مجموع رسائل الحافظ العلائي

صلاح الدين العلائي

فهرسة أثناء النشر إعداد الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية إدارة الشئون الفنية العلائي، خليل بن كيكلدى بن عبد الله، 1294 - 1359 مجموع رسائل الحافظ العلائي صلاح الدين خليل بن كيكلدى بن عبد الله أبي بن عيد العلائي؛ تحقيق وائل محمد بكر زهران 0 - ط 01 - القاهرة: الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، 2007 مج 1؛ 17 سم تدمك 4 - 084 - 370 - 977 1 - الفقه الإسلامي ... 250 أ - زهران، وائل محمد بكر (محقق) ب - العنوان جميع حقوق الطبع محفوظة للناشر لا يجوز نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه أو تصويره أو تخزينه أو تسجيله بأي وسيلة علمية مستحدثة أو نشره عبر الإنترنت سواء أكان ذلك لأغراض تجارية أو غير ذلك بدون موافقه خطية من الناشر الطبعة الأولى 1429 هـ - 2008 م رقم الإيداع 27244/ 2007 الترقيم الدولى 4 - 084 - 370 - 977 الفاروق الحديثة للطباعة والنشر 3 درب شريف - خلف رقم 60 ش راتب باشا - حدائق شبرا - القاهرة هاتف: 24307526 (00202) فاكس: 22055688 (00202)

مجموعُ رَسَائِل الْحَافِظِ الْعَلائِيِّ

إهداء

إهداء إلى والدي رحمه اللَّه أسأل اللَّه أن يتقبل مني هذا الكتاب وأن يجعله في ميزان حسناته وأن يدخله الفردوس الأعلى كما رباني صغيرًا آمين

مقدمة التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. أَمَّا بَعْدُ: فإن من أعظم حقوق علمائنا السابقين علينا أن ننشر كتبهم بعد ضبطها ضبطًا صحيحًا، فإنهم ورثة الأنبياء، وكتبهم هي ميراثهم الذي ورثوه، ولنجتهد في ضبطها حسب الجهد والطاقة، فإن لم نستطع السداد فلنقارب؛ فإنهم قد بذلوا الغالي والنفيس في سبيل نشر هذا العلم الشريف، جزاهم اللَّه خير الجزاء، ونفع اللَّه بكتبهم، وأعاننا على أداء حقوقهم علينا. وبعد: فإن الإمام الحافظ الفقيه الأصولي صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي -رحمه اللَّه- يُعَدُّ من المكثرين في التأليف؛ فقد ألَفَ عشرات الكتب في علومٍ عديدةٍ؛ من تفسير وفقه وحديث وأصول وغيرها. ولما كانت مؤلفات الحافظ العلائي -مع عظم نفعها- مبددة لا تكاد تجتمع في

مكان واحد، ولا يزال كثير منها مخطوطًا لم يطبع بعد، فقد استعنت باللَّه على جمع رسائله الصغيرة خاصة، ونظمها معًا؛ لتكون كاللؤلؤ المنضود. والذي حفزني لذلك العمل المبارك -وهو مجموع رسائل الحافظ العلائي- أنه قد سبق لأخي الفاضل أبي مصعب طلعت فؤاد أن قام بتحقيق مجموع رسائل الحافظ ابن رجب، وكذلك قام شيخنا أبو عبد اللَّه حسين عكاشة بتحقيق رسائل ابن عبد الهادي، وقد لاقى العمل القبول من طلبة العلم، والحمد للَّه على ذلك، ولكثرة رسائل الحافظ العلائي وتفرق مخطوطاتها في بلدان العالم، رأيت أن أخرجها على أجزاء حسب ما اتفق لي منها؛ لذا فقد أخرجت هذا المجلد الأول من مجموع رسائل الحافظ العلائي، ويحوي الرسائل التالية: 1 - جزء في ذكر كليم اللَّه موسى. 2 - رسالة في {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}. 3 - رسالة في تفسير {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}. 4 - رسالة في تفسير {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}. 5 - العدة عند الكرب والشدة. 6 - تحرير المقال في تحريم الحلال. 7 - مسألة في مضاعفة الثواب في المساجد الثلاثة التي يشد الرحال إليها. وكلها تُطبع لأول مرة -حسب علمي- بالإضافة إلى رسالتين طبعتا قبل ذلك، وهما: 1 - تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة. 2 - رفع الإشكال عن حديث صيام الست من شوال. وقد اكتفيت بترجمة يسيرة للحافظ العلائي -رحمه اللَّه- على أن أكتب له ترجمة موسعة

في آخر أجزاء هذا المجموع المبارك -إن شاء اللَّه تعالى. وكذلك اكتفيت بفهرس الموضوعات، على أن تكون الفهارس العلمية المفصلة في نهاية هذا المجموع المبارك -إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه أسأل أن ينفع بهذه الرسائل مؤلفها ومحققها وقارئها وكل من أعان على إتمامها ونشرها وسائر المسلمين، آمين. والحمد للَّه رب العالمين. وأتقدم بالشكر إلى أخي وصديقي أبي إسراء أحمد نسيرة الباحث بالمكنز الاسلامي على إخراجه للكتاب في هذه الصورة الطيبة. كما أشكر الأستاذ الفاضل أحمد حسني؛ فقد أحضر لي مخطوط العدة عند الكرب والشدة، نسخة برلين، فجزاه اللَّه خيرًا. وكتبه أبو بكر وائل محمد بكر زهران شنشور - أشمون - المنوفية

ترجمة الحافظ العلائي

ترجمة الحافظ العلائي (¬1) أولًا: اسمه ونسبه: هو الشيخ الإمام العلامة الحافظ العمدة الحجة الأوحد البارع صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد اللَّه العلائي الدمشقي الشافعي سبط البرهان الذهبي. الملقب بحافظ بيت المقدس، لقبه بذلك العلماء. ثانيًا: مولده: ولد بدمشق في ربيع الأول سنة أربع وتسعين وستمائة. ودرس بدمشق بالأسدية وبحلقة صاحب حمص، وحفظ القرآن، وتعلم الفقه والنحو والأصول، وبرع في الحديث ومعرفة الرجال والمتون والعلل، وخرج وصنف وأفاد. ثالثًا: شيوخه: أخذ الإمام العلائي رحمه اللَّه تعالى العلم عن كثير من العلماء الأجلاء، وقد بلغ عدد شيوخه بالسماع نحو السبعمائة أقدمهم وفاة الخطيب شرف الدين الفزاري، ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في: الأعلام (2/ 369)، والأنس الجليل (2/ 107)، والبداية والنهاية (14/ 367)، والبدر الطالع (1/ 245)، وبهجة الناظرين للغزي (ص 116)، والدارس في تاريخ المدارس (1/ 48)، والدرر الكامنة (2/ 90)، وذيل التقييد (1/ 525 رقم 1027)، وذيل تذكرة الحفاظ (1/ 43)، والرسالة المستطرفة (ص 63)، وشذرات الذهب (6/ 190)، وطبقات الحفاظ (1/ 533 رقم 1160)، وطبقات الشافعية الكبرى (10/ 35)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (3/ 91 رقم 642)، وطبقات الشافعية للإسنوي (ص 341)، والعبر (4/ 186)، وفهرس الفهارس (2/ 790)، والكافي في معرفة علماء مذهب الشافعي للبهنسى بتحقيقي (592)، ومعجم المؤلفين (4/ 126)، ومعجم شيوخ الذهبي (1/ 223)، والنجوم الزاهرة (10/ 337)، ووفيات الأعيان (2/ 227 رقم 736)، والوفيات للسلامي (2/ 226).

ومن أشهر شيوخه: 1 - الإمام الحافظ المزي: هو يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الملك بن يوسف بن علي الإمام العلامة الحافظ الكبير شيخ المحدثين عمدة الحفاظ أعجوبة الزمان جمال الدين أبو الحجاج بن الزكي أبي محمد القضاعي الكلبي الحلبي ثم الدمشقي المزي. صاحب تهذيب الكمال، وتحفة الأشراف. مولده في ربيع الآخر سنة أربع وخمسين. 2 - شيخ الإسلام ابن تيمية: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني. كان إمامًا عالمًا فقيهًا حافظًا زاهدًا ورعًا، صاحب المصنفات العظيمة الدامغة لأهل البدع. 3 - ابن الزملكاني: هو الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة كمال الدين أبو المعالي محمد بن علي بن عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن نبهان المعروف بابن الزملكاني. ولد في شوال سنة سبع وستين وستمائة، وتوفي سنة سبع وعشرين وسبعمائة. 4 - برهان الدين الفزاري: هو الشيخ العلامة شيخ الإسلام برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن ابن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري البدري، ابن الشيخ العلامة فقيه الشام تاج الدين أبي محمد بن الشيخ المقرئ برهان الدين أبي إسحاق المصري الأصل الدمشقي. ولد في شهر ربيع الأول سنة ستين وستمائة، وتوفي سنة تسع وعشرين وسبعمائة. وسمع الكثير من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وعدة، وله مشيخة خرجها العلائي.

رابعا: تلامذته

رابعًا: تلامذته: تخرج على الإمام العلائي -رحمه اللَّه- علماء كثيرون، نذكر منهم: 1 - ابن الملقن: هو الحافظ عمر بن علي بن أحمد ابن الملقن المتوفى سنة 804 هـ. صاحب المصنفات البديعة التي لم يسبق إلى مثلها، منها البدر المنير في تخريج أحاديث الشرح الكبير، وشرح مختصر التبريزي في الفقه وقد قمت بتحقيقه ونشرته دار الفلاح. 2 - ابن سند: هو الإمام العالم الحافظ شمس الدين محمد بن موسى بن محمد بن سند بن تميم، أبو العباس اللخمي المصري الأصل الدمشقي المعروف بابن سند. مولده سنة تسع وعشرين وسبعمائة، وتوفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة. 3 - الحافظ ابن كثير إسماعيل بن عمر: الإمام الفقيه العلامة المفسر صاحب التفسير الذي وضع له القبول بين عامة المسلمين وغيره من التصانيف المفيدة. 4 - الفيروزآبادي: هو محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن إدريس ابن فضل اللَّه الشيرازي الفيروزآبادي القاضي مجد الدين أبو الطاهر إمام عصره في اللغة. 5 - الشيخ الإمام العلامة شيخ القدس محمد بن إسماعيل بن علي شمس الدين أبو عبد اللَّه بن الشيخ العلامة شيخ الشافعية بالقدس تقي الدين القلقشندي. ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وتوفي سنة تسع وثمانمائة بالقدس. خامسًا: الوظائف التي شغلها. 1 - ولي تدريس الحديث بالناصرية سنة ثمان عشر وسبعمائة. 2 - ثم ولي التدريس بالأسدية سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة. 3 - ثم بحلقة صاحب حمص سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وكان قد نزل له عنها شيخه الحافظ أبو الحجاج المزي. 4 - ثم تولى الصلاحية بالقدس -وهي التي ألقى فيها هذه الرسالة- سنة إحدى

سادسا: مصنفاته

وثلاثين وسبعمائة. 5 - وأيضًا أضيف إليه درس الحديث بالتنكزية بالقدس. سادسًا: مصنفاته: كان -رحمه اللَّه- من المكثرين في التصنيف والتأليف، فألف كتبًا كثيرة نافعة متقنة محررة جيدة انتشرت بين عامة المسلمين وعلمائهم، وشهد لها أهل العلم، وقد ألف -رحمه اللَّه- في سائر العلوم، في التفسير والحديث والفقه وأصوله واللغة وغير ذلك. ومن مصنفانه: - إتمام الفوائد المحصولة في الأدوات الموصولة (¬1). - إثارة الفوائد المجموعة في الإشارة إلى الفرائد المسموعة. - إجمال الإصابة في أقوال الصحابة. - إحكام العنوان لأحكام الدان (¬2). - الأربعون الإلهية من رواية خير البرية (ثلاثة أجزاء) (¬3). - الأربعون المغنية (12 جزء) (¬4). - الأربعون في أعمال المتقين (في ستة وأربعين جزءًا) (¬5). - الأربعون المعنعنة (في اثني عشر جزءًا). - الأشباه والنظائر في الفروع (¬6). ¬

_ (¬1) انظر "ذيل التذكرة" (45). (¬2) ذكره العلائي فيما أجاز في "إثارة الفوائد" (2/ 728 - 730). (¬3) انظر "ذيل التذكرة" للحسيني (44). (¬4) انظر "ذيل التذكرة" للحسيني (44). (¬5) انظر "المجمع المؤسس" (2/ 170)، "فهرس الفهارس" (2/ 790). (¬6) ذكره السبكي في "طبقاته" (10/ 36)، وحاجي خليفة في "كشف الظنون" (1/ 100).

- إنافة الحظوة في قاعدة مد عجوة (¬1). - برهان التيسير في عنوان التفسير (¬2). - بغية الملتمس في سباعيات حديث الإمام مالك بن أنس (¬3). - تحرير غاية المدة في تفسير آية العدة (¬4). - تحرير المقال في تحريم الحلال (ضمن المجلد الأول من المجموع). - تحفة الرائض بعلوم آيات الفرائض (¬5). - تحقيق الكلام في نية الصيام (¬6). - تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد (¬7). - تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة (ضمن المجلد الأول من المجموع). - تفصيل الإجمال في تعارض بعض الأقوال والأفعال (ضمن المجلد الثاني من المجموع). - تلخيص كتاب المسكت للزبيدي. - تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم (ضمن المجلد الثاني من المجموع). - تهذيب الأصول إلى مختصر جامع الأصول (¬8). ¬

_ (¬1) ذكره العلائي فيما أجاز في "إثارة الفوائد" (2/ 728 - 730). (¬2) ذكره العلائي فيما أجاز في "إثارة الفوائد" (2/ 728 - 730)، والسبكي في "طبقاته" (10/ 36). (¬3) ذكره العلائي فيما أجاز في "إثارة الفوائد" (2/ 728 - 730)، وانظر "ذيل التذكرة" (44). (¬4) ذكره العلائي فيما أجاز في "إثارة الفوائد" (2/ 728 - 730). (¬5) ذكره العلائي فيما أجاز في "إثارة الفوائد" (2/ 728 - 730)، والسبكي في "طبقاته" (10/ 36). (¬6) ذكره العلائي فيما أجاز في "إثارة الفوائد" (2/ 728 - 730)، والسبكي في "طبقاته" (10/ 36). (¬7) ذكره العلائي فيما أجاز في "إثارة الفوائد" (2/ 728 - 730)، وانظر "ذيل التذكرة" (44). (¬8) انظر "كشف الظنون" (1/ 536).

- توفية الكيل لمن حرم لحوم الخيل (ضمن المجلد الثاني من المجموع). - تيسير حصول السعادة في تقرير شمول الإرادة (¬1). - جامع التحصيل في أحكام المراسيل (وهو أشهر كتبه) (¬2). - جزء في تصحيح حديث القلتين والكلام على أسانيده (ضمن المجلد الأول من المجموع). - جزء في تفسير (الباقيات الصالحات وفضلها). - جزء في ذكر كليم اللَّه موسى (ضمن المجلد الأول من المجموع). - جزء فيه أحاديث منتقاة من جزء أبي مسعود بن الفرات (¬3). - جزء فيه مائة حديث منتقاة من جامع الترمذي (¬4). - جزء فيه مائة حديث منتقاة من صحيح مسلم (¬5). - جزء فيه مائة حديث منتقاة من مشيخة الفخر ابن البخاري وهي من مسند أحمد (¬6). - جزء فيه من عوالي أبي بكر أحمد بن عبد الدائم. - جزء فيه منتقى من مشيختي أبي نصر الشيرازي وأبي محمد القاسم بن عساكر (¬7). - جمع الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬8). - حديث: "قطع في مجن" وما يتعلق به. ¬

_ (¬1) انظر "ذيل التذكرة" (44). (¬2) انظر "كشف الظنون" (1/ 638). (¬3) له نسخة مصورة في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض في 3 ورقات. (¬4) انظر "المجمع المؤسس" (1/ 136). (¬5) انظر "المجمع المؤسس" (1/ 188). (¬6) انظر "المجمع المؤسس" (2/ 95). (¬7) انظر "المجمع المؤسس" (2/ 387). (¬8) انظر "شذرات الذهب" (6/ 191).

- الدرة السنية في مولد خير البرية (¬1). - رسالة في تفسير قوله تعالى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} (ضمن المجلد الأول من المجموع). - رسالة في تفسير قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (ضمن المجلد الأول من المجموع). - رسالة في تفسير {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (ضمن المجلد الأول من المجموع). - رسالة في هل يقال: ما أعظم اللَّه ونحو ذلك. - رفع الإشكال عن حديث صيام الست من شوال (ضمن المجلد الأول من المجموع). - رفع الاشتباه عن أحكام الإكراه (¬2). - رفع الالتباس عن مسائل البناء والغراس (¬3). - سلوان التعزي بالحافظ المزي (¬4). - شفاء المسترشدين في حكم اختلاف المجتهدين (¬5). - العدة عند الكرب والشدة (ضمن المجلد الأول من المجموع). - عقيلة المطالب في ذكر أشرف الصفات والمناقب (¬6). - عوالي مالك السباعيات (ستة أجزاء). - الفتاوى المستغربة. ¬

_ (¬1) انظر "كشف الظنون" (1/ 740). (¬2) ذكره العلائي فيما أجاز في "إثارة الفوائد" (2/ 728 - 730)، وانظر "ذيل التذكرة" (44). (¬3) ذكره العلائي فيما أجاز في "إثارة الفوائد" (2/ 728 - 730)، وانظر "ذيل التذكرة" (44). (¬4) انظر "فهرس الفهارس" (1/ 155). (¬5) ذكره العلائي فيما أجاز في "إثارة الفوائد" (2/ 728 - 730)، وانظر "ذيل التذكرة" (44). (¬6) انظر "شذرات الذهب" (6/ 191)، "فهرس الفهارس" (2/ 790).

- فصل القضاء في أحكام الأداء والقضاء (¬1). - الفصول المفيدة في الواو المزيدة (ضمن المجلد الثاني من المجموع). - كتاب في المدلسين (¬2). - كشف النقاب عما روى الشيخان للأصحاب. - الكلام في بيع الفضولي. - المباحث المختارة في تفسير آية الدية والكفارة (¬3). - المجالس المبتكرة (عشرة أجزاء) (¬4). - المجموع المذهب في قواعد المذهب (وهو من أشهر كتبه) (¬5). - المختلطون. - مسألة في مضاعفة الثواب في المساجد الثلاثة (ضمن المجلد الأول من المجموع). - المسلسلات (ثلاثة أجزاء) (¬6). - المعاني العارضة عن الخافضة (¬7). - مقدمة كتاب نهاية الأحكام في دراية الأحكام (خمسة عشر جزءًا) (¬8). - منتقى الذخائر في الأعمال الكبائر (¬9). ¬

_ (¬1) انظر "ذيل التذكرة" (44). (¬2) انظر "طبقات الشافعية" للسبكي (10/ 36). (¬3) ذكره العلائي فيما أجاز في "إثارة الفوائد" (2/ 728 - 730)، وانظر "ذيل التذكرة" (44). (¬4) انظر "ذيل التذكرة" (44). (¬5) انظر "كشف الظنون" (1/ 638). (¬6) انظر "كشف الظنون" (2/ 1359). (¬7) انظر "ذيل التذكرة" (44). (¬8) انظر "ذيل التذكرة" (44)، "طبقات الشافعية" للسبكي (10/ 36). (¬9) ذكره العلائي فيما أجاز في "إثارة الفوائد" (2/ 728 - 730).

سابعا: ثناء العلماء عليه

- نزهة النظرة في تفسير خواتم سورة البقرة (¬1). - نظم الفوائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد. - النفحات القدسية (أربعون مجلدًا) (¬2). - النقد الصحيح لما اعترض عليه من أحاديث المصابيح. - الوشي المعلم في ذكر من روى عن أبيه عن جده عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (ستة عشر جزءًا) (¬3). وغير ذلك من الأجزاء المفردة في معان متعددة، ووقف أجزاءه بالخانقاه السميساطية واللَّه يغفر له. سابعًا: ثناء العلماء عليه: قال الإمام الذهبي: حافظ يستحضر الرجال والعلل، وتقدم في هذا الشأن مع صحة الذهن وسرعة الفهم. وقال الحافظ ابن حجر: كان ممتعًا في كل باب فتح، ويحفظ تراجم أهل العصر ومن قبلهم، وكان له ذوق في الأدب ونظم حسن مع الكرم وطلاقة الوجه. وقال الحسيني: كان إمامًا في الفقه والأصول والنحو، مفننًا في علوم الحديث ومعرفة الرجال، علامة في معرفة المتون والأسانيد، بقية الحفاظ، درس وأفتى وناظر، ولم يخلف بعده مثله. وقال الإسنوي: كان حافظ زمانه إمامًا في الفقه والأصول وغيرهما ذكيًّا نظارًا، فصيحًا كريمًا ذا رئاسة وحشمة، وصنف في الحديث تصانيفَ نافعة وفي النظائر الفقهية كتابًا نفيسًا. وقال السبكي: كان حافظًا ثبتًا ثقة عارفًا بأسماء الرجال والعلل والمتون، فقيهًا متكلمًا أديبًا شاعرًا ناظمًا ناثرًا متقنًا لم يخلف بعده مثله، أما الحديث فلم يكن في ¬

_ (¬1) ذكره العلائي فيما أجاز في "إثارة الفوائد" (2/ 728 - 730). (¬2) ذكره العلائي فيما أجاز في "إثارة الفوائد" (2/ 728 - 730)، وانظر "ذيل التذكرة" (44). (¬3) انظر "ذيل التذكرة" (44).

ثامنا: مذهبه

عصره من يدانيه فيه، وأما بقية العلوم من فقه ونحو وتفسير وكلام فكان في كل واحد منها حسن المشاركة. وقال الحافظ زين الدين العراقي: درس وأفتى وجمع بين العلم والدين، والكرم والمروءة، ولم يخلف بعده مثله. وقال ابن رافع في "معجمه": سمع الحديث وأخذ عن غالب الموجودين، وأتقن الفقه الفن وتفقه وناظر وله ذوق في معرفة الرجال، وذكاء فهم. وقال ابن قاضي شهبة: الإمام البارع المحقق بقية الحفاظ. وقال النعيمي في "الدارس": كان إمامًا في الفقه والنحو والأصول مفننًا في علوم الحديث ومعرفة الحديث، علامة في المتون والأسانيد، ومصنفاته تنبئ عن إمامته في كل فن. وقال البهنسي في "الكافي" بتحقيقي: كان حافظ زمانه إمامًا في الفقه والأصول وغيرها ذكيًّا فصيحًا ذا رئاسة وحشمة. وقال رضي الدين الغزي في "بهجة الناظرين": الإمام العلامة الحافظ المدقق المحقق الأصولي المفنن في سائر العلوم، عالم بيت المقدس في زمنه، صنف كتابه المشهور بـ "القواعد" وهو كتاب نفيس جليل يدل على فضل كبير واطلاع كثير، وما طالعته إلا وأزداد فيه محبة. ثامنًا: مذهبه: كان رحمه اللَّه تعالى شافعي الفروع أشعري الأصول، يظهر ذلك من خلال كلامه في رسائل التفسير. تاسعًا: وفاته: توفي الإمام العلامة رحمه اللَّه تعالى وأسكنه الفردوس الأعلى في الثالث أو الخامس من شهر المحرم سنة إحدى وستين وسبعمائة. * * *

منهج تحقيق الرسائل

منهج تحقيق الرسائل 1 - نسخت مخطوطات الرسائل نسخًا جيدًا مراعيًا علامات الترقيم مع تنسيق فقرات الكتاب. 2 - قابلت الرسائل على أصولها الخطية مقابلة تامة. 3 - عزوت الآيات إلى مواضعها من المصحف. 4 - عزوت الأحاديث والآثار إلى أصولها من كتب الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها حسبما ذكر الحافظ العلائي، فإن لم يذكر ذلك اكتفيت بالصحيحين أو أحدهما إن كان الحديث عندهما أو السنن وصحيح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم مع ذكر كلام أهل العلم المعتبر في التصحيح والتضعيف؛ حتى تتم الفائدة، ولم أتوسع إلا عند الحاجة. 5 - ربما علقت على بعض المواضع بذكر فائدة؛ كضبط الأسماء والكنى والألقاب والأنساب، أو شرح كلمة غريبة، أو عزو الحديث لمصدر أعلى، وغير ذلك مما سيظهر خلال مطالعة الكتاب إن شاء اللَّه تعالى. 6 - عزوت الأقوال الفقهية إلى مصادرها من كتب الفقه، وكذا نقولات الحافظ العلائي عن الأئمة، كابن الصلاح والحافظ الضياء وغيرهما حسب ما توفر لي من المصادر العلمية. 7 - كتبت مقدمة لهذا المجموع عرفت فيها بالمؤلف الحافظ العلائي باختصار، على أن أقوم بعمل ترجمة علمية موسعة له، وذلك بعد الانتهاء من تحقيق الرسائل، أبرز فيها شخصية ومكانة الحافظ العلائي، وذلك للاستفادة من جميع مصنفاته في ذلك. 8 - قمت بعمل فهرس مختصر لهذا المجلد على أن تكون الفهارس العلمية المفصلة في نهاية المجموع المبارك، وسوف تشتمل على ما يلي: 1 - فهرس الآيات القرآنية. 2 - فهرس الأحاديث والآثار.

3 - فهرس الرواة المتكلم فيهم جرحًا وتعديلًا. 4 - فهرس الأحاديث التي تكلم عليها الحافظ العلائي تصحيحًا وتضعيفًا في جميع مصنفاته. 5 - فهرس الموضوعات. * * *

جزء في ذكر كليم الله موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه وما يتعلق بقبره

جزء في ذكر كليم اللَّه موسى بن عمران صلوات اللَّه وسلامه عليه وما يتعلق بقبره تخريج كاتبه خليل بن كيكلدي العلائي الشافعي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. أَمَّا بَعْدُ: فهذه رسالة للحافظ العلائي -رحمه اللَّه- في ذكر كليم اللَّه موسى -صلى اللَّه عليه وسلم- تكلم فيها الحافظ العلائي -رحمه اللَّه- عن سيدنا موسى -عليه السلام- عن اسمه ونسبه وصفته ومحنته، وروى أحاديث بأسانيده عن شيوخه في ذلك، وتكلم على تلك الأحاديث وشرح ما أشكل منها، وتكلم فيها عن مسألة التفضيل بين الأنبياء صلوات اللَّه عليهم، وتكلم عن حياة الأنبياء بعد الموت وصفتها وذكر مذاهب العلماء في ذلك، إلى غير ذلك من الفوائد الجليلة، ثم ختم الرسالة بقصيدة في مدح سيدنا موسى -عليه السلام-.

التوصيف العلمي للنسخة الخطية

التوصيف العلمي للنسخة الخطية اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسختين خطيتين إحداهما بخط المؤلف -رحمه اللَّه- لم أظفر بغير ذلك من النسخ الخطية: نسخة المؤلف وهي عبارة عن النسخة الخطية المحفوظة بدار الكتب المصرية ضمن مجموع تحت رقم (135) مجاميع بخط المؤلف -رحمه اللَّه-، وعليها سماعات كثيرة. النسخة المساعدة وهي نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية ضمن مجموع تحت رقم (21201) ب. - اسم الناسخ: غير معروف. - تاريخ النسخ: غير معروف. - عدد الأوراق: 5 ورقات. توثيق الكتاب لاشك في صحة نسب هذه الرسالة إلى الحافظ العلائي -رحمه اللَّه- ويكفي أن النسخة الخطية بخطه -رحمه اللَّه- وعليها سماعات كثيرة في أوقات مختلفة كتبها كتبها العلائي بخطه، والنسخة الثانية تقوي هذه النسبة وتؤيدها؛ فلسنا بحاجة بعد ذلك إلى مزيد بيان، كما أن الحافظ العلائي روى بأسانيده المعروفة عن شيوخه المعروفين، واللَّه أعلم. وقد وجد في نهاية النسخة المساعدة قصيدة في مدح سيدنا موسى -عليه السلام-، ولم تذكر في نسخة الأصل، فالظاهر أنه -رحمه اللَّه- أملاها بعدُ في أحد مجالسه، واللَّه أعلم.

الورقة الأولى من نسخة المؤلف

الورقة الأولى من النسخة المساعدة

الورقة الأخيرة من النسخة المساعدة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وما توفيقي إلا باللَّه قال اللَّه تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} (¬1). وقال تعالى: {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} (¬2). وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} (¬3). وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} (¬4). قال جماعة من العلماء: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل اللَّه عليهم الصلاة والسلام. قال أهل التاريخ: لما مات الريان بن الوليد -وهو فرعون مصر الذي كان على زمن يوسف وولاه على خزائن الأرض- وكان قد أسلم على يد يوسف عليه الصلاة والسلام، وجاء بعده جبار فلم يسلم ثم جبار آخر، وأقامت بنو إسرائيل بعد يوسف -عليه السلام- بمصر حتى كثروا ونشأت لهم ذرية تحت أيدي العمالقة وهم على بقايا من دينهم الذي كان عليه يوسف وآباؤه عليهم الصلاة والسلام متمسكين به، حتى كان فرعون موسى الذي بعثه اللَّه تعالى إليه ولم يكن في الفراعنة أعتى منه ولا أقسى قلبًا ولا أطول منه عمرًا في الملك ولا أسوأ ملكة لبني إسرائيل وكان يعذبهم ويستعبدهم، وجعلهم خدمًا وخولًا وعاش فيهم أربعمائة سنة، فبعث اللَّه تعالى إليه موسى بن ¬

_ (¬1) مريم: الآية 51 - 53. (¬2) الأعراف: الآية 144 - 145. (¬3) الأنبياء: الآية 48. (¬4) الأحزاب: الآية 69.

عمران صلوات اللَّه عليه وجرى له ما قصه اللَّه تعالى في كتابه في غير موضع مبسوطًا، وليس في القرآن قصة تكررت كثيرًا كقصة موسى، ولم يذكر نبي باسمه في القرآن كما ذكر عليه الصلاة والسلام. أخبرنا أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد بن أبي العز الدمشقي، ووزيرة بنت عمر بن المنجا، وأحمد بن أبي طالب بن أبي النعم قالوا: أنا الحسين بن المبارك الربعي، أنا عبد الأول بن عيسى الصوفي، أنا عبد الرحمن بن محمد بن المظفر، أنا عبد اللَّه بن أحمد بن حمويه، أنا محمد بن يوسف بن مطر، أنا الإمام محمد بن إسماعيل، ثنا إبراهيم بن موسى، ثنا هشام بن يوسف، أنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَأَيْتُ مُوسَى فَإذَا هُوَ رَجُلٌ ضَرْبٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ وَرَأَيتُ عِيسَى فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِن دِيمَاسٍ، وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ بِه صلى اللَّه عليهم وسلم". كذا رواه البخاري في "صحيحه" (¬1). وقد روي من حديث جابر بن عبد اللَّه وابن عباس أيضًا وغيرهما -رضي اللَّه عنهم-: أخبرناه إسماعيل بن يوسف بن مكتوم، وعيسى بن عبد الرحمن بن معالي، وأحمد بن أبي طالب قالوا: أنا عبد اللَّه بن عمر بن علي اللتي، أنا أبو الوقت عبد الأول، أنا أبو الحسن عبد الرحمن الداودي، أنا أبو محمد عبد اللَّه السرخسي، أنا إبراهيم بن خزيم، ثنا عبد بن حميد الحافظ، ثنا أحمد بن يونس، ثنا ليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "عُرِضَ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ فَإِذَا مُوسَى رَجُلٌ ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرَأَيْتُ إبْرَاهِيمَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ -يَعْنِي نَفْسَهُ صلى اللَّه عليه وعليهم وسلم- وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دَحْيَةُ". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3394).

أخرجه مسلم في "صحيحه" (¬1) عن قتيبة، عن الليث بن سعد به، وروى الأول عن عبد ومحمد بن رافع، عن عبد الرزاق (¬2). وأخبرنا القاسم بن مظفر بن محمود سماعًا عليه، عن أبي الوفاء محمود بن إبراهيم بن منده إذنًا، أنا الإمام أبو عبد اللَّه الحسن بن العباس الرستمي، أنا عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق، أنا أبي الحافظ أبو عبد اللَّه بن منده، أنا أحمد بن إسحاق بن أيوب، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن عبد اللَّه الرقاشي، ثنا يزيد بن زريع، ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية، قال حدثتا ابن عم نبيكم عبد اللَّه بن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رَأَيتُ لَيلَةَ أُسْرِيَّ بِي مُوسَى ابْنِ عِمْرَانَ رَجُلٌ آدَم طُوَالٌ جَعْدٌ كَأنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبِطَ الرَّأسِ، وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ، وَرَأَيْتُ الدَّجَالَ في آيَاتٍ أَرَانِيهِنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ". صحيح أخرجه مسلم أيضًا من طرق عن قتادة (¬3). و"الْآدَمُ": الأسمر. فَقِيلَ: هو الشديد السمرة. وَقِيلَ: بل لما كان دون ذلك مأخوذ من أدمة الأرض وهو لونها، ومنه سمي آدم عَلَيهِ السَّلَام. والضَّرْبُ من الرجال قيل: هو الذي له جسم بين جسمين ليس بالضخم ولا الضئيل. وقال ابن الأثير في "النهاية" (¬4): الضرب: الخفيف اللحم الممشوق المستدق، وجاء في رواية في هذا الحديث "مضطرب" وهو مفتعل من الضرب والطاء بدل من ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (167). (¬2) "صحيح مسلم" (168). (¬3) "صحيح مسلم" (165). (¬4) "النهاية في غريب الحديث" (ضرب).

تاء الافتعال لاقترانها بحرف الضاد وهو حرف مستعل، فقلبت طاءً لاستعلائها. وأما "الْجَعْدُ" فإنه يكون في الصفات مدحًا ويجيء ذمًّا أيضًا، فالمدح معناه: أن يكون شديد الأسر والخلق، أو يكون جعد الشعر وهو ضد السبط؛ لأن السبوطة أكثرها في شعور العجم؛ وأما الذم: فهو القصير المتردد الخلق، وليس مرادًا هنا قطعًا؛ لوصفه إياه صلى اللَّه عليهما وسلم بالطول في قوله: "طُوَالٌ"، وهو بضم الطاء وتخفيف الواو لغة في طويل وربما تضمن مبالغة في ذلك. وأما قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ" فهي قبيلة معروفة من العرب اليمانيين سموا بذلك لأنهم كانوا يتباعدون عن الأنجاس يقال: رجل فيه شَنُوءَةٌ بفتح الشين وضم النون وهمزة مفتوحة بعد الواو: إذا كان فيه تقزز وتباعد عن الأقذار، حكاه الجوهري. وَقِيلَ: سموا بذلك لأنهم تشانئوا، أي: تباغضوا وتباعدوا، والنسبة إلى أزد شنوءة: شنائي بالهمز، ومنهم من لم يهمز شنوءة فيقول في النسبة شنوي. وجاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رؤيته لموسى عليه الصلاة والسلام مرة أخرى في الحديث الذي أخبرناه القاسم بن مظفر، عن محمود بن منده، أنا الحسن بن العباس الفقيه، أنا أبو عمرو عبد الوهاب، أنا أبي الحافظ أبو عبد اللَّه، أنا عبد الرحمن بن يحيى، ثنا أبو مسعود -يعني أحمد بن الفرات- أنا عمرو بن عون، ثنا هشيم، أنا داود بن أبي هند، عن أبي العالية، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مر بوادي الأزرق فقال: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى -عليه السلام- وَهُوَ هَابِطٌ مِنَ الثَّنِيَّةِ وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ، ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى فَقَالَ: أَيُّ ثَنِيَّةِ هَذِهِ"؟ قالوا: ثنية هرشى. فَقَالَ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةِ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِن صُوفٍ خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ" يعني ليفًا. وبه قال ابن منده: وأنا محمد بن يعقوب الشيباني، ثنا يحيى بن محمد بن يحيى، ومحمد بن إبراهيم بن سعيد قالا: ثنا أحمد بن حنبل. (ح) وأخبرنا حسان بن محمد، ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، ثنا سريج بن يونس قالا: ثنا هشيم. . . فذكره.

رواه مسلم عن أحمد بن حنبل وسريج بن يونس على الموافقة (¬1). وأخرجه أيضًا (¬2) من حديث ابن أبي عدي عن داود بن أي هند: أخبرناه القاسم ابن مظفر بإسناده هذا إلى ابن منده قال: أنا محمد بن إبراهيم بن مروان، ثنا زكريا بن يحيى بن إياس، ثنا محمد بن مثنى. (ح) وأخبرني أبي، حدثني أبي، ثنا محمد بن بشار قالا: ثنا محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: سرنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بواد فقال: "أَيُّ وَادٍ هَذَا"؟ قالوا: وادي الأزرق. قال: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى. . . " فذكر من لونه وشعره شيئًا لم يحفظه داود "وَاضِعًا إِصْبَعَيهِ فِي أُذُنَيهِ لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّلْبِيَةِ مَارًا بِهَذَا الوَادِي. . . " وذكر بقية الحديث. رواه مسلم عن محمد بن مثنى به (¬3). "الجُؤَارُ": بضم الجيم وبالهمزة: رفع الصوت. وَقَدْ اختَلَفَ الْعُلَمَاءُ في هَذِهِ الرُّؤْيَةِ الَّتي رَآهَا نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلأَنْبِيَاءِ عليهم الصلاة والسلام: فَقِيلَ: إن ذلك كان في المنام بدليل ما جاء في بعض الروايات في الصحيح (¬4) عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ. . . " وذكر في الحديث قصة رؤيته عيسى ابن مريم -عليه السلام-. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ: إن ذلك رؤيا عين لا منام كما رآهم ليلة الإسراء رؤيا عين لا منام على الصحيح، وهذا هو القول الراجح. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (166). (¬2) "صحيح مسلم" (166). (¬3) "صحيح مسلم" (166). (¬4) "صحيح مسلم" (171).

وعلى هذا فاختلفوا في معنى هذا الحديث الأخير الذي ذكر فيه كَيْفِيَّةِ حَجِّ موسى عليه الصلاة والسلام فذكر فيه وجوه: أَحَدُهَا: أن هذا على ظاهره؛ فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحياء بعد موتهم كالشهداء بل أفضل، واذا كانوا أحياء فلا يستبعد أن يحجوا ويصلوا ويتقربوا إلى اللَّه تعالى بما استطاعوا؛ لأنهم وان كانوا قد توفوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل حتى إذا فنيت مدتها ويعقبها الدار الآخرة التي هي دار الجزاء انقطع العمل. وقد يقال أيضًا: إن هذه الأعمال تحبب إليهم فيتعبدون بما يجدون من دواعي أنفسهم لا بما يلزمون كما يحمده ويسبحه أهل الجنة، كما جاء في الحديث أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس (¬1)، وهو معنى قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} (¬2) وإن كانت دار الجنة ليست بدار تكليف ولكن يكون ذلك على الوجه الذي ذكرنا، فكذلك حج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصلواتهم. وَثَانِيهَا: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أري حالهم التي كانت في حياتهم ومثلوا له في حال حياتهم كيف كانوا وكيف حجهم وتلبيتهم. وَثَالِثُهَا: أن يكون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبر عما أوحي إليه من أمرهم وما كان منهم وإن لم يرهم، لكن جاء به في هذا النسق لقوة اليقين بصدق ذلك إذ كان عن وحي. والقول الأول هو الأصح الذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة من أنهم صلوات اللَّه عليهم أحياء في قبورهم (¬3): ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2835) من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-. (¬2) يونس: الآية 10. (¬3) قَالَ الشَّيْخُ الأَلبَانِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِهِ "التَّوَسُّلِ": إن حياة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد وفاته مخالفة لحياته قبل الوفاة، ذلك أن الحياة البرزخية غيب من الغيوب ولا يدري كنهها إلا اللَّه سبحانه وتعالى، ولكن من الثابت والمعلوم أنها تختلف عن الحياة الدنيوية ولا تخضع لقوانين، فالإنسان في الدنيا يأكل ويشرب ويتنفس ويتزوج ويتحرك ويتبرز ويمرض ويتكلم ولا أحد يستطيع أن يثبت أن أحدا بعد الموت حتى الأنبياء -عليهم السلام- وفي مقدمتهم نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- تعرض له هذه الأمور بعد موته. =

كما أخبرنا أبو الفضل سليمان بن حمزة بن أحمد المقدسي سماعًا عليه، قال أنا جعفر بن علي بن هبة اللَّه، أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفىِ، أنا علي بن أحمد بن بيان، أنا طلحة بن علي بن الصقر، ثنا أبو بكر محمد بن عبد اللَّه الشافعي، ثنا موسى بن الحسن النسائي، ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، ثنا ثابت وسليمان التيمي، عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رَأَيتُ مُوسَى يُصَلِّي في قَبْرِهِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ". أخرجه مسلم عن هدبة بن خالد وشيبان بن فروخ كلاهما عن حماد بن سلمة به، ولفظه: "مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ" (¬1). فهذه الرواية ظاهرة في حياة موسى عليه الصلاة والسلام في قبره، ويدل لذلك أيضًا حديث المعراج وترديده النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد تقدم أن الراجح أن الإسراء كان بجسده -صلى اللَّه عليه وسلم-: أخبرنا الإمام أبو العباس أحمد بن إبراهيم الفزاري قراءة عليه وأنا أسمع سنة ¬

_ = ومما يؤكد هذا أن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- كانوا يختلفون في مسائل كثيرة بعد وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يخطر في بال أحد منهم أن يذهب إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قبره ومشاورته في ذلك وسؤاله عن الصواب فيها، لماذا؟ إن الأمر واضح جدا وهو أنهم كلهم يعلمون أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- انقطع عن الحياة الدنيا ولم تعد تنطبق عليه أحوالها ونواميسها، فرسول اللَّه في بعد موته حي أكمل حياة يحياها الانسان في البرزخ ولكنها حياة لا تشبه حياة الدنيا، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من أحد يسلم علي إلا رد اللَّه علي روحي حتى أرد عليه السلام". وعلى كل حال فإن حقيقتها لا يعلمها إلا اللَّه سبحانه وتعالى ولذلك فلا يجوز أن نقيس الحياة البرزخية أو الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية كما لا يجوز أن تعطى واحدة منهما أحكام الأخرى بل لكل منها شكل خاص وحكم معين ولا تشابه إلا في الاسم؛ أما الحقيقة فلا يعلمها إلا اللَّه تبارك وتعالى. (¬1) "صحيح مسلم" (2375).

ثلاث وسبعمائة وابن أخيه شيخنا العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن والعلامة أبو الحسن علي بن محمد بن أبي القاسم الحنفي الحاكم بقراءتي عليهما في جماعة كثيرين قالوا كلهم: أنا أحمد بن عبد الدائم المقدسي. وقال شيخنا الأول: أنا العلامة أبو عمرو عثمان بن عبذ الرحمن الشافعي ومحمد بن علي بن العسقلاني في آخرين. قال ابن عبد الدائم: أنا أحمد بن علي بن صدقة. وقال أبو عمرو: أنا المؤيد ابن محمد الطوسي، وقال العسقلاني: أنا منصور بن عبد المنعم الفراوي قالوا: أنا محمد بن الفضل الفقيه، أنا عبد الغافر بن الحسين، أنا محمد بن عمرويه، أنا إبراهيم ابن محمد بن سفيان، ثنا مسلم بن الحجاج الإمام، ثنا شيبان بن فروخ، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ. . . " فذكر قصة الإسراء وفيها: "ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ -عليه السلام-، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لنَا فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى عليه الصلاة والسلام فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيرٍ. . . " وذكر الحديث، وفيه "فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: مَاذَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ فَقُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً. قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى صلوات اللَّه عليه فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ. قَالَ: فَلَمْ أَزَل أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام حَتَّى

قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمِ وَلَيلَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً. قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيتُ إِلَى مُوسَى صلوات اللَّه عليه فَأَخبَرْتُهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ فَاسْالْهُ التَّخْفِيفَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فقلت: قَد رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ" (¬1). وبهذا الإسناد إلى محمد بن عمرويه، قال: ثنا أبو العباس الماسرجسي، ثنا شيبان ابن فروخ، ثنا حماد بن سلمة بهذا. ومما يدل على ذلك أيضًا ما أخبرنا المشايخ الجلة أبو الفضل، سليمان ابن حمزة المقدسي، ومحمد بن أبي العز بن مشرف، وأبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم، وأحمد بن أبي طالب بن نعمة المعمر، وعيسى بن عبد الرحمن بن معالي، وفاطمة بنت عبد الرحمن بن الفراء الصالحيون بقراءتي عليهم سوى ابن مشرف فسماعًا عليه قالوا: أنا الحسين بن المبارك الربعي، أنا عبد الأول بن عيسى، أنا عبد الرحمن بن محمد، أنا عبد اللَّه بن أحمد، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل الإمام، ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد ابن المسيب، أن أبا هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- على العالمين في قسم يقسم به، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخبره الذي كان من أمره وأمر المسلم فقال: "لَا تُخيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثنَى اللَّهُ عز وجل". كذا أخرجه البخاري في "صحيحه" (¬2)، ورواه مسلم (¬3) عن عبد اللَّه الدارمي ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (162). (¬2) "صحيح البخاري" (3408). (¬3) "صحيح مسلم" (2373).

وأبي بكر بن إسحاق كلاهما عن أبي اليمان فوقع لنا بدلًا عاليًا. ورواه مسلم (¬1) أيضًا من حديث عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة. وأخرجاه جميعًا من حديث أبي سعيد الخدري: أخبرناه أبو الربيع بن قدامة الحاكم وأبو محمد بن معالي المطعم قالا: أنا جعفر ابن علي الهمداني، أنا أبو طاهر أحمد بن محمد الحافظ، أنا أحمد بن عبد الغفار بن أشتة، ثنا محمد بن علي النقاش، أنا سليمان بن أحمد بن أيوب، ثنا عبد اللَّه بن محمد ابن أبي مريم، ثنا محمد بن يوسف الفريابي، ثنا سفيان -يعني الثوري- عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "النَّاسُ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى -عليه السلام- آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِن قَوَائِمِ العَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلي أَمْ جُزِيَ بِصَعْقَتِهِ". أخرجه البخاري (¬2) عن محمد بن يوسف الفريابي به على الموافقة، ورواه مسلم عن عمرو الناقد، عن أبي أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري، ولفظه: "فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مِمَّنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلي أَوِ اكْتَفَى بِصَعْقَةِ الطُّورِ" (¬3). فهذا الحديث دليل ظاهر قوي في حياة موسى عليه الصلاة والسلام وحياة نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- وغيره من الأنبياء صلوات اللَّه عليهم وسلامه، ووجه ذلك أن وفاة موسى عليه الصلاة والسلام من المعلوم قطعًا، وإذا كان كذلك فالصعق عند النفخ في الصور إنما يكون لمن هو حي يومئذ في الدنيا فأما من مات قبل ذلك فلا يصعق؛ لأن تحصيل الحاصل محال وإنما يصح ذلك في حق موسى عليه السلام إذا كان حيًّا، فيتحصل من هذا أنه حي كالشهداء بل أفضل وأولى بهذه الكرامة، وينضم إلى ذلك رؤية نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- له قائمًا في قبره يصلي واجتماعه به في السماوات ليلة الإسراء، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ" لما قيل له: كيف تعرض صلاتنا ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2373). (¬2) "صحيح البخاري" (4638). (¬3) "صحيح مسلم" (2373).

عليك وقد أرمت أي بليت (¬1)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي يفيد مجموعها العلم بأن موت الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم ليس عدمًا محضًا كموت غيرهم بل هو انتقال من حال إلى أخرى وغيبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة فإنهم أحياء موجودون ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه اللَّه بكرامة من أوليائه. بقي أن يقال: لاشك أن اللَّه تعالى قد توفاهم من الدنيا وذاقوا الموت كما قال أبو بكر -رضي اللَّه عنه- لنبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-: أما الموتة التي كتب اللَّه عليك فقد ذقتها (¬2). فإذا كانوا أحياء قد أحياهم اللَّه بعد موتهم ذلك، فيلزم من ذلك أنهم يموتون موتة ثانية عند النفخ في الصور فيذوقون الموت أكثر من غيرهم. وجواب هذا أنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض فلا شك أن صعق غير الأنبياء بالموت، وأما صعق الأنبياء فالظاهر أنه غشية وزوال استشعار لا موت كغيرهم لئلا يلزم أخهم يموتون مرتين، وهذا ما اختاره الإمام البيهقي والقرطبي وغيرهما أن صعقهم يومئذ ليس موتًا بل غشي أو نحوه، ويدل لصحته قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث المتقدم "فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مِمَّنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي" ولم يقل "فحيى قبلي"، فإن هذا يقتضي أنه إذا نفخ النفخة الثالثة وهي نفخة البعث يفيق من كان مغشيًّا عليه ويحيى من كان ميتًا، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وكذلك غيره من الأنبياء لم يحصل لهم إلا الغشي فلذلك قال: "فَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيققُ". والحاصل أن نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- محقق أنه أول من يفيق وأول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم الأنبياء وغيرهم إلا موسى عليه الصلاة والسلام؛ فإنه حصل له تردد هل بعث قبله أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق، وهذا الوجه أقوى ما يقرر ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1047، 1531)، والنسائي (3/ 91)، وابن ماجة (1636)، وابن خزيمة (1733)، وابن حبان (910)، والحاكم (1/ 413) وصححه على شرط البخاري، جميعا من حديث أوس بن أوس -رضي اللَّه عنه-. (¬2) رواه البخاري (1242) ضمن حديث.

عليه هذا الحديث، وإن كان قد ذهل عنه جماعة من الأئمة الكبار فقد وفق اللَّه تعالى له من المحققين من نبه عليه وهو الذي لا يتجه غيره، واللَّه سبحانه أعلم. وأما قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى" فقد ذكر العلماء فيه وجوهًا كثيرة: مِنْهَا: أن هذا كان قبل أن يعلمه اللَّه تعالى بأفضليته، فلما أعلمه اللَّه بذلك صرح به وقال: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ" (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم-. وَمِنْهَا: أن المنهي عنه هو التفاضل بينهم في النبوة فإنها درجة واحدة لا تفاضل فيها. وَمِنْهَا: أن هذا كان منه -صلى اللَّه عليه وسلم- من باب الأدب والتواضع. وَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ نَظَرٌ، وَأَقْوَى مِنْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- منع من ذلك؛ لأن التفاضل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يعطيه حقه إلا من يفرق بين الفاضل والأفضل والكامل والأكمل، وليس من الناس يعتقد في المفضول نقصًا بالنسبة إلى الفاضل، وفضل بعض الأنبياء على بعض إنما هو من باب الفاضل والأفضل، ولا نقص يلحق أحدًا منهم؛ فحمى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من ذلك لئلا يؤدي إلى تنقص من مرتبتهم. وَالثَّانِي: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يمنع من اعتقاد ذلك، إنما منع من قول له وخوض فيه يؤدي إلى خصومة وفتنة كما في الحديث المتقدم من قصة المسلم واليهودي، واللَّه سبحانه أعلم. أخبرنا سليمان بن حمزة وعيسى بن عبد الرحمن بقراءتي قالا: أنا جعفر بن علي المقرئ، أنا أحمد بن محمد الأصبهاني، أنا أحمد بن عبد الغفار الكاتب، أنا محمد بن علي الحافظ، أنا جعفر بن أحمد بن جعفر القطيعي، ثنا محمد بن يونس الكديمي، ثنا بشير بن عبيد اللَّه الدارسي، ثنا موسى بن سويد الراسبي، عن قتادة، عن سليمان بن قيس اليشكري، عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2278) من حديث أبي هريرة.

مُوسَى الْكَلَامَ، وَأَعْطَانِي الرُّؤْيَةَ، وَفَضَّلَنِي بِالْمَقَامِ الْمَحَمُّودِ وَالْحَوْضِ الْمَوْرُودِ" (¬1). هذا حديث ضعيف جدًّا، فيه محمد بن يونس الكديمي وهو هالك، قال فيه ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات (¬2)، وشيخه بشير بن عبيد اللَّه الدارسي (¬3) قال فيه الأزدي: كذاب. وفي هذين كفاية. وقد روى الحاكم في "المستدرك" من حديث إسماعيل بن زكريا، عن عاصم الأحول، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مُوسَى بِالْكَلَام وَإِبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةِ" (¬4). وهذا أيضًا قد رواه قتادة عن عكرمة موقوفًا على ابن عباس من قوله بزيادة: أخبرناه القاسم بن مظفر بن محمود، عن محمود بن إبراهيم العبدي، أنا الحسن ابن العباس الفقيه، أنا عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق، أنا أبي، أنا محمد بن يونس القرشي، ثنا الحسين بن محمد بن زياد، ثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا: ثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى اللَّه عليه وعليهم وسلم؟! (¬5) وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري. وكلام اللَّه تعالى لموسى بن عمران عليه الصلاة والسلام مقطوع به، قال اللَّه تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬6). وسماع موسى لكلام اللَّه سبحانه جائز وإن كان كلامه منزهًا عن الحروف ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر كما في "كنز العمال" (39206) من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-. وقال الألباني في "ضعيف الجامع" (1555): موضوع. (¬2) "المجروحين" (1523). (¬3) انظر ترجمته في "الكامل" لابن عدي (2/ 15 ترجمة 251). (¬4) "المستدرك" (2/ 926) وصححه على شرط البخاري. (¬5) رواه الحاكم (2/ 309). (¬6) النساء: الآية 164.

والأصوات كما أن المؤمنين يرون اللَّه تعالى يوم القيامة وهو منزه عن الجهة والتحيز؛ فإذا ثبت وقوع ذلك بالخبر الصادق وجب اعتقاده والتصديق به، واللَّه أعلم. أخبرنا إسماعيل بن يوسف بن مكتوم وعبد الأحد بن أبي القاسم الحراني، وعيسى بن عبد الرحمن بن معالي، وهدية بنت علي بن عسكر سماعًا عليهم، وأحمد ابن أبي طالب بقراءتي قالوا: أنا عبد اللَّه بن عمر العتابي، أنا عبد الأول بن عيسى، أنا عبد الرحمن بن المظفر، أنا عبد اللَّه بن حمويه، أنا عيسى بن عمر، أنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن، أنا سهل بن حماد، ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أنه قال: قدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة واليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هذا اليوم الذي ظهر فيه موسى على فرعون فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنْتُّم أَوْلَى بِمُوسَى فَصُومُوهُ". أخرجه البخاري من حديث سفيان بن عيينة، عن أيوب السختياني، عن ابن لسعيد بن جبير، عن أبيه، ولفظه: فقال: "أَنا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ" فصامه وأمر بصيامه (¬1). أخبرنا أبو عبد اللَّه محمد بن يعقوب بقراءتي، أنا عبد الرحمن بن مكي الحاسب، أنا أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي الحافظ، أنا القاسم بن الفضل الثقفي، أنا علي بن محمد بن بشران، أنا محمد بن عمرو بن البحتري، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا محمد بن فضيل، عن محمد بن سعد الأنصاري، عن حبيب بن سالم، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ مُوسَى -عليه السلام- كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ اعْتَزَلَ وَحْدَهُ، فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَوْ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ آدر؛ فَبَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمِ يَغتَسِلُ وَقَدْ وَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ فَجَمَحَ الْحَجَرُ بثِيَابِهِ فَاتبَعَهُ مُوسَى -عليه السلام- وَهُوَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ حَتَّى ضَرَبَهُ سِتَّ ضَربَاتٍ أَو سَبعًا فَإنَّهُنَّ لَبَادِيَاتِ في الْحَجَرِ، فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُتَجَرِّدًا عَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالُوا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3397).

وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] ". اتفقا عليه من طرق عن أبي هريرة (¬1). ولفظ البخاري فيه قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ مُوسَى -عليه السلام- كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يُرَى مِن جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِن بَني إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِن عَيْبٍ بِجِلْدِهِ إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تعالى أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا، فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرِ فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَإٍ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ وَأَخَذَ بثَوْبِهِ فَلَبِسَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ بالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِن أثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَو أَرْبَعًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] ". أخبرنا محمد بن أبي العز، وأحمد بن أبي طالب، ووزيرة بنت المنجا قالوا: أنا ابن الزبيدي بإسناده المتقدم إلى البخاري، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا روح بن عبادة، ثنا عوف، عن الحسن ومحمد وخلاس، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-:. . . فذكره. وبه إلى البخاري: ثنا أبو الوليد، ثنا شعبة، عن الأعمش، سمعت أبا وائل قال: سمعت عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- قال: قسم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قسمًا فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه اللَّه، فأتيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال: "يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى قَد أُوذِيَ بِأَكثَرَ مِن هَذَا فَصَبَرَ" (¬2). أخبرنا سليمان بن حمزة بن أحمد الحاكم، قاله: أنا علي بن أبي عبد اللَّه بن المقير وأنا حاضر، أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، أنا طراد بن محمد الزينبي، أنا علي بن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3404)، "صحيح مسلم" (339). (¬2) "صحيح البخاري" (3405)، "صحيح مسلم" (1062).

محمد المعدل، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا أحمد بن منصور -يعني الرمادي- ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه عز وجل فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. قال: فرد اللَّه عليه عينه وقال: ارجع وقل له يضع يده على متن ثور فله ما غطت يده بكل شعرة سنة، فقال: أي رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. قال: فسأل اللَّه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر. فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ". كذا وقع في رواية طاوس موقوفًا أول الحديث، وكذا أخرجه البخاري (¬1) عن يحيى بن موسى، ومسلم (¬2) عن محمد بن رافع وعبد بن حميد ثلاثتهم، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس به. وأخرجاه أيضًا من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة. وقد وقع لنا أعلى من هذه الطريق: أخبرناه يحيى بن محمد بن سعد، وعلي بن يحيى الشاطبي، وعبد اللَّه بن الحسن بن الحافظ الحاكم، وعلي بن أحمد بن عسكر القصيري بقراءتي، قالوا: أنا محمد بن سعد المقدسي والد الأول والثالث حاضر، أنا يحيى بن محمود الثقفي، أنا الحسن بن أحمد الحداد حضورًا، أنا أحمد بن عبد اللَّه الحافظ، ثنا سليمان بن أحمد الحافظ، ثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، ثنا عبد الرزاق. (ح) وأخبرنا سليمان بن حمزة، أنا علي بن المقير، أخبرتنا شهدة، أنا طراد، أنا علي بن بشران، أنا إسماعيل الصفار، ثنا أحمد بن منصور، ثنا عبد الرزاق، عن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3407). (¬2) "صحيح مسلم" (2372).

معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى -عليه السلام-. . . " فذكر الحديث كما تقدم، وفي آخره: فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ طرِيقٍ بِجَنْبِ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ". رواه البخاري (¬1) عن يحيى بن موسى، ومسلم (¬2) عن محمد بن رافع كلاهما عن عبد الرزاق. فوقع بدلًا لهما عاليًا كالذي قبله. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجهِ الْجَوَابِ عَن هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَشْبَهُ مَا قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أن موسى -عليه السلام- لم يعرف أنه ملك الموت وإنما رأى رجلًا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطمه ففقأ عينه، وهذا ذكره الإمام أبو بكر بن خزيمة، وارتضاه المازري والقاضي عياض. وَالثَّانِي وهو الأقوى: أن موسى صلوات اللَّه عليه عرف ملك الموت، وأنه جاءه ليقبض روحه لكنه جاء برء الجازم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وكان عند موسى مقررًا ما قد نص عليه نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- من أن اللَّه لا يقبض نبيًّا حتى يخيره، فلما جاءه ملك الموت على غير الوجه الذي علمه بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدب ملك الموت فلطمه ففقأ عينه إذ لم يصرح بالتخيير وعرف موسى أن أجله لم يكن دنا وكان هذا امتحانًا من اللَّه تعالى لملك الموت -عليه السلام- وإقدارًا لموسى على ذلك وللَّه أن يفعل ما يشاء، ويدل على صحة هذا أنه لما جاءه ملك الموت ثانيًا فخيره بين الحياة والموت اختار الموت حينئذ واستسلم، وهذا الوجه حسن بالغ، وبه تندفع شبه الملحدين. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَسَأل اللَّهَ تعالى أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ" أي: مقدار رمية بحجر فهو منصوب على أنه ظرف مكان؛ وإنما سأل موسى صلوات اللَّه عليه ذلك تبركًا بالكون في تلك البقعة وليدفن مع من فيها من الأنبياء والأولياء. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ أَو عِنْدَ الْكَثِيبِ ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3407). (¬2) "صحيح مسلم" (2372).

الأَحْمَرِ" المراد بهذه الطريق: الطريق التي سلكها -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة أسري به من مكة إلى بيت المقدس كلما أشار إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث المتقدم "مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى لَيلَةَ أُسْرِيَ بِي وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ". قال الإمام أبو حاتم محمد بن حبان البستي الحافظ: إن اللَّه عز وجل أحيا موسى في قبره حتى مر عليه المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة أسري به، وذلك أن قبر موسى بمدين بين المدينة وبين بيت المقدس فرآه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قبره يدعو إذ الصلاة دعاء. قُلْتُ: حمله الصلاة على معناها اللغوي بعيد لا وجه له؛ لأن الأصل خطاب الشارع بحقائقه الشرعية، ويرجح هذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- "وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ" فهذه قرينة أيضًا ترجح كونه مصليًا الصلاة المعهودة، وقد تقدم ما يتعلق بصلاتهم وحجهم. وقال الحافظ ضياء الدين أبو عبد اللَّه محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي فيما وجدته بخطه: وأنباني به جماعة من شيوخنا عنه: قوله -يعني ابن حبان- قبره بمدين فيه نظر؛ وذلك أن موسى -عليه السلام- سأل ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر، ومدين ليست قريبة من بيت المقدس ولا من الأرض المقدسة. قال: وقد اشتهر أن قبرًا قريبًا من أريحا وهي من الأرض المقدسة يزار ويقال أنه قبر موسى وعنده كثيب أحمر وطريق وحدثنا عنه غير شخص ممن رآه، وحدثني الشيخ سالم التلي قال: ما رأيت استجابة الدعاء أسرع منها عند قبر هذا المذكور (¬1). وحدثني الشيخ عبد اللَّه بن يونس المعروف بالأرموي أنه زار هذا القبر وأنه نام فرأى في منامه قبة في هذا الموضع ورأى فيها شخصًا أسمر فسلم عليه وقال: أنت موسى كليم اللَّه -أو قال: نبي اللَّه- قال: نعم، فقلت: قل لي شيئًا فأومأ إلي بأربع أصابع ووصف طولهن قال: فانتبهت فلم أدر ما قال فجئت إلى الشيخ ذيال ¬

_ (¬1) وهذا اعتقاد فاسد، فاللَّه تعالى لا نحتاج عند دعائنا إياه إلى قبر أو قبة أو واسطة أو غير ذلك، بل كما قاله تعالى في سورة البقرة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} واللَّه المستعان.

فأخبرته بذلك فقال: يولد لك أربعة أولاد، فقلت: قد تزوجت امرأة فلم أقربها فقال: يكون غير هذه، قال: فتزوجت أخرى فولد لي أربعة أولاد. هذا آخر ما نقلته من خط الحافظ ضياء الدين المقدسي وكانت وفاته سنة ثلاث وأربعين وستمائة. والقبة المبنية على هذا القبر الشريف الآن بناها الملك الظاهر -رحمه اللَّه- بعد سنة ستين وستمائة قطعًا فقد رأى الشيخ عبد اللَّه الأرموي القبة على هذا المكان قبل بنائها بأكثر من عشرين سنة، واللَّه سبحانه أعلم. ذكر الثعلبي وغيره أن عمر موسى صلوات اللَّه عليه وسلامه كان لما قبض مائة وعشرين سنة، وكذلك قال وهب بن منبه أنه لما قبض هارون كان لموسى مائة وسبع عشرة سنة وعاش بعده ثلاث سنين، ورواه عن وهب الحاكم في "المستدرك" (¬1). آخره والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى سائر الأنبباء والمرسلين وآل كلٍّ وجميع الصالحين. فرغ من تخريجه خليل بن كيكلدي العلائي الشافعي ببيت المقدس يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة. وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم زادت النسخة المساعدة هنا أبيات شعر: وَأَنْشَدَ الْمُصَنِّف لِنَفْسِهِ: يا طالبًا نهج الفلاة مؤملا ... دركًا تنال به الأمان مكملا عرج على سفح الكثيب وعج به ... إن كنت تبغي أن تكون محصلا واغضض هناك الطرف منك تخشعا ... والزم به الأدب الأتم الأكملا موسى كليم اللَّه ذو الفضل الذي ... ما زال يتلى في الكتاب منزلا ذو المعجزات الباهرات تعددًا ... الواضحات لذي البصائر في الملا منها اليد البيضاء يلمع ضوؤها ... وكذا العصا تسعى شجاعًا هولا ¬

_ (¬1) "المستدرك" (2/ 632).

وله انفلاق البحر أعجز آية ... تمشي الأنام به طريقًا أسهلا والماء من حجر صغير نابع ... من ضربة بعصاه يجري منهلا من خص بالتكليم حقًّا بينًا ... وكذلك الألواح حكما فصلا وله علينا منة في رده الـ ... ـصلوات من خمسين فرضًا سهلا ونبينا من أجلها متردد ... بإشارة منه إلى رب العلا في ليلة كان النبي محمد ... فيها على الرسل الكرام مفضلا خير الأنام ومن له الفضل الذي ... ما مثله وختامهم إذ أرسلا فعليهما وعلى الجميع تحية ... من ربنا وصلاته لن تعطلا ها يا كليم اللَّه يا من فضله ... ما زال للوراد عذبًا سلسلا من توبة مع صحة وكفاية ... والأمن من كل المكاره مجملا والعفو عما قد مضى وصلاح ما ... يأتي به قولًا يكون ومفعلا والختم بالحسنى وتعجيل الدنى ... والفوز في العقبى بفضل أكملا وسلامة من هول نار أججت ... عند الورود وخطبها قد أعضلا صلى عليك اللَّه ثم سلامة ... أبدًا تدوم إلى جنابك مقبلا وعلى النبي المصطفى خير الورى ... وأبيكما فهو الخليل المجتلا وعلى جميع الأنبياء وحبهم ... فرض وقدرهم رفيع في العلا تم الجزء بتخريج الحافظ صلاح الدين بن كيكلدي العلائي الشافعي. سمع هذا الجزء الجماعة الفقيه الفاضل شمس الدين محمد بن حامد بن أحمد المقدسي، وبدر الدين أنس بن محمد بن إسماعيل الحسباني، وشمس الدين محمد بن علي بن عقبة، والشيخ موسى بن عميرة بن موسى المخزومي البيناوي، والشيخ محمد بن علي البلقيني الصعيدي. . . وآخرون في يوم الاثنين خامس شهر رجب سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة عند قبر موسى صلوات اللَّه عليه بالتبة بالقرب من أريحا، وأجزت لهم ما يروى عني بشرطه. كتبه خليل بن كيكلدي بن عبد اللَّه العلائي الشافعي غفر اللَّه له. ثم قرأته بالمكان المذكور مرة ثانية فسمعه القاضي شرف الدين أبو البقاء خالد

ابن القاضي الفاضل عماد الدين بن أبي الفداء إسماعيل بن محمد بن عبد اللَّه بن القيسراني أيده اللَّه، وشمس الدين محمد بن حامد المذكور أعلاه، وشهاب الدين أحمد بن عبد اللَّه بن أيبك، وشمس الدين محمد بن علي بن سلطان المصري الصوفي، وأحمد بن حسن الرباطي المؤذن بالقدس الشريف، والشيخ عبد اللَّه خادم مقام موسى عليه الصلاة والسلام، والصلاح محمد بن محمد بن محمود العجمي الأقباعي بخدمة القاضي شرف الدين بن القيسراني المذكور، وصح ذلك في يوم الأربعاء سادس عشر شهر رجب سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، وأجزت لهم. كتبه خليل بن كيكلدي بن العلائي الشافعي لطف اللَّه به. * * *

رسالة في تفسير قوله عز وجل {إن إبراهيم كان أمة قانتا}

رِسَالَةٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا}

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] أَمَّا بَعْدُ: فهذه رسالة للحافظ العلائي -رحمه اللَّه- في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} شرح فيها الآية الكريمة شرحًا وافيًا فأبرز معانيها، وذكر أن الآية فيه رد على اليهود والنصارى في دعوى كل طائفة منهم أن إبراهيم -عليه السلام- كان منهم، وأيضًا تكلم على الثلاث كذبات المنسوبة إليه وكلام العلماء فيها، إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة التي ستظهر خلال الرسالة إن شاء اللَّه، ثم ختم الرسالة بقصيدة رائعة جدًّا في مدح سيدنا إبراهيم -عليه السلام-.

التوصيف العلمي للنسخة الخطية

التوصيف العلمي للنسخة الخطية اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسخة خطية فريدة لم أظفر بغير ذلك من النسخ الخطية: هي نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية ضمن مجموع تحت رقم (21201) ب. - اسم الناسخ: غير معروف. - نوع النسخ: نسخ معتاد. - عدد الأوراق: 6 ورقات. ثوثيق الكتاب 1 - وجد على طرة النسخة الخطية نسبة هذه الرسالة للإمام العلائي. 2 - روى الحافظ العلائي أحاديث فيها بأسانيده المعروفة وعن شيوخه المعروفين، منهم: - أبو الفضل سليمان بن حمزة. - عيسى بن عبد الرحمن المقدسيان. - إسحاق بن يحيى الأموي. - أبو الربيع بن قدامة الحاكم. وغيرهم.

الورقة الأولى

الورقة الأخيرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال اللَّه تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬1). قال الراغب: الأمة كل جماعة يجمعهم أمر ما إما دين واحد أو زمان واحد أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرًا أو اختيارًا (¬2). ثم قال بعد ذلك (¬3): وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أي: قائمًا مقام جماعة في عبادة اللَّه نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة، وكما روي أنه يحشر زيد بن عمرو أمة وحده (¬4). وذكر صاحب "الكشاف" (¬5) في معنى قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} وجهين: أَحَدُهُمَا: نحو الذي أشار إليه الراغب، أي: كان وحده أمة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير كقول بعضهم: وليس على اللَّه بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد قال مجاهد: كان مؤمنًا وحده والناس كلهم كفار. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أن يكون أمة بمعنى مأموم، أي: يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير، أو بمعنى مؤتم به كالراحلة وما أشبهها مما جاء من فعلة بمعنى مفعول، فيكون مثل ¬

_ (¬1) النحل: الآية 120 - 123. (¬2) "مفردات القرآن" (1/ 55). (¬3) "مفردات القرآن" (1/ 55). (¬4) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (8187، 8188) من حديث أسماء وزيد بن حارثة، والحاكم (3/ 238) من حديث زيد بن حارثة، وصححه. (¬5) "الكشاف" (1/ 671).

قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (¬1). وقال ابن مسعود عند ذكر معاذ -رضي اللَّه عنه-: إن معاذًا كان أمة قانتًا للَّه. ثم قال: الأمة: معلم الخير، والقانت: المطيع للَّه ورسوله (¬2). وأصل القنوت: لزوم الطاعة والخضوع، وفسر بكل منهما قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬3). وَقِيلَ: القنوت القيام، وبه فسر قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لما سئل: أي الصلاة أفضل؟ قال: "طُولُ القُنُوتِ" (¬4)، لكنه ليس مطلق القيام، بل القيام مع الخضوع فيكون هنا معنى القانت: القائم بما أمره اللَّه. و"الحنيف": المائل إلى ملة الإسلام غير الزائل عنه. و"الحنف": هو الميل عن الضلال إلى الاستقامة، وتحنف الرجل: إذا تحرى طريق الاستقامة. وكان العرب تسمي كل من اختتن أو حج حنيفًا، تنبيهًا على أنه على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومنه ما جاء في بعض روايات بدء الوحي: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يجاور في حراء في كل سنة شهرًا، وكان ذلك مما تحنف به قريش في الجاهلية. والتحنف: التبرر، قال السهيلي: لأنه من الحنيفية دين إبراهيم -عليه السلام- (¬5). ثم أكد سبحانه وتعالى ذلك بنفي الشرك عنه؛ ردًّا على قريش في زعمهم أنهم على ملة إبراهيم -عليه السلام- وهم مشركون وهو عليه الصلاة والسلام لم يكن مشركًا بل كان حنيفًا على دين الإسلام. أخبرنا شيخنا أبو الفضل سليمان بن حمزة وعيسى بن عبد الرحمن المقدسيان بقراءتي على كل منهما قال: أنا جعفر بن علي المقرئ، أنا أبو طاهر أحمد بن محمد ¬

_ (¬1) البقرة: الآية 124. (¬2) "الكشاف" (1/ 671). (¬3) البقرة: الآية 238. (¬4) رواه مسلم (756) من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-. (¬5) "الروض الأنف" (ص 115).

الحافظ، أنا أحمد بن عبد الغفار بن أشتة، ثنا محمد بن علي الحافظ، أنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الفقيه، ثنا القاسم بن زكريا، ثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه وأحمد بن سفيان وفياض بن زهير قالوا: ثنا عبد الرزاق، أبنا معمر. (ح) وأنا أعلى من هذا بدرجة الرباني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الطبري بقراءتي عليه بمنى شرفها اللَّه تعالى، أنا علي بن هية اللَّه بن سلامة الفقيه، أخبرتنا الكاتبة شهدة بنت أحمد الإبري، أنا الحسين بن أحمد بن طلحة، أنا علي بن محمد بن بشران، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا أحمد بن منصور الرمادي، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما رأى الصور في البيت -يعني الكعبة- لم يدخل حتى أمر بها فمحيت ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال: "قَاتَلَهُمُ اللَّه، وَاللَّهِ مَا اسْتَقْسَمَا بِالْأَزلَامِ قَطُّ". هذا لفظ الرواية الثانية، وفي الرواية الأولى "قاَتلَهُمُ اللَّهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا قَطُّ". أخرجه البخاري في "صحيحه" (¬1) عن إبراهيم بن موسى، عن هشام بن يوسف، عن معمر به، ورواه أيضًا بنحوه (¬2) من حديث كريب عن ابن عباس، وهو في "صحيح مسلم" من هذا الوجه. وتحتمل الآية هنا الرد أيضًا على اليهود والنصارى في دعوى كل طائفة منهم أن إبراهيم -عليه السلام- كان منهم كما في قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬3)؛ لأن كلًّا من ملة اليهود والنصارى مشتملة على الشرك كما أخبر اللَّه سبحانه عنهم. قال ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهما من أهل التفسير: اجتمع يهود المدينة ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3352). (¬2) "صحيح البخاري" (4289). (¬3) آل عمران: الآية 67.

ونصارى نجران عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتنازعوا في إبراهيم -عليه السلام- فقالت اليهود: ما كان إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيًّا، فأنزل اللَّه هذه الآية {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا}. . . (¬1) الآية. وقوله تعالى: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} الشكر: تصور النعمة وإظهارها، وقيل: هو مقلوب عن الكشر، أي: الكشف، والشكر يكون بالقلب: وهو تصور النعمة كما ذكرنا، وباللسان: وهو الثناء على المنعم، وبسائر الجوارح: وهو مكافاة النعمة بالطاعات، ومنه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا" (¬2) لما عذل في كثرة الصلاة. قال بعض المفسرين: كان شكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفًا فأخذ غداءه فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فتجملوا له وخيلوا له أن بهم جذامًا فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم شكرًا للَّه على أن عافاني وابتلاكم. أخبرنا أبو الربيع بن قدامة الحاكم، أنا جعفر الهمداني، أبنا أبو طاهر السلفي، أنا القاسم بن الفضل، أنا علي بن محمد السكري، أنا أحمد بن محمد الجوزي، ثنا عبد اللَّه بن محمد بن أبي الدنيا، ثنا محمد بن عبد اللَّه بن المبارك، ثنا أبو أسامة، ثنا محمد ابن عمرو، ثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "كَانَ أَوَّلُ مَنْ ضَيَّفَ الضَّيْفَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ" (¬3). هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وأخبرنا إسحاق بن يحيى الأموي، أنا يوسف بن خليل الحافظ، أنا خليل بن أبي الرجاء [الراراني] (¬4) ومحمد بن أحمد الصيدلاني قال: أنا الحسن بن أحمد المقرئ ¬

_ (¬1) آل عمران: الآية 67. (¬2) رواه البخاري (1130)، ومسلم (2819) من حديث المغيرة -رضي اللَّه عنه-. (¬3) رواه البيهقي في "شعب الايمان" (7/ 97 رقم 9615) من طريق أحمد بن محمد الجوزي. (¬4) في الأصل: الرازي. وهو تصحيف، والراراني براءين مفتوحتين نسبة إلى راران قرية من قرى أصبهان، قاله السمعاني (3/ 22).

