحمه الله عام

سابعا:

1334هـ تقريباً. وكانت نعمةً من الله تعالى عليَّ حينما انتقلتِ الوالدةُ معي في مدينة الرياض؛ لِما رأيتُ من دينها، وخلقها الكريم، ومساعدتها لي، بالقول، والفعل، والرأي. وبَقيتْ تصنع لي الطعام من وقت انتقالها إليَّ لمدة ثلاث سنوات، فقد عشت أعزباً إلى شهر شوال عام 1402هـ، حيث تزوجت بعد ذلك بأم عبد الرحمن في ذلك الشهر. * سابعاً: كانت الوالدة تشتاق إلى تعلُّم القرآن الكريم بعد انتقالها إلى الرياض، ولكنها أميّة لا تقرأ، ولا تكتب، وكانت تحفظ ما تصحُّ به صلاتها، ولله الحمد: الفاتحة، وتحفظ من قصار السور ما تيسّر، وتعرضها عليَّ، وهي معذورة في تأخّرها في تعلّم القرآن إلى هذه السن المتأخرة رحمها الله؛ لأنها كانت في مجتمعٍ أمّيٍّ في البادية، لا يعرفون القراءة، ولا الكتابة. وفي عام 1403هـ طلبت منّي أن أعلمها القراءة؛ لكي تقرأ القرآن، فبدأتْ تتعلّمُ في ذلك الوقت الأحرفَ الهجائية، وكانت تتعلّم معها زوجتي أمُّ عبد الرحمن، وكانت في الرابعة عشرة من عمرها، فكانت الوالدة رحمها الله تداعبني وتقول: ((أنت تهتم بالطالبة الصغيرة أكثر من اهتمامك بالطالبة الكبيرة))، وقد استفادت هذه المداعبة من ابنها الثالث الأخ سعد، حيث كان يداعبها عن طريق الهاتف من ألمانيا، أو من بريطانيا؛ لأنه تنقّل بين هاتين الدولتين، حيث كان في دورة هناك، فكان

ثامنا:

يقول لها: هل الأخ سعيد يهتمّ بالطالبة الصغيرة أكثر من الطالبة الكبيرة؟ فأعجبها ذلك، وصارت تداعبني بذلك رحمها الله. * ثامناً: بعد أن تعلّمتِ الوالدة الأحرف الهجائية قراءةً وكتابةً، بدأت تَتَهَجَّى القرآن الكريم، وتطلب من يتابع لها القراءة في المصحف. ثم يسّر الله تعالى مدرسةً لتحفيظ القرآن في إسكان أفراد القوات المسلحة، حيث كنت إماماً وخطيباً لجامع هذا الإسكان، فسجّلت الوالدة في هذه المدرسة النسائية، وبدأت تحفظ القرآن الكريم بعد الستين من عمرها. وفي عام 1412هـ حصلت على شهادة لحفظ جزأين من القرآن الكريم. وفي 25/ 10/1413هـ حصلت على شهادة تفوّق في حفظ ثلاثة أجزاء بتقدير ممتاز، وذلك في تمام السابعة والستين من عمرها رحمها الله. وفي 29/ 7/1417هـ حصلت على شهادة تفوّق في حفظ أربعة أجزاء بتقدير ممتاز. وفي عام 1418هـ حفظت خمسة أجزاء، وحصلت على شهادة بتقدير ممتاز. وفي عام 1423هـ تقريباً كمَّلت حفظ ثمانية أجزاء من سورة (يس) إلى سورة (الناس)،وذلك في تمام الثامنة والسبعين من عمرها، وكانت تراجع ما حفظت كثيراً خشية النسيان؛ لكبر سنها رحمها الله تعالى. وقد وجدنا عندها بعد موتها رحمها الله ثلاث عشرة شهادة في

تاسعا: صلاتها:

القرآن، ما بين شهادة تفوّق، ودورة، ومسابقة، وكلها في الأجزاء الثمانية المذكورة، وكلها ما بين عام 1412هـ إلى قبيل عام 1423هـ، وهذا يدلّ على حرصها رحمها الله تعالى، وغفر لها. * تاسعاً: صلاتها: كانت تحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها في أول الوقت ولله الحمد، وتَنْهَى عن تأخيرها عن وقتها. * عاشراً: نوافل الصلاة: كانت رحمها الله تحافظ على كثير من النوافل، ومنها: صلاة الليل في السحر، فكانت تستيقظ قبل صلاة الفجر بساعة كاملة، ثم تتوضأ وتصلّي، وتدعو، وتذكر الله حتى يؤذّن مؤذّن الفجر، فإذا أذّن الفجر صلت سُنّة الفجر، ثم بعد ذلك تصلّي الفريضة إذا تأكدت من طلوع الفجر، ثم تبدأ بأذكار أدبار الصلاة، وأذكار الصباح، ثم تقرأ ما تيسّر مراجعته مما تحفظ من القرآن. كانت تحافظ على سنة الوضوء، فإذا توضأت في أي وقت من ليلٍ أو نهارٍ صلّت ركعتين. كانت تحافظ على ركعتي الضحى إذا اشتدّ النهار ضحىً. * الحادي عشر: صيامها: كانت رحمها الله تصوم رمضان، وتُتبعه ستاً من شوال كل سنة، وكانت تصوم ما تيسّر لها من صيام التطوع: كيوم عرفة، فلا تترك صيامه أبداً إن لم تكن في الحج، وصيام يوم عاشوراء مع يومٍ قبله أو يومٍ بعده، وكانت تصوم ما تيسّر لها من عشر ذي الحجة، وما

الثاني عشر: ذكرها لله تعالى:

تيسّر من أيام الشهور الأخرى، رحمها الله. * الثاني عشر: ذكرها لله تعالى: كانت رحمها الله تذكر الله كثيراً: وتدعو دعاء الصباح والمساء، وخاصة سيّد الاستغفار، وقد كانت تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة، في اليوم، وغير ذلك من الأذكار والدعوات التي تذكر الله بها رحمها الله. وكانت تكثر من قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكانت إذا صلت الفجر، وأدّت أذكار أدبار الصلاة، وأذكار الصباح، قرأت من القرآن مما تحفظ، مراجِعةً ما تيسّر لها. وكانت تستمع إلى إذاعة القرآن الكريم كثيراً، وتحبّ الاستماع لبرنامج ((نور على الدرب))، وقد استفادت من هذه الإذاعة، ومن هذا البرنامج كثيراً ولله الحمد، وكانت تنقل بعض ما تسمع من الفوائد لغيرها من النساء والمحارم، وتفيدهم بذلك، جزاها الله خيراً، وغفر لها. * الثالث عشر: حجّها: حجّت حجّة الإسلام عام 1398هـ بمرافقة الوالد علي بن وهف رحمهما الله، والأخ حسين، وبعض أولادها. وحجّت عام 1403 بمرافقة الأخ هادي، وأم عبد الرحمن، وبعض محارمها. ثم حجّت عام 1408هـ، بمرافقة بعض أولادها، والابن عبد

الرابع عشر: عمرها:

الرحمن، والابن عبد العزيز، وهم صغار، ومعهم الأسرة، وأم عبد الرحمن، وأم عبد العزيز، وبعض محارمها. ثم حجّت عام 1416هـ بمرافقة الوالد علي بن وهف رحمهما الله، وأم عبد الكريم، وبعض محارمها. ولا أذكر، فربما حجّت ما بين 1398 هـ إلى عام 1416هـ حجّة، لكني أُنسيت فلا أدري؟ وحصل موقف عظيم في حجّها عام 1416هـ، فقد أُصيبت قبل الحج بمرض في الرُّكَبِ، واحتكاكٍ في عظام الرُّكب، وكانت تتلقّى العلاج الطبيعي في المستشفى العسكري، واستمرّ معها الاحتكاك حتى نهاية الحج، وفي أيام التشريق كانت تنزل مع درج جمرة العقبة ترمي الجمار، ثم تُجهد نفسها مع الوالد علي بن وهف رحمهما الله في صعود هذا الدرج العالي، ولم تنتهِ أيام التشريق إلا وقد شُفيت تماماً من هذا الاحتكاك في الرُّكب إلى أن تُوفيّت رحمها الله تعالى، فقد أعطاها الله العافية في رُكَبها مدّةَ اثنتي عشرة سنة حتى تُوفيّت، وهذا ببركة الطاعة لله تعالى، وقبل ذلك بفضل الله - عز وجل -. حيث كان هذا الصعود لهذا الدرج العالي من أسباب شفائها العاجل الدائم. * الرابع عشر: عُمَرُها: اعتمرت كثيراً رحمها الله تعالى، ومن هذه العمر أربع عُمَرٍ مع حجاتها الأربع، وكانت تعتمر كثيراً، ولكن الذي أذكر من عمرها أنها كانت تعتمر كلَّ رمضان لمدة سِتٍّ وعشرين سنة مع