والثاني حاضر أنا أحمد بن عبد اللَّه الحافظ، ثنا محمد بن جعفر بن الهيثم، ثنا إبراهيم ابن إسحاق الحربي، ثنا ابن الأصبهاني، ثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يأتيه اللَّه بالضيف ليأجره، قال: فاحتبس عليه الضيف ثلاثًا فقال لسارة: لقد احتبس عنا الضيف وما نراه احتبس عنا إلا لما يرى من شدتنا على خدمنا افعلوا وافعلوا، فإن جاء ضيف لا يخدمه غيري وغيرك (¬1). وبه إلى الحربي ثنا محمد بن سهل، ثنا عبد الرزاق، ثنا أبي، أن عمر بن زيد أخبره عن عمرو بن دينار قال: لما تضيفه الملائكة إبراهيم -عليه السلام- قدم العجل فقالوا: لا نأكل إلا بثمن، قال: فكلوه وأدوا ثمنه، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تسمون للَّه إذا أكلتم وتمجدونه إذا فرغتم. قال: فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: بهذا اتخذك اللَّه خليلًا (¬2). والاجتباء: أصطفاء اللَّه سبحانه إياه وتخصيصه بأنواع النعم من النبوة والرسالة والخلة وغير ذلك. والهداية: الدلالة والإرشاد. والمراد بالصراط المسقيم: ملة الإسلام. واختلف في المراد بالحسنة من قوله: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}: فَقِيلَ: البركة في الأموال والأولاد. وَقِيلَ: هي الخلة التي اصطفاه اللَّه بها، قال اللَّه تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (¬3). وقال قتادة: هي تنويه اللَّه بذكره حتى ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه. وَقِيلَ: هي صلاة اللَّه عليه، وهي المعنية يقول المصلي منا: "كما صَلَّيْتَ عَلَى ¬

_ (¬1) رواه الحربي في "إكرام الضيف" (ص 59) كما رواه من طريقه المصنف. (¬2) رواه الحربي في "إكرام الضيف" (ص 51) كما رواه من طريقه المصنف. (¬3) النساء: الآية 125.

إِبْرَاهِيمَ" كما أخبرنا عبد القادر بن يوسف الخطيري ومحمد بن عبد الرحيم القرشي قال الأول: أنا عبد الوهاب بن ظافر، وقال الثاني: أنا يوسف الساوي قال: أنا أحمد ابن محمد الأصبهاني الحافظ، أنا نصر بن أحمد بن البطر، أنا عبد اللَّه بن عبيد اللَّه، ثنا الحسن بن إسماعيل، ثنا يوسف بن موسى، ثنا جرير ومحمد بن فضيل -واللفظ لجرير- قال: ثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة -رضي اللَّه عنه- قال: لما نزلت {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}. . الآية [الأحزاب: 56]، سألنا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصلاة قال: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَبَارِك عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآل إِبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ". هذا حديث صحيح اتفقوا على إخراجه من طرق كثيرة بنحو هذا إلى عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة (¬1)، واتفقا أيضًا على إخراجه من رواية أبي حميد الساعدي (¬2)، وانفرد به البخاري (¬3) من حديث أبي سعيد الخدري، ومسلم (¬4) من حديث أبي مسعود الأنصاري. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} يعني: من أهل الجنة. أخبرنا يوسف بن محمد بن إبراهيم ومحمد بن أبي بكر بن مشرف بقراءتي عليهما قال الأول: أنا إسماعيل بن إبراهيم التنوخي، أنا بركات بن إبراهيم المقدسي، أنا عبد الكريم بن حمزة، أنا الحافظ أحمد بن علي الخطيب. (ح) وقال شيخنا الثاني: أنبأنا علي بن عبد اللَّه البغدادي، عن الفضل بن سهل، عن الخطيب، أنا القاسم بن جعفر الهاشمي، أنا محمد بن أحمد اللؤلؤي، ثنا سليمان ابن الأشعث (¬5) الحافظ، ثنا زياد بن أيوب، ثنا عبد اللَّه بن إدريس، عن مختار بن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4797)، ومسلم (406). (¬2) رواه البخاري (3369)، ومسلم (407). (¬3) "صحيح البخاري" (4798). (¬4) "صحيح مسلم" (405). (¬5) "سنن أبي داود" (4672).

فلفل، يذكر عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: قال رجل لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا خير البرية، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذَاكَ إِبرَاهِيمُ -عليه السلام-". أخرجه مسلم (¬1) والترمذي (¬2) أيضًا من هذا الوجه وزاد "ذَاكَ إِبرْاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ". وثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْر" (¬3)، وطريق الجمع بينه وبين هذا الحديث من وجهين: أَحَدُهُمَا: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال ذلك قبل أن يعلمه اللَّه بأنه أفضل من سائر الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم لما أعلمه اللَّه بذلك بينه للناس. وَالثَّانِي وهو الأقوى: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال ذلك على وجه التواضع والاحترام لإبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم- لخلته وأبوته، ولبيان ما يجب له من التوقير والاحترام، ولذلك لما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ" أتبعه بقوله: "وَلَا فَخْر" ليبين -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه لم يقل ذلك على وجه الافتخار والتطاول على من تقدمه بل قاله بيانًا لما أمر ببيانه، واللَّه سبحانه أعلم. وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}. . الآية، ثم في هذه الآية إعلام بتعظيم منزلة نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- وإجلال محله، والإيذان بأن من أشرف ما أوتي خليل اللَّه إبراهيم عليه الصلاة والسلام اتباع نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- إياه واقتداؤه به، فهذا وجه تعلق المعطوف بالمعطوف عليه، وذكر بعض المفسرين أن أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذه الآية باتباع إبراهيم -عليه السلام- أريد به اتباعه إياه في مواقف الحج، وذكر في ذلك حديثًا في إسناده ضعف عن عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "جاء جبريل -عليه السلام- إلى إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم- فراح به إلى منى فذكر كيفية مناسك الحج. . . " وقال في آخره: "فأوحى اللَّه إلى محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا". وهذا الحديث غير ثابت لما بينا من ضعف إسناده (¬4). ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (2369). (¬2) "جامع الترمذي" (3352). (¬3) رواه مسلم (2278) من حديث أبي هريرة. (¬4) رواه ابن أبي شيبة (3/ 332).

والأقرب حمل الأمر هنا على العموم في اتباع إبراهبم عليه الصلاة والسلام في كل شيء إلا ما نسخه اللَّه من ذلك؛ لأنه نقدم أن هذه الآيات بين اللَّه بها أن إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا ولم يكن مشركًا ردًّا على المشركين في دعواهم أنهم على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهم مشركون وهو صلوات اللَّه عليه لم يكن مشركًا، فناسب ذلك الأمر للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باتباع ملة إبراهيم في دين الإسلام والتوحيد وأعماله، وتندرج أفعال الحج تحت ذلك، وحمل اللفظ على العموم مهما أمكن أولى، واللَّه أعلم. أخبرنا أبو بكر بن إبراهيم بن عبد الدائم، أنا محمد بن إبراهيم الأربلي، أخبرتنا شهدة بنت أحمد الإبري. (ح) وقرأت على محمد بن عبد الرحيم، أخبرك يوسف بن محمود الصوفي، أنا أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي قال: أنا نصر بن البطر، أنا عبد اللَّه بن البيع، ثنا الحسين المحاملي، ثنا علي بن شعيب، ثنا سفيان بن عيينة قال: سمع عمرو يعني ابن دينار -عمرو بن عبد اللَّه بن صفوان يحدث، عن يزيد بن شيبان -رضي اللَّه عنه- قال: كنا وقوفًا بعرفة في مكان بعيد من الموقف يباعده عمرو؛ فأتانا ابن مربع الأنصاري -رضي اللَّه عنه- فقال: إني رسول رسول اللَّه إليكم يقول:"كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكمُ هذهِ فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثِ إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام-". أخرجه أبو داود (¬1) عن عبد اللَّه بن محمد النفيلي، والترمذي (¬2) والنسائي (¬3)، عن قتيبة بن سعيد، وابن ماجه (¬4) عن أبي بكر بن أبي شيبة، ثلاثتهم عن سفيان بن عيينة به فوقع بدلًا لهم عاليًا، وقال الترمذي: حديث حسن، وابن مربع اسمه يزيد بن مربع الأنصاري وإنما يعرف له هذا الحديث الواحد. قلت: وذكر غيره أن اسم ابن مربع هذا زيد، وقيل: عبد اللَّه، وهو من ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1919). (¬2) "جامع الترمذي" (883). (¬3) "سنن النسائي" (5/ 255). (¬4) "سنن ابن ماجه" (3011).

الأوس -رضي اللَّه عنه-. و"مربع" بكسر الميم ثم راء ساكنة ثم باء موحدة مفتوحة وعين مهملة. أخبرنا علي بن محمد البندنيجي، أنا محمد بن علي البغدادي بها، أنا عبد العزيز بن الأخضر الحافظ، أنا عبد الملك بن أبي القاسم الكروخي. (ح) قال شيخنا: وأنبأنا عبد الخالق بن أنجب، عن الكروخي هذا، أنا محمود ابن القاسم الأزدي وعبد العزيز بن محمد الترياقي وأحمد بن عبد الصمد الغورجي قالوا: أبنا عبد الجبار بن محمد الجراحي. (ح) وقرأت على القاسم بن مظفر الدمشقي، أخبرك القاضي أبو نصر محمد بن هبة اللَّه بن مميل حضورًا، أنا نصر بن سيار كتابة، أنا أبو عامر الأزدي، أنا الجراحي، أنا محمد بن أحمد المحبوبي، ثنا محمد بن عيسى الحافظ، ثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو أحمد -يعني الزبيري- ثنا سفيان، عن أبيه، عن أخبرنا الضحى، عن مسروق، عن عبد اللَّه -هو ابن مسعود- رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِن لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً مِنَ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ وَلِيِّي أَبِي وَخَلِيلُ رَبِّي"، ثم قرأ {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]. هكذا أخرجه الترمذي في "جامعه" (¬1) ثم رواه من حديث أبى نعيم عن سفيان الثوري، ولم يذكر فيه مسروقًا وقال: هذا أصح. أخبرنا العلامة أبو (إسحاق) (¬2) العباس أحمد بن إبراهيم الفزاري الخطيب قراءة عليه وأنا أسمع سنة 703، أنا العلامة أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح، أنا المؤيد بن محمد الطوسي، أنا محمد بن الفضل الصاعدي أنا عبد الغافر ابن محمد الفارسي، أنا أحمد بن عمرويه، ثنا إبراهيم بن سفيان، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث. (ح) قال: وثنا محمد بن رمح، أنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي اللَّه عنه- أن ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (2995). (¬2) كذا في الأصل!! وهي زائدة.

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قاله: "عُرِضَ عَلَيَّ الأَنْبِيَاءُ -عليهم السلام- فإذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِذَا أَقرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ" يعني نفسه صلى اللَّه عليهما وسلم. . . وذكر بقية الحديث. كذا أخرجه مسلم في "الصحيح" (¬1). ورواه أيضًا من حديث أبي هريرة: أخبرناه أبو محمد بن أبي غالب العساكري سماعًا عليه، عن أخبرنا الوفاء محمود بن إبراهيم العبدي، أنا الحسن بن العباس الرستمي، أنا عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق بن منده، أنا أبي، أنا محمد بن الحسين بن الحسن، ثنا أحمد بن يوسف السلمي. (ح) قال: وأنا علي بن العباس، ثنا محمد بن حماد قال: ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-:"حِينَ أُسرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. . . فَنَعَتَهُ -فَإِذَا رَجُلٌ حَسِبْتُهُ قَالَ: مُضْطَربٌ- رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَلَقِيتُ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، قَالَ: وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ". أخرجه البخاري (¬2) عن محمود، ومسلم (¬3) عن محمد بن رافع وعبد بن حميد، والترمذي (¬4) عن محمود بن غيلان، كلهم عن عبد الرزاق به على البدلية. أخبرنا أبو عبد اللَّه محمد بن أبي العز بن بيان وآخرون قالوا: أنا الحسين بن المبارك، أنا عبد الأول بن عيسى، أنا عبد الرحمن بن محمد، أنا عبد اللَّه بن أحمد، أنا محمد بن يوسف، ثنا الإمام محمد بن إسماعيل، ثنا مؤمل، ثنا إسماعيل، ثنا عوف، ثنا أبو رجاء، ثنا سمرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ فَأَتَيْنَا عَلَى ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (167). (¬2) "صحيح البخاري" (3437). (¬3) "صحيح مسلم" (168). (¬4) "جامع الترمذي" (3130).

رَجُلٍ طَوِيلٍ لَا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا وَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ". كذا رواه مختصرا (¬1). وبهذا الإسناد إلى الإمام البخاري (¬2) قال: ثنا قتيبة ين سعيد، ثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدومِ". وبه (¬3) قال: ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، ثنا أبو الزناد به، وقال "بِالْقَدُوم" مخففة، كذا وقع في "صحيح البخاري" بالروايتين، ورواة "صحيح مسلم" متفقون على رواية هذا الحديث فيه "بِالْقَدُومِ" مخففا. وهذه اللفظة تحتمل أن تكون الآلة التي للنجار فيكون إبراهيم صلوات اللَّه عليه اختتن بها، ويحتمل أن يكون موضعًا اختتن به، قالوا: وهو مكان بالشام، ويقال له: قدوم بالتشديد والتخفيف، وأما آلة النجار فيقال بالتخفيف لا غير، وجمهور الرواة على التخفيف، والأكثرون على أن المراد به الآلة، واللَّه أعلم. والختان هذا من جملة الكلمات التي أخبر اللَّه سبحانه عنها بقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}. . . (¬4) الآية في قول جمهور المفسرين، والمعنى: وإذا ابتلى إبراهيم ربه بإقامة كلمات أو بتوفية كلمات. قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أوحى اللَّه تعالى إلى إبراهيم: يا خليلي تطهر، فتمضمض، فأوحى اللَّه إليه أن تطهر، فاستاك، فأوحى اللَّه إليه أن تطهر، فأخذ من شاربه، فأوحى إليه أن تطهر، ففرق شعره، فأوحى إليه أن تطهر فحلق عانته، فأوحى إليه أن تطهر فنتف إبطيه، فأوحى إليه أن تطهر فقلم أظفاره، فأوحى إليه أن تطهر، فأقبل بوجهه على جسده ينظر ماذا يصنع فاختتن وهو ابن عشرين ومائة ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3354). (¬2) "صحيح البخاري" (3356). (¬3) "صحيح البخاري" (6298). (¬4) البقرة: الآية 124.

سنة. أخبرنا سليمان بن حمزة الحاكم وعيسى بن إبراهيم وأحمد بن أبي طالب بقراءتي على كل منهم قالوا: أنا عبد اللَّه بن عمر الحريمي، أنا مسعود بن محمد بن عبد الواحد، أنا الحسين بن محمد السراج ومحمد بن محمد العطار قالا: أنا الحسن بن أحمد ابن شاذان، أنا علي بن محمد بن الزبير، ثنا الحسن بن علي بن عفان، ثنا جعفر بن عون، ثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: اختتن إبراهيم خليل اللَّه عليه الصلاة والسلام وهو ابن عشرين ومائة سنة، ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة. قال سعيد بن المسيب: وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من اختتن وأول من رأى الشيب، قال: فقال: يا رب ما هذا؟ قال: فقيل له: وقار، قال: رب زدني وقارًا، وأول من أضاف الضيف، وأول من قص أظافيره وأول من جز شاربه، وأول من استحد. كذا وقع في هذه الرواية أنه اختتن وهو ابن مائة وعشرين سنة. وكذلك رواه مالك في "الموطأ" (¬1) عن يحيى بن سعيد كما رويناه وهو موقوف أيضا، والصحيح ما تقدم مرفوعًا في "الصحيحين" أنه -عليه السلام- اختتن وهو ابن ثمانين سنة، واللَّه أعلم. أخبرنا سليمان بن حمزة الحاكم ومحمد بن محمد بن الشيرازي ويحيى بن محمد بن سعد قالوا: أنبانا الحسن بن يحيى بن صباح، وقال الأول أيضًا: أنبأنا محمد بن عمار الحراني قال: أنا عبد اللَّه بن رفاعة السعدي، أنا علي بن الحسن الخلعي، أنا عبد الرحمن بن عمر بن النحاس. (ح) وأنا القاسم بن مظفر وأبو نصر محمد بن محمد المري، كلاهما عن محمود ابن إبراهيم بن منده، أنا الحسن بن العباس الفقيه، أنا أبو عمرو عبد الوهاب، أنا أبي الحافظ محمد بن إسحاق قال: ثنا أبو طاهر أحمد بن عمرو المديني. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1710) عن يحيى، عن سعيد بن المسيب.

(ح) وأنا أبو الربيع بن قدامة الحنبلي وأبو نصر بن مميل وأبو محمد بن أبي غالب الدمشقيان قالوا: أنبانا محمد بن عبد الواحد المديني، أنا محمد بن أحمد الباغبان، أنا إبراهيم بن محمد الطيان، أنا إبراهيم بن عبد اللَّه التاجر، ثنا الإمام أبو بكر عبد اللَّه ابن زياد النيسابوري قال: ثنا يونس بن عبد الأعلى، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "نَحْنُ أَحَقُّ بالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. قال: "وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ" لفظهم واحد. هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬1) عن أحمد بن صالح، ومسلم (¬2) عن حرملة بن يحيى، كلاهما عن ابن وهب فوقع بدلًا لهما عاليًا. ورواه ابن ماجه (¬3) عن يونس بن عبد الأعلى به فوافقناه بعلو. قال الإمام أبو إبراهيم المزني وجماعة من العلماء: هذا الحديث يدل على نفي الشك في إحياء الموتى عن إبراهيم واستحالته في حقه، ومعناه أنه لو كان الشك في إحياء الموتى متطرفًا إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لكنت أنا أحق به من إبراهيم وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أن إبراهيم -عليه السلام- لم يشك، ويكون قال -صلى اللَّه عليه وسلم- هذا إما على وجه الأدب كما تقدم في حديث: "يَا خَيْرَ الْبَريَّةِ" أو أراد أمته الذين يجوز عليهم الشك، وذكر في الحديث وجهان آخران: أَحَدُهُمَا: أنه خرج مخرج العادة في الخطاب من غير تصور شك من أحد منهما كما يقول من يريد المدافعة عن إنسان لم يقصده: ما كنت قائلًا لفلان أو فاعلًا معه من مكروه فقله لي أو افعله معي، ومقصوده أن لا يقع شيء له ولا لذاك. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3372). (¬2) "صحيح مسلم" (151). (¬3) "سنن ابن ماجه" (4026).

والْوَجْهُ الثَّانِي: أن هذا الذي يظنونه شكًّا أنا أولى به؛ فإنه ليس بشك ولكنه طلب لمزيد اليقين، وهذا على أحد التأويلات المذكورة في قول إبراهيم -عليه السلام-: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (¬1). قالوا: فسأل زيادة اليقين وقوة الطمانينة كان لم يكن في الأول شك؛ إذ العلوم النظرية والضرورية قد تتفاضل في قوتها فأراد الانتقال من النظر إلى المشاهدة والترقي من علم اليقين إلى عين اليقين فليس الخبر كالمعاينة، قال سهل بن عبد اللَّه التستري -رحمه اللَّه-: سأل كشف غطاء العيان ليزداد بنور اليقين تمكنًا في حاله. وَفِي الآيَةِ وُجُوهٌ أُخَر لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ: مِنْهَا وَهُوَ أَظْهَرُهَا: أنه -عليه السلام- أراد الطمانينة بعلم كيفية الإحياء مشاهدة بعد العلم بها استدلالًا، فإن علم الاستدلال قد تتطرق إليه الشكوك بخلاف علم المعاينة فإنه ضروري ويكون معنى قوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} استفهام الإيجاب كقول جرير: *ألستم خير من ركب المطايا* يعني: أنتم كذلك. وَمِنْهَا: ما روي عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- وسعيد بن جبير والسدي أن ملك الموت -عليه السلام- استأذن ربه أن يأتي إبراهيم -عليه السلام- فيبشره بأن اللَّه اتخذه خليلًا فأتاه وبشره بذلك فحمد اللَّه وقال: ما علامة ذلك؟ قال: أنه يجيب دعاءك ويحيي الموتى بسؤالك، فقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: رب أرني كيف تحيي الموتى، وأراد بذلك زيادة الطمانينة في أنه هو الخليل. ويكون معنى قوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} أي: ألم تصدق بعظم منزلتك عندي واصطفائك وخلتك. وفيه أيضًا وجوه أخر غير ذلك، واللَّه سبحانه أعلم. أخبرنا محمد بن أبى الهيجاء بقراءتي عليه، أنا الحسن بن محمد بن محمد بن ¬

_ (¬1) البقرة: الآية 260.

البكري، أنا عبد المعز بن محمد الهروي، أنا تميم بن أبي سعيد الجرجاني، أنا علي بن محمد البحاثي، أنا محمد بن أحمد الزوزني، أنا محمد بن حبان الحافظ، أنا الحسن بن سفيان والحسين بن عبد اللَّه القطان وابن قتيبة قالوا: ثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، ثنا أبي، عن جدي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر -رضي اللَّه عنه- قال: دخلت المسجد فإذا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جالس وحده. . . فذكر الحديث بطوله، وفيه: قلت: يا رسول اللَّه كم كتاب أنزل اللَّه؟ قال: "مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وأنزل على اخنوخ ثلاثين صحيفة، وأنزل على إبراهيم -عليه السلام- عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان". قال: قلت: يا رسول اللَّه ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: "كانت أمثالًا كلها أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن تكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيها في صنع اللَّه، وساعة يخلو فيها لحاجة من المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنًا إلا لثلاث: تزودٍ لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم، وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه مقبلًا على شانه حافظًا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه". قلت: يا رسول اللَّه فما كانت صحف موسى؟ قال: "كانت عبرًا كلها: عجيب لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، عجيب لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك، عجيب لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، عجيب لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم هو يطمئن إليها، وعجيب لمن أيقن بالحساب غدًا ثم لا يعمل. . . " وذكر بقية الحديث بطوله. كذا أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬1) بتمامه. ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (361).

أخبرنا شيخنا أبو الفضل سليمان بن حمزة وعيسى بن معالي وعبد الأحد بن أبي القاسم الحنبليون بقراءتي قالوا: أنا عبد اللَّه بن اللتي، أنا سعيد بن أحمد بن البنا حضورًا، أنا محمد بن محمد الزينبي، أنا محمد بن عمر بن زنبور، ثنا عبد اللَّه بن سليمان الحافظ، ثنا علي بن محمد بن أبي الخصيب، ثنا وكيع، عن مسعر، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: قام فينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالموعظة فقال: "إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ عُرَاةً غُرْلًا، فَأَوَّلُ الخَلَائِقِ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ -عليه السلام- يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْكُمْ فَيُؤْخَذُ بهِم ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابي، فَيُقَالُ: إنَّكَ لَا تَدْرى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ}. . . [المائدة: 117] الآيتين". رواه البخاري في "الصحيح" (¬1) عن محمد بن كثير، عن سفيان الثوري، عن المغيرة بن النعمان به. والمراد بهؤلاء الذين ذكروا في هذا الحديث هم أهل الردة الذين ارتدوا بعد وفاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، واللَّه أعلم. وأخبرنا محمد بن مشرف التاجر وأحمد بن أبي طالب المعمر ووزيرة بنت عمر ابن أسعد قالوا: أنا الحسين بن أبي بكر الربعي، أنا أبو الوقت عبد الأول، أنا عبد الرحمن بن المظفر، ثنا عبد اللَّه بن حمويه، أنا محمد بن يوسف، ثنا الإمام محمد بن إسماعيل، ثنا إسماعيل بن عبد اللَّه، أخبرني أخي عبد الحميد، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ؛ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِهِ أثَرُ قَتَرَةٍ وَغَبَرَةٍ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تعْصِنِي، فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ -عليه السلام-: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَني أَنْ لَا تُخْزنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَأيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ: مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3349).

كذا رواه البخاري (¬1). و"الذيخ" بكسر الذال المعجمة وإسكان الياء آخر الحروف وبعدها خاء معجمة وهو ذكر الضباع، والأنثى منه ذيخة. ومعنى الحديث أن اللَّه تعالى يغير صورة أبي إبراهيم -عليه السلام- على هيئة ضبع ذكر متلطخ إما برجيعه أو بالطين، كما جاء في رواية في الحديث في غير "الصحيح": "بِذِيخِ أَمْدَر" أي: متلطخ بالمدر فيزول عنه ما عده من عذاب اللَّه، واللَّه سبحانه أعلم. وبه إلى البخاري (¬2): ثنا عبيد اللَّه بن موسى أو ابن سلام عنه، أنا ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير، عن سعيد بن المسيب، عن أم شريك -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بقتل الوزغ وقمال: "كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام-" يعني: لما ألقي في النار. وبه ثنا أحمد بن يونس، ثنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- قال: "حسبنا اللَّه ونعم الوكيل" قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار، وقالها محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم (¬3). وبه ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، ثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: كان آخر قول إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم- حين ألقي في النار: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل (¬4). أخبرنا القاسم بن مظفر الدمشقي، عن محمود بن إبراهيم الأصبهاني قالا: أنا الإمام أبو عبد اللَّه الرستمي، أنا أبو عمرو بن منده، أنا أبي الحافظ أبو عبد اللَّه، أنا محمد بن يونس، ثنا الحسين بن محمد بن زياد، ثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا: ثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: أتعجبون أن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3350). (¬2) "صحيح البخاري" (3359). (¬3) "صحيح البخارى" (4563). (¬4) "صحيح البخاري" (4564).

تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وبه إلى أبي عبد اللَّه بن منده: أنا محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، ثنا عبدة بن عبد اللَّه، ثنا محمد بن بشر، حدثني أبو حيان التيمي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: أتي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومًا بلحم فرفع إليه الذراع فكان يعجبه (¬2) فنهش منها نهشة فقال: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَلْ تَدْرُونَ لِمَ ذَلِكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ تعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوَّلينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ مِنْهُمْ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْكَرْبِ والْغَمِّ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ألَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلَا تَرَوْنَ إِلَى مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ. . . " فذكر الحديث، وفيه: "فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام- فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ -وَذَكَرَ كَذبَاتَهُ- نَفْسِي نَفْسِي. . . " وذكر بقية الحديث. وهو متفق عليه من هذا الوجه بتمامه (¬3). وكذباته التي أشار إليها -صلى اللَّه عليه وسلم- ليست كذبات على الحقيقة؛ وإنما هي كما أخبرنا محمد بن مشرف ومن معه ذكر بسندهم المتقدم إلى البخاري: ثنا محمد بن محبوب، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد -يعني ابن سيرين- عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: لم يكذب إبراهيم -عليه السلام- إلا ثلاث كذبات ثنتين منهم في ذات اللَّه، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، قال: وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له: إن ها هنا رجلًا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فسأله عنها فقال: من هذه؟ ¬

_ (¬1) رواه النسائي في "الكبرى" (11539)، والحاكم (2/ 309). (¬2) في "الصحيحين": وكانت تعجبه. (¬3) رواه البخاري (4712)، ومسلم (194).

قال: أختي، فأتى سارة فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني، فأرسل اليها فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ، فقال: ادعي اللَّه لي ولا أضرك، قال: فدعت اللَّه فأطلق، ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد فقال: ادعي اللَّه لي ولا أضرك فأطلق، فدعا بعض حجبته فقال: لم تأتني بإنسان إنما أتيتني بشيطان، فأخدمها هاجر فأتته وهو قائم يصلي فأوما بيده مهيا؟ قالت: رد اللَّه كيد الكافر أو الفاجر في نحره وأخدم هاجر. قال أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-: فتلك أمكم يا بني ماء السماء (¬1). كذا أخرجه موقوفًا، ورواه قبل ذلك مختصرًا عن سعيد بن تليد، عن ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ -عليه السلام- إِلَّا ثَلَاثًا" (¬2). قال العلماء رحمهم اللَّه: هذه الثلاث كلها خارجة عن الكذب لا في القصد ولا في غيره وهي داخلة في باب المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب: أما قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} (¬3) فقصد به أنه سقيم القلب مما شاهده من كفرهم وعنادهم. وَقِيلَ: بل كانت الحمى تأخذه عند طلوع نجم معلوم فلما رآه اعتذر بعادته. وَقِيلَ: بل سقيم بما قدر علي من الموت، وكل هذا ليس فيه كذب بل هو صدق صحيح. وأما قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} (¬4) فإنه علق خبره بشرط نطقه كأنه قال: إن كان ينطق فهو فعله على طريق التبكيت لقومه، وهذا صدق أيضًا ولا خلف فيه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3358). (¬2) رواه البخاري (3357). (¬3) الصافات: الآية 89. (¬4) الأنبياء: الآية 63.

وأما قوله: "أختي" فقد بين في الحديث وقال: إنك أختي في الإسلام وهو صدق أيضًا. وأما قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث الشفاعة: "وَيَذْكُرُ كَذَبَاتِهِ"، وقوله: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثًا" فمعناه أنه لم يتكلم بكلام صورته سورة الكذب وإن كان حقًّا في الباطن إلا هذه الكلمات، ولما كان مفهوم ظاهرها خلاف باطنها أشفق إبراهيم عليه الصلاة والسلام منها أن يؤاخذ بها لعلي مقامه. وأما قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثنتين منها في ذات اللَّه" فلأن المتعلق بسارة [. . .] (¬1) بفعاله وخطأ وإلا فهي في ذات اللَّه أيضًا؛ لأنها تسبب بها عن دفع كافر عن مواقعة فاحشة عظيمة. وعند الترمذي (¬2) في حديث الشفاعة من رواية أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-: فيقول إبراهيم: إني كذبت ثلاث كذبات، ثم قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا مِنْهَا كَذِبَةٌ إِلَّا مَا حَلَ بِها عَنْ دِينِ اللَّهِ"، فبين النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن هذه الكذبات ليست داخلة في مطلق الكذب المفهوم، بل لو لم يكن لها وجه كانت جائزة لما تتضمنه من إعلاء كلمة اللَّه ودفع المفسدة عن سارة -رضي اللَّه عنه-، واللَّه سبحانه أعلم. أخبرنا أبو الفضل سليمان بن حمزة وعيسى بن عبد الرحمن المقدسيان قالا: أنا جعفر بن علي المقرئ، أنا أحمد بن محمد السلفي الحافظ، أنا أحمد بن عبد الغفار بن أشتة، ثنا محمد بن علي النقاش الحافظ، أنا الحسين بن محمد التستري، ثنا عبد اللَّه بن محمد بن زياد، ثنا أحمد بن حفص، حدثني أبي، حدثني إبراهيم بن طهمان، عن عباد بن إسحاق، عن محمد بن عبد اللَّه، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أنه قال: كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يزور إسماعيل -عليه السلام- على البراق وهي دابة جبريل تضع حافرها حيث ينتهي طرفها، وهي الدابة التي ركبها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة أسري به (¬3). ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في الأصل. (¬2) "جامع الترمذي" (3148). (¬3) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (6/ 239).

روي عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولد بغوطة دمشق بقرية يقال لها برزة (¬1). قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: الصحيح أنه ولد بكوثى من إقليم بابل بالعراق؛ وإنما نسب إليه هذا المقام الذي ببرزة؛ لأنه صلى فيه إذ جاء معينًا للوط -عليه السلام- (¬2). وَقِيلَ: كان آزر أبو إبراهيم من حران. وتقدم عن سعيد بن المسيب أن إبراهيم -عليه السلام- عاش مائتي سنة. وذكر كعب الأحبار وغيره أن سبب وفاة إبراهيم صلوات اللَّه عليه أنه أتاه ملك في سورة شيخ كبير فتضيفه وكان يأكل ويسيل طعامه ولعابه على لحيته وصدره، فقال إبراهيم: يا عبد اللَّه ما هذا؟ قال -ولعابه على لحيته وصدره: بلغت الكبر الذي يكون صاحبه هكذا قال: وكلم أتى عليك؟ قال: مائتا سنة -ولإبراهيم عليه الصلاة والسلام يومئذ مائتا سنة- فكره الحياة لئلا يصير إلى هذه الحال فمات بلا مرض. وكذلك قال أبو السكن الهجري: توفي إبراهيم وداود وسليمان صلى اللَّه عليهم وسلم فجأة، وكذلك الصالحون، وهو تخفيف على المؤمنين ورحمة في حق المراقبين. وقد وقع لنا حديث متصل السند إلى إبراهيم الخليل صلوات اللَّه عليه وسلامه من رواية سيدنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عنه: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن ممدود الصوفي، أنا محمد بن علي بن الهني ببغداد سنة 649، أنا عبد العزيز بن محمود بن الأخفر، أنا عبد الملك بن أبي القاسم الكروخي. (ح) قال شيخنا: وأنبأنا عبد الخالق بن أنجب بن المعمر، عن الكروخي هذا ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (6/ 164). (¬2) "تاريخ دمشق" (6/ 164).

قال: أنا محمود بن القاسم الأزدي وأحمد بن عبد الصمد الغورجي وعبد العزيز بن أبي نصر الترياقي قالوا: أنا عبد الجبار بن محمد الجراحي، أنا محمد بن أحمد المحبوبي، ثنا محمد بن عيسى الترمذي، ثنا عبد اللَّه بن أبي زياد، ثنا سيار، ثنا عبد الواحد بن زياد، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئ أُمَّتَكَ السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ"، وفيه قال الترمذي: هذا حديث حسن (¬1). وَقُلْتُ أَمْدَحُ الْخَلِيلَ عليه الصلاة والسلام: عرج هديت على المقام معظما ... إن كنت تبغي أن تحوز المغنما والثم بأبواب الخليل ترابها ... وقل السلام عليك يا مولى سما يا من له في المكرمات مفاخر ... ليست تعد وكيف تحصى الأنجما يا سيدًا يحمي النزيل بجاهه ... يا أوحدًا يعطي الجزيل تكرما يا من له الكرم العميم على المدى ... يقري الضيوف ولا يخاف المغرما يا أمة في الناس فردًا قانتًا ... للَّه برًّا شاكرًا من أنعما يا من له النار العظيمة أطفئت ... من بعد ما كانت بهول قد ظما مذ حزت في التفويض صدق توكل ... أصبحت من ذاك الجحيم مسلما لم تلتفت إلا لربك وحده .... هذا الفخار فمن يروم تقدما يا من له الصبر الذي ما مثله ... في ذبحه مهجة قلبه إذ أسلما ففداه رب العرش بالكبش الذي ... وافاه جبريل به قد عظما يا باني البيت الحرام ورافعا ... منه القواعد داعيًا رب السما ومؤذنًا في الناس بالحج الذي ... فيه الذنوب تحط عمن أجرما يا أولًا في الناس يكسى حلة ... يوم القيامة سابقًا ومكرما ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3462).

يا من له شرع الختان مطهرا ... من كل عيب لا يزال مؤثما وله خصال الفطرة العشر التي ... كان الختان لنا ختامًا تمما وله الطيور حيين وهو مشاهد ... لما دعاها بعد موت عمما لم يطلب الإحياء من شك به ... لكن إلى عين اليقين قد ارتمى لك يا خليل اللَّه كل فضيلة ... قد حزت أجمعها حنيفًا مسلما يكفيك أن الأنبياء جميعهم ... من تأخر بعثه وتقدما ونظامهم بختامهم مولى الورى ... مولى الجدى علم الهدى شافي العمى خير الأنام محمد من قدره ... فوق البرية كلهم فضلا سما ذي المعجزات الباهرات ومن له ... يوم المعاد شفاعة تروي الظما من حاز بالإسراء فضلًا باهرًا ... ورآك ليلة ذاك في أعلى سما ولقيته بالبشر والترحيب إذ ... وافاك صحبة جبريل مسلما ودعوته ولدًا نبيًا صالحًا ... فلك الهناء بمثله متقدما وروى لأمته الذي أوصيته ... فغدا الحديث بذاك عنك مترجما أصبحت والده وكنت وليه ... من بين كل الرسل نحوك يمما ولقد غدا من بين ولدك كلهم ... لك مشبهًا في خلقه إذ كرما وكذاك في أخلاقك الطهر التي ... أوحى إليه اللَّه فيها معلما ودعوت رب الخلق في إرساله ... للحق يتلو والكتاب معلما فأجبت في هذا الدعاء فأنتما ... أجر الذين هدوا بذلك حزتما فعليكما مني السلام تحية ... ما أظهرت شمس الظهيرة مبسما وصلاة رب العرش ترى دائما ... تهدي سنا البركات منه إليكما بكما ملاذي في الورى وتوسلي ... ومعولي في النائبات عليكما (¬1) وإليكما دون الأنام توجهي ... أبغي الشفاعة عند ربي منكما ¬

_ (¬1) هذه أبيات فيها غلو وإطراء قد نهى عنه رسولنا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد قال تعالى: {أمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}.

ها يا خليل اللَّه دعوة خادم ... لك نازل بحماك يرجو الأنعما لا يخشى ريب الزمان وجوره ... مذ حل في هذا الحمى مستعصما ولقد أتته بشارة من صادق ... رؤيا منام كان أمرًا محكما إني وقفت ببابك الرجب الذي ... أرقى به نحو المعالي سلما ولقيت منك مبرة وكرامة ... وصيانة أحرزت منها مغنما فلي الهناء بذاك إن نلت المنى ... منه بتأويل يريك المبهما ولذا أتيت إلى جنابك مسرعا ... متخضعًا وجعلته لي منسما وقصدت بابك سائلًا مستجديًا ... متأسفًا متلهفًا متندما فكن الشفيع إلى إلهك عله ... يعفو ويولي الصفح عمن أجرما واسأله إصلاحًا لحالي دائمًا ... واللطف بي فيما قضي فتحكما واسأله علمًا نافعَا أحيى به ... يبقى وإن أبلى التراب الأعظما صلى عليك اللَّه كل عشية ... وكذا الملائكة الكرام وسلما وعلى الذين ولدتهم من مجتبى ... برسالة ونبوة قد أكرما وسقى معاهد بلدة جاورتها ... من غير إفساد [. . .] وأنالها ربي الأمان وكليف لا ... وبجاهك المامول قد أضحت حما تمت وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وسلم.

رسالة في تفسير قوله عز وجل {وكذلك جعلناكم أمة وسطا}

رِسَالةٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب اللَّه عز وجل الموتى، ويبصرون بنور اللَّه أهل العمى، وينقذون بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الغرقى، وينجون بهدي السلف رضوان اللَّه عليهم الهلكلى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال شقي قد هدوه، وكم من تائه حيران قد دلوه، وكم من غريق في ظلمات المعاصي قد أنقذوه، وكم من بئيس شقى قد أسعدوه، وكم من أفاك أثيم قد أخرصوه، وكم من مبتدع في الدين إلى السنة ردوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم؛ ينفون عن كتاب اللَّه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا بألسنتهم عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على اللَّه وفي اللَّه وفي كتاب اللَّه بغير علم، يتكلمون في المتشابه من الكتاب، ويخدعون بسطاء الناس بما يشبهون عليهم من التأويلات الفاسدة والتفسيرات الباطلة؛ نعوذ باللَّه من شبه المبطلين، ولكن اللَّه تعالى بين أن دين الإسلام مبني على أصلين هما التوحيد والاتباع، وليس الهوى والابتداع: أَمَّا الأَصْلُ الأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (¬1) ألا وهو تجريد التوحيد للَّه عز وجل. وَأَمَّا الأَصْلُ الثَّانِي فَقدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2) ألا وهو تجريد المتابعة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقال عن أهل الأهواء والابتداع: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ ¬

_ (¬1) الزمر: الآية 3. (¬2) الحشر: الآية 7.

فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1). وتوعد اللَّه أقومًا قالوا على اللَّه بغير علم، فقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬2). وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (¬3). وأخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما صح عنه بطريق التواتر اللفظي: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعمَّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (¬4). ثمّ أَمَّا بَعْد: لقد بعث اللَّه سبحانه وتعالى نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى عباده رحمة لهم ونورًا يمشون على هداه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬5)، وأمره اللَّه عز وجل أن يكون رحيمًا بنا وهكذا كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مع أمته، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (¬6). ودلت السنة الكريمة على حسن خلق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مع المسلمين وغيرهم، وأنه لم يكن متعنتًا بل كان خلقه القرآن كما قالت أم المؤمنين -رضي اللَّه عنها-، وكان يعلم أصحابه ذلك ويحثهم على التمسك به وعلى التوسط في الأمور وعدم المغالاة في المعاملات كلها، قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ" (¬7). وقد روى أحمد من حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) النور: الآية 63. (¬2) الأنعام: الآية 144. (¬3) الحج 3، 4. (¬4) رواه البخاري (1291)، ومسلم (3) من حديث أبي هريرة. (¬5) الأنبياء: الآية 107. (¬6) آل عمران: الآية 159. (¬7) رواه النسائي (5/ 268)، وابن ماجه (3029)، وابن خزيمة (2867)، وابن حبان (3871)، وابن الجارود (473)، والحاكم (1/ 637). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (1283).

"إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلَاقِ" (¬1). ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى التعامل بخلق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لما يوجد من بعض المسلمين من الغلو في الدين والتعنت والتكلف في المعاملات، وإهمال وسطية أهل السنة والجماعة. وقد فضل اللَّه هذه الأمة على غيرها من الأمم، فقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} فأمة الإسلام وسط بين طرفي الإفراط والتفريط بتشريف من اللَّه تعالى. وهذه رسالة للحافظ العلائي -رحمه اللَّه- في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، وفسر الحافظ فيها الآية تفسيرًا علميًّا دقيقًا شاملًا، وقسم شرحه لهذه الآية إلى سبعة أوجه، فبين معاني مفرداتها وإعرابها وأوضح ما فيها من غريب وتكلم على ما يتعلق بها من فقه وأصول وغير ذلك من الفوائد الجليلة التي سنطالعها، فجزاه اللَّه خيرًا. ¬

_ (¬1) "المسند" (2/ 381). قال الهيثمي (9/ 15): ورجاله رجال الصحيح.

التوصيف العلمى للنسخة الخطية

التوصيف العلمى للنسخة الخطية اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسخة خطية فريدة لم أظفر بغير ذلك من النسخ الخطية إلا أنها نسخة بخط المؤلف ولذلك فهي نسخة متقنة جدًّا لولا ما اعتراها من الطمس نتيجة لعوامل الرطوبة، وهي درس للحافظ العلائي كان قد ألقاه بالمدرسة الصلاحية: وهي النسخة الخطية المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (623) تفسير. - اسم الناسخ: بخط المؤلف. - تاريخ النسخ: حدود القرن السابع. - نوع النسخ: نسخ معتاد. - عدد الأوراق: 28 ورقة. توثيق الكتاب: يكفي لإثبات نسبة هذه الرسالة للإمام الحافظ العلائي أنها بخطه، وأيضًا: 1 - وجد على طرة النسخة الخطية نسبة هذه الرسالة لكمام العلائي وأيضًا في مقدمة الرسالة، وفي آخرها أيضًا. 2 - روى الحافظ العلائي أحاديث فيها بأسانيده المعروفة وعن شيوخه المعروفين، منهم: - أبو الفضل سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر المقدسي. - أبو الفداء إسماعيل بن يوسف بن مكتوم القيسي. - أبو محمد عيسى بن عبد الرحمن بن معالي الصالحي. - أبو البركات عبد الأحد بن أبي القاسم بن عبد الغني الحراني. - محمد بن أبي العز بن مشرف. - وزيرة بنت عمر التنوخية.

طرة النسخة الخطية

الورقة الأولى

الورقة الأخيرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ الحجة البحر الفهامة شيخ المحدثين عمدة الفقهاء والأصوليين: صَلَاحُ الدِّينِ خَلِيلُ بْنِ كَيْكِلْدِي الْعَلَائِيّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّتِهِ: الحمد للَّه الذي نصب العلماء أعلامًا، وجعلهم كنجوم السماء علوًّا وإنارة وهداية وتعاقبًا وانتظامًا، ووزن مدادهم بدم الشهداء، وكيف لا وهؤلاء يعملون في الجهاد أسنة وسيوفًا، وهؤلاء في الجدال ألسنة وأقلامًا، وفضلهم على أبرار أوليائه حتى فضَّ لهم عن أسرار أنبائه ختاما، أحمده على أن جعل لإقدامنا على السعي في طلب العلم أقدامًا، ويسر [. . .] (¬1) بما شرعه من كتابه العظيم وسنة نبيه الكريم أحكامًا، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له شهادة تعلي لعاملها في الجنة مقامًا، وتكون لمن مثل بها في الآخرة جنة واعتصامًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي جعله للمسلمين إمامًا، ومزق به من دياجي الكفر [. . .] (¬2) وأحسن لعباده المؤمنين مستقرًّا ومقامًا، صلى اللَّه عليه وعلى آله الطيبين وصحبه الطاهرين و [أتباعهم] (¬3) تحية وسلامًا: أَمَّا بَعْدُ: فإن العلم هو [المطلب] (¬4) الأسنى، وصاحبه مخصوص بالمرتبة الحسنى من اللَّه تعالى، شرفه على غيره في محكم الكتاب بقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬5). ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في الأصل. (¬2) كلمة غير واضحة في الأصل. (¬3) كلمة غير واضحة في الأصل، والمثبت أشبه بالرسم والسياق. (¬4) كلمة غير واضحة في الأصل، والمثبت أشبه بالرسم والسياق. (¬5) الزمر: الآية 9.

وجعل شهادة أهله بالوحدانية تلو (¬1) شهادة ملائكته الكرام فرتب حكمه على هذه الشهادة {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬2) واختصهم بخشيته بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬3) وناهيك بها مزية ورتبة، وأوجب لهم الخلود في جنات عدن ورضاه بقوله سبحانه: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (¬4). وكنت ممن أنفق حاصل عمره في تحصيله، وتنوع في تفريعه، وتفنن في تأصيله، والحمد للَّه على ذلك حمدًا نستدر به إخلاف المذاهب، ونتنزل به أصناف الرغائب، وله الحمد على ما قدر من الانتقال إلى هذه الأرض التي بارك فيها وحولها، حمدًا يشتمل أنواع الشكر. . . (¬5) فإنها أفضل بقاع الشام، ومواطن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. . . (¬6) ومجالس غايات ومساجد صلوات ومساكن. . . (¬7) ومواكب عبرات وتضاعف حسنات وترادف خيرات. . . (¬8) الأنبياء وتواترت من اللَّه الأنباء وتفجرت النبوة. . . (¬9) ومسجدها الذي اتفقت الأمم على تفضيله، وأسرى اللَّه تعالى إليه برسوله، وهو ثاني المساجد التي تشد الرحال إليها، وثانيها في البناء، كما جاءت به الآثار المتفق عليها؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، والْمَسْجِدِ ¬

_ (¬1) تلو الشيء: الذي يتلوه. (¬2) آل عمران: الآية 19. (¬3) فاطر: الآية 28. (¬4) البينة: الآية 8. (¬5) قطع في الأصل بمقدار كلمتين. (¬6) قطع في الأصل بمقدار كلمتين. (¬7) قطع في الأصل بمقدار كلمتين. (¬8) قطع في الأصل بمقدار كلمتين. (¬9) قطع في الأصل بمقدار كلمتين.

الأَقْصَى" (¬1). وعن أبي ذر -رضي اللَّه عنه- قال: قلت: يا رسول اللَّه، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ". قلت: ثم أي؟ قال: "ثُمَّ الْمَسْجِدُ الأَقْصَى". قلت: كم بينهما؟ قال: "أَرْبَعُونَ سَنَّةً" (¬2). وروى أبو داود عن ميمونة -رضي اللَّه عنهما- قالت: قلت: يا رسول اللَّه، أفتنا في بيت المقدس؟ قال: "ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ". قلت: والروم إذ ذاك فيه. قال: "فَابْعَثُوا بِزَيْتٍ يُسْرَجُ فِي قَنَادِيلِهِ" (¬3). وأخرج النسائي (¬4) وابن ماجه (¬5) من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما الصلاة والسلام مِنْ بِنَاءِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ عز وجل [ثَلَاثًا] (¬6) حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَلَّا يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَأَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1996)، و"صحيح مسلم" (827) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) "صحيح البخاري" (3425). (¬3) "سنن أبي داود" (457). (¬4) "سنن النسائي" (2/ 34). (¬5) "سنن ابن ماجه" (1408). (¬6) ليست في الأصل وأثبتها من السنن.

وصححه الحاكم في "المستدرك" (¬1). ويكفي شاهدًا على المزية في سكنى هذه الأرض لمن حمد وشكر سؤال موسى -عليه السلام- اللَّه تعالى عند موته أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر (¬2). ولما قدر اللَّه تعالى سكنى هذه البقاع الشريفة ومباشرة هذه المدرسة التي هي بكل خير منيفة -تغمد اللَّه واقفها بالرحمة والرضوان، وجزاه على جهاده واجتهاده غرف الجنان- بنيت في التدريس على ما كنت وصلت بدمشق إليه، وفوضت أمري إلى اللَّه، وجعلت توكلي عليه فهو المرغوب فيما عنده ولديه. أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. . . الآية (¬3). الكلام على هذه الآية الكريمة من سبعة أوجه: الوجه الأول: في انتظامها مع ما قبلها. والثاني: في تحقيق بعض مفرداتها. والثالث: في إعرابها وما يتعلق بها من علمي المعاني والبيان. والرابع: في شيء من تفسيرها ويتصل به درس في الحديث والكلام عليه. والخامس: فيما يتعلق بها من علم أصول الدين. والسادس: فيما يتعلق بها من علم أصول الفقه. والسابع: ما يتعلق بها من علم الفقه ومسائل الخلاف. الوجه الأول: في انتظامها مع ما قبلها. وذلك. . . (¬4) من معرفة المشبه به في قول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً ¬

_ (¬1) "المستدرك" (2/ 471). (¬2) رواه البخاري (1339)، ومسلم (2372) من حديث أبي هريرة. (¬3) البقرة: الآية 143. (¬4) قطع في الأصل بمقدار كلمتين.

وَسَطًا} وفيه أقوال: أحدها: أنه راجع إلى الهداية المتقدمة في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1) فتقدير الكلام كما أنعمنا عليكم بالهداية إلى الصراط المستقيم كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم أمةً وسطًا. والثاني: أنه راجع إلى تحويل القبلة؛ فتقديره: وكما هديناكم إلى قبلة هي خير القبل كذلك جعلناكم أمةً وسطًا. والثالث: أنه عائد على قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (¬2) ويكون معناه على هذا الوجه أن هذه الجهات مع استوائها في كونها ملك للَّه خص بعضها بمزيد الشرف بأن جعله قبلة حالة التقرب إليه، فكذلك الخلق لما اشتركوا في كونهم عباده سبحانه وتعالى خص هذه الأمة دون سائر الأمم بأن جعلهم أمةً وسطًا فضلًا منه وكرمًا. الوجه الثاني: في تحقيق بعض مفرداتها "جعل": لفظ عام في الأفعال كلها، وهو أعم من فعل وصنع وسائر أخواتها، ويستعمل لازمًا ومتعديًا إلى مفعول واحد وإلى مفعولين؛ فإذا استعمل بمعنى طفق نحو: جعل زيد يقول كذا وكذا؛ كان لازمًا، وإذا استعمل بمعنى أوجد تعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (¬3). وكذلك إذا كان بمعنى شرع وحكم كقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} (¬4) ومنه قوله تعالى في هذه الآية: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} على أحد التأويلات، كما سيأتي بيانه. ¬

_ (¬1) البقرة: الآية 142. (¬2) البقرة: الآية 115. (¬3) الأنعام: الآية 1. (¬4) المائدة: الآية 103.

وإذا كان بمعنى يصير الشيء على حال بعد أخرى تعدى إلى مفعولين، كقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} (¬1) و {جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا} (¬2) ومنه قوله تعالى هنا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}. ووسط الشيء: ما له طرفان، قال الأزهري: كل ما يبين بعضه من بعض كوسط الصف والقلادة والمسبحة وحلقة الناس فهو بالتسكين، وما كان مصمتًا لا يبين بعضه من بعض كالدار والساحة فهو وسَط بالفتح قال: وقد أجازوا في الساكن الفتح، ولم يجيزوا في المفتوح الإسكان (¬3). والوسط هنا صفة للأمة، ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. وقد اختلف في معناه هنا، فالصحيح الذي لا يجوز غيره ما ثبت عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: "عدلًا" رواه الترمذي هكذا، وقال: حسن صحيح (¬4). وأخرجه البخاري أطول من هذا، وسيأتي، وحكى هذا القول الجوهري عن الخليل والأخفش وقطرب، وقد قال غيره: همُ وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي العظائم وقيل: الوسط: الخيار، واختاره صاحب "الكشاف" (¬5) قال: لأنه يستعمل في الجمادات فيقال: سطة الدنانير أي: خيارها، فكانت أوساط الشيء، وهي الخيار، لكونها سالمة مما يصل إلى الأطراف من الخلل والإعواز قال الطائي: كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفَا وتقول العرب: انزل وسط الوادي، أي: خير موضع منه. ¬

_ (¬1) البقرة: الآية 22. (¬2) النحل: الآية 81. (¬3) "الزاهر" (ص 110) بنحوه. (¬4) "جامع الترمذي" (2961). (¬5) "الكشاف" (ص 99).

والمعني متقارب فيهن، ومرد القولين إلى معنى واحد، وهو أن العدل: هو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط فكان خيارًا لكونه كذلك، مع أنه لا يعارض ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. والشهادة ما صدر عن علم وتحقق إما بالشعور. . . (¬1) وإما بالبصيرة كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} الآية والقبلة في الأصل. . . (¬2) ثم صار اسمًا للمكان المقابل للأوجه. . . (¬3) وقوله تعالى {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} (¬4) ثم استعمل الكبيرة فيما. . . (¬5) كما في قوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (¬6). والفرق بين الرأفة والرحمة مع أن كلًّا منهما متضمن معنى الإحسان أن الرأفة هي مبالغة في الإحسان الخاص وهو دفع المكروه وإزالة الأذى كقوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} (¬7) أي: لا ترأفوا بهما فتسقطوا الحد عنهما، والرحمة أعم من ذلك وهي اسم جامع يدخل فيه سائر وجوه الإحسان والإفضال فيكون ذلك من باب ذكر العام بعد الخاص. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر عنه {لرؤف} مهموز غير مشبع على وزن رعف، وقرأ الباقون {لَرَءُوفٌ} بالإشباع والمد (¬8)، واحتجوا بأن فعولًا أكثر مجيئًا في الصفات ولم يجئ فعل إلا في القليل نحو. . . (¬9) ¬

_ (¬1) قطع في الأصل بمقدار ثلاث كلمات. (¬2) قطع في الأصل بمقدار ثلاث كلمات. (¬3) قطع في الأصل بمقدار ثلاث كلمات. (¬4) الكهف: الآية 49. (¬5) قطع في الأصل بمقدار ثلاث كلمات. (¬6) الشورى: الآية 13. (¬7) النور: الآية 2. (¬8) انظر "حجة القراءات" (ص 116). (¬9) قطع في الأصل بمقدار ثلاث كلمات.

وحذر وعجل ويقظ وليس ذلك كمجيء غفور وشكور وصبرر فإنه أكثر فكان أولى، وقال الشاعر: نطيع نبينا ونطيع ربًّا ... هو الرحمن كان بنا رءوفا وأما من قرأ "رؤف" فقال: إن ذلك هو الغالب على أهل الحجاز ومنه قول الوليد بن عقبة لمعاوية بن أبي سفيان -رضي اللَّه عنهما-: وشر الطالبين فلا تكنه ... يقاتل عمه الرؤف الرحيم الوجه الثالث: في إعراب هذه الآية الكريمة وما يتصل بها من علمي المعاني والبيان. الكاف في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ} في محل النصب نعت لمصدر محذوف تقديره أنعمنا عليكم بأن جعلناكم أمة وسطًا إنعامًا كما أنعمنا عليكم بالهداية. و {الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} محله النصب لكن اختلف في تقدير ناصبه بحسب الاختلاف في "جعل" معناها وما أريد بالقبلة: فقيل: إن "جعل" هنا يعني: شرع، فيكون معنى الكلام وما شرعنا القبلة التي كنت عليها يعني بيت المقدس إلا ابتلاءً وامتحانًا؛ لأن اللَّه تعالى علم أنه يرجعهم بعد ذلك إلى الكعبة. وقال بعضهم: إن اللَّه تعالى تعبد نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- أولًا بالصلاة إلى بيت المقدس؛ لأن العرب كانت تحب الكعبة ويشق عليهم استقبال غيرها فكانت الصلاة إليها أولًا امتحانًا ليظهر به إيمان المؤمن عند صبره على التوجه إلى غير الكعبة ونفاق المنافق عند مخالفته، وعلى هذا القول الموصول وصلته صفة للقبلة أو عطف بيان. وقيل: بل المعني بالقبلة هاهنا الكعبة، و"كنت" بمعنى صرت كما قيل في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬1) أي: صريح، فيكون تقدير الكلام وما شرعنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، والتي ¬

_ (¬1) آل عمران: الآية 110.

كنت عليها هي موضع الصلاة القبلة المتقدم. وقيل إن "جعل" هنا بمعنى. . . (¬1) كان على بابها في المعنى ويكون في الكلام إضمار تقديره وما جعلنا القبلة التي كنت عليها. . . (¬2) -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تألفًا لليهود ثم حول إلى الكعبة ثانيًا فيكون معنى الكلام: وما جعلنا القبلة الجهة التي تحب أن تستقبلها الكعبة التي كنت عليها أولًا بمكة، وعلى هذا التقدير لا يحتاج الكلام إلى إضمار وتكون "كان" على بابها في المعنى ولكن هذا على قول أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان فرضه بمكة أولًا الصلاة إلى الكعبة وأن القبلة نسخت مرتين، وفي هذا قولان للعلماء: أحدهما هذا واختاره الإمام أبو عمر بن عبد البر وقال: هو الصحيح، واحتج له بحديث البراء بن عازب -رضي اللَّه عنهما- قال: لما قدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة صلى نحو بيت المقدس ستهَ عشر شهرًا. . . الحديث (¬3). قال (¬4): الظاهر يدل على أنه لما قدم المدينة صلى إلى بيت الممَدس لا قبل ذلك. وبحديث علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: كان أول ما نسخ اللَّه من القرآن القبلة وذلك أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة كان أكثر أهلها اليهود أمره اللَّه عز وجل أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود بذلك فاستقبلها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بضعة عشر شهرًا وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يحب قبلة إبراهيم فأنزل اللَّه عز وجل {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 143] (¬5). وهذا الحديث منقطع، فإن علي بن أبي طلحة لم يلق ابن عباس، إنما سمع من أصحابه، مع أنه أيضًا متكلم فيه، وإن كان مسلم قد روى له، فقد قال فيه أحمد بن ¬

_ (¬1) قطع في الأصل. (¬2) قطع في الأصل. (¬3) رواه البخاري (41)، ومسلم (525). (¬4) "التمهيد" (17/ 52 - 53). (¬5) رواه البيهقي (2/ 12).

حنبل: له أشياء منكرات (¬1). وأما الحديث الأول فليس بالصريح في الذي قاله لا يمنع أن يكون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان بمكة يستقبل بيت المقدس وإنما خص المدينة بالذكر لما بعد الهجرة إليها؛ لأن ذاك هو الذي شاهده البراء -رضي اللَّه عنه- دون مكة. والقول الثاني: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان فرضه الصلاة إلى بيت المقدس ولكنه كان إذا صلى وهو بمكة يجعل الكعبة بين يديه ولا يستدبرها، فلما قدم المدينة لم يمكنه عند استقبال بيت المقدس إلا أن يستدبر الكعبة فإنما ظهر الفرق بين صلاته في البلدين، وهذا القول أقوى من حيث الدليل وهو اختيار أبي القاسم السهيلي وغيره، والحجة له ما روى أبو عوانة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي نحو بيت المقدس وهو بمكة والكعبة بين يديه وبعدما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرًا ثم صرف إلى الكعبة (¬2). ورواه أبو داود في كتاب "الناسخ والمنسوخ" عن محمد بن المثنى عن يحيى بن حماد عن أبي عوانة وهذا إسناد صحيح جيد. ويشهد لذلك أيضًا قصة البراء بن معرور -رضي اللَّه عنه- وهي مشهورة في السيرة أنه أول من توجه إلى الكعبة قبل أن يقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وكان ذلك عند مسير الأنصار إلى مكة من أجل بيعة العقبة فقال البراء: لقد رأيت أن لا أجعل هذه القبلة مني بظهر يعني الكعبة. فقالت الأنصار: ما بلغنا أن نبينا يتوجه إلى بيت المقدس فخالفهم وتوجه إلى الكعبة في صلاته، فلما قدموا على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سأله البراء بن معرور -رضي اللَّه عنه- عن صنيعه ذلك، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقَدْ كُنْتَ عَلَى قِبلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيهَا" (¬3). ففي هذا أيضًا دليل صريح على أن التوجه قبل الهجرة إنما كان إلى بيت المقدس. فهذا ما يتعلق بالإعراب الذي أشار إليه صاحب "الكشاف". ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب الكمال" (20/ 459). (¬2) رواه أحمد (1/ 325) من طريق يحيى بن حماد عن أبي عوانة. (¬3) رواه أحمد (3/ 460)، وابن خزيمة (429)، وابن حبان (7011).

وقوله تعالى: {عَلَى عَقِبَيْهِ} في محل النصب على الحال من الضمير المستكن في {يَنْقَلِبُ} أي: راجعًا. و"إن" في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} هي المخففة من الثقيلة التي تلزمها اللام الفارقة، واسمها محذوف، هذا مذهب أهل البصرة، وقال الكوفيون: هي يعني واللام بمعنى إلا، وعلى هذا القولين هي لتأكيد المعنى، وإنما لزمها هذه اللام على رأى البصريين ليفرق بينها وبين أن التي للحجة، كالتي في قوله تعالى: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} (¬1). و"كبيرة" خبر واسمها محذوف، دل عليه قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} فتقديره وإن كانت التحويلة أو الجعلة أو الصلاة إلى بيت المقدس لكبيرة، وروي في غير المشهور: "وإن كانت لكبيرة" بالرفع على أن "كان" زائدة، كما في قول الشاعر: *وجيران لنا كانوا أكارم* وخبر "كان" في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يحتمل أن يكون "ليضيع" أي: ما كان ذلك إضاعة لإيمانكم، وأن يكون محذوفًا، وما كان اللَّه يريد أن يضيع. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} جمع فيه بين التأكيدين: "إن" و"اللام"؛ لأن القضية مستبعده عند المخاطبين، حيث قالوا: كيف بمن مات منَّا وهو يصلي إلى ست المقدس؟ فبين اللَّه أنه غير مضيع عمل عامل منهم، لرأفته ورحمته بعباده سبحانه وتعالى، وإن كان الخطاب للمنافقين أو اليهود الذين عابوا على المسلمين توجههم إلى الكعبة، وقالوا للمسلمين: إن عملكم كان باطلًا، فالحاجة إلى التأكيد أقوى، فلهذا جمع بين تأكيدين، وتأكيد القضية يكون بحسب استبعادها عند المخاطب؛ فإن قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب إما نفس الحكم وإما لازمه، فمتى كان المخاطب خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على. . . (¬2) ¬

_ (¬1) فاطر: الآية 41. (¬2) قطع في الأصل.

ومن التردد فيه أو الشك أو الإنكار استغني حينئذ عن مؤكدات الحكم؛ فإن كان متصورًا لطرفي الحكم مترددًا في إسناد أحدهما إلى الأخر حسن تقويته حينئذ بالمؤكد؛ فإن جاء بخلافه قوي التأكيد بحسب إنكاره وجمع حينئذ بين "إن" و"اللام" وشاهد هذه القاعدة في كلام العرب كثير لا ينحصر، ومنه في القرآن العظيم مواضع مشهورة منها قول الرسل عليهم السلام في قصة "يس": {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} (¬1) فردوا عليهم بقولهم: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} (¬2) فأجابوهم ثانيًا بقولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (¬3). وقد أورد على هذه القاعدة قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (¬4) فأكد الموت الذي لا ينكر أحد وقوعه بـ "إن" و"اللام"، ولم يؤكد البعث إلا بـ "إن" فقط مع أنه ينكره كثيرون وخصوصًا في زمن النبوة؟ وأجيب بأن الخطاب في هذه الآية الظاهر للمعترفين بالبعث حال غفلتهم عن الموت وتشاغلهم عنه بأمور الدنيا؛ فكأنهم لغفلتهم عنه بمنزلة من لا يعرف به، فأكدت القضية بـ "إن" و"اللام"، وهذا يسمى إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، ثم لما ذكروا بالموت ذكروا البعث، وكانوا معترفين به فلم يحتج إلى تأكيده باللام. فهذه ثلاثة من علم المعاني والبيان تتعلق بهذه الآية، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى في الوجه الذي بعد هذا ثلاثة منه أخرى. الوجه الرابع: فيما يتعلق بمعاني بعض هذه الآية: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قد تقدم أن الوسط يفسر على قولين: أحدهما: العدل. ¬

_ (¬1) يس: الآية 14. (¬2) يس: الآية 15. (¬3) يس: الآية 16. (¬4) المؤمنون: الآية 15 - 16.

والثاني: الخيار. والأظهر أنه العدل؛ لأنه السواء الذي لا يميل إلى طرفي الإفراط والتفريط، وهو أيضًا خيار بهذا الاعتبار؛ فامتن اللَّه تعالى على هذه الأمة بعد الهداية بأن جعلها أمة وسطا، ومن استقرى أحوال الدينية وجدها كذلك تتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وبيانه أن الأحوال التي كلف بها العبد إما اعتقادات أو أعمال، وهي في كلها كذلك. أما الاعتقادات فنبين ذلك بأمثلة: أحدها: التوحيد؛ فإن من الناس من عطل الإلهية تعطيلًا محضًا؛ ففرط، ومنهم من أثبت أكثر من الإله الواحد؛ فأفرط، والعدل التوسط، وهو إثبات الاله وتوحيده. وثانيها:. . . (¬1)؛ لأن من الناس من بالغ في إثبات الإله الواحد حتى جعله جسمًا أو جوهرًا أو مركبًا أو مختصًّا بجهة أو محلًّا للحوادث؛ فشبهه بالموجودات الحادثة تعالى اللَّه عن ذلك. ومنهم من نفى حتى لم يثبت إلا الوجود المحض، وعطل صفات الإلاهية. وَالْعَدْلُ: التَّوَسُّطُ بإثبات الوجود وخواص الإلاهية ونفي ما يوجب النقص والحدوث من الجوهرية والتركيب ونحوها. وَثَالِثُهَا: مذهبهم في الصفات الزائدة على الذات؛ فإن أهل السنة توسطوا بين طرفي التفريط بنفيها وتعطيلها، والإفراط بإثباتها متغيرة متنقلة حادثة. وَرَابِعُهَا: قول أهل السنة أيضًا في مسألة خلق الأعمال؛ فإنهم توسطوا بين الجبر المحض والقَدَر المحض؛ فلم يسلبوا اختيار العبد وقدرته، ولم يجعلوه خالقًا لأفعاله مضاهيًا للَّه سبحانه في مقدوره. وَخَامِسُهَا: قولهم في النبوات؛ فإنهم أثبتوها من عند اللَّه عز وجل باختصاصه من يشاء من البشر واصطفائه إياه؛ فتوسطوا بين قول من يعطلها ويحيلها، وقول من ¬

_ (¬1) قطع في الأصل.

يثبتها بالاكتساب واعتدال المزاج. وَسَادِسُهَا: اعتقادهم في الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فإنهم أنزلوهم المنزلة التي جعلها اللَّه لهم ولم يغلوا فيهم غلو النصارى في عيسى عليه الصلاة والسلام، ولا قصروا في حقهم تقصير اليهود حتى وصلوا إلى القتل وغيره. وَسَابِعُهَا: قولهم في المعاد؛ فإن من الناس من يعطله بالكلية، ومنهم من يثبته بالأحوال النجومية والدورات الفلكية، وهم قد أثبتوه على الوجه الأتم الأكمل الذي جاءت به الشرائع واقتضته الحكمة الإلاهية. وَثَامِنُهَا: قولهم في السمعيات وأحوال القيامة، فقالوا بإثبات الثواب والعقاب على وجه ليس فيه إفراط ولا تفريط؛ فإن المُرْجِئَةَ تزعم أنه لا يعاقب العبد المؤمن أبدًا بشيء من الذنوب، وَالمُعْتَزِلَةَ تقول بإيجاب الخلود في النار بفعل الكبيرة إذا مات فاعلها عن غير توبة، وَأَهْل السُّنَّةِ متوسطون بين هذين القولين، وكذلك أيضًا توسطوا في بقية السمعيات والإمامة ونحوها، وهذا كله سرّ قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ بَني إِسْرَائِيل تَفَرَّقَت عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةٍ، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةٍ" (¬1) ووجه ذلك زيادة هذه الفرقة المتوسطة بين الفرق كلها وهي الفرقة الناجية. وأما الأعمال فقد جعل اللَّه تعالى هذه الأمة فيها أيضًا وسطًا بين طرفي الإفراط والتفريط، وبيانه مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: من الناس من يقول: ليس على العبد تكليف أصلًا، ولا يجب عليه أن يشتغل بشيء من الطاعات وهم نفاة التكليف، وأوجب براهمة الهند وأمثالهم من المانوية على العبد المبالغة في تعذيب نفسه وكدها والاحتراز عن الطيبات من المآكل والمناكح حتى إن منهم من يرمي نفسه في النار أو من شاهق. ¬

_ (¬1) روه الترمذي (2640)، وابن ماجه (3991)، والحاكم (1/ 217) من حديث أبي هريرة بنحوه. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي الباب عن سعد، وعبد اللَّه بن عمرو، وعوف بن مالك.

وَالْعَدْلُ ما عليه هذه الأمة من التوسط بين هذين الأمرين من الوقوف عند أوامر الشرع ونواهيه وتناول مباحاته. وَثَانِيهَا: أن التشديدات والتكاليف الشاقة في دين موسى عليه السلام كثيرة جدًّا، والمساهلة كثيرة في دين عيسى عليه السلام، وهذه الأمة متوسطة بين الأمرين، ولذلك أمثلة: مِنْهَا: أن في شرع موسى عليه السلام يحتم استيفاء القصاص في القتل العمد، وفي شرع عيسى عليه السلام إيجاب العفو فقط، وفي شرع هذه الأمة التخيير بين القصاص والعفو. وَمِنْهَا: أن في شرع موسى اجتناب المرأة في حالة الحيض حتى عن المؤاكلة وسائر وجوه المخالطة، وفي شرع عيسى حلّ كل شيء حتى الوطء، وهذه الأمة وسط بين ذلك في حل المخالطة وتحريم الجماع. إلى غير ذلك من الأمثلة التي يطول بذكرها الكلام. وإذا تأملت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (¬2). وقوله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} (¬3) مع قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (¬4)؛ علمت أن تكاليف هذه الأمة كلها وسط بين طرفي الإفراط والتفريط فكانت عدلًا وخيارًا لكونها كذلك. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬5) على أقوال: أَحَدُهَا: أن المراد به شهادة هذه الأمة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالتبليغ عند جحد أممهم ذلك وإنكارهم أنهم بلغوهم، وحجة ذلك ما روى البخاري في ¬

_ (¬1) الفرقان: الآية 67. (¬2) المؤمنون: الآية 115. (¬3) طه: الآية 1 - 2. (¬4) الفرقان: الآية 67. (¬5) البقرة: الآية 143.

"صحيحه" (¬1) عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ فَيقَولُ اللَّهُ لَهُ: هَل بَلَّغتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ. فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لَا، مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ. فَيَقُولُ لِنُوحٍ عليه السلام: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَهْوَ قَوْلُهُ تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}. ورواه النسائي بإسناد الصحيح، وزاد في آخره: "وَالوَسَطُ الْعَدْلُ" (¬2). فهذا القول أولى ما قيل به في تفسير هذه الآية؛ لصحة الحديث في ذلك. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في هذه الشهادة من الأمة؛ فإن شهادة الأمة وشهادة الرسول مستندة في الآخرة إلى شهادة اللَّه تعالى على صدق الأنبياء، فلم لم يصدق اللَّه نبيه نوحًا عليه السلام ابتداءً؟! فَالْجَوَابُ: أن الحكمة في ذلك تمييز هذه الأمة في الفضل على سائر الأمم بمبادرتهم إلى تصديق اللَّه تعالى وتصديق جميع الأنبياء، وليست هذه المزية لغيرهم من الأمم فهم العدول يوم القيامة على سائر الخلائق. وَالْقُوْلَ الثَّانِي: أن المراد به شهادة بعضهم على بعض بأعمالهم من الخير والشر بعد الموت، ويدل عليه الحديث الصحيح؛ أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مر عليه بجنازة فأثني عليها خيرًا؛ فقال: "وَجَبَتْ وَجَبَتْ" ثم مر عليه بجنازة أخرى فأثني عليها شرًّا؛ فقال: "وَجَبَتْ وَجَبَتْ" ثم قال: "أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ في الأَرْضِ" (¬3). وأما شهادة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على هذين القولين فبمعنى أنه يشهد لهم بالإيمان يوم ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3339). (¬2) "سنن النسائي الكبرى" (3339) وعنده: "عدلا". (¬3) رواه مسلم في "صحيحه" (949) من حديث أنس -رضي اللَّه عنه-.

القيامة وبالتبليغ. فَإِنْ قِيلَ: فهلا قال: "ويكون الرسول لكم شهيدًا" لأن شهادته لهم لا عليهم؟ قِيلَ: لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن جيء فيه بكلمة الاستعلاء، ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬1). فَإِنْ قِيلَ: فلم أخرت صلة الشهادة أولًا وقدمت ثانيًا؟ قُلْنَا: لأن الغرض في الجملة الأولى إثبات المنة على هذه الأمة بجعلهم شهداء على الناس مع قطع النظر عن اختصاصهم بذلك فلم يقدم الجار والمجرور المشعر تقديمه بالحصر؛ بل قال: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬2). وأما في شهادة الرسول عليهم؛ فلأن المنة فيها عليهم باختصاصهم بكون الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- شهيدًا لهم مزكيًّا لأعمالهم؛ فقدمت صلة الشهادة لتفيد اختصاصهم بذلك دون بقية الناس، وهذه هي الثلاثة التي سبق الوعد بها من علم البيان؛ فإن القاعدة المستقرة فيه أن تقديم المفعول والجار والمجرور يقتضي قصر الحكم بأحد أنواعه: إما قصر الأفراد أو قصر القلب أو غيرهما، ومن أحسن أمثلته الموافقة لهذه الآية: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} (¬3) فإن الإيمان لما لم يكن منحصرًا في الإيمان باللَّه بل لا بد معه من الإيمان بملائكته وكتبه ورسله والبعث والحساب وغير ذلك أخر الجار والمجرور فقال: {آمَنَّا بِهِ} بخلاف التوكل فإنه لا يكون إلا على اللَّه وحده فقدم الجار والمجرور ليفيد إنحصار التوكل في كونه على اللَّه وحده؛ إذ لا يتوكل على غيره. وَالقَوْلُ الثَّالِثُ: أن هذه الشهادة إنما هي في الدنيا بمعنى الحجة على من بعدهم كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام حجة على من بعده من الأمة، واستدل جماعة من هذه الآية على هذا القول على أن الإجماع حجة، وقيده بعض الأئمة بما حاصله ¬

_ (¬1) البروج: الآية 9. (¬2) البقرة: الآية 143. (¬3) الملك: الآية 26.