الخامس عشر: صدقاتها وكرمها:

محارمها، من عام 1400هـ إلى رمضان عام 1426هـ. ثم بدأ معها المرض في بداية عام 1427هـ، فلم تعتمر بعد ذلك. وكانت تعتمر في الإجازات: إجازات الربيع والصيف، لكني لا أدري كم عددها، تقبَّل الله منها، ولا تسافر رحمها الله إلا مع محرم للحج والعمرة أو غيرها، وكانت تنهى النساء عن السفر بدون محرم رحمها الله تعالى. * الخامس عشر: صدقاتها، وكرمها: كانت رحمها الله كريمةً كرماً ظاهراً، لا تكنز ككنز العجائز، فقد تصدّقت بكلّ ما تملك في حال صحتها ولله الحمد، وأرجو الله أن تدخل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سُئل: أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: ((أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تُمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، وقد كان لفلان)) متفق على صحته، ومن ذلك ما يأتي: 1 - قد يسّر الله تعالى لذرّية الوالد علي بن وهف رحمه الله أن يتنازلوا عن إرثهم منه، ويتصدّقوا به في بناء مسجدٍ على نيةِ والدهم رحمه الله تعالى في المنطقة الجنوبية في مركز طريب - مخطط الدخل المحدود- بجوار المحكمة العامة هناك، جزاهم الله خيراً، وأصلحهم، وعندما علِمَت الوالدة بذلك كانت تشارك في هذا المسجد، فمرةً تعطي ألفي ريال، وتقول للمشرف على البناء من محارمها: خذ هذا مكان مصلٍّ،

ومرة تقول: خذ هذا مكان مصلٍ أو مُصَلِّيين صدقة عن أمّي، ومرةً صدقة عن أبي، ومرةً صدقة عن نفسها، حتى كان جميع ما شاركت به في هذا المسجد أربعين ألف ريال، من آخرها جميع المكيّفات للتبريد من صدقاتها إلا قليلاً، وكانت تأمر من يأخذ المشاركة منها بعدم الإخبار، ولم يخبر المشرف على بناء هذا المسجد بما فعلت إلا بعد موتها رحمها الله، وتقَبَّل منها، وعفا عن المشرف بإخباره عن هذا السرِّ بعد موتها. 2 - قبل موتها رحمها الله تعالى بسنة تقريباً جمعت ما عندها من ذهب ونقود، وكان ذلك بعد رمضان عام 1427هـ، وسلَّمت هذا المبلغ لبعض أولادها، فكان جميع ثمن الذهب وما معه: ستة عشر ألفاً وخمسمائة ريال 16500، وقالت: تصدّق به حيث شئتَ؛ لأنها تعلم رحمها الله أن أولادها كلهم أغنياء، وليسوا بحاجة إلى شيء من المال، فجعل ولدها بأمرها هذا المال مشاركةً في مسجد عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - في المنطقة الجنوبية في مخطط الدخل المحدود في طريب على بُعد خمسمائة متر شمالاً من مسجد علي بن وهف رحمه الله المذكور آنفاً، واستلمه المقاول في يوم 25/ 10/1427هـ، وكانت تقول لمن تعطيه الصَّدَقَةَ من أولادها: لا تخبر أحداً بهذا، ولكنه جزاه الله خيراً حفظ سرّها حتى ماتت، وأُمنت فتنة الرياء في حقها رحمها الله تعالى، وعفا عن ولدها، فقد أخبر بسرّها بعد موتها رجاء نشر محاسنها؛ للدعاء لها؛ وللاقتداء بها في النفقة، والكرم، والرغبة فيما عند الله تعالى والدار الآخرة.