أن الشهادة إذا أريد بها الشهادة على الأعمال المشاهدة أضيفت إلى من يشاهد ذلك منه كما في قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (¬1) فخص ذلك بالموجودين من أمته في زمنه، وكذلك قوله تعالى عن عيسى عليه السلام: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (¬2) فبين أن شهادته على أعمالهم مختصة بحال حياته فيهم؛ فأما قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (¬3) فإن هذا ليس خطابًا للموجودين حينئذ فقط؛ بل لكل الأمة إلى قيام الساعة فيكون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حجة على كل أمته كما كان مبعوثًا إليهم إلى قيام الساعة. وإذا ثبت أن المراد بقوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (¬4) كونه حجة عليهم، فكذلك قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬5) بمعنى الحجة عليهم فيكون العصر الأول من الأمة إذا أجمعوا على شيء كان قولهم حجة على من بعدهم إلى قيام الساعة كما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حجة، ولأن حجة اللَّه إذا ثبتت في وقت فهي ثابتة أبدًا، ومن حيث دلت الآية على صحة إجماع الصدر الأول دلت على صحة إجماع الأعصار التي بعدهم؛ إذ الخطاب لكل الأمة ولم تخصص الآية أهل عصر دون أهل عصر. ولا يقال: الخطاب ليس لكل الأمة؛ لأنه لا يتناول المعدوم لأنا نقول: لا فرق بين هذا وبين قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬6) وسائر نظائره؛ فإن هذا يتناول الأمة ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت، وكذلك جميع تكاليف اللَّه تعالى وأوامره ونواهيه خطاب لجميع الأمة. ¬

_ (¬1) النساء: الآية 41. (¬2) المائدة: الآية 117. (¬3) البقرة: الآية 143. (¬4) البقرة: الآية 143. (¬5) البقرة: الآية 143. (¬6) البقرة: الآية 183.

فَإِنْ قِيلَ: فلو كان الأمر كذلك من أن هذا الخطاب لكل من يوجد إلى قيام الساعة فإنما حكم لجماعتهم بالعدالة، فمن أين حكم لأهل كل عصر بمفردهم حتى يكون قولهم حجة على من بعدهم؟ قِيلَ: إنه تعالى لما جعلهم شهداء على النَّاس فلو اعتبرنا في ذلك كل الأمة من أولها إلى آخرها لؤالت الفائدة من ذلك؛ إذ لم يبق من يكون قول الأمة حجة عليه، فلم يبق إلا العمل به في كل عصر بمفرده، فثبت كون إجماعهم حجة على من بعدهم، وهذا خلاصة ما قرره المشار إليه، وفيه نظر لا يخفى على المتأمل. ثم إن هذه الأقوال الثلاثة في معنى الشهادة يمكن ردها إلى معنى واحد؛ لما تقرر من أن الوسط هو العدل، فيكون فيه إثبات العدالة لهذه الأمة في الدنيا المقتضية لكون إجماعهم حجة، وإثبات العدالة لهم في الآخرة في كونهم شهداء بعضهم على بعض في الأعمال وكونهم شهداء على الأمم السالفة بالتبليغ، فلا منافاة حينئذ بين الأقوال، وهذا يدل على نهاية كرامة اللَّه تعالى لهذه الأمة وما خصها به من مزيد الشرف، وَقَدْ دلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِأَحَادِيثَ كَثِيرةٍ منْهَا مَا: أَخْبَرَنَا قاضي القضاة أبو الفضل سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر المقدسي، وأبو الفداء إسماعيل بن يوسف بن مكتوم القيسي، وأبو محمد عيسى بن عبد الرحمن ابن معالي الصالحين، وأبو البركات عبد الأحد بن أبي القاسم بن عبد الغني الحراني بقراءتي على كل منهم، قالوا: أنا أبو المنجا عبد اللَّه بن عمر بن علي البغدادي، أنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى الصوفي، أنا أبو عاصم الفضيل بن يحيى الفضيلي، أنا أبو محمد عبد الركن بن أحمد بن أبي شريح، ثنا أحمد بن سعيد، ثنا أحمد بن علي، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن ابن طاوس, عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولًا الْجَنَّةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ من بَعْدِهِمْ، فَهَدَانَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ وَهَذَا الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ غَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى يَعْنِي وَلَنَا الْجُمُعَةَ قَبْلَهُمْ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} ". وَأَخبَرَنَاهُ أَيضًا شيخنا شيخ الإِسلام إمام الأئمة الأعلام أبو المعالي محمد بن علي

ابن عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن نبهان الأَنْصَارِيّ السماكي نضَّر اللَّه وجهه بقراءتي عليه، قال: أنا العلامة أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عمر الخطيب، أنا محمد بن سعيد بن علي بن الخازن. ح. وَأَخْبَرَتنَا عاليًا أم محمد وزيرة بنت عمر بن أسعد التنوخي سماعًا عليها، قالت: أنا الحسين بن المبارك بن محمد الربعي سماعًا، قالا: أنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، أنا أبو الحسن مكي بن منصور الكرخي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الاسم، أبنا الربيع بن سليمان المرادي، أنا الإِمام أبو عبد اللَّه محمد بن إدريس الشافعي، أنا ابن عيينة -يعني سفيان- عن عبد اللَّه بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. ح. وَأَخْبَرَنَا أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد بن أبي الهيجاء الصالحي بقراءتي قال: نا أبو علي الحسن بن محمد بن محمد بن البكري، أنا أبو روح عبد المعز بن محمد الهروي، أنا أبو القاسم زاهر بن طاهر الشحامي، أنا أبو سعد محمد بن عبد الرحمن الكنجروذي، أنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد، أنا جدي الإِمام أبو بكر محمد ابن إسحاق بن خزيمة، ثنا عبد الجبار بن العلاء وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قالا: ثنا سفيان، ثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. ح. وسفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة. ح. قال ابن خزيمة: وثنا يونس بن عبد الأعلى، ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَحْنُ الآخِرُونَ وَنَحْنُ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبلِنَا وَأُوتِينَاهُ من بَعْدِهِمْ، ثم هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ". وفي حديث مالك: "هَذَا يَوْمُهُم الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ يَعْنِي يَوْم الْجُمُعَة، النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ". وَأَخْبَرَنَاهُ أَيضًا محمد بن أبي العز بن مشرف سماعًا وآخرون، قالوا: أنا الحسين ابن المبارك البغدادي، أنا عبد الأول بن عيسى الهروي، أنا عبد الرحمن بن محمد بن المظفر، أنا عبد اللَّه بن أحمد بن حمويه، أنا محمد بن يوسف، ثنا الإِمام محمد بن إسماعيل، ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة

-رضي اللَّه عنه- بنحوه. وَأَخْبَرَنَا العلامة أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن سباع الخطيب قراءة عليه وأنا أسمع وابن أخيه شيخنا الرباني العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن شيخ الإِسلام تاج الدين عبد الرحمن -قدس اللَّه روحه- وأبو الحسن علي بن محمد بن ممدود البندنيجي، وأبو عبد اللَّه محمد بن عمر بن خواجا إمام، ومحمد بن أبي بكر بن طرخان، وأحمد بن حمود بن عمر الحراني بقراءتي عليهم. قال شيخنا الأول: أنا العلامة أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح الشافعي، وعتيق بن أبي الفضل البيلماني، ومحمد بن علي بن محمود العسقلاني، ومحمد بن أحمد بن علي القرطبي. وقال ابن ممدود: أنا أحمد بن عمر الباذبيني. وقال ابن خواجا إمام: أنا إبراهيم بن عمر بن مضر الواسطي. وقال الباقون: أنا أحمد بن عبد الدايم المقدسي. قال عتيق: أنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي. وقال ابن الصلاح والباذبيني: أنا المؤيد بن محمد الطوسي. وقال العسقلاني والواسطي: أنا منصور بن عبد المنعم الفراوي. وقال القرطبي وابن عبد الدايم: أنا محمد بن علي بن صدقة. قالوا: أنا محمد بن الفضل بن أحمد الفقيه، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا أحمد بن محمد بن عمرويه، أنا إبراهيم بن محمد الزاهد، ثنا الإِمام مسلم بن الحجاج، ثنا محمد بن رافع، ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . فذكره. وَأَخْبَرَنَا محمد بن أحمد بن الزراد، أنا محمد بن أبي بكر بن خلفه أنبأنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي، أنا مرشد بن يحيى المديني، أنا علي بن محمد الفارسي، أنا عبد اللَّه بن محمد بن الناصح، ثنا أحمد بن علي المروزي، ثنا هدبة بن خالد، ثنا همام، ثنا قتادة، عن عبد الرحمن مولى أم برثن، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ الْجُمُعَةَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَاخْتَلَفُوا فِيهَا فَهَدَانَا اللَّهُ لَهَا، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهَا تَبَعٌ فَالْيَوْمَ لَنَا وَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى".

وَأَخْبَرَنَاهُ أعلى من هذه الروايات كلها أبو محمد القاسم بن مظفر بن محمود الدمشقي بها، عن أبي الوفاء محمود بن إبراهيم بن منده الأصبهاني أدنى منها، أنا أبو الخير محمد بن أحمد الباغبان، أنا عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق العبدي، أنا أبي الحافظ أبو عبد اللَّه بن منده، أنا محمد بن عمر بن حفص، ثنا إسحاق بن إبراهيم شاذان، ثنا سعد بن الصلت، عن الأَعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-, عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولًا الْجَنَّة بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَهَذَا الْيَومُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ الْجُمُعَة فَهُوَ لنَا وَلِلْيَهُودِ السَّبت وَلِلنَّصَارَى الأَحَد". هذا حديث صحيح ثابت متفق عليه من حديث حافظ الصحابة أبي هريرة الدوسي -رضي اللَّه عنه-، وقد اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافًا كثيرًا يتحصل منه ثلاثون قولًا لا فائدة في الإطالة بذكرها والمشهور أن اسمه عبد الرحمن بن صخر. وقال هشام بن محمد الكلبي وخليفة بن خياط: اسمه عمير بن عامر بن عبد ذي الشرى بن طريف ابن عتاب بن أبي صعب بن منبه بن سعد بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس -وهو الذي تنسب إليه القبيلة- بن عدثان بن عبد اللَّه بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. جماع اليمن، أسلم أيام خيبر وكانت في أوائل سنة سبع من الهجرة ولزم من حينئذ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رغبة في العلم إلى أن توفي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو أكثر الصحابة حديثًا، روي له عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم منها على ثلاثمائة وخمسة وعشرين حديثًا، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين حديثًا، ومسلم بمائة وتسعة وثمانين حديثًا. قال البخاري: روى عن أبي هريرة فوق ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والتابعين، وأخرج في "صحيحه" عنه أنه قال: ما أحد أكثر

حديثًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مني إلا ما كان من عبد اللَّه بن عمرو فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب (¬1). وفي "الصحيح" أيضًا عنه أنه قال: إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وكنت امرءًا مسكينًا ألزم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على ملء بطني؛ فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا، وقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث يحدثه: "إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أحَدٌ ثَوْبَهُ حتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتي هَذِهِ ثُمَّ يَجْمَعَ إِلَيهِ ثَوْبَهُ إِلَّا وَعَى مَا أَقُولُ". قال: فبسطت نمرة كانت عليَّ حتى إذا قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مقالته جمعتها إلى صدري فما نسيت من مقالة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تلك من شيء (¬2). وفي "صحيح مسلم" أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤمِنينَ". قال أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-: فلا يسمع بي مؤمن إلا أحبني (¬3). وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ. توفي في قصره بالعقيق على أميال من المدينة سنة ثمان وخمسين في قول الأكثرين -وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة تسع- وحمل إلى المدينة فدفن بها، وكان سِنُّه يوم مات ثمانيًا وسبعين سنة -رضي اللَّه عنه-. اتفق البخاري ومسلم على إخراج هذا الحديث من عدة طرق: فأَمَّا طَرِيقُ طَاوُسٍ: فرواها البخاري عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب (¬4). وأخرجها مسلم عن محمد بن يحيى بن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة (¬5). وعن محمد ابن حاتم، عن بهز بن أسد، عن وهيب بن خالد، كلاهما عن عبد اللَّه بن طاوس، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (113). (¬2) رواه البخاري (2047). (¬3) رواه مسلم (2491) ضمن حديث دعاء أبي هريرة أمه للإسلام. (¬4) "صحيح البخاري" (3486). (¬5) "صحيح مسلم" (855).

عن أبيه به (¬1). ورواها النسائي عن خشيش بن أصرم، عن عبد الرزاق كما رويناه أولا فوقع بدلًا له عاليًا (¬2). وَطَرِيقُ الأَعْرَجِ: رواها البخاري عن أبي اليمان، عن شعيب كما رويناه عنه (¬3). ومسلم عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة كما رويناه أَيضًا (¬4). وَأَمَّا طَرِيقُ أَبِي صَالِحٍ، عن أبي هريرة فانفرد بها مسلم فرواها عن قتيبة بن سعيد وزهير بن حرب، كلاهما عن جرير بن عبد الحميد، عن الأَعمش، عن أبي صالح -واسمه ذكوان- عنه (¬5). وكذلك انفرد مسلم أَيضًا بطريق همام بن منبه، عن أبي هريرة كما سقناه من حديثه (¬6). وأخرجه أَيضًا من حديث أبي حازم سلمان مولى عزة الأشجعية، عن أبي هريرة، ومن حديث ربعي بن حراش، عن حذيفة بن اليمان -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7)، وقد وقع لنا عاليًا من هذا الوجه أَيضًا: أَخْبَرَنَاهُ أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن حامد الأرموي وأبو عبد اللَّه محمد بن منصور الحلبي وأبو العباس أحمد بن أبي العز إبراهيم بن أبي عمر وأبو محمد حمزة بن عبد اللَّه بن حمزة ومحمد بن إبراهيم بن مرى ومحمد بن عبد اللَّه بن أحمد الصالحيون وجماعة آخرون. قال الأولان: أنا أحمد بن علي بن يوسف الدمشقي. وقال الأول أَيضًا: أنا إسماعيل بن عبد القوي الأنصاري. ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (849). (¬2) "السنن الكبرى" (1653). (¬3) "صحيح البخاري" (876). (¬4) "صحيح مسلم" (855/ 19). (¬5) "صحيح مسلم" (855/ 20). (¬6) "صحيح مسلم" (855/ 21). (¬7) "صحيح مسلم" (856/ 22).

وقال الثاني أَيضًا: أنا عبد اللَّه بن عبد الواحد المصري. وقال الباقون: أنا محمد بن إسماعيل المقدسي، قالوا: أنا هبة اللَّه بن علي البوصيري، أنا مرشد بن يحيى المديني، أنا محمد بن الحسين النيسابوري، أنا محمد ابن عبد اللَّه بن حيويه، ثنا أحمد بن شعيب النسائي الحافظ، أنا واصل بن عبد الأعلى، ثنا ابن فضيل، عن أبي مالك الأَشجعي. ح. وَأَخْبَرَنَا القاسم بن مظفر الدمشقي بقراءتي، عن الأنجب بن أبي السعادات وعبد اللطيف بن محمد البغداديين، قالا: أنا طاهر بن محمد المقدسي، أنا محمد بن مكي ابن الهيثم، أنا القاسم بن أبي المنذر الخطيب، أنا علي بن إبراهيم بن سلمة، ثنا محمد ابن ماجه الحافظ، ثنا علي بن المنذر، ثنا ابن فضيل، ثنا أبو مالك الأَشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة. وعن ربعي بن حراش، عن حذيفة -رضي اللَّه عنهما- قالا: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبتِ وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الأَحَدِ، فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالأَحَدَ وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْم الْقِيَامَةِ وَنَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنيَا الأَوَّلُونَ يَوْم الْقِيَامَةِ الْمقْضِي لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائقِ". هذا لفظ رواية النسائي (¬1)، ورواية ابن ماجه (¬2) مختصرة عن هذا بمعناه. أخرجه مسلم (¬3) عن واصل بن عبد الأعلى كما رويناه فوافقناه فيه بعلو، وقد رواه عن أبي هريرة أيضًا: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف فيما: أَخْبَرَتْنَا وزيرة بنت عمر التنوخية، أنا الحسين بن المبارك، أنا طاهر بن محمد، أنا مكي بن علان، أنا أحمد بن الحسن، أنا محمد بن يعقوب، أنا الربيع بن سليمان، أنا الإمام محمد بن إدريس، أنا إبراهيم بن محمد، حدثني محمد بن عمرو بن علقمة، ¬

_ (¬1) "سنن النسائي" (3/ 85). (¬2) "سنن ابن ماجه" (1083). (¬3) "صحيح مسلم" (856/ 22).

عن أبي سلمة، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْم الْقِيَامَةِ. . . " فذكره كما تقدم. فهؤلاء سبعة رووه عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- فهو مشهور عنه وهو عزيز عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمتابعة حذيفة بن اليمان لأبي هريرة -رضي اللَّه عنهم-. وَالْمَبَاحِثُ المُتَعلِّقَةُ بِهَذَا السَّنَدِ مِنْ عُلُومِ الْحَدِيثِ كَثيرَةٌ لَكِنْ نُشِيرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الاخْتِصَارِ: وهو أنه قد تقرر أن الخبر على قسمين: مُتَوَاتِرٌ وَآحَادٌ، وأن المتواتر خبر الجماعة المفيد بنفسه العلم بصدق ذلك الخبر، وشرطه استواء الطرفين والواسطة، والبحث فيه مع من ينكر إفادته العلم مشهور فلا فائدة في ذكره وكذلك الكلام في اشتراط عدد المخبرين، والصحيح أنه لا يشترط فيه عدد. وأما خبر الواحد فهو ما لم ينته إلى التواتر وهو على ضربين: مستفيض وغيره، والأول هو المسمى عند أهل الحديث بالمشهور: وهو ما زادت نقلته على ثلاثة، وينقسم إلى: - مشهور بين أهل الحديث وغيرهم كحديث: "الْمُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ" (¬1). - وإلى مشهور بين أهل الحديث خاصة وهو الكثير، وينقسم أَيضًا إلى: • مشهور صحيح كهذا الحديث عن أبي هريرة. • وإلى مشهور ضعيف كحديث: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ" (¬2). وغير المشهور ما نقص عن هذه الدرجة، وكل منها مفيد للظن القاصر عن العلم عند الجمهور من أئمة الأصول والفقه، لكن الظن الحاصل من الخير المشهور أقوى منه من غيره وتظهر فائدة ذلك عند التعارض والترجيح، وذهب جمهور أهل ¬

_ (¬1) رواه البخاري (10)، ومسلم (40) من حديث عبد اللَّه بن عمرو، ورواه مسلم (41) من حديث جابر. (¬2) رواه ابن ماجه (224) من حديث أنس بن مالك.

الحديث إلى أن الخبر المشهور الذي تعددت طرقه وكثرت مخارجه وهي صحيحة كلها تفيد العلم النظري لا الضروري، وهذا اختيار الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني (¬1) وأبي بكر بن فورك (¬2) والإمام أبي منصور التميمي (¬3)، وفي كلام إمام الحرمين (¬4) ما يقتضي الميل إليه، وكذلك القاضي الماوردي (¬5) كما سنحكيه عنه، وعلى هذا ينبغي أن يتنزل قول الإمام أحمد أن خبر الواحد يفيد العلم لا مطلقًا فإنه بعيد أن يقول به، والصحيح أن مثل هذا وإن أفاد العلم فلا يفيده لكل أحد ولا ¬

_ (¬1) هو الإمام العلامة الأوحد الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الإسفراييني الأصولي الشافعي الملقب ركن الدين أحد المجتهدين وصاحب المصنفات الباهرة. حدث عنه: أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم القشيري، وأبو الطيب الطبري. انظر "سير أعلام النبلاء" (17/ 353). (¬2) هو الإمام العلامة الصالح شيخ المتكلمين أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني. حدث عنه: أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم القشيري، وأبو بكر بن خلف، وآخرون. انظر "سير أعلام النبلاء" (17/ 214). (¬3) هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد الأستاذ أبو منصور التميمي البغدادي. قال عبد الغافر: ورد نيسابور مع أبيه فاشتغل بها على الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وغيره إلى أن برع ودرس في سبعة عشر عامًا وأقعده الأستاذ للإملاء فأملى سنتين واختلف إليه الأئمة. انظر "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (2/ 211 رقم 172). (¬4) هو الإِمام الكبير شيخ الشافعية إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن الإمام أبي محمد عبد اللَّه بن يوسف بن عبد اللَّه بن يوسف بن محمد بن حيوية الجويني ثم النيسابوري ضياء الدين الشافعي صاحب التصانيف. انظر "سير أعلام النبلاء" (18/ 468). (¬5) هو الإِمام العلامة أقضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي الشافعي صاحب التصانيف. حدث عنه: أبو بكر الخطيب، ووثقه. انظر "سير أعلام النبلاء" (18/ 64).

يطرد في كل خبر مشهور بل يختص ذلك بالذي صحت طرقه كلها وسلمت عن التعليل ويختص بأئمة الحديث المتبحرين فيه، والكلام في هذا قريب من الكلام في خبر الواحد إذا احتفت به القرائن فقد اختار الغزالي (¬1) والأمدي (¬2) وابن الحاجب (¬3) وغيرهما أنه قد يفيد العلم أَيضًا لكنه لا يطرد في كل خبر احتفت به القرائن كما ذكرناه. وقد سلك القاضي الماوردي في كتابه "الحاوي" مسلكًا غريبًا وهو أنه جعل المستفيض أقوى من المتواتر وجعل كلًّا منهما يفيد العلم، قال: فالمستفيض أن ينتشر من ابتدائه من البر والفاجر وهلم جرًّا إلى آخره يعني استوى فيه الطرفان والواسطة، والمتواتر: ما ابتدأ به الواحد بعد الواحد حتى يكثر عددهم ويبلغوا عددًا ينتفي عن مثلهم الغلط والتواطؤ، فيكون في أوله من أخبار الآحاد وفي آخره من أخبار التواتر ويكون الفرق بين خبر التواتر والاستفاضة من ثلاثة أوجه: أَحَدُهَا: ما ذكرنا من اختلافهما في الابتداء واتفاقهما في الانتهاء. ¬

_ (¬1) هو الشيخ الإمام البحر حجة الإِسلام أعجوبة الزمان زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي الغزالي صاحب التصانيف والذكاء المفرط. تفقه ببلده أولا ثم تحول إلى نيسابور في مرافقة جماعة من الطلبة فلازم إمام الحرمين فبرع في الفقه. انظر "سير أعلام النبلاء" (19/ 322). (¬2) هو العلامة المصنف فارس الكلام سيف الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الآمدي الحنبلي ثم الشافعي. وحفظ عدة كتب وكرر على المستصفى وتبحر في العلوم وتفرد بعلم المعقولات والمنطق والكلام وقصده الطلاب من البلاد. انظر "سير أعلام النبلاء" (22/ 364). (¬3) هو المحدث البارع مفيد الطلبة عز الدين عمر بن محمد بن منصور الأميني الدمشقي ابن الحاجب الجندي. انظر "سير أعلام النبلاء" (22/ 370).

وَالثَّانِي: أن أخبار الاستفاضة لا يراعى فيها عدالة المخبر، وأخبار التواتر يراعى فيها ذلك. وَالثَّالِثُ: أن أخبار التواتر هي التي انتشرت عن قصد لروايتها، وأخبار الاستفاضة تنتشر من غير قصد لروايتها. ثم قال: والمستفيض من أخبار السنة مثل أعداد الركعات، والمتواتر مثل نصب الزكوات، هذا خلاصة ما ذكره وحاصله القول بأن الخبر المشهور يفيد العلم، لكنه عكس التسمية فسمى المتواتر بالمستفيض والمستفيض بالمتواتر. وقوله في الاستفاضة هنا موافق لما اختاره في الشهادات أن الشهادة بالاستفاضة يشترط فيها أن يكون سمع ذلك من عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب وهو اختيار ابن الصباغ (¬1) والغزالي والمتأخرين. قال الرافعي (¬2): وهو أشبه بكلام الشافعي رحمه اللَّه. والذي اختاره الشيخ أبو حامد الإسفراييني (¬3) والشيخ أبو إسحاق (¬4) في "التنبيه" ¬

_ (¬1) هو مفتي الشافعية أبو طاهر محمد بن عبد الواحد بن محمد البغدادي ابن الصباغ. سمع: أبا حفص بن شاهين، والمعافى، وعدة. وتفقه بالشيخ أبي حامد، وتفقه عليه ولده أبو نصر صاحب الشامل قال الخطيب: كتبنا عنه وكان ثقة. انظر "سير أعلام النبلاء" (18/ 22). (¬2) هو شيخ الشافعية عالم العجم والعرب أبو القاسم عبد الكريم بن العلامة أبي الفضل محمد ابن عبد الكريم بن الفضل بن الحسين الرافعي القزويني. من مصنفاته: الشرح الكبير، وشرح مسند الشافعي وهو بتحقيقي. انظر "سير أعلام النبلاء" (22/ 252). (¬3) هو الأستاذ العلامة شيخ الإِسلام أبو حامد أحمد بن أبي طاهر محمد بن أحمد الإسفراييني شيخ الشافعية ببغداد. ولد سنة أربع وأربعين وثلاث مئة، وقدم بغداد وله عشرون سنة فتفقه على أبي الحسن بن المرزبان وأبي القاسم الداركي وبرع في المذهب. وحدث عن: عبد اللَّه بن عدي، وأبي بكر الإسماعيلي، وسمع السنن من الدارقطني. انظر "سير أعلام النبلاء" (17/ 193). (¬4) هو الشيخ الإمام القدوة المجتهد شيخ الإِسلام أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي الشافعي نزيل بغداد. =

وأبو حاتم القزويني (¬1) أن الاستفاضة تثبت بسماعه من اثنين، وإليه ميل إمام الحرمين رحمه اللَّه. فَهَذَا بَعْضُ مَا يتَعلَّقُ بِسَنَدِهِ. قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَحْنُ الْآخِرُون" يعني في الدنيا "وَنحْنُ السَّابِقُونَ" يعني يوم القيامة في القضاء بينهم قبل الخلائق، وفي دخول الجنة كما صرح به في بعض الروايات المتقدمة. و"بَيْدَ" قال أبو عبيد: يكون بمعنى "غير"، وبمعنى "على"، وبمعنى "من أَجل". والكل صحيح هنا وموضعها نصب على الاستثناء. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اختَلَفُوا فِيهِ" يعني يوم الجمعة، وَقَدْ اخْتُلِفَ في كَيْفِيَّة هَذَا الاخْتلَاف: فَقَالَ جَمَاعَةٌ: إن اللَّه تعالى أمر اليهود بيوم غير معين من أيام الأسبوع يجتمعون ¬

_ = حدث عنه الخطيب وأبو الوليد الباجي والحميدي وإسماعيل ابن السمرقندي وأبو البدر الكرخي. قال السمعاني: هو إمام الشافعية ومدرس النظامية وشيخ العصر، رحل الناس إليه من البلاد وقصدوه، وتفرد بالعلم الوافر مع السيرة الجميلة والطريقة المرضية، جاءته الدنيا صاغرة فأباها واقتصر على خشونة العيش أيام حياته، صنف في الأصول والفروع والخلاف والمذهب، وكان زاهدًا ورعًا متواضعًا ظريفا كريمًا جوادًا طلق الوجه دائم البشر مليح المحاورة. انظر "سير أعلام النبلاء" (18/ 453). (¬1) هو العلامة الأوحد أبو حاتم محمود بن حسن الطبري القزويني الشافعي الفقيه الأصولي الفرضي صاحب التصانيف الغزيرة في الخلاف والأصول والمذهب. أخذ الأصول عن: أبي بكر بن الباقلاني، والفرائض عن ابن اللبان، والفقه عن الشيخ أبي حامد وجماعة من مشايخ آمل. انظر "سير أعلام النبلاء" (18/ 128).

فيه ويعظمون اللَّه تعالى، فاجتهدوا واختاروا يوم السبت، وكذلك النصارى فاختاروا يوم الأحد، وكل منهما أخطأ في اجتهاده ما أمره اللَّه به. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ وغيره أن موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل عن اللَّه تعالى بيوم الجمعة على التعيين فناظروه على ذلك، وقالوا: يوم السبت أولى، وعدلوا عن يوم الجمعة إليه ظلمًا وعدوانًا. وَالأَوَّلُ أَظْهَرٌ؛ لحديث حذيفة المتقدم: "أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبلَنَا. . . " الحديث، ولقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ" أي أخطئوا لما اختلفوا في اجتهادهم، ولو كان عينه لهم ثم عدلوا عنه إلى غيره لقال: "خالفوا فيه". وَكَذَلِكَ اختُلِفَ أَيضًا في معنى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ" هل كان فعل الجمعة عن إلهام من اللَّه للصحابة وهداية منهم إليه من غير توقيف، أو عن توقيف من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لهم على قولين: أَحَدُهُمَا -وإليه مال السهيلي (¬1): أنه كان بتوقيف من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وروى فيه حديثًا عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: أذن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالجمعة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن يجمع بمكة ولا يبدي لهم ذلك؛ فكتب إلى مصعب بن عمير: أما بعد، فانظر قبل اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم فأجمعوا نساءكم وأبناءكم، فهذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى اللَّه بركعتين. قال: فهو أول من جمع مصعب بن عمير حتى قدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وذكر هذا الحديث بسند فيه انقطاع، وفيه من هو مضعف، ومن يجهل حالة ولا تنتهض به الحجة. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- جمعوا بالمدينة قبل أن يأمرهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك، وقد روى عبد بن حميد في "تفسيره" عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن ¬

_ (¬1) هو عالم الأندلس الحافظ أبو زيد عبد الرحمان بن عبد اللَّه بن أحمد الخثعمي السهيلي المالقي الضرير صاحب "الروض الأنف". انظر "سير أعلام النبلاء" (21/ 157).

سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموه الجمعة، قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى كذلك، فهلم فلنجعل يومًا نجتمع فيه نذكر اللَّه ونصلي ونشكر أو كما قالوا، فقالوا: يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى؛ فاجعلوه يوم العروبة -وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة- فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة -رضي اللَّه عنه- فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم وذبح لهم شاة فتغدوا منها وتعشوا لقلتهم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم إليه، ثم أنزل اللَّه بعد ذلك: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (¬1) يعني ففرضها عليهم (¬2). وهذا وإن كان حديثًا مرسلًا فهو صحيح الإسناد من أحسن المراسيل، ويقويه ما صح عن كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه- أنه كان إذا سمع النداء للجمعة ترحم على أبي أمامة أسعد بن زرارة -رضي اللَّه عنه- فسأله ابنه عن ذلك فقال: يا بني هو أول من صلى بنا الجمعة (¬3). فهذا يدل على خلاف الرواية الأولى، وأن مصعب بن عمير لم يصل بهم أولًا، ويتأيد هذا القول أيضًا بما تقدم من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا" وقال فيه: "فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ". وَالظَّاهِرُ أن هاتين الركعتين اللتين كان أسعد بن زرارة يصليهما بهم غير صلاة الجمعة؛ لأن فرضهم أولًا كان صلاة الظهر ولم يكن لهم تركها إلى هاتين الركعتين إلا بتوقيف، ثم لما فرض اللَّه عليهم الجمعة استقرت الركعتان عوضًا عن صلاة الظهر. وإنما عدلت اليهود إلى يوم السبت، والنصارى إلى يوم الأحد؛ لما زعموا جميعًا ¬

_ (¬1) الجمعة: الآية 9. (¬2) رواه عبد الرزاق (5144). (¬3) رواه أبو داود (1069)، وابن ماجه (1082)، وابن خزيمة (1724). قال الحافظ في "الفتح" (2/ 355): إسناده حسن. وكذا حسنه الألباني في "صحيح أبي داود" (980).

أن بدء الخلق كان يوم الأحد وآخر الأيام الستة يوم الجمعة؛ فعظمت اليهود السبت لأنهم اعتقدوه اليوم السابع وزادوا كفرًا وعدوانًا بأن سموه يوم الراحة، قالوا: استراح اللَّه فيه من الخلق تعالى اللَّه عما يقولون علوًّا كبيرًا، وعظمت النصارى يوم الأحد لأنه الذي ابتدئ فيه بخلق المخلوقات، وكل ذلك ليس بصحيح بل الصحيح ما ثبت في "صحيح مسلم" عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ. . . " (¬1) الحديث، فآخر الأيام الستة إذن يوم الخميس فكان يوم الجمعة هو اليوم السابع، وفيه خلق آدم عليه السلام فأكرم اللَّه بنيه بأن يجتمعوا يوم خلقه ويشكروا اللَّه تعالى ويذكروه لأنه جعل فيه بدء خلقهم وكذلك جعل فيه فناءهم، كما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ" (¬2) فكان الاجتماع فيه للتذكرة بالمبدأ والمعاد، ولهذا خص البيع فيه بالنهي عند السعي إلى الجمعة تذكرة باليوم الذي لا بيع فيه ولا خلال، ولأجل التذكرة بالمبدأ والمعاد كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- واللَّه أعلم- يقرأ سورة الجمعة في صبحه. وَاسْتَحَبَّ الفقهاء قراءتها لما اشتملت عليه من ذكر خلق آدم من طين، ولما فيها من ذكر يوم القيامة، ثم كان هذا اليوم مناسبًا لسبق هذه الأمة إلى كل خير؛ لأنه سابق ليومي اليهود والنصارى؛ ولأنه وتر الأيام التي قبله على ما تقدم أن أول المخلوقات كان يوم السبت واللَّه تعالى وتر يحب الوتر. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ الأَيَّامِ أَوْ يَوْمُ عَرَفَةَ؟ وهما وجهان لأصحابنا، ورجح المتأخرون منهم تفضيل يوم عرفة؛ لحديث هشام الدستوائي، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ من يَوْمِ عَرَفَةَ. . . " الحديث، أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬3) وإسناده على شرط مسلم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2789) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬2) رواه مسلم (854) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬3) رواه ابن حبان (3853).

وفي "صحيح مسلم" عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا مِن يَوْمٍ أَكْثَر مِنْ أَنْ يَعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ. . . " (¬1) الحديث. وحجة الوجه الآخر حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ" رواه مسلم (¬2) والترمذي (¬3)، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" من وجه آخر على شرط مسلم، ولفظه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ وَلَا تَغْرُبُ عَلَى يَوْمٍ أَفضَل مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ" (¬4). وروى البيهقي من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَيِّدُ الأَيَّامِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَهُ، وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ من يوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الأَضْحَى" (¬5). وفي إسناده عبد اللَّه بن محمد بن عقيل وهو مختلف في الاحتجاج به، والترمذي يحسن حديثه. وَتَظْهَرُ فائدة الخلاف فيما لو قال لزوجته: أنت طالق في أفضل الأيام، وحكى الشيخ محيي الدين (¬6) عن الأصحاب أن صورة هذه المسألة إذا لم يكن له نية، فإن أراد أفضل أيام السنة فيتعين يوم عرفة، وإن أراد أفضل أيام الجمعة فيتعين يوم الجمعة؛ وفي هذا نظر لأن الظاهر أن من يقول: يوم الجمعة أفضل الأيام فهو أول أفضل أيام السنة عنده فهذا جاء يوم الجمعة طلقت ولا ينتظر يوم عرفة، نعم لو أراد ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1348). (¬2) رواه مسلم (854). (¬3) "جامع الترمذي" (488). (¬4) "صحيح ابن حبان" (2770). (¬5) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (3973). والحديث رواه أحمد (3/ 430)، وابن ماجه (1084). وحسنه صاحب مصباح الزجاجة، والألباني في "صحيح الجامع" (2279). (¬6) هو الإِمام النووي رحمه اللَّه الإِمام العلم.

أفضل أيام جمعة معينة ولم يكن فيها يوم عرفة فينصرف إلى يوم الجمعة، وإن قلنا: إن يوم عرفة أفضل منه. وَمِنْ خَصَائِصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ: ساعة الإجابة فيه التي لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل اللَّه فيها خيرًا إلا أعطاه إياه كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وقد ذهب شذوذ من الناس إلى أنها رفعت، وهو قول مردود، والذي عليه علماء الأمصار أنها باقية في كل جمعة. قال عبد اللَّه بن [يحنس] (¬1): قلت لأبي هريرة: زعموا أن الساعة التي في الجمعة رفعت. قال: كذب من قال ذلك. قلت: هي في كل جمعة أستقبلها؟ قال: نعم (¬2). وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في تَعْيِينِ وَقْتِهَا عَلَى أَقْوَالٍ أَشْهَرُهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهَا: أنها ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة، وهذا هو الذي رجحه النووي وغيره من المتأخرين؛ لما روى مسلم في "صحيحه" عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ" (¬3). وَقَالَ آخَرُونَ: هي ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهو قول عبد اللَّه ابن سلام وعبد اللَّه بن عباس وأبي هريرة وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد، وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد وإسحاق، وكان شيخنا إمام الأئمة أبو المعالي (¬4) رحمه اللَّه يختاره وذكر أنه قول الشافعي رحمه اللَّه، ويرجحه على القول الأول بِأُمُورٍ: ¬

_ (¬1) في الأصل: قيس. والمثبت من "المصنف". وعبد اللَّه بن يحنس انظر ترجمته في "الجرح والتعديل" (5/ ترجمة 955). (¬2) رواه عبد الرزاق (5586). (¬3) رواه مسلم (853/ 16). (¬4) هو الإِمام ابن الزملكاني، وقد سبقت ترجمته في المقدمة.

أَحَدُهَا: كَثْرَةُ الأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، فَمِنْهَا: حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر -رضي اللَّه عنه-[عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬1) قال: "يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشَرَةَ سَاعَةٍ فِيهَا سَاعَةٌ لَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيئًا إِلَّا أَعْطَاهُ؛ فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بعْدَ العَصْرِ" رواه أبو داود (¬2)، والنسائي (¬3)، وإسناده على شرط مسلم. وحديث موسى بن وردان، عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الْتَمِسُوا السَّاعَةَ الَّتي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ العَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ" رواه الترمذي وقال: غريب (¬4). وحديث عبد السلام بن حفص، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ السَّاعَةَ الَّتِي يُتَحَرَّى فِيهَا الدُّعَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ من الْجُمُعَةِ". وحديث سليمان بن بلال، عن أبيه، عن صفوان بن سليم، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "السَّاعَةُ الَّتي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ يَومَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ" رواهما ابن عبد البر في "التمهيد" (¬5) ورجالهما ثقات. قال الإِمام أحمد بن حنبل: أكثر الحديث في ساعة الجمعة أنها بعد العصر. وَثَانِيهَا: أنها الساعة التي خلق آدم فيها كما ورد في الحديث؛ فأكرم بنوه بأن جعلت تلك الساعة يستجاب فيها دعاؤهم، وقد أشار إلى هذه العلة كعب وغيره. وَثَالِثُهَا: أن ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة بين أذانين وبين كل أذانين ساعة إجابة، فلا خصوصية للجمعة في ذلك بخلاف القول بأنها بعد العصر، ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. وأثبتها من "السنن". (¬2) "سنن أبي داود" (1048). (¬3) "سنن النسائي" (3/ 99). (¬4) "جامع الترمذي" (489). (¬5) "التمهيد" (23/ 43 - 44).

وعلى هذا القول فيحمل قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث المتقدم: "لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي" على القيام بمعنى المواظبة كما في قوله تعالى: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (¬1) أي: مواظبًا، على أنه قد روى الطبراني هذا الحديث بسند صحيح وزاد فيه: "وَهُوَ يُصَلِّي أوْ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ". ومن العلماء من جمع بين الأحاديث بأنها تنتقل في ساعات الجمع بحسب الأيام كما قيل بمثله في ليلة القدر، واللَّه أعلم. الْوَجْهُ الْخَامِسُ من الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ: وأشكل ما فيها الكلام على قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} (¬2) فإن من قال: فعلت كذا لأعلم كذا أوهم قوله أن العلم بذلك لم يكن حاصلًا وأنه إنما فعل ذلك الفعل ليحصل له ذلك العلم واللَّه سبحانه وتعالى منزه عن ذلك لقدم علمه وتعلقه بالأشياء كلها قبل حدوثها، ونظير هذه الآية في الإشكال قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ}. . . الآية (¬3)، وقوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (¬4)، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} (¬5). والكلام في كشف هذا الإشكال يستدعي الكلام في أن اللَّه تعالى عالم بالجزئيات وجميع المعلومات، وقد سلك الإِمام فخر الدين (¬6) في كتابه "الأربعين" للدليل على ¬

_ (¬1) آل عمران: الآية 75. (¬2) البقرة: الآية 143. (¬3) محمد: الآية 31. (¬4) آل عمران: الآية 142. (¬5) سبأ: الآية 21. (¬6) هو العلامة الكبير ذو الفنون فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين القرشي الأصولي المفسر كبير الأذكياء والحكماء والمصنفين. قال الذهبي: وقد اعترف في آخر عمره حيث يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، واقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. انظر "سير أعلام النبلاء" (21/ 500)

ذلك مسلكًا يحتاج إلى فصل نظر، وخلاصة ما ذكره أن اللَّه سبحانه حيٌّ والحيُّ هو الذي يصح أن يعلم كل المعلومات، والموجب لعالميته للبعض ذاته تعالى ونسبة ذاته إلى الكل سواء فلزم عالميته للكل، واعترض القاضي سراج الدين (¬1) على هذا الدليل بأن لقائل أن يقول: عدم أولوية البعض في نفس الأمر ممنوع وبالنسبة إليها لا يفيد، وقد ذكر الإِمام فخر الدين هذا الدليل في "المحصل" ولم يتعرض فيه لإيجاب الذات العالمية فقال: لنا أن اللَّه تعالى لكونه حيًّا يصح أن يكون عالمًا بكل المعلومات، فلو اختصت عالميته بالبعض دون البعض لافتقر إلى المخصص وهو محال. وقال النصير الطوسي: على هذا الكلام لقائل أن يقول: بالبديهة عرفت أن المخصص هنا محال أم بالدليل؟ فإن قلت بالبديهة فقد كابرت، وإن قلت بالدليل فأين الدليل؟ غاية ما في الباب أن نقول: نحن ما نعرف جواز المخصص أو امتناعه. وهذا الذي ذكره الإِمام فخر الدين رحمه اللَّه أولًا في "الأربعين" من كون الموجب لعالميته ذاته شعبة فلسفة دخلت عليه ولا يناسب ما قرره في قواعد الصفات من إثبات مذهب أهل السنة الذي هو الحق فيها أن اللَّه تعالى عالم بعلم؛ حتَّى عدَّ بعض من شرح كلامه هذا الدليل مدسوسًا عليه في كتابه أو مما أفسده النقلة من حذف ما يستقيم به الكلام ونحوه. وأما الذي ذكره في "المحصل" فلم يحل فيه إيجاب العالمية على الذات، ويمكن أن يقرر على وجه يسلم مما ذكره النصير الطوسي، وهو أن يقال: قد ثبت أنه سبحانه وتعالى حيٌّ على ما تقرر ذلك في موضعه، وكل حيٍّ يصح منه أن يعلم كل واحد من المعلومات وما صح للَّه تعالى من الصفات الذاتية وجب له لأنه يستحيل أن يتصف بجائز، إذ لو اتصف بجائز لزم قيام الحوادث بذاته تعالى وذلك محال، وأيضًا لو ¬

_ (¬1) هو محمود بن أبي بكر بن أحمد الأرموي القاضي سراج الدين أبو الثناء صاحب "التحصيل" المختصر من "المحصول في أصول الفقه". انظر "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (2/ 202).

كانت صفته ممكنة لصح تعلق القدرة بإيجادها وذلك محال، فبهذا التقدير يتضح معنى قول الإِمام فخر الدين في "المحصل" لو اختصت عالميته بالبعض دون البعض لافتقرت إلى المخصص ويكون الدليل الذي طالبه الطوسي به هو الدليل على افتقار الممكنات إلى المخصص واستحالة ذلك المخصص الذي يفتقر إليه الممكن في صفات اللَّه تعالى. فإذا تقرر أنه سبحانه عالم بكل المعلومات تعين حمل قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} (¬1) على غير ظاهره من تجدد العلم في ذاته تعالى. وَيَتَحَصَّلُ مِن كَلَامِ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ فِي تَأْوِيلِهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أن المراد إلا ليعلم حزبنا من النبيين والمؤمنين كما قالوا: فتح عمر السواد؛ وإنما فتحه جيشه. وَالثَّانِي: أن المراد إلا لنعلمه موجودًا، وهذا على قول من يقول: إن العلم بأن الشيء سيوجد غير العلم بوجوده إذا وجد، وهو قول كثير من أصحابنا المتكلمين والخلاف فيه مشهور. وَالثَّالِث: أن المراد إلا لنميز هؤلاء من هؤلاء بانكشاف ما في قلوبهم، فإن ذلك أحد ثمرات العلم. وَالرَّابعُ: أن المراد بالعلم الرؤية، وروي عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه-. وَالْخَامِسُ: أن المراد ليعلموا يعني به المخالفين كما يقول الرجل للآخر: النار تحرق الحطب، فيقول الآخر: لا بل الحطب يحرق النار، فيقول الأول: سنجمع بينهما لنعلم أي لتعلم أيها المنكر. وَالسَّادِسُ: أن المراد أن يعامله معاملة المختبر لهم. وَالسَّابعُ: أن ذكر العلم هنا صلة في الكلام وتقديره إلا ليتبع الرسول من يتبعه وينقلب على عقبيه من ينقلب، وهو أضعفها. ¬

_ (¬1) البقرة: الآية 143.

الْوَجهُ السَّادِسُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالآيَةِ من أُصُولِ الْفِقهِ: فمما يتعلق بها ما احتج به أكثر العلماء منها على وقوع نسخ السنة بالقرآن؛ فإنه ليس في القرآن وجوب التوجه إلى بيت المقدس وهذه الآية ناسخة لذلك الحكم، وقد قال بهذا جمهور الفقهاء وأهل الأصول، ومنعه الإِمام الشافعي رحمه اللَّه في كتاب "الرسالة" (¬1)، وخرج ابن سريج (¬2) قولًا للإمام الشافعي بالجواز أخذًا من استدلاله بقوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (¬3) مع أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان عاقد قريشًا على أن من جاءه منهم رده إليهم، فلما هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط طلب المشركون ردها إليهم؛ فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هذه الآية ونسخ بها وجوب الوفاء برد النساء المهاجرات دون الرجال (¬4). ولقائل أن يمنع صحة هذا التخريج فقد حكى الأصحاب عن الشافعي رحمه اللَّه قولين في أن شرط الرد في عقد الحديبية هل شمل النساء أم لا؟ فعلى القول بأنه لم يشمل النساء ولم يتناولهن لا يكون نسخ شيء؛ وأما على القول الآخر فإنما دخل النساء في عموم لفظ "مَنْ" فلا يكون إخراج النساء نسخًا، بل هو تخصيص لأنه لم يمنع رد الجميع وإنما منع رد النساء فقط وأبقى الرجال على حكمهم في الرد فلا يصير بهذا الاحتجاج للشافعي رحمه اللَّه قول في جواز نسخ السنة بالقرآن، ولا يقال: التخصيص إذًا ورد بعد العمل بالعام في محل التخصيص يكون ¬

_ (¬1) "الرسالة" (1/ 106). (¬2) هو الإِمام شيخ الإِسلام فقيه العراقيين أبو العباس أحمد بن عمر ابن سريج البغدادي القاضي الشافعي صاحب المصنفات. سمع من: الحسن بن محمد الزعفراني تلميذ الشافعي، وعلي بن إشكاب، وأحمد بن منصور الرَّماديّ. وتفقه بأبي القاسم عثمان بن بشار الأنماطي الشافعي صاحب المزني وبه انتشر مذهب الشافعي ببغداد وتخرج به الأصحاب. انظر "سير أعلام النبلاء" (14/ 201). (¬3) الممتحنة: الآية 10. (¬4) رواه البخاري (2713).

نسخًا؛ لأنا نقول: لم يعمل بالعام في رد النساء أصلًا بل أول من هاجر منهن بعد عقد الحديبية أم كلثوم المذكورة ومنع اللَّه من ردها بالآية المذكورة. وَاحْتَجَّ الجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِوُقُوعِهِ في عدَّةِ صُوَرٍ: إِحْدَاهَا: قصة رد النساء المهاجرات وقد ذكرنا ما يتعلق بها آنفًا. وَثَانِيهَا: أن صوم عاشوراء كان واجبًا بالسنة ثم نسخ بإيجاب صوم رمضان في القرآن، ولقائل أن يقول: ليس في إيجاب صيام رمضان ما يقتضي نسخ صيام عاشوراء؛ إذ شرط النسخ التضاد وهو منتف هنا؛ وإنما نسخ صوم عاشوراء قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لما فرض رمضان: "مَنْ شَاءَ صَامَهُ" يعني: عاشوراء "وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ" (¬1) فهو من نسخ السنة بالسنة. وَثَالِثُهَا: أن تأخير الصلاة حالة القتال كان جائزًا كما فعله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الخندق، ثم نسخ ذلك بصلاة الخوف، ولقائل أن يمنع أن ذلك كان حكمًا شرعيًا، بل الظاهر من الروايات أن تأخير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الصلاة يوم الخندق كان لشغله عنها، ويؤيد ذلك أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع وكانت في المحرم سنة خمس، ثم كانت غزوة الخندق بعد ذلك في أثناء السنة فلم تنسخ صلاة الخوف شيئًا. وَرَابِعُهَا: أن المباشرة في ليل الصيام كان تحريمها ثابتًا بالسنة، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} (¬2). وَخَامِسُهَا: ما دلت هذه الآية من نسخ التوجه الثابت إلى بيت المقدس وكان ثابتًا بالسنة ثم نسخ بالقرآن. قال الإِمام الشافعي -رضي اللَّه عنه-: لا توجد سنة إلا ولها في كتاب اللَّه أصل. وتكون السنة فيه بيانًا لمجمله فإذا ورد الكتاب بنسخها كان نسخًا لما في الكتاب من أصلها فصار ذلك نسخا للكتاب بالكتاب، وأيضًا فإنه يجوز أن يحصل ذلك النسخ بالسنة ثم ينزل القرآن على وفقها، فَإِنْ قِيلَ: هذا يؤدي إلى عدم تعيين ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2002)، ومسلم (1125) من حديث أم المُؤْمنين عائشة -رضي اللَّه عنها-. (¬2) البقرة: الآية 187.

ناسخ أبدًا، قُلْنَا: وإن كان خلاف الظاهر فتجويزه غير ممتنع وهو كاف في المنع من الاستدلال على ما ذهبوا إليه. وقد احتج من نصر قول الشافعي المنصوص بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬1) والنسخ رفع لا بيان، وبأنه لو نسخ السنة بالقرآن لزم من ذلك تنفير الناس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعن طاعته لإيهام الجاهل أن اللَّه تعالى لم يرض ما سنه رسوله. وَأُجِيبُ عَنِ الأَوَّلِ: بأن المراد بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ} لتبلغ، فلا يدل على امتناع كون القرآن ناسخًا للسنة، ولئن سلم أن المراد به بيان المجمل ونحوه فلا يسلم انحصار سنته في البيان خاصة بل جاز مع كونه مبينًا أن ينطق بغير البيان. وَعَنِ الثَّانِي: أنه لو امتنع نسخ السنة بالقرآن للنفرة عن قول الرسول عليه الصلاة والسلام؟ لامتنع ذلك في نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة وهو خلاف الإجماع، بل إذا علم أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- مبلغ عن اللَّه فلا نفرة حينئذ، واللَّه أعلم. الْوَجْهُ السَّابعُ فِيمَا يتَعلَّقُ بِهَا من عِلمِ الْفِقهِ: لما تقرر أن الوسط: العدل كما تقدم في الحديث الصحيح، وقد علل اللَّه تعالى إكرامه هذه الأمة بالعدالة ليكونوا شهداء على الناس؛ لزم من ذلك أن الشاهد لا بد وأن يكون عدلًا لتفيد شهادته، وقد دل القرآن العظيم أَيضًا في مواضع غير هذه الآية: فقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬2). وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬3) ومن ليس بعدل فليس بمرضي. فلتتكلم على حد العدالة وما اشترط فيها، وحاصل ما قيل فيها يرجع إلى استقامة الدين والسيرة، فلهذا كان أحسن حدودها أنها محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة حتى تحصل ثقة النفوس بقوله، ثم إن ¬

_ (¬1) النحل: الآية 44. (¬2) الطلاق: الآية 2. (¬3) البقرة: الآية 282.

المراد بذلك الأغلب من أحواله. قال الشافعي رحمه اللَّه: ليس أحد من الناس نعلمه إلا أن يكون قليلًا يمحض (¬1) الطاعة والمروءة حتى لا يخلطهما بمعصية، ولا يمحض المعصية [ويترك] (¬2) المروءة حتى لا يخلطهما بشيء من الطاعة والمروءة، فإذا كان الأغلب على الرجل والأظهر من أمره الطاعة والمروءة؛ قبلت شهادته، وإن كان الأغلب على الرجل والأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة؛ ردت شهادته (¬3). وإنما قال الإِمام الشافعي رحمه اللَّه ذلك؛ لإن الإنسان لا يمكنه أن ينجو من خطيئة وزلل وإن قل، ويدل على اعتبار الأغلب قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4) الآية والتي بعدها، فاعتبر الخفة والثقل مع وجود خلافهما. فَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَيُخَرَّجُ بِالْحَدِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: الْكُفْرُ. فلا تقبل شهادة الكافر على مسلم ولا على كافر. وقال أبو حنيفة: تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم. وعن أحمد بن حنبل رواية أن شهادة الكافر تقبل على المسلم في السفر في الوصية إذا لم يكن هناك غيره. لنا قوله تعالى: "إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتثبتوا" (¬5) فأمر بالتثبت عند إخبار الفاسق، والكفر أعلى درجات الفسق، فإما أن تكون الآية عامة بلفظها في كل فاسق فهو ¬

_ (¬1) الشيء المحض: الخالص، ومنه في الحديث "ذلك محض الإيمان" أي خالصه وصريحه. (¬2) في "الأصل": وترك. والمثبت من"الأم". (¬3) "الأم" (7/ 53). (¬4) الأعراف: الآية 8، المؤمنون: الآية: 102. (¬5) الحجرات: الآية 6. قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم "فتبينوا" بالياء والنون، وقرأ حمزة والكسائى "فتثبتوا" بالثاء والتاء. "السبعة في القراءات" (1/ 236).

مندرج تحتها، أو لا تكون عامة اللفظ فهي عامة بالنظر إلى المعنى الذي رتب عليه التثبت وهو الفسق لأنه جعله علة للرد وهو متحقق فيما نحن فيه. وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬1)، وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬2)، والكافر غير عدل اتفاقًا وليس بمرضي. قال الإِمام الشافعي رحمه اللَّه: كيف تجوز أن ترد شهادة مسلم بأن تعرفه يكذب على بعض الآدميين، وتجيز شهادة ذمي وهو يكذب على اللَّه تعالى (¬3)؟! ولنا أيضًا عموم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ. . . " الحديث، أخرجه البخاري (¬4) وهو وإن كان ورد على سبب خاص في إخبارهم عن التوراة فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وروى البيهقي عن أبي سلمة، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مِلَةٍ عَلَى مِلَّةِ إِلَّا شَهَادَةُ المُسْلِمِينَ فَإِنَّهَا تَجُوزُ عَلَى جَمِيعِ الْمِلَلِ" (¬5). فإن اعترض على هذا الحديث بأن في إسناده عمر بن راشد اليمامي وقد ضعفه يحيى بن معين وغيره؛ قُلْنَا: قد قال فيه أحمد العجلي: لا بأس به. فَإن قِيلَ: فمفهومه أنه تقبل شهادته على أهل دينه؛ قُلْنَا: هم لا يقولون بالمفهوم ونحن لا نقول به هنا أَيضًا لقيام الدليل الدال على رد شهادتهم مطلقًا فسقط القول به هنا بالإجماع. ولنا أَيضًا أن كل من لم تقبل شهادته على المسلمين لم تقبل شهادته على غيرهم ¬

_ (¬1) الطلاق: الآية 2. (¬2) البقرة: الآية 282. (¬3) "الأم" (6/ 142). (¬4) "صحيح البخاري" (4485) من حديث أبي هريرة. (¬5) "السنن الكبير" (10/ 163). وقد ضعف عمر بن راشد أبو حاتم في "العلل" (1420)، وابن عدي في "الكامل" (1189) وذكر تضعيف أحمد وابن معين والبخاري والنسائي. وكذا الحافظ في "التقريب" (4894).

كفساق المسلمين طردًا، وعكسه عدول المسلمين لما قبلت شهادتهم على المسلمين قبلت على غيرهم، ولأنها شهادة من كافر فوجب ردها كما لو شهد على مسلم. فَإِنْ قَالُوا: إنما لم تقبل شهادته على المسلمين لما بينهما من العداوة الظاهرة فإن التهمة قائمة بخلاف ما إذا شهد بعضهم على بعض. قُلْنَا: فيجب ألا تقبل شهادة اليهودي على النصراني وعكسه كما هو مذهب الزهري والشعبي؛ لما بينهما من العداوة الظاهرة. احْتَجُّوا بِالنَّقْلِ وَالْمَعْنَى: أما النقل: فذكروا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما أتي بالزانيين من اليهود قال: "إِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْكُمْ رَجَمْتُهُمَا". وروى الشعبي، عن جابر -رضي اللَّه عنه-؛ أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض (¬1). قُلْنَا: أَمَّا الأَوَّلُ فلا توجد هذه الزيادة في قصة الزانيين بسند أصلًا، ولا يثبت حديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا بسند صحيح، والمعروف في هذا الحديث أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجم اليهوديين باعترافهما. وَأمَّا الثَّانِي فقد تفرد بروايته عن الشعبي مجالد بن سعيد، وقد قال فيه أحمد بن حنبل: ليس بشيء، وقال يحيى بن معين: لا محتج به، وقد خالفه فيه جماعة من الثقات فرووه عن الشعبي عن شريح من قوله. وَأَمَّا الْمَعْنَى فاعتمدوا القياس على ولايتهم في المال والنكاح. قُلْنَا: الفرق بين ذلك وبين الشهادة أن ولاية النكاح والمال تتعين عليه ولا يقوم غيره مقامه فيها لكمال شفقته على موليه واجتهاده في النظر لهم بخلاف الشهادة فإنها لم تتعين عليه، كما أن على أصل أبي حنيفة يجوز أن يكون الفاسق وليًّا في نكاح ابنته لتعين ذلك في حقه ولا تقبل شهادة الفاسق ولا يجوز أَيضًا أن يكون الحاكم وليًّا مع ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (2374)، والبيهقي (10/ 165). وضعفه البيهقي، وكذا ضعفه الحافظ في "التلخيص الحبير" (2108).

فسقه لعدم تعين ذلك عليه إذ غيره يقوم مقامه. واحتج من نصر قول الإمام أحمد في جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}. . . (¬1) الآية، وما روي في القصة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أجاز شهادة تميم الداري وعدي بن بداء على ذلك وهما نصرانيان (¬2). قُلْنَا: اختلف في تفسير الآية: فروي عن الحسن أنه قال: {مِنْ غَيْرِكُمْ} (¬3) قال: يعني من غير قبيلتكم من المسلمين، وكذلك قاله عكرمة وغيره، ورجح الإِمام الشافعي رحمه اللَّه هذا التأويل بقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} (¬4) والصلاة الموقتة للمسلمين، ولئن سلم أن المراد بقوله تعالى: {مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير دينكم؛ فقد روى البيهقي (¬5) عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- أنها منسوخة. قال الشافعي رحمه اللَّه: وناسخها قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬6). وأما قصة تميم الداري وعدي بن بداء فلم يكونا شاهدين بل كانا وصيين بمعنى أنهما حملة تركة السهمي الذي مات معهما إلى أهله ولذلك أحلفهما النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنهما ما خانا ولا كتما فلم تكن ثم شهادة. الثَّانِي: الصَّبِيّ: فلا تقبل شهادة الصبي لأنه غير مكلف. وقال مالك رحمه اللَّه: تقبل شهادة الصبيان على الجراحات الواقعة بينهم في الملعب ما لم يتفرقوا. وهو رواية عن الإِمام أحمد رحمه اللَّه، وعنه رواية أخرى أنه تقبل شهادتهم مطلقًا ¬

_ (¬1) المائدة: الآية 106. (¬2) رواه البخاري (2780). (¬3) المائدة: الآية 106. (¬4) المائدة: الآية 106. (¬5) "السنن الكبير" (10/ 164). (¬6) الطلاق: الآية 2.

بشرط التمييز. لنا قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬1). وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَ. . . " وذكر منهم: "الصَّبِيُّ حَتَّى يَحْتَلِمَ" (¬2) وبأنه لا يقبل إقراره وهو أوسع حالًا من الشهادة بدليل قبوله من الفاسق والكافر والذين لا تقبل شهادتهم؛ فلئن لا تقبل من الصبي بطريق الأولى. احتجوا بما روي عن عبد اللَّه بن الزبير -رضي اللَّه عنهما- أنه كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح. قُلْنَا: هو قول صحابي، ولئن سلمنا أنه حجة فذاك إذا لم يعارضه قول صحابي آخر، وقد صح عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أنه كان لا يجيز شهادة الصبيان ويقول: قال اللَّه تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬3) وهذا ليس بمرضي (¬4). الثَّالِثُ: مُرتَكِبُ المَعَاصِي فلا تقبل شهادة صاحب الكبيرة لفسقه، ولا المصرّ على الصغيرة لما يشعر بتهاونه في الدين بأموره فيكون كمرتكب الكبيرة. وهل الإصرار على الصغيرة أن يصرّ على نوع واحد من الصغائر فيداوم عليها، أو يصرّ على أنواع مختلفة من الصغائر؟ فيه اختلاف كلام للأصحاب، وكلام الشافعي الذي قدمناه يوافق الثاني. ومدار هذا كله على أن ملازمة العدالة تزع (¬5) عن الكذب في الشهادة كما يزع الطبع عن الكذب في الإقرار، ولهذا قبل الإقرار من المسلم والكافر والبر والفاجر؛ ¬

_ (¬1) البقرة: الآية 282. (¬2) رواه أبو داود (4398) والنسائي (6/ 156)، وابن ماجه (2041)، وابن الجارود (148، 808)، وابن حبان (142)، والحاكم (2/ 67) جميعًا من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنهما-. (¬3) البقرة: الآية 282. (¬4) رواه ابن أبي شيبة (4/ 359). (¬5) الوزع: كف النفس عن هواها. وزعه يزع وزعا: كله، فاتزع هو أي كف. اللسان (وزع).

لأن طباعهم تزعهم عن. . . (¬1) الإقرار المضرّ بهم في حقوقهم كالدماء والأبضاع والأموال، ولم تقبل الشهادة إلا من عدل؛ لأن الفاسق لا يزعه طبعه عن الكذب على الغير كما يزعه عن الكذب على نفسه، وكذلك يقبل إقرار العبد بما يوجب الحد والقصاص؛ لأن طبعه يزعه عن الكذب بما يوجب قتله أو قطعه أو جلده، وإن كان ذلك يضر بالسيد بخلاف إقراره بالمال فإنه مضرة للسيد خاصة. فإذا عرف ذلك فلا بد من تحقق عدالة الشاهد حتى يقبل قوله ويترتب عليه مقتضاه، وقد استثني من ذلك: مَسْأَلَةُ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِشَهَادَةِ مَسْتَورَينِ وهما اللذان يجهل حالهما في الفسق والعدالة مع سلامة الظاهر، والصحيح من المذهب انعقاد النكاح بهما؛ لأن النكاح يغلب وقوعه في البوادي والقرى حيث يتعذر الوصول إلى العدل في الباطن والظاهر، فلو اشترط معرفة العدالة الباطنة لطال الأمر وشق على المتعاقدين بخلاف الحكم حيث لا يجوز بشهادة المستورين لأنه يسهل على الحاكم مراجعة المزكين ومعرفة عدالة الشاهدين باطنًا وظاهرًا، وَلِهَذَا قُلْنَا: ينعقد النكاح بالمستورين وإذا شهدا به عند الحاكم لم يجز له الحكم به حتى تتحقق عدالتهما، وعن الإصطخري (¬2) وجه أنه لا ينعقد بشهادة المستورين وهو جار على القواعد ومقتضى الدليل، واللَّه يقول الحق وهو يهدي السبيل. ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في حاشية الأصل. (¬2) هو الإمام القدوة العلامة شيخ الإِسلام أبو سعيد الحسن بن أحمد بن يزيد الإصطخري الشافعي فقيه العراق ورفيق ابن سريج. سمع: سعدان بن نمر، وحفص بن عمرو الربالي، وأحمد بن منصور الرمادي، وعباسا الدوري، وحنبل بن إسحاق وعدة. وعنه: محمد بن المظفر، والدارقطني، وابن شاهين، وأبو الحسن ابن الجندي، وآخرون، وتفقه به أئمة. قال أبو إسحاق المروزي: لما دخلت بغداد لم يكن بها من يستحق أن يدرس عليه إلَّا ابن سريج وأبو سعيد الإصطخري. انظر "سير أعلام النبلاء" (15/ 250).

آخِرُ الدَّرْسِ الْمُبَارَكِ بِالْمَدْرَسَةِ الصَّلَاحِيةِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ رَحِمَ اللَّهُ وَاقِفَهَا، وكان إلقاؤه بها يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شهر ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين. * * *

رسالة في تفسير قوله عز وجل {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم}

رِسَالَة في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71]. أما بَعْدُ: فهذه رسالة للحافظ العلائي رحمه اللَّه في تفسير قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} وهي من أفضل الرسائل التي فسر فيها الحافظ العلائي بعض الآيات، فقد فسر فيها الآية الكريمة تفسيرًا جيدًا، وتكلم خلال تفسيره للآية عن غلو اليهود والنصارى في حق سيدنا عيسى عليه السلام والرد على ذلك، وأيضًا تكلم عن سبب تسمية عيسى عليه السلام بالمسيح وذكر الأقوال في ذلك، إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة التي ستجدها إن شاء اللَّه في هذه الرسالة، فرحم اللَّه مؤلفها ومحققها وكل من شارك في إخراجها رحمة واسعة، آمين.

التوصيف العلمي للنسخة الخطية

التوصيف العلمي للنسخة الخطية اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسخة خطية فريدة لم أظفر بغير ذلك من النسخ الخطية: وهي نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية ضمن مجموع تحت رقم (3602) ج. - اسم الناسخ: يحيى بن أبي النصر بن أحمد بن حامد الأنصاري المالكي. - تاريخ النسخ: ثامن عشر جمادى الأول سنة تسع عشرة بعد الألف. - نوع النسخ: نسخ معتاد. - عدد الأوراق: 10 ورقات. توثيق الكتاب: الناظر في هذه الرسالة يعلم إن شاء اللَّه تعالى أنها من تصنيف الإمام الحافظ العلائي من خلال أسانيده وشيوخه الذين روى عنهم وأسلوبه في التأليف، وأيضًا: وجد على طرة النسخة الخطية نسبة هذه الرسالة للإمام العلائي.

الورقة الأولى

الورقة الأخيرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيهِ تَوَكَلْتُ قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (¬1). جميع ما تقدم من الآيات من قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ}. . (¬2) إلى هنا إنما هو خطاب مع اليهود، والخطاب في هذه الآية للنصارى، هذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين، وجوز بعض الأئمة أن يكون الخطاب فيها للفريقين جميعًا؛ لأن كلا منهما غلا في حق المسيح عليه الصلاة والسلام، فاليهود غلت في طرف الرد والإنكار حتَّى قالوا فيه ما قالوا وبهتوا أمه بما برأها اللَّه منه، والنصارى غلت في تعظيمه حتى قالوا: هو ابن اللَّه؛ فرد اللَّه تعالى عليهم جميعًا ونهاهم عن ذلك بهذه الآية، وهذا فيه نظر من جهة أن قول اليهود في عيسى عليه السلام ليس غلوًّا وإنما هو بخس لحقه. والغلو: تجاوز الحد في جانب المدح، ولو قدر أن يكون الغلو في جانب الذم أَيضًا فقوله تعالى في هذه الآية بعد ذلك: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} (¬3) يؤيد قول جمهور المفسرين أن الخطاب بها للنصارى. وقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (¬4) يعني: لا تصفوه بالحلول في بدن ¬

_ (¬1) النساء: الآية 171. (¬2) النساء: الآية 153. (¬3) النساء: الآية 171. (¬4) النساء: الآية 171.

الإنسان والاتحاد بروحه؛ فإن ذلك مح الذي حقه تعالى كما سنقرره بعد هذا إن شاء اللَّه تعالى. و {الْحَقَّ} مفعول {تَقُولُوا} أي: ولا تقولوا إلا القول الحق؛ لأنه بمعنى لا تذكروا ولا تعتقدوا، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، أي: القول الحق. والقول هنا: هو الذي تعبر عنه الجملة في قولك: قلت: زيد منطلق، أي: قلت هذا الكلام، وأصله في اللغة: كل ما تقلقل به اللسان من الأصوات المعتمدة على المقاطع، وقد يطلق على غير ذلك مجازًا، كما في قول أبي النجم: *قَالت لَهُ الطَّيْرُ تَقَدَّمْ رَاشِدَا* ويطلق أَيضًا على الآراء والاعتقادات مجازًا فيقال: أنا أقول بقول الشافعي، أي: باعتقاده، ووجه هذا المجاز أن الاعتقاد لا يظهر إلا بالقول فهو سبب لظهوره فسمي به. ثم لما منعهم اللَّه من الغلو أرشدهم إلى الطريق الحق وهو أن المسيح عيسى ابن مريم رسول اللَّه وعبده. وَفِي تَسْمِيَةِ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْمَسِيحِ وُجُوهٌ: قيلَ: هو اسم علم. وَقِيلَ: هو فعيل بمعنى مفعول كأنه مسح بالدهن أو بالبركة، أو مسحه اللَّه من الذنوب وطهره من الأدناس، وهذا قول مجاهد. وَقِيلَ: هو فعيل بمعنى فاعل، أي: عليه مسحة جمال كما يقال: فلان جميل، أو يمسح الزمن (¬1) فيبرأ، أو يمسح الطائر فيحيا بإذن اللَّه، أو يمسح الأرض بالمشي وهو قول مالك. وَقِيلَ: هو معرب وأصله مشيحًا فعرب كما عرب موسى وأصله موسى، وهذا لائق بمن جعله علمًا، فأما من قال: إنه صفة فلا يتأتى هذا على مذهبه، وقرأ جعفر ابن محمد الصادق "إِنَّما الْمِسِّيحُ" بوزن السكيت. ¬

_ (¬1) أي: المبتلى.

وَفِي قَولِهِ تَعَالَى: {عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} بَعْدَ ذِكْرِهِ المَسِيح وَهُوَ يَكْفِي في التَّعْرِيفِ فَائِدَتَانِ جَلِيلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: بيان أن عيسى صلوات اللَّه عليه ليس له أبي ولا ينتسب إلا إلى أمه، فكرر اللَّه تعالى نسبته إلى أمه في القرآن كثيرًا لتستشعر النفوس ما يجب عليها من اعتقاد ذلك من تنزيه اللَّه سبحانه عن الولد وتنزيه مريم الطاهرة عما كذبته عليها اليهود لعنهم اللَّه، ولهذا المعنى ينبغي أن يكون {الْمَسِيحُ} في هذه الآية مبتدأ و {عِيسَى} بدل منه، أو عطف بيان و {ابْنُ مَرْيَمَ} هو الخبر للمبتدأ و {رَسُولُ اللَّهِ} صفة له و {وَكَلِمَتُهُ} عطف على الصفة، ويكون فائدة ذلك انحصار وصف عيسى عليه الصلاة والسلام في كونه ابن مريم فقط؛ لكونه رسول اللَّه وكلمته لما تقتضيه {إنَّمَا} من حصر المبتدأ في الخبر. وجعل أبو البقاء {الْمَسِيحُ} مبتدأ وخبره {رَسُولُ اللَّهِ}، و {عِيسَى} إما بدل من المبتدأ أو عطف بيان له (¬1) كما ذكرنا وهو متجه أَيضًا، لكن الأول أقوى؛ للفائدة التي أشرنا إليها من الحصر وإبطال ما ادعته النصارى واليهود في حقه عليه السلام، ويتأيد ذلك بإثبات الألف في ابن مريم هنا في رسم المصحف إجماعًا وذلك يرجح كون "ابْن" خبرًا لا وصفًا، واللَّه أعلم. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن عادة الملوك والأشراف أنهم لا يذكرون حرائرهم في ملأ الناس ولا يصرحون بأسمائهن بل يكنون عنهن بالأهل والعيال ونحو ذلك، فإذا ذكروا الإماء صرحوا باسمائهن ولم يصونوهن عن الابتذال، فلما قالت النصارى لعنهم اللَّه في حق اللَّه ما قالوا من جهة مريم صرح اللَّه تعالى باسمها في نحو ثلاثين موضعًا من القرآن ولم يسم في القرآن امرأة غيرها، بل كنى عن امرأة فرعون وامرأة نوح وامرأة لوط وأزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يكن عن مريم تأكيدًا للأموة والعبودية التي هي صفة لها وإجراء للكلام على عادة الرؤساء في ذكر إمائها، وهذا ذكره السهيلي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو معنى حسن. ¬

_ (¬1) "التبيان في إعراب القرآن" (1/ 204).

و"الرَّسُولُ" أصله من الرسل وهو الانبعاث على تؤدة ورفق، يقال: ناقة رسول إذا كانت سهلة السير، ثم يصدر منه الرفق فقط تارة فيقال لمن أمر به: على رسلك وإن لم يكن ثَمَّ سير، وتارة الانبعاث فقط فاشتق منه لفظ الرسول. وأما في حق رسول اللَّه فلا يخلو عن المعنى الآخر؛ لما أمر به رسل اللَّه من الرفق بأممهم: قال اللَّه سبحانه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} (¬1). وقال لنبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}. . . الآية (¬2). وَفِي وَصْفِ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِأنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَائِدَتَانِ أَيْضًا: إِحْدَاهُمَا: الرد على اليهود لعنهم اللَّه في إنكارهم نبوة عيسى عليه الصلاة والسلام وطعنهم عليه. وَالثَّانِيَةُ: الرد على النصارى لعنهم اللَّه تعالى في دعواهم أنه ابن اللَّه؛ إذ لو كان ابنه أو شريكًا له في الإلهية لم يرسله، ويقوى هذا بالإعراب الذي ذكره أبو البقاء (¬3) رحمه اللَّه من جعله خبر المبتدأ {رَسُولِ اللَّهِ} فيكون مفيدًا انحصار عيسى في هذا الوصف، واللَّه أعلم. ومعنى كون عيسى ابن مريم كلمة اللَّه: أنه وجد بكلمة اللَّه وأمره لا غير، من غير واسطة أب ولا نطفة. والمراد بكلمة اللَّه: قوله تعالى: {كُنْ} قال اللَّه سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬4). وَقِيلَ: سماه كلمة؛ لأن اللَّه سبحانه بشر به في الكتب السالفة فلما. . . (¬5). كما يقول الذي يخبر بشيء أنه سيقع فلما يوجد: قد جاء قولي وكلامي. ¬

_ (¬1) طه: الآية 44. (¬2) آل عمران: الآية 159. (¬3) "التبيان في إعراب القرآن" (1/ 204). (¬4) آل عمران: الآية 59. (¬5) قطع في المخطوط أذهب بقية الكلام.

وَقِيلَ: لأن اللَّه يهدي به كما عدي بكلمته، وقيل غير ذلك، والمعنى الأول أظهر. ومعنى {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ}: أوصلها إليها وحصلها فيها. وذكر العلماء في معنى قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} وجوها: أَحَدُهَا وهو الذي اختاره صاحب "الكشاف" ما تقدم في جعله كلمة اللَّه ومعنى ذلك أنه ذو روح وجسد وليس جزءًا من ذي روح وجسد كالنطفة المنفصلة من الأب الحي، وإنما اخترع اختراعًا من عند اللَّه بقدرته الخالصة (¬1)، قال أبي بن كعب -رضي اللَّه عنه-: خلق اللَّه تعالى أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق، ثم ردها إلى صلب آدم عليه السلام وأمسك عنه روح عيسى عليه السلام فلما أن أراد سبحانه وتعالى خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم فكان عيسى (¬2). ومعنى. . . (¬3) في نار أمر صاحبه بالنفخ فيها: فقلت له ارفعها إليك وأحيها ... بروحك. . . البيت روي أن جبريل عليه السلام نفخ في درع مريم فحملت بإذن اللَّه وأمره. وعلى هذا الوجه معنى قوله {مِّنْهُ}: بأمره؛ لأن نفخ جبريل كان بإذن اللَّه وأمره. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أن معنى الروح هنا: الرحمة، وقد قيل في تفسير قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (¬4) أي: برحمة، وكذلك قيل في قراءة {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} (¬5) بضم الراء، أي: فرحمة. ¬

_ (¬1) "الكشاف" (1/ 298). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (4/ 372) بنحوه، وقد قطعت بعض كلمات من الأصل فأتممتها من تفسير القرطبي (3/ 205) لأنه أقرب إلى لفظ المؤلف. (¬3) قطع في المخطوط أذهب بقية الكلام. (¬4) المجادلة: الآية 22. (¬5) الواقعة: الآية 89.

فعيسى -صلى اللَّه عليه وسلم- كان رحمة من اللَّه لمن اتبعه وأطاعه كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّمَا أَنَّا رَحْمَةٌ مُهدَاة" (¬1) وهذا الوجه يلزم منه تسمية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- روح اللَّه ولم يطلق عليه، والأولان أقوى. وقيل أيضًا فيه وجه رابع: وهو أن المراد بالروح ها هنا جبريل عليه السلام؛ لأنه يطلق عليه الروح، قال اللَّه تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (¬2) ويكون "رُوح" هنا معطوفًا على الضمير المستكن في {أَلْقَاهَا} وتأويله: ألقاها اللَّه إلى مريم وجبريل. ومعنى {مِّنْهُ} أي: بإذنه وأمره، كقولك: قلت لفلان منك قولًا، أي: بإذنك في ذلك، وهذا وجه صحيح أَيضًا، وعلى الأوجه الأول يكون "رُوح" معطوفًا على "رسول" الخبر. وأما {أَلْقَاهَا} فهو في موضع الحال، و"قَدْ" مقدرة معه، هذا على قول الجمهور، وأما عند سيبويه فإنه يمنع وقوع الماضي المثبت حالًا إلَّا بأن يلفظ بـ "قَدْ" معه، وفي [. . .] (¬3) {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (¬4) إنما جمع الرسل لأن المراد أن يدخلوا في دين الإِسلام، فلو قيل: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} لتوهم عود الضمير إلى عيسى عليه السلام ولم يكن فيه حمل على الدخول في هذا الدين، وأما الإيمان باللَّه وجميع الرسل فإنه ¬

_ (¬1) رواه الدارمي (15) من طريق الأَعمش، عن أبي صالح مرسلًا. ورواه الحاكم (1/ 91) من طريق مالك بن سعير، عن الأَعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. وقال: صحيح على شرطهما. قال الدارقطني في "العلل" (1897) وقد سئل عنه: يرويه الأَعمش، واختلف عنه: فرواه مالك بن سعير عن الأَعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وخالفه وكيع فرواه عن الأَعمش عن أبي صالح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا، وهو الصواب. (¬2) الشعراء: الآية 193. (¬3) قطع في المخطوط بمقدار ثلاثة أسطر، فاللَّه المستعان. (¬4) آل عمران: الآية 179.

من خصائص هذا الدين القويم. وقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} "ثَلَاثَةٌ" خبر مبتدأ محذوف، ويحتمل أن يكون المبتدأ "اللَّه ثَلَاثَةٌ" ويكون ذلك ردًّا على من يقول منهم: الإله جوهر واحد مشتمل على ثلاثة أقانيم (¬1): أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، ويريدون باقنوم الأب: الذات، وبأقنوم الابن: العلم، وبأقنوم روح القدس: الحياة، وهذا قول اليعقوبية منهم لعنهم اللَّه وهم الذين عناهم اللَّه سبحانه بقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (¬2). ويحتمل أن يكون المبتدأ: ولا تقولوا الآلهة ثلاثة، ويكون ردًّا على القائلين منهم بأن اللَّه والمسيح ومريم ثلاثة آلهة تعالى اللَّه عما يقولون علوًّا كبيرًا، وهذا قول الملكية لعنهم اللَّه وهم جمهور النصارى قالوا: إن عيسىى عليه السلام إله تام كله وإنسان تام كله ليس أحدهما غير الآخر، وأن الإنسان منه هو الذي صلب وقتل، وأن الإله منه لم ينله شيء، وأن مريم ولدت الإله والإنسان معًا وأنهما معًا شيء واحد، تعالى اللَّه عن كفرهم وهؤلاء هم الذين عناهم اللَّه سبحانه بقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (¬3). والنسطورية فرقة من الملكية قالوا: إن مريم لم تلد الإله وإنما ولدت الإنسان، وأن اللَّه. . . (¬4). والجاحدون علوًّا كبيرًا. واختلف النحاة في الذي انتصب به {خَيْرًا} في قوله تعالى هنا: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} وذلك لأن {انْتَهُوا} لازم لا يجوز أن ينتصب به ولا يجوز نصبه على تقدير إسقاط حرف الجر، أي: انتهوا عن خير لكم؛ لأنه يكون أمرًا بالشر إذ هو ¬

_ (¬1) الأقانيم: الأصول "الصحاح": قنم. قال: وأحسبها رومية. (¬2) المائدة: الآية 17. (¬3) المائدة: الآية 73. (¬4) قطع في المخطوط بمقدار ثلاثة أسطر.

انتهاء عن الخير فتعين التقدير، فمذهب سيبويه أنه انتصب بفعل مقدر علم بخصوصيته مع كثرة الاستعمال، وذلك أن القائل إذا قال: انته، فقد أمره بترك شيء، وترك ذلك الشيء: فعل ضده فإنه لما قال: {انْتَهُوا} علم أن المنهي عنه شر؛ فكأنه أمرهم بالكف عن الشر وأن يأتوا الخير لا بالكف عن الشر والإمساك عنه فقط، فتقديره: انتهوا وائتوا خيرًا لكم. وقال الكسائي: انتصب {خَيْرًا} لأنه خبر "كان" مضمرة فتقديره يكن الانتهاء خيرًا لكم، وجوز الفراء فيه وجهًا آخر وهو أنه منصوب على اتصاله بـ {انْتَهُوا} والتقدير في الأصل: انته هو خير لك، أي: الانتهاء خير لك، فهذا أسقطت "هو" اتصل بما قبله فنصب على الحال من المضمر المعرفة، وقد جوز سيبويه النصب على الحال منه، والوجهان الأولان أقوى؛ لأنه قد جاء مثله فيما ليس بمصدر نحو قولهم: وراءك أوسع لك، فعند سيبويه أن وراءك اسم لـ "ارجع"، وأوسع وصف لموصوف محذوف مع فعله أي: رأيت مكانًا أوسع لك، وعند الكسائي تقديره يكون أوسع لك وربما رجح قول الكسائي بقلة المضمر فيه، ولا يمكن هنا تقدير ما قاله الفراء. ثم قال سبحانه: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ردًّا على النصارى في التثليث، ونصًّا على الحق أماتنا اللَّه عليه، وقد تقدم في صدر الآية أن اللَّه سبحانه وتعالى بين أن المسيح عليه الصلاة والسلام ولد لمريم. . . (¬1) به اتصال الأبناء بالآباء، تعالى اللَّه وتقدس عن ذلك. قال أبو علي الفارسي: قولهم: "واحد" اسم جرى على وجهين في كلامهم: أَحَدُهُمَا: أن يكون اسمًا. وَالآخَرُ: أن يكون وصفًا، فالاسم الذي ليس بصفة قولهم في العدد واحد اثنان، وأما مجيئه صفة فكقولهم: هذا شيء واحد؛ فإذا جرى هذا الاسم على اللَّه سبحانه جاز أن يكون وصفًا كالعالم والقادر، وجاز أن يكون الذي هو اسم كقولنا شيء. ¬

_ (¬1) قطع في المخطوط بمقدار ثلاثة أسطر.

قُلْتُ: كل منهما هنا محتمل، فالاسم ينفي أن يكون معه إله آخر سبحانه وتعالي، والوصف ينفي أن يكون متعددًا في ذاته ويجوز أن يراد المعنيان جميعًا. قال الإِمام فخر الدين رحمه اللَّه: الحق سبحانه وتعالى واحد باعتبارين: أَحَدُهُمَا: أنه ليست ذاته مركبة من اجتماع أمور كثيرة. وَالثَّانِي: أنه ليس في الوجود ما يشاركه في كونه واجب الوجود وكونه مبدأ لجميع الكائنات، ثم قرر البرهان على كونه سبحانه واحدًا بالاعتبار الأول بأنه سبحانه لو كان مركبًا لافتقر تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته واجب لغيره فكل مركب فهو ممكن لذاته، واللَّه سبحانه واجب الوجود لذاته فليس ممكنًا فثبت أنه ليس مركبًا. قُلْتُ: ومن وجه آخر يخص النصارى في قولهم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (¬1) لأنهم إما أن يقولوا بالحلول أو بالاتحاد؛ والحلول باطل؛ لأنه لا يعقل إلا إذا كان الحال مفتقرًا إلى المحل؛ فإن كان حلوله سبحانه في المسيح على وجه الجواز لم يكن الحال مفتقرًا إلى المحل فيستحيل الحلول، وإن كان على وجه الوجوب لزم افتقار الواجب إلى غيره ضرورة افتقار الحال إلى المحل ولزم من ذلك حدوث الرب سبحانه وتعالى أو قدم المحل، وكل من ذلك مستحيل، فالحلول باطل والاتحاد أَيضًا باطل؛ لأن المتحدين إما أن يبقيا عند الاتحاد أو ينعدما ويحصل ثالث أو يبقى أحدهما دون الآخر وعلى القسمين الأولين تنتفي صورة الاتحاد، وكذلك أَيضًا في القسم الثالث لاستحالة كون المعدوم عين الموجود. وأما كونه سبحانه وتعالي واحدًا بالاعتبار الثاني، وهو أنه ليس في الوجود ما يشاركه في كونه إلهًا واجب الوجود وكونه مبدأ لجميع الكائنات فقال أصحابنا: إنه سبحانه وتعالى واحد في ذاته لا قسيم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له. ¬

_ (¬1) المائدة: الآية 17.

أما الأول فلأن تلك الذات المخصوصة التي هي المشار إليها بقولنا: هو الحق سبحانه إما أن تكون حاصلة في شخص آخر سواه أولا تكون كذلك، فإن كان الأول كان امتياز ذاته المعينة عن المعين الآخر لا بد وأن يكون بقيد زائد فيكون مركبًا في نفسه مما به الاشتراك وما به الامتياز، وكل مركب فهو مفتقر كما تقدم، وكل مفتقر ممكن لذاته وذلك محال في حقه سبحانه وتعالى، وإن لم يكن ذلك فقد ثبت أنه سبحانه في ذاته لا قسيم له، وأيضًا لو وجد إلهان لكان كل منهما قادرًا على كل المقدورات؛ لأن هذه من خواص الإلهية فهذا قصد كل واحد منهما إلى إيجاد شيء امتنع وقوعه بهما؛ لأن الأثر مع المؤثر التام واجب الوقوع ووجوب وقوعه بذلك يمنع أن يكون مستندًا في وقوعه إلى غير ذلك المؤثر، فلو استند إليهما لانقطع عنهما ولم يقع بواحد منهما ويمتنع أن لا يقع بواحد منهما؛ لأن المانع من وقوعه بأحدهما وقوعه بالآخر فلو لم يقع بهما لوقع بهما ويمتنع وقوعه بأحدهما دون الآخر؛ لأنه لا يكون الآخر قادرًا على كل المقدورات، وإذا بطلت كل هذه الأقسام لزم أن لا يكون الإله إلا واحدًا سبحانه وتعالى. وأما كونه تعالى واحدًا في صفاته لا شبيه له؛ فلأن صفاته سبحانه أزلية قديمة وصفات غيره حادثة متغيرة، وأيضًا فلأن صفاته سبحانه غير متناهية بحسب التعلقات فإن علمه متعلق بجميع المعلومات وقدرته متعلقة بجميع المقدورات بخلاف صفات غيره. وأما كونه سبحانه وتعالى واحدًا في أفعاله فظاهر؛ لأن الموجود إما واجب أو ممكن، وبرهان الحصر ما تقدم، فالواجب هو اللَّه سبحانه وتعالى والممكن ما عداه وكل ما كان ممكنًا فإنه لا يوجد ما لم يستند إلى الواجب في إيجاده؛ لأن ماهيته قابلة للوجود والعدم فيمتنع حصول أحدهما إلا بمرجح وذلك المرجح هو اللَّه سبحانه الموجد القادر ولا يختلف هذا الحكم باختلاف أقسام الممكنات سواء كان مالكًا أو مملوكًا أو فعلًا للعباد؛ لأن كل ما عداه سبحانه وتعالى فهو ملكه وتحت قدرته وتصرفه واستيلائه وليس له فيه شريك ولا معين سبحانه وتعالى. فهذه نبذة مختصرة في تقرير وحدانيته سبحانه وتعالى وبطلان قول فرق النصارى، وبسط ذلك لا يحتمله هذا الموضع، واللَّه سبحانه الموفق بكرمه.

وقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} فالتسبيح: تنزيه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عن السوء والنقائص وتبعيده من ذلك، هذا مما لا اختلاف فيه عند أهل اللغة. وأصله من السبح وهو المرُّ السريع، ومنه قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (¬1)، و {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} (¬2). وللنحاة اختلاف طويل في {سُبْحَانَهُ} وانتصابه على ماذا يرجع حاصله إلى أنه عند سيبويه والمحققين أنه اسم موضوع موضع المصدر قائم مقامه لا أنه مصدر، وأن انتصابه لقيامه مقام المصدر وليس بعلم إلا إذا أضيف فإنه يتعرف بالإضافة، وشبهه سيبويه بقولهم حجرًا وسلامًا. وذهب الأخفش إلى أنه علم على التسبيح سواءً استعمل مضافًا أو مقطوعًا عن الإضافة، وأن الإضافة فيه للبيان لا للتعريف نحو زيد الخيل وزيد المعارك، وأنه لا ينصرف لاجتماع الألف والنون الزائدتين فيه مع العلمية. واحتج على ذلك بقول الأَعمش: أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر فلم يصرفه مع قطعه عن الإضافة فدل على علميته وهذا هو اختيار المبرد والزمخشري وجماعة، وقد عارضهم الأولون بقول أمية بن أبي الصلت: سبحانه ثم سبحانًا نعوذ به ... وقبلنا سبح الجودي والجمد وأجاب الفراء عن بيت الأَعمش بأن ترك التنوين فيه على تأويل ترك الإضافة، أي: إنه أراد أن يقول: سبحانك، فحذف المضاف إليه وترك المضاف على حالة نحو قول بعضهم: إلا علالة أو بدا ... هة سابح نهد الجزاره وقول الفرزدق: *بين ذراعي وجبهة الأسد* وبسط الكلام في ذلك ليس موضعه هذا. ¬

_ (¬1) الأنبياء: الآية 33. (¬2) المزمل: الآية 7.

قال الفراء: يصلح في {سُبْحَانَهُ} (¬1) هنا من وعن، أي: سبحانه من أن يكون له ولد وعن أن يكون له ولد فيكون أن في موضع نصب عند الجمهور، وعند الكسائي في موضع خفض بإعمال حرف الجر مع تقديره. ثم أتبع سبحانه وتعالى تنزيهه بقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (¬2)، ومعنى ذلك أن من كان مالكًا لكل ما في السماوات وما في الأرض كان مالكًا لعيسى ومريم؛ لأنه إذا كان مالكًا لما هو أعظم منهما وما هو محتو عليهما كان مالكًا لهما بطريق الأولى، وإذا كانا مملوكين له فكيف يعقل كونه ولدًا أو كونها زوجة؛ لأنه لا يكون بعض ملكه جزءًا له فلهذا المعنى أتبع سبحانه وتعالى كل موضع نزه فيه نفسه عن الولد والصاحبة كونه مالكًا لما في السماوات وما في الأرض، ويفيد ذلك نفي الشريك أَيضًا؛ لأنه إذا كان كل ما في السماوات وما في الأرض ملكًا له فكيف يكون ما هو مملوك له شريكًا في ملكه، هذا مستحيل، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬3). ثم قال تعالى ختمًا للآية: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} والمعنى أن اللَّه سبحانه كاف في تدبير المخلوقات وحفظ المحدثات فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر، وإلى هذا أشار المتكلمون بقولهم: لما كان عالمًا بجميع المعلومات قادرًا على كل المقدورات كان كافيًا في الإلهية، فلو فرضنا إلهًا آخر معه سبحانه كان معطلًا لا فائدة فيه، وذلك نقص، والناقص لا يكون إلها، وباللَّه التوفيق. أخبرنا أبو محمد القاسم بن مظفر بن محمود الدمشقي قراءة عليه، عن أبي الوفاء محمود بن إبراهيم بن منده، أنا أبو عبد اللَّه الحسن بن العباس الرستمي، أنا أبو ¬

_ (¬1) حاشية: أي التي في قوله جل ذكره: {سُبْحَانَهُ أَن}. (¬2) البقرة: الآية 255. (¬3) الروم: الآية 28.

عمرو عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق، أنا أبي الحافظ أبو عبد اللَّه، أنا خيثمة بن سليمان [عن] (¬1) العباس بن الوليد بن مزيد، أخبرني أبي. (ح) وأخبرنا (محمد بن يعقوب بن يوسف بن أحمد بن علي بن عمرو بن أبي سلمة) (¬2) قالا: ثنا الأوزاعي، حدثني عمير بن هانئ العبسي، حدثني جنادة بن أبي أمية، حدثني عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "مَن شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ الجَنَّة عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلِ". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬3) من حديث مبشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي به. وأخرجه البخاري (¬4) ومسلم (¬5) أَيضًا من حديث الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عمير بن هانئ بلفظ آخر نحو هذا. وبه إلى أبي عبد اللَّه الحافظ قال: أنا محمد بن الحسن أبو طاهر النيسابوري، ثنا عبد الملك بن محمد أبو قلابة، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، أنا شعبة، عن خالد ¬

_ (¬1) في الأصل: بن تحريف، والمثبت هو الصواب إن شاء اللَّه. وخيثمة هو ابن سليمان بن حيدرة الإِمام محدث الشام أبو الحسن، أحد الثقات. ترجمته في "تذكرة الحفاظ" (834). والعباس هو ابن الوليد بن مزيد البيروتي. ترجمته في "التقريب" (3192). (¬2) كذا في الأصل!! وهو تحريف لا محالة، واللَّه تعالى أعلم. فمحمد بن يعقوب بن يوسف هو ابن معقل أبو العباس الأصم، ترجمته في "تاريخ دمشق" (56/ 287)، و"تذكرة الحفاظ" (835). ولعله: محمد بن يعقوب بن يوسف عن أحمد بن علي عن عمرو بن أبي سلمة، إلا أني لم أجد من ذكر أن محمد بن يوسف روى عن أحد اسمه أحمد بن علي؛ فاللَّه المستعان. (¬3) "صحيح مسلم" (28). (¬4) "صحيح البخاري" (3435). (¬5) "صحيح مسلم" (28).

الحذاء، عن الوليد بن مسلم أبي بشر، عن حمران بن أَبان، عن عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ عَلِمَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ". صحيح أخرجه مسلم (¬1) بنحو هذا اللفظ. ورواه معاذ بن جبل (¬2) وغيره عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أَيضًا. وأخرجه البخاري بغير هذا اللفظ (¬3). أخبرنا أبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم وهدية بنت علي بن عسكر وأبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم، وإسماعيل بن يوسف بن مكتوم، وعبد الأحد بن أبي القاسم الحراني، وأحمد بن أبي طالب المعمر، وعيسى بن عبد الرحمن بن معالي، وزينب ابنة أحمد بن شكر، قال الثلاثة الأولون: أنا الحسن بن المبارك الربعي والأول حاضر، وقال الأولان أَيضًا والباقون: أنا عبد اللَّه بن عمر الخزيمي قالا: أنا عبد الأول بن عيسى الهروي، أنا محمد بن أبي مسعود الفارسي، أنا عبد الرحمن بن أبي شريح الأنصاري، ثنا عبد اللَّه بن محمد البغوي، ثنا العلاء بن موسى الباهلي، ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو -يعني ابن دينار- عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري -رضي اللَّه عنهما- قال: أخبرني من شهد معاذًا -رضي اللَّه عنه- حين حضرته الوفاة يقول: اكشفوا عني سجف القبة فإني سمعت من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حديثًا لم يمنعني أن أحدثكموه إلا مخافة أن تتكلوا، سمعته يقول: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه مُخْلِصًا (وَثبتًا) (¬4) مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ" (¬5). كذا رواه سفيان بن عيينة وسعيد بن زيد وسعيد بن سليمان، عن عمرو بن دينار ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (26). (¬2) رواه أبو داود (3116)، والحاكم (1/ 503) من طريق كثير بن مرة عنه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. (¬3) "صحيح البخاري" (2856)، عن معاذ قال كنت ردف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على حمار فقال يا معاذ هل تدري حق اللَّه على عبادة. . . (¬4) في مصادر التخريج: "أو يقينا". (¬5) رواه أحمد (5/ 236)، وابن حبان (200).

وغيرهم. ورواه عبد اللَّه بن بكر، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن عمرو، عن جابر قال: سمعت معاذًا. أخبرنا الرباني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطبري بمنى شرفها اللَّه، أنا أبو الحسن علي بن هبة اللَّه الشافعي، أنا أبو شاكر يحيى بن يوسف السقلاطوني، أنا ثابت بن بندار البقال، أنا الحسن بن أحمد بن شاذان، أنا عثمان بن أحمد الدقاق، ثنا يحيى بن جعفر، ثنا عبد اللَّه بن بكر، ثنا حاتم بن أبي صغيرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد اللَّه قال: سمعت معاذًا -رضي اللَّه عنه- حين حضر قال: ارفعوا عني سجف هذه القبة فإني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ" (¬1). رجال هذا الإسناد ثقات. وكذلك رواه صالح بن عمر، عن حاتم، وخالفهما خالد بن الحارث ومحمد بن عبد اللَّه الأنصاري فروياه عن حاتم بن أبي صغيرة فقالا فيه عن جابر: لما حضر معاذ لم يقل فيه: سمعت معاذًا، وهذا هو الصحيح. ورواه أنس بن مالك عن معاذ -رضي اللَّه عنهما- بلفظ آخر: أخبرناه القاسم بن مظفر الدمشقي بها، أنا علي بن أبي عبد اللَّه البغدادي وأنا في الرابعة، عن نصر بن نصر العكبري ومحمد بن عبيد اللَّه الزاغوني قالا: أنا علي بن أحمد بن البسري، أنا محمد بن عبد الرحمن الذهبي، ثنا يحيى -يعني ابن صاعد- ثنا لوين محمد بن سليمان، ثنا حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، عن معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا مُعَاذُ". قلت: لبيك يا رسول اللَّه. قال: " بَشِّرَ النَّاسَ -أَوْ أَخْبِرِ النَّاسَ- أَنَّهُ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ". ¬

_ (¬1) رواه الطبراني (20/ 40) من طريق عبد اللَّه بن بكر، به.

هذا حديث متفق على صحته، أخرجاه في "الصحيحين" (¬1) من طرق عدة. ورواه عبد الرحمن بن سمرة، عن معاذ أَيضًا: أخبرناه عيسى بن عبد الرحمن المطعم بقراءتي عليه، أنا جعفر بن علي الهمداني، أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي، أنا عبد الرحمن بن عمر السمناني، أنا الحسن بن أحمد بن شاذان، ثنا أحمد بن كامل القاضي، ثنا عبد الملك بن محمد، ثنا قريش بن أنس، ثنا حبيب بن الشهيد، عن حميد بن هلال، عن هصان بن [كاهل] (¬2)، عن عبد الرحمن بن سمرة، عن معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ مَاتَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ يَرْجعُ ذَلِكَ إِلَى قَلْبِ مُوقِنٍ دَخَلَ الْجَنَّة" (¬3). ورواه أنس بن مالك عن معاذ بلفظ آخر أَيضًا: أخبرناه أبو محمد بن أبي غالب بن عساكر، عن أبي الوفاء بن أبي إسحاق العبدي، أنا أبو عبد اللَّه الرستمي، أنا أبو عمرو بن منده، أنا أبي، أنا أحمد بن محمد ابن زياد، ثنا الحسن بن علي بن عفان، ثنا عبد اللَّه بن نمير. (ح) قال: وأنا محمد بن عمر بن حفص، ثنا إبراهيم بن عبد اللَّه بن الحارث، ثنا يعلي بن عبيد كلاهما، عن الأَعمش، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: أتينا معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- فقلنا: حدثنا من غرائب حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فقال: كنت ردف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على حمار فقال: "يَا مُعَاذُ". قلت: لبيك يَا رسول اللَّه. قال: "تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّه عَلَى الْعِبَادِ"؟ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (128)، ومسلم (32). (¬2) في الأصل: كامل. تحريف، والفبت من مصادر التخريج. وهصان بن كاهن، ويقال: ابن كاهل العدوي، ترجمته في "تهذيب الكمال" (30/ 290). (¬3) رواه النسائي في الكبرى (10977)، وابن ماجه (3796)، وأحمد (5/ 229)، وابن حبان (203)، والحاكم (1/ 50) جميعًا من طريق حميد بن هلال. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح.

قلت: اللَّه ورسوله أعلم. قال: "أَن يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشرِكُوا بِهِ شَيْئًا". ثم قال: "تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ"؟ قلت: اللَّه ورسوله أعلم. قال: "فَإنَّ حَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ". اتفقا عليه من حديث قتادة عن أنس (¬1). وأخرجه مسلم (¬2) أيضًا من حديث عمرو بن ميمون والأسود بن هلال عن معاذ. أخبرنا أبو الفتح محمد بن عبد الرحيم القرشي بقراءتي عليه غير مرة، أنا عبد الوهاب بن ظافر الأزدي، أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي، أنا محمد بن عبد السلام الأنصاري، أنا الحسن بن أحمد بن شاذان، أنا علي بن عبد الرحمن بن ماتي، ثنا إبراهيم بن عبد اللَّه العبسي، ثنا وكيع بن الجراح، عن الأَعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد -رضي اللَّه عنهما- شك الأَعمش- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه، مَن لَقِيَ اللَّه بِهِمَا غَيْرَ شَاكٍّ لَمْ يُحْجَبْ عَنِ الجَنَّةِ". أخرجه مسلم (¬3) من حديث أبي معاوية، عن الأَعمش، وفيه قصة. أخبرنا إسماعيل بن يوسف وعيسى بن عبد الرحمن وأحمد بن طالب قالوا: أنبأنا عبد اللَّه بن عمر، أنا عبد الأول بن عيسى، أنا عبد الرحمن بن المظفر، أنا عبد اللَّه ابن حمويه، أنا إبراهيم بن خزيم، ثنا عبد بن حميد (¬4)، حدثني مسلم بن إبراهيم، ثنا هشام الدستوائي، ثنا أبو الزبير، عن جابر -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَن لَقِيَ اللَّه عز ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5967)، ومسلم (30). ورواه أحمد (5/ 228، 236) من طريقين عن الأَعمش واللفظ له. (¬2) "صحيح مسلم" (30). (¬3) "صحيح مسلم" (27). (¬4) "المسند" (1062).

وجل لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا أَدَخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ أَدَخَلَهُ النَّارَ" (¬1). رواه محمد بن عبيد، عن الأَعمش، عن أبي سفيان، عن جابر. وكل من هذين الإسنادين على شرط مسلم. أخبرنا أبو نصر محمد بن محمد بن الشيرازي، أنا جدي القاضي أبو نصر محمد بن هبة اللَّه حضورًا، أنا إبراهيم بن الحسن الحصني والخضر بن شبل الحارثي قالا: أنا محمد بن الحسين الحنائي وعلي بن الحسين المدائني قالا: أنا محمد بن عبد السلام بن سعدان، ثنا محمد بن موسى بن فضالة، أنا الحسين بن محمد بن جمعة، ثنا محمد بن أحمد الصيدلاني، ثنا عيسى بن يونس، عن الأَعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- قال: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شق ذلك على المسلمين، قالوا: يا رسول اللَّه وأينا لا يظلم نفسه؟! قال: "لَيْسَ ذَلِكَ عَنى، هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى مَا قَالَ لُقمَانُ لِابْنِهِ: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ". هذا حديث صحيح (¬2). أخبرنا أبو الفضل سليمان بن حمزة ومحمد بن موسى بن خلف وعبد اللَّه بن أحمد بن تمام الصالحيون بها قالوا: أنا يحيى بن أبي السعود الأزجي، أخبرتنا الكاتبة شهدة بنت أحمد الإبري، أنا الحسين بن أحمد بن طلحة، أنا علي بن محمد بن بشران، ثنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا عبد الكريم -يعني ابن الهيثم- ثنا أبو توبة -هو الربيع بن نافع- ثنا معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، عن أبي سلام قال: حدثني الحارث الأشعري -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حدثهم قال: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا صلى اللَّه عليهما بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ يَعْمَلُ بِهِنَّ، وَيَأْمُرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ فَكَانَ يُبطئُ بِهِنَّ، فَقَالَ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِنّكَ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ تَعْمَل بهِنَّ وَتَأْمُرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَإمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ وَإِمَّا أَنْ أَقُومَ فَآمُرَهُمْ بِهِنَّ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (93) من طريق أبي الزبير عن جابر بتمامه. (¬2) رواه البخاري (3360)، ومسلم (124) من طريق الأعمش.

قَالَ يَحْيَى: إِنَّكَ إِنْ تَسْبِقْنِي بِهِنَّ أَخَافْ أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ يُخْسَفَ بِي، فَجَمَعَ بَنِي إِسرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقدِسِ حَتَّى امْتَلأ الْمَسْجِدُ حَتَّى جَلَسَ النَّاسُ عَلَى الشُّرُفَاتِ، فَوَعَظَ النَّاسَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّه تعالى أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَعْمَلُ بِهِنَّ، وَآمُرُكُم أن تَعْمَلُوا بِهِنَّ: أُولاهُنَّ أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، فَإنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ فَقَالَ: هَذِهِ دَارِي وَعَمَلِي، فَاعْمَلْ وَأَدِّ عَمَلَكَ، فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي عَمَلَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ فَأَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَبْدٌ كَذَلِكَ يُؤَدِّي عَمَلَهُ لِغَيْرِ سَيِّدِه؟ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَلا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا. . . " وذكر بقية الحديث، وهو صحيح أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬1). أخبرنا أبو عبد اللَّه محمد بن يوسف المعدل، أنا الإِمام أبو عبد اللَّه محمد بن أبي الفضل المرسي، أنا منصور بن عبد المنعم الفراوي، أنا عبد الجبار بن محمد الخواري، أنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين (¬2)، أنا علي بن محمد المقرئ، أنا الحسن ابن محمد بن إسحاق [حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا نصر بن علي، حدثنا وهب ابن جرير، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق] (¬3) حدثني الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، وعن عروة ابن الزبير -وصلب الحديث عن أبي بكر- عن أم سلمة -رضي اللَّه عنها- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما فتن أصحابه بمكة أشار عليهم أن يلحقوا بأرض الحبشة. . . فذكر الحديث بطوله إلى أن قال: فكلمه جعفر -رضي اللَّه عنه- يعني النجاشي- فقال: كنا على دينهم -يعني دين أهل مكة- حتى بعث اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فينا رسولًا نعرف نسبه وصدقه وعفافه فدعا إلى أن نعبد اللَّه وحده لا شريك له ونخلع ما كان يعبد قومنا وغيرهم من دونه، وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر، وأمرنا بالصلاة والصيام والصدقة وصلة الرحم وكل ¬

_ (¬1) "صحيح ابن خزيمة" (930). (¬2) وهو في "شعب الإيمان" له (81). (¬3) سقط من الأصل. ولعله انتقال نظر من الناسخ من إسحاق الأول إلى إسحاق الثاني، وأثبته من "شعب الإيمان".

ما يعرف من الأخلاق الحسنة، وعلمنا تنزيلًا جاءه من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لا يُشبهه شيء غيره فصدقناه وآمنا به وعرفنا أن ما جاء به هو الحق من عند اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ففارقنا عند ذلك قومنا وآذونا. فقال النجاشي: هل معكم مما نزل عليه شيء تقرءونه علي؟ قال جعفر -رضي اللَّه عنه-: نعم، فقرأ {كهيعص} فلما قرأها بكى النجاشي حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم. فقال النجاشي -رضي اللَّه عنه-: إن هذا والكلام الذي جاء به موسى ليخرجان من مشكاة واحدة (¬1). وأخبرنا أبو الربيع بن قدامة القاضي سماعًا عليه، عن إسماعيل بن علي بن باتكين، أنا أبو بكر أحمد بن المقرئ، أنا أبو الطاهر أحمد بن محمد الباقلاني، أنا ضمرة بن الحسن الكوفي، ثنا علي بن محمد الشونيزي، ثنا أحمد بن زنجويه المخرمي، ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، فذكر قصة الهجرة إلى الحبشة وبعث قريش إلى النجاشي -رضي اللَّه عنه- في شأنهم، وذكر نحوًا مما تقدم وزاد فيه أن جعفرًا -رضي اللَّه عنه- قال للنجاشي: وأما عيسى بن مريم فهو عبد اللَّه ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وابن العذراء البتول. قال: فأخذ -يعني النجاشي- عودًا منها -يعني الأرض- فقال: واللَّه ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود. فقال عظماء الحبشة: واللَّه لئن سمعت الحبشة بهذا لتخلعنك. فقال النجاشي: واللَّه لا أقول في عيسى ابن مريم غير هذا أبدًا. . . وذكر بقية القصة بكمالها. أخبرنا محمد بن أبي العز الدمشقي وأحمد بن أبي طالب الصالحي ووزيرة بنت عمر التنوخي قالوا: أنا الحسين بن المبارك، أنا عبد الأول بن عيسى، أنا أبو الحسن ¬

_ (¬1) رواه أحمد (1/ 201) من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن.

عبد الرحمن بن المظفر، أنا عبد اللَّه بن حمويه، أنا محمد بن يوسف، ثنا الإمام محمد ابن إسماعيل، ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، ثنا عمرو، عن ابن أبي هلال، أن أَبا الرجال محمد بن عبد الرحمن حدثه، عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة -رضي اللَّه عنها- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعث رجلًا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاته بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "سَلُوهُ لِأَيِّ شيْءٍ يَصْنعُ ذَلِكَ". فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّهُ". كذا رواه البخاري في "صحيحه" (¬1). وأخرجه مسلم، عن أحمد بن عبد الرحمن، عن ابن وهب به (¬2). أخبرناه عاليًا القاسم بن مظفر بقراءتي، أخبرتنا كريمة بنت عبد الوهاب حضورًا، أنبأنا مسعود بن الحسن الثقفي، أنا عبد الوهاب بن محمد بن منده، أنا إبراهيم -يعني ابن محمد القفال- ثنا أبو بكر -هو ابن زياد الإِمام- ثنا أحمد بن عبد الرحمن وعيسى بن إبراهيم الغافقي قالا: ثنا ابن وهب فذكره. فوقع لنا في هذه الرواية موافقة وبدلًا لهما عاليين. وزاد بعض الرواة فيه عن ابن وهب قال ابن أبي هلال: فحدثني محمد بن عمرو أنه بلغه أن أهل الكتاب والمشركين قالوا: يا محمد انسب لنا ربك حتى نعرفه. قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ}. قالوا: فما الصمد؟ قال: "الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ". وهذه الزيادة رويت مسندة من حديث أبي بن كعب -رضي اللَّه عنه- (¬3): ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (7375). (¬2) "صحيح مسلم" (813). (¬3) رواه الترمذي (3364)، وأحمد (5/ 133)، والحاكم (2/ 589).

أخبرناه عبد الرحيم بن يحيى بن سلمة وأحمد بن عبد اللَّه القرشي بدمشق وأحمد ابن إدريس بن مزيز بحلب قال الأولان: أنا أحمد بن علي بن المفرج الأموي، وقال الأول أَيضًا والثالث: أنا مكي بن منصور بن علان قالا: أنا الحافظ أبو القاسم علي ابن عساكر، أنا أحمد بن الحسن بن البنا، أنا الحسن بن علي الجوهري، أنا علي بن محمد بن لؤلؤ، ثنا محمد بن أحمد الشطوي، ثنا أحمد بن منيع، ثنا محمد بن ميسر أبو سعد الصغاني، ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب -رضي اللَّه عنه- أن المشركين قالوا لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: انسب لنا ربك، فأنزل اللَّه تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ}. قال: "الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إِلَّا سَيَمُوتُ وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إِلَّا سَيُورَثُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَث". {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. قال: "لَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ وَلَا عِدْلٌ وَلَيْسَ كمِثْلِهِ شَيْءٌ". رواه الترمذي (¬1) عن أحمد بن منيع، عن الموافقة. أخبرنا محمد بن يعقوب الجرائدي بقراءتي عليه بدمشق، أنا عبد الرحمن بن علي ابن الحاسب بمصر، أنا جدي الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي بثغر الإسكندرية، أنا أبو القاسم الفضل بن عمر، ومحمد بن أبي القاسم القصار وغيرهما بأصفهان قالوا: أنا محمد بن عبد اللَّه بن ريذة، ثنا سليمان بن أحمد الحافظ، ثنا أحمد ابن رشدين المصري، ثنا عيسى بن حماد، ثنا الليث بن سعد، عن الخليل بن مرة، عن الأزهر بن عبد اللَّه الحمصي، عن تميم الداري -رضي اللَّه عنه-، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَاحِدًا أَحَدًا صَمَدًا لَمْ يتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَرْبَعِينَ الْفَ حَسَنَةٍ" (¬2). الخليل بن مرة تُكلم فيه، وأزهر بن عبد اللَّه لم يدرك تميمًا، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3364). (¬2) رواه الترمذي (3473)، وأحمد (4/ 103). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والخليل بن مرة ليس بالقوي عند أصحاب الحديث، قال محمد بن إسماعيل: هو منكر الحديث.

قال مؤلفه: آخر الجزء والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا. علقه مخرجه خليل بن العلائي الشافعي في يوم الثلاثاء رابع شهر جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة ببيت المقدس. وعلقه من خطه رحمه اللَّه تعالى محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن حامد غفر اللَّه لهم أجمعين وذلك في عاشر شهر رمضان المعظم قدره سنة ثمان وستين وثمانمائة بالخانقاة الفخرية من المسجد الأقصى الشريف منزل كاتبه. وعلقته أنا من خط محمد بن أحمد بن حامد وأنا الفقير يحيى بن أبي النصر بن أحمد بن حامد الأنصاري القدسي المالكي غفر اللَّه لنا ولهم ولجميع المسلمين أجمعين في ثامن عشر جمادى الأول من شهور سنة تسع عشرة بعد الألف أحسن ختامها. سمع هذا الجزء من لفظه الجماعة السادة: الصدر علاء الدين علي بن فتح الدين أحمد بن عبد الواحد بن عبد اللَّه الأنصاري بن الزملكاني، والفقيه شمس الدين محمد ابن حامد بن أحمد المقدسي، والفقيه ناصر الدين محمد بن الباروقي المقيم بخانقاة الطواوشى، والشيخ محمد بن علاء الدين علي بن أحمد الطواوشي الصدفي، وعثمان إبراهيم خادمًا علاء الدين بن الزملكاني المذكور، وآخرون يوم الثلاثاء خامس شهر شوال سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة بكنيسة بيت لحم.

تحرير المقال في تحريم الحلال

تَحْرِيرُ الْمَقَالِ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين، صلى اللَّه عليه وعلى إله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أمَّا بَعْدُ: فهذه رسالة تسمى بـ "تحرير المقال في تحريم الحلال" للحافظ العلائي تكلم فيها عن مسألة هامة وهي مسألة تحريم الزوجة. أسال اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- أن ينفع به المسلمين، وأن يسدد خطانا في سبيل ضبط ونشر كتب سلفنا الصالحين، رحمة اللَّه عليهم أجمعين، والحمد للَّه رب العالمين.

التوصيف العلمي للنسخة الخطية

التوصيف العلمي للنسخة الخطية اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسخة خطية فريدة لم أظفر بغيرها وهي نسخة متقنة جدًّا ومقابلة: وهي عبارة عن النسخة الخطية المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (435) فقه تيمور. - اسم الناسخ: ابن العلائي. - تاريخ النسخ: في حدود القرن السابع. - نوع النسخ: نسخ معتاد. - عدد الأوراق: 25 ورقة. توثيق الكتاب: الناظر لأول وهلة في هذه الرسالة يعلم إن شاء اللَّه تعالى أنها للإمام الحافظ العلائي. وقد وجد على طرة النسخه الخطية نسبة هذه الرسالة للإمام العلائي وأيضًا في مقدمة الرسالة، وفي آخرها أَيضًا.

طرة النسخة الخطية

الورقة الأخيرة من النسخة الخطية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ: حمدًا للَّه الذي وسع كل شيء رحمة وعلمًا، ومنح من اختصه بالعلم الشريف دراية وفهمًا، ووسع باختلافهم على عبادة المُؤْمنين رفقًا بهم ورحمى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المخصوص بالمحل الأسمى والشفاعة العظمى والمعجزات الباقيات تنمى وتنمى، وعلى آله وصحبه المحكوم لهم بالمزية على من بعدهم حتمًا، المرجوع إليهم في الدين نقلًا وحكمًا. فإن مسألة تحريم الزوجة وغيرها قد تباينت فيها المذاهب وتعارضت المطالب مع كثرة وقوعها وتشعب فروعها واختلاف تفصيلها ومجموعها؛ فعلقتها في هذه الأوراق مستعينًا بالواحد الخلاق، بدأت أولًا بأقوال الصحابة -رضي اللَّه عنهم- المنقولة فيها، ثم ترتيب المذاهب فمن بعدهم على وجه يحويها، ثم بما يستند إليه من الأدلة محررًا، وما يتفرع عليها من مسائل المذهب محبرًا، ولم آل في توجيه الراجح من مباحثها مقررًا، واللَّه تعالى يوفق للصواب في ذلك ويهدينا إلى أرشد المسالك بمنه وكرمه. أما المروي فيها عن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- ففي "صحيح البخاري" من طريق معاوية ابن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، عن يعلي بن حكيم، عن سعيد بن جبير؛ أنه سمع ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- يقول: إذا حرم الرجل امرأته ليس بشيء (ص 3) وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. هكذا رواه في كتاب الطلاق (¬1)، وأخرجه في التفسير من طريق هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير بسنده ولفظه: قال في الحرام يكفر، وقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬2). وبهذا اللفظ أخرجه مسلم (¬3) من الطريقين ولفظه في طريق معاوية بن سلام أن ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (5266). (¬2) "صحيح البخاري" (4911). (¬3) "صحيح مسلم" (1473).

ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. قال ابن عبد البر: وروى سعيد بن المسيب، وجابر بن زيد، ومطرف، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- كمثله. قُلْتُ: طريق جابر بن زيد أخرجها الدارقطني من جهة سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: في الحرام يمين تكفر (¬1). وروى البيهقي من طريق سفيان الثوري، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جببر، عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: اني جعلت امرأتي علي حرامًا؟ فقال له: كذبت ليست عليك بحرام، ثم تلا {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة (¬2). وذكره ابن عبد البر من طريق الثوري، عن منصور، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- في الحرام قال: عتق رقبة أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينًا. ثم قال: وكذلك روى خصيف، عن سعيد بن جبير (ص 4) عن ابن عباس (¬3). وروى عبد اللَّه بن [صالح] (¬4) عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- في قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}: أمر اللَّه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والمؤمنين إذا حرموا شيئًا مما أحل اللَّه أن يكفروا عن أيمانهم بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، وليس يدخل في ذلك طلاق. أخرجه البيهقي (¬5) وهو مرسل؛ لأن علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 41 رقم 121). (¬2) "السنن الكبير" (7/ 350). (¬3) "الاستذكار" (6/ 21). (¬4) في "الأصل": صبح. خطأ، والمثبت من السنن. وعبد اللَّه بن صالح هو أبو صالح المصري، من رجال التهذيب. (¬5) "السنن الكبير" (7/ 351).

إنما روى عن أصحابه، وهو متكلم فيه أَيضًا. وروى البيهقي أَيضًا من حديث شعبة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك؛ أن أعرابيًّا أتى ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- فقال: إني جعلت امرأتي على حرامًا؟ قال: ليست عليك بحرام. قال: أرأيت قول اللَّه تعالى {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ}؟ فقال ابن عباس: إن إسرائيل كانت به الأنسى فجعل على نفسه إن شفاه اللَّه أن لا يأكل العروق من كل شيء فليست بحرام (¬1). وهذا إسناد صحيح، وظاهره أنه لم يجعل عليه فيه شيئًا. فهذه الروايات تشتمل على أربعة أقوال مختلفة عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- في ذلك، وكذلك اختلفت عن غيره أَيضًا: روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن عبد الرحيم بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك؛ أن أَبا بكر وعمر وابن مسعود -رضي اللَّه عنهما- قالوا: من قال لامرأته هي عليه حرام (ص 5) فليست بحرام، وعليه كفارة يمين (¬2). وهذا منقطع، وجويبر ضعيف جدًّا. وروى الدارقطني من طريق هشام الدستوائي قال: كتب إلى يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، أن عمر -رضي اللَّه عنه- قال: الحرام يمين يكفرها (¬3). وهو مرسل أَيضًا. وكذلك رواه معمر، عن يحيى بن أبي كثير وأيوب عن عكرمة، وأسنده عبد اللَّه ابن الوليد العدني عن سفيان الثوري عن جابر وهو الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس أن عمر -رضي اللَّه عنهما- كان يجعل الحرام يمينًا (¬4). ¬

_ (¬1) "السنن الكبير" (7/ 351). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 97). (¬3) "سنن الدارقطني" (4/ 40 رقم 117). (¬4) رواه البيهقي (7/ 351).

وبسنده عن سفيان أَيضًا عن حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم -يعني النخعي- عن عمر -رضي اللَّه عنه- أنه أتاه رجل قد طلق امرأته تطليقتين فقال: أنت علي حرام، فقال له عمر -رضي اللَّه عنه-: لا أردها إليك (¬1). وحكى الإِمام الشافعي عن أبي يوسف القاضي، عن أشعث بن سوار، عن الحكم، عن إبراهيم، عن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- أنه قال في الحرام: إن نوى يمينًا فيمين، وإن نوى طلاقًا فطلاق، وهو ما نوى من ذلك. ذكره البيهقي عنه (¬2). ثم روى من طريق الثوري عن أشعث، عن الحكم، عن إبراهيم، عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- أنه كان يقول: نيته في الحرام ما نوى إن لم يكن نوى طلاقًا فهي يمين (¬3). وهذا وإن كان مرسلًا فمراسيل إبراهيم النخعي عن ابن مسعود صحيحة؛ لأنه صرح بأن ما أرسله عنه فقد سمعه (ص 6) من جماعة أصحابه. وذكر ابن عبد البر عن الشعبي عن ابن مسعود مثل ذلك فاعتضدت كل طريق بالأخرى. وروى عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد؛ أن ابن مسعود قال في التحريم: هي يمين يكفرها (¬4). ذكره عنه هكذا ابن حزم. وروى جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه، عن علي -رضي اللَّه عنه- في الذي يقول لامرأته: أنت علي حرام، قال: هي ثلاث. ذكره عنه ابن عبد البر (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي (7/ 351). (¬2) "السنن الكبير" (7/ 351). (¬3) "السنن الكبير" (7/ 351). (¬4) "مصنف عبد الرزاق" (11366). (¬5) "الاستذكار" (6/ 17).

وفي "مصنف عبد الرزاق" عن ابن التيمي، عن أبيه؛ أن عليًّا وزيدًا يعني ابن ثابت -رضي اللَّه عنهما- فرقا بين رجل وامرأته قال: هي علي حرام (¬1). وروى سعيد بن منصور في "سننه" عن هشيم، عن منصور، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علي -رضي اللَّه عنه- في الحرام والبرية والبتة قال: هي ثلاث ثلاث (¬2). قال ابن عبد البر: وروى قتادة، عن خلاس بن عمرو و [أبي حسان الأعرج] (¬3) أن عدي بن قيس أحد بني كلاب جعل امرأته عليه حرامًا، فقال له علي -رضي اللَّه عنه-: هي ثلاث، والذي نفسي بيده إن مسستها قبل أن تتزوج غيرك لأرجمنك (¬4). قُلْتُ: وهذا متصل تعتضد به المراسيل المتقدمة، ومثله أَيضًا ما روى البيهقي من حديث جعفر بن عون، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر الشعبي قال: كان علي -رضي اللَّه عنه- يجعل الخلية والبرية والبتة والحرام ثلاثًا (¬5). وقد أخرج البخاري للشعبي عن علي -رضي اللَّه عنه- وذلك يقتضي أنه سمع منه؛ فإن البخاري لا يكتفي بإمكان اللقاء. ثم روى البيهقي من طريق أبي نعيم، عن حسن يعني بن موسى الأشيب، عن أبي سهل، عن (ص 7) الشعبي، عن علي -رضي اللَّه عنه- قال: الخلية والبرية والبائن والحرام إذا نوي بها بمنزلة الثلاث (¬6). وأبو سهل هذا هو كثير بن زياد البصري وثقه يحيى بن معين وأبو حاتم والنسائي. ¬

_ (¬1) "مصنف عبد الرزاق" (11383). (¬2) "السنن" (1679). (¬3) في "الأصل": حسان بن الأعرج. تحريف، والمثبت من "مصنف عبد الرزاق"، "الاستذكار" (6/ 17). وأبو حسان الأعرج هو مسلم بن عبد اللَّه من رجال التهذيب. (¬4) رواه عبد الرزاق (11381). (¬5) "السنن الكبير" (7/ 344). (¬6) "السنن الكبير" (7/ 344).

وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن يعلي بن عبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر الشعبي، أنه سمعه يقول: أنا أعلمكم بما قال علي -رضي اللَّه عنه- في الحرام؛ إنما قال: لا آمرك أن تتقدم ولا آمرك أن تتأخر (¬1). فهذه ثلاثة أقوال اختلفت عن الشعبي في قول علي -رضي اللَّه عنه-. وتقدم عن زيد بن ثابت أنه فرق بها بين الرجل وامرأته من "مصنف عبد الرزاق"، وكذلك روي أَيضًا عن معمر عن الزهري أن زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- قال: هي ثلاث. وكذلك روى ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة؛ أن زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- كان يقول في الحرام ثلاث (¬2). قال: وثنا عبد الوهاب يعنيِ الثقفي، عن سعيد [عن] (¬3) مطر، عن حميد بن هلال، عن سعد بن هشام؛ أن زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- قال: هي ثلاث لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره (¬4). وهذه كلها مراسيل يعتضد بعضها ببعض. "وقد روى ابن حزم في "المحلى" بسند صحيح عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد اللَّه بن هبيرة، عن قبيصة بن ذؤيب قال: سألت زيد بن ثابت وابن عمر -رضي اللَّه عنهما- عمن قال لامرأته: أنت علي حرام، فقالا جميعًا: كفارة يمين (¬5). وذكر أَيضًا عن (ص 8) إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا المقدمي، ثنا حماد بن زيد، عن صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- قال: الحرام يمين (¬6). ¬

_ (¬1) لم أجده فيه، ورواه عبد الرزاق (11384) من طريق إسماعيل. (¬2) "المصنف" (4/ 96). (¬3) في الأصل: بن. تحريف، والمثبت من المصنف. (¬4) "المصنف" (96/ 4). (¬5) "المحلى" (10/ 125). (¬6) "المحلى" (10/ 125).

وروى البيهقي من طريق عبد الوهاب (¬1)، عن سعيد بن أبي عروبة، عن مطر، عن عطاء، عن عائشة -رضي اللَّه عنهما- أنها قالت في الحرام يمين (¬2). قال: ورواه عبد اللَّه بن [بكر] (¬3) عن سعيد بن أبي عروبة فقال: فيه يمين يكفرها (¬4). فهذه الآثار التي وقفت عليها مسندة عن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- ونقل عن بعض منهم أقوال بغير سند ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللَّه تعالى. وَأَمَّا الْمَذَاهِبُ المُتَبَايِنَة فِيهَا لِمَنْ بَعْدِ الصَّحَابَةِ فَيَتَحَصَّلُ مِنْهَا نَحْوَ عِشْرِينَ قَولًا: الأَوَّلُ: أنه لغو لا شيء فيه ولا يلزم القائل به شيء، وهو مقتضى ما تقدم في رواية يوسف بن ماهك عن ابن عباس، وبه قال مسروق والشعبي وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وحميد بن عبد الرحمن الحميري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وذهب إليه أصبغ بن الفرج من المالكية، وداود الظاهري وأتباعه، واختاره ابن حزم. وَالقَوْل الثَّانِي مقابله في التشديد: وهو أنه يقع به الطلاق الثلاث سواءً كانت مدخولًا بها أو لا وسواءً نوى ذلك أو نوى غيره أو لم ينو شيئًا، وقد تقدم عن علي وزيد بن ثابت -رضي اللَّه عنهما- (ص 9) في روايات عدة، ونقله ابن حزم أَيضًا عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، وحكاه أبو بكر ابن العربي وغيره عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أَيضًا، وبه قال الحسن البصري والحكم بن عتيبة وهو قول مالك المشهور من مذهبه إلا أنه قال: إذا نوى في غير المدخول بها واحدة أو اثنتين قبل منه ولا يوقع عليه إلا ما نواه. وَالثَّالِثُ كذلك إلا أنه لا تقبل نيته في غير المدخول بها كما لا تقبل في المدخول؛ بل تقع فيهما الثلاث وإن نوى غيره، قاله محمد بن أبي ليلى وعبد الملك ¬

_ (¬1) زاد في "الأصل": عن عطاء. وهو انتقال نظر من الناسخ، والمثبت من السنن وهو الصواب. (¬2) "السنن الكبير" (7/ 351). (¬3) في "الأصل": بكير. تحريف، والمثبت من السنن. وعبد اللَّه بن بكر هو أبو وهب السهمي البصري من رجال التهذيب. (¬4) "السنن الكبير" (7/ 351).

ابن الماجشون من المالكية، والظاهر أنه مقتضى المنقول عن الصحابة الذين تقدم النقل عنهم آنفًا. الرَّابعُ: أنه يقتضي البينونة؛ فإن كان المرأة مدخولًا بها وقع عليها الثلاث، وإن لم يكن مدخولًا بها فواحدة، قاله أبو مصعب الزهري ومحمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم من المالكية. وَالْخَامِسُ: أنها طلقة واحدة بائنة، وإن كانت مدخولًا بها، حكاه القرطبي في "تفسيره" عن زيد بن ثابت، وبه قال زيد بن أسلم وحماد بن أبي سليمان، وقد تقدم في رواية عن عمر -رضي اللَّه عنه-، ونقله ابن خويز منداد عن مالك، وهو قول إبراهيم النخعي في رواية عنه، وقال في أخرى: إلا أن ينوي الثلاث فيكون ما نواه. وَالسَّادِسُ: أنها طلقة يملك بها الرجعة، حكاه القرطبي أَيضًا في "تفسيره" عن عمر -رضي اللَّه عنه- والزهري وقاله عبد العزيز بن أبي سلمة المالكي فيما نقله (ص 10) عنه سحنون وغيره. وَالسَّابعُ ما قاله يحيى بن عمر من المالكية: يكون طلاقًا رجعيًّا فإن ارتجعها لم يجز له وطئها حتى يكفر كفارة الظهار. فَهَذهِ سِتَّةُ أَقوَالِ في مَذهبِ مالك رحمه اللَّه. وَالقَوْل الثَّامِن: مذهب الشافعي الصحيح عند أصحابه المتأخرين إن نوى به الطلاق كان طلاقًا ويقع به ما نواه من العدد؛ فإن أطلق فواحدة رجعية، وإن نوى الظهار كان ظهارًا، فإن نوى تحريم عينها لزمه بنفس اللفظ كفارة يمين ولا يكون ذلك يمينًا حتى يتوقف لزوم الكفارة على المخالفة، وإن لم ينو شيئًا فيلزمه كفارة يمين كذلك أَيضًا. وَالتَّاسِعُ كذلك أَيضًا: إلا أنه إذا لم ينو شيئًا فهو لغو لا شيء فيه، وهو القول الثاني للشافعي رحمة اللَّه عليه. وَالْعَاشِرُ: مذهب أبي حنيفة وأصحابه إن نوى به طلاقًا فهو طلقة بائنة إلا أن ينوي به الثلاث فيكون ثلاثًا؛ فإن نوى اثنتين فهو واحدة بائنة. وقال زفر منهم: يكون اثنتين وإن لم ينو طلاقًا فهو يمين ويكون مؤليًا. واختلف الصاحبان فيما إذا نوى به الظهار:

فقال أبو يوسف: يكون مظاهرًا. وقال محمد بن الحسن: لا يكون ظهارًا. وَالْحَادِي عَشَر: أنه ظهار بكل حال وإن نوى به الطلاق أو أطلق فيجب به كفارة الظهار مع العود، تقدم في رواية عن ابن عباس وحكاه (ص 11) العبدري وغيره عن عثمان -رضي اللَّه عنه- أَيضًا، وبه قال أبو قلابة وسعيد بن جبير ووهب بن منبه وميمون بن مهران وعثمان البتي وإسحاق بن راهويه، وهو أرجح الروايات عن أحمد بن حنبل اختارها الخرقي والمتأخرون من أصحابه. وَالثَّانِي عَشَر: أنه كناية في الطلاق أو الظهار يقع به ما نواه منهما، فإن لم ينو واحدًا منهما كان لغوًا لا شيء فيه، وهي رواية ثانية عن أحمد اختارها ابن عقيل، والمباينة بين هذا والقول الثاني المتقدم للشافعي أنه إذا نوى تحريمها لا يلزمه شيء، وعند الشافعي فيه كفارة يمين. وَالثَّالِثُ عَشَر: أنه يمين مغلظة يجب بها عتق رقبة من غير تخيير، تقدم ذلك عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- في رواية، وحكاه ابن عبد البر عن سعيد بن جبير وأنه قال: إذا قال ذلك لأربع نسوة أعتق أربع رقاب. وَالرَّابِعُ عَشَر: أنه يمين يجب به كفارة يمين، تقدم هذا صريحًا عن عمر وابنه عبد اللَّه ابن عباس وعائشة -رضي اللَّه عنهم-، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري في رواية وعطاء بن أبي رباح وطاوس وسليمان بن يسار وقتادة ونافع مولى ابن عمر. ومقتضى هذا أنه لو نوى به الطلاق أو الظهار لم ينصرف إليه، وقد صرح بذلك عطاء (ص 12) وقتادة فيما حكاه ابن حزم عنهما، ولا يلزم فيه الكفارة حتى يطأ، وبذلك صرح أحمد بن حنبل وهو الرواية الثالثة عنه لكنه قيد ذلك بما إذا نوى به اليمين وأما الأولون فأطلقوا. وَالْخَامِسَةُ عَشَر: أنه يجب كفارة اليمين وليس بيمين وهو قضية ما تقدم في رواية الضحاك عن أبي بكر وعمر وابن مسعود -رضي اللَّه عنهم- وقد ذكرنا ثم أنها منقطعة وضعيفة السند، وحكاها ابن العربي وغيره أَيضًا عن ابن عباس في رواية وذكر أنه أحد القولين للشافعي. قُلْتُ: إنما يجعله الشافعي كذلك إذا لم ينو به شيئًا من الطلاق والظهار ومتى

نوى واحدًا منهما انصرف إليه، ومقتضى المنقول عن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- أنه يجب به كفارة اليمين وإن نوى ذلك، والفرق بينه وبين القول الذي قبله أن الكفارة لا تتوقف فيه على المخالفة بل تجب بمجرد اللفظ كما تقدم. السَّادِسُ عَشَر: إن نوى واحدة أو عددًا من الطلاق فهو ما نواه، وإن نوى اليمين فهو يمين، وإن لم ينو شيئًا من ذلك فهو لغو، وقد تقدم هذا في رواية عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- وبه قال سفيان الثوري وكذلك الأوزاعي وأبو ثور إلا أنهما قالا: إذا لم ينو شيئًا فكفارة يمين، كذلك حكاه عنهما القاضي عياض وابن عبد البر عن الأوزاعي، وحكى أبو العباس القرطبي في "شرح مسلم" عنهما أنه إذا لم ينو شيئًا فطلقة واحدة. وَالسَّابعُ عَشَر: حكاه القاضي عياض وغيره عن الزهري (ص 13) أنه يقع به ما نواه ولا يكون أقل من طلقة ومباينته لما تقدم أنه لا ينصرف إلى اليمين إذا نواها به ولا إلى الظهار كذلك. فهذه سبعة عشر قولًا ظاهرة التباين، وحكي عن [. . .] (¬1) فيما تقدم عن إبراهيم النخعي في الرواية الثانية، وعن زفر والأوزاعي ثلاثة أقوال أخر فيصير المجموع عشرين قولًا. وقد حكى ابن العربي والقرطبي في "تفسيره" عن ابن القاسم أنه لا تنفعه نية الظهار وإنما تكون طلاقًا وجعله قولًا مباينًا لكل ما تقدم؛ وفيه نظر لأنه ليس زائدًا عليها. وكذلك أَيضًا حكى ابن حزم في "المحلى" قولًا آخر أنها تصير بذلك حرامًا قال: ولم يذكروا طلاقًا، صح هذا عن علي بن أبي طالب ورجال لم يسموا من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. قال: وصح عن الحسن وخلاس بن عمرو وجابر بن زيد وقتادة؛ أنهم أمروه باجتنابها فقط. ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في الأصل.

وجعل ابن حزم هذا قولًا آخر مباينًا لما تقدم وهو قول مشكل؛ لأن التحريم إن كان يقتضي فراقًا فهو الطلاق وإلا فهو الظهار، فوجب الكفارة ويمتنع به الوطء حتى يكفر أو يكون يمينًا فلا بد له إن حنث من الكفارة، وإما تحريم لا إلى غاية ولا كفارة فيه ولا يقتضي فرقة فهو عدم النظير، ويشبه أن يكون هذا قولًا بالوقف عن الحكم فيه بشيء، وقد عده بعضهم قولًا مباينًا أيضًا لما تقدم وأسند فيه إلى ما تقدم من رواية الشعبي عن علي -رضي اللَّه عنه- أنه قال لمن سأله: لا آمرك أن تتقدم، ولا آمرك أن تتأخر. وهذا لا ينبغي أن يعد قولًا في المسألة لأنه ليس بحكم بل (ص 14) هو عدم للقول بشيء فلا حاصل له ولالما نقله ابن حزم أَيضًا، ثم إن القول الذي اختاره واحتج له هو ما تقدم أولًا أنه لا يلزم به شيء ظاهره أنه وإن نوى به الطلاق أو الظهار فلا يقعان به وذلك جار على طريقته أن الطلاق لا يقع بشيء من الكنايات مع النية ولا ينفذ إلا بلفظ الطلاق والفراق والسراح وكذلك الظهار يتقيد نفوذه بلفظه المشهور فيه وهي طريقة ضعيفة، وقد ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال لابنة الحارث لما قالت له: أعوذ باللَّه منك: "الحقي بأهلك" (¬1). وثبت في حديث توبة كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه- أنه قال لامرأته: الحقي باهلك حتى يقضي اللَّه في هذا الأمر، ولم يكن ذلك طلاقًا (¬2). فجمع العلماء بينهما بأن وقوعه في لفظ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان مع نية الطلاق، وفي قول كعب -رضي اللَّه عنه- لم ينو به طلاقًا فلم يقع عليه فكذلك بقية الكنايات، وموضع البسط في ذلك غير هذه الأوراق. وأما اختلاف الأقوال المتقدمة فالسبب فيه أن مسألة الحرام لم يرد فيها نص صريح ولا ظاهر في الكتاب والسنة يوقف عنده. واختلف العلماء في سبب نزول قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5254) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. (¬2) رواه البخاري (4418)، ومسلم (2769).

{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬1) واختلفت الآثار المروية فيه أَيضًا وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هل كان حرم منه أو حلف أن لا يطأها، أو حرم العسل أو حلف لا يشربه كما سيأتي بيان ذلك مبسوطًا (ص 15) إن شاء اللَّه تعالى؟ وعلى تقدير أن يكون حرم أمته فهل تلحق الزوجة بها أم لا؟ فالظاهر أنهم تمسكوا بالبراءة الأصلية وقالوا: لم يثبت فيها حكم خاص فلا يلزم بها شيء، والجمهور ردوا هذه اللفظة إلى ما يقتضيه معناها من الأصول فمنهم من نظر إلى التحريم الكامل في حق الزوجة هو ما تقتضيه البينونة الكبرى بوقوع الثلاث فجعلها تقتضي ذلك، ومن المالكية من رجح هذا المعنى بعرف ادعوا ثبوته صيرها تقتضي ذلك وهو بعيد، ومنهم من نظر إلى أن إيقاع الثلاث من غير نية الزوج العدد بعيد، فاقتصر على البينونة الصغرى فقال: تقع به طلقة بائنة؛ لأن بها يحصل التحريم لأن الرجعية غير محرمة من كل وجه ومن قال: إن وطء الرجعية محرم اقتصر على أنها طلقة رجعية؛ لأن الأصل عدم زائد عليها. ومنهم من نظر إلى أن الأصل عدم الفرقة ورأى أن تحريم الزوجة مع بقاء النكاح بلفظ من الزوج إنما يكون بالظهار فجعل هذا اللفظ يدخل فيه. وأما من قال أنه يمين يلزم بمخالفته كفارة اليمين فاعتمد قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬2) بعد قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (¬3) وقالوا: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حرم مارية أو شرب ذلك العسل، وسيأتي ما يتعلق بذلك إن شاء اللَّه تعالى، ومن رأى أن الكفارة تلزم به وليس بيمين تمسك بالقصة مع أن اليمين لا يكون إلا باسم من أسماء اللَّه تعالى (ص 16) أو بصفاته. وأما من رأى أنه كناية في شيء مما تقدم فعمدته أن اللفظ لم يشتهر في شيء من ذلك لا في الكتاب ولا في السنة ولا في عرف حملة الشريعة؛ لأن اختلاف الصحابة ¬

_ (¬1) التحريم: الآية 1، 2. (¬2) التحريم: الآية 2. (¬3) التحريم: الآية 1.

المتقدم ومن بعدهم يمنع ذلك فاقتصر به على المتحقق وهو الكناية وجعل ذلك إنما يعتبر مع النية فيه. وأما الإِمام الشافعي فإنه جمع بين هذه الماخذ كلها وبين أقوال الصحابة -رضي اللَّه عنهم- على وجه حسن كما سيأتي تقريره إن شاء اللَّه تعالى مع تفريع مسائل المذهب في هذه اللفظة، فهذه إشارة إلى مأخذ الأقوال المتقدمة، وهذا كله في حق الزوجة. أما إذا قال ذلك لأمته: فمذهب الشافعي أنه إن نوى عتقها به عتقت، وإن نوى تحريم عينها لزمه كفارة يمين ولم يكن يمينًا، وإن لم ينو شيئًا فالقولان المتقدمان وأصحهما أنه يلزمه بذلك كفارة يمين، وبه قال جمهور العلماء فيما حكاه القاضي عياض. وَالثَّانِي: هو لغو ولا يلزمه شيء وهو مذهب مالك في الصورتين، وحكى القرطبي في "شرح مسلم" عن مالك أنه يقع به العتق إذا نواه. وقال أبو حنيفة: إذا حرم الأمة كان يمينًا ويجب عليه الكفارة بالمخالفة، وطرد ذلك في سائر المباحات من المطعوم والمشروب والملبوس ونحو ذلك، ومذهب الشافعي ومالك وجمهور العلماء أن تحريم ذلك لغو ولا شيء فيه. وهذا له تعلق بالآية الكريمة وما روي في سبب (ص 17) نزولها عليه والآثار في ذلك متعارضة: ففي "صحيح مسلم" (¬1) من طريق حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، سمع عائشة -رضي اللَّه عنهم- تخبر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلًا، قالت: فتواطئت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: "بَل شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَب بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ" فنزل {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} لعائشة وحفصة، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} لقوله: "بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا". وأخرجه البخاري من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج بهذا السند وفيه ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1474).

أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لَا، وَلَكِنِّي شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَينَب بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ وَقَدْ حَلَفْتُ لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا" (¬1). قال البيهقي: وكذلك رواه محمد بن ثور عن ابن جريج، وفي حديث ابن أبي مليكة عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- في هذه القصة: "وَاللَّهِ لَا أَشْرَبُهُ" (¬2). انتهى كلامه ولم أقف على طريق هذه الرواية. وقد تقدم قول ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- إذا حرم الرجل امرأته فهو يمين يكفرها وتلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وأنه في "الصحيحين" بهذا اللفظ، وفيه إشعار بأن الكفارة التي شرعها اللَّه لنبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الآية كانت لتحريم أمته (ص 18) وقد جاء ذلك مصرحًا به فيما روى النسائي من حديث يونس بن محمد المؤدب [عن أبيه] (¬3) عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كانت له أمة يطأها فلم تزل به عائشة وحفصة -رضي اللَّه عنهما- حتى حرمها فأنزل اللَّه {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى آخر الآية (¬4). وأخرجه الحافظ ضياء الدين في كتاب "الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين" من طريق هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة (¬5). ورواه البيهقي من حديث محمد بن بكير الحضرمي، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس وقال فيه: حتى جعلها على نفسه حرامًا؛ فأنزل اللَّه هذه الآية (¬6). ومحمد بن بكير هذا وثقه يعقوب بن شيبة وابن حبان، والحديث على شرط مسلم من طريقيه ولم أجد أحدًا علله، والعجب من كونه ليس في شيء من الكتب ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4912). (¬2) "السنن الكبير" (7/ 353). (¬3) سقط من الأصل. والمثبت من "سنن النسائي". وانظر "تحفة الأشراف" (382). (¬4) "سنن النسائي" (7/ 71). (¬5) "الأحاديث المختارة" (1695). وقال: إسناده صحيح. (¬6) "السنن الكبير" (7/ 353).

الخمسة. وروى سعيد بن منصور في "سننه" (¬1) عن هشيم، أنا عبيدة، عن إبراهيم وجويبر بن الضحاك؛ أن حفصة أم المؤمنين زارت أباها ذات يوم وكان يومها فلما جاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فلم يرها في المنزل أرسل إلى جاريته مارية القبطية فأصاب منها في بيت حفصة -رضي اللَّه عنه- فجاءت حفصة على تلك الحال، فقالت: يا رسول اللَّه أتفعل هذا في بيتي وفي يومي؟ قال: "فَإِنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ، لَا تُخبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا". فانطلقت حفصة إلى عائشة -رضي اللَّه عنهما- فأخبرتها بذلك؛ فأنزل اللَّه عز وجل في كتابه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى (ص 19) قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} فأمر أن يكفر عن يمينه ويراجع أمته. وهذا مرسل صحيح، والعمدة فيه رواية إبراهيم النخعي دون جويبر. وفي "سنن الدارقطني" من حديث أحمد بن محمد بن عبد العزيز قال: وجدت في كتاب أبي عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: وجدت حفصة -رضي اللَّه عنها- عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مع أم إبراهيم في يوم عائشة -رضي اللَّه عنها- فقالت: لأخبرنها، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هِيَ عَليَّ حَرَامٌ إِنْ قَرُبْتهَا" فأخبرت عائشة بذلك، فأعلم اللَّه رسوله ذلك فعرف حفصة بعض ما قالت، قالت: من أخبرك؟ قال: "نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الخَبِيرُ" فآلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من نسائه شهرًا؛ فأنزل اللَّه تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} الآية. قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: فسألت عمر -رضي اللَّه عنه- من اللتان تظاهرتا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فقال: حفصة وعائشة -رضي اللَّه عنهما- (¬2). قُلْتُ: محمد بن عبد العزيز هذا إن كان الزهري فقد ضعفه الدارقطنى وغيره، وقال النسائي: متروك. ¬

_ (¬1) "السنن" (1707). (¬2) "سنن الدارقطني" (4/ 43 رقم 123).

وقد ذكر أبو بكر الرازي في كتابه "أحكام القرآن" معلقًا عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن ابن عباس، عن عمر -رضي اللَّه عنهما- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أصاب مارية القبطية -رضي اللَّه عنها- في بيت حفصة، فعلمت به فجزعت منه، فقال لها: "ألا ترضن أن أحرمها فلا أقربها؟ (ص 20) قالت: بلى؛ فحرمها وقال: "لَا تَذْكُرِي ذَلِكَ لأَحَدٍ" فذكرته لعائشة -رضي اللَّه عنها- فأظهره اللَّه عليه وأنزل عليه الآية (¬1). ومحمد بن إسحاق متكلم فيه وهو مدلس أَيضًا. وروى البيهقي القصة مطولة من طريق عطية بن سعد العوفي، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهم- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لحفصة -رضي اللَّه عنه-: "وَاللَّهِ لَأُرْضِيَنَّكِ إِنِّي مُسِرٌّ إِلَيْكِ سِرًّا فَاحْفَظِيهِ، إِنَّ سَرِيَّتي هَذِهِ عَلَيَّ حَرَامٌ رِضًى لَكِ" (¬2). فانطلقت حفصة فأسرت إلى عائشة -رضي اللَّه عنها- فأسرت إليها ذلك، فنزلت الآية. وعطية هذا مشهور [. . .] (¬3) لكن هذه الروايات كلها يعتضد باجتماعها وبالحديث الذي رواه النسائي، وثابت في "الصحيحين" (¬4) من قول عمر -رضي اللَّه عنه- أن المتظاهرتين عائشة وحفصة -رضي اللَّه عنهما-، وفي قول ابن عباس المتقدم في "الصحيحين" إذا حرم الرجل امرأته. . . الحديث إشارة إلى ذلك أَيضًا كما تقدم. وقد ذكر ابن العربي وغيره أن الأصح كون الآية نزلت في قضية العسل لكونها مخرجة في "الصحيحين" دون قصة تحريم مارية -رضي اللَّه عنها-، وفي ذلك نظر لما أشرنا إليه من أن قصة التحريم لمارية لها أصل في "الصحيحين" أَيضًا. وقال أبو بكر الرازي: يحتمل أن تكون الآية نزلت عقيب كل من القصتين وكانتا مقاربتين في الوقت يعني فظن كل من روى قصة أنها نزلت في تلك فقط. ¬

_ (¬1) "أحكام القرآن" (5/ 362). (¬2) "السنن الكبير" (7/ 352). (¬3) كلمة غير مقروءة في الأصل. وهي أشبه بـ (العوفي). وعطية هو ابن سعد العوفي من رجال التهذيب. (¬4) "صحيح البخاري" (4913)، "صحح مسلم" (1479).

وقد قال الثعلبي في "تفسيره": إن أكثر المفسرين على أنها نزلت في تحريم مارية (ص 21). قُلْتُ: ومع ذلك فقد روي فيهما اليمين على التحريم كما قال مثله في العسل، ففي "المراسيل" لأبي داود من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بيت حفصة -رضي اللَّه عنها- فدخلت فرأت معه فتاته فقالت: في بيتي ويومي؟ فقال: "اسْكُتِي فَوَاللَّهِ لَا أَقْرَبُهَا وَهِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ" (¬1)، وروى سعيد بن منصور عن هشيم، أنا داود، عن الشعبي، عن مسروق، قال: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حلف لحفصة أن لا يقرب أمته وقال: "هِيَ عَليَّ حَرَامٌ" فنزلت الكفارة ليمينه وأمر أن لا يحرم ما أحل اللَّه (¬2). رواه البيهقي (¬3)، وكل من هذين المرسلين صحيح، وأحدهما يقوى بالآخر. وروى ابن وهب عن مالك، عن زيد بن أسلم، قال: حرم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أم ولده فقال: "أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ" فأنزل اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ}. ذكره أبو بكر ابن العربي وغيره، وهذا مرسل آخر. وقد رواه الدارقطني مسندًا عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد اللَّه، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس، عن عمر -رضي اللَّه عنهما- فذكر القصة بنحو ما تقدم، وفيه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لحفصة -رضي اللَّه عنها-: "هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ قَرُبْتهَا". فقالت حفصة: فكيف تحرم عليك وهي أمتك؟ فحلف لها لا يقربها، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَذْكُرِيهِ لِأَحَدٍ" فذكرته لعائشة -رضي اللَّه عنها-؛ فآلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من نسائه شهرًا واعتزلهن؛ فأنزل اللَّه الآية (¬4). ¬

_ (¬1) "المراسيل" (240). (¬2) "السنن" (1708). (¬3) "السنن الكبير" (7/ 353) من طريق سعيد بن منصور. (¬4) "سنن الدارقطني" (4/ 41 رقم 122) من طريق سعيد بن منصور.