وكانت لا دخلَ لها، ولا مرتَّب، إلا ما يُهدَى لها من أولادها، فقد كانوا بارِّين بها جزاهم الله خيراً، وكانت تتصدَّق بكل ما يأتيها رغبةً فيما عند الله تعالى، حتى الشؤون الاجتماعية وافقت بعض أولادها على إيقافه؛ لأنه كان من الزكاة، كما أخبر بذلك وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية، فقال: ((ما يُصرف من الشؤون الاجتماعية للمحتاجين سنوياً هو من الزكاة))، فعند ذلك أوقفت هذا الدخل، وأغناها الله عنه، والحمد لله. 3 - لم تترك شيئاً من مالها بعد موتها، وإنما تصدّقتْ به كله، ولم نجد ريالاً واحداً، ولا قرشاً بعدها، وهذا خلاف ما عليه العجائز الكبيرات في الغالب، وحُبّهن للكنز، حتى أن بعض العجائز توجد المبالغ الكبيرة تحت مخداتِهِنَّ عند موتهن، ولم يكن شيء من ذلك للوالدة رحمها الله تعالى. 4 - ومن كرمها وجودها رحمها الله: أنها كانت تُعِينُ أولادها على الزواج بما تملك، فأعانت أولادها الأربعة، وكل واحد تعطيه وقت زواجه ما تملك من مال، وكانت تعدل بينهم رحمها الله تعالى. 5 - في سنةٍ من السنين احتاج بعض الناس العاملين في المملكة من خارجها، لمبلغٍ من المال، ولم يجد من يُقرضه، وكان بحاجة شديدة جداً، فبلغها ذلك، فأرسلت أحد أولادها بمبلغ خمسمائة (500) ريال، وقالت: أعطه هذا المبلغ صدقةً، ولا تخبر أحداً.

السادس عشر: أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر

6 - أخبرني ابن أخيها: محمد بن علي بن سعيد بن جازعة: أنها سافرت معه من الرياض إلى المنطقة الجنوبية، فكانت تُلْزِمه في الطريق بأن تدفع هي ثمن البنزين عند المحطات، فتعطيه ابن أخيها المذكور ليدفعه عنها لصاحب المحطة، وكذلك كانت تقوم بإعطاء ثمن بعض ما يحتاجونه في الطريق، من باب المشاركة في نفقة السفر، رحمها الله تعالى. 7 - كانت تكرم نساء أولادها عندما تضع الواحدة مِنْهُنَّ، فتقدِّم لها خدمةً خاصةً من صنع الأطعمة المناسبة لهُنَّ، وتُقدِّم لهُنَّ الهدايا الخاصة، ولأولادهِنَّ الصغار، وأذكر أنها هي القابلة للابن عبد الرحمن بن سعيد: ابن ابنها عند وِلاَدته في البيت رحمه الله في 27/ 11/ 1403هـ، فقامت بما تحتاجه المرأة عند وِلاَدَتِها، فقطعت سرّه، وربطته، وعملت الإسعافات الأوَّلية التي تحتاجها المرأة، والطفل المولود الجديد. ثم تكرَّرَ هذا لها مع الابن عبد الرحيم بن سعيد رحمه الله عام 1410هـ، وفعلت معه ومع أُمِّه ما فعلته عند وِلادة شقيقه عبد الرحمن، رحم الله الجميع. * السادس عشر: أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر: كانت الوالدة رحمها الله تعالى تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولا تسكت عن منكر محرم إلا نهت عنه، وكانت تستخدم حكمة القوة بالقول مع غير أولادها، أما مع أولادها فبالقول والفعل، وأذكر من ذلك ما يأتي:

1 - كانت تقول لأولادها في الصغر: اتقوا الله، الذي لا يصلي ويموت على ذلك يُدخله الله النار، أو كما قالت رحمها الله. 2 - وكان معها عصا صغيرة حينما كان أولادها صغاراً، وفي رأس هذه العصا سيرٌ ملفوف مربوط برأس العصا، يسمونها ((العَرَقَة))، تضرب بها أولادها عندما يحتاجون إلى تأديب. 3 - وأذكر أنها كانت توقظ أولادها الصغار لصلاة الفجر قبل بلوغهم، وبعده كذلك، وإذا تأخروا عن الاستيقاظ تأتي إليهم المرة الثانية بماءٍ باردٍ في إناء، ثم تدفق هذا الماء البارد على وجوههم بقوة، فما يكون من أحدهم إلا أن يقوم فوراً فزعاً خائفاً مما حصل له، ثم يتوضأ ويذهب إلى المسجد بعد هذا الأدب القوي الحكيم، وكانت قوية في شخصيتها، فلا يستطيع أحد من أولادها أن يراجعها، أو يتردَّدَ في امتثال أمرها؛ لقوتها في الحق، وشجاعتها رحمها الله. 4 - كانت تأمر بعض محارمها بإعفاء اللحية، وتقبِّح وتنفِّر من حلقها، ومن إسبال الثياب، وتقول: ((لا تتشبهوا بالنساء، اتقوا الله، هذا حرام لا يجوز)). وأذكر أنها هجرت بعض محارمها مرّات حينما لم يمتثل لذلك، ولكن قد رأت رحمها الله أن تتراجع عن هجرها حينما رأت أن الأصلح عدم الهجر إلا عند المصلحة الراجحة. 5 - كانت في أول الأمر لا تدخل بيت بعض محارمها إذا أدخل

التلفاز في بيته؛ لأنها شاهدت بعض البرامج التي لا تليق، وأقسمت بالله أن لا تدخل البيت الذي فيه تلفاز [أي من بيوت بعض محارمها المقرَّبين]،ولكن عندما اختلط الأمر، وعمَّ كل بيت إلا القليل، كفَّرتْ عن يمينها، ولازمت النصح مع كراهتها لذلك، رحمها الله تعالى. 6 - أخبرني الأخ الشقيق الدكتور أبو عبد العزيز سعد أنها اتصلت به وهو مبتعث إلى أمريكا، والوالدة في المملكة العربية السعودية، وقال: ونصحتنا، وحذَّرتنا من الاختلاط بالنساء، وقد كان أولادي معي وزوجتي، والحمد لله، وكان معنا الدكتور سعد بن هادي بن مرعي آل حشاش، آل سلطان، آل سليمان؛ ولكن لحرص الوالدة على نصيحتنا وتحذيرنا، غفر الله لها. 7 - كانت مرة في المستشفى قبل موتها بشهر أو شهرين، جاء إليها أحد أقاربها المحارم، وكان ابن أختها، وكان له لحية جميلة قد أعفاها، وكان بعض محارمها جالساً، ومنهم من قد قصَّر من لحيته، فتناولت لحية ابن أختها بيدها، وقبَضَتْها، وقبَّلتها من باب الدعوة للحاضرين، وأشارت إليه بيدها، وكأنها تقول: اقتدوا به. وفعلتها مرة أخرى وهي على السرير أيضاً في المستشفى مع ابنها حسين، وكان ذا لحية طويلة جميلة، فقبّلتها، وكأني فهمت منها أنها تدعو الحاضرين من محارمها للاقتداء به، رحمها الله تعالى. 8 - أذكر في الصغر أن بعض محارمها تخاصموا على قطعة أرض،

وعلى حدود زراعية بينهم، فنصحتهم وقالت: تموتون ويبقى التراب، لا تختصموا وأنتم تموتون وتتركون التراب، وفعلاً ماتوا كلهم قبلها، وبقي التراب مهجوراً، رحم الله الجميع. 9 - بعد أن كبر أولادها، وتزوَّجوا كانت تتصل ببعضهم إذا أذن المؤذن لصلاة الفجر، وتقول: ((صلّوا))، وإذا لم يردُّوا عليها أبلغت أهاليهم، وقالت: أيقظوا فلاناً لصلاة الصبح لا تفوته الصلاة، وهذا من حرصها على أولادها حتى وهم كبار، رحمة الله عليها. وقد أخبرني ابن أخيها: حسين بن علي بن سعيد بن جازعة، فقال: تزوج فلان من أولاد عمتي نشطا، وسافر بزوجته إلى مدينة الرياض، وبقيت عمتي عند أهلها في المنطقة الجنوبية، فكانت تتصل بابنها المتزوج وقت صلاة الفجر من بلادها في العرين في المنطقة الجنوبية، وتقول: صلُّوا، لا تفوتكم الصلاة مع الجماعة، وهذا من حرصها على أولادها حتى ولو كانوا في بلاد غير بلادها، رحمها الله تعالى. 10 - شاركت في دورة لتغسيل الأموات مرَّاتٍ عديدةً في مغسلة الأموات بجامع الراجحي بالربوة بمدينة الرياض، وآخر دورة شاركت فيها عام 1425هـ، أو عام 1426هـ بعد أن تجاوز عمرها ثمانين سنة. ومن المناسبات العجيبة أن بعض النساء اللواتي اشتركن معها في الدورة، وبعض من كان يغسّل معها من المدرّبات غسّلنها بعد موتها في مغسلة الراجحي نفسها، وترحَّمنَ عليها ودعونَ لها.