ولكن في إسناده إسحاق بن محمد الفروي وهو ضعيف جدًّا. وفي "جامع الترمذي" (¬1) و"سنن ابن ماجه" (¬2) من طريق مسلمة بن علقمة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة -رضي اللَّه عنها- (22) قالت: آلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من نسائه وحرم فجعل الحرام حلالًا وجعل في اليمين كفارة. ثم قال الترمذي: رواه علي بن مسهر وغيره عن داود، عن الشعبي، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والمرسل أصح. قال: وقولها: "جعل الحرام حلالًا" أي جعل الشيء الذي حرم حلالًا وهو العسل ومارية جاريته -صلى اللَّه عليه وسلم-. وجعل ابن القطان المغري العمدة في تصحيح المرسل أن مسلمة بن علقمة ضعفه أحمد بن حنبل وقال: حدث عن داود بن أبي هند بمناكير. قُلْتُ: وقد وثقه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم الرازي: صحيح الحديث، وقال أبو زرعة: لا بأس به يروي عن داود بن أبي هند أحاديث حسانًا، وقد احتج به مسلم وذلك يدفع كل قول فيه، وفي الحقيقة هذا المرسل هو الذي تقدم عن سعيد ابن منصور ولكن هناك فيه زيادة مسروق، وقد علم من قاعدة الشافعي أن المرسل إذا اعتضد بمسند قوي أو بمرسل آخر، فقد تحصل من كل ما تقدم أن كلًّا من القصتين لم يجيء فيه التحريم فقط بل روي فيه أَيضًا اليمين على الترك لكن اليمين في قضية العسل أثبت منها في قصة مارية لإخراج البخاري لها. ثم ينظر في مقتضى الآية الكريمة فإن إطلاق التحريم على الحلف إنما هو على وجه المجاز وهو مجاز التشبيه؛ لأن المحلوف عليه يصير ممتنع الوقوع على الحالف بما أكد به امتناعه من القسم باسم اللَّه كما أن الحرام يكون (ص 23) ممتنع الوقوع إلا أن في صورة اليمين لا يمتنع ذلك جزمًا كما هو في المحرم، بل هو مباح على ما كان في نفس الأمر وله مخالفة اليمين ثم تكون الكفارة جابرة لما حصل من انتهاك ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (1201). (¬2) "سنن ابن ماجه" (2072).

الاسم المعظم بالمخالفة لما عقد به يمينه فكذلك قلنا: إن إطلاق التحريم على المحلوف عليه مجاز، وكذلك أَيضًا تسمية التحريم يمينًا في قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬1) ليس حقيقة أَيضًا لأن حقيقة اليمين تأكيد الحث أو المنع أو التصديق بالاسم المعظم فالحكم عليه بأنه يمين يحتاج فيه إلى إثبات شرع صريح بذلك فلو لم يرد في شيء من قصة العسل أو تحريم مارية وفي اليمين أمكن أن يتعلق في جعله يمينًا بإطلاق قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬2). ويقال: الأصل في هذا الإطلاق الحقيقة ولكن منع من هذا ورود الحلف في كل منهما وهو زيادة على التحريم يلزم قبولها؛ فيبطل حينئذ التعلق بإطلاق الآية ويكون مصروفه إلى تحلة ما حلف به؛ فبطل تعلق الحنفية بالآية في أن تحريم المباح من المأكول والمشروب وغير ذلك يكون يمينًا ويلزم الكفارة به عند المخالفة؛ لأنه يقال: إن الكفارة في الآية إنما ذكرت لما تقدم من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الحلف لا سيما على العسل مع ثبوته في "صحيح البخاري". وقد تقدم في حديث الترمذي أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- آلى وحرم فجعل الحرام حلالًا وجعل في اليمين الكفارة، وهذا يقتضي أن تحريم ما حرم (24) لم يتعلق به كفارة وإنما ترتبت الكفارة على اليمين. وتقدم أَيضًا اختلاف الأحاديث في سبب نزول الآية، وأن بعضهم رجح أن سببها تحريم العسل أو الحلف عليه لثبوت ذلك في "الصحيحين" ولا ريب في أن الروايات المقتضية لنزولها في قصة مارية يفيد مجموعها الصحة أيضًا كما تقدم، ثم يتأيد ترجيح ذلك بأن اللَّه تعالى أخبر عن نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن تحريم ما حرم كان لأن يبتغي بذلك مرضات أزواجه وهذا لا ينطبق إلا على تحريم مارية لرضى حفصة أو عائشة -رضي اللَّه عنهما- وأما تحريم العسل فإنما كان لما كرهه من الريح التي قيل له عنها لا لرضى أزواجه، فهذا مما يقوي القول بأن سبب الآية كان تحريم مارية ولابد وأن قضية ¬

_ (¬1) التحريم: الآية 2. (¬2) التحريم: الآية 2.

العسل وإن كانت تقدمت قريبًا من ذلك ونزلت الآية عقيبها فليست يراد بها لما أشرنا إليه، وحينئذ لو لم يرد في تحريم مارية حلف عليها فلا ينبغي أن يلحق بالأمة غيرها من المأكول والمشروب فإن الأبضاع لها أحكام خاصة لا توجد في غيرها فكيف وقد ورد في كل منها أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- حلف فيه. فأما ما رواه الدارقطني من حديث علي بن ثابت، عن عبد اللَّه بن محرر، عن سعيد بن جبير، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عمر -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه جعل الحرام يمينًا (¬1) فلا يحتج به؛ لأن عبد اللَّه بن محرر هذا ضعيف باتفاقهم متروك فلا اعتبار بهذه الرواية والمعروف في ذلك ما (25) تقدم عن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- ولم تتفق أقوالهم على شيء خاص، فيحتمل أن يكون من جعله منهم يمينًا تعلق بظاهر الآية في الموضعين من قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ} مع قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬2) ولم يبلغه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان منه قسم في شيء من ذلك وهذا هو الأظهر. وكذلك من قال: فيه الكفارة وليس بيمين؛ أعمل قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ} في ظاهر حقيقته دون مجازه من اليمين وقال: معنى قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬3) الإشارة إلى أن ما شرعه اللَّه في كفارة اليمين من الخصال فهو مشروع هاهنا ولا يلزم من ذلك أن يكون مجرد التحريم يمينًا وهذا هو الذي اعتمده الإمام الشافعي، ورد عليه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان تقدم منه يمين لا سيما في قضية شرب العسل فلا تكون الكفارة على مجرد التحريم ثم على تقدير قصة نزول الآية في تحريم الأمة فإلحاق الزوجة بذلك يكون بالقياس والجامع بينهما استحلال البضع. ويمكن الفرق بينهما بأن الزوجة يحصل تحريم بضعها بالطلاق أو الظهار فلا حاجة إلى تحصيله بغير ذلك، بخلاف الأمة فإن تحريم بضعها مع بقائها في ملكه لا ¬

_ (¬1) "سنن الدارقطني" (4/ 41 رقم 120). وقال الدارقطني: ابن محرر ضعيف، ولم يروه عن قتادة هكذا غيره. (¬2) التحريم: الآية 1، 2. (¬3) التحريم: الآية 1، 2.

يقع بالطلاق والظهار مختلف فيه وهو محرم فسوغ لفظ التحريم فيها ويكون الخلاص منه بالكفارة الصغرى فلا يلزم طرد ذلك في الزوجة. فقد تبين بهذا كله أن التعويل في إيجاب الكفارة في تحريم الزوجة (ص 26) على مجرد دلالة الآية وسبب نزولها غير واف بالمقصود بل لا بد معه من اعتبار مدلول اللفظ فإلي ماذا يرجع من القواعد التي يلحقه المجتهد بها كما تقدمت الإشارة إليه وسنزيده إيضاحًا، وكذلك التمسك فيه بأقوال الصحابة لا ينتهض بمجرده؛ لتباين أقوالهم في ذلك وكثرة اختلافهم كما تقدم؛ لأن من يقول بأن قول الصحابي ليس بحجة فعدم تمسكه بذلك ظاهر؛ وأما على القول بحجيته فذاك إنما يكون إذا لم يعارضه قول غير هذا؛ وأما عند اختلافهم كمثل هذه المسألة فإما أن يقال: يتساقط الجميع والمرجوع إلى غيره من المأخذ، وإما أن يرجع إلى الترجيح وقد نص الشافعي على أنه إذا اختلفت أقوال الصحابة أنه يرجع إلى ما قاله أحد الخلفاء الأربعة. وإما أن يجمع بين جميع الأقوال يحمل كل واحد منهما على صورة غير الصورة التي يحمل عليها القول الآخر وكأنه الذي لحظه الإِمام الشافعي رحمه اللَّه في هذه المسألة، وهذا أولى من إلغاء بعضها وإن كان فيه تخصيص لكل قول منها وإخراجه عن ظاهره فإن ذلك أسهل من تركه بالكلية. وبيان هذا أن من قال بأنه طلقة رجعية أو ثلاث طلقات فهو محمول على ما إذا نوى باللفظ ذلك وكذلك من قال إنه ظهار، وقول من قال: إنه يجب به الكفارة محمول على ما إذا نوى تحريم عينها أو وطئها ونحو ذلك أو في حالة الإطلاق على القول المرجح، وقول من قال: لا شيء عليه محمول على حالة الإطلاق على القول الآخر، وقول من (27) قال: إنها طلقة بائنة محمول على ما إذا نوى به الطلاق وهي غير مدخول بها. وفي هذا أَيضًا جمع بين المعاني التي يمكن رد اللفظ إليها بطريق الإمكان ولا يبقى إلا قول من قال بأنه يمين كما تقدم مصرحًا به عن ابن عباس وغيره فحمله الشافعي على المجاز أي يشبه اليمين في لزوم الكفارة فيه؛ لأن حقيقة اليمين ما عقد فيه باسم من أسماء اللَّه تعالى أو صفة من صفاته مع حرف من حروف القسم؛ ولأنه

شيبه بالظهار من جهة أنه تحريم ما لم مجرمه اللَّه، وقد شرع اللَّه في الظهار الكفارة الكبرى فكان التحريم هنا فيه الكفارة الصغرى لتقاعده عنه بعدم التشبه بأنه الذي وصفه اللَّه تعالى بأنه منكر من القول وزور فلما شرعت فيه الكفارة الصغرى كان مشبهًا لليمين فيحمل الإطلاق عل الاستعارة مثل زيد الأسد. وقد ذم اللَّه تعالى محرم الحلال بقوله سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (¬1) ولا شك أن اللَّه تعالى شرع تحريم الزوجة بالطلاق القاطع للنكاح؛ وأما تحريمها مع بقاء النكاح فهو داخل في هنا الذم، فينبغي أن يقال حيث أريد بالتحريم الطلاق لا يكون اللفظ محرمًا أو مكروهًا، وأما إذا أريد به تحريم عينها فلا ينفك عن أن يكون محرمًا أو مكروهًا فلذلك وجبت فيه الكفارة جابرة لذلك، كما أنه إذا نوى الظهار يكون محرمًا (28) بل كبيرة على القول بأن الظهار من الكبائر فيجب به الكفارة الكبرى. وأما عند الإطلاق فمأخذ القول بأنه لا يجب به شيء يخلف المعنى عنه؛ إذ لم يقصد به شيئًا لكن القول الآخر أرجح؛ لأن اللفظ حقيقة في معناه الذي وضع له أولًا فينصرف إليه وتجب الكفارة اعتبارًا لمعناه. فهذا توجيه الفصل الذي ذكره الإمام الشافعي رحمه اللَّه وظهر به أنه جمع بين أقوال الصحابة -رضي اللَّه عنهم- على وجه حسن مع اعتبار معنى اللفظ، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى تفصيل مسائل المذهب الفروعية في ذلك. وأما في الأمة فمأخذ قوله أن اللفظ لما صلح أن يكون كناية في الطلاق أو الظهار صلح أن يكنى به عن العتق؛ لأنه مجرم الأمة كما يحرم الطلاق الزوجة، فهذا لم ينو به العتق ونوى تحريم عينها كان في ايجاب الكفارة كما تقدم للمعنى الذي ذكرناه ولحديث أنس الذي رواه النسائي في تحريم مارية وما تابعه من غير اعتبار وقوع يمين في ذلك، وفيه ما تقدم من احتمال عود الكفارة إلى اليمين وأن مجموع الروايات التي ذكر فيها أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- حلف عل ذلك يقتضي قوة تفيد الاحتجاج بها، ¬

_ (¬1) يونس: الآية 59.

ولكن يمكن توجيه ذلك باعتبار عموم اللفظ وأنه لا يقصر به على السبب الوارد عليه، والآية أشارت إلى التكفير بعد ذكر التحريم من غير تعرض لذكر اليمين؛ إذ لا يلزم من إشارته سبحانه إلى أنه شرع تحلة الأيمان أن (ص 29) يكون ما تقدم يمينًا كما سبقت الإشارة إليه؛ بل غايته أن الذي شرعه من تحلة اليمين يجري في التحريم وحينئذ فيحمل اللفظ على عمومه ولا يقتصر به على سببه إن كان [. . .] (¬1) على يمين محلوفة ولا يخلو هذا التوجيه أيضًا عن نظر. وأما مذهب مالكٍ فقد تقدم أن المأخذ فيه ما تقدم عن علي وغيره من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- أنه جعل الحرام ثلاثًا وأن ذلك مقتضى دلالة اللفظ؛ إذ به تحرم الزوجة، لكنه على القول المشهور لما كانت التي لم يدخل بها تبين بواحدة قال: إذا نوى به فيها واحدة لم يزد عليها وتقبل نيته لذلك. ويرد على هذا أن اللفظ إذا كان مقتضاه البينونة الكبرى فلا ينبغي أن يختلف مدلوله بين المدخول بها وغيرها لاسيما وقد بنوا ذلك أيضًا على قاعدة لهم أن من الكنايات ما يقتضى وقوع الثلاث إذا نوى اللافظ بها الطلاق وإن لم ينو بذلك ثلاثًا وهي الخلية والبرية والبتة والبتلة والبائن والحرام، وفي ذلك بعض آثار عن بعض الصحابة وغيرهم ويلزم على هذا أن تكون هذه الكنايات أقوى من الصرائح؛ لأن الصرائح لا يلحق فيها عدد إلا إذا قصده إما بلفظ أو إشارة تفيده ونحو ذلك، ولا ريب أن الكنايات متقاعدة في الإفادة عن رتبة الصرائح فكيف يكون أعلى منها، ولهذا رجح ابن العربي وغيره من المالكية أن الحرام (ص 30) يقع به طلقة بائنة كما روى ابن خويز منداد عن مالك، ويرد عليه أن ذلك يقتضي كونه صريحًا في الطلاق والأمور المشترطة في كون اللفظ صريحًا في الطلاق غير موجودة؛ لأنه لم يرد في الكتاب ولا السنة بهذا المعنى ولا اشتهر في اصطلاح حملة الشريعة ولا اتفاق عليه أيضًا، وبقية الأقوال التي في مذهب مالك تقدمت الإشارة إلى مأخذها والاعتراض عليها كما ذكرناه. ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في الأصل.

وأما مذهب الحنفية فالقول بأنه كناية في الطلاق يقع به إذا نواه تقدم توجيهه، لكنهم ضموا إلى ذلك اعتبار معنى اللفظ من التحريم فأوقعوا الطلقة إذا نواها بائنة؛ لأن الطلاق الرجعي عندهم لا يحرم الاستمتاع إلا أن ينوي الثلاث بذلك فتقع الثلاث، لكن قولهم: إن عند نية الاثنتين إنما تقع واحدة بائنة لا وجه له؛ إذ يجوز أن تقع عليه طلقة ثانية تكون بها بائنة فلا يمنع شيء من ذلك إذا نواها على أصلهم، وقالوا: إذا لم ينو بلفظ الحرام الطلاق لا يقع طلاق إلا أن يكون في حال مذاكرة الطلاق فإنه يحكم عليه به، وإذا قال: لم أنوه فيدين في الفتوى، وحكى صاحب "الهداية" عن بعض مشايخهم أنهم قالوا: ينصرف لفظ التحريم إلى الطلاق من غير نية بحكم العرف الشائع فيه، قال: وعليه الفتوى. فأما إذا نوى به الظهار فيصير به مظاهرًا عند أبي حنيفة وأبي (ص 31) يوسف؛ لأن الظهار نوع حرمة فيصح جعله كناية فيه ويكون ذلك من حمل المطلق على المقيد بالنية. وقال محمد بن الحسن: لا يصح به لعدم أداة التشبيه فيه التي هي ركن في الظهار. وإن قال: أردت التحريم ولم أرد شيئًا؛ فعندهم أنه يمين تجب به الكفارة عند المخالفة وكذلك إذا حرم شيئًا من المأكول والمشروب ونحوهما، ولكن الفرق عندهم بين هذا واليمين من جهة أنه إذا حلف لا يأكلن هذا الرغيف لم يحنث بأكل بعضه، ولو حرمه لزمته الكفارة بأكل البعض. قَالُوا: لأن تحريمه على نفسه بمنزلة قوله: واللَّه لا آكل شيئًا منه تشبيهًا له بسائر ما حرم اللَّه. وَقَالُوا: إذا قال كل حل علي حرام انصرف ذلك إلى المطعوم والمشروب خاصة ولا ينصرف إلى الملبوس وغيره إلا بالنية، خلافًا لزفر فإنه قال بالعموم في كل الأشياء حتى تلزمه الكفارة عقيب كلامه؛ لأنه باشر فعلًا مباحًا وهو التنفس، واحتج الأولون بأن المقصود من لفظه وهو البر لا يتحصل مع اعتبار العموم فسقط اعتباره، وحينئذ ينصرف إلى ما يغلب استعماله وهو الطعام والشراب لأنه المعتاد غالبًا وهذا يرد عليه أن الملبوس أغلب منه؛ لأن عدم انفكاكه عنه أغلب من الطعام والشراب فلم لا يندرج تحت لفظه وكذلك الزوجة والأمة أيضًا لكن هذا القول على

غير الذي اختاره صاحب "الهداية" ونقله عن جماعة من المشايخ (ص 32) أنه إذا لم ينو به شيئًا يقع به الطلاق لغلبة الاستعمال، وذكروا فيما إذا قال: قصدت به الكذب خلافًا، فمنهم من قال: لا يلزمه شيء، ومنهم من قال: لا يلزمه شيء يصدق في الحكم؛ لأنه يمين ظاهرًا، وتمسكوا في كونه يمينًا يطرد في كل مباح بظاهر الآية من قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} مع قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}. قالوا: وظاهر الآية يقتضى أن التحريم بمجرده يكون يمينًا، وجعلوا ما ورد في بعض الطرق والحلف زيادة على ظاهر الآية فلم يقبلوه على، قاعدتهم، والاعتراض على هذا من وجوه: أَحَدُهُا: ما تقدم أن تسمية التحريم يمينًا ليس على وجه الحقيقة بل هو مجاز كما سبق تقريره. وَثَانِيهَا: أن الآية لا دلالة فيها على أن قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} المراد به التحريم السابق لو لم يرد فيه أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان أقسم؛ إذ يجوز أن يكون مراد الآية أن الذي شرعه اللَّه في الأيمان من الكفارة فهو جار في التحريم، ولا يلزم من ذلك أن يكون مجرد التحريم يمينًا فكيف وقد جاء أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جرى منه حلف وتحريم فإن من حلف على شيء لا يفعله فالتزام مقتضى اليمين يجعل ذلك الشيء كالمحرم عليه فارشد اللَّه تعالى إلى أن هذا الامتناع له منه خلاص بالكفارة، وهذا منطبق على الحديث الذي رواه الترمذي من أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (33) آلى وحرم [فجعل] (¬1) الحرام حلالًا وجعل في اليمين الكفارة. وَثَالِثُهَا: إذا لم تكن دلالة الآية ظاهرة في أن المراد بالأيمان فيها هو التحريم؛ تعين الرجوع التي الروايات الواردة في سبب نزول الآية، وقد تقدم أن قضية شرب العسل ثبت في صحيح البخاري أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حلف عليه، وأن الأظهر في سبب نزول الآية أن تكون قضية مارية -رضي اللَّه عنها- لما تقدم من دلالة قوله تعالى: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} على ذلك دون قصة العسل، وحينئذ فإما أن يكون وقع من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يمين ¬

_ (¬1) في "الأصل": فحرم. والمثبت من "جامع الترمذي" (1201).

على ذلك أولًا، فإن كان في القضية قسم فالكفارة راجعة إليه، وإن لم يكن إلا مجرد التحريم أو قلنا بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على الوجه المتقدم؛ فلا يلزم من شرعية الكفارة في ذلك أن يكون مجرد التحريم يسمى يمينًا لما تقدم، ولو لزم ذلك فإنما وردت الآية في الأمة ولا يقاس على الأبضاع غيرها، بل إنما تلحق بها الزوجة كما تقدم بحرمة الأبضاع، وأما المأكول والمشروب وغيرهما فالفرق بينها وبين الأبضاع ظاهر لاسيما ووجوب الكفارة على خلاف القياس فلا يلتحق بمورد النص غيره مع قصوره عنه، وباللَّه التوفيق. وأما مذهب أحمد بن حنبل فقد تقدم أن مأخذ كونه صريحًا في الظهار اعتبار معنى اللفظ مع أن الأصل (ص 34) عدم الفرقة فيقتصر به على الظهار ويرد عليه أن أصل وضع الظهار هو تشبيهها بظهر أمه فلا يلتحق به صريحًا ما ليس فيه ذلك وفيه من المنكر والزور الذي اقتضى إيجاب الكفارة الكبرى ما ليس في مطلق التحريم فيتقاصر عنه. وقد يرد قول أحمد على الرواية الأخرى إذا جعله كناية في الطلاق ونواه به هل يقع واحدة أو ثلاث بناء على انقسام الكنايات عنده إلى خلية وخفية؟ فالخلية إذا نوى بها أصل الطلاق وقع الثلاث، والأظهر عندهم على هذه الرواية أنه من الكنايات الخلية، ومأخذ القول الآخر البناء على أن الطلاق الرجعي يحرم الاستمتاع بالزوجة والأصل عدم زائد على ذلك. وأما على الرواية الثالثة أنه يكون يمينًا إذا نوى به اليمين، فقد نص على أنه يكون مؤليًا وإذا مضت أربعة أشهر تطالب بالفيئة كمذهب أبي حنيفة رحمه اللَّه. وحكى شارح "المقنع" فيما إذا قال: ما أحل اللَّه علي حرام أعني به الطلاق أن أحمد قال: تطلق امرأته ثلاثًا، وإن قال: أعني به طلاقًا؛ طلقت واحدة، رواه جماعة عنه. قال: وروى أبو عبد اللَّه النيسابوري عنه أنه قال في الصورة الأولى أنه رجع عن القول بأنها تطلق، وقال: بل يكفر كفارة الظهار، ووجهه أن هذا اللفظ صريح في الكفارة فلا يكون كناية في غيرها. وذكر القاضي أبو يعلى أن جمهور الأصحاب على الرواية (35) الأولى؛ لأنه

صرح بإرادة الطلاق، قال: واللفظ ليس صريحًا في الظهار بل في التحريم والتحريم صالح للطلاق والظهار، وإنما اقتصر به على الظهار؛ لأن الأصل عدم الفرقة فإذا صرح بإرادة الطلاق انصرف إليه. وأما الفرقة في إيقاع الثلاث وايقاع الواحدة فلأنه إذا قال: أريد به الطلاق -والطلاق اسم جنس محلى بلام الجنس- فيقتضي الاستغراق بخلاف ما إذا قال: أريد به طلاقًا؛ لأنه منكر لا عموم له فيقتصر على طلقة. وحكى أيضًا فيما إذا قال: أنت علي كالميتة والدم، إن نوى به شيئًا من الطلاق أو الظهار أو اليمين نفذ فيه؛ لأنه يصلح جعله كناية في كل واحد منها؛ لأن التحريم ملازم لكل واحد منها، وإذا نوى به الطلاق لم يقع إلا واحدة إلا أن ينوي عددًا فينصرف إليه؛ لأن هذا من الكنايات الجلية كالبتة والبتلة والبائن إذا نوى بها الطلاق يقتضي الثلاث دون الخفية وقد تقدم هذا عنهم. وإن لم ينو بهذا اللفظ شيئًا ففيه وجهان لهم: أَحَدُهُمَا: إنه ظهار؛ لأن معنى قولها "أنت علي كالميتة والدم" أنت علي حرام، وذلك محمول على الظهار يعني على الراجح عندهم. وَالثَّانِي: إنه يكون يمينًا؛ لأن الأصل براءة الذمة من الكفارة العظمى، فإذا أتى بلفظ محتمل عمل بذلك الأصل ولا تثبت كفارة الظهار بالشك. هذا بعض تفاريع (ص 36) المذاهب الثلاثة. وأما تفريع أصحابنا فقد تقدم أن قاعدة المذهب أن هذا اللفظ يصلح كونه كناية في الطلاق أو الظهار؛ لأن التحريم ملازم لكل من المعينين وأنه إذا نوى به الطلاق وقع رجعيًّا إلا أن ينوي عددًا معينًا فيقع ما نواه، وهذه قاعدة الشافعي أيضًا في سائر الكنايات وإن كانت ظاهرة كالخلية والبرية والبائن والبتة ونحوها. وقد احتج لذلك فيما روى البويطي عنه بأن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- اختلفوا في ذلك، قال: فوجدنا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2735)، ومسلم (1504) عن حديث عائشة ضمن حديث بريرة، ولفظه "من اشترط شرطا ليس في كتاب اللَّه فليس له". ورواه ابن ماجه (2521)، وابن حبان (4272) بلفظه.

وَقَدْ قِيلَ: ان معناه كل شرط خلاف كتاب اللَّه عز وجل. فلما نطق الكتاب بالرجعة في الواحدة والثنتين وأمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ابن عمر -رضي اللَّه عنه- بذلك ولم يختلف العلماء فيه؛ قلنا: إن قول من قال من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن له الرجعة أولى بهذه الألفاظ، ولأن الأصل أنها زوجة فلا يزول يقين نكاحها بالاختلاف. واحتج الشافعي أيضًا في موضع آخر بحديث ركانة أنه طلق امرأته البتة فسأله النبي: -صلى اللَّه عليه وسلم- "مَا أَرَدْتَ بِذَلِكَ"؟ فقال: واحدة. قال: "آللَّه"؟ قال: آللَّه. فقال: "هُوَ مَا أَرَدْتَ". رواه أبو داود (¬1)، وصححه جماعة. ففيه دليل عل أن هذه اللفظة صالحة للواحدة وما بعدها فكذلك غيرها، وقد (ص 37) حكى الحناطي وجهًا لبعض الأصحاب أنه لا يقع بلفظ الحرام الطلاق وإن نواه اذا فرعنا عل القول بأنه صريح في إيجاب الكفارة وهو الذي صححه المتأخرون، وجزم الشيخ أبو إسحاق في "المهذب" بهذا الوجه، وذكر الرافعي وغيره أن هذا الوجه وإن كان غريبًا فهو مقتضى الأصل المشروط الذي قاله إمام الحرمين وغيره أن اللفظ اذا كان صريحًا في بابه ووجد نفاذًا في موضعه فلا سبيل التي رده عن العمل فيما هو صريح فيه بأن يكون كناية في غيره، إذ يستحيل أن يكون صريحًا نافذًا في أصله وكناية منوية في وجه آخر. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (2206). ورواه الترمذي (1177) وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وسألت محمدًا عن هذا الحديث فقال فيه اضطراب ويروى عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا. قلت: وكذا ضعفه الشيخ الألباني في "الإرواء" (7/ 139).

وقد أجاب مجلى في "الذخائر" عن هذا بأن اللفظ إنما يكون صريحًا في إيجاب الكفارة إذا لم ينو به الطلاق، وعند نية الطلاق لا يكون كذلك كما أنه إذا نوى به الظهار تجب به الكفارة العظمى، وفي هذا الجواب نظر وسيأتي ما هو أقوى منه. وقد اتفق الأصحاب على أنه إذا نوى به الطلاق والظهار معا لا يثبتان جميعًا لما بينهما من التناقض؛ فإن الطلاق يزيل الملك والظهار يستدعي بقاءه، ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه: أَصَحُّهَا وبه قال ابن الحداد والأكثرون: أنه يتخير، فما اختاره منهما ثبت وترتب عليه حله. وَالثَّانِي: أنه يكون طلاقًا؛ لأنه أقوى من جهة أنه مزيل للملك. وَالثَّالِثُ: أنه يكون ظهارًا؛ لأن الأصل بقاء النكاح. أما إذا نوى أحدهما (38) قبل الآخر: فقال ابن الحداد: إن نوى الظهار أولًا نفذا جميعًا وإن نوى الطلاق أولًا، فإن كان بائنًا فلا معنى للظهار بعده، وإن كان رجعيًّا كان الظهار موقوفًا إن راجعها فهو صحيح والرجعة عود وإلا فهو لغو. قال الشيخ أبو علي: وهذا عندي فاسد؛ لأن اللفظ الواحد إذا لم يجز أن يراد به التصرفان فلا يفترق الحال بين أن يريد أحدهما معًا أو يريد هذا ثم يريد هذا، وأيضًا فإنه إذا نواهما على التعاقب كانت كل واحدة من النيتين مقارنة لبعض اللفظ لا لجميعه وفي ذلك خلاف، قال: وموضع هذا النظر والتفصيل ما إذا قال: أنت علي حرام كظهر أمي. قُلْتُ: هذه المسألة لها أحوال: الحَالَةُ الْأُولَى: أن لا ينوي بها شيئًا فلا يقع بها طلاق؛ لأنه لم ينوه وليس اللفظ صريحًا فيه، والأظهر أنه يقع به الظهار وهو ما نص عليه في "الأم"؛ لأن لفظ الحرام يكون بانضمام النية إليه ظهارًا فلأن يكون ذلك كذلك مع اللفظ أولى، وأيضًا فإنه لو لم يأت بقوله حرام كان ظهارًا ولابد، فإذا أكد ذلك بالتحريم كان أولى. ومن الأصحاب من قال: لا يثبت به ظهار بناء على ما تقدم أنه صريح في إيجاب الكفارة فيصير كما لو قال: أنت طالق كظهر أمي من غير نية، وقد قالوا أنه لا يقع به

الطلاق ولا يحصل الظهار. والجواب عنه بما تقدم أن كونه صريحًا في الكفارة إنما هو حالة التجرد، فأما مع قوله: "كظهر أمي" فهو تأكيد لمقصود الظهار (ص 39). الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أن يريد به الظهار فقط فهو ظهار؛ لما تقدم أن نية الظهار مع لفظ الحرام تصيره ظهارًا فمع التصريح به أولى، وخرج الرافعي فيه الوجه المتقدم عن رواية الحناطي أنه لا يصح به الظهار بناء على أنه صريح في اقتضاء الكفارة الصغرى وفيه ما تقدم. الثَّالِثَةُ: أن ينوي به مجرد الطلاق ففيه طريقان للأصحاب: أَظْهَرْهُمَا أن المسألة على قولين: أَحَدُهُمَا: أنه يكون ظهارًا وهو ما يوجد في بعض نسخ "المختصر" ووجهه ما تقدم. وَالثَّانِي: أنه طلاق وهو كذلك في بعض نسخ "المختصر"، وكذلك نقله الربيع والبويطي أيضًا؛ لأن نية الطلاق مع لفظ الحرام بمنزلة صريحه ولو قال: "أنت طالق كظهر أمي" كان طلاقًا، وهذا هو الصحيح المشهور. والطريق الثاني القطع به. وفيه طريق ثالث أنه يكون ظهارًا قولًا واحدًا، ورد الخلاف إلى أنه هل يقع الطلاق مع الظهار أم لا؟ الرَّابِعَةُ: أن ينوي الطلاق والظهار جميعًا وله ثلاثة أحوال: إِحْدَاهَا: أن يريدهما بمجموع الكلام أو بقوله: "أنت علي حرام" فلا يثبتان جميعًا لما تقدم من تنافي موجبهما وفيما ثبتت به الأوجه الثلاثة المتقدمة، ووجه الثالث وهو أنه يثبت الظهار بأن قوله: "أنت علي حرام" يحتملهما جميعًا، فإذا نواهما تعارضا وتساقطا وبقي قوله: "كظهر أمي" لا معارض له (ص 40) وهو صريح في الظهار فيثبت. الثَّانِيَةُ: أن يريد بقوله: "أنت علي حرام" الطلاق، وبقوله: "كظهر أمي" الظهار فيقع الطلاق، ثم إن كان رجعيًّا ثبت الظهار، وإن كان بائنًا فلا. وفيه وجه أن الظهار لا يصح هنا؛ لأن قوله: "كظهر أمي" غير مفيد بمجرده

فلا يثبت به شيء، ثم الأول مفرع على أنه إذا نوى به الطلاق وحده نفذ أما إذا قيل بالقول المتقدم أنه يكون ظهارًا فلا يقع الطلاق هنا أيضًا ويتمحض الظهار، ذكره ابن الرفعة وبه ينتظم في هذه الصورة ثلاثة أوجه. الثَّالِثَةُ: أن يعكس فيريد بقوله: "أنت حرام" الظهار، وبقوله: "كظهر أمي" الطلاق؛ ففيه وجهان: الصحيح أنه يصح الظهار فقط ولا يقع طلاق؛ لأن لفظ الظهار صريح في معناه فلا يجعل كناية في غيره مع إمكان نفوذه في حقيقته. وعن الشيخ أبي محمد وغيره أنه يقع الطلاق أيضًا لأن قوله: "كظهر أمي" قد خرج عن كونه صريحًا في الظهار لعدم استقلاله فجاز أن يكون كناية عن الطلاق. الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أن يريد بذلك تحريم عينها الذي توجبه الكفارة الصغرى؛ ففيه وجهان: أَصَحُّهُمَا: أنه يقبل منه؛ لموافقة لفظ الحرام ذلك. وَالثَّانِي: لا يقبل ويكون مظاهرًا؛ لأنه وصف التحريم بما يقتضي الكفارة العظمى فلا يقبل في الرد إلى الكفارة الصغرى. وبنى جماعة هذا الخلاف على ما إذا نوى به الطلاق فقط، فإن جعلناه طلاقًا قبل منه هنا ولزمته الكفارة، وإن جعلناه ظهارًا هناك فكذلك هنا (41) بل أولى، وذكر ابن الرفعة أن هذا الخلاف أيضًا مفرع على أن لفظ التحريم ليس صريحًا في إيجاب الكفارة، أما إذا قلنا: إنه صريح فيقبل هنا قولًا واحدًا، وصرح به الإمام وغيره. قال الرافعي: وإذا قلنا بالأول فإن لم ينو بقوله: "كظهر أمي" الظهار لم يلزمه شيء سوى كفارة اليمين، فكان قوله: "كظهر أمي" تأكيدًا لتحريم الذات، وإن نوى به الظهار كان مظاهرًا ولزمته الكفارة. قُلْتُ: ومقتضى هذا أنه تندرج الكفارة الصغرى في الكبرى، فقد قال الرافعي بعد ذلك: لو قال: "أنت علي كظهر أمي حرام" كان مظاهرًا لصريح لفظه، ثم قال في "التتمة": إن لم ينو بقوله: "حرام" شيئًا؛ كان تأكيدًا للظهار، وإن نوى تحريم عينها فكذلك، ومقتضى التحريم وهو الكفارة الصغرى يدخل في مقتضى الظهار وهو الكفارة الكبرى، وإن نوى بالحرام الطلاق فقد عقب الظهار بالطلاق فلا عود. أما إذا نوى بالحرام تحريم عينها فالصحيح المشهور من المذهب أن الكفارة

تجب لمجرد اللفظ ولا يتوقف على الوطء لأن هذه الصيغة ليست يمينًا كما تقدم. وحكى صاحب "التقريب"، وغيره وجهًا لبعضهم أنها إنما تلزم إذا أصابها وأن هذا اللفظ مع نية التحريم بمثابة الحلف على ترك الإصابة وهذا ظاهر قول الغزالي في "الوسيط" وإن نوى التحريم كان يمينًا، وقد قال الشافعي في "الإملاء": وإن نوى الإصابة قلنا: أصب وكفر (ص 42) وهذا يشعر بتوقف الكفارة على الإصابة، فعلى هذا يصير مؤليًا بقوله: "أنت علي حرام" كما تقدم عن الحنفية، والجمهور أولوا نص الشافعي على أنه أراد به أن الإصابة لا تحرم قبل التكفير بخلاف الظهار كيف وأن الإيلاء هو اليمين وهي لا تكون إلا باسم من أسماء اللَّه تعالى أو بصفة من صفاته، وعلى هذا فلو قال: أردت بقولي: "أنت علي حرام" الامتناع عن الوطء ففي قبوله وجهان: أَصَحُّهُمَا: المنع؛ لأن مجرد التحريم لا يصلح أن يكون كناية في اليمين وليس صريحًا فيها قطعًا، وكذلك لو نوى بهذا اللفظ الإيلاء لم يصر به مؤليًا على الأصح. ولو قال: أردت به إن وطئتك فأنت علي حرام؛ فالمشهور أنه لا يقبل ذلك منه لأنه يروم به تأخير الكفارة وهي واجبة على الفور. وقال ابن الصباغ والمتولي: يؤاخذ بموجب الإيلاء لإقراره بأنه مؤل، أما إذا لم ينو به شيئًا فقد تقدم للشافعي قولان، والذي نص عليه في مواضع أنه تجب فيه كفارة يمين، وقال في "الإملاء" بعد ذلك: ولو قال قائل إنه لا شيء فيه كان مذهبًا، والأظهر عند جمهور الأصحاب وجوب الكفارة، وأن قوله: "أنت علي حرام" صريح في ذلك، وعلى القول الآخر هو كناية في لزوم الكفارة فلا تجب إلا إذا نوى تحريم عينها. ووجه هذا بأنه لو كان صريحًا في ذلك لامتنع كونه كناية في الطلاق أو الظهار للقاعدة المعروفة (43) أن اللفظ إذا كان صريحًا في شيء ووجد نفاذًا في ذلك الشيء لا يكون كناية في غيره ولا ينصرف عنه بالنية. وأجاب الجمهور بوجهين: أَحَدُهُمَا: أن التزام الكفارة لا يختص بالنكاح بل يجري في ملك اليمين أيضًا إذا قال لأمته: "أنت علي حرام" ونوى به تحريم عينها دون العتق، وإذا لم يختص

بالنكاح لم يبعد أن يصرف من حكم من أحكام النكاح إلى حكم آخر بالنية. وَالثَّانِي: إن كون الحرام صريحًا في إلزام الكفارة ليس على سبيل القطع بل يحتمل الطلاق وغيره؛ لأنه مجتهد فيه وقد اختلف الصحابة فيه كثيرًا كما تقدم فيجوز أن يكون كناية في غيره كلفظ الخلع فإنه على القول بأنه فسخ، وهو الذي اختاره جماعة من الأصحاب ونصره الجمهور في الخلاف يكون صريحًا فيه ومع ذلك إذا نوى به الطلاق كان طلاقًا؛ لأن كونه فسخًا ليس على سبيل القطع بل هو مجتهد فيه بخلاف لفظ الطلاق والظهار والعتق ونحو ذلك فإن كلل لفظ منها مقطوع بصراحته في حقيقته فإذا وجد نفاذًا فيه لا ينصرف إلى غيره بالنية. وقد قالوا فيما إذا قال لأمته: "أنت علي حرام، ونوى به الظهار أنه لا يصير ظهارا؛ لأنه لا مجال فيه للأمة عندنا فيلغو. وقال صاحب "الشامل": عندي أن نية الظهار كنية التحريم؛ لأن معنى نية الظهار أن ينوي أنها كظهر أمه في التحريم وهذا نية التحريم بصفة (ص 44) مؤكدة. قُلْتُ: وأيضًا إذا كان اللفظ صريحًا في وجوب الكفارة عند الإطلاق على الأظهر فينبغي أن تلغو نية الظهار فيبقى اللفظ مطلقًا فلا يلغى اللفظ بل تجب به الكفارة لاسيما وقد ذكروا في إطلاق هذا اللفظ في الأمة طريقين: أَظْهَرْهُمَا: أنه على الخلاف في الزوجة. وَالثَّانِيَةُ: القطع بوجوب الكفارة لورود هذه القصة في تحريم الأمة كما تقدم، ويتحصل من ذلك بالنسبة إلى مطلق اللفظ في الزوجة والأمة ثلاثة أقوال: ثَالِثُهَا: الفرق بين الأمة والزوجة، والأظهر فيهما وجوب الكفارة كما تقدم ولذلك قال ابن الصباغ: ينبغي أن لا يفرق أن يقول: أردت بقولي أنت حرام التحريم وبين أن يقول: لم أرد به شيئًا؛ لأن اللفظ صريح في المعنى فلا وجه لاعتبار النية. قال الرافعي: وحاصل هذا طريقة جازمة بأن صورة الإطلاق حكمها حكم ما لو قال: قصدت التحريم، ثم قال بعد ذلك: واعلم أنه قد تكرر في كلام الأصحاب أن قوله: "أنت علي حرام" هل هو صريح في الزام الكفارة أو كناية؟ وفي الحقيقة ليس لزوم الكفارة أو التزامها معنى اللفظ حتى يقال: هو صريح فيه

أو كناية وإنما هو حكم رتبه الشرع على التلفظ بهذه اللفظة، فاختلفوا في أن هذا الحكم هل يتوقف على أن ينوي التحريم أو لا يتوقف؟ فتوسعوا بإطلاق لفظ الصريح والكناية، وهذا تحقيق حسن. ثم هنا صور يتعين التنبيه عليها: إِحْدَاهَا: إذا قال: "أنت حرام" ولم يقل: "علي" قال البغوي: هو كناية قولًا واحدًا (ص 45). الثَّانِيَةُ: إذا قال: "أنت علي كالميتة والدم ولحم الخنزير" فحكمه عند الجمهور، كما لو قال: "أنت علي حرام". وقال الإمام: يجوز أن لا تجعل هذه الألفاظ صرائح وتخصيص الحرام بكونه صريحًا لورود القرآن به وهذا ما جزم به البغوي في "التهذيب". وقال الحناطي: الخلاف عند الاطلاق هاهنا مرتب على مثله في لفظ الحرام وهذا أولى بأن لا يجعل صريحًا، وحكى هنا قولًا آخر أنه لا تجب الكفارة به وإن أراد التحريم. وقال النووي: هو شاذ. وقال الشيخ أبو حامد وغيره: لو قال: أردت أنها حرام علي؛ فإن جعلناه صريحًا وجبت الكفارة، وإن جعلناه كناية لم تجب لأنه لا يكون للكناية كناية. قال الرافعي: وهذا لا يكاد يتحقق تصويره فإنه إذا كان المنوي المعنى فلا فرق بين أن يقال: نوى التحريم أو نوى به أنت علي حرام، ثم حكى عن أبي الفرج السرخسي أنه إذا قال: أردت أنها كالميتة في النفرة والاستقذار؛ قبل منه ولم يلزمه شيء. الثَّالِثَةُ: قال إسماعيل البوشنجي: إنما يقع الطلاق بقوله: "أنت علي حرام" إذا نوى حقيقة الطلاق وقصد إيقاعه؛ أما إذا لم ينو كذلك فلا يقع وإن اعتقد كونه موقعًا وظن أنه قد وقع، وتبعه على ذلك الرافعي والنووي، وهذا إنما يجيء إذا لم يشتهر في الطلاق ولم يقل أنه يكون حينئذ من صرائحه، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء اللَّه تعالى. الرَّابِعَةُ: إذا قال: متى قلت. لامرأتي: "أنت علي حرام" فإني أريد (46) به

الطلاق، ثم قال لها ذلك بعد مدة؛ فقال أبو العباس الروياني: يحتمل وجهين: أَحَدُهُمَا: الحمل على الطلاق؛ لكلامه السابق. وَالثَّانِي: أنه كما لو ابتدأ به؛ لاحتمال أن نيته قد تغيرت. قُلْتُ: وهذا أيضًا انما يجيء كما تقدم، وقد صحح النووي الوجه الثاني. الْخَامِسَةُ: إن نوى به التحريم أو أطلق وقلنا بوجوب الكفارة وكانت الزوجة تعتد عن وطء شبهة أو محرمة أو كانت الأمة مجوسية أو مرتدة أو معتدة أو مزوجة؛ ففيه وجهان: أَحَدُهمُا: أنه لا يجب عليه شيء؛ لأنها محرمة في الحال فهو صادق في وصفها بذلك؛ وإنما أوجب الشارع ذلك إذا خالف حكمه ووصف الحلال بالحرمة فهو كما لو كانت الأمة أخته فإن الكفارة لا تجب قولًا واحدًا. وَالثَّانِي: أنها تجب؛ لأنها محل الاستباحة في الجملة بخلاف الأخت فيكون كما لو كانت حائضًا أو نفساء أو صائمة ومقتضى هذا التوجيه أن الكفارة تجب في هؤلاء قطعًا وهو المذهب المشهور؛ لأن هذه الأمور عوارض سريعة الزوال، وقد طرد الحناطي الخلاف فيهن أيضًا وهو ضعيف، وكذلك طرد الحناطي الخلاف أيضًا فيما إذا خاطب به الرجعية وهو ما أبداه الإمام احتمالًا، والجمهور جزموا بأنه لا شيء عليه. السَّادِسَةُ: إذا قال: "كل ما أملكه حرام علي" وله زوجات وإماء ونوى تحريمهن أو أطلق وجعلناه صريحًا، أو قال لزوجاته الأربع: "أنتن علي حرام" والصورة ما ذكرنا (47) فهل تتعدد الكفارة أم تكفي كفارة واحدة؟ فيه طرق يرجع حاصلها إلى ثلاثة أقوال: أَصَحُّهَا: أنه كفارة واحدة كما لو حلف أن لا يكلم جماعة فكلمهم. وَالثَّانِي: تتعدد الكفارة بتعدد الأشخاص كما قيل على قول فيمن ظاهر من نسوة بكلمة واحدة. وَالثَّالِثُ: أنه تجب للزوجات كفارة وللإماء كفارة. قال الرافعي: وحكى الحناطي وجهًا ضعيفًا أنه يكفر للمال أيضًا وربما جاء على ضعفه فيما إذا وصف المال بالتحريم.

خاتمة

قُلْتُ: حكى القاضي أبو الحسن الجوزي في كتابه "الموجز" عن ابن حربويه أنه أوجب الكفارة فيما إذا حرم مالًا له من ثوب أو عبد ونحو ذلك كمذهب أبي حنيفة المتقدم وسوى بينه وبين البضع، والمذهب الصحيح الفرق بما تقدم من اختصاص الأبضاع بمزيد الحظر والاحتياط، ولذلك كان تأثيرها بالتحريم أشد بدليل أنه يؤثر فيها الظهار ولا يؤثر في الأموال، وأما قصة العسل ونزول الآية فقد تقدم الجواب عنه. السَّابِعَةُ: إذا قال لامرأته: "أنت علي حرام" وكرر ذلك ناويًا به التحريم أو أطلق وجعلناه صريحًا، فإن كان ذلك في مجلس واحد كفاه كفارة واحدة، وإن تعددت المجالس وأراد بالثاني وما بعده التأكيد فكذلك أيضًا، وإن أراد الاستئناف فالصحيح أن عليه لكل مرة كفارة، وقيل: يكفي للجميع كفارة، وإن أطلق فعلى قولين. قال الرافعي: هكذا (48) رتبه الحناطي. قُلْتُ: وينبغي أن يقال أنه إذا أراد الاستئناف بالثاني وما بعده مع اتحاد المجلس أنه تتعدد الكفارة كما قيل في تكرر الطلاق، واللَّه أعلم. خَاتِمَةٌ جميع ما تقدم من التفصيل في لفظ الحرام هو فيما إذا لم يشتهر بين أهل القطر الذي قاله اللافظ به في الطلاق؛ فأما إذا اشتهر فيه واستمر العرف بينهم بذلك فهل يلتحق بصرائح الطلاق الثلاثة أو يبقى على حاله كما لم يشتهر فيستمر فيه التفصيل المتقدم؟ فيه اختلاف الأصحاب، مأخذه أن الصرائح تؤخذ من الشيوع والاستفاضة فقط أو من ذلك مع ورود اللفظ في القرآن العظيم، فعلى الثاني لا يكون اللفظ صريحًا في الطلاق وإن اشتهر لعدم وروده في القرآن أو السنة بمعنى الطلاق وهو الذي رجحه أكثر المتقدمين وصاحب "التتمة" وقطع به العراقيون كما ذكره النووي واختاره أيضًا. وعلى المأخذ الأول يكون لفظ الحرام صريحًا في الطلاق على الوجه المذكور،

ولا تنحصر الصرائح في الألفاظ الثلاثة، بل كل لفظ شاع استعماله في قوم أو قطر لإرادة الفراق يقع به الطلاق ولا يحتاج إلى نية. قال الرافعي: وهذا هو الأظهر، والمذكور في "التهذيب" وعليه تنطبق فتاوى القفال والقاضي حسين والمتأخرين. قُلْتُ: وبه أفتى الشيخ عز الدين ابن عبد السلام وغيره أيضًا من (ص 49) المتأخرين وهو اختيار إمام الحرمين أيضًا، واحتج له بأن الفقهاء قاطبة اتفقوا على أن المعتبر في الأقارير والمعاملات إشاعة الألفاظ وما يفهم منها في العرف المطرد والعبارات عن العقود تقصد لمعانيها وألفاظ الطلاق عبارة عن مقاصدها فكانت بمثابتها. وفيه وجه ثالث حكاه القاضي حسين عن القفال أنه إن نوى شيئًا آخر من طعام أو غيره فلا طلاق، وإذا ادعاه صدق وإن لم ينو شيئًا آخر، فإن كان فقيهًا يعلم أن الكناية لا تعمل إلا بالنية لم يقع طلاقه، وإن كان عاميًّا سألناه عما يفهم منه إذا سمعه من غيره فإن قال: يسبق إلى فهمي منه الطلاق؛ حملناه على ما يفهم من غيره. قَالَ: وهذه درجة متوسطة بين الصريح والكناية، نقله هكذا الإمام في "النهاية" ثم قال: أما قوله: "إن نوى غيره قبل" فحسن؛ لأنه يظهر استعمال هذا اللفظ في أغراض غير الطلاق، وأما قوله: "إن لم ينو" يدل على فهمه فيكاد أن يكون تحكمًا؛ إذ لا عهد بمثل ذلك في الصرائح والكنايات. قُلْتُ: والذي حكاه أبو سعد المتولي في "التتمة" عن القفال أنه قال: إن نوى غير الزوجة فذاك، وإلا حكمنا بوقوع الطلاق للعرف، ألا ترى أن في العادات لا يحلف بهذا اللفظ من لا زوجة له، وهذا أقرب مما نقله الإمام عن القاضي. وقد اختلف جواب القاضي حسين في "فتاويه" فيما إذا قال: "حلال اللَّه علي حرام" وله زوجتان فأكثر، فقال في موضعين منها: إنه يقع على كل واحدة طلقة، وقال في موضع آخر: يطلق واحدة منهن؛ لأنه اليقين ويؤمر بالتعيين. فإذا عرف ذلك فيتصدى العلم في لفظ الحرام إذا أطلق في بلد شاع فيه استعماله في الطلاق، وقد تقدم أن الأظهر كونه صريحًا في إيجاب الكفارة بمقتضى الدليل

آخر تحرير المقال في تحريم الحلال.

الشرعي كما سبق تقريره فأي الصريحين نقدم؟ حكى الرافعي وغيره عن صاحب "التهذيب" أنه يتعين هنا للطلاق وكان مأخذه أن شيوع ذلك في الطلاق يتنزل منزلة ما إذا نواه حالة اللفظ وأيضًا ففيه احتياط للأبضاع والطلاق أقوى من التحريم، ويمكن معارضة هذا بأن الأصل عدم الفرقة وبقاء النكاح فيرجح إعمال لزوم الكفارة، وذكر الإمام فيه كلامًا طويلًا ملخصه أن شيوع استعماله في الطلاق لا يمنع صرفه بالنية إلى التحريم الموجب للكفارة، كما أنا وإن جعلناه صريحًا في الكفارة عند الإطلاق يجوز صرفه بالنية إلى الطلاق. قُلْتُ: والسبب في ذلك ما تقدم أن جعله صريحًا في واحد منهما ليس على وجه القطع بل بالاجتهاد فيجوز أن يصرف عن ذلك إلى غيره بالنية، ثم قال الإمام: وأما إذا أطلق وفرعنا على أنه صريح في الكفارة فيبنى على أن الصرائح تؤخذ من الشيوع والاستفاضة فحسب أو منه ومن ورود القرآن والشريعة به؛ فإن حكمنا بأن مأخذ الصراحة (51) الشيوع فقط فلا يتصور كون لفظ التحريم صريحًا في التأبين، فإن مبنى الشيوع أن لا يستعمل في اطراد العادة إلا في المطلوب وحينئذ فلا يتصور أن يشيع لفظ على الحد الذي ذكرناه في المعنيين مع اتحاد الزمان والمكان؛ فإن ضاع أحد المعنيين كان صريحًا فيه كناية في الشيء ولزم الحمل على الغالب الشائع، وإن جوزنا أن يكون للصرائح مأخذان: أَحَدُهُمَا: ورود الشرع. وَالثَّانِي: الشيوع على النعت المتقدم. فلو فرض شيوع التحريم في الطلاق فلا يتجه إلا أحد شيئين: إما تغليب وقوع الطلاق، فإنه يحرم النفس والتحريم الموجب للكفارة لا يحرمها، وإما خروج اللفظ عن كونه صريحًا في التأبين جميعًا؛ لتعارض العرف والشرع واستحالة الجمع وامتناع تخصيص أحد الجانبين فلا يعمل اللفظ إذا في أحد المعنيين إلا بقصد، واللَّه سبحانه أعلم. آخر تحرير المقال في تحريم الحلال. قال مؤلفه فسح اللَّه في مدته: فرغت منه كتابة وتصنيفًا ببيت المقدس شرفه اللَّه

وحماه في يوم الجمعة سلخ شهر رجب سنة سبع وخمسين وسبعمائة، والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، وحسبنا اللَّه تعالى ونعم الوكيل. * * *

مسألة في مضاعفة الثواب في المساجد الثلاثة

مَسْأَلَة فِي مُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين المبعوث رحمة للعالمين، صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. وبعد: فهذه رسالة للحافظ العلائي تكلم فيها عن التطوع بالصلوات في أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال، وذكر الأحاديث الواردة في ذلك وخرجها، وتكلم عليها وعلى بعض رواتها، وجمع مذاهب العلماء وأقوالهم، ورجح بينها؛ فجاءت رسالة نافعة بإذن اللَّه.

وصف النسخة الخطية

وصف النسخة الخطية اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسخة خطية فريدة لم أظفر بغير ذلك من النسخ الخطية وهي نسخة متقنة، وهي عبارة عن النسخة الخطية المحفوظة بدار الكتب المصرية ضمن مجموع تحت رقم (123) مجاميع. - اسم الناسخ: غير معروف. - نوع النسخ: نسخ معتاد. - عدد الأوراق: 7 ورقات من (33 - 39). توثيق الكتاب: لم أجد من نسب هذه الرسالة للإمام العلائي، ولم أجد ما يدل على نسبها له إلا أنها وجدت ضمن مجموع للحافظ العلائي، واللَّه تعالى أعلم.

الورقة الأولى من النسخة الخطية

الورقة الأخيرة من النسخة الخطية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وهو حسبي ونعم الوكيل الحمد للَّه رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد عبده ورسوله خاتم النبيين والمرسلين والملائكة والمقربين والصالحين من عباد اللَّه أجمعين. وبعد: فهذه أوراق عن التطوع بالصلوات في أحد المساجد الثلاث التي تشد الرحال إليها، ووردت الأحاديث بمضاعفة الصلوات الأجور فيها هل فعلها فيها أفضل من فعلها في البيوت، أو الإتيان بها في البيوت أفضلٍ كبقية المساجد، وهل مضاعفة أجور الصلوات في هذه المساجد الثلاث يعم كلًّا من الفرض والنفل أو يختص بالفرائض فقط ما للعلماء في ذلك اقتضى كتابتها كلام جرى مع إمام من أئمة المسلمين وعلم من أعلام الدين فتيسرت ببركته وتحررت بجميل نيته، واللَّه ولي التوفيق. روى أبو هريرة -رضي اللَّه عنه- أنه سمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةِ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ". متفق عليه (¬1)، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم "خَيْرٌ مِن أَلْفِ صَلَاةِ فِي غَيْرهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ"، وفي رواية لمسلم (¬2) أيضًا "أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاة فِيمَا سِوَاهُ". وأخرجه أيضًا (¬3) بهذا اللفظ من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومن حديث ابن عباس (¬4) -رضي اللَّه عنه- عن ميمونة أم المؤمنين -رضي اللَّه عنها- أنها سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "صَلَاةٌ فِيهِ -يَعْنِي مَسْجِدَهُ- أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةِ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ المَسَاجِدِ إِلَّا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1190)، ومسلم (1394). (¬2) "صحيح مسلم" (1394). (¬3) "صحيح مسلم" (1395). (¬4) "صحيح مسلم" (1396).

مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ". قال الشيخ محيي الدين رحمه اللَّه: اختلف العلماء في المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة أيهما أفضل؛ فذهب الشافعي رحمه اللَّه وجماهير العلماء إلى أن مكة أفضل من المدينة وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة، وعكسه مالك وطائفة، فعند الشافعي والجمهور معناه: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجدي، وعند مالك وموافقيه: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة تفضله بدون الألف (¬1). وقال أبو العباس القرطبي في تقرير قول مالك: لا شك أن المسجد الحرام مستثنى من قوله "مِنَ المَسَاجِدِ" وهي بالاتفاق مفضولة والمستثنى من المفضول مفضول إذا سكت عليه فالمسجد الحرام مفضول لكن لا يقال أنه مفضول بألف لأنه قد استثناه منها فلابد أن يكون له مزية على غيره من المساجد لكن ما هي ولم يعينها الشرع فلابد أن يكون له مزية على غيره فيتوقف فيها. وقال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر: قال عبد اللَّه بن نافع الزبيري صاحب مالك: معنى هذا الحديث أن الصلاة في مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام؛ فإن الصلاة في مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أفضل من الصلاة [فيه] (¬2) بدون الألف. ثم قال: وهذا التأويل على بعده ومخالفة أهل العلم له لا حظ له في اللسان العربي، وقد قال عامة أهل الأثر: الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمائة صلاة، ومن الصلاة في سائر المساجد بمائة ألف صلاة. ثم روى ابن عبد البر هذا القول عن سفيان بن عيينة وقتادة وعن ابن الزبير من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- ابن وهب وأصبغ بن الفرج أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) "شرح النووي على مسلم" (9/ 163 حديث 1394). (¬2) من "الاستذكار".

قال: فهؤلاء أصحاب مالك قد اختلفوا، وقد روينا عن عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وعبد اللَّه بن مسعود وأبي الدرداء وجابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهم- أنهم كانوا يفضلون مكة ومسجدها وإذا لم يكن بدٌّ من التقليد فهم أولى أن يقلدوا من غيرهم الذين جاءوا من بعدهم هذا كله قول ابن عبد البر رحمه اللَّه في كتاب "الاستذكار" (¬1). وقال فيه أيضًا قبل ذلك: وأحسن حديث روي في ذلك ما رواه حماد بن زيد وغيره عن حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن عبد اللَّه بن الزبير -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: في صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنَ الْصَّلَاةِ في مَسجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ". ثم قال: قال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: حبيب المعلم ثقة ما أصح حديثه. وسئل أبو زرعة الرازي عن حبيب المعلم فقال: بصري ثقة. قال أبو عمر: وسائر الإسناد لا يحتاج إلى القول فيه، وقد روي أيضًا من حديث ابن عمر، وحديث جابر -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مثل حديث ابن الزبير -رضي اللَّه عنه- (¬2). قُلْتُ: حديث ابن الزبير هذا صححه أيضًا الحاكم في "المستدرك" (¬3)، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (¬4). ثم قال ابن عبد البر (¬5) وذكر البزار قال: حدثنا إبراهيم بن حميد قال: حدثنا محمد ابن يزيد بن شداد، ثنا سعيد بن سالم القداح، ثنا سعيد بن بشير، عن إسماعيل بن عبيد اللَّه، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَضْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِائَة أَلْفِ صَلَاةٍ، وَفِي مَسْجِدِي أَلْف صَلَاةٍ، وَفِي ¬

_ (¬1) "الاستذكار" (2/ 459 - 460). (¬2) "الاستذكار" (2/ 459 - 460). (¬3) لم أجده فيه، ولم أجد من عزاه له، واللَّه تعالى أعلم. (¬4) "صحيح ابن حبان" (1620). (¬5) "الاستذكار" (2/ 460).

[مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ] (¬1) خَمْسِمِائَة صَلاةٍ". قال أبو بكر البزار: هذا حديث حسن. قُلْتُ: هذا الحديث من أجود ما روي في مضاعفة الصلوات بالمسجد الأقصى: فإسماعيل بن عبيد اللَّه اتفقا على الاحتجاج به ويعرف بابن أبي المهاجر (¬2). وسعيد بن بشير وإن كان بعضهم تكلم فيه: قال فيه شعبة: كان صدوق اللسان. وقال ابن عيينة: كان حافظا. ووثقه ابن دحيم وقال: كان مشايخنا يوثقونه (¬3). وقال ابن أبي حاتم: رأيت أبي ينكر على من أدخله في كتاب الضعفاء، وقال: محله الصدق (¬4). وقال فيه ابن عدي: الغالب على كلامه الاستقامة (¬5). وسعيد بن سالم القداح قال فيه ابن معين: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: محله الصدق (¬6). وقال فيه أبو داود (¬7): صدوق. وشيخ البزار فيه وشيخ شيخه لم يتكلم فيهما. وقد رواه محمد بن إسحاق الصغاني أيضًا عن محمد بن يزيد بن شداد الآدمي، ¬

_ (¬1) في الأصل: بيت المسجد. تحريف، والمثبت من التخريج. (¬2) انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" (3/ 143 - 151). (¬3) انظر "تهذيب الكمال" (3/ 143). (¬4) "الجرح والتعديل" (4/ 131). (¬5) "الكامل" (3/ 375 ترجمة 805). (¬6) "الجرح والتعديل" (4/ 31 ترجمة 128). (¬7) زاد هنا في الأصل: ابن عدي! وقد قال فيه أبو داود: صدوق، كما في "تهذيب الكمال" (10/ 454)، وأما ابن عدي فقد قال فيه: وهو حسن الحديث وأحاديثه مستقيمة، كما في "الكامل" (3/ 397 ترجمة 823).

أخرجه من طريقه القاسم بن عساكر في كتابه "المستقصى"، وقد حسنه البزار كما تقدم، فالحديث جيد، وهو في "مسند" الإمام أحمد بن حنبل من هذا الوجه أيضًا (¬1)، وأخرجه ابن ماجه في "سننه" (¬2) بلفظ آخر من حديث أنس بن مالك بإسناد ضعيف، وكذلك أيضًا روي من طرق أخر ضعيفة، وفي هذا الإسناد كفاية وباللَّه التوفيق. قال القرطبي: اختلفوا في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَلَاةً فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيْمَا سِوَاهُ" هل المراد بالصلاة هنا الفرض أو هو عام في الفرض والنفل؟ وإلى الأول ذهب الطحاوي، وإلى الثاني ذهب مطرف من أصحابنا. وقال الشيخ محيي الدين رحمه اللَّه في "شرح مسلم" اعلم أن مذهبنا لا يختص هذا التفضيل بالصلاة في هذين المسجدين بالفريضة، بل يعم الفرض والنقل جميعًا، وبه قال مطرف من أصحاب مالك، وقال الطحاوي: يختص بالفرض وهذا مخالف لإطلاق هذه الأحاديث الصحيحة، واللَّه أعلم (¬3). وقال أيضًا في كتابه هذا في باب استحباب صلاة النافلة في بيته: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَيْرُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ" (¬4) هذا عام في جميع النوافل المترتبة مع الفرائض والمطلقة إلا في النوافل التي هي من شعائر الإسلام وهي العيد والكسوف والاستسقاء، وكذا التراويح على الأصح فإنها مشروعة في جماعة المسجد، والاستسقاء في الصحراء وكذا العيد إذا ضاق المسجد واللَّه أعلم (¬5). وقال أيضًا في صدر هذا الباب: وكذا ما لا يتأتى في غير المسجد كتحية المسجد ويندب كونه في المسجد وهو ركعتا الطواف (¬6). فظاهر هذا أنه لا فرق بين المساجد الثلاثة وبين غيرها في ترجيح فعل النوافل في ¬

_ (¬1) لم أجده فيه، ولم يعزه الهيثمي له، واللَّه أعلم. (¬2) "سنن ابن ماجه" (1413). (¬3) "شرح مسلم" (9/ 164 حديث 1394). (¬4) سيأتي تخريجه من حديث زيد بن ثابت. (¬5) "شرح مسلم" (6/ 70 حديث 781). (¬6) "شرح مسلم" (6/ 67).

البيت فيها؛ لأنه استثنى ركعتي الطواف وهما يفعلان ندبًا في المسجد الحرام خلف المقام؛ فبينه وبين كلامه الأول الذي اختار فيه تعميم المضاعفة في الفرض والنفل ما لا يخفى من التنافي اللهم إلا أن يقال: إن النافلة في أحد المساجد الثلاثة تكون أفضل من ألف مثلها في غير مسجد المدينة مثلًا ويكون فعل هذه النافلة في البيت الذي في تلك البلدة أفضل من فعلها في ذلك المسجد، وهذا فيه نظر أيضًا؛ لأن هذه المضاعفة المخصوصة بهذه المساجد الثلاثة لو لم يختص كل مسجد بما جعله الشارع -صلى اللَّه عليه وسلم- له من المضاعفة لم يبق لذلك المسجد مزية على غيره، فإذا كانت النافلة في البيت تحصل المضاعفة فيها أكثر من ذلك المسجد زالت تلك الخصوصية، وأيضًا يلزم من ذلك استواء المساجد الثلاثة مع ما ليس بمسجد أفضل وفيه ما فيه. وقال الشيخ محيي الدين أيضًا في "شرح المهذب" (¬1): قال أصحابنا: إن كانت الصلاة مما يتنفل بعدها فالسنة أن يرجع إلى بيته لفعل النافلة؛ لأن فعلها في البيت أفضل لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ" رواه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) وذكر أحاديث أخر وكلامًا، ثم قال: قال أصحابنا: فإن صلى النافلة في المسجد جاز وإن كان خلاف الأفضل؛ لحديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- قال: صليت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعدها، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة، فأما المغرب والعشاء ففي بيته. رواه البخاري (¬4) ومسلم (¬5). قال: فظاهره أن الباقي صلاها في المسجد لبيان الجواز في بعض الأوقات وواظب على الأفضل في معظم الأوقات وهو صلاة النافلة في البيت. ¬

_ (¬1) "المجموع" (3/ 454 - 456). (¬2) "صحيح البخاري" (731) من حديث زيد بن ثابت. (¬3) "صحيح مسلم" (781) من حديث زيد بن ثابت. (¬4) "صحيح البخاري" (1173). (¬5) "صحيح مسلم" (729).

وفي "الصحيحين" (¬1) أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى ليالي في رمضان في المسجد غير المكتوبات. انتهى كلام الشيخ محيي الدين (¬2) رحمه اللَّه وهو ظاهر في ترجيح فعل النافلة في البيت على فعلها في المسجد وإن كان أحد المساجد الثلاثة. وقال أيضًا في باب صلاة التطوع من "شرح المهذب": قال أصحابنا وغيرهم من العلماء فعل ما لا تسن له الجماعة من التطوع في بيته أفضل منه في المسجد وغيره سواء في ذلك تطوع الليل والنهار سواء الرواتب مع الفرائض وغيرها، وعجب من المصنف رحمه اللَّه يعني في "المهذب" (¬3) في تخصيصه بتطوع النهار، وكان ينبغي أن يقول: ويفعل التطوع في البيت أفضل كما قاله في "التنبيه" وكما قاله الأصحاب وسائر العلماء، فظاهر هذا الكلام التعميم بالنسبة إلى المساجد من غير استثناء المساجد الثلاثة من غيرها. وقال فيه أيضًا في باب استقبال القبلة: قال أصحابنا: النفل في الكعبة أفضل من خارجها وكذا الفرض إن لم ترج جماعة أو أمكن الجماعة الحاضرين الصلاة فيها، فإن لم يمكن فخارجها، ثم احتج لذلك بنص الشافعي -رضي اللَّه عنه- فإنه قال في "الأم" (¬4): قضاء الفريضة الفائتة في الكعبة أحب إلي من قضائها خارجها. قال (¬5): وكلما قرب منها كان أحب إلي مما بعد، وكذا المنذورة في الكعبة أفضل من خارجها. قال الشافعي: ولا موضع أفضل ولا أطهر للصلاة من الكعبة. وهذا الكلام من الشيخ محيي الدين رحمه اللَّه يقتضي ترجيح النفل في الكعبة على غيره وربما فيه منافاة للقولين اللذين تقدم نقلهما آنفًا، اللهم إلا أن يقال: إن مراده ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (1129)، "صحيح مسلم" (761) من حديث عائشة. (¬2) "المجموع" (3/ 454 - 456). (¬3) "المهذب" (1/ 84). (¬4) "الأم" (1/ 98). (¬5) "المجموع" (3/ 193).

أن صلاة النفل داخل الكعبة أفضل منه خارجها وإن كان فعلها في البيت أفضل. وأما احتجاجه لذلك بما ذكر من نص الشافعي -رضي اللَّه عنه- ففيه نظر؛ لأن كلام الإمام الشافعي إنما هو في الفائتة والمنذورة، ولا يلزم من أفضليتهما في الكعبة أفضلية النفل لدلالة الأحاديث الآتي ذكرها على أن فعل النافلة في البيت أفضل، وقد أشار الشافعي -رضي اللَّه عنه- إلى ذلك كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى على أن ترجيح الصلاة داخل الكعبة على خارجها نظرًا لوجود الخلاف في صحة ذلك، وليس هذا موضع بسط الكلام في ذلك. وقال الشيخ محيي الدين أيضًا في "شرح المهذب" في باب صفة الحج: اختلف العلماء في التطوع في المسجد الحرام بالصلاة والطواف أيهما أفضل: فقال صاحب "الحاوي": الطواف أفضل وظاهر إطلاق المصنف في قوله في باب صلاة التطوع: "أفضل عبادات البدن الصلاة" أن الصلاة أفضل. وقال ابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير ومجاهد: الصلاة لأهل مكة أفضل والطواف للغرباء أفضل (¬1). وهذا الخلاف يقتضي أن يكون التطوع في المسجد الحرام أفضل منه في البيت؛ إذ لا يصح التفاضل بين الطواف الذي لا يصح فعله إلا في المسجد وبين الصلاة التي هي مفضولة بالنسبة إلي فعلها في البيوت واللَّه سبحانه أعلم. فتحصل من هذا كله اضطراب النقل في النوافل هل فعلها في المساجد الثلاثة أفضل أو في البيوت؟ والذي تقتضيه الأحاديث عند المحققين أن فعلها في البيوت أفضل إلا ما شرع له الجماعة كالعيد والكسوف والاستسقاء وكذا التراويح على الأصح، وكذا ركعتي الطواف اتباعًا لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- لهما خلف المقام، وكذلك تحية المسجد لاختصاصها بالمسجد، وما عدا ذلك ففعله في البيت أفضل لدخوله تحت قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَفْضَلُ صَلَاةُ الْمَرءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكتُوبَةَ" (¬2) وعدم ما يدل على إخراجه من هذا العموم وهذا الذي ¬

_ (¬1) "المجموع" (8/ 61). (¬2) متفق عليه من حديث زيد بن ثابت، وقد سبق تخريجه.

اختاره الإمام أبو عمر بن عبد البر ونقله عن جماعة من الصحابة، وحكاه أيضًا عن نص الشافعي كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى. فأما الأحاديث الدالة على ذلك ففي "الصحيحين" (¬1) عن زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- قال: احتجر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حجيرة مخصفة أو حصيرًا في المسجد -وفي رواية: رمضان- فخرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي فيها قال: فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته قال: ثم جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عنهم فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مغضبًا فقال لهم: "مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ في بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكتُوبَةَ". وهذا لفظ مسلم. ورواه الدارقطني في "مسنده" بإسناد الصحيح ولفظه: "فَإنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْجَمَاعَةَ" (¬2)، وأخرجه [الترمذي] (¬3) مختصرًا بلفظ: "أَفْضَلُ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ" (¬4). ثم قال: وفي الباب عن عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد اللَّه، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وعائشة، وعبد اللَّه بن سعد، وزيد بن خالد الجهني (¬5). قُلْتُ: حديث أبي سعيد أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" من حديث جابر عن أبي سعيد -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَجْعَل لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلاتِهِ، فَإنَّ اللَّهَ عز وجل جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلاتِهِ خَيْرًا" (¬6) ثم رواه عن جابر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من غير ذكر أبي سعيد. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) لم أجدها، واللَّه تعالى أعلم. (¬3) سقط من الأصل. (¬4) "جامع الترمذي" (450). (¬5) "جامع الترمذي" (450). (¬6) "صحيح ابن خزيمة" (1206).

وحديث عبد اللَّه بن سعد رواه الترمذي والنسائي في "سننهما" (¬1) وابن خزيمة في "صحيحه" (¬2) عن عبد اللَّه بن سعد قال: سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ تَرَى مَا أَقْرَبَ بَيْتِي مِنَ الْمَسْجِدِ وَلأَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ" وهذا لفظ ابن خزيمة في "صحيحه". وروى فيه أيضًا (¬3) عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن أبيه، عن جده -رضي اللَّه عنه- قال: صلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاة المغرب في مسجد بني عبد الأشهل، فلما صلى قام ناس يتنفلون، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الصَّلاةِ فِي الْبُيُوتِ" ورواه النسائي أيضا (¬4). وعن محمود بن لبيد -رضي اللَّه عنه- قال: أتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بني عبد الأشهل فصلى بهم المغرب، فلما سلم قال لهم: "ارْكَعُوا هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُمْ". قال عاصم بن عمر بن قتادة: فلقد رأيت محمود بن لبيد وهو إمام قومه يصلي بهم المغرب ثم يخرج فيجلس بفناء المسجد حتى يقوم قبيل العتمة فيدخل البيت فيصليهما. أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬5) أيضا. فهذه الأحاديث كلها دالة دلالة قوية ظاهرة على ترجيح فعل النافلة في البيوت على فعلها وإن كان أحد المساجد الثلاثة كما دل عليه حديث عبد اللَّه بن سعد المقدم ذكره؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجح الصلاة في بيته على الصلاة في مسجده الذي هو أحدها فهو صريح في المقصود ومثله ورواية أبي داود لحديث ابن ثابت الآتي ذكره إن شاء اللَّه تعالى، وهذا أولى بالترجيح من طريق الجمع بينهما؛ لأنه قد يقال: إن ¬

_ (¬1) لم أجده فيهما. (¬2) "صحيح ابن خزيمة" (1202). (¬3) "صحيح ابن خزيمة" (1201). (¬4) "سنن النسائي" (3/ 198). (¬5) "صحيح ابن خزيمة" (1200).

قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه" وكذلك بقية الأحاديث التي تشبهه عام في جميع الصلوات كما تقدم من اختيار الشيخ محيي الدين رحمه اللَّه في شموله الفرض والنفل فلم يدخله تخصيص شيء، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" وإن كان عامًا فقد اختص بأشياء منها ما شرعت فيها الجماعة وكذلك تحية المسجد وركعتي الطواف وغير ذلك، وإذا تعارض عامين وأحدهما قد خص والآخر باق على عمومه قدم الباقي على عمومه على الذي دخله التخصيص. وجواب هذا: أولًا: يمنع العموم في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه" وأمثاله من الأحاديث فإنها نكرة في سياق الإثبات ولا عموم لها على الراجح بل هو مطلق في كل الصلوات، والمطلق لا عموم له إلا على جهة البدل، فأما عموم الشمول فلا. وثانيهما: أنه على تقدير تسليم العموم فيه فليس هذا من باب العامين المتعارضين، بل الأحاديث الدالة على ترجيح فعل النافلة في البيوت أخص بالنسبة إلى الصلوات وإن كان قد خرج منها بعض النافلة فهي خاصة من حيث اعتبار النفل والفرض وتناولها للنفل فقط وإن كانت عامة في جميع صلوات النفل وقد خرج بعضها بدليل فلا ينافي ذلك كونها خاصة بالنسبة إلى جميع أنواع الصلوات، فصلاة النفل نوع بالنسبة إلى مطلق الصلاة جنس بالنسبة إلى أفرادها من الرواتب وغيرها وما شرع فيه الجماعة [. . .] (¬1) ثم هي متناولة لمحل النزاع وهو الصلاة في مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي هو أحد المساجد الثلاثة بطريق التنصيص، وذلك في حديث عبد اللَّه ابن سعد الذي تقدم ذكره والتنبيه عليه، وفيما أخرجه أبو داود في "سننه" (¬2) قال: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد اللَّه بن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن إبراهيم ¬

_ (¬1) بياض في الأصل بمقدار كلمة. (¬2) "سنن أبي داود" (1044).