السابع عشر: برها بأمها وأبيها رحمهم الله تعالى

11 - كانت حريصة على أهل بيت أولادها، وخاصة في غيابهم، فكانت تراقب سير الأولاد، وتأمرهم بالصلاة، وبعد صلاة العشاء تتفقّد الأبواب، فتغلق المفتوح منها، وبعد نوم أهل البيت كذلك تنظر في صنابير المياه، وتُغلق ما لم يُغلق منها، وتنظر للأنوار الكهربائية فتطفئ ما لا حاجة له، وتحذِّر من التبذير والإسراف، رحمها الله تعالى. * السابع عشر: برُّها بأمها وأبيها رحمهم الله تعالى: كانت بارةً بأمها، وأبيها، وقد أُصيبت أمُّها بمرضٍ أقعدها في حدود عام 1412هـ، فذهبت إلى أمها ولازمتها، وكانت هي الخادمة لأمها في جميع ما تحتاجه، وكان والدها بجوارها في المنزل، فكانت تخدم الجميع: أمها، وأباها، وبقيت على هذه الحال حتى سقطت من مكانٍ عالٍ عام 1414هـ، فانكسرت فخذها، وبعد أن تعالجت وجبرت رجعت إلى خدمة أمها حتى ماتت أمها، رحمة الله على الجميع. وكان برُّها موصولاً لأقاربها، فقد مرضت أختها أم مهدي بن عبد الله بن حضرم، وأم سعيد بن عبد الله بن حضرم، وأُقعدت، فلازمتها الوالدة حتى ماتت أم مهدي، رحمهما الله جميعاً. * الثامن عشر: ذريتها: لها من الأولاد الذكور أربعة، هم: سعيد أبو عبد الرحمن؛ كاتب هذه الأسطر، وحسين أبو علي، وسعد أبو عبد العزيز، وهادي أبو سعد، وليس لها بنات، وقد كانت ترغب في أن يكون لها بنات، وتتمنَّى ذلك، ولكن قدر الله، وما شاء فعل.

التاسع عشر: مرضها العظيم:

وعدد أحفادها الموجودين الآن إلى 4/ 9/ 1428هـ (57) سبعة وخمسون، فأصبح مجموع ذريتها قبل موتها (61) واحداً وستين، أصلحهم الله تعالى، وغفر للميت منهم (¬1). * التاسع عشر: مرضها العظيم: قد عافى الله تعالى الوالدة من الأمراض الخطيرة مدة إحدى وثمانين سنة، ولله الحمد، وفي أواخر شهر ذي الحجة عام 1426هـ أصابها مرض عظيم قوي خطير في ظهرها، ثم انتقل المرض بإذن الله تعالى إلى كبدها وباطنيّتها، وكان المرض قوياً شديداً خطيراً، فاحتسبت وصبرت كثيراً. وانتقلت مرة إلى ابنها حسين بالمنطقة الجنوبية، فاشتدَّ مرضُها، وطلبنا منها الموافقة على نقلها إلى الرياض، فأبدت رغبتها في البقاء هناك، إلا أنها قالت: عندكم في الرياض مسجد الراجحي؟ فوافقت على نقلها إلى الرياض من أجل إذا ماتت أن يُصلّى عليها في مسجد الراجحي؛ لأنها تعلم رحمها الله تعالى كثرة المصلين في هذا الجامع على الجنائز، فأُدخلت مدينة الملك فهد الطبية بالرياض في بداية شعبان عام 1427هـ، وكانت تقول في مرضها: ((الله يحسن الخاتمة))، وتكرَّر ذلك كثيراً، وأحياناً تقول: ((يا الله بالذي فيه الخير))! وكأنها تريد بقولها هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي)) (¬2). ¬

(¬1) ووُلِد بعد ذلك ثمانية من أحفادها، فأصبح عدد ذريتها 69 نسمة إلى تاريخ 22/ 12/1430هـ. (¬2) متفق عليه: صحيح البخاري، برقم 5671، وصحيح مسلم، برقم 2680.

وكانت إذا اشتدَّ عليها المرض فبلغ منتهاه في الألَمِ تقول: ((الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله ... )) ولا نُحصِي تكرار حمدها لله، فذكَّرتْني بحمدها المتكرِّر لله بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( ... إِنَّ الْمُؤْمِنَ بِكُلِّ خَيْرٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِنَّ نَفْسَهُ تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ وَهُوَ يَحْمَدُ الله - عز وجل -)) (¬1). وذكَّرتني أيضاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - سبحانه وتعالى - قال: ((قَالَ الله - عز وجل -: إِنَّ الْمُؤْمِنَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ كُلِّ خَيْرٍ يَحْمَدُنِي وَأَنَا أَنْزِعُ نَفْسَهُ مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ)) (¬2). ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بمنزلة كل خير)): أي: في منزلةٍ يستحقُّ فيها كلَّ خير. وكُنَّا إذا سألناها عن حالها وهي على سريرها في المستشفى في أشدِّ المرض، فقلنا: كيف حالك يا أمي؟ فتقول: ((الحمد لله)). والله أسأل أن يجعل لها أوفر الحظِّ والنّصيب من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة: في نفسه، وماله، وولده حتى يلقَى الله وما عليه خطيئة)) (¬3). وخرجت أياماً من المستشفى في عام 1427هـ بعد رمضان، وفي 1/ 1/1428هـ كلَّفت على نفسها، فصامت سبعة وعشرين يوماً قضاءً ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد، برقم 2475، الشمائل المحمدية، برقم 316،وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 173. (¬2) رواه الإمام أحمد في المسند، برقم 8492، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم 4175، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم 1910. (¬3) رواه الترمذي، برقم 2399، والحاكم في المستدرك، 4/ 314، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، 5/ 349.

العشرون:

لرمضان عام 1427هـ، وكنا نقول لها: الصيام يشقُّ عليك وأنتِ معذورة لا حرج عليك، فتقول: لا، الصيام سهل عليَّ، ولا تحرموني من قضاء الدين: تعني رحمها الله قضاء دين رمضان. ويُرجى لها الخير، فقد كان آخر عمرها معموراً بالعبادات، ومن أعظمها توفيق الله لها بدراسة القرآن، وحفظ ثمانية أجزاء، وأعمالها الصالحة، في آخر حياتها، غفر الله لها ورحمها. وأسأل الله العظيم أن يجعل لها أوفر الحظِّ والنّصيب من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله))، فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: ((يوفِّقَه لِعَمَلٍ صالحٍ قبل الموت)) (¬1). * العشرون: اشتدّ مرضُها، وأُدخلت المستشفى في الشهر الرابع: ربيع الثاني من عام 1428هـ تقريباً، وبقيت فيه، وكان بعض أولادها يلقّنها: لا إله إلا الله، فكانت تقولها ولله الحمد، وآخر ما فُهِم من كلامها قبل موتها: ((لا إله إلا الله))، ثم أُغمي عليها بعد ذلك لمدة ثلاثة أيام تقريباً، وفي يوم الجمعة بعد صلاة العصر في الساعة الخامسة وأربعين دقيقة (5.40)، وقبل صلاة المغرب بخمسين دقيقة الموافق 27/ 7/1428هـ خرجت روحها عن ثلاث وثمانين سنة تقريباً، رحمها الله تعالى وغفر لها، وأسكنها فسيح الجنّات في الفردوس الأعلى؛ إنه تعالى ¬

(¬1) رواه الترمذي، برقم 3142، وصححه، والحاكم، 1/ 341، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم 5288.