ابن أبي النضر [عن أبيه] (¬1)، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ". وهذا الإسناد على شرط البخاري سوى إبراهيم بن أبي النضر فقد احتج بهم كلهم سواه، وإبراهيم هذا وثقه محمد بن سعد وأبو حاتم بن حبان ولم يضعفه أحد (¬2)، وقد ثبته الإمام أبو عمر بن عبد البر واحتج به فقال في كتاب "الاستذكار": اختلفوا في الأفضل في القيام مع الناس أو الانفراد في شهر رمضان: فقال مالك والشافعي: المنفرد في بيته في رمضان أفضل. وقال مالك: وكان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس. قال مالك: وأنا أفعل ذلك وما قام رسول اللَّه إلا في بيته. قال: واحتج الشافعي بحديث زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في قيام رمضان: "أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته الا المكتوبة" قال الشافعي: ولا سيما مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفي مسجده وما في ذلك من الفضل (¬3). فلت: فهذا نص من الشافعي -رضي اللَّه عنه- على ترجيح النافلة في البيوت على فعلها في مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لدلالة القصة والأحاديث عليه. ثم قال ابن عبد البر: وروينا عن ابن عمر -رضي اللَّه عنه- وسالم والقاسم وإبراهيم ونافع أنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وجاء عن عمر وعلي -رضي اللَّه عنه- أنهما كانا يأمران من يقوم للناس في المسجد ولم يجئ عنهما أنهما كانا يقومان معهم (¬4). ثم ذكر عن الليث بن سعد وأحمد بن حنبل والمزني والمتأخرين من أصحاب أبي حنيفة والشافعي أنهم اختاروا قيام شهر رمضان في المسجد وما احتجوا به، ثم ¬

_ (¬1) سقط من الأصل. والمثبت من "سنن أبي داود". انظر "التهذيب" (2/ 87 - 88). (¬2) انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" (2/ 87 - 88). (¬3) "الاستذكار" (2/ 70). (¬4) "الاستذكار" (2/ 71).

قال: وقد احتج أهل الظاهر في ذلك بقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة" (¬1)، ويروى "بسبع وعشرين درجة" (¬2) ولم يخص فرضًا من نافلة. قال: وهذا عند أكثر أهل العلم في الفريضة والحجة لهم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث زيد ابن ثابت -رضي اللَّه عنه-: صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة" (¬3). قال: وهذا الحديث وإن كان موقوفًا في "الموطأ" على زيد بن ثابت فإنه قد رفعه جماعة ثقات (¬4). فإذا كانت النافلة في البيت أفضل منها في مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والصلاة فيه بألف صلاة فأي فضل أبين من هذا؟ ولهذا كان مالك والشافعي رحمهما اللَّه ومن سلك سبيلهما يرون الانفراد في البيت أفضل في كل نافلة، فإذا قامت الصلاة في المسجد في رمضان ولو بأقل عدد فالصلاة حينئذ في البيت أفضل. انتهى كلام ابن عبد البر (¬5). وقال أيضًا في موضع آخر من هذا الكتاب: وفيه أيضًا -يعني حديث زيد بن ثابت المذكور- دليل على أن الانفراد بكل ما يعمله المؤمن من أعمال البر ويسره ويخفيه أفضل، ولذلك قال بعض الحكماء: إخفاء العلم هلكة، وإخفاء العمل نجاة، قال اللَّه عز وجل: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وإذا كانت النافلة في البيوت أفضل منها في مسجد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فما ظنك بها في غير ذلك الموضع إلى ما في صلاة المرء في بيته من اقتداء أهله به من بنين وعيال، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (646) من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه (649)، ومسلم (649) من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه مسلم (650) من حديث ابن عمر. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) "الاستذكار" (2/ 72). (¬5) "الاستذكار" (2/ 70 - 73).

والصلاة في البيت نور (¬1). وقال القاضي الماوردي في كتابه "الحاوي": قال الشافعي -رضي اللَّه عنه-: وأما قيام شهر رمضان فصلاة المنفرد أحب إليه منه، وفيه تأويلان لأصحابنا: أحدهما: أنه أراد بذلك أن قيام شهر رمضان وإن كان في جماعة ففي النوافل التي تفعل فرادى ما هو أوكد منه، وذلك الوتر وركعتا الفجر، وهذا قول أبي العباس بن سريج. والتأويل الثاني: أن صلاة المنفرد في قيام شهر رمضان أفضل إذا لم يكن في انفراده تعطيل الجماعة، وهو قول أكثر أهل العلم؛ وإنما كان ذلك لرواية زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "صلوا في بيوتكم فإن صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة" فأما إن تعطلت الجماعة بانفراده فصلاته في الجماعة أفضل لما في تعطيلها من إطفاء نور المساجد وترك السنة المأثورة، وهذا منه اختيار للوجه الثالث المقابل بالتفضيل في صلاة التراويح وهو أنه إن كانت الجماعة تتعطل بغيبته أو كان إذا خلا في بيته يغلبه النوم أو الكسل فلا يصلي؛ ففعلها في الجماعة أفضل وإلا فالانفراد بها أفضل، وما اختاره من تأويل نص الشافعي فهو أظهر من التأويل الذي قبله، ومن الأصحاب من قال بترجيح الانفراد بها مطلقًا، ومنهم من اختار فعلها في الجماعة مطلقًا، وهو الذي رجحه الشيخ محيي الدين كما سبق، وليس ذلك لترجيح فعل النافلة في المساجد على فعلها في البيوت بل لمشروعية الجماعة في قيام رمضان، وما شرعت فيه الجماعة فإظهاره وفعله خارج البيوت أفضل، وأما ما لم يشرع فيه الجماعة ولم يكن له اختصاص بالمسجد كتحية المسجد ولا ورد الشرع بعمله فيه كركعتي الطواف ففعله في البيوت أفضل وإن كان في أحد المساجد الثلاثة كما سبق تقريره، واللَّه سبحانه أعلم. آخره والحمد للَّه رب العالمين وصلواته على محمد وسلامه ¬

_ (¬1) "الاستذكار" (2/ 143).

تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة

تَحْقِيقُ مَنِيفِ الرُّتْبَةِ لِمَنْ ثَبَتَ لَهُ شَرِيفُ الصُّحْبَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. أما بعد: الحمد للَّه حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا على نعمة الإسلام فهي نعمة عظيمة لا تعدلها نعمة، وصلوات اللَّه وتسليمه على نبينا محمد صلى اللَّه عليه وعلى آله الطيبين وصحبه أجمعين، الذين حملوا الدين وتلقوه منه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجاهدوا من أجل نشره رضي اللَّه عنهم أجمعين. وهذه رسالة للحافظ العلائي رحمه اللَّه تكلم فيها عن أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال رحمه اللَّه: وهذا الكتاب يشتمل على تحقيق من يتصف بهذه الرتبة التي هي الصحبة الشريفة، وبماذا تثبت من الطرق حتى يحكم للواحد منهم بالرتبة المنيفة، ثم إثبات العدالة لجميعهم -رضي اللَّه عنهم-، وأنه لا يشذ عن هذه المرتبة أحد منهم، وذكر المذاهب الشاذة في ذلك، وبيان ما يعتمد من قويم المسالك. وقسم كتابه هذا إلى ثلاث مسائل: الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ حَتَّى يَنْطَلِقَ عَلَى مَنْ قَامَ بِهِ اسْمُ الصَّحَابِيّ.

المسألة الثانية: فيما ثبت به الطرق المتقدمة (أي التي قدمها المؤلف). المسألة الثالثة: في تقرير عدالة الصحابة -رضي اللَّه عنهم- فجاءت رسالة نافعة غزيرة الفوائد، أسأل اللَّه أن ينفع بها المسلمين، آمين.

وصف النسخة الخطية

وصف النسخة الخطية اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسختين خطيتين لم أظفر بغير ذلك من النسخ الخطية: النسخة الأولى: وهي النسخة الخطية المحفوظة بدار الكتب تحت رقم 107 مصطلح حديث تيمور، وتقع في عشرين ورقة. وهي نسخة متقنة ومحررة إلا أنها ناقصة. النسخة الثانية: وهي النسخة الخطية المحفوظة بمكتبة الإسكندرية عن الاسكوريال تحت رقم 1612 ضمن مجموع، وهي نسخة خطية جيدة متقنة كاملة. توثيق الكتاب: - عزاه له صاحب "عون المعبود شرح سنن أبي داود" (13/ 238) فقال: قال الحافظ صلاح الدين العلائي في كتابه (تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة": وائل بن حجر ومعاوية بن الحكم السلمي وخلق كثير ممن أسلم سنة تسع وبعدها وقدم على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأقام عنده أياما ثم رجع إلى قومه وروى عنه أحاديث انتهى. وهو هنا بتمامه ضمن القول الخامس من المسألة الأولى. -كما نسبه له أيضًا الكتاني في "فهرس الفهارس" (2/ 790) إلا أنه جاء فيه "تحقيق منصب"، وهو خطأ مطبعي، واللَّه أعلم. -كما وجد على طرة النسختين الخطيتين نسبة الكتاب للحافظ العلائي رحمه اللَّه.

طرة النسخة الخطية

الورقة الأولى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ أَمَّا بَعْدُ: حمدًا للَّه الذي وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وفضل من اجتباه بما أتاه من جميل الرغائب وجزيل النعمى (ويسر للخير من هداه إليه فكان للسابقين المزية العظمى) (¬1) والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث (برحمة) (¬2) ورحمى، المنعوت بأشرف الصفات حكمة وحكما، الذي فتح به قلوبًا غلفًا وعيونًا عميًا وآذانًا صمًّا، وعلى آله وصحبه الحائزين به نعمًا جمًّا، الفائزين لما خصوا به من صحبته بالمحل الأسمى. فإن اللَّه سبحانه وتعالى اختص نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- بصحابة جعلهم خير أمته، والسابقين إلى تصديقه وتبعيته، والمجاهدين بين يديه، والباذلين نفوسهم تقربًا إليه، (والناقلين لسننه وقضاياه، والمقتدين به في أفعاله ومزاياه) (¬3)، فلا خير إلا وقد سبقوا إليه من بعدهم، ولا فضل إلا وقد استفرغوا فيه جهدهم، فجميع هذا الدين راجع إلى نقلهم وتعليمهم، ومتلقى من جهتهم بإبلاغهم وتفهيمهم، فلهم مثل أجور كل من اهتدى بشيء من ذلك على مر الأزمان، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء بالطول والإحسان. وهذا الكتاب يشتمل على تحقيق من يتصف بهذه الرتبة التي هي الصحبة الشريفة، وبماذا تثبت من الطرق حتى يحكم للواحد منهم بالرتبة المنيفة، ثم إثبات العدالة لجميعهم -رضي اللَّه عنهم-، وأنه لا يشذ (ص 3) عن هذه المرتبة أحد منهم، وذكر المذاهب الشاذة (في ذلك) (¬4)، وبيان ما يعتمد من قويم المسالك، وباللَّه تعالى ¬

_ (¬1) من (د). (¬2) في "د": رحمة. (¬3) من (د). (¬4) من (د).

المسألة الأولى: فيما يثبت به اسم الصحبة حتى ينطلق على من قام به اسم الصحابي.

التوفيق وإياه نسأل الهداية إلى أقصد الطريق، إنه بالإجابة جدير وهو على ما يشاء قدير. وَالكَلَامُ فِيمَا قَصَدنَا لَهُ يَنحَصِرُ في ثَلَاثِ مَسَائِل: الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ حَتَّى يَنْطَلِقَ عَلَى مَنْ قَامَ بِهِ اسْمُ الصَّحَابِيّ. وَفِي ذَلِكَ مَذَاهِبٌ مُتبايِنةٌ: الأَوَّلُ- وهو الذي عليه جمهور أهل الحديث: أن كل مسلم رآه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولو لحظة وعقل منه شيئًا فهو صحابي سواءً كان ذلك قليلًا أو كثيرًا. وهذا ما حكاه القاضي عياض وغيره عن أحمد بن حنبل رحمه اللَّه، ورواه عبدوس ابن مالك قال: سمعت أبا عبد اللَّه يعني أحمد بن حنبل رحمه اللَّه يقول: كل من صحبه سنة أو شهرًا أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه (¬1). وقال البخاري في "صحيحه": من صحب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه (¬2). وأخرج أبو داود في "سننه" حديث طارق بن شهاب أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. . . " الحديث، ثم قال أبو داود عقيبه: طارق بن شهاب قد رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يسمع منه شيئا (¬3). فدل إخراجه الحديث في "سننه" على أنه مسند، ولولا أن طارقًا يعد من الصحابة لمجرد الرؤية وإلا كان تابعيًا فيكون الحديث مرسلًا. قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح رحمه اللَّه: المعروف في طريقة أهل الحديث أن ¬

_ (¬1) انظر "الكفاية في علم الرواية" (ص 51)، و"فتح المغيث" (3/ 93). (¬2) "صحيح البخاري" (باب فضائل أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم) قبل الحديث (3649). (¬3) "سنن أبي داود" (1067).

كل مسلم رأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فهو من الصحابة. قال: وبلغنا عن أبي المظفر بن السمعاني المروزي أنه قال: أصحاب الحديث يطلقون اسم الصحابة على كل من روى عنه حديثًا أو كلمة، ويتوسعون حتى يعدون من رآه رؤية من الصحابة؛ وهذا لشرف منزلة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أعطوا كل من رآه حكم الصحبة (¬1). والقول الثاني- وهو أضيق من القول الأول قليلًا: أنه لا يكتفى بمجرد الرؤية لكن لابد مما ينطلق عليه اسم الصحبة ولو ساعة لطيفة، حكاه بعض أئمة الحديث المتأخرين عن الواقدي أنه قال: ورأيت أهل العلم يقولون: كل من رأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد أدرك الحلم فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممن صحب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولو ساعة من النهار، وهكذا قال الآمدي في "الإحكام" ناقلًا له عن أكثر أصحابنا أن الصحابي من رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وصحبه ولو ساعة وإن لم يختص به اختصاص المصحوب ولا روى عنه ولا طالت مدة صحبته (¬2). وعبارة الشيخ صفي الدين الأرموي في "نهاية الوصول" نحو هذا وهي أعم من قول الواقدي المتقدم آنفًا من جهة أن ذاك اشترط فيه البلوغ ولم يقيد الآمدي والأرموي كلامهما بذلك بل يدخل فيه أيضًا الصبي المميز كمحمود بن الربيع الذي عقل عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مجة مجها في وجهه وهو ابن خمس سنين (¬3)، وعده البخاري وغيره من الصحابة لذلك فيمكن لذلك أن يجعل الكلامان قولين متباينين. فأما ابن الحاجب فإنه اختار في مختصريه القول الذي نقلناه أولًا عن أحمد بن حنبل والجمهور من الاكتفاء بمجرد الرؤية. والقول الثالث: إن الصحابي إنما ينطلق على من رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- واختص به اختصاص المصحوب وطالت مدة صحبته وإن لم يرو عنه، حكاه هكذا الآمدي ¬

_ (¬1) "مقدمة ابن الصلاح" (ص 171). (¬2) "الإحكام" (2/ 103 - 104). (¬3) رواه البخاري (77).

والأرموي عن جماعة ولم يسموهم (¬1)، ونقله ابن الصلاح عن أبي المظفر بن السمعاني أنه ذكر أن اسم الصحابي من حيث اللغة والظاهر إنما يقع على من طالت صحبته للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وكثرت مجالسته له على طريق التتبع له والأخذ عنه. قال: وهذا طريق الأصوليين (¬2). والقول الرابع: إن هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأخذ عنه العلم، حكاه الآمدي هكذا عن عمر بن يحيى (¬3). وعبر غيره عن هذا القول بأن يجمع بين الصحبة الطويلة والرواية عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا أقرب لأنه من المعلوم أن من طالت صحبته للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فلابد وأن يتحمل عنه شيئًا ما ولو من أفعاله التي شاهدها، لكن يرد على هذا القائل (هذا القول) (¬4) أنه لا يعرف خلاف بين العلماء في أن من طالت صحبته ولم يحدث عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- بشيء أنه معدود من الصحابة، لكن وقوع مثل ذلك نادر جدًّا؛ إذ لا يلزم من عدم وصول رواية عن ذلك الصاحب إلينا أن لا يكون روى شيئًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مما سمعه أو شاهده. والقول الخامس- وهو أضيق المذاهب: ما حكاه ابن الصلاح وغيره عن سعيد ابن المسيب أنه قال: لا يعد الصحابي إلا من أقام مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين. قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح: وكان المراد بهذا إن صح عنه راجع إلى المحكي عن الأصوليين، ولكن في عبارته ضيق يوجب أن لا يعد في الصحابة جرير ابن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- ومن شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافًا في عده من الصحابة (¬5). ¬

_ (¬1) "الإحكام" (2/ 104). (¬2) "مقدمة ابن الصلاح" (ص 171). (¬3) "الإحكام" (2/ 104). (¬4) من "د". (¬5) "مقدمة ابن الصلاح" (ص 171).

قلت: مثل وائل بن حجر، ومعاوية بن الحكم السلمي، وخلق كثير ممن أسلم سنة تسع وبعدها وقدم عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأقام عند ثم أياما ثم رجع إلى قومه وروى عنه أحاديث، اللهم إلا أن يئول كلام سعيد بن المسيب على من يعطى كمال الصحبة المقتضي للعدالة على ما اختاره الإمام المازري كما سيأتي إن شاء اللَّه من قوله أن العدالة المطلقة إنما تحكم لأمثال هؤلاء وهو قول مرجوح أيضًا كما سنبينه إن شاء اللَّه تعالى. والقول السادس وهو أوسع المذاهب: ما حكاه القاضي عياض قال: ذهب أبو عمر ابن عبد البر في آخرين إلى أن اسم الصحبة (وفضلها) (¬1) حاصلة لكل من رآه وأسلم في حياته أو ولد وإن لم يره وإذا كان ذلك قبل وفاته بساعة ولكن كان معهم في زمن واحد وجمعه وإياه عصر مخصوص. قلت: إن كان هذا أخذه القاضي عياض من تصريح ابن عبد البر وغيره بذلك ففيه من الإشكال ما سيأتي، وإن كان مأخوذًا من إدخالهم أمثال هؤلاء في (كتب) (¬2) الصحابة التي صنفوها، فقد صرح ابن عبد البر بأنه إنما أدخل مثل الأحنف بن قيس والصنابحي وأولاد الصحابة الذين ولدوا في حياته -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا يثبت لأحد منهم رؤية لموته -صلى اللَّه عليه وسلم- وهم صغار جدَّا؛ (ليكمل) (¬3) بذكرهم القرن الذي أشار إليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه خير القرون يعني لا لأنهم من الصحابة؛ فقد حكم على روايتهم عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالإرسال في غير موضع من كتبه فعرف مقصده بذكرهم في كتاب الصحابة. هذا حاصل المذاهب التي وقفت عليها في هذه المسألة، ويتعلق بها مباحثات: الأولى: أن الصحبة لها اعتباران: أحدهما: من حيث الوضع. والآخر: من حيث العرف. ¬

_ (¬1) في "س": وفضيلتها. (¬2) في "د": أعداد. (¬3) في "س": ليستكمل.

فهي من حيث الوضع اللغوي تنطلق على القليل والكثير سواء كان في مجالسة أو مماشاة ولو ساعة يسيرة. وقد روى سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي عن علقمة أنه خرج مع عبد اللَّه ابن مسعود رديفًا له فصحبه دهقان في الطريق من القنطرة فانشعبت له طريق فأخذ فيها، قال: فقال عبد اللَّه: أين أخذ الرجل؟ فقلت: انشعبت له طريق، فلما رآه قال: السلام عليكم. فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس يكره أن يبدأ بالسلام؟ قال: بلى، ولكن هذا حق الصحبة (¬1). فأطلق ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- اسم الصحبة على السير معه شيئًا يسيرًا. وأما من حيث العرف فإنه لا ينطلق إلا على الصحبة الطويلة أو الكثيرة، صرح بذلك ابن سيده والراغب (¬2) وغيرهما، لكن لا حد لتلك الكثرة كما أنه لم يحد الاعتبار اللغوي من حيث القلة إلا بما ينطلق عليه الاسم. وقد استدل ابن الحاجب لقول الجمهور الذي اعتبره أن اسم الصحابي يقع على من له مجرد الرؤية فأكثر من ذلك بأن اسم الصحبة يعم القليل والكثير بدليل أنه يصح تقسيمها إلى ذلك ويقبل التقييد بكل منهما فيكون للقدر المشترك بينهما؛ لأن مورد التقسيم يجب أن يكون مشتركًا، ولذلك لو حلف حالف أنه لا يصحب فلانًا حنث بصحبته لحظة، واستدل غيره أيضًا بصحة الاستفهام فإن القائل إذا قال: صحبت فلانًا؛ حسن أن يقال: صحبته يومًا أو شهرًا أو ساعة يسيرة ونحو ذلك، فلولا أنه موضوع للكل لما حسن الاستفهام منه. واعترض عليه بشيئين: أحدهما: أنه -أعني ابن الحاجب- صدر المسألة بما اختاره من قول الجمهور ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (8910) من طريق منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، بنحوه. (¬2) "المفردات" (ص 275).

بأن اسم الصحبة يقع على من له مجرد الرؤية كما تقدم، وهذا الدليل لا يطابق المدعى؛ لأن من رأى شخصًا من بعيد ولم يكلمه ولا صحبه لحظة لا يقال له أنه صحبه لا من حيث الوضع ولا من حيث العرف قطعًا، فلا يستقيم الدليل إلا لمن قال بالقول الثاني أنه لا يكتفى بمجرد اللقاء بل لابد مما ينطلق عليه اسم الصحبة من ملابسة ما إما بكلام أو مماشاة ونحو ذلك دون من رآه من بعيد وقتًا ما كأبي الطفل وأمثاله. الثاني: إن هذا التقسيم والاستفهام إنما يجيئان في مطلق اسم الصحبة التي هي المصدر وكذلك الفعل، فأما اسم الفاعل الذي هو الصاحب فلا ينطلق إلا على الملازم الذي كثرت منه الصحبة كما يقال: المزني والربيع صاحبا الشافعي، وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة، ونحو ذلك، صرح بذلك الراغب وغيره (¬1). فلا يلزم من كون الصحبة للقدر المشترك بين القليل والكثير أن يكون الصاحب كذلك، ولا يحسن الاستفهام عند إطلاق لفظ الصاحب كما يحسن عند إطلاق الفعل أو المصدر، وكذلك الحنث في اليمين أيضًا؛ فإنه إذا حلف أن لا يكون صاحبًا لفلان لم يحنث بصحبته ساعة لطيفة، وهذا هو المأخذ الذي اعتبره المازري في تحصيص الحكم بالعدالة لمن اشتهر من الصحابة دون من قلت صحبته أو كان له مجرد الرؤية، فلا يبقى في إدراج من كان له مجرد الرؤية في عداد الصحابة إلا لشرف المنزلة أعطي من رآه حكم الصحبة. وقد روى شعبة، عن موسى السبلاني وأثنى عليه خيرًا، قال: أتيت أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- فقلت: هل بقي من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحد غيرك؟ قال: بقي ناس من الأعراب قد رأوه، فأما من صحبه فلا. قال ابن الصلاح: إسناده جيد، حدث به مسلم بحضرة أبي زرعة (¬2). قلت: وهو يقتضي التفرقة بين الرائي ومن يطلق عليه اسم الصاحب. ¬

_ (¬1) انظر "الإحكام" (2/ 105). (¬2) "مقدمة ابن الصلاح" (ص 171).

والحاصل أن تسمية الجميع باسم الصحابي له اعتبارات: إحداها: من يصدق عليه الاستعمال العرفي قطعًا، وهؤلاء هم جمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا معه -صلى اللَّه عليه وسلم- ومن هاجر إليه من القبائل وغزا معه، ولا ريب في أمثال هؤلاء. والثاني: من يقرب من هؤلاء كالذين هاجروا إليه وأقاموا عنده أيامًا قلائل ورجعوا إلى أماكنهم كوفد عبد القيس ووفد ثقيف وأمثالهم وكمثل وائل بن حجر ومعاوية بن الحكم السلمي وجرير بن عبد اللَّه البجلي ومن لم يصحبه إلا مدة يسيرة الأيام والليالي ولكن حفظ عنه وتعلم منه وروى عنه عدة أحاديث، فهؤلاء أيضًا وأمثالهم ينطلق عليهم اسم (الصحبة) (¬1) حقيقة عرفية وإن كانت مدة صحبتهم ليست طويلة لتحقق الاسم فيهم وصدق الاتصاف بالصحبة لهم. والثالث: من لقيه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمجالسة يسيرة أو مبايعة أو مماشاة، وكان مسلمًا إما بالغًا أو مميزًا، وعقل من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شيئًا ما بأن أجلسه في حجره أو مج في وجهه ماء أو غير ذلك؛ فلا ريب في أن الإطلاق العرفي منتف عن مثل هؤلاء؛ وأما الإطلاق اللغوي فهو قريب وقد ينازع فيه لأنه يصح نفي الصحبة عن أمثال هؤلاء فيقال: ما صحبه ولكن بايعه أو كلمه يسيرًا أو جلس في حجره صغيرًا ونحو ذلك، وصحة النفي من علامات المجاز فلا يكون إطلاق اسم الصحبة عليهم بطريق الحقيقة لكن الاتفاق واقع من أئمة الحديث في كل عصر على تسمية هؤلاء من جملة الصحابة وإخراج ما حكوه من تلك الوقائع في مسانيد الصحابة والاحتجاج بما فيها من الأحكام إذا صح السند إليهم من غير توقف في ذلك، فاسم الصحبة في أمثال هؤلاء قريب من الحقيقة اللغوية قربًا قويًّا وإن كان الاستعمال العرفي معدومًا في حقهم ومن هؤلاء طارق بن عبد اللَّه المحاربي حيث أخبر أنه رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمدينة فقال: "هل معكم من شيءٍ تبيعونه؟ " قلنا: نعم، هذا البعير. ¬

_ (¬1) في "س": الصاحب.

قال: "بكم؟ " قلنا: بكذا وكذا وسقًا من تمر. قال: فأخذ بخطامه وسار إلى المدينة، فقلنا: بعنا من رجل لا ندري من هو ومعنا ظعينة فقالت: أنا ضامنة لكم ثمن البعير؛ رأيت وجه رجل مثل القمر ليلة البدر لا يخيس (¬1) بكم، فأصبحنا فجاء رجل فقال: أنا رسول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إليكم يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا. قال: ففعلنا (¬2). رواه عنه جامع بن شداد وربعي بن حراش، وعداد طارق هذا في أهل الكوفة. والرابع: من لم يجتمع به -صلى اللَّه عليه وسلم- أصلًا وإنما رآه من بعيد وحكى شيئًا من أفعاله، أو لم يحك شيئًا مثل أبي الطفيل عامر بن واثلة وغيره ممن ليس له إلا مجرد الرؤية إما في حجة الوداع أو غزوة الفتح أو غزوة حنين وغير ذلك، أو كان مع أبيه فأراه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من بعد؛ فلا ريب في أن الإطلاق اللغوي منتف عن هؤلاء قطعًا فضلًا عن الاستعمال العرفي؛ وإنما أعطي هؤلاء حكم الصحبة لشرف ما حصل لهم من الرؤية له -صلى اللَّه عليه وسلم- ولدخولهم في القرن الذي أثبت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنهم خير القرون من أمته فكان ذلك على وجه التوسع المجازي لا بالحقيقة، واللَّه أعلم. الثانية: أما ما بعد هذه المراتب من إلحاق من عاصر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يره أصلًا بالصحابة إذا كان قد أسلم في زمنه كالأحنف بن قيس وأبي عبد اللَّه الصنابحي وأشباههما فلا ريب في أنه بعيد جدًّا؛ لأن الصحبة منتفية عن هؤلاء قطعًا بالاعتبار اللغوي والمعنى الاصطلاحي ولا رؤية حصل لهم بها شرف المنزلة فلا وجه لعدهم في جملة الصحابة إلا على ما تقدم ذكره من استيفاء ذكر أهل القرن الأول الذي عاصره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكذلك من ولد في حياته -صلى اللَّه عليه وسلم- من أبناء الصحابة، ومات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) أي: لا يغدر بكم. (¬2) رواه الحاكم (2/ 668)، والدارقطني (3/ 44)، والبيهقي (6/ 20)، وابن المبارك في "الزهد" (1164).

وهو ابن سنة ونحو ذلك، فلا يطلق على أحد من هؤلاء اسم الصحبة لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز، لكن هؤلاء المعاصرون على قسمين: أحدهما: من لم يكن بينه وبين النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مكاتبة أصلًا ولا قرأ كتابه كأبي رجاء العطاردي واسمه عمران بن ملحان، وأمثاله ممن لا عداد له إلا في التابعين. الثاني: من كتب إليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أو راسله كالنجاشي واسمه أصحمة بن بحر، أو قرأ كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كعبد اللَّه بن عكيم الجهني، فهؤلاء أقرب من القسم الأول بناء على أن المكاتبة أحد أنواع التحمل التي تصح بها الرواية فهم مرتفعون عن أن يعدوا في قسم التابعين، ولابد لما بينهم وبين النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الاتصال فيكون ذلك علامة مجوزة لإطلاق اسم الصحبة عليهم بطريق المجاز، وأما الحقيقة فمنتفية قطعًا. ومقابل هذا في التوسع -أعني عد هذين القسمين من جملة الصحابة- قول من ضيق الأمر جدًّا ولم يجعل الصحابي إلا من صحب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين، وهو المحكي عن سعيد بن المسيب إن ثبت عنه. والإجماع منعقد في كل عصر على عدم اعتبار هذا الشرط في اسم الصحاب، كيف والمسلمون في سنة تسع وما بعدها من الصحابة آلاف كثيرة، وكذلك من أسلم زمن الفتح من قريش وغيرها ولم يصحب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا زمنًا يسيرًا، واتفق العلماء على أفهم من جملة الصحابة. وأما اشتراط الجمع بين الصحبة والرواية فضعيف؛ لأن الرواية لم تتصل إلا عن عدد يسير من الصحابة بالنسبة لجميعهم -رضي اللَّه عنهم-. فقد جاء عن أبي زرعة الرازي أنه سئل عن عدد من روى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: شهد مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حجة الوداع أربعون ألفًا، وشهد معه تبوك سبعون ألفًا. وعن أبي زرعة أيضًا أنه قال: قبض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مائة ألف وأربعة عشر ألفًا من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه -وفي رواية: ممن رآه وسمع منه. فقيل له: يا أبا زرعة هؤلاء أين كانوا وأين سمعوا منه؟ فقال: أهل المدينة وأهل مكة ومن بينهما من الأعراب ومن شهد معه حجة

الوداع كل رآه وسمع منه فعرفه (¬1). قلت: وكذلك من شهد معه فتح مكة وغزوة حنين فإنهم كانوا يوم حنين اثني عشر ألفًا، ومن وفد عليه من القبائل، ومع هذا كله فأكبر الكتب المصنفة في مسانيد الصحابة وأكثرها حديثًا مسند الإمام أبي عبد اللَّه أحمد بن حنبل رحمه اللَّه، وجميع ما فيه لمن سمي من الصحابة من الرجال والنساء نحو سبعمائة وثلاثين نفسًا، ومن المبهمين الذين لم يسموا من الصنفين نيف وثلاثمائة، فيسقط من هؤلاء من جملة الصحابة مع المعرفة بهم وعدهم في أهل بدر وأحد والحديبية ونحوها. وقد تقدم أنه لا يلزم من عدم اتصال رواية عن أحد منهم أن لا يكون روى شيئًا بالكلية، واللَّه أعلم. الثالث: ذكر الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من أئمة الأصول أن الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى نزاع لفظي في مسمى الصحابي على ما ينطلق. وهذا فيه نظر من جهة أن مراد المصنفين غالبًا بالنزاع اللفظي: ما لا يترتب عليه حكم شرعي، ولا ريب في أن هذا الخلاف يترتب عليه أحكام شرعية: منها: العدالة الآتي تقريرها للصحابة -رضي اللَّه عنهم- فإن من لا يعد الرائي من جملة الصحابة يتطلب تعديله بالتنصيص على ذلك كما في سائر الرواة من التابعين فمن بعدهم، ومن ثبتت له خصيصة الصحبة بمجرد اللقاء أو بالصحبة اليسيرة لا يحتاج إلى ذلك بل يكتفي بشرف الصحبة تعديلًا. ومنها: الحكم على ما رواه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بكونه مرسل صحابي أم لا، فإن الجمهور على قبول مراسيل الصحابة ولم يخالف فيها إلا الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني. فإذا ثبت لمن له مجرد الرؤية كونه صحابيًا التحق مرسله بمثل ما روي عن ابن عباس والنعمان بن بشير وأمثالهما عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-في القبول على رأي الجمهور، وإن لم نعطه اسم الصحبة كان حديثه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كمرسل سائر التابعين يجيء فيه ¬

_ (¬1) انظر "مقدمة ابن الصلاح": (ص 171).

الخلاف المشهور. ومنها أن من كان منهم مجتهدًا أو نقلت عنه فتيا وحكمة هل يلتحق ذلك بكونه قول صحاب حتى يكون حجة على رأي كثير من أهل العلم أو لا يكون كذلك يعني أيضا على إعطائه رتبة الصحبة أم لا. فتبين أن الخلاف في هذه المسألة ينبني عليه أحكام مهمة عظيمة الجدوى فكيف يكون لفظيًّا؟ وما صرح به بعضهم أن الخلاف اللفظي قد يترتب عليه حكم شرعي فهو بعيد عن المعروف من اصطلاحهم، واللَّه أعلم. الرابعة: تقدم في عبارة الإمام البخاري وغيره تقييد من رآه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو كلمه أو ماشاه بكونه مسلمًا في تلك الحالة حتى يثبت له اسم الصحبة، وكذلك قال الآمدي وغيره. وهذا هو الحق وإن كانت المسألة قل من صرح بها؛ فإن الصحبة رتبة شريفة اختص بها من صحب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أو كلمه أو مشى معه أو رآه على القول بذلك؛ وإنما تثبت هذه الخصيصة ويصح الاتصاف بها بشرطها وهو الإيمان به -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى يصح انتسابه إليه، فمن ليس كذلك لا يصح انتسابه إلى صحبته؛ ولهذا منع اللَّه تعالى نسبة المنافقين إلى صحبته -صلى اللَّه عليه وسلم- وأن يروى عن أحد منهم شيء أصلًا، ولا يوجد لأحد منهم ذكر في شيء من كتب الصحابة. وكذلك أيضًا لم يذكر أحد أيضا عبد اللَّه بن صياد في الصحابة وقد كلمه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووقف معه في قصته المشهورة وأسلم بعد وفاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وحج ولم يعتدوا بذلك اللقاء والكلام في حال كفره، واللَّه أعلم بما آل إليه أمره بعد إسلامه، وقد ذكر هذه المسألة بعض المتأخرين من فضلاء المغاربة وقال: لعلها لم تقع، أي: أن يلقى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل على كفره ويكلمه ثم يسلم بعد وفاته. وغفل عن ابن صياد هذا. ومما يستغرب ذكره هنا شيئان: أحدهما: ما رواه أبو داود في "سننه" من حديث عبد اللَّه بن شقيق، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن أبي الحمساء قال: بايعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه ونسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت فإذا هو في مكانه

فقال: "يَا فَتًى لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ، أَنَا هَاهُنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُكَ" (¬1). فهذه القصة كانت قبل النبوة ولم يكن أسلم عبد اللَّه بن أبي الحمساء يومئذ قطعًا، ثم إنه لم يذكر له بعد ذلك صحبة مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا يعرف له إلا هذا الحديث الواحد، ولكن الظاهر أن له صحبة وإسلامًا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقد ذكره جماعة ممن سكن البصرة من الصحابة، وعده بعضهم في المكيين. فلو فرض في مثل هذا أنه أسلم في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يلقه بعد إسلامه، هل يكتفى بذلك اللقاء الأول مع إسلامه في زمنه ويعد صحابيًا بذلك؟ هذا مما فيه نظر واحتمال منقدح بخلاف من لم يسلم إلا بعد وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم-. ومن هذا النوع أيضًا سعيد بن حيوة الباهلي، رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجاهلية وهو صغير في حياة جده عبد المطلب وهو يتطلبه لما أبطأ عنه في قصة رويتاها من طريق داود بن أبي هند، عن العباس بن عبد الرحمن، عن كندير بن سعيد، عن أبيه. قال ابن عبد البر: لا يعرف سعيد إلا بهذا الحديث (¬2). قلت: ولم يذكر أحد له لقاء بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد المبعث، واللَّه أعلم. الثاني: أن الصحابي إذا لقي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صحبه ثم ارتد بعد وفاته ثم رجع إلى الإسلام هل تحبط ردته ما ثبت له من شريف الصحبة حتى أنه لا يعد فيهم أو لا لأنه رجع إلى الإسلام بعد ذلك؟ وهذا مما فيه نظر، ولا يبعد على أصل الحنفية القائلين بأن هذا إسلام جديد يجب عليه فيه الحج وإن كان قد حج أولًا فقد حبط ذلك الحج أن يقال بأن صحبته للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بطل حكمها وبقي كمن لم يسلم إلا بعد وفاته. وأما على أصول أصحابنا فلا يجيء ذلك؛ لأن الحبوط مشروط بالوفاة على الردة فلما رجع هذا إلى الإسلام بقي حكم الصحبة في حقه مستمرًّا؛ ولهذا ذكروا الأشعث ابن قيس من جملة الصحابة وعدوا أحاديثه من المسندات، وكان ممن ارتد بعد ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4996). (¬2) "الاستيعاب" (ص 185).

المسألة الثانية: فيما تثبت به الطرق المتقدمة

النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم رجع إلى الاصملام بين يدي أبي بكر -رضي اللَّه عنه- وزوجه أخته، واللَّه أعلم. الخامسة: إذا قيل بأن من له مجرد الرؤية من الصحابة فهل يلتحق بذلك من لم ير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا بعد وفاته وقبل دفنه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد كان مسلمًا في حال حياته؟ لم أر أحدًا تعرض لهذه الصورة، وهي محتملة وليست مجرد فرض، بل قد وقعت لأبى ذؤيب الهذلي الشاعر، وقيل اسمه خويلد بن خالد في قصته المشهورة لما أخبر بمرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فسافر نحوه فقبض -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل وصوله إلى المدينة بيسير وحضر سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر -رضي اللَّه عنه- ثم حضر الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ورآه مسجى، وشهد دفنه، ولم تتقدم له رؤية قبل ذلك لكنه كان مسلمًا في حياة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولا يبعد أن يعطى هذا حكم الصحبة لشرف ما حصل له من رؤيته -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل دفنه وصلاته عليه، وهو أقرب من عد المعاصر الذي لم يره أصلًا فيهم، أو الصغير الذي ولد في حياته، واللَّه أعلم. المسألة الثانية: فيما تثبت به الطرق المتقدمة قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح: ثم إن كون الواحد منهم صحابيًّا يعرف تارة بالتواتر، وتارة بالاستفاضة القاصرة عن التواتر، وتارة بأن يروى عن آحاد الصحابة أنه صحابي، وتارة بقوله وإخباره عن نفسه بعد ثبوت عدالته أنه صحابي (¬1). وقال الآمدي في "الإحكام": لو قال من عاصر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنا صحابي مع إسلامه وعدالته فالظاهر صدقه، ويحتمل أن لا يصدق في ذلك لكونه متهمًا بدعوى رتبة يثبتها لنفسه كما لو قال: أنا عدل أو شهد لنفسه بحق (¬2). قلت: وقد بنى بعض المصنفين هذا على أن مجرد الرؤية أو الصحبة اليسيرة هل يثبت فيها مسمى الصحابي أم لا؟ فإن قلنا: يكون بذلك صحابيًّا؛ فذلك مما يتعذر فيه إثباته بالنقل دائمًا؛ إذ ربما لا يحضره حالة اجتماعه بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أحد أو حال رؤيته إياه أو حضر ذلك واحد أو ¬

_ (¬1) "مقدمة ابن الصلاح" (ص 177). (¬2) "الإحكام" (2/ 105).

اثنان ولم ينقل ذلك فلو لم يثبت ذلك بقوله لتعذر إثباته، بخلاف ما إذا ادعى طول الصحبة وكثرة التردد في السفر والحضر؛ فإن مثل ذلك يشاهده أقوام كثيرون فينقل ويشتهر فلا يثبت بقوله، ونظير هذا النوع: المودع والوكيل إذا ادعيا الهلاك بسبب ظاهر؛ فإنه لا يقبل قولهما إلا ببينة لإمكان ذلك بخلاف ما إذا ادعيا مطلق الهلاك أو أسنداه إلى سبب خفي؛ فإنه يقبل قولهما فيه من غير بينة. ثم إن قول من تقدم أنه يقبل قوله: "أنا صحابي" بعد ثبوت عدالته يشمل صورتين: إحداهما: أن يكون ثابت العدالة قبل دعواه أنه صحابي. والثاني: أن يقول ذلك ولم يعلم حاله ثم تظهر عدالته بالاختبار بعد ذلك، وهذا ظاهر في القسمين. ووراء هذا قسم آخر: وهو أن يذكر لقاءه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- واجتماعه به، أو يروي شيئًا يذكر أنه سمعه منه أو شاهده يفعله ولا يعرف ذلك إلا من جهته ولا يعلم حاله قبل ولا بعد، غير أنه لم يظهر فيه ما يقتضي جرحًا. وقد ذكر الإمام أبو الحسين بن القطان في أثناء كلام له أن الناس اختلفوا في تصحيح أحاديث هذا الصنف، فقبلها قوم وردها بعض أهل الظاهر، وفي كلامه ما يقتضي ترجيح الثاني؛ لأنهم لو ادعوا لأنفسهم أنهم ثقات لم يسمع منهم فكيف يقبل منهم ادعاء مرتبة الصحبة؟! والذي ذهب إليه أبو عمر بن عبد البر قبول قول أمثال هؤلاء وتصحيح أحاديثهم بناء على ظاهر سلامتهم عن الكذب والفسق، وهذا هو الذي يقتضيه عمل أئمة الحديث؛ فإنهم خرجوا في مسانيدهم ومعاجمهم المصنفة على أسماء الصحابة حديث جماعة كثيرين من هذا الصنف، وكذلك كل من صنف في الصحابة يذكر هؤلاء فيهم من غير توقف، ولكن يبين الطريق إلى ذلك وأنها غريبة وأنه لا يعرف صحبته إلا بها؛ لأن هذا شأن مصنفه، بخلاف أصحاب المسانيد والمعاجم فإنهم يخرجون أحاديثهم ويسكتون عنها غالبًا، والاحتمال في هذه الصورة أقوى منه فيما تقدم إذا كانت عدالة المخبر بذلك معلومة، وهذا كله فيمن لم تتضمنه كتب التواريخ والسير بأنه صحابي، فأما إذا شهد له بالصحبة مثل البخاري أو مسلم أو

ابن أبي حاتم أو ابن أبي خيثمة في كتبهم المصنفة وأمثالهم فإن صحبته تثبت بذلك وإن كان سند حديثه غريبًا أو فردًا ولا يعرف بغيره، كما أن من لم يرو عنه إلا راو واحد فهو محكوم عليه بالجهالة إلا أن يكون بعض أئمة الحديث قد وثقه فإنه لا تلازم بين الجهالة وبين انفراد الراوي عن الشيخ، فقد يكون معروفًا بالثقة والأمانة ولم يتفق أن يروي عنه إلا واحد، كذلك هذا يكون معروف اللقاء والصحبة اليسيرة بين أهل المغازي والسير وإن لم يرو ذلك إلا من جهة واحدة بإخباره عن نفسه، فأما إذا أخبر التابعي أنه صحابي حالة الرواية فهذا على أضرب: أحدها: أن يقول أخبرني فلان أنه سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول كذا مقتصرًا على مثل ذلك، فهذا حكمه ما تقدم في مدعي الصحبة. وثانيهما: أن شبت صحبته حال الرواية عنه ويسميه باسمه، فإن كان مذكورًا بذلك في كتب المغازي والسير فحكمه ما تقدم، وأما إذا لم يكن معروفًا بالصحبة إلا من هذه الطريق؛ فالظاهر الاعتماد على قول التابعي إذا كان ممن يعتمد قوله في مثل ذلك، على أنه يجوز أن يكون التابعي بنى ذلك على تصديقه في دعواه الصحبة وأن المسلمين محمولون على العدالة إلا في من ظهر منه ما يوجب الفسق فاكتفي فيه بذلك ولكنه احتمال بعيد، والأول أظهر منه؛ لأن مثل هذه الرتبة لا يثبتها التابعي العارف المعتمد إلا بعد تثبت وغلبة الظن بأن هذا صحابي. ثالثها: أن لا يسميه، بل يقول: أخبرني رجل أنه سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول كذا، أو رآه يفعل كذا، ونحو ذلك، ولا يزيد عليه، فهذا يقرب من الضرب الأول، فلو قال: أخبرني عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بكذا ولم يصرح بلقائه وقلنا بالراجح أن "عن" تقتضي الاتصال إلا من المدلس فلا ريب في أن هذه الصورة يترجح فيها احتمال الوقف إلا أن تثبت صحبة ذلك الرجل بأحد الطرق المتقدمة؛ لأن التدليس وإن كان لم يثبت في حق هذا الرجل الذي قال: عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فالإرسال غير منتف عنه، وكم من تابعي يرسل حديثًا بهذا اللفظ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ونحن إنما نثبت الاتصال بلفظ "عنه" إذا ثبت لقاء المعنعن عنه على الراجح أو يكتفى بمجرد إمكان اللقاء على قول مسلم، وليس في قول التابعي: أخبرني رجل عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ما يقتضي ثبوت لقائه إياه ولا إمكان ذلك، نعم قد يفرق في مثل هذا بين التابعي الكبير المتقدم وبين من

بعده؛ إذ الغالب على الظن أن التابعي الكبير إنما يروي عن الصحابة دون التابعي الصغير فيقوى الحكم بكون ذلك الرجل صحابيًّا. وقد وقع للقاضي أبي بكر بن العربي في أثناء كلامه في كتابه "القبس في شرح الموطأ" أنه قال: اتفقت الأمة على أن مجهول العين تجوز الرواية عنه إذا قال -يعني الراوي عنه من التابعين-: حدثنا رجل من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لوجوب العدالة لهم، ولا يجوز ذلك في غيرهم لعدم العدالة فيهم. وفي هذا النقل من الإجماع نظر ظاهر يعرف مما تقدم. وقد حكى ابن القطان الخلاف في ذلك مع تسمية المذكور بأنه صحابي فهو جار في قوله: رجل، بطريق الأولى. وقد حكى بعض الفضلاء عن ابن حزم أنه قال في كتابه "النبذ الكافية" له: كل من روى عن صاحب لم يسمه فإن كان ذلك الراوي ممن لا يجهل صحة قول من يدعي الصحبة من بطلانه فهو خبر مسند تقوم به الحجة؛ لأن جميع الصحابة -رضي اللَّه عنهم- عدول. قال: وإن كان الراوي ممن يمكن أن يجهل صحة قول مدعي الصحبة فهو حديث مرسل لا تقوم به الحجة؛ إذ لا يؤمن من فاسق من الناس أن يدعي الصحبة عند من لا يعرف كذبه من صدقه. وأما إذا روى الراوي الثقة عن بعض أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خبرًا ولم يسمها فهو حجة قاطعة؛ لأنه لا يمكن أن تخفى أمهات المؤمنين على أحد من أهل التمييز في ذلك الوقت (¬1). هذا ما نقله عن ابن حزم وهو تفصيل حسن بالغ، ومقتضاه أن ما قال فيه أحد علماء التابعين وأهل الخبرة منهم: حدثني رجل من الصحابة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بكذا؛ أنه يكون مقبولًا؛ لأن الظاهر أنه لا يطلق ذلك إلا بعد ثبوت صحبته عنده، وحينئذ لا تضر الجهالة باسمه لما سنقرره إن شاء اللَّه تعالى من عدالة جميعهم. ¬

_ (¬1) "النبذ الكافية" (ص 53).

وأما إذا لم يكن من علماء التابعين ففيه الاحتمال الذي قاله ابن حزم، والتوقف فيه قوي. هذا إذا وصفه التابعي بأنه صحابي، فأما إذا قال: حدثني رجل عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يكن فيه ما يقتضي اللقاء فقد تقدم الكلام فيه وأن الأقوى التفرقة بين كبار التابعين وصغارهم. ويلتحق بما ذكره ابن حزم من الرواية عن بعض أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مبهمة: ما إذا قال التابعي الثقة: حدثني رجل من أهل بدر أو من أهل بيعة الرضوان ونحو ذلك مما لا يخفى بطلان دعوى من يدعي ذلك لنفسه إذا كان كاذبًا على أهل ذلك الزمن؛ لأن المتصفين بمثل هذه الصفات كانوا حينئذ مشهورين مميزين عند كل أحد بخلاف دعوى مطلق الصحبة فإن فيهم الأعراب ونزاع القبائل ممن لا يعرف حاله أصلًا؛ ولهذا نجد كثيرًا منهم اختلف أئمة الحديث في إثبات الصحبة له، فأثبتها بعضهم ونفاها آخرون، ولم يختلفوا فيمن شهد بدرًا والحديبية إلا في النادر منهم. وقد تحصل من مجموع ما تقدم أن ما ثبت به الصفة المقتضية للصحبة على مراتب: أولها وهو أعلاها: التواتر المفيد للعلم القطعي بصحبته، وهذا لا يختص بالعشرة المشهود لهم بالجنة وأمثالهم، بل يدخل فيه أيضًا كل من تواترت الرواية عنه من الصحابة المكثرين الذين بلغ الرواة عنهم العدد المفيد للتواتر كأبي سعيد الخدري وجابر وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص وأمثالهم، وكذلك من اتفقت الأمة على صحة حديثه وتلقته بالقبول وإن لم تكثر الرواية عنه كأبي قتادة وأبي مسعود البدري ونحوهما فإن من لوازم ذلك اتفاقهم على كونه صحابيًّا، ويندرج في هذا عدد كثير من الصحابة المتفق على صحة أحاديثهم. وثانيها: أن تكون صحبته ثابتة بالاشتهار القاصر عن رتبة التواتر وهو يفيد العلم النظري عند كثير من العلماء، ويلتحق بهذه الرتبة من اتفقت كتب السير والمغازي والتواريخ على ذكره في الصحابة وتسميته في عدد من الغزوات ولم يوجد أحد خالف في ذلك ولا أهمل ذكره في ذلك، ويندرج في هذا النوع خلق كثير من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وإن كان فيهم من ليس له إلا الحديث الواحد أو الاثنان. وثالثها: من لم يشتهر من جهة الرواية عنه، ولكنه تضمنه كثير من كتب السير

بالذكر، إما بالوفادة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو باللقاء اليسير، أو في أثناء قصة أو غزوة له ذكر ونحو ذلك، فهذه مرتبة دون التي قبلها. ورابعها: من روى عنه أحد أئمة التابعين الذين لا يخفى عنهم مدعي الصحبة ممن هو متحقق بها وأثبت له ذلك التابعي الصحبة أو اللقاء، أو جزم بالرواية عنه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غير معترض على ذلك لما يلزم في روايته عنه على هذا الوجه من تصديقه فيما ذكر من الصحبة والرواية سواء سماه في روايته عنه أو لم يسمه بل قاله: رجل، إذا كان التابعي كما وصفنا بحيث لا يخفى عنه ذلك، ولا فرق بين الحالتين والتابعي كذلك؛ إذ لا تضر الجهالة بعين الصحابي بعد ثبوت صحبته. وخامسها: أن يقول من عرف بالعدالة والأمانة: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو رأيته يفعل كذا، ونحو ذلك، ويكون سنه يحتمل ذلك، والسند إليه صحيح؛ فهذا مقبول القول على الراجح، وفيه ما تقدم من الاحتمال، ونظيره أن يروي أحد متقدمي التابعين عن رجل لم يسمه شيئًا يقتضى له صحبة؛ فإن القرائن هنا قائمة بصدقه: منها: ندرة كذب مثل ذلك في ذلك العصر الأول. ومنها: أن الظاهر من التابعي الكبير أنه لا يروي إلا عن صحابي؛ فإن انضم إلى ذلك وصفه بصفة خاصة كرجل من أهل بدر أو من أهل بيعة الرضوان فهو أعلى من هذه المرتبة لما تقدم أن مثل هؤلاء كان مشهورا، فإذا وصفه التابعي الثقة بذلك كان كالتصريح باسمه وهو معروف، فتكون هذه الحالة حينئذ من المرتبة الرابعة. وسادسها: أن يصح السند إلى رجل مستور لم تتحقق عدالته الباطنة ولا ظهر فيها ما يقتضي جرحه فيروي حديثًا يتضمن أنه صحابي إما بسماعه ذلك أو بمشاهدته شيئًا من أفعاله -صلى اللَّه عليه وسلم- ونحو ذلك، أو برواية مجردة إذا اكتفينا بها في إثبات الصحبة، فهذا يتخرج على قبول رواية المستور فمن قبله كان ذلك هنا بطريق الأولى لقرينة صدق مثل هذا وأنه لم يوجد في ذلك القرن من يدعي ذلك كذبًا إلا نادرًا جدًّا، ولعله لا يصح السند إليه، ومن لم يقبل رواية المستور في التابعين فمن بعدهم قد يقبل مثل هذا، وهو الذي عليه عمل ابن منده وابن عبد البر وغيرهما ممن صنف في الصحابة لعدهم هذا الصنف فيهم من غير توقف فيهم، ومن العلماء من توقف

المسألة الثالثة: فى تقرير عدالة الصحابة -رضي الله عنهم-

في حديثهم وإثبات الصحبة لهم كما تقدم. وسابعها: أن يروي بعض صغار التابعين ومن ليس من أهل التمييز منهم عن رجل مبهم ما يقتضي له صحبة وهي أضعف المراتب وإن كان جماعة من الأئمة قبلوا مثل ذلك وأثبتوا حديثهم في مسانيد الصحابة والرواة عنهم كما وصفت، وكان ذلك -واللَّه أعلم- لقرينة صدق ذلك الجيل الذي هو خير القرون، وأن مثل هذه المرتبة الشريفة لم يدعها أحد في ذلك العصر كذبًا بخلاف الأعصار المتأخرة؛ فقد رويت أحاديث عن جماعة ادعوا أنهم عمروا وأن لهم صحبة كما قد أولع كثير في هذه الأزمان بحديث رتن الهندي الذي ادعى الصحبة وأنه عاش إلى نحو الستمائة والخمسين ولعله لا وجود له البتة ووضعت عليه هذه الأحاديث، وإن كان له وجود وقد ادعى مثل ذلك فهو كذاب قطعا لا يستريب أحد من علماء أهل الأثر في ذلك، وليس هذا موضع بسط الكلام فيه. فأما في ذلك العصر الأول فيعز وجود من يدعي صحبة وهو فيها كاذب. فهذا تقسيم بالغ في تحقيق مراتب ما تثبت به الصحبة، من اللَّه به وله الحمد والمنة، ولم أر أحدًا بسط الكلام في هذه المسألة مع قوة الحاجة الداعية إليها، واللَّه الموفق للصواب وله الحمد كثيرًا لا نحصى ثناءً عليه. المسألة الثالثة: فى تقرير عدالة الصحابة -رضي اللَّه عنهم- والذي ذهب إليه جمهور السلف والخلف أن العدالة ثابتة لجميع الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وهي الأصل المستصحب فيهم إلى أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد منهم لما يوجب الفسق مع علمه، وذلك مما لم يثبت صريحًا عن أحد منهم -بحمد اللَّه- فلا حاجة إلى البحث عن عدالة من ثبتت له الصحبة ولا الفحص عنها بخلاف من بعدهم، وهذه المسألة عظيمة الجدوى والحاجة إليها ماسة في أصول الدين وأصول الفقه جميعا: أما في أصول الدين فبالنظر إلى الإمامة وشرائطها وبماذا تنعقد، ومن يصح أن يكون إمامًا، ومن الذي يعتبر قوله في الحل والعقد. وأما في أصول الفقه؛ فلأن الصحابة نقلة الشريعة ولم تصل إلى الأمة إلا من جميعهم، فمتى تطرق الطعن إلى أحد منهم حصل التشويش في أصول الشريعة ولم

يبق بأيدينا -والعياذ باللَّه- متمسك بشيء منها، وتوجهت المطاعن لأهل الزيغ والشبه في الدين وأدى ذلك إلى الانحلال بالكلية كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه، ولا محذور أصعب من هذا؛ ولذلك لا تجد المخالفين في هذه المسألة إلا شذوذًا لا يعتد بهم من أهل البدع ومن في قلبه مرض: فمنهم من زعم أن حكمهم -أعني الصحابة- في العدالة كحكم غيرهم يجب البحث عنها ومعرفة ما في حق كل واحد منهم. ومنهم من زعم أن الأصل في كل واحد منهم العدالة لكن في أول الأمر، فأما بعدما ظهرت بينهم الفتن فلا، بل حالهم فيما بعد ظهور الفتن كحال غيرهم؛ لأن الفاسق منهم غير متعين. وذهب جمهور المعتزلة إلى أن من قاتل عليًّا -رضي اللَّه عنه- فهو فاسق مردود الرواية والشهادة لخروجه على الإمام الحق. ومنهم من زعم أنه لا تقبل رواية كل من الفريقين ولا شهادته؛ لأنا لا نقطع بفسق أحد الفريقين وهو غير متعين فلا يتميز العدل عن الفاسق فيتعذر القبول. ومنهم من قال: إذا انفرد أحد الفريقين بالرواية أو الشهادة كان مقبولًا؛ لأن أصل العدالة ثابتة له، وقد شككنا في زوالها فلا تزال بالشك كما في المياه، فأما إذا شاركه في ذلك مخالفه حيث لا يثبت إلا بهما فلا يثبت بهما شيء؛ لأن فسق أحد الفريقين معلوم قطعًا من غير تعيين، فيعارض ذلك تعين العدالة المستصحب كما في الإناءين إذا تيقن نجاسة أحدهما، وهذا مذهب واصل بن عطاء. ومنهم من شك في فسق عثمان وقتلته -رضي اللَّه عنه-، وقال بعض المصنفين: أما قتلة عثمان -رضي اللَّه عنه- فلا شك في فسقهم لعدم التأويل الحامل لهم على ذلك، وهذا لا يحتاج إليه فيما نحن فيه بحمد اللَّه؛ لأنه ليس في قتلة عثمان -رضي اللَّه عنه- من ثبتت له الصحبة أصلا، ولا من يذكر فيهم سوى محمد بن أبي بكر وهو لا صحبة له ولا رؤية أيضًا؛ لأنه ولد قبل وفاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بثلاثة أشهر. وجميع ما تقدم من هذه الأقوال الشاذة باطلة، والحق ما ذهب إليه الجمهور الأعظم من القول المتقدم أولًا، إلا أن الإمام المازري لم يعم به جميع الصحابة بل قال: لسنا نعني به كل من رآه اتفاقًا أو زاره لمامًا، أو ألم به لغرض وانصرف عن

قريب، لكن إنما نريد به الصحابة الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وأولئك هم المفلحون. وهذا قول غريب يخرج كثيرًا من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم لهم بالعدالة أصلًا كوائل بن جر ومالك بن الحويرث وعثمان بن أبي العاص وأشباههم ممن وفد عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يقم إلا أيامًا قلائل ثم انصرف، وكذلك من لم يعرف إلا برواية الحديث الواحد أو الاثنين ولم يدر مقدار صحبته من أعراب القبائل، فالقول بالتعميم هو الذي عليه الجمهور وإن كان بعض الأدلة التي نذكرها يظهر اختصاصها بالذين أشار إليهم المازري، فغيرها يقتضي تعميم الحكم للجميع ومجموعها يرجع إلى وجوه: أحدها: ثناء اللَّه عليهم ومدحه إياهم ووصفه لهم بكل جميل، قال اللَّه تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}. . . الآية (¬1). والمراد بالذين اتبعوهم بإحسان: من جاء بعد السابقين الأولين من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، قاله جماعة من المفسرين، قالوا: وهم من أسلم بعد الحديبية وبيعة الرضوان إلى آخر زمنه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ويؤيد ذلك أن الآيات كلها فيما يتعلق بالمتخلفين عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من المنافقين في غزوة تبوك؛ فأتبع اللَّه تعالى ذلك بفضيلة الصحابة الذين غزوا معه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقسمهم إلى السابقين الأولين ومن بعدهم ثم أتبع ذلك بذكر الأعراب وأهل البوادي الذين في قلوبهم نفاق أو لم يرسخوا في الإسلام فقال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} الآية (¬2) فدل على أن المراد بالذين اتبعوهم بإحسان هم بقية الصحابة الذين تأخر إسلامهم فشملت الآية جميع الصحابة، وقد أخبر اللَّه سبحانه وتعالى أنه رضي عنهم ورضوا عنه فمن ادعى بعد ذلك في أحد منهم أنه قد سخط عليه لزمه ¬

_ (¬1) التوبة: الآية 100. (¬2) التوبة: الآية 101.

بيان ذلك بدليل قاطع عن اللَّه تعالى ولا سبيل إلى ذلك. وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (¬1) إلى آخر الآية وهي أيضًا شاملة لجميع الصحابة -رضي اللَّه عنهم-؛ لأن كل من أقام معه -صلى اللَّه عليه وسلم- ساعة ثبت اتصافه بأنه ممن معه فكان المدح في الآية شاملًا للكل -رضي اللَّه عنهم-. وقال تعالى في وصف المهاجرين: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} إلى قوله {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬2). ثم مدح الأنصار بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ}. . . (¬3) الآية إلى آخرها. ثم ذكر من أسلم بعدهم بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا}. . . (¬4) الآية، والظاهر أن المراد بها من تأخر إسلامه وصحبته منهم كما في الآية المتقدمة بدليل قوله: {جَاءُوا} بلفظ الماضي فهو أولى من حمله على التابعين لما فيه من التجوز بلفظ الماضي عن الاستقبال. وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}. . . (¬5) الآية، وهي خاصة بأهل بيعة الرضوان منهم بخلاف الآيات المتقدمة فإنها تعم جميع الصحابة -رضي اللَّه عنهم- ولكنها أعني هذه الآية مفيدة التمسك بها في حق من لابس الفتن من أهل الحديبية فقد تقدم فيهم الخلاف مطلقا واللَّه سبحانه أخبر أنه قد رضي عمن بايع تحت الشجرة فيستصحب هذا الحكم فيهم إلى أن يتبين خلافه عن اللَّه تعالى كما تقدم قريبا. واحتج جماعة من المصنفين بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا ¬

_ (¬1) الفتح: الآية 29. (¬2) الحشر: الآية 8. (¬3) الحشر: الآية 9. (¬4) الحشر: الآية 10. (¬5) الفتح: الآية 18.

شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}. . . (¬1) الآية، وثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "الوسط العدل" (¬2)، وبقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}. . . (¬3) الآية. واعترض بعضهم على ذلك بأن المراد بالآيتين جميع الأمة إلى قيام الساعة فلا يتخصص بها بعضهم؛ لما يلزم في ذلك من استعمال اللفظ في معنيين مختلفين وهو المجموع من حيث هو مجموع الأمة وعصر الصحابة دون غيرهم. ويمكن الجواب عنه بوجهين: أحدهما: التزام جواز استعمال اللفظ في المعنيين بناءً على جواز التمسك به في الحقيقة والمجاز جميعًا وهو مذهب الشافعي كما في حمل اللفظ المشترك على كلا المعنيين. وثانيهما: أن دلالة الآيتين وإن كان شاملا لجميع الأمة فهي متضمنة الثناء عليهم بأنهم خير أمة، ووصفهم بالعدالة في الآية الأولى وقد خرج من هذا الوصف من بعد الصحابة بالإجماع على أنه لابد من معرفة ذلك فيهم بالبحث عن أحوالهم فبقي في الصحابة على مقتفى الآية، وإذا كانت الآية الأخرى متضمنة وصف الأمة كلهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس فلا ريب في أن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- أولى الناس بالاتصاف بذلك وأعلاهم رتبة فيه فلا أعدل ممن ارتضاه اللَّه سبحانه لصحبة نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- ونصرته والسبق إليه ولا تزكية أفضل من ذلك ولا تعديل أكمل منه. الوَجْهُ الثانِي مِنَ الأَدِلَّةِ ثناء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عليهم وإخباره بما منحهم اللَّه تعالى من كونهم خير القرون من أمته وأفضلها وأن أحدًا ممن يأتي بعدهم لا يبلغ أدنى جزء من شأنهم ولو أنفق ملء الأرض ذهبًا في سبيل اللَّه. ففي "الصحيحين" من طريق عبيدة السلماني عن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: ¬

_ (¬1) البقرة: الآية 142. (¬2) رواه البخاري (3339) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬3) آل عمران: الآية 110.

قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" (¬1). ومن حديث زهدم الجرمي عن عمران بن حصين -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" قال عمران: فلا أدري أذكر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد قرنه قرنين أو ثلاثة. متفق عليه أيضًا (¬2). ورواه الترمذي من حديث الأعمش، عن علي بن مدرك، عن هلال بن يساف، عن عمران -رضي اللَّه عنه- (¬3). وأخرج مسلم أيضًا من حديث عبد اللَّه بن شقيق، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" قال: فلا أدري ذكر مرتين أو ثلاثًا. . . الحديث (¬4). وفي "مسند أحمد بن حنبل" من طريق عاصم بن أبي النجود، عن خيثمة والشعبي، عن النعمان بن بشير -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. . . " الحديث (¬5). وإسناده صحيح. وروينا من حديث أبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني، ثنا صدقة بن خالد، ثنا عمرو بن شراحيل، عن بلال بن سعد، عن أبيه -رضي اللَّه عنه- قال: قلنا: يا رسول اللَّه أي أمتك خير؟ قال: "أَنَا وَأَقرَانِي". قال: ثم ماذا؟ ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (2652)، "صحيح مسلم" (2533). (¬2) "صحيح البخاري" (2651)، "صحيح مسلم" (2535). (¬3) "جامع الترمذي" (2221). (¬4) "صحيح مسلم" (2534). (¬5) "مسند أحمد" (4/ 267).

قال: "ثُمَّ الْقَرْنُ الثَّانِي". قال: ثم ماذا؟ قال: "ثُمَّ الْقَرْنُ الثالث" (¬1). وسعد هذا هو ابن تميم مشهور من الصحابة، وابنه بلال من فضلاء التابعين، وعمرو بن شراحيل وثقه ابن حبان (¬2) ولم يتكلم فيه أحد، وصدقة بن خالد احتج به البخاري، وأبو مسهر مشهور من رجال "الصحيحين". وقد رواه معلى بن منصور، عن صدقة بن خالد أيضًا ولفظه: قيل: يا رسول اللَّه أي التابعين خير؟ قال: أنا وأصحابي. . . وذكر بقيته. وهذا يؤيد ما تقدم من أن المراد بالتابعين الصحابة الذين تبعوه في الإسلام دون المعنى الاصطلاحي فإنه متأخر. وروى أبو نعيم الفضل بن دكين وغيره، عن داود بن يزيد الأودي، عن أبيه، عن جعدة بن هبيرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي الَّذِين أَنَا فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ" (¬3). وجعدة بن هبيرة -رضي اللَّه عنه-: هو ابن أم هانئ أخت علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- أثبت له ابن عبد البر وجماعة الصحبة (¬4)، وقال يحيى بن معين: لم يسمع من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شيئًا، والأول أظهر. ¬

_ (¬1) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (5669)، والطبراني "المعجم الكبير" (6/ 44 رقم 5460) من طريق أبي مسهر. ورواه ابن بي عاصم في "الآحاد والمثاني" (4/ 406 رقم 2456) وكذا الطبراني (6/ 44 رقم 5460) من طريق هشام بن عمار عن صدقة به. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 743): رجاله ثقات. (¬2) "الثقات" (7/ 224 رقم 9783). (¬3) "معرفة الصحابة" لأبي نعيم (2/ 618 ترجمة 65) حديث (1673). (¬4) "الاستيعاب" (ص 71)، وانظر "أسد الغابة" (1/ 180)، و"الإصابة" (1/ 483).

وثبت عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- من وجوه عديدة أنه قام بالجابية خطيبًا فقال: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قام في مثل مقامي هذا فقال: "أَكْرِمُوا أَصْحَابِي؛ فَإِنَّهُمْ خِيَارُكُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. . . " وذكر الحديث (¬1). فهذا الحديث مستفيض عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفي بعض ما تقدم من ألفاظه ما يقتضي دخول جميع من رآه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أنه متصف بهذه الخيرية. وقد روى الوليد بن مسلم، عن عبد اللَّه بن العلاء بن زبر، عن عبد اللَّه بن عامر اليحصبي، أنه سمع واثلة بن الأسقع -رضي اللَّه عنه- يقول: سمعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لَا تَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا دَامَ فِيكُمْ مَنْ رَآنِي وَصَاحَبَنِي" الحديث (¬2). وإسناده صحيح. وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذهبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِم وَلَا نَصِيْفَهُ". متفق عليه (¬3). وفي حديث عبد الرحمن بن سالم بن عويم بن ساعدة، (عن أبيه) (¬4)، عن جده -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا وَجَعَلَ لِي مِنْهُمْ وُزَرَاءَ وَأَنْصَارًا وَأَصْهَارًا؛ فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ" (¬5). وقال عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-: إن اللَّه نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- خير قلوب العباد فاصطفاه وبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب ¬

_ (¬1) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (5/ 387 - 388). (¬2) رواه الطبراني "المعجم الكبير" (22/ 85 رقم 207) من طريق الوليد. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 745): رواه الطبراني من طرق ورجال أحدها رجال الصحيح. (¬3) "صحيح البخاري" (3673)، "صحيح مسلم" (2540) من حديث أبي هريرة. (¬4) سقط من س. والمثبت من "د"، والطبراني. (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (455). وقال الهيثمي (9/ 738): وفيه من لم أعرفه.

محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقاتلون عن دينه (¬1). وروى السدي عن أبي مالك عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- في قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال: هم أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وروى سنيد المصيصي، ثنا حجاج، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قرأها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على الناس وقال: "النَّاسُ خَيْرٌ وَأَنَا وَأَصْحَابِي خَيْرٌ" وصدق أبا سعيد عليه زيد بن ثابت ورافع بن خديج -رضي اللَّه عنهما- (¬3). وفي "مسند البزار" بسند غريب عن جابر رفعه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى الْعَالَمِينَ سِوَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ. . . " الحديث. والآثار في هذا المعنى كثيرة. والخير هنا اسم جنس مضاف أو صيغة أفعل مضافة فتعم جميع أنواع الخير فمتى جعل أحد من الصحابة في التعديل كمن بعده حتى ينظر في عدالته ويبحث عنها لم يكن خيرًا ممن بعده مطلقًا. فإن قيل: هذه الأحاديث معارضة بما روي في حق (آخر هذه) (¬4) الأمة من الفضل كقوله ووم: "وَدِدْتُ أَنْ قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا". قالوا: يا رسول اللَّه أولسنا إخوانك؟ قَالَ: "أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ". أخرجه مسلم وروى معناه من عدة طرق (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أحمد (1/ 379). وقال الهيثمي (1/ 4287): رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون. (¬2) رواه الطبري (10/ 4). (¬3) رواه الطيالسي (601) من طريق شعبة. (¬4) من "د". (¬5) "صحيح مسلم" (249).

وفي "معجم الطبراني" من حديث الأوزاعي، حدثني أسيد بن عبد الرحمن، حدثني صالح بن جبير، حدثني أبو جمعة -رضي اللَّه عنه- قال: تغدينا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ومعنا أبو عبيدة بن الجراح -رضي اللَّه عنه- فقلنا: يا رسول اللَّه أحد خير منا، أسلمنا معك وجاهدنا معك؟ قال: "نَعَمْ، قَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي" (¬1). وصالح بن جبير وثقه ابن معين وغيره، وقد رواه عنه أيضا معاوية بن صالح ولفظه: قلنا: يا رسول اللَّه هل من قوم أعظم منا أجرًا. . . وذكر بقيته كما تقدم. وفي حديث لأبي ثعلبة الخشني -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أيَّامَ الصَّبْرِ، لِلْعَامِلِ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: "لَا بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْكُمْ". رواه أبو داود والترمذي، وإسناده حسن (¬2). وروى الترمذي أيضًا من حديث حماد بن يحيى الأبح، عن ثابت البناني، عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُمَّتِي كَالْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَوْ آخِرُهُ" (¬3). وحماد بن يحيى وثقه ابن معين. قلنا: ذهب بعضهم إلى أنه لا يلزم من تفضيل مجموع القرن الأول على من بعده تفضيل كل فرد فرد من القرن الأول على كل فرد فرد ممن بعدهم، ورأوا أن في آخر الزمان من يكون أفضل من بعض آحاد الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وهذا اختيار ابن عبد البر والقرطبي للجمع بين هذه الاْحاديث، واستثنى ابن عبد البر أهل بدر والحديبية للتنصيص على فضلهم على كل هذه الأمة. والحق الذي ذهب إليه الأكثرون أن فضيلة صحبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والفوز برؤيته لا ¬

_ (¬1) "المعجم الكبير" (4/ 22 رقم 3573). (¬2) "سنن أبي داود" (4341)، "جامع الترمذي" (3058) وقال: حسن غريب. (¬3) "جامع الترمذي" (2869) وقال: حسن غريب.

يعدل بعمل، وأن من منحه اللَّه تعالى ذلك فهو أفضل ممن جاء بعده على الإطلاق لوجوه: أحدها: مشاهدة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وثانيها: فضيلة السبق إلى الإسلام. وثالثها: فضيلة الذب عن حضرته -صلى اللَّه عليه وسلم-. ورابعها: فضيلة الهجرة معه أو إليه أو النصرة له. وخامسها: ضبطهم الشريعة وحفظهم عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وسادسها: تبليغهم إياها إلى من بعدهم. وَسَابِعُهَا: السبق بالنفقة في أول الإسلام. وَثَامِنُهَا: أن كل فضل وخير وعلم وجهاد ومعروف عمل في هذه الشريعة إلى يوم القيامة فحظهم منه أجل ونوالهم منه أجزل؛ لأنهم سنوا سنن الخير وفتحوا أبوابه ونقلوا معالم الدين وتفاصيل الشريعة إلى من بعدهم. وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (¬1). وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأُجُورِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ تَبَعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا" (¬2). فهم مساهمون لجميع هذه الأمة في كل أجر يحصل لها إلى يوم القيامة مع ما اختصوا به مما تقدم ذكره. وأما الأحاديث التي ذكرت: فحديث: "وددت أني رأيت إخواني" لا يلزم منه أن يكونوا أفضل من أصحابه كيف والأخوة العامة كانت حاصلة أيضًا للصحابة -رضي اللَّه عنهم- بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬3)، وأيضًا فالصحبة فيها قدر زائد على الأخوة لما يوجد غالبًا بين ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1017) ضمن حديث من رواية جرير رضي اله عنه. (¬2) رواه مسلم (2674) من حديث أبي هريرة. (¬3) الحجرات: الآية 10.

الإخوة من العداوة بخلاف الصحبة. وأما قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "للعامل منهم أجر خمسين رجلًا منكم" فلا حجة فيه؛ لأنه لا يلزم من ثبوت زيادة الأجر في بعض الأعمال ثبوت الفضيلة المطلقة، وأيضًا فالأجر إنما يكون تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل الذي ترتب الأجر عليه لا في غيره من الأعمال، فيكون عمل المؤمن في آخر الزمان من قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك أرجح مما يترتب على مثل ذلك العمل من الصدر الأول. وأما الذي فاز به الصحابة -رضي اللَّه عنهم- من صحبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والجهاد بين يديه ونقل السنن عنه فإنه لا يتفق مثله لأحد ممن بعدهم قطعًا فلا يقع التفاضل فيه فيبقى لهم من غير مشاركة لهم في مثله وبه استقرت الفضيلة لهم على من بعدهم فهذا أسد ما يجاب عن هذا الحديث به. وحديث أبي جمعة لم تتفق الروايات فيه على لفظ: "هل أحد خير منا" بل قد تقدم رواية معاوية بن صالح له: "هل من قومٍ أعظم منا أجرًا" ومعاوية بن صالح أحفظ من أسيد بن عبد الرحمن فروايته أرجح، ويتأول الحديث على ما ذكرناه آنفا بالنسبة إلى بعض الأعمال التي يمكن وقوعها من الطائفتين دون ما اختص به الصدر الأول من الصحبة. وأما حديث: "أمتي كالمطر" فحماد بن يحيى الأبح وإن وثقه ابن معين فقد قال فيه أبو زرعة: ليس بالقوي (¬1). وذكره البخاري في باب الضعفاء وقال: يهم في الشيء بعد الشيء (¬2). وقال الجوزجاني: روى عن الزهري حديثًا معضلًا. وقال ابن عدي (¬3): بعض حديثه لا يتابع عليه، وذكر من جملة حديثه حديث ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل" (3/ 151). (¬2) "التاريخ الكبير" (3/ 24). (¬3) "الكامل" (2/ 247 رقم 421).