على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. واللهَ أسأل أن يحقق لها ما جاء في الحديث: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة، أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)) (¬1). وقد ماتت رحمها الله بالمرض القوي العظيم الشديد، الخطير، الذي بدأ بظهرها، وانتقل إلى كبدها وباطنيَّتها، والله أسأل أن يجعلها شهيدة، وأن يجعلَ لها أوفر الحظِّ والنّصيب من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والمبطون شهيد)) (¬2). والمبطون: هو الذي يموت من علّة البطن ... وقيل: هو الذي يموت بداء بطنه مطلقاً. وغُسِّلت في مغسلة جامع الراجحي، ثم صُلِّيَ عليها في جامع الراجحي بالربوة الذي كانت تتمناه في يوم السبت الموافق 28/ 7/1428هـ بعد صلاة الظهر، ثم دفنت بمقبرة النسيم بجوار حفيديها: عبد الرحمن، وعبد الرحيم، رحمة الله على الجميع. وقد تُوفيّت رحمها الله تعالى في مدينة الرياض، وكان مولدها في ضواحي العرين، وبين مكان مولدها ومكان موتها ما يقارب ألف كيلو. فأسأل الله تعالى أن يحقِّق لها ما ثبت من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ¬

(¬1) رواه أحمد، برقم 6582، والترمذي، برقم 1074، وقال الألباني في أحكام الجنائز، ص 35: ((فالحديث بمجموع طرقه حسن أو صحيح)). (¬2) [رواه مالك في الموطأ، برقم 554، واللفظ له، وأبو داود، برقم 3113، والنسائي، برقم 1648، وصححه النووي، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 1397.

الحادي والعشرون:

عَبْدِالله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ مِمَّنْ وُلِدَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَال: «يَا لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ». قَالُوا وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ في الْجَنَّةِ» (¬1). ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ)): أيْ إِلَى مَوْضِع قَطْع أَجَله، فَالْمُرَاد بِالْأَثَرِ الْأَجَل؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْعُمُرَ. [والمعنى: أنه يُقاس له في الجنة، فيعطى منها بمقدار المسافة ما بين مكان مولده، ومكان موته، والله تعالى أعلم]. * الحادي والعشرون: بعد موتها أثنى عليها كثير ممن يعرفها: ذكوراً وإناثاً. والله أسأل أن يجعل لها أوفر الحظَّ والنّصيب من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أيّما مسلم شَهِدَ له أربعةٌ بخيرٍ أدخله الله الجنة))، قال الصحابة - رضي الله عنهم -: قلنا: وثلاثة؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((وثلاثة))، قلنا: واثنان؟ قال: ((واثنان))، ثم لم نسأله عن الواحد (¬2). كما أسأله تعالى أن يجعل لها أوفر الحظَّ والنّصيب من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيراً عَسَلَه)) قالوا: وكيف يعسله؟ قال: ((يفتح الله - عز وجل - ¬

(¬1) رواه النسائي في سننه، برقم 1832، وهذا لفظه، وابن ماجه، برقم 1614، من حديث ابن مسعود، وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي، برقم 1614. (¬2) صحيح البخاري، برقم 1368.

له عملاً صالحاً بين يدي موته حتى يرضى عنه جيرانه أو من حوله)) (¬1). والله أسأل أن يعيذها من النار، وأن يغفر لها، وأن يرفع منزلتها، وأن يجعلها شهيدة، وأن يسكنها الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يجزيها عنَّا خير ما جزى والدة عن أولادها، وأن يجمعنا بها في أعلى جنات النعيم في أعلى الفردوس الأعلى، وأن يصلح ذرّيتها، وأن يجعلهم هداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضلين، وأن يمنَّ عليهم ببرِّها، والإحسان إليها، والاستغفار لها، والصدقة عنها، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بها؛ إنه تعالى جواد كريم، وهو خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد في المسند، برقم 21949، والطحاوي في شرح مشكل الآثار، برقم 2641، والحاكم، برقم 1258، وصححه، ووافقه الذهبي، وغيرهم، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 107.

§1/1