أنس هذا، وهو شاذ أو منكر لتفرد حماد بن يحيي به دون أصحاب ثاتب البناني ولا يحتمل منه مثل هذا التفرد. ثم على تقدير صحته فهو مأول على أن المؤمنين في آخر الزمان إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفتن والهرج وكثرة المعاصي؛ كانوا في ذلك غرباء فزكت أعمالهم في ذاك الزمان كما زكت أعمال أوائل الصحابة عند كثرة المشركين وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم، أو يكون ذلك إشارة إلى أيام نزول عيسى ابن مريم عليه السلام ومقامه بالأرض حيث تظهر البركات وينتشر العدل ويذهب الفساد في تلك الأيام وهي من أواخر أزمان هذه الأمة فلا يكون في ذلك تفضيل أهل ذلك العصر على الصدر الأول ولا مساواتهم بالنسبة إلى ما ذكرناه كيف والأحاديث الثابتة في تفضيل الصحابة على من بعدهم صريحة لا تحتمل التأويل وهي أصح وأكثر من هذه الأحاديث المحتملة، فلا تكون معارضة لها وباللَّه التوفيق. الْوَجْهُ الثَّالِث: الإجماع على ذلك ممن يعتدُّ به على أحد وجهين: إما على أنه لا اعتداد بأهل البدع في الإجماع والخلاف؛ فإنه لم يخالف في عدالة الصحابة -رضي اللَّه عنهم- حيث الجملة أحد من أهل السنة؛ وإنما الخلاف عن المعتزلة والخوارج وأمثالهم. وإما على أن ندرة المخالف مع كثرة المجمعين لا يمنع انعقاد الإجماع إن ثبت أن أحدًا من (غير) (¬1) أهل البدع خالف في ذلك والطريق الأولى أقوى ولا فرق بين من لابس الفتن من الصحابة ومن لم يلابسها. قال ابن الصلاح: أجمع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع على عدالتهم أيضًا إحسانًا للظن بهم ونظرًا إلى ما تمهد لهم من المآثر وكأن اللَّه تعالى أتاح الإجماع على ¬

_ (¬1) من "د".

ذلك لكونهم نقلة الشريعة (¬1). فهذا الوجه وحده كاف في رد قول المخالفين، واللَّه أعلم. الْوَجْهُ الرَّابِع: إنما يكتفى في التعديل بإخبار الواحد منا وتزكيته مع أنه لا يعلم إلا بعض الظواهر ومع عدم عصمته عن الكذب فكيف لا يكتفى بتزكية علام الغيوب الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وقد أحاط علمه بما سيقع منهم من الفتن والحروب وأنزل مدحهم والثناء عليهم قرآنًا يتلى مستمرًا ما بقيت الدنيا وذلك يقتضي أن الثناء عليهم ومدحهم وتعديلهم مستمرًّا لا يتغير، وكذلك أطلع نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- على ما يقع بينهم وأخبر بذلك: إما على وجه الأجماك كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ بَيْنَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ" (¬2) ونحو ذلك. أو تفصيلًا في بعض القضايا كمن أسر إليه ذلك كحذيفة -رضي اللَّه عنه-، ولم يكن ذلك مانعًا له -صلى اللَّه عليه وسلم- من الثناء على جميع الصحابة ووصفهم بأنهم خير القرون ونحو ذلك مما تقدم، هذا مع عصمته -صلى اللَّه عليه وسلم- عن وقوع الكذب في إخباره وبراءته عن المداهنة لأحد منهم، فكل هذا يقتضي أن ما وقع بينهم بعده -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يحط من رتبتهم شيئًا البتة. فأما قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث الحوض: "لَيُخْتَلَجُنَّ رِجَالٌ مِنْ دُونِي أَعْرِفْهُمْ فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فأَقُولُ سُحقًا"، وفي رواية: "فأقول كما قال العبد الصالح {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] الآية (¬3)؛ فإنه محمول على من ارتد بعده -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم مات على ذلك بدليل قوله: "فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ"وكذلك في الرواية الأخرى: "إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذْ فَارَقْتَهُمْ" الحديث وإلا فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد شهد للعشرة ¬

_ (¬1) "مقدمة ابن الصلاح" (ص 171). (¬2) رواه البخاري (1878)، ومسلم (2885) من حديث أسامة. (¬3) رواه البخاري (4625)، ومسلم (2860) من حديث ابن عباس.

-رضي اللَّه عنهم- بأنهم من أهل الجنة وقال: "لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ النَّارَ" (¬1)، ولما قال له [عبد] (¬2) حاطب وقد شكاه: ليدخلن حاطب النار، قال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَذَبْتَ إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" (¬3). وقد علم القتال الواقع بين علي وطلحة والزبير -رضي اللَّه عنهم- وأن كثيرًا من أهل بدر وبيعة الرضوان شهدوا الحروب في تلك الفتن مع قطع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لهم بأنهم لا يدخلون النار وشهادته للعشرة بأنهم في الجنة، وقد أخبر الزبير بما سيقع بينه وبين علي -رضي اللَّه عنهما- من القتال، فتعين أن يكون المراد بالذين يختلجون دونه أهل الردة. الْوَجْهُ الْخَامِس: أن من اشتهر بالإمامة في العلم والدين كمالك والسفيانين والشافعي والبخاري ومسلم وأمثالهم لا يحتاج إلى التعديل ولا البحث عن حاله بالاتفاق وهو عمل مستمر لا نزاع فيه؛ فالصحابة -رضي اللَّه عنهم- أولى بذلك لما تواتر عنهم واشتهر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والأولاد وقتل الأباء والأولاد والأقرباء والأهل ومفارقة الأوطان والأموال كل ذلك في موالاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ونصرته للَّه خالصًا، ثم ما كانوا عليه دائمًا من اشتدادهم في أمور الدين بحيث لا يأخذهم فيه لومة لائم ومواظبتهم على نشر العلم وفتح البلاد وتدويخ الأمصار، فياللَّه العجب كيف يداني أحدًا من هؤلاء من بعدهم فضلًا عن مساواتهم حتى إنه يحتاج الواحد منهم إلي الكشف عن حاله وتزكيته، أو يكون ما صدر عنه عن اجتهاد أو تأويل قادحًا في عدالته وحاطًّا له عن علو مرتبته العلية أن هذا القول الأعمى في البصيرة وتوصلًا إلى الطعن في الشريعة والقدح في الدين وإلقاء الشبه فيه ولذلك رد اللَّه تعالى كلام من ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4653)، والترمذي (3860) من حديث جابر، وقال الترمذي حسن صحيح. (¬2) ليست في الأصل. والمثبت من "جامع الترمذي". (¬3) رواه الترمذي (3864) من حديث جابر، وقال الترمذي: حسن صحيح.

تكلم فيهم على القادحين فكان ذلك سببًا لحط مرتبتهم ومقتضيًا لجرحهم وفسقهم، وللَّه الحمد والمنة. فهذه الأوجه الخمسة كل منها مقتضيى للقطع بعدالة الصحابة -رضي اللَّه عنهم- والأخير مختص بمن أكثر صحبته -صلى اللَّه عليه وسلم- وأقام معه مدة وهاجر معه أو إليه بخلاف الوجه الثاني؛ فإن من أحاديثه ما هو عام لكل من رآه ولو لحظة جيث يعد من الصحابة، بل ربما يقال بأنه شامل لكل من كان في عصره من المسلمين وإن لم تثبت له صحبة ولا رؤية، ولكن خرج هؤلاء بالإجماع على أنه لابد من معرفة عدالتهم بطريقها كمن بعدهم فتبقى فيمن تثبت له الصحبة أو الرؤية على عمومه، وباللَّه التوفيق. وأما المخالفون في هذا المقام فقد تعلقوا بقصص كثيرة مما طعن فيه بعض الصحابة على بعض ونقل منها بعض المصنفين قطعة كبيرة وهي منقسمة إلى: ما لايصح عنهم أصلًا. وإلى ما قد صح وله محامل صحيحة وتأويلات سائغة: كقول عائشة في زيد بن أرقم -رضي اللَّه عنهما-: أبلغوا زيدًا أنه قد أحبط جهاده مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا أن يتوب. وقول عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه- وقد قيل له: إن أبا محمد يزعم أن الوتر واجب، فقال: كذب أبو محمد. . . الحديث، وأبو محمد هذا من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. ونحو ذلك. فالأمر فيه بين والخطب هين؛ لسهولة تأويلها وأنها لا تعارض نصوص الكتاب والسنة المشهورة. وأما الذي أولع به أكثر أهل البدع وهو الفتن والحروب التي كانت بينهم فقطعوا على كل من قاتل عليًا -رضي اللَّه عنه- من أهل الجمل وصفين بالفسق، واستثنى بعضهم من ذلك عائشة وطلحة والزبير -رضي اللَّه عنهم- قال: لأنهم تابوا من ذلك دون معاوية ومن كان معه، ولهم في ذلك أقوال كثيرة تقدم بعضها ويقشعر القلب من سماعها، ثم يعضدون ذلك بما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من تحريم الدماء وذكر ما يترتب على سفكها. ولأهل السنة عن ذلك أجوبة كثيرة مجملة ومفصلة، وحاصل الإجمالية يرجع إلى وجهين:

أحدهما: إن ذلك كان من كل منهم بناء على الاجتهاد منه ني ذلك والتأويل المسوغ له للإقدام عليه ومع هذا فلا يكون شيء من ذلك قادحًا في عدالتهم؛ لأن جميع تلك الوقائع إن كانت مما يسوغ فيه الاجتهاد فظاهر لأنه حينئذ إن قلنا: إن كل مجتهد مصيب؛ فلا يتوجه تخطيئه إلى أحد من الفريقين، وإن قلنا: المصيب واحد والثاني مخطئ فالمخطئ في اجتهاده معذور غير آثم؛ فلا يخرجه خطؤه عن العدالة، وإن لم يكن ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد فالمخطئ كان متأولًا فيما فعله وإن كان تأوله خطأ فلا يخرج بذلك عن العدالة كيف وإن عدالته ثابتة بما تقدم من الأدلة القطعية فيستصحب ولا يزال بالشك والوهم لاسيما مع ما تقدم من ثناء اللَّه تعالى عليهم ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- مع العلم بما يصدر منهم. ومما يؤيد أن ذلك من المجتهد فيه: قعود جماعة من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- عن الكون مع أحد الفريقين كسعد بن أبي وقاص وعبد اللَّه بن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم؛ لأنه خفي عليهم الأمر، وروي أن عليًا -رضي اللَّه عنه- دعا سعد بن أبي وقاص إلى أن يكون معه فقال له: أعطني سيفًا يعرف الحق من الباطل أو قال: المحق من المبطل. وكان علي -رضي اللَّه عنه- مع أن الحق معه يغبط سعدًا -رضي اللَّه عنه- بذلك فكان يقول: للَّه در منزل نزله سعد بن مالك إن كان ذنبًا فذنب صغير وإن كان أجرًا فأجر عظيم. وقال علي -رضي اللَّه عنه- أيضًا غير ما مرة: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير يوم القيامة ممن قال اللَّه تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (¬1). والآثار في ذلك كثيرة معروفة في كتب أهل التاريخ. الوجه الثاني: إن كل ما قدح به المبتدعة في الصحابة الذين أسقطوا عدالتهم يتصور عليهم مثله في الصحابة الذين لم يقدحوا في عدالتهم؛ فإن تأولوا أفعال من وافقوا على عدالته وحسنوا لهم المخارج في أمورهم كانوا مقابلين بمثله فيمن خالفونا في عدالته ولا يجدون فارقًا قاطعًا بين الطائفتين بالنسبة إلى انقداح التأويل ¬

_ (¬1) الحجر: الآية 47.

وإحسان الظن بهم وانسداد ذلك في حق الجميع، وحينئذ يؤدي إلى أحد أمرين لابد منهما: إما التأويل وإحسان الظن في حق الجميع وهو المطلوب. وإما إسقاط عدالة الجميع وذلك أمر عظيم خارق للإجماع القطعي؛ فإن الأمة كلها ممن يعتبر بأقوالهم أجمعوا على أنه لا يصح إسقاط عدالة جميع الصحابة كيف وإن ذلك يؤدي إلى هدم الدين وإزالة ما بأيدينا من أمور الشريعة معاذ اللَّه من ذلك. وأما من تقدمت الحكاية عنه بأن كل من لابس الفتن فهو ساقط العدالة فهو قول باطل ممن لا يعتد به ونظيره إكفار الخوارج كل الفئتين فلا يرجع هذا القول إلا على قائله ونسأل اللَّه السلامة من الأهواء المضلة. فإن قيل: وإن أنتم تأولتم فإن تأويلكم لا يزيح الشك في أفعالهم، والشك في أفعالهم يلزم منه الشك في عدالتهم. قلنا: الإجماع الذي حكيناه من إمتناع إسقاط عدالة جميع الصحابة حجة قاطعة في أن هذا الشك غير مؤثر، فإذا انضم ذلك إلى ما تقدم من الأدلة الدالة على عدالتهم واستصحبنا ذلك في كل فرد منهم كان هذا الشك مندفعًا كيف ونحن إنما نتأول تأويلًا في كل قصة هو الظاهر المستفاد ظهوره منها كما سيأتي بيان بعضه إن شاء اللَّه تعالى قريبًا وهذا أمر معمول به أعني استصحاب العدالة وأنها لا ترتفع بالشك في حق من تثبت عدالته بشاهدين وشهادتهما لم تفد إلا الظن المجرد بجريان ذلك في حق من هو مقطوع بعدالته بتعديل اللَّه تعالى ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- بطريق الأولى وبهذا يتبين أنه ليس المعني بعدالة كل واحد من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- أن العصمة له ثابتة والمعصية عليه مستحيلة ولكن المعني بهذا أن روايته مقبولة وقوله مصدق ولا يحتاج إلى تزكية كما يحتاج غيره إليها لأن استصحاب الحال لا يفيد إلا ذلك. هذا ما يتعلق بالطريق الإجمالي. وأما التفصيلي فلأئمتنا المتقدمين فيه مصنفات مستقلة ويطول الكلام به هنا إن تعرضنا للجميع ولكن نشير إلى فصل موجز يتعلق بوقعة الجمل لندفع به الطعن عن مثل طلحة والزبير وعائشة -رضي اللَّه عنهم- ويكون ذلك مثالًا لغيره: وهو أن المصيبة بعثمان -رضي اللَّه عنه- كانت عظيمة ولم يكن خطر ببال علي ولا غيره من

الصحابة -رضي اللَّه عنهم- أنه يقتل ولكن ظنوا أن الخوارج الذين حاصروه أعتبوه في شيء وأن الأمر يؤدي إلى تسكين وسلامة، فلما وقع قتله بغتة كان منكرًا مهولًا ولم يكن في قتلته بحمد اللَّه أحد ممن تثبت الصحبة له كما تقدم فأعجل الأمر الصحابة -رضي اللَّه عنهم- عن القيام على قاتليه بغتة لشوكتهم حينئذ ورأوا المبادرة إلى نصب إمام يجمع الكلمة أولى ولم يكن بدٌّ من مبايعة علي -رضي اللَّه عنه- لأنه حينئذ كان أفضل الموجودين بالاتفاق وأحقهم بالإمامة لسابقته وفضله وشجاعته وغير ذلك، فاجتمعوا عليه وبايعوه وتخلف عنه أهل الشام فلم تجتمع الكلمة عليه ولا انتظم الأمر انتظامًا تامًا يتمكن به علي -رضي اللَّه عنه- من الإقادة بدم عثمان -رضي اللَّه عنه- من قاتليه وقد انضموا إليه فلو أقاد من أحدهم لنفرت بذلك قبائلهم كلها وكثرت الفتن وزاد الهرج، فرأى علي -رضي اللَّه عنه- أن يؤخر ذلك إلى أن تجتمع الكلمة ويتمكن من إقامة الحق من غير فتنة، ورأى طلحة والزبير ومن قام معهما أنهم قد وقعوا في أمر عظيم من خذلان عثمان -رضي اللَّه عنه- والسكوت عنه إلى أن قتل وأن ذلك لا يمحوه إلا القيام على قاتليه وطلب الإقادة منهم ولم يكن عندهم ما رآه علي -رضي اللَّه عنه- من خوف زيادة الفتنة من قبائلهم مانعًا من المبادرة إلى الطلب بدم عثمان، فوقع ما قدره اللَّه تعالى مع اجتهاد كل من الطائفتين ليقضى اللَّه أمرًا كان مفعولًا قدر وقوعه في الأزل وإن كان اجتهاد علي -رضي اللَّه عنه- أقرب إلى الحق وأن أكثر من قام مع طلحة والزبير ممن ليست له صحبة لم يكن مقصده باطنًا الاجتهاد الذي هو ماخذ طلحة والزبير بدليل أن مروان بن الحكم كان من جملة من معهما وهو الذي باشر قتل طلحة -رضي اللَّه عنه-. فالمقصود أن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- إنما قاموا مجتهدين فيما فعلوه والإثم منحط عن المجتهد إذا استفرغ جهده لا فرق فيه بين الدماء وغيرها وذلك يرفع سمة النقص والغض عن أكابر الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. وبسط الكلام يطول به المقام ويخرج عن المقصود وفي جميع ما تقدم كفاية لمن نور اللَّه قلبه ولم يمل به الهوى إلى الانحراف، وباللَّه التوفيق. وأما معاوية -رضي اللَّه عنه- وإن كانت فئته باغية على علي -رضي اللَّه عنه- بنص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ قال:

"تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" (¬1)؛ فقد علم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بما أطلعه اللَّه عليه أن معاوية سيملك وقال له: "إِنْ مَلَكْتَ فَاعْدِلْ" (¬2)، وعلم أيضًا ببغيه في قتال علي -رضي اللَّه عنه- ومع ذلك دعا له في الحديث الذي رواه يونس بن سيف، عن الحارث بن زياد، عن أبي رهم السمعي، عن العرباض بن سارية -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "اللَّهُمَّ عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ، وَقِهِ الْعَذَابَ" (¬3). وقد ثبت عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أنه صدق معاوية في الوتر بركعة واحدة وقال: أصاب إنه فقيه (¬4). وروي عنه أنه قصر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمشقص (¬5). وكذلك روى أيضًا عن معاوية: جرير بن عبد اللَّه البجلي، وأبو سعيد الخدري، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وعبد اللَّه بن الزبير، ومعاوية بن خديج، والسائب ابن يزيد، وجماعة غيرهم من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وكل ذلك بعد ما وقع منه من قتال علي -رضي اللَّه عنه-. واتفق أئمة التابعين بعدهم على الرواية عنه وقبول ما رواه هو وعمرو بن العاص وكل من قام معهما في الفتنة فكان ذلك إجماعًا سابقًا على قول من قدح فيهم، حتى إن جعفر بن محمد بن علي روى عن القاسم بن محمد عن معاوية حديثًا وقال محمد بن سيرين: كان معاوية -رضي اللَّه عنه- لا يتهم في الحديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال الإمام أبو بكر البيهقي: كل من روى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ممن صحبه أو لقيه فهو ثقة لم يتهمه أحد ممن يحسن علم الرواية فيما روى. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (447)، ومسلم (2916). (¬2) رواه أحمد (4/ 101). (¬3) رواه أحمد (4/ 127) من طريق يونس بن سيف. قال الهيثمي (9/ 594): وفيه الحارث بن زياد ولم أجد من وثقه ولم يرو عنه غير يونس بن سيف وبقية رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف. (¬4) رواه البخاري (3765). (¬5) رواه البخاري (1730)، ومسلم (1246).

ومما يتصل بذلك أيضًا الكلام في سمرة بن جندب -رضي اللَّه عنه- فقد تعرض إليه بعضهم لما روي أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له ولأبي هريرة وآخر كان معهما في بيت: "آخركم موتًا في النار" وكان آخرهم موتًا سمرة؛ ولأنه ولي البصرة لزياد بن أمية ثم لمعاوية أيضًا وكان يكثر القتل. وقد روى شعبة عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة -رضي اللَّه عنه- أنه قال: حفظت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سكتتين في الصلاة. . . الحديث، وأن عمران بن حصين أنكر ذلك فكتبوا في ذلك إلي أبي بن كعب فكتب بصدق سمرة ويقول: إن سمرة حفظ الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وروى عاصم بن سليمان، عن محمد بن سيرين؛ أن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أمر الناس بزكاة الفطر فأنكروا ذلك عليه فأرسل إلي سمرة بن حندب فقال: أما علمت أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بها؟ قال: بلى. قال: فما منعك أن تعلم أهل البلدة. فلو لم يكن سمرة عند ابن عباس بالمحل الأعلى لما سأله واستشهد به. وقال عبد اللَّه بن صبيح، عن محمد بن سيرين قال: كان سمرة فيما علمت عظيم الأمانة، صدوق الحديث، يحب الإسلام وأهله. وأما حديث: "آخِرُكُمْ مَوْتًا فِي النَّارِ" فقد وقع مصداقه بأن سمرة -رضي اللَّه عنه- أصابه في آخر عمره كزاز فكان يعالج منه بأن يغلى له قدر مملوء ماءً حارًّا يقعد عليها يستدفئ ببخارها فسقط فيها وهي أشد ما تكون حرارة فمات؛ فلم يكن مراده -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا نار الدنيا. وأما قتله الناس فإنما كان يقتل الخوارج المارقين الذين أكفروا الصحابة وقاتلوا الناس ولم يكن يقتل أحدًا منهم إذا ظفر به -رضي اللَّه عنه-. وقد ذكر جماعة من أئمة الأصول في هذا الموضع قصة أبي بكرة ومن جلده عمر ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (777، 779)، وابن ماجه (845).

فصل

-رضي اللَّه عنه- معه في قذف المغيرة بن شعبة، وأن ذلك لم يقدح في عدالتهم؛ لأنهم إنما أخرجوا ذلك مخرج الشهادة ولم يخرجوا مخرج القذف، وجلدهم عمر -رضي اللَّه عنه- باجتهاده؛ فلا يجوز رد أخبارهم بل هي كغيرها من أخبار بقية الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. فَصْلٌ والذي نختم به الكتاب في هذا المعنى أمر مهم أولع به الحنفية في كتبهم ومناظراتهم يفضي إلى خلل عظيم في الإسلام وذلك يتعلق بأمرين: أحدهما: في حق أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- على الخصوص وأن التهمة تطرقت إلى رواياته لكثرة ما روى، ولأنه أنكر عليه جماعة من الصحابة. والثاني: فيما يتعلق بأخبار من ليس من فقهاء الصحابة وإنما يقدم عليها القياس عند المعارضة ويكون التأويل (¬1) متطرقًا إليها بخلاف أخبار الفقهاء منهم، وجعلوا هذين الأمرين عمدة لهم في رد كثير من الأحاديث التي صحت على خلاف مذهبهم، واللَّه الموعد، كما ثبت هذا اللفظ عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- لما قيل له: إنه يكثر الأحاديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقد بالغ بعضهم حتى حكى أبو الحسين بن القطان من أصحابنا عن عيسى بن أبان أنه نقل عن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يخرج من أمتي ثلاثون دجالًا. . . " الحديث. وأن عليًّا قال: أنا أشهد أن أبا هريرة منهم، ونقله عن ابن أبان جماعة من غلاة الحنفية ولكن أبو بكر الرازي منهم أنكر هذا عن عيسى بن أبان وقال: هو كذب على عيسى ووضعه من لا يرجع إلى دين ولا مروءة ولا يتحاشى من الكذب في التثبت. والذي نقله الرازي عن ابن أبان أنه قال: يقبل من حديث أبي هريرة ما لم يرده القياس ولم يخالف نظائره من السنة المعروفة إلا أن يكون شيء من ذلك قبله الصحابة والتابعون؛ وذلك لكثرة ما أنكر الناس من حديثه وشكهم في أشياء من روايته. ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهت نسخة دار الكتب.

قال إبراهيم النخعي: كانوا لا يأخذون من حديث أبي هريرة إلا ما كان في ذكر الجنة والنار، ولم يقبل ابن عباس روايته في الوضوء مما مسمت النار وقال: أنتوضأ بالحميم وقد أغلي على النار؟ فقال له أبو هريرة: يا ابن أخي إذا جاءك الحديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فلا تضرب له الأمثال (¬1). قال عيسى بن أبان: فلم يرد ابن عباس رواية أبي هريرة لمعارض لها عنده -يعني نسخ الوضوء مما مست النار- وإنما ردها بالقياس. وكانت عائشة -رضي اللَّه عنها- تمشي في الخف الواحد وتقول: لأخشن أبا هريرة، يعني في روايته المنع من ذلك. وأنكرت عليه أيضًا حديث: "وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ" (¬2)، وعارضته بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. وقالت لابن أخيها: لا تعجب من هذا وكثرة حديثه إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يحدث حديثًا لو عده العاد لأحصاه (¬3). قال: وقد أنكر ابن عمرو وغيره من الصحابة عليه كثرة حديثه ولم يأخذوا بكثير من رواياته حتى يسألوا غيره. وقال أبو بكر الرازي بعد سياقه هذا الكلام. لم يظهر من الصحابة من التثبت في حديث غير أبي هريرة مثل ما ظهر منهم في حديثه؛ فدل ذلك على أنه متى غلط الراوي وظهر من السلف التثبت في روايته كان ذلك مسوغًا للاجتهاد في مقابلته بالقياس وشواهد الأصول، ثم ذكر أن عمر -رضي اللَّه عنه- قال لأبي هريرة لما بلغه أنه يروي عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أشياء لا تعرف: لئن لم تكف عن هذا لألحقنك بجبال دوس. ثم ذكر الرازي حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَنْ يَبْسُطُ رِدَاءَهُ ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (79)، وابن ماجه (485). (¬2) رواه الترمذي (3963). (¬3) رواه البخاري (3568)، ومسلم (2493).

حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي، ثُمَّ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ، فَلَا يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي؟ ". قال أبو هريرة: فبسطت نمرة كانت علي حتى قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مقالته فما نسيت شيئًا سمعته منه (¬1). وأجاب عن ذلك بأن هذا لو كان كذلك لكانت هذه فضيلة اختص بها من بين الصحابة ولعرفوا له ذلك واشتهر بها حتى كانوا يرجعون إليه ويقدمون روايته على رواية غيره، ولم يقع ذلك، بل كانوا ينكرون كثرة روايته. وأيضًا كيف يكون ذلك وقد روى حديث: "لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ" (¬2) ثم نسيه، وروى حديث "لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ" (¬3) وأنكر أن يكون حديثًا بالخبر الأول. قال: على أنه لو صح الحديث في بسطه النمرة لكان محمولًا على ما سمعه في ذلك المجلس خاصة دون غيره، ثم ذكر بعد ذلك توقي من توقى من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- في الرواية وتقليلهم منها. قال: وهذا يدل على أن كثيرًا من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- أشفقوا على حديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أن يدخله خلل أو وهم، وإذا كان السهو والغلط جائزين على الرواة ثم ظهر من السلف إنكار لكثرة الرواية على بعضهم كان ذلك سببًا لاستعمال الرأي والاجتهاد فيما يرويه وعرضه على الأصول والنظائر. وهذا الفصل كما تراه ظاهر الضعف مقتض لرد كثير من السنة الثابتة لمجرد الظن الفاسد، وليس في شيء مما ذكروه ما يقتضي توقفًا في حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- ولا تطرق تهمة إليه، معاذ اللَّه من ذلك، أنى وقد شهد له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالحرص على الحديث لما قال له: من أسعد الناس بشفاعتك؟ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنْ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا أَحَدٌ قَبْلَكَ لَمَا رَأَيْتُ مِنَ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ". ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2047). (¬2) رواه البخاري (5707)، ومسلم (2220). (¬3) رواه البخاري (5771)، ومسلم (2221).

أخرجه البخاري (¬1). وروى في كتاب "التاريخ" له من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن مالك بن أبي عامر قال: كنت عند طلحة بن عبيد اللَّه -رضي اللَّه عنه- فدخل عليه رجل فقال: يا أبا محمد واللَّه ما ندري أهذا اليماني يعني أبا هريرة -أعلم برسول منكم أو هو يقول على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ما لم يقل؟ فقال: واللَّه ما نشك أنه قد سمع من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما لم نسمع وعلم ما لم نعلم، إنا كنا أغنياء لنا بيوتات وأهلون وكنا نأتي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- طرفي النهار ثم نرجع وكان مسكينا لا مال له ولا أهل، يده مع يد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فكان يدور معه حيثما دار فما نشك أنه قد علم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع، ولن نجد أحدًا فيه خير يقول على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما لم يقل (¬2). وروى حفص بن غياث، عن أشعث، عن مولى لطلحة قال: كان أبو هريرة جالسًا في مسجد الكوفة فمر رجل بطلحة -رضي اللَّه عنه- فقال: قد أكثر أبو هريرة. فقال طلحة: قد سمعنا كما سمع ولكنه حفظ ونسينا. وفي "تاريخ البخاري" أيضًا من طريق إسماعيل بن أمية، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن أبيه، أن رجلًا جاء إلى زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- فسأله عن شيء فقال: عليك بأبي هريرة فإنا بتنا أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد فخرج علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ونحن ندعوا اللَّه فجلس إلينا فسكتنا فقال: "عودوا للذي كنتم فيه". قال: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة فجعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يؤمن على دعائنا ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك ما سألك صاحباي هذان وأسألك علما لا ينسى. فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "آمين"، فقلنا: يا رسول اللَّه ونحن نسألك علما لا ينسى، قال: "سبقكما بها الغلام الدوسي". ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (99). (¬2) "التاريخ الكبير" (6/ 132).

وروى هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن ابن عمر، أنه مر بأبي هريرة -رضي اللَّه عنه- وهو يحدث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حديث من تبع جنازة فقال: أنشدك اللَّه يا أبا هريرة أسمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول هذا؟ قال: اللهم نعم، لم يكن يشغلني عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غرس الودي ولا صفق بالأسواق لقد كنت أطلب من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلمة يعلمنيها أو أكلة يطعمنيها. فقال ابن عمر: يا أبا هريرة قد كنت ألزمنا لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأعلمنا بحديثه (¬1). وهذا إسناد صحيح، وأصل القصة في "صحيح مسلم" (¬2)، وفيه أن ابن عمر قال حينئذ: لقد فرطنا في قراريط كثيرة. وقال ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم، أنه قعد في مجلس فيه أبو هريرة وفيه مشيخة من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كثير بضعة عشر رجلًا فجعل أبو هريرة يحدثهم عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الحديث فلا يعرفه بعضهم ثم يتراجعون فيه فيعرفه بعضهم، ثم يحدثهم الحديث فلا يعرفه بعضهم ثم يعرفه، حتى فعل ذلك مرارا. قال: فعرفت يومئذ أن أبا هريرة أحفظ الناس عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. رواه البخاري في "تاريخه" (¬3) أيضًا. وقال شعبة، عن أشعث بن سليم، عن أبيه قال: قدمت المدينة فإذا أبو أيوب يحدث عن أبي هريرة، فقلت: تحدث عن رجل وقد كنت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فقال: إنه قد سمع؛ ولأن أحدث عنه أحب إلي من أن أحدث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قلت: وممن روى عنه أيضًا من الصحابة: عبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن عمر، وجابر بن عبد اللَّه، وأنس بن مالك، وواثلة بن الأسقع، وأبو أمامة سهل بن حنيف. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (2/ 2)، وعبد الرزاق (6270) عن هشيم. (¬2) "صحيح مسلم" (945)، وكذا البخاري (1324). (¬3) "التاريخ الكبير" (1/ 186).

قال البخاري: روى عنه نحو ثمانمائة نفس من صاحب وتابع من أهل العلم. وهذا يقتضي إجماع الأمة كلها على قبول روايته وعدم التوقف فيها. قال أبو صالح: كان أبو هريرة -رضي اللَّه عنه- من أحفظ أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يكن بأفضلهم. وقال حماد بن زيد: ثنا عمرو بن عبيد الأنصاري قال: ثنا أبو الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم، أن مروان بن الحكم دعا أبا هريرة فأقعدني خلف السرير فجعل يسأله وجعلت أكتب حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به فأقعده وراء الحجاب فجعل يسأله عن ذلك الكتاب فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخر (¬1). قلت: وهذا كله نتيجة بسط ردائه الذي أشار إليه أبو بكر الرازي وفي كلامه ما يقتضي تضعيفه وليس كما ذكر؛ لأنه ثابت في "الصحيحين"، وفي بعض طرقه الثابتة قال: حضرت من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مجلسًا فقال: "مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضْهُ إِلَيْهِ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي". فبسطت بردة علي حتى قضى حديثه ثم قبضتها إلي، فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئًا بعده سمعته منه. أخرجاه في "الصحيحين" (¬2) من طريق ابن عيينة عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة، ورواه البخاري أيضًا من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قلت: يا رسول اللَّه إني أسمع منك حديثًا كثيرًا فأنساه. قال: "ابسط رداءك" فبسطته فغرف بيديه، ثم قال: "ضمه"، فضممته فما نسيت حديثًا قط (¬3). فهاتان الروايتان مصرحة بأن عدم نسيانه لم يكن مختصًّا بما قاله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذلك المجلس بل هو شامل لجميع ما سمعه منه في ذلك المجلس وغيره. ¬

_ (¬1) رواه الحاكم (3/ 583). (¬2) "صحيح البخاري" (7354)، "صحيح مسلم" (2492). (¬3) "صحيح البخاري" (119).

وقول الرازي: لو كان كذلك لاشتهر به بين سائر الصحابة ولم يتثبت في حديثه، يقال عليه أنه غير لازم؛ لأن القضية لم تكن بحضور جمع يسمع الحديث منهم ولم يعرف ذلك إلا من جهته، وقد شهدوا له بالحفظ كما تقدم عن جماعة منهم ولم يتثبت أحد منهم في حديثه، ولو وقع في بعض ذلك شيء من واحد منهم كان على وجه الاحتياط كما فى قصة أبي بكر -رضي اللَّه عنه- مع المغيرة فى ميراث الجدة. وقصة عمر -رضي اللَّه عنه- مع أبي موسى في الاستئذان ثلاثًا ولا يلزم من ذلك تطرق ريبة اليهما، وكذلك فعل ابن عمر في حديث أبي هريرة في اتباع الجنازة وقد سلم له أنه كان يلزم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ويغيبون في أشغالهم. وأما قول عمر -رضي اللَّه عنه-: لألحقنك بجبال دوس، فلم يثبت عنه. وقد ولاه عمر -رضي اللَّه عنه- البحرين مع عدم مداهنته. وقال له عثمان -رضي اللَّه عنه-: حفظ اللَّه عليك دينك كما حفظت علينا ديننا. وإنما عمر -رضي اللَّه عنه- كان يحب إقلال الرواية عن النبي -رضي اللَّه عنه- ويوصي بذلك كثيرًا من الصحابة أخذًا بالتوقي والاحتياط وحذرًا من زيادة أو نقصان يقعان من الراوي وهو لا يشعر، والروايات عنه بذلك ثابتة، فلم يكن ذلك مختصًّا بأبي هريرة دون غيره. وأما نقض الرازي ذلك بنسيانه حديث: "لا عدوى" فلا يلزم؛ لأنه لم يصرح بأنه نسيه، وربما كتمه في ذلك الوقت لمصلحة رآها في الحاضرين يومئذ، ولو سلم أنه نسيه فلا يلزم منه دوام نسيانه بل ربما تذكره بعد ذلك. وفي إجماع العلماء كافة على قبول قول أبي هريرة وتلقيه منه غنية ورد على ابن أبان ومن تبعه في رأيه، واللَّه ولي التوفيق. وأما الكلام في أفراد الصحابة الذين لم يشتهروا بالعلم وأن حديثهم لا يقبل منه إلا ما وافق القياس فهو كما تقدم في الضعف، وعلى خلاف ما كان عليه الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. فقد ثبت عن ابن عباس أن عمر -رضي اللَّه عنه- سأل عن إملاص المرأة فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في جنينها بغرة. . . الحديث.

رواه أبو داود والنسائي، وصححه الحاكم (¬1). وأخرجوا أيضًا (¬2) بسند صحيح أن عمر -رضي اللَّه عنه- كان يقول: الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئًا، حتى قال له الضحاك بن سفيان أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كتب إليه أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع عمر -رضي اللَّه عنه- إليه. وصححه ابن حبان أيضا. ولما أفتى ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- باجتهاده أن المفوضة إذا مات عنها زوجها قبل الدخول لها مهر المثل والميراث، وقام معقل بن سنان الأشجعي -رضي اللَّه عنه- فأخبره أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمثل ذلك في بروع بنت واشق؛ فرح به ابن مسعود كثيرًا ولولا قبول روايته لم يفرض به. وكل هذه الأمور على خلاف القياس، والصحابة الرواة لها لم يشتهروا بالقصة بل ولا بطول الصحبة فليس لما قالوه وجه مع قبول الصحابة -رضي اللَّه عنهم- ذلك. وأيضًا إذا كان الصحابي عدلًا مأمونًا فلا فرق فيما رواه بين ما يوافق القياس وما يخالفه، وإن كانت التهمة تتطرق إليه فيما يخالف القياس فهي متطرقة إلى ما يوافقه أيضًا ويكون حكمه حكم سائر الرواة من غير الصحابة ممن يتهم بسوء الحفظ وقلة الأتقان، معاذ اللَّه من ذلك. ولا ريب في أن فتح هذا الباب في الصحابة يشوش الشريعة، ويدخل الشك في السنن، ويطرق أهل البدع كالرافضة وغيرهم إلى القدح في الدين والتشكيك فيه والتلبيس على ضعفاء المؤمنين، وكل مقالة أدت إلى هذه المفاسد فهي فاسدة، لاسيما والإجماع العملي منعقد قبل قائلها وهي غنية عن الإطالة في ردها، واللَّه ولي التوفيق. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (4572)، "المستدرك" (3/ 666). (¬2) "سنن أبي داود" (2927)، "جامع الترمذي" (1415)، "سنن ابن ماجه" (2642).

رفع الإشكال عن حديث صيام ستة أيام من شوال

رَفْعُ الْإِشْكَالِ عَنْ حَدِيثِ صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّال

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين المبعوث رحمةً للعالمين، صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. وبعد: فهذه رسالة للحافظ العلائي رحمه اللَّه في الكلام عن حديث صيام الست من شوال، والذي دفعه للكلام عليه وتصنيف هذه الرسالة ما وقف عليه من تضعيف أبي الخطاب بن دحية رحمه اللَّه لهذا الحديث، قال العلائي في مقدمة رسالته: فقد وقفت على كلام ذكره الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية رحمه اللَّه في كتابه المسمى بـ "العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور" يتضمن الطعن في حديث: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّال" بتضعيف طرقه كلها وأنه لا يصح منها شيء إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاستعنت باللَّه تعالى وذكرت في هذه الأوراق ما قدر لي ذكره من الكلام على طرق هذا الحديث والجواب عن كلام أبي الخطاب بن دحية رحمه اللَّه تعالى واللَّه تعالى الموفق للصواب. وقد حوت هذه الرسالة فوائد كثيرة منها: رده على كلام ابن دحية وبيان وهمه في ذلك، وأيضًا فقد جمع الحافظ العلائي طرق الحديث وتكلم عليها، كما أنه تكلم عن الرجال جرحًا وتعديلًا وذكر كلام أهل الشأن في ذلك، إلى غير ذلك من الفوائد التي حوتها هذه الرسالة، واللَّه الموفق للصواب.

وصف النسخة الخطية

وصف النسخة الخطية اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسخة خطية لم أظفر بغيرها: وهي النسخة الخطية المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (135) مجاميع، وهي نسخة جيدة بها بعض التحريف والتصحيف لم أعلق على ما بعضه. - اسم الناسخ: غير معروف. - نوع النسخ: نسخ معتاد. - عدد الأوراق: 13 ورقة. توثيق الكتاب: وُجِدَ على طرة النسخة الخطية نسبة هذه الرسالة للإمام العلائي. نسبها له صاحب "هدية العارفين" (1/ 185).

طرة النسخة الخطية

الورقة الأولى من النسخة الخطية

الورقة الأخيرة من النسخة الخطية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وما توفيقي إلا باللَّه عليه توكلت الحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فقد وقفت على كلام ذكره الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية رحمه اللَّه في كتابه المسمى بـ "العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور" يتضمن الطعن في حديث: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتًّا من شَوَّالٍ" بتضعيف طرقه كلها وأنه لا يصح منها شيء إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاستعنت باللَّه تعالى وذكرت في هذه الأوراق ما قدر لي ذكره من الكلام على طرق هذا الحديث والجواب عن كلام أبي الخطاب بن دحية رحمه اللَّه تعالى واللَّه تعالى الموفق للصواب. وقد روي هذا الحديث من رواية أبي أيوب الأنصاري خالد بن زيد، وثوبان مولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشداد بن أوس، وأبي هريرة، وجابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهم- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. أما حديث أبي أيوب فرواه سعد بن سعيد بن قيس الأنصاري، عن عمر بن ثابت الخزرجي، عن أبي أيوب -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ". وهذا الحديث هو أصح ما في الباب، أخرجه مسلم في "صحيحه" (¬1) من حديث إسماعيل بن جعفر وعبد اللَّه بن المبارك الإمام وعبد اللَّه بن نمير، ثلاثتهم عن سعد بن سعيد به. وأخرجه الأئمة الأربعة أصحاب السنن من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي، وأبي معاوية الضرير، وورقاء بن عمر اليشكري، ومحمد بن ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (1164).

عمرو بن علقمة، كلهم عن سعد بن سعيد به (¬1). وكذلك رواه عبد الملك بن جريج (¬2)، وسفيان الثوري (¬3) , وعمرو بن الحارث (¬4)، ومحاضر بن المورع (¬5)، وداود بن قيس الفراء (¬6)، وروح بن القاسم (¬7)، وقرة بن عبد الرحمن (¬8)، وعمر بن علي المقدمي (¬9)، كلهم عن سعد بن سعيد. فهؤلاء خمسة عشرة نفسًا من الثقات رووه عن سعد بن سعيد. قال أبو الخطاب بن دحية رحمه اللَّه: هذا حديث لا يصح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنه يدور على سعد بن سعيد وهو ضعيف جدًّا تركه مالك وأنكر عليه هذا الحديث وأخذ عن أخويه الإمامين يحيى بن سعيد القاضي وعبد ربه بن سعيد. . . ثم ذكر ما نقل عن مالك في "الموطأ" من ترك العمل بالحديث (¬10). وقال الترمذي: تكلموا فيه من قبل حفظه (¬11). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (رقم 2433) من حديث عبد العزيز بن محمد عن صفوان بن سليم وسعد بن سعيد، والترمذي (759) من طريق أبي معاوية، والنسائي في "السنن الكبرى" (رقم 2862) من طريق محمد بن عمرو، (رقم 2863) من طريق الدراوردي عن صفوان بن سليم وسعد بن سعيد، (رقم 2864) من حديث ورقاء، وابن ماجه (1716) من طريق عبد اللَّه بن نمير عن سعد بن سعيد. (¬2) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (4/ 134 رقم 3902). (¬3) أخرجه الحميدي (380). (¬4) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (4/ 135 رقم 3908، 3910). (¬5) رواه عبد بن حميد (228). (¬6) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (4/ 134 رقم 3902). (¬7) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (4/ 135 رقم 3907). (¬8) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (4/ 135 رقم 3908، 3910). (¬9) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (4/ 135 رقم 3909). (¬10) "الموطأ" (1/ 365 - باب جامع الصيام). (¬11) "جامع الترمذي" (3/ 132).

وقال النسائي: ليس بالقوي (¬1). وقال أبو حاتم محمد بن حبان الحافظ: لا يجوز الاحتجاج بحديث سعد بن سعيد. قلت: وقد قال فيه يحيى بن معين: هو صالح (¬2). قال: فالإمام أحمد يقدم عليه. قال عبد اللَّه بن أحمد بن شبويه: سمعت أبا زرعة يقول: لم أزل أسمع الناس يذكرون أحمد بن حنبل ويقدمونه على يحيى بن معين وعلى أبي خيثمة. والجرح عند الفقهاء مقدم على التعديل مع اجتماع هؤلاء على ضعفه، وكذلك أعرض عنه البخاري ولم يخرجه في "صحيحه"، والمانع من العمل بالخبر ثلاثة معان: - الفسق؛ لقوله عَزَّ وَجَلَّ {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} (¬3). - أو كثرة الغفلة والإتيان بالمناكير. - أو أن يكون مجهولًا، وهو أن لا يعرف حال الراوي في عدالته وإن عرف اسمه ونسبه. انتهى كلامه. والجواب عن هذا الفصل يتعلق بأمور: أما قوله: "هذا حديث لا يصح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" فذلك غير مسلم؛ لأن مسلم رحمه اللَّه أخرجه في "صحيحه" (¬4)، وقد اتفقت العلماء على صحة ما في هذين الكتابين أعني كتابي البخاري ومسلم نقل ذلك غير واحد من الأئمة، هذا مع التزام مصنفهما ألا يخرجا فيهما إلا الصحيح من الحديث وتسمية كل منهما كتابه بالصحيح، وإليهما المرجع في معرفة ذلك. ¬

_ (¬1) "الضعفاء والمتروكون" (ص 130 رقم 298). (¬2) "الجرح والتعديل" (4/ 84). (¬3) الحجرات: الآية 6. (¬4) "صحيح مسلم" (1164).

وقد روي عن مسلم رحمه اللَّه أنه قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ها هنا يعني في كتابه الصحيح؛ وإنما وضعت ها هنا ما أجمعوا عليه. هذا مع تحريه وإتقانه وأمانته ومعرفته بالصحيح من السقيم، فكيف يقال ذلك في حديث أخرجه واحتج برواته. وقد روى الحاكم أبو عبد اللَّه، عن أبي الفضل محمد بن إبراهيم قال: سمعت أحمد بن سلمة يقول: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم رحمهما اللَّه يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصره (¬1). وقد قال أبو علي الحافظ أستاذ الحاكم المذكور: ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج رحمه اللَّه. وأما قوله: "إنه يدور على سعد بن سعيد" فليس كذلك بل قد رواه صفوان بن سليم ويحيى بن سعيد القاضي أخو سعد المذكور عن عمر بن ثابت أيضًا، أما رواية صفوان بن سليم فأخرجها أبو داود والنسائي في سننهما، وأبو حاتم بن حبان في "صحيحه"، ثلاثتهم من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن صفوان بن سليم وسعد بن سعيد جميعًا عن عمر بن ثابت به (¬2). وقد ذكر ابن دحية بعد هذا الفصل الذي قدمه رواية الدراوردي هذه فقال: وقد روي عن صفوان بن سليم وسعد بن سعيد بن عمر بن ثابت، وهو حديث منكر على الدراودي حتى يستر المدلس ضعف سعد بن سعيد بصحبة صفوان بن سليم وكأن صفوان هذا يستدل بذكره. . . (¬3) قاله ولم يروه عنه قط مالك وهو من كبار أصحاب صفوان، وأنكره مالك في "الموطأ"، ولا حدث به صفوان، وقد امتحن الدراوردي من أجله وتكلم فيه. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) انظر "تاريخ بغداد" (13/ 101)، و"تهذيب الكمال" (27/ 506). (¬2) سبق تخريجه قريبًا. (¬3) كلمة غير واضحة في المخطوط.

فلنذكر ما يتعلق بهذا الفصل ثم نعود إلى الفصل الأول: أما قوله: "هو منكر" أراد به أن راويه عن الدراوردي ضعيف فقد أخرجه أبو داود عن عبد اللَّه بن محمد النفيلي (¬1)، والنسائي عن خلاد بن أسلم (¬2)، ورواه ابن حبان في "صحيحه" (¬3) من حديث إسحاق بن واهويه الإمام، ورواه أبو نعيم الحافظ من حديث عبد اللَّه بن الزبير الحميدي الإمام، أربعتهم عن الدراوردي به، وكلهم ثقات محتج بهم، ومنهم إمامان كبيران، فهو مشهور عن الدراوردي. وإن أراد به الدراوردي نفسه فهو ثقة احتج به مسلم كثيرًا في كتابه وباقي الأئمة، وروى له البخاري مقرونًا بغيره. وقال مصعب الزبيري: كان مالك بن أنس يوثق الدراوردي (¬4). وكذلك وثقه أيضًا يحيى بن معين (¬5) ومحمد بن سعد (¬6) وأبو حاتم بن حبان (¬7). وقال يحيى بن معين: هو أثبت من فليح بن سليمان وابن أبي الزناد وابن أبي أويس (¬8). وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبي عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي ويوسف الماجشون فقال: عبد العزيز محدث ويوسف شيح يخطئ (¬9). وأما النسائي فإنه قال: ليس بالقوي. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (رقم 2433). (¬2) "السنن الكبرى" (2/ 163 رقم 2863). (¬3) "صحيح ابن حبان" (3634). (¬4) انظر "الجرح والتعديل" (5/ 395). (¬5) "تاريخ الدوري" (125 رقم 389). (¬6) "الطبقات الكبرى" (5/ 424). (¬7) "الثقات" (7/ 116 - 117). (¬8) "الجرح والتعديل" (5/ 396)، و"تاريخ الدوري" (3/ 230 رقم 1079). (¬9) "الجرح والتعديل" (5/ 396).

وقال في موضع آخر: ليس به بأس، وحديثه عن عبيد اللَّه بن عمر منكر (¬1). وكذلك قال أحمد بن حنبل في روايته عن عبيد اللَّه بن عمر وأنه ربما كان عن [عبد اللَّه بن عمر] (¬2) فجعله عن عبيد اللَّه أخيه. فقد تبين أن المتكلم فيه من حديثه إنما هو ما كان عن عبيد اللَّه بن عمر، وهذا الحديث ليس منه، ولذلك لم يحتج مسلم بروايته عن عبيد اللَّه بن عمر، واحتج بما رواه عن صفوان بن سليم وغيره، ولهذا نظائر كثيرة في "الصحيحين". هذا هشيم بن بشير إمام كبير احتجا به في "الصحيحين" كثيرًا عن عدة مشايخ ولم يحتجا بروايته عن ابن شهاب الزهري؛ لأنه قد استضعف فيما رواه عن الزهري، وليس يدل هذا على ضعف هشيم في كل رواياته. ثم إن الدراوردي لم يذكر أحد من الأئمة أنه كان يدلس وكذلك من ذكرنا من الرواة عنه في هذا الحديث؛ فدعواه التدليس في هذه الرواية غير مقبولة إلا بدليل. وأما تضعيفه إياها يكون مالك لم يروه عن صفوان بن سليم فهذه من أضعف الحجج عند أئمة هذا الشأن، فإن صفوان بن سليم مكثر عن الشيوخ الكبار، وقد روى عن أنس بن مالك وجابر بن عبد اللَّه، وخلق من التابعين: عن حميد بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وطاوس وسعيد بن المسيب، وجملة ما رحمه اللَّه عنه في "الموطأ" حديثان مسندان: أحدهما عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري حديث "الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" (¬3). والآخر عن سعيد بن سلمة من آل بني الأزرق، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" (¬4) وخمسة أحاديث أخر مراسيل، وله عنه خارج "الموطأ" أحاديث يسيرة أفتبطل جميع ما رواه الرواة الثقات عن صفوان بن ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب الكمال" (18/ 194). (¬2) ليس في الأصل. والمثبت من "تهذيب الكمال" (18/ 193). (¬3) "الموطأ" (1/ 109 رقم 4). (¬4) "الموطأ" (1/ 52 رقم 41).

سليم؛ لأن مالكًا لم يرو عنه هذا وهذا لا يقوله أحد من أهل الفن؛ لأن هذا يؤدي إلى إبطال كل ما روى الثقات الإثبات عن شيوخ مالك ما لم يروه مالك رحمه اللَّه ومن ذلك في "الصحيحين" شيء كثير فأقر به: ما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي وأبي علقمة عبد اللَّه بن محمد الفروي، عن صفوان بن سليم، عن عبد اللَّه بن سلمان الأغر، عن أبيه، عن أبي هريرة حديث: "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ رِيحًا مِنَ الْيَمَنِ أَلْيَنَ مِنَ الْحَرِيرِ. . . " الحديث (¬1). وعن حديث [عبد العزيز] (¬2) بن المطلب، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار وحميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة حديث: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤمِنٌ. . . " الحديث (¬3). وعن حديث يزيد بن أبي حبيب عن صفوان بن سليم، عن عبد الرحمن بن سعد الأعرج، عن أبي هريرة قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْجُدُ فِي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}. . . (¬4). أفتكون هذه الأحاديث مع عدالة رواتها واحتجاج مسلم بها غير صحيحة لأن مالكًا لم يروها عن صفوان بن سليم. قال ابن أبي حاتم: عمر بن ثابت. سمع: أبا أيوب الأنصاري، يروي عنه: الزهري، وصفوان بن سليم. . . وذكر جماعة ثم قال: سمعت أبي يقول ذلك (¬5). فهذا أبو حاتم الرازي رحمه اللَّه يذكر رواية صفوان بن سليم عن عمر بن ثابت بها الجملة. وأما قوله: "وأنكره مالك في "الموطأ". فليس كذلك إنما أنكر مالك رحمه اللَّه ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" (117). (¬2) في الأصل: عبد الرحمن. تحريف، والمثبت من الصحيح. (¬3) "صحيح مسلم" (57/ 103). (¬4) "صحيح مسلم" (578/ 109). (¬5) "الجرح والتعديل" (6/ 101 رقم 526).

عمل الناس بها ولم يتعرض إلى إنكار الحديث أصلًا، لا رواية سعد بن سعيد ولا رواية صفوان بن سليم، وسيأتي الكلام في ذلك مع ما نقل فيه عن مالك رحمه اللَّه. وقوله: "ولا حدث به صفوان" دعوى غير مقبولة مع وجود رواية الدراوردي وهو ثقة كما تقدم للحديث عنه، فهو قطع على نفي من غير دليل مع وجود معارض لها لنا صحيح. وقوله: "وقد امتحن الدراوردي من أجله وتكلم فيه" شيء لم نجده في كتب الجرح والتعديل أن الكلام في الدراوردي من أجل هذه الرواية ولا ذكره أحد غيره، وقد تقدم أن الحديث أخرجه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" وشرطه قريب من شرط الشيخين في تخريج الصحيح، واللَّه أعلم. وأما رواية يحيى بن سعيد عن عمر بن ثابت، فقد رواه كذلك عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، وإسماعيل بن إبراهيم الصائغ، ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد، عن عمر بن ثابت به. أما حديث أبي بكر فرواه النسائي في "سننه" (¬1) عن هشام بن عمار، عن صدقة ابن خالد -وكلاهما متفق على توثيقهما، واحتج بما روى البخاري في الصحيح- عن عتبة بن أبي حكيم -وقد وثقه أبو حاتم (¬2) وأبو زرعة (¬3) وابن معين (¬4) وابن حبان (¬5) وآخرون- عن عبد الملك بن أبي بكر به. وأما رواية عبد الملك بن محمد بن أبي بكر الحزمي وإسماعيل بن إبراهيم الصائغ فذكرها الإِمام أبو الحسن الدارقطني رحمه اللَّه في كتاب "العلل" (¬6) ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2866)، وقال: عتبة ليس بالقوي. (¬2) "الجرح والتعديل" (6/ 371) وقال: صالح لا بأس به. (¬3) انظر "تهذيب الكمال" (19/ 302). (¬4) "تاريخ الدوري" (4/ 429 رقم 5123). (¬5) "الثقات" (7/ 271 - 272). (¬6) "العلل" (6/ 107).

وذكرها ابن حبان في كتاب "الثقات". فإن قيل: قد رواه حفص بن غياث -وهو أثبت من ذكرت- عن يحيى بن سعيد عن أخيه سعد بن سعيد عن عمر بن ثابت به؛ دل على أن يحيى بن سعيد لم يروه عن عمر بن ثابت وإلا لما رواه عن أخيه عنه، ورواه إسحاق بن أبي فروة عن يحيى بن سعيد عن عدي بن ثابت عن البراء فقد اختلف فيه. قلنا: أما إسحاق بن أبي فروة فهو متروك بالاتفاق، وقد قال الدارقطني في هذه الرواية: وهم فيها إسحاق وهمًا قبيحًا والصواب حديث أبي أيوب (¬1). وأما رواية حفص بن غياث فإن عبد الملك بن أبي بكر (¬2) ثقة متقن روى عنه ابن شهاب مع تقدمه وأمانته ومن تابعه ثقات أيضًا؛ فالأخذ بقول الأكثر أولى لبعدهم عن الغلط، على أنه يحتمل أن يكون يحيى بن سعيد سمعه من عمر بن ثابت ومن أخيه وكان يحدث به تارة هكذا وتارة هكذا، ومثل هذا قد وقع كثيرًا في "الصحيحين" وغيرهما. وقد رواه ابن لهيعة، عن عبد ربه بن سعيد، عن أخيه يحيى بن سعيد، عن عمر بن ثابت به، وهو يصلح للمتابعات كما سيأتي القول في ذلك إن شاء اللَّه تعالى. فقد تقرر بهذه الجملة أن سعد بن سعيد لم ينفرد به، وأن يحيى بن سعيد وصفوان بن سليم روياه أيضًا عن عمر بن ثابت، ثم نعود إلى ما يتعلق بالفصل الأول من كلامه على الحديث. أما قوله: "عن سعد بن سعيد وهو ضعيف جدًّا تركه مالك وأنكر عليه هذا الحديث" فإن هذا. . . (¬3) رحمه اللَّه من وجهين: أحدهما: أنه لا يقال ضعيف جدًّا إلا لمن كان وضاعًا متروكًا كأبي البختري القاضي وإسحاق بن نجيح الملطي ومحمد بن سعيد المصلوب، أو لمن قاربهم ¬

_ (¬1) "العلل" (6/ 107). (¬2) انظر "تهذيب الكمال" (18/ 289 - 291). (¬3) كلمة غير واضحة في المخطوط.

حتى خرج أنه لا يجوز الاحتجاج به كعمرو بن شمر وجابر الجعفي ويزيد الرقاشي ونحوهم، فأما من وثقه قوم وضعفه آخرون لسوء حفظه أو لشيء قريب وقد احتج به في الصحيح لا يقال فيه ضعيف جدًّا. والثاني: أن قوله: "تركه مالك وأنكر عليه هذا الحديث" من أين له هذا ومن نقله غيره، فمالك رحمه اللَّه في "الموطأ" لم ينكر إلا العلم بالحديث ولم يتعرض إلى الحديث ولا إلى رواته، وهذا أبو عمر بن عبد البر رحمه اللَّه تعالى وهو أحد الأئمة المتميزين في هذا الشأن من أصحاب مالك لم ينقله، بل قال في الحديث: يحتمل أنه لم يبلغ مالكًا على ما سيأتي ذكره وكذلك القاضي عياض والقرطبي في شرحهما "صحيح مسلم" ولم يذكر أحد منهم عن مالك قدحًا في الحديث أو في روايته كما سيأتي ذكره إن شاء اللَّه تعالى. وكون مالك رحمه اللَّه لم يرو عن سعد بن سعيد وروى عنه أخويه لا يدل على ضعفه ولا تركه بالاتفاق إذا لم يصرح بذلك؛ لأنه يحتمل أنه لم يتفق له لقاؤه أو غير ذلك من الاحتمالات، على أن مالكًا لم يستوعب الأخذ عن جميع شيوخ المدينة، هذا سعد بن إبراهيم الزهري أحد الكبار من شيوخ المدينة والثقات الإثبات روى عن أنس بن مالك وطائفة من التابعين وكان قاضي المدينة مدة طويلة، ولم يكتب عنه مالك، ولا خلاف في أنه ثقة متفق عليه، وقد مات في سنة سبع وعشرين ومائة، وكان عُمْر مالك إذ ذاك فوق الثلاثين سنة، أفيكون سعد بن إبراهيم ضعيفًا لأن مالكًا لم يثبت عنه فقط!! وكذلك غيره من شيوخ المدينة. قال إسماعيل بن أبي أويس: سمعت خالي مالكًا يقول: لقد أدركت في هذا المسجد سبعين وأشار إلى مسجد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فمن يقول قال فلان قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال لكان أمينًا فما أخذت منهم شيئًا لأنهم لم يكونوا من أهل الشأن، ويقدم علينا ابن شهاب الزهري وهو شاب فيزدحم على بابه (¬1). ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (55/ 351).

فلعل سعد بن سعيد لم يكن في الحفظ عند مالك بحال كتابته عنه، وعلى كل حال فإذا لم يصرح أحد من أئمة هذا الشأن بضعف شيخ لا يدل عدم روايته عن ذلك الشيخ على أنه ضعيف، وقد روى عن سعد بن سعيد: شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وعبد الملك بن جريج وسليمان بن بلال، وهؤلاء أئمة كبار. قال أحمد بن حنبل (¬1) رحمه اللَّه: كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن. قال ابنه عبد اللَّه: يعني في الرجال ونصرة الحديث وتثبته للرجال. وقال محمد بن سعد: شعبة أول من فتش عن أمر المحدثين وجانب الضعفاء والمتروكين وصار علمًا يقتدى به، وتبعه عليه بعده أهل العراق (¬2). وأما قوله: "قال أحمد بن حنبل: سعد بن سعيد ضعيف. . . إلى آخره. فنقول: أما ما ذكره عن أحمد والترمذي والنسائي فصحيح، فأما نقله عن أبي حاتم بن حبان أنه قال: لا يجوز الاحتجاج بحديث سعد بن سعيد فهذا وهم منه رحمه اللَّه أو تدليس، فإن هذا الكلام إنما قاله ابن حبان في سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري مولى بني ليث، وليس في كتاب الضعفاء لابن حبان سعد بن سعيد غيره، وقد صرح بنسبه وروايته عن أبيه وأخيه، فأما سعد بن سعيد الأنصاري البريء فإن ابن حبان ذكره في كتاب "الثقات" (¬3) في طبقة التابعين فقال: سعد بن سعيد بن قيس بن فهد فهو أخو يحيى وعبد ربه، روى عن أنس بن مالك، عداده في أهل المدينة، روى عنه ابن المبارك، كان يخطئ. وقد نقل أبو حاتم الرازي عن يحيى بن معين أنه قال: سعد بن سعيد صالح (¬4). وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي: كان ثقة قليل الحديث. ¬

_ (¬1) "العلل ومعرفة الرجال" (2/ 539 رقم 3557). (¬2) لم أجده في "طبقات" ابن سعد رحمه اللَّه، ووجدته في "تهذيب الكمال" (12/ 495) منسوبًا لغيره، واللَّه أعلم. (¬3) "الثقات" (4/ 298). (¬4) "الجرح والتعديل" (4/ 84).

وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول: كان سعد بن سعيد مؤدي يعني أنه كان لا يحفظ ويؤدي ما سمع (¬1). وقال أحمد بن عدي بعد أن ذكره في كتاب "الكامل في الضعفاء": له أحاديث صالحة تقرب من الاستقامة ولا أرى بحديثه بأسًا لمقدار ما يرويه (¬2). ثم نقول: والصحيح أن التعديل يقبل من العدل من غير ذكر سببه وأن الجرح لا يقبل منه حتى يتبين السبب؛ وذلك لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح، فربما أطلق أحدهم الجرح على ما في ظنه أنه جارح وليس هو بجرح في نفس الأمر، وقد عقد الحافظ أبو بكر الخطيب رحمه اللَّه بابًا في بعض أخبار من استسفر في جرحه فذكر ما لا يصلح جارحًا لتأكيد هذا القول، وليس كذلك التعديل فإن أسبابه كثيرة فيصعب على العدل أن يذكر جميع الأفعال الموجبة العدالة فاكتفي بالإطلاق فيه. قال الحافظ أبو بكر الخطيب: وهذا القول هو الصواب عندنا، وإليه ذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده مثل محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج وغيرهما، فإن البخاري قد احتج بجماعة سبق من غيره الطعن فيهم والجرح لهم كعكرمة مولى ابن عباس في التابعين وكإسماعيل بن أبي أويس وعاصم بن علي وعمرو بن مرزوق، وهكذا فعل مسلم رحمه اللَّه فإنه احتج بسويد بن سعيد وجماعة غيره واشتهر عمن ينظر في حال الرواة الطعن عليهم، وسلك أبو داود السجستاني هذه الطريقة وغير واحد ممن بعده، فدل ذلك على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فسر سببه وذكر موجبه (¬3). قلت: وكذلك سلك بعدهم أكثر الأئمة الحفاظ كأبي حاتم بن حبان وأبي الحسن الدارقطني وأبي عبد اللَّه بن البيع الحاكم، وغيرهم ممن صنف الصحيح وتكلم في الجرح والتعديل، قال أبو حاتم بن حبان في حفظه كتابه الصحيح: وربما ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل" (4/ 84). (¬2) "الكامل" (3/ 352). (¬3) "الكفاية في علم الرواية" (1/ 108 - 109).

أروي في هذا الكتاب وأحتج بمشايخ قد قدح فيهم بعض أئمتنا مثل سماك بن حرب وداود بن أبي هند ومحمد بن إسحاق بن يسار وحماد بن سلمة وأبي بكر بن عياش وأضرابهم ممن تنكب عن روايتهم بعض أئمتنا واحتج بهم البعض، فمن صح عندي بالبراهين الواضحة وصحة الاعتبار على سبيل الدين أنه ثقة احتججت به ولم أعرج على قول من قدح فيه. . . ثم ذكر كلامًا آخر في هذا المعنى مبسوطًا (¬1). فإن قيل: هذا يؤدي إلى تعطيل الجرح وسدِّ باب قبوله من الأئمة المتقدمين فإنهم قل أن يتعرضوا في جرح أحد لبيان السبب بل يقتصرون على قولهم فلان ضعيف وفلان ليس بثقة، ونحو هذا من الكلام. قلت: قد أجاب الشيخ تقي الدين أبو عمر ابن الصلاح رحمه اللَّه عن هذا الاعتراض بأن قال: إن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به، فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك، بناء على أن مثل هذا أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف، ثم من انزاحت عنه الريبة منهم ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته؛ قبلنا حديثه ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم فافهم ذلك فإنه ملخص حسن (¬2). وقال العلامة أبو الفتح القشيري رحمه اللَّه وهو أحد المتأخرين من سلاطين العلماء ومحققيهم: ولمعرفة كون الراوي ثقة. . . (¬3) منها إيراد أصحاب التواريخ ألفاظ المزكين في الكتب الذين صنفت على أسماء الرجال ككتاب تاريخ البخاري وابن أبي حاتم وغيرهما، ومنها تخريج الشيخين أو أحدهما في الصحيح الراوي محتجين به، وهذه درجة عالية لما فيها زيادة على الأول وهو إطباق جمهور الأمة أو كلهم على تسمية الكتابين بالصحيح والرجوع إلى حكم الشيخين بالصحة فهو بمثابة إطباق ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (1/ 152 - 153). (¬2) "مقدمة ابن الصلاح" (ص 61). (¬3) كلمة غير واضحة في المخطوط.

الأمة أو أكثرهم على تعديل من ذكرنا، وقد وجد في هؤلاء الرجال المخرج عنهم في "الصحيحين" من تكلم فيه بعضهم، وكان شيخ شيوخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل المخرج عنه في الصحيح: هذا جاز القنطرة. يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه وهكذا يعتقدونه بقول ولا بجرح عنه إلا ببيان شافٍ وبحجة ظاهرة تزيد على غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما، نعم يمكن أن يكون للترجيح مدخل عند تعارض الروايات فيكون من لم يتكلم فيه أصلًا راجحًا على من تكلم فيه، فإن كانا جميعًا من رجال "الصحيحين" وهذا عند وقوع التعارض. هذا آخر كلامه. فقد تقرر بهذه الجملة أن احتجاج صاحبي "الصحيحين" أو أحدهما بالشيخ يكون مقدمًا على قول من خرجه إذا لم يكن مفسرًا فكيف وقد وثقه جماعة آخرون مع أن الجرح المذكور فيه ليس بغليظ العبارة كقولهم: متروك وكذاب أو نحوها، فإنه يظهر من حال من تكلم فيه أن ذلك لسوء حفظه كما صرح به الحافظ أبو عيسى الترمذي وكما نبه عليه أبو حاتم بن حبان في كتاب "الثقات". فإن قيل: فلم احتج به مسلم رحمه اللَّه مع أنه كان يخطئ؟ قلنا: لم يكن خطؤه متفاحشًا بحيث أنه أتى بحديث منكر أو وصل مرسلًا أو رفع موقوفًا كحال غيره ممن كان رديء الحفظ نحو عطاء بن السائب وليث بن أبي سليم وغيرهما، ثم إن مسلمًا رحمه اللَّه إنما احتج بسعد بن سعيد في حديث ظهر عنده أنه لم يخطئ فيه لوجود متابع له على روايته، وقد ذكرنا متابعة صفوان بن سليم ويحيى بن سعيد له على هذه الرواية وهكذا حكم سائر الأحاديث التي خرجها صاحبي "الصحيحين" وفي إسنادهما من تكلم فيه من جهة حفظه لم يخرجها إلا وقد وجد لها متابعًا ومن تتبع هذا وجده. ثم نقول: إن إخراج صاحبي الصحيح أو أحدهما الحديث واحتجاجهما به أقوى أن لا يكون أخرجاه بل احتجا برجاله في حديث آخر؛ وذلك لاحتمالات في سماع رواية بعضهم من بعض في ذلك الحديث الذي لم يخرجاه وهي مندفعة فيما أخرجاه، فتصحيح الحديث أقوى من تصحيح السند لهذا المعنى، فقول من قال في

هذا الحديث: "إنه لا يصح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" ليس بشيء، واللَّه أعلم. وقوله: ولذلك أعرض عنه البخاري ولم يخرجه في "صحيحه". يقال: على أن البخاري رحمه اللَّه باتفاق الأئمة لم يستوعب جميع الأحاديث الصحاح ولا كل الرواة الثقات حتى يدل عدم إخراجه الشيخ على ضعفه إذا لم يصرح بتضعيفه، وقد تقدم القول في مثل هذا على أن البخاري رحمه اللَّه قد استشهد بسعد بن سعيد في "صحيحه" فقال في كتاب الزكاة: وقال سليمان: عن سعد بن سعيد، عن عمارة بن غزية، عن عباس، عن أبيه، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ. . . " الحديث (¬1). وقد أخرج له في كتاب "الأدب" (¬2) من رواية ابن المبارك عنه عن الزهري حديثًا، وذكره في "تاريخه" (¬3) ولم يضعفه بشيء ثم ذكر بعده سعد بن سعيد المقبري وضعفه (¬4). وقوله: "والمانع من العمل بالخبر ثلاثة معان. . . إلى آخره. يقال: هذا الكلام صحيح في الجملة لكن ليس في سعد بن سعيد هذا شيء منها، أما الجهالة والفسق فظاهر، وأما كثرة الغفلة والإتيان بالمناكير وغلبة الخطأ على حفظه فلم يقل فيه أحد من الأئمة أنه كذلك ولا أتى بمتن منكر، وقد تقدم قول الحافظ أبي أحمد بن عدي فيه: له أحاديث صالحة تقرب من الاستقامة، ولا أرى بحديثه بأسًا. وهو أكثر الأئمة تفتيشًا عن أحاديث الضعاف، وكلامه هذا لا فائدة فيه، واللَّه أعلم. ثم إن أبا الخطاب بن دحية رحمه اللَّه ساق الحديث من طريق أبي نعيم الحافظ قال: ثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، ثنا محمد بن يونس الكديمي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا شعبة، عن ورقاء بن عمر، عن سعد بن سعيد به. ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (بعد رقم 1482) (¬2) "الأدب المفرد" (888). (¬3) "التاريخ الكبير" (4/ 56 رقم 1948). (¬4) "التاريخ الكبير" (4/ 56 رقم 1489).

ثم نقل عن ابن حبان أنه قال: كان الكديمي يضع الحديث (¬1). وهذا إيهام منه رحمه اللَّه بتضعيف الحديث من وجهٍ آخر لا يضر؛ لأن الحديث قد صح إلى سعد بن سعيد بطرق كثيرة، وقد ذكرنا خمسة عشر نفسًا من الثقات الذين رووه عنه، ومنهم الثلاثة الذين أخرجه مسلم رحمه اللَّه من حديثهم. فأما رواية ورقاء هذه فقد رواها أحمد بن حنبل رحمه اللَّه في "مسنده" (¬2) عن محمد بن جعفر غندر، عن شعبة به، وأخرجها النسائي في "سننه" (¬3) عن أحمد بن عبد اللَّه بن الحكم عن غندر، فأي فائدة في تضعيف الكديمي إذا لم ينفرد بالحديث ولكن ليوهم أن جميع طرقه ضعيفة، واللَّه يغفر له. وكذلك ذكره بعد هذا من طريق كامل بن طلحة الجحدري، عن ابن لهيعة، عن عبد ربه بن سعيد، عن أخيه يحيى بن سعيد، عن عمر بن ثابت ثم تكلم في ابن لهيعة وقال: كان يدلس على الضعفاء فأسقط ذكر سعد بن سعيد الذي يرويه -فيما يزعم- عن عمر بن ثابت لضعفه ونكارة حديثه، وأسنده عن أخيه يحيى لإجماع العلماء على ثقته، ثم نقل قول من ضعفه ابن لهيعة ووهاه من الأئمة. وهذا القول كالذي قبله أيضًا فقد تقدمت رواية عبد الملك بن أبي بكر ومن تابعه على روايته الحديث عن يحيى بن سعيد عن عمر بن ثابت، فلا فائدة في تضعيف الحديث إذا لم ينفرد به، على أن ابن لهيعة قد وثقه أيضًا قوم آخرون مطلقًا، وقوم إذا حدث من كتابه أو كان له متابع، وروى مسلم له في "صحيحه" مقرونًا بغيره، وقال أبو داود السجستاني (¬4): سمعت أحمد بن حنبل يقول: من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه، وحدث عنه بحديث كثير. وقال سفيان الثوري رحمه اللَّه: عند ابن لهيعة الأصول وعندي الفروع. ¬

_ (¬1) "المجروحين" (2/ 313) وفيه: كان يضع الحديث على الثقات وضعًا. (¬2) "المسند" (5/ 419). (¬3) "السنن الكبرى" (2864). (¬4) "سؤالات الآجري" (2/ 175 رقم 1512).

وقال أبو طاهر بن السرح: سمعت ابن وهب يقول وسأله رجل عن حديث فحدثه به فقال له الرجل: من حدثك بهذا يا أبا محمد؟ فقال: حدثني به واللَّه الصادق البار عبد اللَّه بن لهيعة. وفيه أقوال جيدة غير هذه وإن كان قول من ضعفه أكثر فروايته هذه تصلح للشواهد والمتابعات لرواية عبد الملك بن أبي بكر ومن تابعه، عن يحيى بن سعيد، عن عمر بن ثابت. قال العلامة أبو عمرو ابن الصلاح رحمه اللَّه: واعلم أنه قد يدخل في باب المتابعات والاستشهاد رواية من لا يحتج بحديثه، بل يكون معدودًا في الضعفاء, وفي كتابي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد، وليس كل ضعيف يصلح لذلك، ولهذا يقول الدارقطني وغيره في الضعفاء: فلان يعتبر به. قلت: وذلك مثل محمد بن إسحاق وبقية ونحوهما (¬1). وأما قوله: "أسقط ابن لهيعة ذكر سعد بن سعيد لضعفه ونكارة حديثه" فهذا مجازفة منه رحمه اللَّه فلم يقل أحد عن سعد بن سعيد أنه منكر الحديث كما زعم، وقد تقدم من القول في ذلك ما فيه كفاية. فهذا حاصل ما ذكره ابن دحية رحمه اللَّه من الاعتراض على حديث أبي أيوب والجواب عنه. وقد بقي اعتراضات لم يذكرها هو فنذكرها مع الجواب عنها: فمنها: أن يقال: الحديث اختلف في سنده على عمر بن ثابت، فرواه أبو عبد الرحمن المقرئ، عن شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب موقوفًا عليه من غير ذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أخرجه كذلك النسائي (¬2) عن محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم عن أبي عبد الرحمن، وأخرجه أيضًا (¬3) من حديث عثمان بن ¬

_ (¬1) "مقدمة ابن الصلاح" (ص 48). (¬2) "السنن الكبرى" (رقم 2865). (¬3) "السنن الكبرى" (رقم 2867).

عمرو بن ساج، عن عمر بن ثابت، عن محمد بن المنكدر، عن أبي أيوب. وهذا يدل على أن طريقة سعد بن سعيد غير متصلة حيث لم يذكر محمد بن المنكدر بين عمر بن ثابت وأبي أيوب، وقد رواه إسماعيل بن عياش عن محمد بن أبي حميد عن محمد بن المنكدر عن أبي أيوب، فدل على أن لرواية محمد بن المنكدر له عن أبي أيوب لها أصل، ورواه أبو داود الطيالسي (¬1) عن ورقاء بن عمر اليشكري، عن سعد بن سعيد عن يحيى بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب، وكل هذا الاختلاف في الحديث مع ما تقدم فيه يوجب ضعفه. والجواب: أولًا: ما تقدم من أن تصحيح مسلم رحمه اللَّه للحديث مقدم على كل ما فيه مما يقتضي ضعفه لاتفاق الأمة على صحته. ثم نقول: أما رواية عبد ربه بن سعيد له موقوفًا فعلى قول أهل الأصول لا يضر ذلك؛ لأن الرفع فيه زيادة من ثقة مقبولة، وعلى قول أئمة الحديث لا يضر ذلك أيضًا؛ لأنهم يأخذون بقول الأحفظ والأكثر، وقد اجتمع صفوان بن سليم ويحيى بن سعيد وهما إمامان جليلان وسعد بن سعيد وهو ثقة محتج به على رفعه فكان تقديم قولهم أولى. ثم إن ابن عبد الحكم وأبا عبد الرحمن المقرئ وإن كانا ثقتين فليسا في الإتقان كمحمد بن جعفر غندر وقد رواه عن شعبة عن ورقاء عن سعد بن سعيد كرواية الجماعة عنه كما تقدم، على أن أبا عبد الرحمن المقرئ لم يتفق عنه على وقفه بل قد رواه أحمد بن يوسف السلمي شيخ مسلم في "صحيحه" وعقيل بن يحيى جميعًا عنه عن شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب مرفوعًا، أخرجه الحافظ أبو عبد اللَّه بن منده في غرائب سننه له قال: قال: أنا محمد بن الحسين القطان، ثنا أحمد بن يوسف السلمي. . . فذكره، وهذا إسناد صحيح وهو موافقة لرواية الجماعة ومقوّ لحديث صفوان بن سليم وسعد بن سعيد كما تقدم، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (رقم 594).

والأخذ يقول الحفاظ الأكثرين أولى. وأما رواية عثمان بن عمرو بن ساج فإن النسائي رواها عن محمد بن عبد الكريم الحويطبي عن عثمان بن عمرو كما ذكرنا ثم عقبها: هذا الشيخ -يعني عثمان بن عمرو- رأيت عنده كتبًا في غير هذا فإذا أحاديثه تشبه أحاديث محمد بن أبي حميد فلا أدري أكان سماعه من محمد أم كان سماعه من أولئك المشيخة فأما الشيح يعني محمد بن عبد الكريم شيخه فكان يحدثنا عنه ولا يذكر ابن أبي حميد، فإن كان تلك الأحاديث أحاديثه عن أولئك المشيخة ولم يكن سمعه من محمد فهو ضعيف، يعني عثمان بن عمرو بن ساج قال: ومحمد بن أبي حميد ليس بشيء في الحديث. قلت: وقد قال أبو حاتم الرازي: عثمان والوليد ابني عمرو بن ساج يكتب حديثهما ولا يحتج به (¬1). وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر رحمه اللَّه في كتابه "الأطراف" عقيب ذكر هذه الرواية: هذا خطأ، والصواب عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب يعني من غير ذكر محمد بن المنكدر، فلا أدري هذا الكلام من كلام النسائي أو من كلام الحافظ ابن عساكر، فقد تبين أن عثمان بن عمرو ضعيف، ولو كان ثقة فروايته هذه خطأ. وأما رواية إسماعيل بن عياش يضعف في الحجازيين ولو قلنا أنه ثقة فمحمد بن أبي حميد متفق على ضعفه ونكارة حديثه، وكأن النسائي رحمه اللَّه أشار إلى أن عثمان بن عمرو بن ساج سرق هذه الرواية من محمد بن أبي حميد، وأن الغلط في زيادة محمد بن المنكدر إنما هو منه. وأما رواية أبي داود الطيالسي فإنها من رواية عبد اللَّه بن عمران الأصبهاني عن أبي داود، وعبد اللَّه هذا من أفراد ابن ماجه عن سائر الكتب، وقد قال فيه أبو حاتم بن حبان: كان يغرب (¬2). وقد خالفه يونس بن حبيب فرواه عن أبي داود. ¬

_ (¬1) "الجرح والتعديل" (6/ 162). (¬2) انظر "تهذيب الكمال" (15/ 380).

الطيالسي في "مسنده" عن ورقاء بن عمر عن سعد بن سعيد عن عمر بن ثابت به (¬1)، وهذه الرواية موافقة لقول ابن المبارك ومن تابعه من الأئمة عن سعد بن سعيد، والأخذ بقولهم أولى من قول عبد اللَّه بن عمران الأصبهاني. فإن قيل: والحديث بعد تقرر هذا كله مداره على عمر بن ثابت الأنصاري ولم يروه عن أبي أيوب غيره فكانت شاذًّا لا متابع له فلا يحتج به. قلت: ليس هذا من الشاذ الذي لا يحتج به، ولو كان كذلك لكانت قطعة من أحاديث "الصحيحين" كثيرة لا يحتج بها لتفرد رواتها بها وليس كذلك بالاتفاق، هذا حديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬2) لم يروه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا عمر بن الخطاب، ولا عن عمر إلا علقمة بن أبي وقاص الليثي، ولا عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا عن محمد إلا يحيى بن سعيد، وهو من أشهر الأحاديث وأكثرها تكرارًا في "الصحيحين" ومثل هذا كثير في الصحيح. وقد روى يونس بن عبد الأعلى قال: قال الشافعي رحمه اللَّه: ليس الشاذ أن يروي الثقة ما لا يروي غيره، إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثًا يخالف ما روى الناس. وقد قرر هذا القول وبسطه الحافظ أبو عمر وابن الصلاح وغيره بما لا حاجة إلى نقله ها هنا، ثم نقول: ليس هذا مما تفرد به عمر بن ثابت بل يكون في رواية ثوبان له عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- متابعة له وشواهد فيخرج بهذا عن غرائب الصحيح. وإلى هذا أشار أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" فإنه أخرج حديث عمر بن ثابت هذا كما تقدم ذكره ثم قال بعده: ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به عمر بن ثابت عن أبي أيوب. وذكر حديث ثوبان كما سيأتي ذكره (¬3). وقد تبين وللَّه الحمد أن حديث أبي أيوب -رضي اللَّه عنه- صيام الستة أيام من شوال صحيح محتج به لا مطعن لأحد فيه، واللَّه تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) "مسند الطيالسي" (81 رقم 594). (¬2) رواه البخاري (رقم 1)، ومسلم (رقم 1907). (¬3) "صحيح ابن حبان" (8/ 398).

وأما حديث ثوبان مولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنه، فأخرجه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" من حديث هشام بن عمار، عن الوليد بن مسلم، عن يحيى بن الحارث الذماري، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَسِتًّا مِنْ شَوَّالٍ فَقَدْ صَامَ السَّنَةً" (¬1). ورواه ابن ماجه في "سننه" (¬2) عن هشام بن عمار، [عن بقية] (¬3) عن صدقة بن خالد، عن يحيى بن الحارث به، ولفظه: "مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامِ بَعْدَ الْفِطْرِ كَانَ تَمَامَ السَّنَةِ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا". وكذلك رواه أبو بكر بن مسلم عن ثور بن يزيد، عن يحيى بن الحارث به. أخرجه هكذا الحافظ ضياء الدين في "الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين". وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار في "مسنده" عن محمد بن عقبة، عن الوليد بن مسلم، عن يحيى بن الحارث، كرواية ابن حبان من غير واسطة بينهما، فيحتمل أن الوليد بن مسلم سمعه من يحيى بن الحارث ومن ثور بن يزيد عنه، وكان يرويه على الوجهين. وأخرجه النسائي من حديث يحيى بن حمزة ومحمد بن شعيب وكلاهما عن يحيى بن الحارث الذماري، ولفظه: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "صيام رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بشهرين، فذلك صيام رمضان وستة أيام بعده" (¬4). وكذلك أخرجه الإِمام أحمد بن حنبل في "مسنده" عن أبي اليمان الحكم بن نافع، عن إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن الحارث به (¬5). وقد خالفهم جميعًا سويد بن عبد العزيز فرواه عن يحيى بن الحارث عن أبي ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (3635). (¬2) "سنن ابن ماجه" (رقم 1715). (¬3) ليس في الأصل. والمثبت من السنن. (¬4) "السنن الكبرى" (رقم 2860، 2861). (¬5) "مسند أحمد" (5/ 280).

الأشعث الصنعاني، عن أبي أسماء، عن ثوبان به، وقد خطأه في ذلك أبو حاتم الرازي كما سيأتي ذكره، والصحيح رواية يحيى بن الحارث عن أبي أسماء نفسه. واسم أبي أسماء هذا عمرو بن مرثد (¬1)، وهو من جملة التابعين وثقاتهم، احتج به مسلم. ويحيى بن الحارث الذماري (¬2) قارئ أهل الشام تابعي، سمع واثلة بن الأسقع وقرأ عليه القرآن، وقد وثقه يحيى بن معين (¬3) وأبو حاتم (¬4) وأبو داود ودحيم ويعقوب بن سفيان (¬5) وابن حبان (¬6)، ولم يضعفه أحد، وباقي رواته ثقات أيضًا محتج بهم في الصحيح خصوصًا طريق ابن ماجه وابن حبان فكلهم خلا يحيى بن الحارث احتج بهم في الصحيح، ولا مطعن في الحديث، وقد صححه أبو حاتم الرازي كما سيأتي وأخرجه ابن حبان في "صحيحه". قال ابن دحية رحمه اللَّه: وليس في هذا الباب حديث له سند سوى حديث ثوبان فإنه من الأحاديث المسندة الحسان، والحسن ما نزل عن درجة الصحيح عند علماء هذا الشأن، ثم قال بعد ذلك: وقد زعم بعض المحدثين أن حديث ثوبان هذا صحيح، وزعمه ريح لما رأى الإِمام أحمد قد أخرجه في "مسنده" ثم ساق الطريق التي ذكرناها للإمام أحمد من حديث إسماعيل بن عياش، ثم قال: وإسماعيل بن عياش لا يجوز قبول حديثه. وذكر قول من ضعفه من الأئمة، ثم قال: وليس لهذا الحديث طريق صحيح. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) انظر "تهذيب الكمال" (22/ 223 - 224). (¬2) انظر "تهذيب الكمال" (31/ 256 - 259). (¬3) "الجرح والتعديل" (9/ 136 رقم 575). (¬4) "الجرح والتعديل" (9/ 136 رقم 575). (¬5) "المعرفة والتاريخ" (2/ 461). (¬6) "الثقات" (5/ 530).

فيقال: هذا الكلام نحو ما تقدم من الكلام على حديث أبي أيوب من قلة الإنصاف وإيهام التضعيف بذكر بعض طرق الحديث التي فيها من ضعف ثم يقول: "وليس لهذا الحديث طريق صحيح" فقد ذكرنا أنه رواه عن يحيى بن الحارث غير إسماعيل بن عياش: الوليد بن مسلم، وصدقة بن خالد، وثور بن يزيد، ويحيى بن حمزة، ومحمد بن شعيب بن شابور، فهؤلاء خمسة من الثقات قد رووه عن يحيى بن الحارث، فأي فائدة تبقى في تضعيف إسماعيل بن عياش، ثم إنا لا نسلم ضعفه في هذه الرواية لوجود متابع له ثقة، وقد وثقه أحمد ويحيى بن معين (¬1) في رواية عنهما مطلقًا، وأثنى يزيد بن هارون (¬2) وهو أحد الأئمة على حفظه ثناءً بليغًا، وروي عن الإِمام أحمد ويحيى بن معين (¬3) أيضًا أنهما قالا: ما روى إسماعيل بن عياش عن الشاميين فهو صحيح وما روى عن أهل الحجاز فليس بصحيح. وكذلك قال الدارقطني وغيره، وعلى هذا القول أكثر الحفاظ بعدهم يحتجون بحديث إسماعيل بن عياش عن الشاميين، وهذا الحديث من روايته عن الشاميين، ثم العجب منه يقول قبل ذلك "إن حديث ثوبان من الأحاديث المسندة الحسان" بعده: "وليس لهذا الحديث طريق صحيح". فإن قيل: أراد بذلك أنه حديث حسن وهو ما نزل عن درجة الصحيح كما صرح به ثم نفى في الثاني بلوغه درجة الصحة. قلنا: هذا وإن كان جماعة من الأئمة قد فرقوا بين الحسن والصحيح ففيه إشكال، وذلك أن لرواة الحديث أوصافًا يجب معها قبول الرواية إذا وجدت وردها إذا انتفت، فإذا الحديث الذي يقال فيه حسن إما أن يكون قد وجدت في رواته تلك الأوصاف على أقل الدرجات التي يجب معها القبول، وذلك هو الصحيح الذي يجب معها العمل به، أو لم يوجد فذلك هو الضعيف، ولا ¬

_ (¬1) "تاريخ الدوري" (4/ 412 رقم 5032). (¬2) "الجرح والتعديل" (1/ 191 رقم 650). (¬3) انظر "تهذيب الكمال" (3/ 174).

يبقى في هذا إلا الرجوع إلى الأمر الاصطلاحي، وعلى كل تقدير فالحسن مما يحتج به ويجب قبوله بلا خلاف عندهم، وابن دحية ما أراد إلا أن يضعف طرق الحديث كلها ورد الخبر مع قوله أنه حسن قبل ذلك، وهذا ظاهر التناقض، واللَّه أعلم. وأما حديث شداد بن أوس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقد ذكره الحافظ أبو عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي رحمهما اللَّه في كتاب "العلل" (¬1) له فقال: سمعت أبي وذكر حديثًا رواه سويد بن عبد العزيز، عن يحيى بن الحارث، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أبي أسماء، عن ثوبان قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ من شَوَّالٍ. . . ". قال أبي: هذا وهم من سويد قد سمع يحيى بن الحارث هذا الحديث من أبي أسماء إنما أراد سويد ما حدثنا صفوان بن صالح قال: ثنا مروان الطاطري، عن يحيى بن حمزة، عن يحيى بن الحارث عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ من شَوَّالٍ. . . " الحديث. فهذا أبو حاتم الرازي قد ذكره بسند متصل رواته عن آخرهم ثقات وليس فيهم مجروح ولم أجده في غير هذا الكتاب، وأبو الأشعث الصنعاني اسمه شراحيل، وهو شامي السكن، احتج به مسلم وبمروان بن محمد الطاطري وصفوان بن صالح، قال أبو داود: هو حجة. وذكره ابن حبان في كتاب الثقات (¬2)، وباقي رجاله تقدم ذكرهم، ثم قال ابن أبي حاتم رحمهم اللَّه تعالى بعد ذلك في الكتاب المذكور: سئل أبي عن حديث رواه مروان الطاطري عن يحيى بن حمزة وذكر هذا الحديث، حديث شداد بن أوس قال: فسمعت أبي يقول: الناس يروون عن يحيى بن الحارث عن أبي أسماء عن ثوبان عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قلت لأبي: أيهما الصحيح؟ قال: جميعًا صحيحين (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "العلل" برقم (744). (¬2) "الثقات" (4/ 365 - 366). (¬3) "العلل" (رقم 745).

فإذا أبو حاتم الرازي أحد الأئمة الكبار من أصحاب الجرح والتعديل والمطلعين على صحيح الأخبار وسقيمها قد صحح الحديثين حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس، ولم يذكر ابن دحية رحمه اللَّه رواية شداد بن أوس، واللَّه أعلم. وأما حديث أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقد رواه ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من صام رمضان وستًّا من شوال فقد صام السنة". قال: ثم قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، فثلاثين بثلاثمائة، وستة بستين، وقد صام السنة". أخرجه هكذا أبو نعيم الحافظ في مجلس من "أماليه" من حديث رواد بن الجراح، عن أبي النعمان الأنصاري واسمه عبد الرحمن بن النعمان، عن ليث به (¬1). ورواه أبو نعيم أيضًا من حديث عبد اللَّه بن سعيد [عن أبي سعيد] (¬2) عن أبي هريرة به (¬3)، ثم قال أبو نعيم عقيبه: ورواه عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن أبي هريرة عن أبيه، ورواه إسماعيل بن رافع عن أبي صالح عن أبي هريرة. وهذه الطرق كلها ضعيفة، وقد ذكر ابن دحية منها طريق ليث بن أبي سليم وعبد اللَّه بن سعيد المقبري، ثم ذكر قول من ضعفها وهو كذلك إلا أن طريق ليث بن أبي سليم أمثلها، فإن رواد بن الجراح قال فيه أحمد (¬4) ويحيى بن معين (¬5): لا بأس به. وفي رواية عن يحيى أيضًا: ثقة مامون (¬6). وقال أبو حاتم: تغير حفظه في آخر عمره وكان محله الصدق (¬7). ¬

_ (¬1) "الأمالي" (رقم 4). (¬2) ليس في الأصل. والمثبت من "الأمالي". (¬3) "الأمالي" (رقم 5). (¬4) "العلل ومعرفة الرجال" (2/ 31 رقم 1457) وزاد: صاحب سنة إلا أنه حدث عن سفيان أحاديث مناكير. (¬5) "تاريخ الدوري" (4/ 425 رقم 5102) وزاد: إنما غلط في حديث سفيان الثوري. (¬6) انظر "تهذيب الكمال" (9/ 229). (¬7) "الجرح والتعديل" (3/ 524 رقم 2368).

وذكره ابن حبان في كتاب "الثقات" وقال: يخطئ ويخالف (¬1). وقد ضعفه البخاري (¬2) والنسائي (¬3) والدارقطني ويعقوب الفسوي (¬4) وغيرهم. وأبو النعمان الأنصاري وثقه أبو حاتم الرازي (¬5) وابن حبان (¬6)، وضعفه يحيى ابن معين (¬7). وأما ليث بن أبي سليم فإن أكثرهم ضعفوه، وقد روى أبو داود عن يحيى بن معين قال: لا بأس به. وقال أبو أحمد ابن عدي: له أحاديث صالحة غير ما ذكرت، وقد روى عنه شعبة والثوري وغيرهما من ثقات الناس، وهو مع الضعف الذي فيه يكتب حديثه (¬8). وكذلك قال الدارقطني نحو هذا فيه، وذكر البخاري رحمه اللَّه تعليقًا في موضعين من كتابه: أحدهما في كتاب الطب قال: ورواه القمي يعقوب عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحجم والعسل يعني شفاء (¬9). واحتج به في كتاب رفع اليدين في الصلاة وغيره. وروى له مسلم في "صحيحه" حديثًا واحدًا مقرونًا بأبي إسحاق الشيباني، واحتج به أصحاب السنن الأربعة، فهذه الطريق على ما فيها من الضعف تصلح ¬

_ (¬1) "الثقات" (8/ 246). (¬2) "التاريخ الكبير" (3/ 336 رقم 1139). (¬3) "الضعفاء" (104 رقم 203). (¬4) انظر "تهذيب الكمال" (9/ 230). (¬5) "الجرح والتعديل" (5/ 294 رقم 1391). (¬6) "الثقات" (7/ 81). (¬7) انظر "الجرح والتعديل" (5/ 294 رقم 1391). (¬8) "الكامل" (6/ 89 رقم 1617). (¬9) "صحيح البخاري" (باب الشفاء في ثلاث - بعد حديث 5680).

للشواهد والمتابعات، كما تقدم في ابن لهيعة من القول، بل هذه الطريقة أصلح منها. وأما عبد اللَّه بن سعيد المقبري وإسماعيل بن رافع فضعيفان بالاتفاق، واللَّه أعلم. وأما حديث جابر -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي عبد الرحمن المقرئ، عن سعيد بن أبي أيوب، عن عمرو بن جابر الحضرمي، عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- به (¬1). وكذلك رواه عمرو بن خالد المقرئ، عن بكر بن مضر، عن عمرو بن جابر به، وهذه الطريق ضعيفة من جهة عمرو بن جابر، وضعفه غير واحد ورموه بالكذب، لكن قال أبو حاتم الرازي: هو صالح له نحو عشرين حديثًا (¬2). وقد قال الترمذي رحمه اللَّه في "جامعه" عقيب حديث أبي أيوب: وفي الباب عن أبي هريرة وثوبان وجابر. وذكر الحافظ أبو نعيم الأصبهاني أن حديث جابر رواه عمرو بن دينار ومجاهد عن جابر مثله، فإن صح الإسناد إلى عمرو بن دينار ومجاهد فحسن وإلا فهذه الطريق لا تصلح لشيء. وبالجملة فالحديث بحمد اللَّه تعالى قد صح من حديث أبي أيوب وثوبان وشداد بن أوس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحديث أبي هريرة من طريق ليث بن أبي سليم يصلح للمتابعات لحديثهم ولا يضره ضعف باقي الطرق كما أوهم ابن دحية رحمه اللَّه. فصل: وأما ما نقل في ذلك عن الإِمام مالك رحمه اللَّه ففي "الموطأ" من رواية يحيى بن يحيى وغيره قال: سمعت مالكًا يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان: أنه لم ير أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق برمضان ما ليس ¬

_ (¬1) "المسند" (3/ 308). (¬2) "الجرح والتعديل" (6/ 223).

منه أهل الجهالة والجفاء ولو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك. انتهى كلامه. قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر النمري رحمه اللَّه في كتابه "الاستذكار" (¬1) في شرح "الموطأ": انفرد بهذا الحديث عمر بن ثابت وهو من ثقات أهل المدينة -يعني حديث أبي أيوب- ثم قال: حديث ثوبان يعضد هذا. وساقه من رواية النسائي ثم قال: لم يبلغ مالكًا رحمه اللَّه حديث أبي أيوب على أنه حديث مدني والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه. والذي كرهه له مالك أمر قد بينه وأوضحه وذلك خشية أن يضاف إلى فرض رمضان وأن يسبق ذلك إلى العامة، وكان رحمه اللَّه متحفظًا كثير الاحتياط للدين، وأما صيام الستة أيام من شوال على طلب الفضل وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان -رضي اللَّه عنه- فإن مالكًا رحمه اللَّه لا يكره ذلك إن شاء اللَّه تعالى؛ لأن الصوم جنة، وفضله معلوم يذر الصائم طعامه وشرابه وشهوته للَّه تعالى وهو عمل بر وخير، وقد قال اللَّه تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2) ومالك رحمه اللَّه لا يجهل شيئًا من هذا ولم يكره من ذلك إلا ما خافه على أهل الجهالة والجفاء إذا استمر ذلك وخشي أن يعد من فرائض الصيام مضافًا إلى رمضان، وما أظن مالكًا رحمه اللَّه جهل الحديث واللَّه أعلم؛ لأنه حديث مدني انفرد به عمر بن ثابت، وأظن عمر بن ثابت لم يكن عنده ممن يعتمد عليه، وقد ترك مالك الاحتجاج ببعض ما رواه عمر بن ثابت، وقيل: إنه روى عنه، ولولا علمه به ما أنكر بعض شيوخه إذا لم يبق في حفظه لبعض ما يرويه، وقد يمكن أن يكون جهل الحديث ولو علمه لقال به، واللَّه أعلم. هذا كله كلام ابن عبد البر رحمه اللَّه (¬3). ¬

_ (¬1) "الاستذكار" (3/ 379 - 380). (¬2) سورة الحج: الآية 77. (¬3) "الاستذكار" (3/ 379 - 380).

وأين هذا الإنصاف من كلام ابن دحية، وقوله عن عمر بن ثابت أنه ربما لم يكن عند مالك ممن يعتمد عليه إنما قاله ظنًّا منه وليس عن مالك في ذلك نقل صريح. وقد وثق عمر بن ثابت النسائي وأبو حاتم بن حبان ولم يضعفه أحدًا، وكون مالك روى عنه بعيد؛ لأنه مقدم عليه روى عن عائشة -رضي اللَّه عنها- وغيرها، وروى عنه: الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وصفوان بن سليم ومحمد بن عمرو بن علقمة وعبد ربه بن سعيد، وهؤلاء كلهم شيوخ مالك رحمه اللَّه وهم متقدمون وكذلك باقي الرواة عنه، ولم نجد لأحد من طبقة مالك عنه رواية على أن ابن أبي حاتم قد ذكر عن أبيه أن مالكًا روى عنه، فاللَّه أعلم. وعلى تقدير أن يكون عمر بن ثابت ليس ممن يعتمد عليه فإن هذا لا يضر؛ لأنه لم يصرح بضعفه وغيره قد وثقه، والحديث قد صح أيضًا من رواية ثوبان وشداد ابن أوس فلا يضر هذا التوهم واللَّه أعلم. وقال القاضي رحمه اللَّه في "شرح مسلم" عند حديث أبي أيوب: أخذ بهذا الحديث جماعة من العلماء، وروي عن مالك وغيره كراهية ذلك لما ذكر في "الموطأ". . . إلى أن قال: قال شيوخنا: ولعل مالكًا إنما كره صومها على هذا وأن يعتقد من يصوم أنه فرض، وأما على الوجه الذي أراده النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فجائز، واللَّه أعلم. وقال القرطبي رحمه اللَّه في "شرح مسلم" أيضًا: وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جماعة من العلماء فصاموا هذه الستة أيام إثر عيد الفطر منهم الشافعي وأحمد بن حنبل وغيره ذلك، ثم ذكر كلام مالك في "الموطأ" الذي قدمناه، ثم قال: ويظهر من كلام مالك هذا أن الذي كرهه هو وأهل العلم المشار إليهم إنما هو أن يوصل تلك الأيام الستة بيوم الفطر لئلا يظن أهل الجهالة والجفاء أنها بقية من صوم رمضان، وأما إذا باعد بينها وبين يوم الفطر فيبعد ذلك التوهم وينقطع ذلك التخيل. قال: ومما يدل على اعتبار هذا المعنى أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد حمى الزيادة في رمضان من أوله بقوله: "إِذَا دَخَلَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَأَمْسِكُوا عَنِ الصَّوْمِ" (¬1)، وبقوله: "لَا ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2337)، والترمذي (738)، والنسائي في الكبرى (2911)، وابن ماجه (1651)، وابن حبان (3589) من حديث أبي هريرة. =

يَتَقَدَّمَنَّ أحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ" (¬1). وإذا كان هذا في أوله فينبغي أن تحمى الذريعة أيضًا من آخره؛ فإن توهم الزيادة فيه أيضًا متوقع، فأما صومها متباعدًا عن يوم الفطر بحيث يؤمن ذلك التوقع فلا يكرهه مالك ولا غيره. وقد روى مطرف عن مالك أنه كان يصومها في خاصة نفسه، قال مطرف: وإنما كره صومها لئلا يلحق أهل الجهالة ذلك برمضان، فأما من رغب في ذلك لما جاء فيه فلم ينهه، واللَّه أعلم. هذا آخر كلام القرطبي رحمه اللَّه. فهؤلاء أئمة المالكيين والمتحرين فيها نقل عنه ويظهر من كلامهم أن مالكًا لم يضعف الحديث ولا أحدًا من رواته كما زعم ابن دحية وإنما كرهها لهذا التخيل. وقد أجاب الشيخ أبو حامد الإسفراييني رحمه اللَّه عن هذا التوهم أن الزيادة في الصوم إنما يصير ذريعة لو لم يفصل بينها وبين شهر رمضان بشيء، فأما إذا كان يفصل بينهما ولا محالة بيوم الفطر فإنه لا يؤدي إلى ذلك. وقال الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه اللَّه في "جامعه" بعد ذكر حديث أبي أيوب الأنصاري: وقد استحب قوم صيام ستة أيام من شوال بهذا الحديث. وقال ابن المبارك: هو حسن مثل صوم ثلاثة أيام من كل شهر. قال ابن المبارك: وروي في بعض الحديث ويلحق هذا الصيام برمضان. واختار ابن المبارك أن تكون ستة أيام من أول الشهر، وقد روي عن ابن المبارك أنه قال: إن صام ستة أيام من شوال متفرقًا فهو جائز. ثم ذكر بعد ذلك رواية الدراوردي له عن صفوان بن سليم، كما تقدم، واللَّه أعلم. فهذا ما يسر اللَّه من الكلام على هذا الحديث على حسب ما وقفت عليه والجواب عن كلام أبي الخطاب بن دحية رحمه اللَّه والحمد للَّه أولًا وآخرًا، وصل اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، ورضي اللَّه عن أصحاب رسول اللَّه أجمعين. ¬

_ = وقال الترمذي: حسن صحيح. (¬1) رواه البخاري (1914) من حديث أبي هريرة.

قال مؤلفه: وتمت به كتابةً وجمعًا في صبيحة يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر رجب سنة عشرين وسبعمائة بدمشق المحروسة حرسها اللَّه تعالى وبلاد الإسلام وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل

العدة عند الكرب والشدة

العُدَّةُ عِنْدَ الْكَرْبِ وَالشِّدَّةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين المبعوث رحمةً للعالمين، صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (سورة غافر: الآية 60). وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} (البقرة: الآية 186). وقال -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما رواه عن ربنا تبارك وتعالى في الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ وَمَنْ يَسْتَغفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ". وبعد: فهذه رسالة للحافظ العلائي جمع فيها الأحاديث التي اشتملت على الأدعية التي جاءت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الدعاء عند الكرب والهموم والمصائب التي عليه السلام يدعو بها في ذلك، وأيضًا فقد نقل بعض المواقف عن الصالحين من السلف، أرجو من اللَّه أن ينفعني بها والمسلمين جميعًا، آمين.

وصف النسخة الخطية

وصف النسخة الخطية اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسختين خطيتين لم أظفر بغيرهما: النسخة (د). وهي النسخة الخطية المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (88) مجاميع م، وهي نسخة متقنة جدًّا مكررة ومقابلة إلا أنها ناقصة. - اسم الناسخ: غير معروف. - تاريخ النسخ: غير معروف. - نوع النسخ: نسخ معتاد. - عدد الأوراق: 16 ورقة. النسخة (ب). وهي نسخة خطية محفوظة بمكتبة برلين ضمن مجموع وقد حصلت عليها من مكتبة المكنز الإِسلامي. - اسم الناسخ: غير معروف. - تاريخ النسخ: 1130 هـ بالقسطنطينية. - نوع النسخ: نسخ معتاد. - عدد الأوراق: 10 ورقات. توثيق الكتاب: لم أجد من نسب هذه الرسالة للإمام الحافظ العلائي، إلا أنه قد وُجِدَ على طرة النسختين الخطيتين نسبة هذه الرسالة للإمام العلائي.

طرة النسخة الخطية

الورقة الأولى من النسخة الخطية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رب يسر الحمد للَّه رب العالمين، وصلواته على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلامه. قال اللَّه تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬1). وثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ". أخرجاه في "الصحيحين" (¬2). وعن عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمَسْجِدَ فَإذَا رَجُلٌ يَدْعُو يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْاَلُكَ بأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ". أخرجه أبو داود والترمذي وَالنسائي وابن ماجه في سننهم، وصححه ابن حبان أيضًا في "صحيحه" والحاكم (¬3). وروى ابن حبان أيضًا في "صحيحه" عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حَلقَةٍ فَقَامَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَلَمَّا قَعَدَ لِلتَّشَهُدِ دَعَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِني أَسْأَلْكَ بأَنَّ لَكَ الْحَمْدُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِاسْمِهِ الْأَعَظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى" (¬4). ¬

_ (¬1) الأعراف: الآية 180. (¬2) "صحيح البخاري" (2736)، و"صحيح مسلم" (2677) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬3) "سنن أبي داود" (1439)، "جامع الترمذي" (3475)، "سنن النسائي الكبرى" (7666)، "سنن ابن ماجه" (3857)، "صحيح ابن حبان" (892)، "المستدرك" (1/ 683). (¬4) "صحيح ابن حبان" (893).

رواه أبو داود والنسائي أيضًا (¬1)، وقال فيه الحاكم: صحيح على شرط مسلم (¬2). وعن أبي الدرداء -رضي اللَّه عنه- قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْعَصْرَ فَمَرَّ كَلْبٌ فَمَا بَلَغَتْ يَدُهُ رِجْلَهُ حَتَّى مَاتَ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "مَنِ الَّذِي دَعَا عَلَى هَذَا الْكَلْبِ آنِفًا"؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أنَا يَا رَسُولَ اللَّه. فَقَالَ: "لَقَدْ دَعَوْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، فَلَوْ دَعَوْتَ لِجَمِيع أُمَّةِ مُحمَّدٍ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، كَيْفَ تَدْعُو"؟ فَقَالَ: قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أسْأَلُكَ (¬3) لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ اكْفِنَا هَذَا الْكَلْبَ بِمَا شِئْتَ فَمَا بَرحَ حَتَّى مَاتَ. رواه أبو بكر القَطِيعِي في "أماليه" (¬4). وعن سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا بِهَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَإنَّهُ لَمْ يَدْعُ بهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءِ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ". رواه الترمذي والنسائي (¬5). وأخرجه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" ولفظه (¬6): قال سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى الاسْمِ الْأَعْظَم الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ الدَّعْوَةُ الَّتِي دَعَا بِهَا يُونُسُ عليه السلام حَيْثُ نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ الثَّلاثِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّه هَل كَانَت لِيُونَسَ عليه السلام خَاصَّةً أَمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّة؟ ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1495)، "سنن النسائي" (3/ 52). (¬2) "المستدرك" (1/ 683). (¬3) في "العدة للكرب والشدة" للضياء، زاد بعدها: "بأن لك الحمد". (¬4) ومن طريق القطيعي رواه الحافظ الضياء في كتاب "العدة للكرب والشدة" (رقم 16). (¬5) "جامع الترمذي" (3505)، "سنن النسائي الكبرى" (10492). (¬6) "المستدرك" (1/ 685).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: الآية 88] ". وعن أنسٍ -رضي اللَّه عنه- أن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: "يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِى اسْمَ اللَّهِ الْعَظِيم. فَقَالَ لهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قُومِي فَتَوَضَّئِي ثُمَّ ادْعِي حَتَّى أَسْمَعَ". قَالَت: فَفَعَلْتُ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى كُلِّهَا مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَم، وَبِاسْمِكَ الْعَظِيمِ الْأَعْظَمِ وَبِاسْمِكَ الْكَبِيرِ الْأَكْبَرِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَصَبْتِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ". رواه الطبراني في كتاب "الدعاء" له (¬1). وقال ابن عباس -رضي اللَّه عنه-: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" (¬2). وعند مسلمٍ في روايةٍ أخرى: "كَلِمَاتُ الْفَرَجِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعِليُّ الْعَظِيمُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" (¬3). وعن عليٍّ -رضي اللَّه عنه- قال: لَقَّنَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَأَمَرَنِي إِذَا نَزَلَ بِيَ كَرْبٌ أَوْ شَدَائِدٌ أنْ أقُولَهُنَّ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبحَانَ اللَّهِ وَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين". رواه النسائي وابن حبان والحاكم (¬4). وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا أهمه أمر رفع رأسه إلى السماء فقال: "سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ" وإذا اجتهد في الدعاء قال: "يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ". ¬

_ (¬1) "الدعاء" (118)، وفيه راو لم يسم. (¬2) رواه البخاري (6345)، ومسلم (2730). (¬3) لم أجد هذا اللفظ في "صحيح مسلم" وهو في "مسند عبد بن حميد" (رقم 657)، واللَّه تعالى أعلم. (¬4) "سنن النسائي الكبرى" (7673)، "صحيح ابن حبان" (865)، "المستدرك" (1/ 688).

رواه الترمذي (¬1). وعن أسماء بنت عميس -رضي اللَّه عنها- قالت: قال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهَا عِنْدَ الْكَرْبِ أَوْ فِي الْكَرْبِ: اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا". رواه أبو داود والنسائي (¬2). وأخرجه الطبراني ولفظه: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جمع بني عبد المطلب فقال لهم: "إِنْ نَزَلَ بِأَحَدٍ مِنْكُمْ هَمٌّ أَوْ غَمٌّ أَوْ كَرْبٌ أَوْ لَأوَاء أَوْ بلَاَءٌ أَوْ سُقمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" (¬3). وفي روايةٍ عند ابن أبي الدنيا فيه قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "مَنْ أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ غَمٌّ أَوْ سُقمٌ أَوْ شِدَّةٌ أَوْ أزل أَوْ لَأوَاء فَقَالَ: اللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيئًا؛ كُشِفَ ذَلِكَ عَنْهُ" (¬4). وعن ثوبان -رضي اللَّه عنه- أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا رَاعَهُ أَمْرٌ قَالَ: "اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي لَا شَرِيكَ لَهُ". رواه النسائي (¬5). وروى أيضًا (¬6) عن أبي بكرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دَعَوَاتُ الْمَكْرُوب: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ". وأخرجه ابن حبان أيضًا في "صحيحه" (¬7). وعن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- قال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبرْاهِيمُ عليه السلام ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3436) وقال: حسن غريب. (¬2) "سنن أبي داود" (1525)، "سنن النسائي الكبرى" (10483). (¬3) "الدعاء" (1025). (¬4) "الفرج بعد الشدة" (1/ 79 رقم 51)، وعندها "ذل" بدلًا من "أزل". (¬5) "السنن الكبرى" (10493). (¬6) "سنن النسائي الكبرى" (10487). (¬7) "صحيح ابن حبان" (970).

حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ قَالُوا {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. رواه البخاري (¬1). وعن أبي سعيدٍ الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَاسْتَمَعَ الْإِذْنَ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخ فَيَنْفُخُ" فَكَأَنَّ ذَلِكَ شَقَّ عَلَى أصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ لَهُمْ: "قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا" (¬2). وعن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ إِذَا نَزَلَ بِهِ هَمٌّ أَوْ غَمٌّ: "يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ". رواه الحاكم في "صحيحه" (¬3). وروى النسائي من حديث عليٍّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ بَدْرٍ حَالَةَ الْقِتَالِ فَإذَا هُوَ سَاجِدٌ وَيَقُولُ: "يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ" فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ (¬4). وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما كَرَبَنِي أَمْرٌ إِلَّا تَمَثَّلَ لِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ: يَا مُحَمَّد قُلْ: تَوَكَّلْتُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَليٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا". رواه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (¬5). وروى أيضًا فيه عن أبي أمامة الباهلي -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَنْ نَزَلَ بِهِ كَرْبٌ أَوْ شِدَّةٌ فَلْيَتَحَيَّن الْمُنَادِي -يَعْنِي الْمُؤَذنَ- فَإِذَا كَبَّرَ كَبَّرَ، وَإِذَا تَشَهَّدَ تَشَهَّدَ، وَإِذَا قَالَ: حَيِّ عَلَى الصَّلَاة قَالَ: حَيّ عَلَى الصَّلَاة، وَإِذَا قَالَ: حَيِّ عَلَى الْفَلَاح قَالَ: حَيِّ عَلَى الْفَلَاح، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الصَّادِقَةِ الْمُسْتَجَابِ لَهَا دَعْوَةِ الْحَقِّ وَكَلِمَةِ ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (4563). (¬2) رواه الترمذي (2431)، وابن حبان (823). وقال الترمذي: حديث حسن. (¬3) "المستدرك" (1/ 689) وقال: صحيح الإسناد، وضعفه الذهبي في التلخيص. (¬4) "السنن الكبرى" (10447). (¬5) "المستدرك" (1/ 689) وصححه.

التَّقْوَى أَحْيِنَا عَلَيْهَا وَأَمِتْنَا عَلَيْهَا وَابْعَثْنَا عَلَيْهَا وَاجْعَلْنَا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، ثُمَّ يَسْأَل حَاجَتَهُ" (¬1). وعن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بكُّلِّ اسْمُ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا من خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبيعَ قَلْبِي وَنُورَ بَصَرِي وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي؛ إِلَّاَ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَجًا". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَعَلَّمُهَا. قَالَ: "بَلَى يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ". رواه الإمام أحمد في "مسنده" وابن حبان والحاكم في صحيحيهما (¬2). وعن أبي طلحة الأنصاري -رضي اللَّه عنه- قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي غَزَاةٍ فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "يَا مَالِكُ يَوْمَ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ". قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الرِّجَالَ تُصْرَعُ وَتَضْرِبُهَا الْمَلَائِكَةُ مِنْ بَيْن يَدَيهَا وَمِن خَلْفِهَا. رواه الطبراني في كتاب "الدعاء" (¬3) له. وروى فيه أيضًا بإسنادٍ صحيح عن عبد اللَّه بن جعفر -رضي اللَّه عنه- قال: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ خَرَجَ النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَاشِيًا إِلَى الطَّائِفِ عَلَى قَدَمَيْهِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَانْصَرَفَ فَأَتَى ظِلَّ شَجَرَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين وَأَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِين، إِلَى مَنْ تَكِلْنِي إِلَى عَدُوٌّ يَتَجَهَّمُنِي أَمْ إِلَى صَدِيقٍ مَلَّكْتَهُ أَمْري، إِنْ لَمْ تكُنْ غَضْبَان عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشرَقَتْ لَهُ ¬

_ (¬1) "المستدرك" (1/ 731) وصححه الحاكم، وضعفه الذهبي في التلخيص. (¬2) "مسند أحمد" (1/ 391)، "صحيح ابن حبان" (972)، "المستدرك" (1/ 690). (¬3) "الدعاء" (1033)، ورواه في "المعجم الأوسط" (8163) بإسناده. قال الهيثمي (5/ 328): فيه عبد السلام بن هاشم وهو ضعيف.

الظُّلُمُاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ أَوْ يَحِلَّ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ" (¬1). وعن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألَا أُعَلِّمُكُم الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا مُوسَى عليه السلام حِينَ جَاوَزَ الْبَحْرَ بِبَنِي إسْرَائِيل"؟ فَقُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قال: "قُولُوا: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، وَلَكَ الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللَّه الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَمَا تَرَكتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. رواه الطبراني في "معجمه الصغير" (¬2) بإسنادٍ جيدٍ. وروى فيه أيضًا عن أنسٍ -رضي اللَّه عنه- عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إِذَا طَلَبْتَ حَاجَةً فَأَحْبَبْتَ أَنْ تَنْجَحَ فَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْحَكِيمُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُو الْحَيُّ الْحَلِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَب الْعَرْشِ الْعَظِيم، الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} اللَّهُمَّ إِنِّي أسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِن كُلِّ بِرٍّ وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، اللَّهُمَّ لَا تَدْع لِي ذَنْبًا إِلَّا غَفَرْتَهُ وَلَا هَمًّا إِلَّا فَرَّجْتَهُ وَلَا دَيْنًا إِلَّا قَضَيْتَهُ وَلَا حَاجَةً مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا قَضَيْتَهَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين" (¬3). وروى الترمذي وابن ماجه من حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ ¬

_ (¬1) "الدعاء" (1036). (¬2) "المعجم الصغير" (339)، ورواه في "المعجم الأوسط" (3394) أيضًا، وقال الهيثمي (1/ 183): فيه من لم أعرفهم. (¬3) "المعجم الصغير" (341)، ورواه في "المعجم الأوسط" (3398) أيضًا، وقال الهيثمي (1/ 157): فيه عباد بن عبد الصمد، وهو ضعيف.

فَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ ثُمَّ لِيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لِيُثْنِي عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثُمَّ لِيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ، أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَسَلَامَةً مِنْ كُلِّ إِثْمٍ لَا تَدَعَ لِي ذَنْبًا إِلَّا غَفَرْتَهُ وَلَا هَمًّا إِلَّا فَرَّجْتَهُ وَلَا حَاجَةَ هِيَ لَكَ رِضًا إِلَّا قَضَيْتَهَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ" (¬1). وعن محجن بن الأدرع -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دَخَلَ الْمسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أسْأَلُكَ يَا أَللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذَنْبِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ غُفِرَ لَهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ" ثَلَاثَ مَرَّاتِ. أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬2). وعن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما- قال: عُرِضَ هَذَا الدُّعَاءُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "مَنْ دَعَا بِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي سَاعَةٍ مِن يَوْمِ جُمُعَةِ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ هَذَا: سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ يَا بَدِيع السَّمَوَاتِ وِالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ". رواه الحافظ ضياء الدين في تخريجه (¬3). وعن ابن عباسٍ -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أَكْثَرَ مِنَ الاسْتِغَفاِر أَوْ قَالَ: مَنْ لَزِمَ الاسْتِغفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ". ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (479)، و"سنن ابن ماجه" (1384)، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال. (¬2) "صحيح ابن خزيمة" (724)، والحديث رواه أبو داود (985)، والنسائي (3/ 52)، والحاكم (1/ 400) وصححه على شرط الشيخين. (¬3) "العدة للكرب والشدة" للحافظ الضياء (رقم 21)، والحديث رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 115)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1414) وقال: هذا حديث لا يصح.

رواه أبو داود والنسائي (¬1). وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ كَانَ دَوَاءً من تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ دَاء أَيْسَرُهَا الْهَمُّ". رواه الحاكم في "مستدركه" (¬2). وروى (¬3) أيضًا عن أبي أمامة الباهلي -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ للَّهِ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِمَنْ يَقُولُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، فَمَنْ قَالَهَا ثَلَاثًا قَالَ الْمَلَكُ: إِنَّ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكَ فَسَلْ حَاجَتَكَ" (¬4). وروي بسندٍ فيه مقال عن عائشة -رضي اللَّه عنها- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لما أهبط اللَّه آدم إلى الأرض قام وجاه الكعبة فصلى ركعتين فألهمه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هذا الدعاء: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فأغفر لي ذنبي، اللهم إني أسألك إيمانًا يباشر قلبي، ويقينا صادقًا حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت لي، ورضني بما قسمت لي. قال: فأوحى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إليه يا آدم إني قد قبلت توبتك وغفرت لك ذنبك ولن يدعني أحد بعد بهذا الدعاء إلا غفرت له ذنبه وكفيته الهم من أمره، واتجرت له من وراء كل تاجر، وأقبلت الدنيا إليه راغمة وإن لم يردها" (¬5). وعن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: دَخَلَ رَسُولُ اللَّه -رضي اللَّه عنه- ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ، فَقَالَ لَهُ: "يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِي أرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ"؟ قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1518)، "سنن النسائي الكبرى" (10290). (¬2) "المستدرك" (1/ 727) وصححه الذهبي، فتعقبه الذهبي وضعفه. (¬3) توجد ورقة ساقطة من النسخة (د). (¬4) "المستدرك" (1/ 728). (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6/ 117)، وقال الهيثمي (10/ 292): وفيه النضر بن طاهر وهو ضعيف.

قَالَ: "أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَامًا إِذَا قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّه هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ". قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بكَ من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ". قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأذْهَبَ اللَّهُ هَمِّي وَقَضَى دَيْنِي. رواه أبو داود (¬1). وعن أبي وائلٍ -رضي اللَّه عنه- قال: أتى عليًّا -رضي اللَّه عنه- رجلٌ فقال: يا أمير المؤمنين إني عجزت عن مكاتبتي فأعني، قال: أَلَا أُعَلِّمَكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ أحُدٍ دَيْنًا لَأَدَّاهَا اللَّهُ عَنْكَ، قَالَ: قُلِ "اللَّهُمَّ اكْفِني بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ". رواه الترمذي والحاكم في "مستدركه" (¬2). وعن أنس بن مالكٍ -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لمعاذ بن جبل: "ألا أعلمك يا معاذ دعاءً تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد دينًا لأداه اللَّه تعالى عنك". قال: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، رحمن الدنيا ورحيم والآخرة تعطيهما من تشاء وتمنعهما من تشاء، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من تشاء". رواه الطبراني في "معجمه" (¬3)، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" بلفظٍ آخر. وعن عائشة -رضي اللَّه عنها- أن أبا بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- دخل عليها فقال: هل سمعت من ¬

_ (¬1) "سنن أبي داود" (1555). (¬2) "جامع الترمذي" (3563)، و"المستدرك" (1/ 721). قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. (¬3) "المعجم الصغير" (558). وقال الهيثمي (10/ 299): رواه الطبراني في الصغير ورجاله ثقات.

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دعاءً كان يعلمناه وذكر أن عيسى بن مريم عليهما السلام كان يعلمه أصحابه ويقول: لو كان على أحد جبل دين ذهبًا لقضاه اللَّه عنه: "اللَّهُمَّ فَارِجَ الْهَمِّ كَاشِفَ الْغَمِّ مُجِيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ رَحْمَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْتَ تَرْحَمنِي فَارْحَمْنِي رَحْمَةً تُغْنِينِي بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ". قالت عائشة -رضي اللَّه عنها-: كان لأسماء بنت عميس عليَّ ثلاثة دنانير فكانت تدخل عليَّ فأستحيي أن أنظر في وجهها لأني لا أجد ما أقضيها فكنت أدعو بذلك الدعاء فما لبثت إلا يسيرًا حتى رزقني اللَّه تعالى رزقًا ما هو بصدقةٍ تصدق بها علي ولا ميراث ورثته فقضاه اللَّه عني وقسمت في أهلي منه (¬1). وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: بينما أنا أمشي مع رسول اللَّه استقبله رجل رث الثياب رث الهيئة مسقام، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا فُلَانُ مَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى"؟ قال: الفقر والسقم. قال: "أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كلِمَاتٍ إِذَا قُلْتَهُنَّ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْكَ الْفَقْرُ وَالسُّقْمُ"؟ فقال: ما يسرني بِهَذَا أني شهدت معك بدرًا وأحدًا. قال أبو هريرة: فقلت: يا رسول اللَّه علمنيهن. قال: "قُلْ: تَوَكَّلْتُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شرِيكٌ في الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَليٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا". قال: فلقي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أبا هريرة بعد أيام فقال: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا الَّذِي أَرَى مِنْ حُسْنِ حَالِكَ"؟ فقال: يا رسول اللَّه ما زلت أقول الكلمات منذ علمتنيهن. رواه الطبراني في كتاب "الدعاء" (¬2) له. وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أيضًا قال: جَاءَتْ فَاطِمَةُ -رضي اللَّه عنها- إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَسْأَلُهُ خَادِمًا ¬

_ (¬1) رواه البزار (62)، والحاكم (1/ 696) وضعفه البزار جدًّا، وكذا الذهبي في تلخيص المستدرك. (¬2) "الدعاء" (1045).

فَقَالَ لَهَا: "قُولِي: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيم رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإنْجِيلِ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ, وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ". رواه الترمذي وابن ماجه (¬1). وعن أنس بن مالكٍ -رضي اللَّه عنه- قال: كنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- واتبعته فقال: "انْطَلِقْ بِنَا حَتَّى نَدْخُلَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ" فدخلنا عليها فإذا هي نائمة مضطجعة، فقال: "يَا فَاطِمَةُ مَا يُنِيمُكِ هَذِهِ السَّاعَةَ"؟ قالت: ما زلت البارحة محمومة. قال: "فَأَيْنَ الدُّعَاء الَّذِي عَلَّمْتُكِ"؟ قالت: نسيته. قال: "قُولِي: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ وَلَا تَكِلْنِي إِلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ وَلَا إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ". رواه الطبراني في كتاب "الدعاء" (¬2) له. وروى فيه أيضًا عن سويد بن غفلة قال: أصابت عليًّا -رضي اللَّه عنه- فاقة فقال لفاطمة -رضي اللَّه عنها-: لو أتيت رسول اللَّه فسألتيه وكان عند أم أيمن فدقت الباب، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن هذا لدق فاطمة ولقد أتتنا في ساعة ما عودتنا أن تأتينا في مثلها فقومي فافتحي لها الباب" فقامت ففتحت لها الباب، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا فاطمة لقد أتيتينا في ساعة ما عودتينا أن تأتينا في مثلها". فقالت: يا رسول اللَّه الملائكة طعامها التسبيح والتحميد فما طعامنا؟ فقال: "والذي بعثني بالحق ما اقتبس في بيت آل محمد نار مذ ثلاثين يوما ولقد ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3400)، و"سنن ابن ماجه" (3831). (¬2) "الدعاء" (1046).

أتتنا أعنز فإن شئت أمرت لك بخمسة أعنز وإن شئت علمتك خمس كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام". فقالت: بل علمني الخمس كلمات التي علمكهن جبريل. فقال: "قولي: يا أول الأولين، ويا آخر الآخرين، ويا ذا القوة المتين، ويا راحم المساكين، ويا أرحم الراحمين". فقالت: فانصرفت حتى دخلت على عليٍّ -رضي اللَّه عنه- فقالت: ذهبت من عندك بالدنيا فأتيتك بالآخرة (¬1). وفيه أيضًا عن عمر -رضي اللَّه عنه- قال: جاء رجال أصحاب الصفة إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فشكوا إليه الحاجة. فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَكَادُ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَسْبِقَ الْقَدَرَ، قُولُوا: اللَّهُمَّ رَبّ السَّمَواتِ السَّبعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَاغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ" (¬2). وعن زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَّمَهُ هَذَا الدُّعَاء وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَاهَدَ بِهِ أَهْلَهُ كُلَّ صَبَاحٍ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ وَمِنْكَ وَبِكَ وَإِلَيْكَ اللَّهُمَّ مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ أو حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ كُلِّه مَا شِئْتَ كَانَ وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهَ وَاللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ مَا صَلَّيْتُ مِن صَلَاةٍ فَعَلَى مَنْ صَلَّيْتَ وَمَا لَعَنْتُ مِن لَعْنَةٍ فَعَلَى مَنْ لَعَنْتَ، أَنْتَ وَلِيَّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ إِنِي أَسْأَلُكَ الرِّضَا بِالْقَدَرِ وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَذَّةَ النَّظَرٍ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيم وَشَوْقًا إِلَى لِقَائِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ أعُوذُ بكَ اللَّهُمَّ أَنْ أَظْلِمَ أوْ أَظْلَمَ أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ أَوْ أَكْتَسِبَ خَطِيئَةً مُحْبِطَةً أَوْ أَذنب ذَنْبًا لَا تَغْفِرْهُ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَام فَإنِّي أَعْهَدُ إِليْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأُشْهِدُكَ وَكَفَى بِكَ شَهِيدًا أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ ¬

_ (¬1) "الدعاء" (1047). (¬2) "الدعاء" (1048).

لَكَ لَكَ الْمُلْكُ وَلَكَ الْحَمْدُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ وَلِقَاءَكَ حَقٌّ وَأنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَأَشْهَدُ أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي فَتَكِلْنِي إِلَى ضَيعَةٍ وَعَوْرَةِ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ فَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَإنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ". رواه الإمام أحمد بن حنبل -رضي اللَّه عنه- في "مسنده" (¬1) بإسنادٍ حسنٍ. وعن أبي أمامة الباهلي -رضي اللَّه عنه- قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أصبح وأمسى دعا بهذه الدعوات: "اللهم أنت أحق من ذكر وأحق من عبد وأنصر من أبتغي وأرأف من ملك وأجود من سئل وأوسع من أعطى أنت الملك لا شريك لك والفرد لا ندَّ لك كل شي هالك إلا وجهك لن تطاع إلا بإذنك ولن تعصى إلا بعلمك تطاع فتشكر وتعصى فتغفر أقرب شهيد وأنت حفيظ حلت دون النفس وأخذت بالنواصي وكتبت الآثار ونسخت الآجال القلوب لك مفضية والسر عندك علانية الحلال ما أحللت والحرام ما حرمت والدين ما شرعت والأمر ما قضيت والخلق خلقك والعبد عبدك وأنت اللَّه الرءوف الرحيم أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض وبكل حق هو لك وبحق السائلين عليك أن تعينني وأن تجيرني من النار بقدرتك". رواه الطبراني في كتاب "الدعاء" (¬2) له. وعن عثمان بن حنيفٍ -رضي اللَّه عنه- أنه كان عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وجاء له ضرير فشكى إليه ذهاب بصره وقال: يا رسول اللَّه ليس لي قائد وقد شق عليَّ، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ائت الميضأة فتوضأ ثم صلي ركعتين ثم قل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا محمد إِنِّي أتوجه بِكَ إِلَى رَبِّي فيجلى بصري"، وفي روايةٍ أخرى: "يا محمد أتوجه بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِتُقْضَى اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ". قال عثمان: فواللَّه ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم ¬

_ (¬1) "المسند" (21158). (¬2) "الدعاء" (318).

يكن به ضرر قط. رواه أبو داود والترمذي (¬1) وغيرهما، وصححه الحاكم في "مستدركه" (¬2). وعن أنس بن مالكٍ -رضي اللَّه عنه- قال: كان رجل على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يتجر من المدينة إلى بلاد الشام ومن بلاد الشام إلى المدينة ولا يصحب القوافل توكُّلًا منه على اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فبينما هو جاء من الشام يريد المدينة إذ عرض له لصٌّ على فرسٍ فصاح بالتاجر قف فوقف وقال له: شأنك بمالي وخلِّ سبيلي، فقال له اللصُّ: المال مالي وإنما أريد نفسك، فقال له التاجر: ما تريد بنفسي شأنك والمال وخلِّ سبيلي، قال: فردَّ عليه اللصُّ مثل المقالة الأولى، فقال له التاجر: أنظرني حتى أتوضأ وأصلي فأدعو ربي عَزَّ وَجَلَّ، فقال: افعل ما بدا لك، قال: فقام التاجر فتوضأ وصلى أربع ركعات ثم رفع يديه إلى السماء فكان من دعائه أن قال: يا ودود يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعال لما يريد، أسألك بقدرتك وبنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك وأسألك بقدرتك التي اقتدرت بها على جميع خلقك وبرحمتك التي وسعت كل شيءٍ، لا إله إلا أنت، يا مغيث أغثني، ثلاث مرات. فلما فرغ من دعائه إذا هو بفارسٍ على فرسٍ أشهب وعليه ثياب بيض وبيده حربة من نور فلما نظر اللصُّ إلى الفارس ترك التاجر ومرَّ نحو الفارس، فلما دنا منه طعنه الفارس طعنةً فقتله ثم جاء إلى التاجر فقال له: قم فقد قتله اللَّه تعالى، فقال له التاجر: من أنت؟ فقال: اعلم أني ملك من السماء الثالثة حين دعوت الأولى سمعنا لأبواب (السماء) (¬3) تعتعة قلنا: أمر حدث حتى دعوت الثانية ففتحت أبواب السماء (ولها شرر كشرر) (¬4) النار، ثم دعوت الثالثة فهبط جبريل عليه السلام من قبل السماء وهو ينادي ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (3578)، وقال: حسن صحيح غريب. (¬2) "المستدرك" (1/ 707). (¬3) سقط من (د). والمثبت من (ب)، "الرسالة القشيرية". (¬4) غير واضح في (د). والمثبت من (ب)، "الرسالة القشيرية".

من لهذا المكروب، فدعوت ربي أن يوليني قتله. واعلم يا عبد اللَّه أنه من دعا بدعائك هذا في كلِّ كربةٍ وكل شدَّةٍ ونازلةٍ فرَّج اللَّه عنه وأعانه. قال: وجاء التاجر سالمًا حتى دخل المدينة وأخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقصته فقال: "لَقَدْ لَقَّنَكَ اللَّهُ أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى الَّتِي إِذَا دُعِيَ بِهَا أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهَا أَعْطَى". رواه أبو القاسم القشيري في كتاب "الرسالة" (¬1). وَمِمَّا رُوِيَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى: عن [فقيه] (¬2) قالَ: بلغنا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا أصابه همٌّ أو غمٌّ أو كربٌ يقول: "حسبي الرب من العباد، وحسبي الخالق من المخلوق، حسبي الرازق من المرزوق، حسبي الذي هو حسبي، حسبي اللَّه ونعم الوكيل، حسبي اللَّه لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم" (¬3). وعن محمد بن علي الباقر -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- علَّم عليًّا دعوةً يدعو بها عند ما أهمه فكان -رضي اللَّه عنه- يعلمها ولده: "يا كائنًا قبل كلِّ شيءٍ ويا ربًّا يكون كل شيء، ويا كائنًا بعد كلِّ شيءٍ، افعل بي كذا وكذا" (¬4). وعن الضحاك -رضي اللَّه عنه- قال: دعاء موسى حين توجَّه إلى فرعون، ودعاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ودعاء كل مكروب: "كنت وتكون وأنت حيٌّ لا تموت، تنام العيون وتنكدر النجوم وأنت حيٌّ قيوم، لا تأخذك سنة ولا نوم" (¬5). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الفرج بعد الشدة" (¬6) عن الفضل بن الربيع عن ¬

_ (¬1) "الرسالة القشيرية" (ص 131 - 132). (¬2) في (د، ب): بقية. تحريف، والمثبت من التخريج. (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة" (53) من طريق الخليل بن مرة عن فقيه أهل الأردن بلاغا، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (4343). (¬4) رواه ابن أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة" (74). (¬5) رواه ابن أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة" (70). (¬6) "الفرج بعد الشدة" (74).

أبيه قال: خرج أبو جعفر المنصور سنة سبعٍ وأربعين ومائة فلما قدم المدينة قال: أبعث إلى جعفر بن محمد يعني الصادق من يأتيني به قتلني اللَّه إن لم أقتله فأمسكت عنه رجاء أن ينساه فأغلظ لي في الثانية فقلت جعفر بن محمد بالباب يا أمير المؤمنين فقال له: ائذن له فأدخلته فلما دنونا من الباب قام فحرك شفتيه فدخل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال المنصور: لا سلم اللَّه عليك يا عدو اللَّه تلحد في سلطاني وتبغي الغوائل في ملكي قتلني اللَّه إن لم أقتلك. فقال له جعفر بن محمد: يا أمير المؤمنين إن سليمان أعطي فشكر وإن أيوب ابتلى فصبر وإن يوسف ظُلم فغفر، فنكس طويلًا ثم رفع رأسه إليَّ وقال: إلى وعندي يا أبا عبد اللَّه البريء الساحة السليم الباحة القليل الغائلة، جزاك اللَّه من ذي رحم أفضل ما يجزي ذوي الأرحام عن أرحامهم، ثم تناول يده فأجلسه معه على فرشه ثم دعا بالغالية فطيبه بيده حتى حسبت أن لحيته تقطر منها ثم قال: في حفظ اللَّه وكلاءته يا ربيع الحق أبا عبد اللَّه جائزته وكسوته، فانصرف فلحقته فقلت: إني قد رأسط قبلك ما لم تر ورأيت بعدك ما قد رأيت، وقد رأيتك تحرك شفتيك فما الذي قلت؟ قال: نعم إنك رجل منا أهل البيت ولك محبة وود وهو دعاء أحفظه عن آبائي عليهم السلام قلت: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام واكنفني بكنفك الذي لا يرام وارحمني بقدرتك عليَّ أنت ثقتي ورجائي، رب كم من نعمة أنعمت بها علي قلَّ لك عندها شكري، وكم من بلية ابتليتني بها قلَّ لك عندها صبري فيا من قلَّ عند نعمه شكري فلم يحرمني، ويا من قلَّ عند بلائه صبري فلم يخذلني، ويا من رآني عند البلايا فلم يفضحني، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع معروفه أبدًا، ويا ذا النعم التي لا تحصى عددًا، أسألك أن تصلي على سيدنا محمد وعلى آل محمد، اللهم إنه عبد من عبادك ألقيت عليه سلطانًا من سلطانك فخذ بسمعه وبصره وقلبه إلى ما فيه صلاح أمري، وبك أدرأ في نحره وأعوذ بك من شره، أعني على ديني بدنياي، وأعني على آخرتي بتقواي، واحفظني فيما غبت عنه ولا تكلني إلى نفسي فيما حضرته يا من لا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة اغفر لي ما لا يضرك وأعطني ما لا ينقصك إنك أنت الوهاب، يا إلهي أسألك فرجًا قريبًا وصبرًا جميلًا ورزقًا

واسعًا وأسألك العافية من كل بلية وأسألك الشكر على العافية، وأسألك دوام العافية، وأسألك الغنى عن الناس ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: إذا أتيت سلطانًا مهيبًا تخاف أن يسطو عليك فقل: اللَّه أكبر اللَّه أكبر اللَّه أعز من خلقه جميعًا، اللَّه أعز مما أخاف وأحذر، أعوذ باللَّه الذي لا إله إلا هو ممسك السماوات السبع أن تقع على الأرض إلا بإذنه من شر عبدك فلان وجنوده وأتباعه من الجن والإنس، اللهم كن لي جارًا من شرهم جل ثناؤك وعز جارك وتبارك اسمك ولا إله غيرك ثلاث مرات (¬1). وعن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنهما- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا تخوف أحدكم السلطان فليقل: اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم كن لي جارًا من شرِّ فلان ويسمي الذي يريده وشرِّ الجن والإنس وأتباعهم أن يفرط عليَّ أحد منهم عز جارك وجلَّ ثناؤك ولا إله غيرك". رواه الطبراني (¬2). وروى أيضًا (¬3) عن محمد بن سهل القصار قال: حدثني أبي أنه كان في مجلس الحجاج وهو يعرض خيلًا وعنده أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- فقال له الحجاج: يا أبا حمزة هل رأيت عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مثل هذه الخيل، فغضب أنس وقال رأيت عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أفضل وخيرًا منها خيل يغدى بها ويراح بها في سبيل اللَّه وإنما متخذون هذه رياءً بينكم فقال له الحجاج: أيها الشيخ لولا كتاب أتانا من أمير المؤمنين يحفظك لفعلت بك وفعلت، فقال له أنس رضي اللَّه تعالى عنه كلا لقد علمني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما أحترز به من كل شيطان رجيم ومن كل جبار عنيد، فجثا الحجاج على ركبتيه وقال: علمنيهن يا عم، فقال: لست لها بأهل، فدس إلى عياله وولده فأبوا عليه. ¬

_ (¬1) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 23). (¬2) "الدعاء" (1056). (¬3) "الدعاء" (1059).

قال محمد بن سهل: قال أبي: حدثني بعض بنيه أنه قال بسم اللَّه على نفسي وديني، بسم اللَّه على ما أعطانيه ربي، بسم اللَّه على أهلي ومالي اللَّه أكبر ربي لا أشرك به شيئًا أجرني من كل شيطان رجيم ومن شر كل جبار عنيد إن وليي اللَّه الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين فإن تولوا فقل حسبي اللَّه لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم". رواه العثماني في "فوائده" من طريقٍ أخرى (¬1). وروى العلاء بن زيد الثقفي بنحو هذه القصة وفيه فقال أنس -رضي اللَّه عنه-: علمني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلمات إذا تكلمت بهن لم أخف من سلطان سطوه ولا من شيطان عتوه وقد تكلمت بهن الغداة. . (¬2). فقال: إنه علمني الكلام الذي علمك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال يا بني قل سبع مراتٍ بعد صلاة الصبح: بسم اللَّه على نفسي وديني، بسم اللَّه على أهلي ومالي، بسم اللَّه على كل شيء أعطاني ربي، بسم اللَّه خير الأسماء، له الأرض والسماوات، لا يضر مع اسمه داء، بسم اللَّه رب السماوات والأراضين ورب العرش العظيم، بسم اللَّه افتتحت وعلى اللَّه توكلت، ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا باللَّه، باسم رب جبريل وميكائيل أشهد أن محمدًا رسول اللَّه، اللَّه أكبر لا إله إلا اللَّه الحليم الكريم، لا إله إلا اللَّه له الحمد سبحان اللَّه رب العالمين، لا إله إلا اللَّه رب السموات والأراضين، رب العرش العظيم، اللهم إني أسألك من خيرك الذي لا يعطيه غيرك لا إله إلا أنت، عز جارك وجل ثناؤك، اجعلني في عياذك من كل سوء ومن كل شيطان رجيم، إن وليي اللَّه الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين فإن تولوا فقل حسبي اللَّه لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم (¬3). وعن عبد الرحمن بن زياد قال: بلغني أنه من دخل على ذي سلطانٍ فقال: بسم ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهت نسخة دار الكتب. (¬2) طمس في (ب). (¬3) عزاه الهندي في "كنز العمال" (2/ 771) لأبي الشيخ في "الثواب" عن أبان عن أنس.

اللَّه ربي لا إله إلا اللَّه لا حول ولا قوة إلا باللَّه؛ وقاه اللَّه شره وسدده في منطقه. وعن أبي مجلز لاحق بن حميد قال: من خاف من أمير ظلمه فقال: رضيت باللَّه ربًّا وبالاسلام دينًا وبحمدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبالقرآن حكمًا وإمامًا؛ نجاه اللَّه منه. وروى ابن أبي الدنيا في كتابه عن يحيى بن سليم أنه بلغه أن ملك الموت عليه السلام استأذن ربه أن يسلم على يعقوب فأذن له فأتاه فسلم عليه فقال له: بالذي خلقك أقبضت روح يوسف؟ فقال: لا. ثم قال: أفلا أعلمك كلمات لا تسأل اللَّه شيئًا إلا أعطاك؟ قال: بلى. قال: فقل: يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدًا ولا يحصيه غيره. قال: فما طلع الفجر حتى أتي بقميص يوسف عليه السلام (¬1). وعن إبراهيم بن خلاد قال: نزل جبريل عليه السلام على يعقوب فشكا إليه ما هو فيه فقال له جبريل: ألا أعلمك دعاءً إذا أنت دعوت به فرج اللَّه عنك؟ قال: بلى. قال: قل: يا من لا يعلم كيف هو إلا هو، ويا من لا يبلغ كنه قدرته غيره فرج عني؛ فأتاه البشير (¬2). وعن مدلج بن عبد العزيز عن شيخٍ من قريش أن جبريل عليه السلام هبط على يعقوب عليه السلام فقال: يا يعقوب تملق ربك. قال: يا جبريل كيف أقول؟ قال: قل: يا كثير الخير، يا دائم المعروف. قال: فأوحى اللَّه إليه: لقد دعوتني بدعاءٍ لو كان ابناك ميتين لنشرتهما لك (¬3). ¬

_ (¬1) "الفرج بعد الشدة" (38). (¬2) "الفرج بعد الشدة" (40). (¬3) "الفرج بعد الشدة" (45).

وعن أبي سعيد مؤذن الطائف أن جبريل أتى يوسف عليه السلام فقال: اشتد عليك الحبس؟ قال: نعم. قال: قل: اللهم اجعل لي من كل ما أهمني وكربني من أمر دنياي وآخرتي فرجًا ومخرجًا، وارزقني من حيث لا أحتسب، واغفر لي ذنوب، وثبت رجاءك في قلبي، واقطعه عمن سواك حتى لا أرجو أحد غيرك (¬1). وعن الخطاب بن عثمان قال: حدثنا محمد بن عمر [عن] (¬2) رجل من أهل الكوفة؛ أن جبريل عليه السلام حين دخل على يوسف عليه السلام السجن قال له: قل: اللهم يا شاهدًا غير غائبٍ، ويا قريبًا غير بعيدٍ، ويا غالبًا غير مغلوبٍ، اجعل لي من أمري فرجًا ومخرجًا وارزقني من حيث لا أحتسب (¬3). وروى ابن أبي حاتمٍ في كتاب "الدعاء" عن موسى بن عقبة أن جبريل عليه السلام قال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما بعثت إلى أحدٍ أحب إليَّ منك أفلا أعلمك دعاءً اختبأته لك لم أعلمه أحدًا قبلك تدعو به في الرغبة والرهبة: يا نور السموات والأرض، ويا بديع السموات والأرض، ويا ذا الجلال والإكرام، يا غوث المستغيثين ومنتهى رغبة العابدين، ومنفس المكروبين، ومفرج المهمومين، وصريخ المستصرخين، ومجيب دعوة المضطرين، كاشف كل كرب، ثم تسأل كل حاجةٍ من حوائج الدنيا والآخرة (¬4). وروي عن جعفر بن محمد رحمه اللَّه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دعا يوم أُحدٍ بهذا الدعاء: يا صريح المكروبين، ومجيب المضطرين، وكاشف الكرب العظيم، اكشف كرب وهمي فإنك ترى حالي وحال أصحابي، قال: فصرف اللَّه عنه عدوه. ¬

_ (¬1) "الفرج بعد الشدة" (44). (¬2) ليس في (ب). والمثبت من "الفرج بعد الشدة". (¬3) "الفرج بعد الشدة" (39). (¬4) رواه الطبراني في "الدعاء" (1459) عن ابن عمر بنحوه.

وعن معروف الكرخي رحمه اللَّه قال: اجتمعت اليهود على قتل عيسى عليه السلام بزعمهم فأهبط اللَّه عَزَّ وَجَلَّ جبريل عليه السلام عليه وفي باطن جناحه مكتوب: اللهم إني أعوذ باسمك الأعز الأجل، وأدعوك باسمك اللهم الأحد الصمد، وأدعوك باسمك اللهم العظيم الوتر، وأدعوك اللهم باسمك الكبير المتعالي الذي ملأ الأركان كلها أن تكشف عني ضرَّ ما أمسيت وأصبحت فيه؛ فأوحى اللَّه تعالى إلى جبريل عليه السلام أن ارفع عبدي إليَّ (¬1). وروى جعفر بن محمد الصادق رحمه اللَّه أن الحسن بن علي -رضي اللَّه عنهما- أراد أن يكتب إلى معاوية كتابًا يستمحنه فيه فغلبت عيناه فرأى في النوم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: أتكتب إلى مخلوقٍ تسأله حاجتك وتاع أن تسأل ربك، قل: اللهم إني أسألك في كل أمرٍ ضعفت عنه حيلتي ما لم تنته إليه رغبتي ولم يخطر على بالي ولم يجر على لساني، وأن تعطيني من اليقين ما يحجز في أن أسأل أحدًا من العالمين إنك على كل شيء قدير؛ فلما انتبه قال ذلك ودعا به فلم يلبث إلا قليلًا حتى بعث إليه معاوية بمائة وخمسين ألفًا (¬2). وروى الإمام أبو بكر الطُّرطُوشي (¬3) رحمه اللَّه في كتابه "سراج الملوك" أن ملك صقلية أرق ذات ليلة ومنع النوم فأرسل إلى قائد البحر وقال له انفذ الآن مركبًا إلى أفريقية يأتون بأخبارها، فعمد القائد مركبًا وأرسله، فلما أصبحوا إذا بالمركب موضعه لم يبرح، فقال له الملك: أليس قد فعلت ما أمرتك به؟ قال: نعم، امتثلت أمرك وأنفذت المركب فرجع بعد ساعة وسيحدثك مقدم المركب فجاء ومعه رجل، فقال له الملك: ما منعك أن تذهب حيث أمرت؟ ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر (47/ 473). (¬2) رواه ابن عساكر (13/ 166) بنحوه. (¬3) هو محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب الطرطوشي الفهري الإمام أبو بكر الأندلسي المالكي المتوفى بالإسكندرية سنة 520 عشرين وخمسمائة. من تصانيفه: بدع الأمور ومحدثاتها، بر الوالدين، رسالة العدة عند الكروب والشدة، سراج الملوك.

قال: ذهبت بالمركب فبينما أنا في جوف الليل والبحارون يجدفون إذا أنا بصوت يقول: يا اللَّه يا اللَّه يا غياث المستغيثين يكررها مرات، فلما استقر صوته في أسماعنا ناديناه مرارًا لبيك لبيك وجدفنا بالمركب نوح الصوت وهو ينادي يا غياث المستغيثين ونحن نجيبه فألفينا هذا الرجل غريقًا في آخر رمقٍ من الحياة فاستقيناه من البحر وسألناه عن حاله، فقال: كنا مقفلين من أفريقية فغرقت سفيتتنا منذ أيام وما زلت أسبح حتى وجدت الموت فلم أشعر إلا بالغوث من ناحيتكم. فسبحان من أسهر هذا الملك في قصره حتى استخرج هذا الغريق من تلك الظلمات ظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة الوحشة، لا إله إلا هو سبحان {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 62] فسبحانه لا إله إلا هو. تمت الأدعية المسماة بـ "العدة عند الكرب والشدة" وللَّه سبحانه المنة وبه التوفيق والعصمة وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى اللَّه وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. كتبت في القسطنطينية في شوال سنة 1130. * * *

§1/1